الحقيقة الضائعة : رحلتي نحو مذهب آل البيت علیه السلام

هوية الكتاب

الحقيقة الضائعة

رحلتي نحو مذهب آل البيت علیه السلام

تأليف

الكاتب السوداني

المؤلف : الشيخ معتصم سيد أحمد السوداني

الناشر : مؤسسة المعارف الإسلامية

الطبعة : الأولى 1425ه. ق

ص: 1

اشارة

إسم الكتاب: الحقيقة الضائعة

المؤلف : الشيخ معتصم سيد أحمد السوداني

الناشر : مؤسسة المعارف الإسلامية

الطبعة : الأولى 1425ه. ق

المطبعة: عترت

العدد : 3000 نسخة

جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة

المؤسسة المعارف الاسلامية

ايران- قم المقدسة

تلفون 7732009 - فاكس 7743701

ص.ب 37185/768

website:www.maarefislami.com

E-mail:info@maarefislami.com

ص: 2

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ »

ص: 3

الطبعة الأولى

مؤسسة المعارف الإسلامية

ایران - قم - 1417 ه_ . ق

الطبعة الثانية

منقحة ومحققة

مؤسسة المعارف الإسلامية

ایران - قم - 1425ه_ . ق

ص: 4

كلمة الناشر

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ »

نعم .... أنّها الحقيقة ؟ والحقيقة لابد أن تكون ظاهرة ساطعة ، فما الذي يجعلها ضائعة ؟ أنها غيوم العصبية وغبار الجهل ، إذ تخلق غشاوة فتضعها على البصيرة ، فيضيع الحق وتُفْتَقَدْ الحقيقة. هنالك لابد من دعاة مخلصين ، ينهضون بالأمر ، يفتتون الغيوم ؛ غيوم التعصب الأعمى ، ويزيلون رواسب الجهل وأتربة التقليد الجاهلي ، حتى تنجلي الحقيقة لكلّ ذي عينين . ومؤلّف الكتاب من هؤلاء الدعاة إلى الله ، الذين وصلوا إلى الحقيقة وأبوا إلا أن ينشروها حتى تعم الفائدة كل المسلمين . انه يحكي في كتابه هذا أحلى فقرة من قصة حياته ، حيث قضى فترة من الزمان وهو يبحث عن الحق ، ثم وصل إليه ... فكيف قضى تلك الفترة والفترة التي تلتها بما مرّ في هذه الرحلة الممتعة أوضاع وأحوال ومشاق وأفكار ، كلّها شيّقة وتتطلب مطالعة دقيقة وعميقة منك - أيها القارىء العزيز - لتصل إلى ما وصل إليه هذا الرجل الفذ ، الشيخ معتصم ، الذي اعتصم بالثقلين : كتاب الله والعترة الطاهرة ، واتبع الرسول النبي الأمي الذي أمره وأمر غيره من المسلمين بالاعتصام والتمسك بهذين الثقلين ، حتى لن يضل ولن يضلّوا أبداً .

وتفتخر مؤسسة المعارف الاسلامية إذ تنشر هذا السفر الجليل الذي يحوي قصة حياة المؤلّف بالاضافة إلى البراهين الساطعة والأدلة القاطعة من الكتاب الحكيم والسنّة الشريفة للاستدلال على ضرورة هذا الإعتصام، وفقه الله للمزيد وشكر سعيه ، والسلام على كلّ المعتصمين بالثقلين ورحمة الله وبركاته.

مؤسسة المعارف الاسلامية - قم

ص: 5

ص: 6

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ »

«الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا »

(إذا أراد الله بعبد خيراً نكت في قلبه نكتة بيضاء فجال القلب يطلب الحق ثم هو إلى أمركم أسرع من الطير إلى وكره).

الإمام جعفر الصادق

بحار الأنوار 5 / 204

ص: 7

ص: 8

إهداء

إلى المولودة في معقل العصمة والتقى ، ومهبط الوحي والهدى، والمورثة عظيم الفضل

والندى ....

إلى المرأة الصالحة ، والمجاهدة الناصحة ، والحرة الأبية ، واللبوة الطالبية ، والمعجزة

المحمدية ، والذخيرة الحيدرية ، والوديعة الفاطمية ...

إلى من أطاعت الله تعالى في السر والعلن ، وتحدّت بمواقفها أهل النفاق والفتن ...

إلى من أرهبت الطغاة في صلابتها ، وأدهشت العقول برباطة جأشها ، ومثلت أباها

عليّاً بشجاعتها ، وأشبهت أمها الزهراء في عظمتها وبلاغتها ...

إلى المنسوبة لأسرة النبوة والإمامة ، الموهوبة وسام الشرف والمجد والكرامة ...

إلى .... بطلة كربلاء عقيلة بني هاشم ...

سيدتي ومولاتي زينب علیها السلام

ص: 9

ص: 10

الفصل الأول : مقتطفات من حياتي

اشارة

* أيام صباي *

* كيف كانت البداية *

* في الجامعة *

في قريتنا *

* مناظرة مع شيخ الوهابية *

* ملاحظات للباحث لابد منها *

ص: 11

ص: 12

قتطفات من حياتي

أيام صباي

كانت تنتابني الرغبة منذ صغري ... وتشدني الفطرة نحو الالتزام بالدين ، وكانت الصورة التي تراود ذهني وأستشف منها مستقبلي ، لا تخرج عن إطار التدين ، فكنت أرى نفسي عبر أحلام اليقظة بطلاً ، وفارساً إسلامياً مجاهداً ، أردُّ للدين حرمته وللإسلام عزّته ، لم أكن قد تجاوزت المراحل الأولى في المدارس الأكاديمية ، ولذلك كانت أفكاري قاصرة ، وإلمامي بتاريخ المسلمين وحضارتهم محدوداً ، ولم أكن أعرف إلاّ بعض القصص عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وحروبه مع على الكفّار ، وبطولات الإمام علي علیه السلام وشجاعته ... وبعد دراستنا لتاريخ الدولة المهدية في السودان ، أعجبت بشخصية عثمان دقنة» وهو أحد قواد جيش المهدي الثائر في شرق السودان ، وكان يشدني جهاده عندما كان أستاذنا في التاريخ يصوّر لنا استبساله وعظمة شخصيته ، وهو مجاهد بين الجبال والوديان ... وهكذا تعلّق قلبي به ، وبنيتُ آمالي على أن أكون مثله ، وبدأت أفكر بعقلي الصغير، للوصول لهذا الهدف ، فكان طريقي الوحيد الذي كنت أتصوره أن أكون خريجاً في المستقبل من الكلية الحربية العسكرية ، حتى أتدرب على فنون القتال واستعمال السلاح، وعشتُ على هذا الهوس سنين من عمري ... حتى انتقلت إلى المرحلة الثانوية ، وفيها تفتحت مداركي ، وازدادت معرفتي ، فتعرفت على قادات التحرر في العالم الإسلامي ، أمثال عبدالرحمن الكواكبي،والسنوسي ، وعمر المختار ... وجمال الدين الأفغاني ، ذلك الثائر والعبقري المفكر الذي انطلق من أفغانستان وتنقل في عواصم

ص: 13

الدول الإسلامية والغير إسلامية ناشراً الفكر الحيوي الذي يتناول أبعاد التخلّف في العالم الإسلامي وكيفية علاجها.

وما شد انتباهي ! هو أسلوبه الذي كان يمارسه في عمله الجهادي من الحكمة والحنكة ونشر الثقافة وإعطاء الرشد الفكري للأمة الإسلامية ، من غير أن يحمل سلاحاً .. !

فقد كنتُ أعتقد ، أن كل من يريد أن يجاهد ويدافع عن المسلمين ، لابد أن يرفع السيف ويخوض الحروب والمعارك ، فكان أسلوبه مغايراً تماماً لما كنت أتصوّره ، فأسلوب الكلمة والثقافة الواعية شيء جديد في تفكيري الديني ، ولكني لم أستطع التخلّي بسهولة عمّا بنيتُ عليه أفكاري وطموحاتي ، رغم اكتشافي أن أزمة الأمة أزمة ثقافة رسالية ناضجة ، لأن الثقافة التي يمكن أن تُحمّل كل فرد مسؤوليته ، فهذا هوجمال الدين طاف العالم وهو يبت نوره وبركته وينشر الفكر والثقافة التي تلقاها المسلمون بترحيب وتفاعل ، لأنها كانت تحل لهم مشاكلهم وتتعامل مع واقعهم ، فأرهب بذلك القوى الاستعمارية الحاقدة ، فكانت العروة الوثقى(1) وحدها تحد شامخ لهم جعلهم يعملون على محاصرتها ومنع إصدارها.

فكان التساؤل الذي يراودني :

كيف تمكّن هذا الفرد الوحيد أن يغير تلك الموازنات ، وكيف أرهب كل هذه القوى المستكبرة ؟!

وللإجابة على هذا السؤال ، انفتحت أمامي بوابة من الأسئلة بعضها بسيط ، وبعضها

ص: 14


1- وهي جريدة أصدرها جمال الدين وتلميذه محمد عبده في لندن

لا إجابة له في الواقع السوداني ... مما جعلني أحاول أن أتحرر من هذا الواقع ، وأفك كل القيود والأغلال التي كانت تدعوني للاستسلام والخضوع لهذا الواقع الديني ، لكي أسير في هذه الحياة كما كان آبائي وأجدادي ، ولكن شعوري بالمسؤولية وحبّي لجمال الدين كان ناقوساً يدق على أوتار فطرتي ... فكنت أتساءل :

كيف يمكن لي أن أصير مثل جمال الدين ؟!

وهل الدين الذي ورثته يمكن أن يحملني لذلك المستوى ؟!

ثم أقول : ولِمَ لا ؟! هل كان الجمال الدين دين غير ديننا ؟! وإسلام غير إسلامنا ؟!

وللإجابة ، تحيّرت سنين عديدة وكل ما توصلت إليه هو تغير مفهومي للدين بصورة إجمالية ، فأصبحت أرى في جمال الدين القدوة والمثال بعدما كان عثمان دقنة ، وتغيرت تبعاً لذلك الوسيلة ، فبعدما كانت الكلية الحربية، أصبح المنهج السليم الذي يُعرفني على الفكر والثقافة الإسلامية الأصيلة ، التي من خلالها تكون النهضة الإسلامية.

كيف كانت البداية

كان البحث عن المنهج والفكر الناضج والثقافة المسؤولة صعباً ، وكانت المرحلة مريرة ، رغم أن بحثي كان بصورة عفوية وفطرية ، ففي أثناء حياتي الطبيعية كنتُ أسأل وأناقش وغير ذلك ، ولم يكن هناك تفرغ للبحث والمثابرة ..

وبعد الغزو الوهّابي العنيف على السودان، واشتداد المناظرات والمناقشات ، وازدياد الحركة الدينية ، انكشفت كثير من الحقائق ، وظهرت كثير من الاختلافات والمفارقات التاريخية والعقائدية والفقهية ، وبدأت عملية تكفير بعض الفرق وإخراجها من ربقة الإسلام ، مما أدى إلى التمذهب وتباين الخطوط.

ورغم مرارة ما حدث ، فقد وجدت بغيتي وازداد بحثي ، وأصبحت أشعر بواقعية

ص: 15

تلك الأسئلة العفوية التي كانت تراود ذهني.

فكثر اهتمامي بالوهابية ، متابعاً لمناظراتهم وندواتهم التي كانت تشدني ، وأهم ما تعلمته منهم في تلك المرحلة،هي الجرأة وتحدي الواقع ومخالفته ، فلقد كنت أعتقد أن الواقع مقدس لا يمكن التهجم عليه أو التعرض له ، رغم ملاحظاتي الكثيرة عليه التي غالباً ما كنت أستشفها من وجداني وفطرتي ، فكنت أتحفّظ على كثير من أفعال وممارسات المجتمع الديني .

فواصلت معهم المسير ، ودار بيني وبينهم كثير من المناقشات ، التي كانت في الواقع عبارة عن تلك الأسئلة التي كانت حائرة في ذهني ، فوجدت لبعضها أجوبة أرضتني في تلك المرحلة ، وأسئلة لم أجد لها أجوبة عندهم ، فكان هذا كفيلاً بالنسبة لي أن أتعاطف معهم ، وأشد أزرهم ، مع بقاء بعض الملاحظات التي كانت حائلاً بيني وبين أن ألتزم تماماً بالمنهج الوهابي ، أولها وأهمها أنني لم أجد عندهم ما يكفيني ويلبي طموحاتي الرسالية ... . وكان الوسواس يأخذني أحياناً بقوله : إن الذي تفكر فيه وتبح--ث عن-ه شيء مثالي لا واقع له ، وأن الوهابية أقرب نموذج للإسلام ولا بديل غيرها ...

فكنت أنساق لهذا الوسواس وأصدقه ، لعدم معرفتي بالأفكار والمدارس الأخرى ، ولكن سرعان ما أنتبه إلى أن الذي صنع جمال الدين لا يمكن أن يكون هذا الفكر الوهابي ، فكنتُ أُصرِّحُ : إن الوهابية هي أقرب الطرق الى الإسلام - لما يقيمونه من أدلة ونصوص على صدق مذهبهم لم أشهدها في الطوائف الأخرى في السودان -- ولكن مشكلتهم أن هذا المذهب الذي يتبنونه أشبه بقوانين الرياضيات ، فهو عبارة عن قواعد وقوانين جامدة ، تطبق من غير أن تكون لها انعكاسات حضارية واضحة في حياة الإنسان ، وفي فنّ تعامله مع هذه الدنيا في شتى الأصعدة الفردية منها أو الاجتماعية أو

ص: 16

الاقتصادية أو السياسية... . وحتى في كيفية العلاقة مع الله تعالى . بل العكس تماماً ،

فكثيراً ما تجعل الإنسان متوحشاً في عزلة عن المجتمع بما يحمله من صكوك التكفير لكل قطاعاته ، فلا يستطيع الواحد منهم أن يتعايش مع المجتمع فيتميز عنهم بلباسه و تصرفاته وفي كل جزئية من حياته ، لا يتألف إلا مع أقرانه ، فكنت أحس منهم الغرور والكبر والأنفة لأنهم ينظرون إلى الناس من شاهق عال ، لا يتفاعلون معهم ولا

يشاركونهم في حياتهم .

وكيف يشاركونهم ؟! وكل ما يفعله المجتمع بدعة وضلال ...

وأنا أذكر جيداً عندما دخل المدّ الوهّابي إلى قريتنا ، ففي مدة قليلة ومن غير دراسة ووعي ، انضمت مجموعة كبيرة من الشباب إلى الخط الوهابي ، ثم لم يستمر الزمن كثيراً حتى تخلّوا عنه جميعاً ، وكان هذا توقعي ، لأن المذهب الجديد منعهم من مخالطة المجتمع وحرّم عليهم كثيراً من العادات التي تربَّوا عليها ، وهي في الواقع لا تخالف الدين .

ومن الطريف أن أذكر ، أن من الأشياء التي كان يعاني منها الشباب المنضمون إلى المذهب الوهابي ، أنه كان من العادة في قريتنا أن الشباب في ليالي القمر يجلسون على الرمال الصافية ويتسامرون ويقضون أوقاتهم ، وهي ساعة اللقاء الوحيدة لشباب القرية الذين يعملون طوال النهار في مزارعهم وأشغالهم المتعددة ، فكان شيخهم يمنعهم من ذلك ويحرمه عليهم بحجة أن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم حرَّم الجلوس في الطرقات ، رغم أن هذه الأماكن لا تعتبر طرقات . وثانياً وهى مشكلة كل الوهابية ، أن الواحد منهم بزمن قليل من تدينه وبقليل من العلم ، يصبح مجتهداً يحق له أن يفتي في أي مسألة ، وأذكر يوماً أن أحدهم كان جالساً معي أناقشه في كثير من الأمور ، وفي أثناء النقاش انتفض قائماً بعدما سمع صوت أذان المغرب في مسجدهم ، قلتُ له : مهلاً نكمل حديثنا . قال : لا

ص: 17

حديث ، قد حان وقت الصلاة ، هيا لنصلّي في المسجد ، قلت له : أنا أصلي في بيتي – رغم التزامي بالصلاة معهم - قال صارخاً : باطلة صلاتك . انذهلت من هذا القول وقبل أن أستفسر أدار ظهره ليذهب . قلت له : مكانك ، ما هو سبب بطلان صلاتي في البيت؟

قال (بكل افتخار وعجب) : قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم : لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد . قلت له : لا خلاف في أفضلية صلاة الجماعة في المسجد ، ولكن هذا لا يعني سلب صحة الصلاة في غير هذا الموضع ، والحديث ناظر لتأكيد هذه الأفضلية لا لتبيين حكم الصلاة في البيت، والدليل على ذلك أننا لم نرَ في الفقه أن من مبطلات الصلاة الصلاة في البيت ، ولم يفتِ أحد من الفقهاء في هذه المسألة ، ثم ثانياً بأي حق تُصدر هذه الأحكام ؟! هل أنت فقيه ؟!..و من الصعب جداً أن يفتي الإنسان ويبين حكماً لموضوع معين، فالفقيه يقوم بدراسة كل النصوص في مثل هذا المورد ، ويتعرف على دلالة الأمر والنهي في النص ... هل يدل الأمر على الوجوب أم على الاستحباب ، والنهي هل يدل على الحرمة أم الكراهة ... فهذا الدين عميق فأوغل فيه برفق .

بدا الانكسار في وجهه ، وعبس وبسر ، ثم قال : أنت تأوّل الحديث ، والتأويل حرام .. وذهب ..

فاحتسبتُ أمري الله من هذا الأحمق الذي لا هذا الأحمق الذي لا يفهم شيئاً .

هذه العقلية المتحجرة ، كانت هي السبب الثاني الذي حال بيني وبين أن أكون وهابياً ، رغم أنني تأثرت بكثير من أفكارهم ، فكنت أتبنّاها وأدافع عنها .

وبقيت على هذه الحال مدة من الزمن تائهاً لا قرار لي ولا اتجاه ، أقترب من الوهابية حيناً وأبتعد عنها حيناً آخر ، ورأيت أن الحل الوحيد أمامي - بدلاً من الكلية

ص: 18

العسكرية - أن أدرس في كلية أو جامعة إسلامية حتى أواصل بحثي بطريقة أكثر دقة

وإمعاناً . وبعد امتحاني للجامعة ، كانت هناك ستة رغبات من الجامعات والمعاهد التي يرغب الطالب في دراستها ، فلم أختر غير الجامعات والكليات الإسلامية ، وبالفعل تمّ قبولي في أحد الكليات الإسلامية (وهي) كلية الدراسات الإسلامية والعربية في جامعة وادي النيل في السودان) . فطرت بها فرحاً ، وأعددت العدة لهذه المرحلة الجديدة في حياتي ، وبعد أداء التدريب العسكري الدفاع الشعبي الذي لا يمكن دخول الجامعة إلا بعد الفراغ منه ، بدأت الوفود من مختلف أنحاء السودان بالمجيء إلى الجامعة وكنت أن--ا من أولهم ، وأثناء المقابلة سألني مدير الكلية عن شخصية أعجبت بها في حياتي ؟ قلت له : جمال الدين الأفغانی ، وأوضحت له سرّ إعجابي به ... ، فأبدى ارتياحه من كلامي ، وبعد كثير من الأسئلة تم قبولي رسمياً في الكلية . وبعدها انطلقت إلى المكتبة التي حوت كثيراً من الكتب والموسوعات الضخمة فأصبحت ملازماً لها ، ولكن المشكلة التي واجهتني هي من أين أبداً ؟ وأي شيء أقرأ ؟

وبقيت على هذه الحال ، أنتقل من كتاب إلى آخر ... وقبل أن أضع لنفسي برنامجاً فتح لي أحد أقاربنا باباً واسعاً ومهماً في البحث والتنقيب ، وهو دراسة التاريخ وتتبع المذاهب الإسلامية لمعرفة الحق من بينها ، وكان هذا الفتح توفيقاً إلهياً لم يكن في حسباني ، عندما التقيت بقريبي عبد المنعم - وهو خريج كلية القانون - في منزل ابن عمي في مدينة عطبرة ، وقبل غروب الشمس رأيته في ساحة المنزل يتحاور مع أحد من الأخوان

(المسلمين الذي كان ضيفاً في البيت، فأرهفت السمع لأرى ف-یم يتحادثان ... وأسرعت إليهم عندما علمت بطبيعة النقاش وهو في الأمور الدينية ، فجلست بالقرب منهم أراقب تطورات المحاورة التي امتاز فيهاعبدالمنعم بالهدوء التام

ص: 19

رغم استفزازات الطرف الآخر وتهجمه ، ولم أعرف طبيعة النقاش بتمامه إلى أن قال الأخ المسلم : الشيعة كفّار زنادقة ....!!

هنا انتبهتُ ، وأمعنت النظر ، ودار في ذهني استفهام حائر...

من هم الشيعة ؟ ولماذا هم كفّار ؟

وهل عبدالمنعم شيعي؟

وما يقوله من غريب الحديث ، هل هو كلام الشيعة ؟!

وللإنصاف إن عبد المنعم أفحم خصمه في كل مسألة طُرحت في النقاش ، بالإضافة إلى لباقة منطقه وقوة حجته .

وبعد الانتهاء من الحوار ، وأداء صلاة المغرب انفردت بقريبي عبد المنعم ، وسألته بكل احترام : هل أنت شيعي ؟ ... ومن هم ... ومن هم الشيعة ؟ ومن أين تعرفت عليهم ؟

قال : مهلاً . مهلاً ... سؤال بعد سؤال.

قلت له : عفواً ، أنا ما زلت مذهولاً مما سمعته منك.

قال : هذا بحث طويل ، ومجهود أربع سنوات من العناء والتعب مع الأسف لم تكن النتيجة متوقعة.

فقاطعته : أي نتيجة هذه ؟

قال : ركام من الجهل والتجهيل عشناه طوال حياتنا ، نركض خلف مجتمعاتنا من غير أن نسأل ، هل ما عندنا من دين هو مراد الله تعالى ، وهو الإسلام ؟ وبعد البحث اتضح أن الحق كان مع أبعد الطرق تصوراً في نظري ، وهم الشيعة.

قلت له : لعلّك تعجّلت ... أو اشتبهت !

فابتسم في وجهي قائلاً : لماذا لا تبحث أنت بتأمّل وصبر ؟ وخاصة أن لكم مكتبة في الجامعة تفيدك في هذا الأمر كثيراً .

ص: 20

قلتُ ( متعجباً) : مكتبتنا سُنيَّة ، فكيف أبحث فيها عن الشيعة ؟!

قال : من دلائل صدق التشيع أنه يستدل على صحته من كتب وروايات علماء السنة فإن فيها ما يظهر حقهم بأجلى الصور .

قلتُ : إذن مصادر الشيعة هي نفس مصادر أهل السنة ؟!

قال : لا ، فإن للشيعة مصادر خاصة تفوق أضعافاً مضاعفة مصادر السنة كلها مروية عن أهل البيت عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ، ولكنهم لا يحتجون على أهل السنة بروايات مصادرهم ، لأنها غير ملزمة لهم فلابد أن يحتجوا عليهم بما يثقون به ،أي ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم.

سرني كلامه وزاد تفاعلى للبحث ، قلتُ له : إذن كيف أبداً ؟

قال : هل يوجد في مكتبتكم صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند أحمد والترمذي والنسائي ؟

قلتُ : نعم ، عندنا قسم ضخم لمصادر الحديث .

قال : من هذه ابدء ، ثم تأتي بعد ذلك التفاسير وكتب التاريخ فإن في هذه الكتب أحاديث دالّة على وجوب اتباع مدرسة أهل البيت.

وبدأ يسرد لي أمثلة منها ، مع ذكر المصدر ورقم المجلد والصفحة.

توقفت حائراً ، أستمع إلى هذه الأحاديث التي لم أسمع بها من قبل مما جعلني أشك في أنها موجودة في كتب السنة .. ولكن سرعان ما قطع عني هذا الشك ، بقوله : سجل هذه الأحاديث عندك ، ثم ابحثها في المكتبة ونلتقي يوم الخميس القادم بإذن الله .

في الجامعة

بعد مراجعة تلك الأحاديث في البخاري ومسلم والترمذي ... في مكتبة جامعتنا . تأكد لي صدق مقالته ، وفوجئت بأحاديث أخرى ، أكثر منها دلالة على وجوب اتباع

ص: 21

أهل البيت ، مما جعلني أعيش في حالة من الصدمة .

لِمَ لَمْ نسمع بهذه الأحاديث من قبل؟ !

فعرضتها على بعض زملائي في الكلية حتى يشاركونني في هذه الأزمة، فتفاعل البعض ولم يكترث لها البعض الآخر ، ولكنني صممت على مواصلة البحث ولو كلفني ذلك كل عمري .. وعندما جاء يوم الخميس ، انطلقت لعبد المنعم ... فاستقبلني بكل ترحاب وهدوء وقال : يجب عليك ألا تتعجل ، وأن تواصل البحث بكل وعي.

ثم بدأنا في بحوث أخرى متفرقة استمرت إلى مساء الجمعة ، استفدت منها الكثير وتعرفت على أشياء لم أكن أعرفها ، وقبل رجوعي إلى الجامعة .. طلب مني عدة أمور أبحثها .. وهكذا دواليك إلى مدة من الزمن. وكانت طبيعة النقاش بيني وبينه تتغير من فترة إلى أخرى ، فأحياناً أحتد معه في الكلام ، وأحياناً أكابر في الحقائق الواضحة ، فكنت مثلاً عندما أراجع بعض الأحاديث في المصادر وأتأكد من وجودها ، أقول ل-ه : إن هذه الأحاديث غير موجودة .. ولست أعلم إلى الآن ما الذي كان يدفعني إلى ذلك، سوى الشعور بالانهزام وحب الانتصار .

وبهذه الصورة وبمزيد من البحث انكشفت أمامي كثير من الحقائق لم أكن أتوقعها وكنتُ في طوال هذه الفترة كثير النقاش مع زملائي ، وبعدما ضاق زملائي بي بي ذرعاً ، طلبوا مني أن أناقش دكتوراً كان يدرسنا الفقه ، قلت : لا مانع لدي، ولكن هناك حواجز بيني وبينه تمنعني من الحرية في الكلام ، فلم يقتنعوا بهذا ، وقالوا : بينناوبينك الأستاذ ، فإذا أقنعته فنحن معك .. !

قلتُ : ليست المسألة هي الاقناع ، وإنما هي الدليل والبرهان ، والبحث عن الحق ..

وفي أول درس للفقه بدأت النقاش معه بصورة أسئلة متعددة .. فوجدته لا يخالفني

ص: 22

كثيراً بل العكس كان يؤكد على حب أهل البيت علیها السلام و لزوم اتباعهم وذكر فضائلهم وبعد أيام متعددة طلب مني أن آتيه في مكتبه في مقر الجامعة ، وبعد الذهاب إليه قدَّم لي كتاباً من عدة أجزاء وهو (صحيح الكافي) من أوثق مصادر الحديث عند الشيعة . وطلب مني عدم التفريط في هذا الكتاب لأنه تراث أهل البيت .. لم أتكلم من شدة المفاجأة .. أخذت الكتاب وشكرته على ذلك ، وكنت أسمع بهذا الكتاب ولم أره ، مما جعلني أشك في تشيع هذا الدكتور ، مع معرفتي أنه مالكي ، وبعد السؤال والاستفسار اتضح لي أنه صوفي متعلق بحب أهل البيت علیها السلام.

وعندما شعر زملائي بهذا التوافق بيني وبين الأستاذ ، طلبوا مني مناقشة أستاذ آخر كان يدرسنا مادة الحديث ، وكان رجلاً متديناً كثير التواضع طيب الأخلاق ، وكنت أحبه كثيراً ،فاستجبت لطلبهم ، وبدأت بيننا نقاشات متعددة ، وكنت أسأله عن صحة بعض الأحاديث فكان يؤكد صحتها ، وبعد مدة من الزمن شعرتُ منه النفور وعدم الارتياح من نقاشي وقد أحس بذلك زملائي ، ففكرتُ أن أفضل وسيلة لمواصلة النقاش ، هي الكتابة ، فكتبت له مجموعة من الأحاديث والروايات التي تدل بصراحة على وجوب اتباع مذهب أهل البيت (علیه السلام) ، وطلبت منه البحث في صحتها ، وكنتُ أسأله كل يوم عن الإجابة فيعتذر بعدم البحث .. وتابعت معه بهذه الطريقة حتى أحس مني المضايقة .

قال لي : كلها صحيحة .

قلت : إنها واضحة في اتباع أهل البيت..

لم يجب وذهب مسرعاً إلى المكتب .

كان هذا التصرف صدمة بالنسبة لي ، مما جعلني أشعر بصدق مقالة الشيعة . ولكني

ص: 23

أحببت التريث وعدم العجلة في الحكم .

ومن غريب الصدفة ، أن عمید الكلية وهو الأستاذ علوان ، كان يدرسنا التفسير فقال يوماً في تفسير قوله تعالى : «سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ »: إن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم لما كان في غدير خم ، نادى الناس فاجتمعوا فأخذ بيد علي عليه فقال : «من كنت مولاه فعلی مولاه» ، فشاع ذلك في أقطار البلاد وبلغ ذلك الحارث بن نعمان الفهري فأتى رسول الله على ناقته فأناخ راحلته ونزل عنها ، وقال : يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله فقبلناه منك ، وأمرتنا أن نصلّى خمساً فقبلناه ، وأمرتنا بالزكاة فقبلناه ، وأمرتنا أن نصوم رمضان فقبلناه ، وأمرتنا بالحج فقبلناه ، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك تفضّله علينا فقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فهذا شيء منك أم من الله ؟

فقال النبي صلی الله علیه وآله وسلم : والله الذي لا إله إلا هو، إن هذا من الله عز وجل ، فولّى الحارث يريد راحلته وهو يقول : اللهم إن كان ما يقوله محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إلى راحلته حتى رماه الله بحجر سقط على هامته وخرج من دبره ، فأنزل الله عزوجل : «سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ »(1)(2).

وبعد الفراغ من الدرس لحق به أحد أصدقائي ، وقال له : إن ما قلته هو كلام الشيعة ، توقف الأستاذ العميد هنيهة ثم نظر إلى هذا المعترض وقال له: ادع لي

ص: 24


1- المعارج : 1 - 3
2- راجع نور الأبصار للشبلنجي ص 159 منشورات الشريف الرضي

«معتصماً» إلى مكتب الإدارة .. !

استغربت هذا الطلب ، وتهيبت لقاء الأستاذ العميد ، ولكني حزمت أمري وذهبت إليه ، وقبل أن أجلس ، قال : يقولون : إنك شيعي !

قلت : أنا مجرد باحث .

قال : إن البحث جميل ولابد منه.

أخذ العميد يذكر لي بعض الشبهات عن الشيعة التي كثيراً ما كانت تُرَدَّدُ ، وقد أعانني الله على الردّ عليها بأقوى الأدلة والبراهين ، حيث انطلقت في الحديث بأكثر مما كنت أتوقع ، وقبل ختام حديثنا أوصاني بكتاب المراجعات ، وقال : إنه من الكتب الجيدة في هذا المجال .

وبعد قراءتي لكتاب المراجعات ومعالم المدرستين وبعض الكتب الأخرى ، اتضح لي الحق وانكشف الباطل ، لما في هذين السفرين من أدلة واضحة وبراهين ساطعة بأحقية مذهب أهل البيت. وازدادت قوتي في النقاش والبحث ، حتى كشف الله نور الحق في قلبي ، وأعلنت تشيّعي ..

ومن ثم بدأت مرحلة جديدة من الصراع، فلم يجد الذين عجزوا عن النقاش طريقاً ، غير السخرية والسب والشتم والتهديد والافتراء ... وغير ذلك من أساليب الجهل فاحتسبت أمري عند الله ، وصبرت على ما جرى، رغم أن الضربات قد وجهت لي من أعز أصدقائي الذين حرموا الأكل والنوم معي تحت سقف واحد .

وضُربت عليَّ عزلة كاملة ، إلا من بعض الأخوة الذين هم أكثر فهماً وتحرراً . وبعد مدة من الزمن استطعت أن أعيد علاقتي بالجميع وبصورة أفضل من الأول، بل ولقد أصبحت بينهم محترماً ومقدراً ، وكان بعضهم يستشيرني في كل صغيرة وكبيرة من أمور

ص: 25

حياته ، ولكن هذا الحال لم يستمر طويلاً ، فقد شبّت نار الفتنة من جديد ، بعدما أعلن ثلاثة من الطلبة تشيّعهم ، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من الطلبة أظهروا تعاطفهم وتأييدهم للشيعة ، فدارت سلسلة أخرى من الصدامات والصراعات التزمنا فيها جميعاً الأخلاق الرسالية والحكمة ، فتمكنا من امتصاص الغضب بأسرع ما يكون .

ص: 26

في قريتنا

قريتنا (ندي) من القرى الصغيرة في شمال السودان على ضفاف النيل ، ومعظم سكانها من قبيلة (الرباطاب ) ، وقد اشتهرت هذه القبيلة بالذكاء وسرعة البديهة ويعتمد سكانها على النخيل وزراعة المحاصيل الموسمية.

وقد استغل الوهابيون أهلها الطيبين في نشر الفكر الوهابي ، فأثروا بطريقة غير مباشرة على مفاهيمهم وعقولهم ، لكثرة المحاضرات والندوات التي يقيمونها ، فأبديت تحفظي في البداية ، وملأت أوقاتي بالقراءة والاطلاع والدعوة إلى مذهب أهل البيت (علیهاالسلام) بين الأهل والأقارب . وقد جرى بيني وبين أخي الأكبر كثير من المناقشات والمشادات إلى درجة أنه رفض أن يقرأ كتب الشيعة وهددني بحرقها ، وبعد النقاش تمكنت من التأثير عليه ، فقرأ بعض الكتب أمثال :( أهل البيت قيادة ربانية ، المراجعات ، معالم المدرستين...) إلى أن هداه الله إلى نور أهل البيت (علیها السلام) وأعلن تشيعه ، أما بقية الأهل فقد أبدى الغالبية تعاطفهم وتأييدهم ..

وبهذا انتشر أمري في القرية ، وبدأت أطرح مذهب أهل البيت على كثير من أهلها فشبت نار الوهابية وتأجج غضب مروّجيها ، فأصبحت كل محاضراتهم في أية مناسبة كانت هي عبارة عن سب وشتم الشيعة والافتراء عليهم وأحياناً يتعرضون لشخصيتي، وواجهت كل ذلك بالصبر والصفح الجميل .

مناظرة مع شيخ الوهابية

وجرى حوار بيني وبين شيخهم - أحمد الأمين - وطلبت منه العقلانية وتر الاستهتار والتهجم دون جدوى، وبعدما طفح الكيل وازداد تعنتهم وتعصبهم ذهبت !

ص: 27

مسجدهم وصليت خلفه صلاة الظهر ، وبعد الانتهاء من الصلاة سألته : هل تعرضت لك يوماً طوال هذه المدة، التي تسب فيها الشيعة وتكفرهم بمكبرات الصوت ؟!

قال : لا.

قلت : أو تدري ما السبب ؟!

قال : لا أدري .

قلت : إن كلامك تهجم وجهل ، وتعرّض لشخصيتي ، فخفت أن أعترض عليك فيكون ذلك دفاعاً عن نفسي ، وليس دفاعاً عن الحق ، والآن أطل-ب من-ك من-اظرة علمية ومنهجية أمام الجميع حتى ينكشف الحق .

قال : لا مانع عندي .

قلت : إذا حدد محاور المناظرة.

قال : تحريف القرآن ، وعدالة الصحابة .

قلت : حسناً ، ولكن هناك أمران ضروريان لابد من مناقشتهما ، وهما صفات الله ، والنبوة في اعتقادكم ورواياتكم .

قال : لا.

قلت : ولِمَ ؟

قال : أنا أحدد المحاور، فإذا طلبت منك - أنا - المناظرة ، يكون الحق لك في تحديد

المحاور.

قلت : لا خلاف ... متى موعدنا ؟

قال : اليوم ، بعد صلاة المغرب .. - ظناً منه أنه سيرهبني بهذا الموعد القريب- فأظهرت موافقتي بكل سرور ، وخرجت من المسجد.

وبعد أداء صلاة المغرب ، بدأت المناظرة . فبدأ شيخهم - أحمد الأمين -- الحديث

ص: 28

كعادته يتهجم ويتهم الشيعة بالقول بتحريف القرآن وكان يمسك في يده كتاب الخطوط العريضة لمحب الدين) ، وبعد الفراغ من حديثه ، ابتدأت حديثي ، وقمت بالرد على ك--ل ما افتراه من اتهامات بالتفصيل ، وبرأت الشيعة تماماً من القول بتحريف القرآن ،وبعد ذلك ، قلت له كما قال عيسى علیه السلام : ترون التبنة في أعين غيركم ولا ترون الخشبة في أعينكم » ، فإن الروايات التي احتوتها كتب الحديث عند السنة ظاهرة في اتهام القرآن الكريم بالتحريف ، فنسبة القول بالتحريف إلى السنة أقرب منها إلى الشيعة ، وذكرت ما يقارب عشرين رواية مع ذكر المصدر ورقم الصفحة من صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد والإتقان في علوم القرآن للسيوطي ، مثال :

أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ، عن أبي بن كعب قال : كم تقرأون سورة الأحزاب ؟ قال : بضعاً وسبعين آية ، قال : لقد قرأتها مع رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم مثل البقرة أو أكثر منها وإن فيها آية الرجم (1).

وأخرج البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب ، قال : إن الله بعث محمداً صلی الله علیه وآله وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها فلذا رجم رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ورحمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ... إلى أن يقول : ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله : «أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ، أو إن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم» (2).

وروى مسلم في صحيحه ، قال : بعث أبو موسى إلى قراء أهل البصرة ، فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن ، فقال : أنتم خيار أهل البصرة ، وقراؤهم فاتلوه ولا

ص: 29


1- مسند أحمد ج 5 ص 132
2- صحيح البخاري ج 8 ص 209 - 210 رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت..

يطولن عليكم الأمر ، فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم ، وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتُها غير أني قد حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب» ، وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أنى حفظت منها: «يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة » (1).

وفي أثناء ذكري لهذه الروايات ، لاحظت أن الشيخ حملق عينيه وفتح فاه وظهرت الحيرة والدهشة على وجهه ، فما أن توقفت عن الكلام حتى أخذ يقول : أنا لم أسمع بذلك وأنا لم أرَ ذلك ، وأطالبك أن تحضر هذه المصادر أمامي .

قلت : قبل قليل كنت تتهجم على الشيعة وتتهمهم بالتحريف ، فلماذا لم تحضر كتبهم التي لم ترها في حياتك كلها ، فأنت ملزم بإحضار مصادرك وهذه مكتبتك ، فيها البخاري ومسلم وكتب الحديث ، أحضرها حتى أخرج لك هذه الروايات منها وعندما لم يجد مخرجاً قفز إلى موضوع آخر ، وهو أن الشيعة تقول بالتقية فكيف نصدق كلامهم ؟!

وهرج ومرج ، حتى قام أحدهم وأذن لصلاة العشاء ، وبعد الصلاة تواعدنا أن نكمل المناظرة في الأيام القادمة، على أن نختار في كل يوم موضوعاً نتناظر حوله .. ولما جاء الغد كنتُ جالساً أمام منزلنا في الصباح فمر الشيخ وسلّم عليَّ بكل احترام وقال : إن هذه المباحث لا يفهمها العامة ، فمن الأفضل أن نتحاور ونتناظر أنا وأنت على انفراد.

قلت : أوافق ، لكن بشرط أن تترك التهجم على الشيعة ، وفيما بعد لم نسمع له تهجماً على الشيعة ..

ص: 30


1- صحيح مسلم ج 2 ص 726 ح 119 ، باب لو أن لابن آدم 119

ملاحظات للباحث لابد منها

قبل البدء في تسجيل بعض بحوثي في هذا الكتاب ، أحببت أن أشير إلى بعض الملاحظات ، التي استفدتها من تجاربي السابقة في منهج البحث .

(1) الثقة والتوكل على الله تعالى ، وهي نقطة الانطلاق في البحث ، فقد أعطى الله سبحانه الإنسان نور العقل والعلم ، وجعل أمر الاستفادة منه بيد الإنسان ، فمن أهمل ذلك النور ولم يشعله لكشف الواقع ، سيظل يعيش في ركام من الجهل والخرافات والضلال ، بخلاف الذي يستثمر عقله وينمّيه ، والفرق بين الإثنين يرجع إلى سبب واحد ، وهو الثقة وعدمها ، فالذي يشعر بالضعف والانهزام لا يستفيد من عقله ، أما الذي يثق بالله تعالى وبما أعطاه من نور العقل يصل إلى قمة المعرفة والتحضر ، فلذلك إن كثيراً ممن اعترض طريقي في البحث كان يستخدم هذا الأسلوب لضعضعة ثقتي ، فيقول : من أين لك القدرة في بحث هذه الأمور ؟! ، وإن كبار علمائنا لم يتوصلوا إلى ما توصلت إليه فما هي قيمتك أمام جهابذة العلماء ؟! وغير ذلك من أساليب تحطيم القدرات .

ولم يكونوا يريدون مني أكثر من أن أخوض فيما يخوضون ، وأنعق كما ينعقون قال تعالى : «قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا» (1).

(2) التجنب من خداع الذات، بمعنى منع تسرب الحقيقة إلى العقل ، قد يكون ذلك

ص: 31


1- سورة المائدة : 104

بإغلاق منافذ النفس المطلة على الواقع الخارجي ، فيتعصب ويمتنع عن سماع أحاديث المعرفة والأفكار الأخرى وقراءة الكتب وغير ذلك ، وأي نوع من أنواع الانفتاح على الثقافات الأخرى ، فكل دعوى تأمر بالانغلاق وعدم البحث وتحصيل المعرفة ، فإنها دعوى تقصد تكريس الجهل وإبعاد الناس عن الحق ، إن ما يقوم به الوهابية من تحصن بعدم الإطلاع على الكتب الشيعية وعدم مجالسة أفراد الشيعة والنقاش معهم ، ه-وأسلوب العاجز وهو منطق غير سليم ، وقد عارض القرآن الكريم هذه الفكرة بقوله :

« قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ »(1).

(3) تقوية الإرادة ، أمام تيارات الشهوة وخطوط ضغط المجتمع ، الذي ينفر من كل من يخالفه أو يتمرد عليه ، فلابد من مواجهة هذه الضغوط بالصبر والعزيمة لأن الحق لم یکن امتداداً للمجتمعات وإفرازات طبيعة الإنسان ، وهذا تاريخ أنبياء الله تعالى فقد لاقوا أشد أنواع العذاب من مجتمعاتهم، فكان بنو إسرائيل يقتلون في اليوم سبعين نبياً، قال تعالى : «وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ »(2)

(4) هناك حجب كثيرة قد تكون حاجزاً عن اكتشاف الحق ، فلابد من الإلتفات إليها ومراعاتها حتى تكون الحقيقة أكثر وضوحاً وضياء ، ومن بين هذه الحجب :

آ - حب الذات - الذات ، وهو شر داء ، يصيب كل إنسان ، فمنه تنعكس كل صفة ذميمة مثل الحسد والحقد والعناد ، فعندما يجعل الإنسان أفكاره ومعتقداته جزءاً من ذاته

ص: 32


1- سورة البقرة : 111
2- سورة الزخرف : 7

وكيانه حتى ولو كانت خرافية لا يمكن أن يتقبل أي نقد لها ، لأنه يعتبر نقدها نقداً لذاته وكيانه ، فبغريزة الدفاع عن النفس وحبها يستبسل في الدفاع عنها من غير وعي وفهم ، وأحياناً يتعصب لفكرة لأنها تجلب له نفعاً أو تدفع عنه ضراً يتلوّن معها ويحامي عنها ، ويرفض بذلك كل الأفكار حتى ولو كانت حقيقتها ظاهرة للعيان ، وقد يحب الفكرة أيضاً لأنها تنسجم مع هواه أو هوى مجتمعه فلا يتنازل عنها .

ب - حُب الآباء ، وهو يبعث الإنسان على تقليدهم من غير تفكر وتدبر ، فتحت داعي الاحترام والخشية بالإضافة إلى الوراثة والتربية يسلّم تسليماً مطلقاً بأفكارهم وعقائدهم ، وهذا من أعظم الحجب التي تمنع الإنسان من اكتشاف الحقيقة .

ج- -حب السلف ، إن النظرة القدسية للعلماء السابقين والعظماء تدعو الإنسان إلى تقليدهم مطلقاً والاتكال على أفكارهم ، فالاستسلام لهذا التقليد مدعاة للانحراف عن الحق ، فلم يجعل الله تعالى عقولهم حجة علينا ، وإنما عقل كل إنسان حجة عليه ، فلا يمنعنا احترامنا لهم من مناقشة أفكارهم والتدقيق فيها حتى لا ندخل في قوله تعالى :

«وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا »(1).

د - ومن عوامل الخطأ أيضاً ، التسرع ، وهو نتاج حب الراحة ، فمن غير أن الإنسان نفسه في البحث والتنقيب يريد أن يصدر حكمه من أول ملاحظة أول ملاحظة ، ومن هنا قل المفكرون في العالم لصعوبة التفكير والبحث ، فمن يريد الحق فلابد أن يجهد نفسه في البحث.

ص: 33


1- سورة الأحزاب : 67

وغير ذلك من الملاحظات العلمية التي لابد من يضعها الباحث نصب عينيه قبل الشروع في البحث ، وهذا مع التجرد التام والتسليم المطلق إذا ظهر الحق ، وبالإضافة إلى طلب العون والتضرع إلى الله تعالى لكي ينير قلبك بنور الحق : «اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه»(1)حدیث شریف .

ص: 34


1- احياء علوم الدين : ج 5 ص 530 - 531

الفصل الثاني : وانكشف الزيف

اشارة

* عليكم بسنتي ... الخدعة الزائفة *

* مصادر الحديث *

* رواية الترمذي *

* سند الحديث عند أبي داوود *

* سند الحديث عند ابن ماجة *

* الواقع التاريخي وحديث (وسنتي) *

* الحديث الآخر *

* حوار مع المحدّث الدمشقي الأرنؤوطي *

* لا تحل مشكلة أهل السنة بالحديثين *

* الخلفاء هم أئمة أهل البيت *

* أهل البيت طريق التمسك بالكتاب والسنة *

ص: 35

ص: 36

وانكشف الزيف

إن الحديثين : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ، تمسكوا بها وعضوا

عليها بالنواجذ » (1)و «إني تارك ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي »(2) ، کانا بالنسبة لي من أقوى الأدلة التي كنتُ أحتج بها حينما كنتُ أميل إلى الفكر الوهابي ، فبعد أن حفظتُ الحديثين اللذين يرددهما كثير من علمائهم في الكتب والمحاضرات ، ولم أحدث نفسي يوماً بالرجوع إلى مصادرهما الأصلية من كتب الحديث ، وكنت أتعامل معهما تعامل المسلّمات والبديهيات ، وهذا ليس بالشيء الغريب فهما في الواقع الأساس الأول الذي يبتني عليه الفكر السني ، وبالأخص الفكر الوهابي الذي تبنى الحديثين بصلابة ... فلم يطرأ ببالي مجرد الشك في صحتهما لأنهما القاعدة التي أنطلق منها في انتمائي إلى المذهب السني فالشك فيهما يعني الشك في انتمائي .

وهذه الفكرة التي انخدعتُ بها لم تكن - بعد التحقيق - وليدة العصر أو وليدة الفكر السني ، وإنما هي وليدة خطة مدروسة دُبَرَ لها وليدة خطة مدروسة دُبر لها من قديم الزمان لتمويه الحقائق ولمواجهة خط أهل البيت ، الذي يُمثل الإسلام بأروع صوره ، وللأسف الشديد فإن كثيراً من المدارس الفكرية ، قامت على أنقاض ذلك المخطط الخبيث ، فتبنت أفكاره وكأنها نازلة من عند الله سبحانه وتعالى ، وروجوالها ودافعوا عنها بكل السبل والوسائل . وما الوهابية إلا مثال واضح لضحايا ذلك المخطط الذي أودى بالأمة الإسلامية إلى واد سحيق من الانقسام والفرقة والشتات .

ص: 37


1- مسند أحمد 4 : 126 ، كنز العمال : ج 1 ص 173 ح 874
2- راجع كنز العمال 1 : 172 - 189

وسنحاول كشف نزر يسير من مكائده في كل فصل من فصول الكتاب .

وما يهمنا من ذلك المخطط في هذا المجال هما الحديثان اللذان كانا الخطة الأولى لتحريف الدين وتغيير مسار الرسالة ولإبعاد المسلمين عن حديث رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم : «إني صل تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي » (1).. ذلك الحديث المتواتر الذي روته كتب الحديث وتعددت مصادره عند السنة والشيعة ، ولكن يد الغدر والخيانة حاولت أن تخفيه عن الأنظار وروّجت بدلاً عنه حديثي : كتاب الله وسنتي» و «عليكم بسنتي ...» اللذين سينكشف ما ينطويان عليه من ضعف .

فوجئت عندما سمعت أول مرة حديث : «... كتاب الله وعترتي» . وأخذني الخوف ... وتمنيت ألا يكون صحيحاً ، لأنه يهدم كل ما كنت بنيته من فكري الديني ، بل ينسف مرتكز المذهب السني ... ولكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن ... وحدث العكس تماماً عندما نظرت إلى الحديثين في مصادرهما الأصلية ،فوجدت أن حديث : «کتاب الله وعترتي ...» عليه من الصحة والوثاقة ما لا يستطيع أحد أن يشك فيه ، بخلاف حديث: «كتاب الله وسنتي ...» الذي لا يتجاوز أن يكون خبر آحاد مرفوعاً مرسلاً ، وعليه من الهزالة والضعف ما انكسر له قلبي . ومن هنا كانت انطلاقتي في البحث عندما شعرتُ بمرارة الهزيمة ، فبدأت بعد ذلك تجتمع عندي القرائن والإشارات واحدة بعد أخرى ، حتى انكشف لي الحق بأجلى صُورَهِ وسوف نثب-ت هنا ضعف حديثي : «عليكم بسنتي ... » و « .. وكتاب الله وسنتي ...» وصحة حديث العترة الذي

ص: 38


1- معجم الطبراني الأوسط : ج 4 ص 262 ح 3463 ، جمع الجوامع : ج 1 ص 307

هو الرصاصة الأولى التي تصيب قلب الفكر السني...

حديث : « .. عليكم بسنتي .. الخدعة الزائفة

«علیکم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ » (1).

الناظر لأول وهلة لهذا الحديث يظن أنه الحجة الدامغة والدلالة الواضحة على وجوب اتباع مدرسة الخلفاء الراشدين ، وهم : «أبوبكر الصديق، عمر ب-ن الخطاب ، عثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، ولا يمكن له أن يحمله على غير هذا المعنى ، إلا أن يكون ضرباً من التأويل وروحاً من التعصب والجدال ، ومن هنا كانت قوة الخدعة وذكاء المحرفين ، فبه يثبت صحة مذهب أهل السنة والجماعة - مدرسة الخلفاء - في قبال مذهب التشيع - مدرسة أهل البيت - ، وبذلك نستطيع أن نفسر حالة نشوء مدارس تسير في اتجاه مخالف لمذهب أهل البيت ، لأنها قامت على هذا الحديث وأمثاله ...

ولكن بالنظرة العلمية وبقليل من الجهد في تفحص الواقع التاريخي ، وملابسات هذا الحديث وأمثاله ، أو بالنظر في مجال علم الحديث وفنون الجرح والتعديل يظهر وينكشف زيف هذا الحديث وبطلانه...

ومن الجهل أن يحتج أي سني على أحد من الشيعة بهذا الحديث وذلك لانفراد أهل السنة به ، ولا يمكن إلزام الشيعة بما لم يروونه في مصادرهم التي يثقون بها .

ولكن بما أنني ، باحث سني لابد أن تكون انطلاقتي لابد أن تكون انطلاقتي من الكتب والمصادر السُنية.

ص: 39


1- مسند أحمد : ج 4 ص 126 ، سنن الترمذي : ج 5 ص 44 ح 2676

حتى تكون ملزمة لي ، وهذه نقطة منهجية ومحورية في البحث . لابد أن نلتفت اليها في احتجاجاتنا وحواراتنا لأن الحجة لا تسمى حجة إلا إذا التزم بها الخصم حتى تكون حجة عليه وهذا ما لا ينتبه له كثير من علماء أهل السنة ، عندما يحتجون على الشيعة هذا الحديث مثلاً ... مقابل ما يحتج به الشيعة من حديث كتاب الله وعترتي ، والفارق بين الحجتين واسع ، إذ أن حديث سنتي من مختصات السُنة ، بخلاف حديث وعترتي

الذي يُعْتَد به عند الطرفين .

ص: 40

مصادر الحديث

إن أول إشكال أنه يوجه للحديث (عليكم بسنتي ...) أنه مما أعرض عنه الشيخان -البخاري ومسلم - ولم يخرجاه ، وهذا يعني النقصان في درجة صحته ، وذلك لأن أصح الأحاديث ما أخرجه الشيخان ، ثم ما انفرد في إخراجه البخاري ، ثم ما انفرد في إخراجه مسلم ثم ما كان على شرطيهما، ثم ما كان على شرط البخاري، ثم ما كان على شرط مسلم، وهذه المميزات لا توجد في هذا الحديث.

يوجد الحديث في (سنن أبي داود ، سنن الترمذي ، سنن ابن ماجة)(1).

إن رواة هذا الحديث لا يخلو جميعهم من ضعف وطعن عند علماء الجرح والتعديل والمتتبع لتراجمهم يلاحظ ذلك جيداً ولا يسعني في هذه العجالة أن أناقش رواة هذا الحديث واحداً واحداً ، بشتى طرقه ، ونقل آراء علماء الجرح والتعديل فيهم ، وسأكتفي بتضعيف راو واحد أو اثنين من مسند كل رواية : وهو كاف لتضعيفها كما اتفق على ذلك علماء الجرح والتعديل ، إذ ربما يكون هذا الراوي الضعيف قد اختلق هذه الرواية .

رواية الترمذي

روى الترمذي (2) هذا الحديث عن بغية بن الوليد ، وإليك آراء علماء الجرح والتعديل فيه : قال فيه ابن الجوزي في حديث : «وقد ذكرنا أن بغية كان يروي عن

ص: 41


1- سنن أبي داود 4 ص 200 - 201 ح 4607 ، سنن الترمذي 5 ص 44 ح 2676 ، سنن ابن ماجة ج 1 ص 15 - 16 ح 42 و 43
2- سنن الترمذي : ج 5 ص 44 ح 2676

المجهولين والضعفاء ، ولربما أسقط ذكرهم وذكر من رووا له عنهم» (1) .

وقال ابن حبان : لا يحتج ببغية»(2) . وقال : «بغية مُدلّس . وقال : «بغية مُدلّس ، يروي عن الضعفاء ، وأصحابه لا يسوون حديثه ويحذفون الضعفاء منهم»(3).

وقال أبو إسحاق الجوزجاني : «رحم الله بغية ما كان يبالي إذا وجد خرافة عمن يأخذه» (4).

وغيرها من كلمات الحفاظ وعلماء الجرح والتعديل ، وما ذكرناه كاف للمقام .

سند الحديث عند أبي داود

الوليد بن مسلم : روى الخبر عن ثور الناصبي كما قال ابن حجر العسقلاني : «وكان جده قُتل يوم طعن مع معاوية ، فكان ثور إذا ذكر علياً قال : لا أحب رجلاً قتل

جدي»(5).

أما الوليد فقد قال الذهبي : وقال أبو مسهر : الوليد مدلس ، وربما دلّس عن كذابين» (6).وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل : سئل عنه أبي فقال : كان رفاعاً» (7).

ص: 42


1- الموضوعات لابن الجوزي ج 1 ص 109
2- المصدر السابق ص 151
3- المصدر السابق ص 218
4- خلاصة عبقات الأنوار ج 2 ص 101
5- المصدر السابق ص 95 - 96 و 97
6- ميزان الاعتدال ج 4 ص 347
7- تهذيب التهذيب ج 11 ص 155

وغير ذلك وهو كاف لتضعيف روايته.

سند الحديث عند ابن ماجة

روي بثلاث طرق :

ففي طريق الحديث الأول ، عبدالله بن علاء ، وقد قال فيه الذهبي : «وقال ابن حزم : ضعفه يحيى وغيره» (1) وهو روى الخبر عن يحيى وهو مجهول عند ابن قطان.(2).

أما في الطريق الثاني ففيه إسماعيل بن بشير بن منصور، فقد كان قدرياً كما في تهذيب التهذيب (3).

أما في الطريق الثالث عند ابن ماجة :

روى الخبر عن ثور - الناصبي - عبدالملك بن الصباح ، ففي ميزان الاعتدال : «متهم بسرقة الحديث» (4)

هذا بالاضافة إلى أن الحديث خبر آحاد ، ترجع كل رواياته إلى صحابي واحد وهو العرباض بن سارية ، وخبر الآحاد لا يثبت في مقام الاحتجاج ، بالاضافة إلى أن العرباض كان من شيعة معاوية وجلاوزته .

الواقع التاريخي وحديث وسنتي

أما الواقع التاريخي فإنه يكذب هذا الحديث أيضاً :

ص: 43


1- ميزان الاعتدال ج 2 ص 464
2- تهذيب التهذيب ج 11 ص 280
3- ج 1 ص 284 - 285
4- ج 2 ص 656

ذكر التاريخ أن السنة المطهرة لم تكتب على عهد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، بل هناك أحاديث من طريق أهل السنة ينهى فيها رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم عن كتابة الأحاديث ، مثل قوله صلی الله علیه وآله وسلم :

«لا تكتبوا عني ، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه» كما في سنن الدارمي(1).

ومسند أحمد ، وفي رواية «أنهم استأذنوا النبي صلی الله علیه وآله وسلم أن يكتبوا عنه فلم يأذنهم»(2) وغيرها من الروايات الظاهرة بمنع الكتابة عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ، وكل هذا كان ضمن المخطط الذي نُفذ لمنع نشر الحديث وكتمانه حتى لا يظهر الحق ، ولم يقفوا عند ذلك فقد اجتهد عمر اجتهاداً واضحاً لمحو السنة.

روى عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن . فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فأشاروا عليه أن يكتبها ، فطفق عمر يستخير الله فيها شهراً.

رسول ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له ، فقال :

إني كنتُ أردتُ أن أكتب السنن ، وإني ذكرتُ قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله ، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً»(3).

وعن يحيى بن جعدة أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنة ثم بدا له أن لا يكتبها ، ثم كتب في الأمصار: من كان عنده شيء فليمحه» (4) .

وروى ابن جرير أن الخليفة عمر بن الخطاب كان كلما أرسل حاكماً أو والياً إلى

ص: 44


1- رواه أحمد 3 / 21 و 39 مسلم ج 4 / 2298 ح 72 والدارمي 1 / 130 – 131 ، والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري
2- سنن الترمذي ج 5 / ص 38 ح 2665
3- رواه حافظ المغرب ابن عبد البر ص 64 والبيهقي في المدخل عن عروة ، تقييد العلم ص 49
4- جامع بيان العلم وفضله ج 1 ص 65 ، تقييد العلم 53

قطر أو بلد ، يوصيه في جملة ما يوصيه : جرد القرآن وأقل الرواية عن محمد وأنا شریککم» (1).

وقد حفظ التاريخ أن الخليفة قال لأبي ذر وعبدالله بن مسعود ، بن مسعود ، وأبي الدرداء : «ما هذا الحديث الذي تفشون عن محمد ؟!» (2).

كما ذكر أن عمر جمع الحديث من الناس ، فظنوا أنه يريد أن ينظر فيها ويقومها على أمر لا يكون فيه اختلاف ، فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار، ثم قال : أمنية كأمنية أه-ل الكتاب، كما روى الخطيب عن القاسم في تقييد العلم(3).

وما ذكره عمر من سبب لمصادرة السنّة ، فإنه سبب لا يقبله الجاهل فضلاً عن العالم ، لأنه مخالف للقرآن ولروح الدين والعقل ، فكيف يقول : «جردوا القرآن وأقلّوا الرواية» والقرآن نفسه يؤكد أن حجته تقوم بالسنة ، لأنها موضحة وشارحة ومخصصة ومقيدة وغير ذلك وقد قال تعالى : « وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»(4) ؟ فكيف يبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن ! أو ليس بالسنة ؟! وقال تعالى : «مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى*وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى»(5) فما فائدة الوحي إذا أمرنا بكتمانه وحرقه وهذه السنة التي تحتجون بلزوم اتباعها قد مرت عليها سلسلة من المؤامرات ؛ فقد بدأت المسيرة من أبي بكر فقد

ص: 45


1- تاريخ الطبري ج 4 ص 204
2- كنز العمال ج 10 ص 293
3- تقييد العلم ص 52
4- سورة النحل 44
5- سورة النجم : 2 - 4

أحرق في خلافته خمسمائة حديث كتبه عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)(1) ، قالت عائشة : جمع أبي الحديث عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فكانت خمسمائة حديث فبات يتقلب ولما أصبح قال : أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك ، فجئته بها فأحرقها وقال : خشيت أن أموت وهي عندك فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدثني فأكون قد تقلّدت ذلك »(2) .

وكتب عمر في خلافته إلى الآفاق : أن من كتب حديثاً فليمحه (3)

وسار عثمان على نفس الخط ؛ لأنه وقع على أن يواصل مسيرة الشيخين - أبي بكر وعمر - فقال على المنبر : «لا يحلّ لأحد يروي حديثاً لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر»(4).

ثم واصل المسيرة من بعده معاوية بن أبي سفيان ، قائلاً: «يا ناس أقلّوا الرواية عن رسول الله وإن كنتم تتحدثون فتحدثوا بما كان يتحدث به عهد عمر»(5).

وبذلك أصبح ترك كتابة الأحاديث سنةٌ متّبعة ، وعدت كتابتها شيئاً منكراً.

ولم يكن هذا الكبت والتضليل الإعلامي الذي مارسته السلطات الحاكمة على كتابة الحديث إلا من أجل كتم فضائل أهل البيت والحيلولة دون انتشارها . هذا هو السبب الذي لا يرضاه الكثيرون ، ولكن هو الواقع المرير الذي يصطدم به المتتبع في التاريخ

ص: 46


1- الاعتصام بحبل الله المتين 1 / 3
2- تذكرة الحفاظ ج 1 ص 5
3- تقييد العلم : 53
4- كنز العمال ج 10 ص 295 رقم الحديث 29460
5- كنز العمال ج 10 ص 291 رقم الحديث 29473

والدارس لأحداثه.

وبعد ذلك أيُّ سُنّة أمر رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) بإتباعها ؟!

هل هي ما محاه ما محاه عمر أم ما أحرقه أبو بكر ؟!

ولو كان هناك أمر بإتباع السنة . فلماذا لا ينصاع له الخلفاء الراشدون ، فيكثروا من روايتها ويحرصوا على كتابتها ؟!

فماذا يصنع من يريد التمسك (بالسنة) من بعد رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)؟!

فلنفترض أنه عاشر الصحابة ، أيظل يبحث عن جميع الصحابة ليأخذ منهم سنةرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) وفيهم الولاة والحكام ، والقواد والجنود في الثغور ؟!

أيبحث عنهم جميعاً ليسألهم عن طبيعة ما يريد التعرف عليه طبيعة ما يريد التعرف عليه من أحكام ، أم يكتفي بالرجوع إلى الموجودين ، وهو لا يجزئه لاحتمال صدور الناسخ أو المقيد أو المخصص بحضور واحد أو اثنين ممن ليسوا بالمدينة ؟ والحجية كما يقول ابن حزم : لا تتقوم إلا بهم(1).

وإذا كانت هذه مشكلة من أدرك الصحابة ، وهم قلة فما بالك من بعد ما توسعت الدولة الإسلامية وكثرت الفتوحات، وكثرت الأسئلة عن الحوادث والمتغيرات .

فبماذا يُجابون ؟!

وهكذا ضاع كثير من الأحاديث والأحكام ، وإلى هذا كانت تهدف المؤامرة ، فقد صرّح عمرُ بذلك في عهد رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) عندما قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم )عند وفاته :

«ائتوني بكتف ودواة أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً» . فقال عمر : إنه يهج--ر ، حسبنا كتاب الله »(2).

ص: 47


1- الاصول العامة للفقه المقارن : 173
2- البخاري، كتاب العلم ، ج 1 ص 39 وج 6 / 11 - 12

فالغاية التي منعت من إحضار الكتف والدواة لرسول الله ليكتب لهم كتاباً يمنعهم من الضلالة هي نفسها التي منعتهم عن جمع الأحاديث وكتابتها .

فكيف يروى بعد ذلك تمسكوا بسنتي).

ولم يتمسك بها الصحابة ولا الخلفاء ، بل صرحوا بغير ذلك ، كما روى الذهبي في تذكرة الحفاظ قال : إن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال : إنكم تحدثون عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)أحاديث ، تختلفون فيها والناس بعدكم أشدُّ اختلافاً ، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلوا حلاله ، وحرموا حرامه(1).

«إن الشيء الطبيعي أن لا يفرض أي مصدر تشريعي على الأمة ما لم يكن مدوّناً ومحدد المفاهيم ، أو يكون هناك مسؤول عنه يكون هو المرجع فيه»(2) . وقد أجمعت الأمة على أن السنة لم تدوّن في عهد الرسول ولا عهد الخلفاء ولم تدوّن إلا بعد قرن ونصف من وفاة رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم) . فبأي وجه يقول قائل : «عليكم بسنتي ...» .

الحديث الآخر

نصه : «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما ، كتاب الله وسنة نبيه» . هذا الحديث أسخف من أن يناقش ، وكل ما يمكن أن يقال فيه بالإضافة لما تقدم :

(1) إن هذا الحديث لم يروه أصحاب الصحاح الستة عند الستة عند أهل السنة ، وهذا كاف لتضعيفه فكيف يا ترى تمسكوا بحديث لم يكن له وجود في صحاحهم ومسانيدهم ، والناظر لمكانة الحديث عند أهل السنة لا يختلجه الشك في أن هذا الحديث قد روته الصحاح وعلى رأسها البخاري ومسلم ، وفي الواقع لا وجود له بتاتاً.

ص: 48


1- أضواء على السنة المحمدية ، محمود أبو رية ص 53
2- أصول الفقه المقارن ، محمد تقي الحكيم ص 73

(2) إن أقدم المصادر التي ذكرت هذا الحديث ، هي موطأ الإمام مالك ، وسيرة ابن هشام ، والصواعق لابن حجر ... ولم أجد كتاباً آخر روى هذا الحديث . وقد اشتركت هذه الكتب في نقل الحديثين ما عدا الموطأ .

(3) رواية الحديث مرسلة في الصواعق ، ومبتورة السند في سيرة ابن هشام ) ،

ويدعي ابن هشام أنه أخذ الحديث من سيرة ابن إسحاق ، وبحثت سيرة ابن إسحاق فلم أجد الحديث في كل الطبعات، فيا ترى من أين أتى به ابن هشام(1) ؟!

(4) أما رواية مالك للحديث ، فهو خبر مرفوع لا سند له ، قال راوي ، الموطأ حدثني عن مالك أنه بلغه أن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم )قال : ... الحديث»(2) .

... كما تلاحظ أن هذا الحديث من غير سند فلا يمكن الاعتماد عليه . ولماذا انفرد مالك بهذا الحديث ولم يروه أستاذه أبو حنيفة أو تلميذه الشافعي وأحمد بن حنبل ، فلو

كان الحديث صحيح لماذا أعرضت عنه أئمة المذاهب ، وأئمة الحديث ؟!

(5) أخرج الحاكم في مستدركه(3) الحديث بطريقين ، الطريق الأول فيه زيد الديلسي عن عكرمة عن ابن عباس ، ولا يمكن أن تقبل هذا الحديث لأن في سنده عكرمة الكذاب (4)وهو من أعداء أهل البيت ع ومن الذين خرجوا على عليه وكفروه، وأما الطريق الآخر فيه صالح بن موسى الطلحي عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن صالح عن أبي هريرة ، وهذا الحديث أيضاً لا يمكن أن يقبل لأن الحديث على رواية أبي سعيد الخدري قاله رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو على فراش الموت ، وفي هذه الفترة كان أبو هريرة في

ص: 49


1- سيرة ابن هشام ، ج 4 ص 251 ، الصواعق المحرقة 145
2- الموطأ ، ، للإمام مالك توفي 179 ه- . ج 2 ص 899 ح 3 صححه ، ورقمه ، وخرج أحاديثه وعلق عليه محمد عبد الباقي
3- المستدرك ج 1 ص 93 إشراف د. يوسف عبد الرحمن المرعشي ، دار المعرفة ، بيروت - لبنان
4- سوف يأتيك كلمات علماء الجرح والتعديل في عكرمة

البحرين أرسل مع العلاء الحضرمي قبل أن يتوفى رسول الله( صلی الله علیه وآله وسلم) بسنة ونصف ، إذن متى سمع النبي وهو على فراش الموت ؟!

(6) السنن الكبرى للبيهقي ينقل الحديث ج 10 ص 114 ، نقل حدیث مسلم «ترکت

فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي » ، ثم ينقل حديثي المستدرك بالنص .

(7) كتاب الفقيه والمتفقه - للخطيب البغدادي ج 1 ص 94 قام بتصحيحه والتعلي--ق عليه فضيلة الشيخ إسماعيل الأنصاري عضو دار الافتاء - دار الكتب العلمية – بيروت - لبنان ، نقل حديثين ، الأول هو حديث المستدرك ، (عن أبي صالح عن أبي هريرة . أما الحديث الجديد الذي نقله ، قال حدثني سيف بن عمر ، عن ابن إسحاق الأسدي عن الصباح بن محمد عن أبي حازم عن أبي سعيد الخدري ... الحديث ، وهذا السند لا يمكن أن يقبل بشهادة علماء الجرح والتعديل في سيف بن عمر الذين أجمعوا على كذبه وافترائه ، وسوف يأتيك قول العلماء فيه .

(8) كتاب : الالماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع للقاضي عياض 479 -

544 ه- تحقيق السيد أحمد صقر الطبعة الأولى ، الناشر دار الراس الناصرة المكتبة

العتيقة - تونس ص 9 ، نقل نص الحديث من كتاب الفقيه والمتفقه الذي في سنده سيف بن عمر .

وغير ما ذكرناه لا يوجد كتاب قط نقل حديث كتاب الله وسنتي» فإذن لم يثبت للحديث إلا ثلاثة طرق عن ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة ، وهذه الطرق مع ضعفها لم تظهر إلا في وسط القرن الخامس الهجري أي بعد الحاكم ، ولم يأت كتاب أقدم من ذلك يذكر هذه الطرق هذا أولاً ، وثانياً أن هؤلاء الصحابة الثلاثة أبو هريرة وابن عباس وأبو سعيد الخدري رووا حديث كتاب الله وعترتي» في القرن الثاني الهجري كما روى مسلم ، فأيهما نقبل(1).

ص: 50


1- وقد أفادني سماحة العلامة السيد علي البدري كثيراً في تخريجات حديث (كتاب الله وسنتي)

وبذلك لا تتجاوز هذه الرواية كونها خبر آحاد مرفوعة أو مرسلة .. ومما يدل على

أنها موضوعة أن حديثاً مثل هذا الحديث في الأهمية بمكان وهو الدستور الذي سوف

تسلكه الأمة بعد رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) : «لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه » .. فيفترض أن يكرره رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم )في مواضع كثيرة ، وأن يتناوله الصحابه بالرواية والحفظ كما في حديث كتاب الله و عترتي».

فلا يمكن أن يكون رسول الله( صلی الله علیه وآله وسلم )قد جعل لنا هذا الحديث مصدراً تشريعياً م--ن بعده لأنه حديث مبهم قاصر الدلالة ، بالإضافة إلى ظنّية صدوره.

حوار مع المحدث والحافظ الدمشقي

عبد القادر الأرنؤوطي

حدث لي أثناء إقامتي في الشام لقاء مع الشيخ عبد القادر الأرنؤوطي ، وه-و م-ن علماء الشام وله إجازة في علم الحديث .

وقد تمّ هذا اللقاء ء من غير إعداد مني ، وإنما كان من طريق الصدفة ..

كان لي أحد الأصدقاء السودانيين اسمه عادل ، تعرفت عليه في منطقة السيدة زينب علیها سلام وقد أنار الله قلبه بنور أهل البيت (علیهم السلام )وتشيع لهم ، وامتاز هذا الأخ بصفات حميدة قل ما تجدها في غيره ، فكان خلوقاً متديناً ورعاً . وقد أجبرته الظروف على العمل في إحدى المزارع في منطقة تُسمى «العادلية» - 9 كم تقريباً جنوب السيدة

ص: 51

زينب علیها السلام- وكان بجوار المزرعة التي يعمل بها مزرعة أخرى لرجل كبير السن

متدين يكنى بأبي سليمان.

فعندما عرف هذا الجار أن السوداني الذي يعمل بجواره شيعي ، جاء إليه وتحدث معه ، وقال :

- يا أخي ، السودانيون سُنّة طيبون .. من أين لك بالتشيع ؟! هل في أسرتك أح---د

شيعي؟

قال عادل : لا ، ولكن الدين والقناعة لا تبتني على تقليد المجتمع والأسرة .

قال : إن الشيعة يكذبون ويخدعون العامة.

قال عادل : أنا لم أرَ منهم ذلك.

قال : بلى نحن نعرفهم جيداً.

قال عادل : یا حاج، هل تؤمن بالبخاري ومسلم وصحاح السنة ؟

قال : نعم .

قال عادل : إن الشيعة يستدلون على أي عقيدة يؤمنون بها من هذه المصادر ، فضلاً

عن مصادرهم .

قال : إنهم يكذبون ولهم بخاري ومسلم مُحرَّف .

قال عادل : إنهم لم يلزموني بكتاب مخصص ، بل طلبوا مني أن أبحث في أي مكتبة

في العالم العربي.

قال : هذا كذبٌ ، وأنا من واجبي أن أردك مرة أخرى إلى السُّنَّة ، «وإن يهدي بك

الله رجل واحد خير لك مما طلعت عليه الشمس» ..

قال عادل : نحن طالبي حق وهدى ، نميل مع الدليل حيثما مال .

ص: 52

قال : إني سأحضر لك أكبر عالم في دمشق ، وهو العلامة عبد القادر الأرنؤوطي ، عالم جليل ، ومحدّث حافظ ، وقد حاول الشيعة إغراءه بالملايين حتى يصبح معه-م، لكنه رفض...

وافق -- الأخ - عادل على هذا الطرح ، وقال له أبو سليمان : موعدنا يوم الاثنين أنت وكل السودانيين الذين تأثروا بالفكر الشيعي .

جاء إلي عادل ، وأخبرني بما حدث ، وطلب منى أن أذهب معه .. وبفرحة شديدة قبلت هذا العرض، وتواعدتُ معه يوم الاثنين بتاريخ 8 صفر 1417 من الهجرة على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم ، في تمام الساعة 12 ظهراً .

وكان يوماً شديد الحر ، تقابلنا في الموعد ، وانطلقنا إلى المزرعة مع ثلاثة من السودانيين ، وبعد وصولنا كان الأخ عادل في استقبالنا في مزرعة خضراء تحفها الأشجار المثمرة من الخوخ والتفاح والتوت وغيرها من الفواكه التي لا توجد عندنا في السودان .

وبعدها أخذنا نحث الخطى إلى مزرعة جاره السني ، فاستقبلنا بحفاوة بالغة ، وبع-د قليل من الاستجمام في ذلك المكان الذي تحيط به الخضرة من كل حدب ، قمت إلى صلاة الظهر، وفي أثناء الصلاة ، جاءت قافلة في مقدمتها سيارة تحمل الشيخ الأرنؤوطي ، وقد امتلأ المكان بالناس وخارج المبنى بالسيارات ، وعلت الدهشة وجوه أصحابي السودانيين من هيبة هذا المقام ، لأنهم لم يتصوروا أن الأمر بهذا الحجم . وبعدما استقر كل واحد في مكانه ، اخترت مكاناً بجوار الشيخ.

وبعد إجراء التعريف بين الجميع ، تحدث صاحب المزرعة مع الشيخ قائلاً : إن هؤلاء اخواننا من السودان وقد تأثروا بالتشيع في السيدة زينب ، وبينهم واحد شيعي يعمل في

المزرعة التي بجوارنا .

ص: 53

قال الشيخ : أين هذا الشيعي ؟

قالوا له : ذهب إلى مزرعته وسيرجع بعد قليل.

قال : إذن نؤخّر الحديث إلى رجوعه ..

...ذهب إليه أحد السودانيين وأحضره إلى المجلس ، وقد استغل الشيخ هذه الفرصة ، بقراءة أحاديث كثيرة يحفظها عن ظهر قلب ، وكان موضوعها أفضلية بعض البلدان على بعض وخاصة الشام ودمشق ، وقد أخذ هذا الموضوع حوالي نصف ساعة - وهو موضوع لاجدوى فيه - ، وقد تعجبت منه كثيراً كيف لا يستغل هذا الظرف ، وقد أعاره الجميع عقولهم بحديث يستفيدون منه في دينهم ودنياهم ، ثم قال : إن دين الله لا يؤخذ بالحسب والنسب ، وقد جعل الله شرعه لكل الناس ، فبأي حق نأخذ ديننا من أهل البيت ؟! وقد أمرنا رسول الله( صلی الله علیه وآله وسلم) بالتمسك بكتاب الله وسنته وهو حديث صحيح لا يستطيع أحد تضعيفه ، ولا يوجد عندنا طريق آخر غير هذا الطريق . وضرب بيده على ظهر عادل وقال له : يا ابني ، لا يُغرنك كلام الشيعة .

استوقفته قائلاً :

-سماحة الشيخ ، نحن باحثون عن الحق ، وقد اختلط علينا الأمر وجئنا كي نستفيد

منك عندما عرفنا أنك عالم جليل ومحدّث وحافظ.

قال : نعم

قلت : من البديهيات ، التي لا يتغافل عنها إلا أعمى أن المسلمين قد تقسموا إلى طوائف ومذاهب متعددة وكل فرقة تدعي أنها الحق وغيرها باطل . فكيف يتسنى لي ، وأنا مكلف بشرع الله أن أعرف الحق من بين هذه الخطوط المتناقضة ؟! هل أراد الله لنا أن نكون متفرقين ، أم أراد أن نكون على ملة واحدة ، لدين الله بتشريع واحد ؟! وإذا

كان نعم ، ما هي الضمانة التي تركها الله ورسوله لنا لكي تحصن الأمة الضلالة ؟

من

ص: 54

مع العلم أن أول ما وقع الخلاف بين المسلمين كان بعد وفاة رسول الله -صلی الله علیه وآله وسلم ) مباشرة ، فليس جائز في حق الرسول أن يترك أمته من غير هدى يسترشدون به .

قال الشيخ : إن الضمانة التي تركها رسول الله لتمنع الأمة من الاختلاف قوله (صلى الله عليه و آله وسلم ): «إني تارك فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله وسنتي» .

قلتُ : لقد ذكرت قبل قليل ، في معرض كلامك قد يكون هناك حديث لا أصل ل-ه

أي غير مذكور في كتب الحديث.

قال : نعم

قلتُ له : هذا الحديث لا أصل له في الصحاح الستة ، فكيف تقول به ، وأنت رجل

محدث ؟

...هنا ، شبّت ناره ، وأخذ يصرخ قائلاً : ماذا تقصد ، هل تريد أن تضعف هذا الحديث .

تعجبتُ من هذه الطريقة ، وعن سبب هيجانه ، مع أنني لم أقل شيئاً فقلت : مهلاً ، إن سؤالي واحد ومحدد ، هل يوجد هذا الحديث في الصحاح الستة ؟

قال : الصحاح ليست ستة ، وكتب الحديث كثيرة ، وإن هذا الحديث يوجد في كتاب

الموطأ للإمام مالك .

قلت( متوجهاً إلى الحضور) : حسناً ، قد اعترف الشيخ أن هذا الحديث ، لا وجود له في الصحاح الستة ، ويوجد في موطأ مالك...

فقاطعني بلهجة شديدة قائلاً : شو ، الموطأ مو كتاب حديث ؟

قلتُ : الموطأ كتاب حديث ولكن حديث : كتاب الله وسنتي» مرفوع في الموطأ من

غير سند - مع العلم أن كل أحاديث الموطأ مسندة ..

ص: 55

هنا صرخ الشيخ بعد ما سقطت حجته ، وأخذ يضربني بيده ويهزني شمالاً ويميناً : أنت تريد أن تضعف الحديث ، وأنت مَنْ حتى تضعفه حتى خرج عن حدود المعقول . وأخذ الجميع يندهش من حركاته وتصرفه هذا .

قلتُ : يا شيخ ! ، هنا مقام مناقشة ودليل وهذا الأسلوب الغري-ب ال-ذي تتبع-ه لايجدي ، وقد جلست أنا مع الكثير من علماء الشيعة ، ولم أرَ مثل هذا الأسلوب أبداً .

قال تعالى :«وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ»(1) .. وبعد هذا ، هدأ قليلاً من ثورته .

قلت : أسألك يا شيخ : هل رواية مالك لحديث كتاب الله وسنتي»، في الموطأ ، ضعيفة أم صحيحة ؟!

قال ( بتحسّر شديد): ضعيفة.

قلت : فلماذا إذن ، قلت ان الحديث في الموطأ وأنت تعلم أنه ضعيف ؟

قال رافعاً صوته ) : إن للحديث طرق أخرى .

قلت للحضور : قد تنازل الشيخ عن رواية الموطأ ، وقال : إن للحديث طرق

أخرى ، فلنسمع منه هذه الطرق .

... هنا أحس الشيخ بالهزيمة والخجل ، لأن ليس للحديث طرق صحيحة ، وفي هذه

الأثناء ، تحدث أحد الجلوس ، فوكزني الشيخ بيده ، وقال لي وهو مشيراً إلى المتحدث:

اسمع له ، والتفت يريد بذلك الهروب من السؤال المحرج الذي وجهته له.

... أحسستُ منه هذا ، ولكني أصررت وقلت : أسمعنا يا شيخ الطرق الأخرى

ص: 56


1- آل عمران : 159

للحديث ؟؟

قال (بلهجة منكسرة : لا أحفظها ، وسوف أكتبها لك.

قلت : سبحان الله ! ، أنت تحفظ كل هذه الأحاديث، في فضل البلدان والمناطق ،

ولا تحفظ طريق أهم الأحاديث وهو مرتكز أهل السنة والجماعة والذي يعصم الأمة

عن الضلالة كما قلت .. فظل ساكتاً .

وعندما أحس الحضور بخجله ، قال لي أحدهم :

-ماذا تريد من الشيخ وقد وعدك أن يكتبها لك .

قلت : أنا أقرب لك الطريق ، إن هذا الحديث يوجد أيضاً في سيرة ابن هشام من

غیر سند .

قال الشيخ الأرنؤوطي : إن سيرة ابن هشام ، كتاب سيرة وليس حديث .

قلت : إذن تضعف هذه الرواية ؟

قال : نعم .

قلت : كفيتني مؤونة النقاش فيها .

وواصلت کلامی قائلا : ويوجد أيضاً في كتاب الالماع للقاضي عياض ، وفي كتاب

الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي .. هل تأخذ بهذه الروايات ؟

قال : لا

قلت : إذن ، حديث كتاب الله وسنتي» ، ضعيف بشهادة الشيخ ، ولم يبق أمامنا إلا

ضمانة واحدة تمنع الأمة من الاختلاف ، وهي حديث متواتر عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وق---د روته كتب الحديث السنية ، والصحاح الستة ما عدا البخاري وهو قول رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) :

«إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ؛ كتاب الله حبل محدود

ص: 57

ما بين السماء والأرض ، وعترتي أهل بيتي ، فإن العليم الخبير ، أنبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض» (1) . كما في رواية أحمد بن حنبل ، ولا مناص لمؤمن يريد الإسلام الذي أمر الله به ورسوله غير هذا الطريق ، وهو طريق أهل البيت المطهرين في القرآن الكريم من الرجس والمعاصي ، وذكرت مجموعة من فضائل أهل البيت ، والشيخ ساكت لم يتفوه بكلمة طوال هذه المدة - على غير عادته - فقد كان يقاطع حديثي بين كلمة وأخرى .

وعندما رأى مريدوه الانكسار في شيخهم ، أصبحوا يهرجون ويمرجون.

قلت : كفى دجلاً ونفاقاً ، ومراوغة عن الحق ، إلى متى هذا التنكر ؟!! والح-ق واضحة آياته ، ظاهرة بيناته ، وقد أقمتُ عليكم الحجة ، بأن لا دين من غير الكتاب والعترة الطاهرة من آل محمد( صلی الله علیه وآله وسلم).

وظل الشيخ ساكتاً ولم يرد علي كلمة واحدة . فقام منتفضاً قائلاً : أنا أريد أن أذهب ، وإنني مرتبط بدرس - مع العلم أنه كان مدعواً لطعام الغداء !! -- .

أصرّ عليه صاحب المنزل بالبقاء ، وبعد إحضار طعام الغداء ، هدأ المجلس ، ولم يتفوّه الشيخ بكلمة واحدة في أي موضوع كان ، طيلة جلسة الغداء وقد كان فيما سبق ه-و صاحب المجلس والحديث أولاً ! ...

هكذا مصير كل من يراوغ ويخفي الحقائق ، فلابد أن ينكشف أمام الملأ ...

ص: 58


1- مسند أحمد : ج 3 ص 14 وص 17 وج 4 ص 367 ، صحيح مسلم : ج 4 ص 1873 ح 36 وص 1874 ح 37 ، سنن الترمذي : ج 5 ص 328 - 329 ح 3876 ، سنن الدارمي : ج 2 ص 432 ، المستدرك للحاكم : ج 2 ص 110 وج 3 ص 148 ، مجمع الزوائد : ج 9 ص 162

لا تحل مشكلة أهل السنة بالحديثين:

إذا تغاضينا عن كل ذلك وسلّمنا جدلاً بصحة الحديثين ، «عليكم بسنتي ..» «کتاب وسنتي» فذلك لا ينقذ أهل السنة ولا يفك محنتهم ، بل إنه بكل الطرق والاتجاهات يؤيد ويدعم مذهب أهل البيت (التشيع) وذلك للآتي : الحديث الأول : «عليكم بسنتي

وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» (1) .

الخلفاء هم أئمة أهل البيت

فإن كلمة الخلفاء هنا عامة من غير مخصصة لفئة معينة ، وتفسير أهل السنة لها بالخلفاء الأربعة تأويل من غير مصدر ولا دليل ، لأن القضية أوسع من المدعى ، بل إن الأدلة تنطق بعكس ذلك إذ أن الخلفاء الراشدين هم الأئمة الاثنا عشر من أهل البيت ، لماثبت من الأدلة والروايات القاطعة أن الخلفاء بعد الرسول( صلی الله علیه وآله وسلم )اثنا عشر خليفة ، وقد أورد القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ، قال : «ذكر يحيى بن الحسن في كتاب العمدة عشرين طريقاً أن الخلفاء من بعد النبي( صلی الله علیه وآله وسلم) اثنا عشر خليفة ، كلهم من قريش ، في البخاري من ثلاثة طرق . وفي مسلم من تسعة طرق ، وفي أبي داود من ثلاث طرق ، وفي الترمذي من طريق واحد ، وفي الحميدي من ثلاثة طرق . ففي البخاري عن جابررفعه : يكون من بعدي اثنا عشر أميراً ، فقال كلمة لم أسمعها فسألت أبي : ماذا قال : قال كلهم من قريش ، وفي مسلم عن عامر بن سعد ، قال : كتبتُ إلى ابن سمرة أخبرني بشيء سمعته من النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) فكتب رسول إلي : سمعت رسول الله( صلی الله علیه وآله وسلم )يوم الجمعة عشية رجم

ص: 59


1- مسند أحمد : ج 4 ص 126

الأسلمي ، يقول : لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة ويكون عليهم اثنا عشر خليفة

كلهم من قريش» (1) .

وبعد هذا لا يمكن بأن يحتج محتج بحديث «وسنة الخلفاء ...» حاملاً ذل-ك عل-ى الخلفاء الأربعة، لهذه الروايات المتواترة التي بلغت عشرين طريقاً وكلها تصرح أن الخلفاء اثنا عشر خليفة ، ولا يمكن أن نجد تفسيراً لهذه الروايات في الواقع الخارجي إلا في أئمة مذهب أهل البيت الإثني عشر.

فيكون الشيعة بذلك هم الفرقة الوحيدة التي جسدت معاني هذه الأحاديث بولايتهم للإمام علي (ع ) ثم من بعده الحسن والحسين ثم تسع أئمة من ذرية الحسين ، فيكون

العدد بعد ذلك اثنا عشر إماماً .

ورغم أن كلمة قريش في هذه الروايات مطلقة وغير محددة ولكن بضميمة رواي--ات وقرائن أخرى يتبين أن المراد منه أهل البيت وذلك لوجود روايات متضافرة على إمامة

أهل البيت . سنتطرق إلى بعضها في البحوث القادمة.

ويكفيكم في هذا المقام رواية إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ،

كتاب الله وعترتي أهل بيتي» (2) :

ص: 60


1- ينابيع المودة، القندوزي الحنفي ج 1 ص 289 - 290 ، العمدة : 481 ، البخاري 9 ص 101 ، لم ج 3 ص 1452 - 1453 -ن أب---- داود ج 3 ص 309 ح 4279 ، سنن الترمذي : ج 4 ص 501 ح 2223
2- إن علياً لة هو أول الأئمة الإثني عشر ، إنما يناقش الكاتب هنا النظريتين هل هم أربعة الخلفاء أم اثنا عشر خليفة ؟ من هؤلاء الإثناء عشر ؟ وإلى أين ينتمون ؟

فما دام قيام الدين بولاية اثني عشر خليفة كما صرحت الروايات السابقة ، وفي نفس الوقت هناك روايات تؤكد ملازمة أهل البيت للكتاب ، فذلك خير دليل على أن

المقصود من (اثني عشر خليفة هم الأئمة من أهل البيت.

وأما عبارة (كلهم من قريش) فما هي إلا تبديل وتدليس في الحديث ، فوضعت حتى تتشوه الدلالة الواضحة في وجوب اتباع أهل البيت ، لأن العبارة الصحيحة هي كلهم من بني هاشم ولكن يد الغدر والخيانة تتبعت فضائل أهل البيت فأخفت منها ما استطاعت وبدلت وغيرت ما يمكن تحريفه (1) .

وهذه الرواية إحدى ضحايا التغيير والتبديل ، ولكن يأبى الله إلا أن يظهر نوره ، فقد نقل القندوزي الحنفي نفسه في ينابيع المودة : (وفي المودة العاشرة من كتاب - مودة القربى - للسيد علي الهمداني - قدس الله سره - وأفاض علينا بركات-ه وفتوح-ه ع-ن عبدالملك بن عُمير عن جابر بن سمرة قال : كنتُ مع أبي عند النبي يقول : بعدي إثنا عشر خليفة ثم أخفى صوته فقلت لأبي : ما الذي أخفى صوته ؟ قال : قال :( كلهم من بني هاشم) (2) . بل قد روى القندوزي أحاديث أكثر وضوحاً من ذلك فقد روى عن . عبايه بن ربعي عن جابر قال :« قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أنا سيد النبيين ، وعل-ي س-يد الوصيين ، وإن أوصيائي بعدي إثنا عشر ، أولهم على ، وآخرهم القائم المهدي » (3).

ولم يجد القندوزي الحنفي بعد ذكر هذه الأحاديث إلا أن يعترف ويقول : إن

ص: 61


1- راجع فصل تحريف المحدثين للأحاديث
2- ينابيع المودة : ج 3 ص 290
3- ينابيع المودة : ج 3 ص 291

الأحاديث الدالة على كون الخلفاء بعده (صلی الله علیه وآله وسلم )اثني عشر قد اشتهرت من طرق كثيرة فبشرح الزمان وتعريف الكون والمكان عُلم أن مراد رسول الله( صلی الله علیه وآله وسلم )من حديث هذا الأئمة الإثني عشر من أهل بيته وعترته، إذ لا يمكن أن نحمله على الملوك الأموية الزيادتهم على إثني عشر ولظلمهم الفاحش إلا عمر بن عبدالعزيز ، ولكونهم غير بني هاشم ، لأن النبي الله( صلی الله علیه وآله وسلم) قال : كلهم من بني هاشم ، في رواية عبدالملك ع-ن ج-ابر وإخفاء صوته (صلی الله علیه وآله وسلم )في هذا القول يرجح هذه الرواية لأنهم لا يحسنون خلافة بني هاشم ، ولا يمكن أن نحمله على الملوك العباسية لزيادتهم على العدد المذكور ولقلة رعايتهم الآية « قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى » (1)، وحديث الكساء ، فلابد أن يُحمل هذا الحديث على الأئمة الإثني عشر من أهل بيته وعترته (صلی الله علیه وآله وسلم )لأنهم كانوا أعلم أهل زمانهم وأجلهم وأورعهم وأتقاهم وأعلاهم نسباً وأفضلهم حسباً وأكرمهم عند الله . وكان علمهم عن آبائهم متصلاً بجدهم (صلی الله علیه وآله وسلم) (2)فحمل الحديث عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» على الأئمة من أهل البيت أقرب من حملها على الخلفاء الأربعة لما تبيَّن بأن الخلفاء من بعد الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) إثنا عشر خليفة من بني هاشم .

أهل البيت طريق التمسك بالكتاب والسنة

أما حديث تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً ، كتاب الله وسنتي

ص: 62


1- الشورى 23
2- ينابيع المودة : ج 3 ص 292

فإنه لا يعارض حديث كتاب الله وعترتي ولا يُلجأ إلى التعارض إلا أذا تحكمت المعارضة واستحال الجمع بينهما ، ومع إمكانية الجمع بينهما لا معارضة أصلاً . وقد كفانا ابن حجر الجهد في إمكانية الجمع بينهما فقد ذكر في صواعقه : (إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن اتبعتموهما . وهما : كتاب الله وأهل بيتى عترتي ، زاد الطبراني أني سألت الله ذلك لهما فلا تقدموهم فتهلكوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم ، وفي رواية كتاب الله وسنتي وهي المراد من الأحاديث المقتصرة على الكتاب لأن السنة مبينةً له فأغنى ذكره عن ذكرها والحاصل إن الحث وقع على التمسك بالكتاب وبالسنة وبالعلماء بهما من أهل البيت ، ويستفاد من مجموع ذلك بقاء الأمور الثلاثة إلى قيام الساعة ...) (1) .

وبتعبير أدق مما قاله ابن حجر فإن الأمر بالتمسك بالسنة لا يكون إلا عن طريق

حفظتها وهم أهل البيت وأهل البيت أعلم بما في داخله ، كما أثبتت الروايات ذلك

وشهد به التأريخ . فيكون الحث من رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) قد وقع بالتمسك بالكتاب وبأه--ل البيت فيكون التمسك بالسنة أمر طبيعي ملازم للتمسك بأهل البيت وليس كما قال ابن حجر الحث وقع على التمسك بالسنة ، لأن الروايات الواردة بلزوم التمسك بالعترة من أهل البيت قد بلغت حد التواتر ، وإضافة إلى ذلك قد علمت ما جرى على السنة من حرق وكتم وتزوير ، فأهل البيت هم الطريق الوحيد لمعرفة القرآن والسنة ، كما قال

رسول الله : فلا تقدموهم فتهلكوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا ولا تعلموهم فإنهم

ص: 63


1- الصواعق المحرقة ص 150

أعلم منكم كما ذكرها الطبراني(1) ، فيكون لا مناص بعد ذلك عن وجوب التمسك بأهل البيت.

ص: 64


1- المعجم الكبير : ج 5 ص 187 ذ ح 4971

الفصل الثالث : حديث كتاب الله وعترتي

اشارة

في المصادر السنية

* عدد الرواة من الصحابة *

* عدد الرواة من التابعين *

* في صحيح مسلم *

* عند الحاكم *

* عند الترمذي *

* بعض الكتب التي أوردت الحديث *

* شبهات على حديث الثقلين *

* دفع الشبهة *

* دلالة الحديث على إمامة أهل البيت (علیه السلام)

ص: 65

ص: 66

إثبات حديث «كتاب الله وعترتي»

وضح لك في البحث السابق وهن حديث التمسك بالسنّة ، الذي يعتبر العمدة الأساسية في قيام كيان أهل السنة والجماعة ، وباهتزاز هذا الأساس يهتز كل الكيان ، وهذا ما يفسر حرص علمائهم على كتم رواية كتاب الله وعترتي» وترويج حديث کتاب الله وسنتي حتى انطلى على أذهان العامة إلى درجة أنني حينما أذك-ر ح-ديث العترة لأي جماعة كانت ، ترتسم الدهشة على وجوههم .

ولذلك أحببت - حتى تكتمل الحجة - أن أثبت حديث العترة في هذا الفصل من

كتب أهل السنّة بجميع طرقه وإليك التفصيل:

أولاً : سند الحديث

عدد الرواة من الصحابة

لقد تواتر هذا الحديث عن مجموعة من الصحابة إليك بعض أسمائهم :

(1) زيد بن أرقم (2) أبو سعيد الخدري

(3) جابر بن عبدالله (4) حذيفة بن أسيد

(5) خُزيمة بن ثابت (6) زید بن ثابت

(7) سهيل بن سعد (8) ضميرة الأسدي

(9) عامر بن أبي ليلى الغفاري) (10) عبدالرحمن بن عوف

(11) عبدالله بن عباس (12) عبدالله بن عمر

ص: 67

(13) عُدي بن حاتم (14) عقبة بن عامر

(15) علي بن أبي طالب (16) أبو ذر الغفاري

(17) أبو رافع (18) أبو شريح الخزاعي

(19) أبو قدامة الأنصاري (20) أبو هريرة

(21) أبو الهيثم بن التيهان (22) أم سلمة

(23) أم هانىء بنت أبي طالب (24) ورجال من قريش

عدد الرواة من التابعين

وقد تواتر هذا النقل أيضاً في عهد التابعين ، وإليك بعض من نقل منهم حديث كتاب

الله وعترتي :

(1) أبو الطفيل عامر بن واثلة (2) عطية بن سعيد العوفي

(3) حُنش بن المعتمر (4) الحارث الهمداني

(5) حُبيب بن أبي ثابت (6) علي بن ربيعة

(7) القاسم بن حسان (8) حصين بن سبرة

(9) عمرو بن مسلم (10) أبو الضحى مسلم بن صبيح

(11) يحيى بن جعدة (12) الأصبغ بن نباتة

(13) عبدالله بن أبي رافع (14) المطلب بن عبدالله بن حنطب

(15) عبدالرحمن بن أبي سعيد (16) عمر بن علي بن أبي طالب

(17) فاطمة بنت على بن أبي طالب (18) الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب

ص: 68

(19) زين العابدين علي بن الحسين ... وغيرهم

عدد الرواة خلال القرون

أما من رواه من بعد الصحابة والتابعين من أعلام الأمة ، وحفاظ الحديث ومشاهير الأئمة عبر القرون فجماعة لا يسمح لنا المقام ذكر أسمائهم ورواياتهم . وقد أحصاها عدد من البحاثة والعلماء ، وللتفصيل ارجع إلى كتاب عبقات الأنوار الجزء الأول

والثاني .

واكتفي بذكر عددهم في كل طبقة زمنية من القرن الثاني إلى القرن الرابع عشر :

القرن الثاني عدد الرواة 36

القرن الثالث عدد الرواة 69

القرن الرابع عدد الرواة 38

القرن الخامس عدد الرواة 21

القرن السادس عدد الرواة 27

القرن السابع عدد الرواة 21

القرن الثامن عدد الرواة 24

القرن التاسع عدد الرواة 13

القرن العاشر عدد الرواة 20

القرن الحادي عشر عدد الرواة 11

القرن الثاني عشر عدد الرواة 18

القرن الثالث عشر عدد الرواة 12

القرن الرابع عشر عدد الرواة 13

ص: 69

فيكون مجموع رواة الحديث من القرن الثالث إلى القرن الرابع عشر 323 فتأمل .

حديث الكتاب والعترة في كتب الحديث

أما عن الكتب التي روت الحديث فهي كثيرة نذكر منها :

1 - صحيح مسلم : ج 4 ص 1874 ح 37 دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان روى مسلم في صحيحه حدثنا محمد بن بكار بن التريان حدثنا حسان (يعني ابن ابراهيم عن سعيد وهو ابن مسروق) عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم قال : دخلنا عليه فقلنا له : لقد رأيت خيراً لقد صحبت رسول الله( صلی الله علیه وآله وسلم) وصليت خلفه ، لقد لاقيت يا زيد خيراً كثيراً ، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله( صلی الله علیه وآله وسلم) ، قال : يا ابن أخي والله لقد كبُرت سني وقدم عهدي ونسيتُ بعض الذي كنتُ أعي من رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم) فما حدثتكم فاقبلوا وما لا فلا تكلفونيه ، ثم قال :

قام رسول الله( صلی الله علیه وآله وسلم )يوماً فينا خطيباً بماء يُدعى خماً بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال : أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب . وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله عزوجل وهو حبل الله ، من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة . ثم قال : وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، فقلنا مَنْ أهل بيته نساؤه ؟ قال : وأيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها ، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده» .

وروى مسلم أيضاً:

(عن زهير بن حرب وشجاع بن مخلد جميعاً عن ابن عُليَّة قال زهير حدثنا إسماعيل

ابن إبراهيم، حدثني أبو حيان ، حدثني يزيد بن حيان ، قال : انطلقت..ثم ذكرالحديث) .

ص: 70

ورواه مسلم عن (أبوبكر بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن فضيل وحدثنا اسحاق بن

إبراهيم أخبرنا جرير كلاهما كلاهما عن أبي حيان ... ثم ذكر الحديث).

وروايات مسلم كلها ترجع إلى أبي حيان بن سعيد التميمي ، وقد قال فيه الذهبي :

(يحيى بن سعيد بن حيان أبو حيان التميمي . كان الثوري يعظمه ويوثقه ، قال أحمد

بن عبد الله العجلي : ثقة ، صالح ، مبرز صاحب سُنة) (1)

وقال الذهبي أيضاً في العبر ج 1 ص 205 ( وفيها يحيى بن سعيد التميمي ، مولى ت-ي-م الرباب الكوفي ، وكان ثقة إماماً صاحب سُنّة روى عنه الشعبي ونحوه) .

وقال اليافعي : (وفيها يحيى بن سعيد التميمي الكوفي ، وكان ثقة إماماً صاحب سنة) (2)

وقال العسقلاني : (أبو حيان التميمي الكوفي ثقةً عابد من السادسة مات سنة خمس

وأربعين)(3).

.. وغيرهم من علماء الجرح والتعديل.

كما لا يخفى أن كون الحديث مروياً في صحيح مسلم حاكم على صحته ، لإجماع

المسلمين على تصحيح كل روايته .

ولقد صرح مسلم نفسه بأن جميع ما في صحيحه مجمع على صحته فضلا عن كونه

صحيحاً عنده كما قال الحافظ السيوطي . قال مسلم : ليس كل شيء صحيح عندي

ص: 71


1- تهذيب التهذيب ج 11 / 214 - 215
2- مرآة الجنان ج 1 ص 301
3- تقريب التهذيب ج 2 ص 348

وضعته هنا وإنما وضعت ما أجمع عليه) كما في تدريب الراوي (1) .

وقال النووي في ترجمة مسلم : وصنف مسلم في علم الحديث كتباً كثيرة منها هذا

الكتاب الصحيح الذي مَنَّ الله الكريم - وله الحمد والنعمة والفضل والم-ن --- ب-ه عل-ى المسلمين)(2)...

وغيره... يسع المقام لإيرادهم ولبداهة المدعى .

2 - رواية الحديث عند الإمام الحافظ أبي عبدالله الحاكم النيسابوري في مستدركه

على البخاري ومسلم ج 3 ص 109 كتاب معرفة الصحابة - دار المعرفة --- بيروت -

لبنان .

- روى الحديث (أبو عوانة) عن الأعمش ، ثنا حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي الطفيل ، عن زيد بن أرقم قال : لما رجع رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقممن فقال : كأني قد دعيت فأجبستُ ، إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله وعترتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ، ثم قال : إن الله عز وجل مولاي وأنا مولى كل مؤمن ثم أخذ بيد علي فقال : من كنت مولاه فهذا وليه »فالرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) يؤكد إذا أن أول أهل البيت ورأسهم الذي أوجب اتباعه هو علي علیه السلام.

كما رواه عن حسان بن ابراهيم الكرماني ، ثنا محمد بن سلمى بن كهيل ، عن أبيه ، عن أبي الطفيل ، عن ابن وائلة ، أنه سمع زيد بن أرقم يقول ... وساق الحديث على

ص: 72


1- تدريب الراوي : ج 1 ص 80
2- تهذيب الأسماء واللغات ج 2 ص 91 ، شرح النووي

نحو ما سبق إلا أنه زاد (ثم قال : تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم ثلاث مرات،

قالوا : نعم ، قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ).

- وأيضاً رواه الحاكم بطريقين آخرين ، والمراعاة عدم التطويل اكتفينا بإثب-ات طريقين .

ومما يدل على صحة الحديث وتواتره أن الحاكم أخرجه وحكم بصحته على شرط

البخاري ومسلم .

3- رواية الحديث عند أحمد بن حنبل : ج 3 من مسنده ص 17 -- 26 --- 14 --

59 - دار الفكر بيروت ، لبنان .

«(حدثنا ) عبدالله ، حدثني أبي ، ثنا أبو النظر ، ثنا محمد يعني ابن أبي طلحة ، عن الأعمش عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي الله( صلی الله علیه وآله وسلم ) قال : إني أوشك أن أدعى فأجيب وإني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله عز وجل وعترتي . كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ، فانظروا بما تخلفوني فيهما».

ورواه أيضاً (حدثنا عبد الله ، حدثني أبي ، ثنا بن نمير ، ثنا عبدالملك يعني ابن أبي ، سلیمان عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم) : إني ق--د تركتُ فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله عز وجل حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي، ألا إنهما لن يفترقا حتى يرداعلى الحوض) ورواه بطرق متعددة غير التي سبقت.

4 - رواية الحديث عن الترمذي ج 5 ص 663 - 662 - دار إحياء التراث العربي . -وحدثنا علي بن المنذر الكوفي ، حدثنا محمد بن فضيل ، قال : حدثنا الأعمش ، عن

عطية ، وعن أبي أبي سعيد والأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن زيد بن أرقم

قالا : قال رسول الله : إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ،وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا على الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما».

ص: 73

-(حدثنا نصر بن عبدالرحمن الكوفي ، حدثنا زيد بن الحسن وهو الأنماطي ، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبدالله قال : رأيت رسول الله( صلی الله علیه وآله وسلم) )في حجته يوم عرفة وهو على ناقته يخطب ، فسمعته يقول : يا أيها الناس : إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي) .

5 - كما أورد هذا الحديث العلامة علاء الدين على المتقي بن حسام الدين الهندي

المتوفى سنة 975 في (كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال الجزء الأول الباب الثاني . في الاعتصام بالكتاب والسنة ص 172 طبعة مؤسسة الرسالة - بيروت الطبعة الخامسة سنة 1985 - وهو الحديث رقم 870 و 871 و 872 و 873) .

ولو استرسلنا في هذا الباب لإيراد الكتب التي روته لطال بنا المجال واحتاج كتاباً لوحده . وسوف نذكر هنا مجموعة من الحفاظ والعلماء الذين أوردوه كنموذج لا للحصر . وللتفصيل راجع كتاب إحقاق الحق لأسد الله التستري ج 9 ص 311 ، ومنهم :

1) الحافظ الطبراني المتوفى سنة 360 في (المعجم الصغير).

2 )العلامة محب الدين الطبري (في ذخائر العقبى).

3) العلامة الشيخ إبراهيم بن محمد بن أبي بكر الحمويني في (فرائد السمطين) .

4) ومنه ابن سعد في طبقاته الكبرى .

5) الحافظ نور الدين الهيثمي في (مجمع الزوائد).

6) الحافظ السيوطي في (إحياء الميت ).

7) الحافظ العسقلاني في (المواهب اللدنية) .

8) العلامة النبهاني في (الأنوار المحمدية) .

9) العلامة الدارمي في سننه.

10) الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي في (السنن الكبرى) .

11) العلامة البغوي في( مصابيح السنة) .

12) الحافظ أبو الفداء بن كثير الدمشقي في (تفسير القرآن) .

(13) وفي جامع الأصول لابن الأثير .

ص: 74

(14) المحدث الشهير أحمد بن حجر الهيثمي المكي المتوفى سنة 914 هجرية في كتابه الصواعق المحرقة(1) في الرد على أهل البدع والزندقة الطبعة الثانية سنة 1965 مكتب-ة القاهرة - شركة الطباعة الفنية المتحدة.

وقال بعد إيراد حديث الثقلين : (ثم اعلم أن لحديث التمسك بذلك طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابياً وله طرق مبسوطة في حادي عشر الشبهة ، وفي بعض تلك الطرق أنه قال ذلك بحجة الوداع بعرفة ، وفي أخرى أنه قاله بالمدينة في مرضه . وقد امتلأت الهجرة (الحجرة) بأصحابه ، وفي أخرى : أنه قال ذلك بغدير خم ، وفي أخرى : أنه قاله لما قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف كما مر ، ولا تنافي ، إذ لا مانع من أنه كرر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها اهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة.

وفي رواية عن الطبراني(2) عن ابن عمر : آخر ما تكلم به النبي (صلی الله علیه وآله وسلم ): أخلف--وني في أهل بيتي . وفي أخرى عند الطبراني وأبي الشيخ : أن الله عزوجل ثلاث حرمات فمن حفظهن حفظ الله دينه ودنياه ومن لم يحفظهن لم يحفظ الله دنياه ولا آخرته . قلت : ما هن ؟ قال : حرمة الإسلام وحرمتي وحرمة رحمي . وفي رواية للبخاري (3) عن الصديق من قوله : يا أيها الناس أرغب محمد(صلی الله علیه وآله وسلم )في أهل أهل بيته ؟ أي احفظوه فيهم فلا تؤذوهم .

(وأخرج) ابن سعد والملا في سيرته أنه (صلی الله علیه وآله وسلم 9قال : أستوصي بأهل بيتي خيراً فإني أخاصمكم عنهم غداً ، ومن أكن خصمه أخصمه ، ومن أخصمه دخل

ص: 75


1- الصواعق المحرقة : 150
2- المعجم الأوسط : ج 4 ص 512 - 513 ح 3872
3- صحيح البخاري : ج 5 ص 26 وص 332 - بلفظ : «ارقبوا محمداً( صلی الله علیه وآله وسلم) في أهل بيته ، فتح 5 الباري : ج 7 ص 63 - 64

النار(1) ، وأنه قال : من حفظني في أهل بيتي فقد اتخذ عند الله عهداً (2) .

(وأخرج) (3) الأول : أنا وأهل بيتي شجرة في الجنة وأغصانها في الدنيا ، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً ، والثاني حديث : في كل خلف في أمتي عدول من أهل بيتي ينفون هذا الدين تحريف الضالين وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، ألا إن أئمتكم وفدكم إلى الله عز وجل فانظروا من توفدون ...(4) ثم قال : سمى رسول الله( صلی الله علیه وآله وسلم )القرآن وعترته - وهي بالمثناة الفوقية الأهل والنسل والرهط الأدنون - ثقلين ، لأن الثقل كل نفيس خطير مصون وهذان كذلك ، إذ كل منهما معدن للعلوم اللدنية والأسرار والحكم العليا والأحكام الشرعية ، ولذا حث رسول الله (صل الله صلی الله علیه وآله وسلم )على الاقتداء والتمسك بهم والتعلم منهم ، وقال : الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت . وقيل : سُمِّيا ثقلين لثقل وجوب رعاية حقوقهما ، ثم الذين وقع الحثّ عليهم منهم إنما هم العارفون بكتاب الله وسنة رسوله ، إذ هم الذين لا يفارقون الكتاب إلى الحوض ويؤيدهم الخبر السابق ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم ، وتميزوا بذلك عن بقية العلماء ، لأن الله أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً .

فهل راعيت يا ابن حجر كل هذا فحفظت رسول الله (صل الله صلی الله علیه وآله وسلم) في أهل بيته وواليتهم وانقطعت في أخذ الدين عنهم ؟!

أم تقولون بأفواهكم ما ليس في قلوبكم ؟! « «كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا

ص: 76


1- سيرة الملا (الوسيلة) : ج ه ق 2 ص 200
2- سيرة الملا (الوسيلة) : ج ه ق 2 ص 204
3- سيرة الملا (الوسيلة) : ج ه ق 2 ص 199
4- سيرة الملا (الوسيلة) : ج ه ق 2 ص 200

تفْعَلُونَ »(1).

و صدق الإمام جعفر الصادق (علیه السلام )عندما قال : يدعون حبنا ويتبعون عقوقنا» فابن حجر وأمثاله يدعي حُبَّ أهل البيت ويوالي ويأخذ دينه ممن ظلم أهل البيت ،

فهذا ابن حجر نفسه عندما يثبت فضائل أهل البيت ويعترف بلزوم التمسك بهم يشن

هجومه على الشيعة في صواعقه ويصنفهم من الفرق الضالة ، وينهال عليهم بأبشع التهم وأقبح السب .

فما ذنبهم يا ابن حجر؟!

هل لأنهم والوا أهل البيت ، وتمسكوا بأخذ الدين منهم ؟!

ص: 77


1- غافر : 35

شبهات على حديث الثقلين

(1) قدح ابن الجوزي في كتابه العلل المتناهية في الأحاديث الواهية) (1) بعدما ذكر حديث : التمسك بالثقلين (كتاب الله وعترتي) ، قال : «هذا حديث لا يصح ، أما عطية فقد ضعفه أحمد ويحيي وغيرهما ، وأما ابن عبدالقدوس فقال يحيى : ليس بشيء رافضي خبيث ، وأما عبدالله بن داهر فقال أحمد ويحيي : ليس بشيء ، ما يكتب من إنسان فيه خير».

دفع الشبهة

1) لم يقتصر حديث الثقلين على هذا السند ، فقد روي بأسانيد متعددة كما مر.

2) لقد رواه مسلم في صحيحه ، بطرق كثيرة ، ولا يخفى أن رواية مسلم ل-ه ول-و بطريق واحد كاف لإثبات صحته ، وهذا ما لا خلاف فيه بين المسلمين السنة .

3) كما رواه الترمذي في صحيحه بطرق متعددة . عن جابر ، وزيد بن أرقم ، وأبي ذر ، وأبي سعيد وحذيفة.

4 )كلام ابن الجوزي نفسه في كتابه الموضوعات ج 1 ص 99 ما نصه :

« فمتى رأيت حديثاً خارجاً عن دواوين الإسلام (الموطأ ومسند أحمد والصحيحين وسنن أبي داود والترمذي ونحوها) فانظر فيه فإن كان له نظير في الصحاح والحسان فرتب

(قرب) أمره ...» وهو بهذا يناقض نفسه حيث رُوي هذا الحديث في ما سماه بدواوين الإسلام ، كما مر عليك !

5) إن كلام ابن الجوزي في عطية مردود بتوثيق ابن سعد له ، فقد قال ابن حجر

ص: 78


1- العلل المتناهية 1 / 269

العسقلاني : قال ابن سعد : خرج عطية مع ابن الأشعث ، فكتب الحجاج إلى محمد بن

: القاسم أن يعرضه على سبّ علي ، فإن لم يفعل فاضربه أربعمائة سوط واحلق لحيته فاستدعاه ، فأبى أن يسب فأمضى حكم الحجاج فيه ، ثم خرج إلى خراسان فلم يزل بها حتى ولي عمر بن هبيرة العراق فقدمها فلم يزل بها إلى أن توفي سنة مائة وعشرة ، وكان ثقة إن شاء الله تعالى ، وله أحاديث صالحة» (1)

مع العلم بأن ابن سعد من النواصب الذين يناصبون أهل البيت العداء إلى حد ضعف

الإمام جعفر بن محمد الصادق ، فتوثيقه لعطية كاف للخصم.

6) إن عطية من رجال أحمد بن حنبل ، وأحمد لا يروي إلا عن الثقة كما هو معلوم ، فروى عنه أحمد روايات كثيرة متعددة ، فنسبة تضعيف عطية لأحمد كذب ظاهر ، فقد قال التقي السبكي : «وأحمد رحمه الله لم يكن يروي إلا عن ثقة ، وقد صرح الخصم يعني ابن تيمية بذلك في الكتاب الذي صنّفه في رد البكري بعد عشرة كراريس منه - قال : إن القائلين بالجرح والتعديل من علماء الحديث نوعان : منهم من لم يرو إلا عن ثقة عنده كمالك .. وأحمد بن حنبل .. وقد كفانا الخصم بهذا الكلام مؤونة تبيين أن أحمد لا يروي إلا عن ثقة وحينئذ لا يبقى له مطعن فيه » (2)

7) توثيق سبط ابن الجوزي له : فقد صرح بوثاقة عطية ورد تضعيفه حيث قال بعد أن أورد قول النبي الله العلي الالام : لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك : «فإن قيل فعطية ضعيف قالوا : والدليل على ضعف الحديث أن الترمذي قال : وحدثت بهذا الحديث أو سمع مني هذا الحديث محمد بن إسماعيل - يعني البخاري

فاستطرفه.

ص: 79


1- تهذيب التهذيب ج 7 ص 226
2- شفاء الأسقام ج 10 ص 11

والجواب : إن عطية العوفي قد روى عن ابن عباس والصحابة وكان ثقة ، وأما قول

الترمذي عن البخاري فإنما استطرفه لقوله( صلی الله علیه وآله وسلم). لا أحله إلا لطاهر لا حائض ولا جنب». وعن الشافعي : يُباح للجنب العبور في المسجد ، وعند أبي حنيفة : لا يباح حتى يغتسل للنص ، ويُحمل حديث علي على أنه كان مخصوصاً بذلك كما كان رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) مخصوصاً بأشياء» (1) .

(8 نسبة ابن الجوزي تضعيف عطية إلى يحيى بن معين مردود بنقل الدوري عن ابن معين بأنه صالح - فقد قال الحافظ ابن حجر بترجمة عطية ما نصه : «قال الدوري عن ابن معين : صالح»(2) . فسقط ما نسبه ابن الجوزي إلى يحيى بن معين ، فتأمل .

وما يدل على جهل ابن الجوزي بحديث الثقلين ، ظنه أنه بمجرد تضعيف عطية يُضعف حديث الثقلين ، مع العلم أن توثيق عطية أو تضعيفه لا يقدح في حديث الثقلين ، لأن حديث عطية الذي رواه عن أبي سعيد قد رواه أيضاً عن أبي سعيد أبو الطفيل وهو يُعد من طبقة الصحابة ، ولو تجاوزنا ذلك فإن صحة حديث الثقلين غير موقوفة على رواية أبي سعيد سواء كانت عن طريق عطية أو أبي الطفيل، فلو سلّمنا جدلاً بضعف رواية أبي سعيد بكل طرقها فلا يضر ذلك بالحديث شيئاً لتعدد روايات-ه وطرق.ه

الرد على ابن الجوزي في تضعيفه لابن عبد القدوس

(1) وأما قدحه في عبدالله بن عبد القدوس ، فهو مردود بتوثيق الحافظ محمد بن

عیسی إياه ، قال الحافظ المقدسي بترجمة - عبدالله المذكور-:

ص: 80


1- خلاصة عبقات الأنوار ج 1 ص 339
2- تهذيب التهذيب ج 7 ص 225

«وحكى ابن عُدي عن محمد بن عيسى أنه قال : هو ثقة »(1).

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني : وحكى عن محمد بن عيسى انه قال : هو ثقة»(2).

ومحمد بن عيسى هو كما ذكره الحافظ الذهبي في ترجمته ، قال أبو حاتم : ثقة مأمون ، ما رأيتُ من المحدثين أحفظ للأبواب منه ، وقال أبو داود : ثقة.

(2 أورده محمد بن حبان في الثقات ، وقال ابن حجر بترجمته : «ذكره ابن حبان في

الثقات» (3).

3) نقل الهيثمي في (مجمع الزوائد) قال : « وثقه البخاري وابن حبّان» .

4) قال العسقلاني بترجمته : قال البخاري : هو في الأصل صدوق إلا أنه يروي من

أقوال ضعاف» (4) .

فإشكال البخاري على ابن عبدالقدوس بعد أن وثقه بأنه يروي عن الضعاف لا يتوجه في هذا الحديث ، لأن ابن عبدالقدوس روى حديث الثقلين الذي أورده ابن الجوزي عن الأعمش وهو ثقة.

5) عبدالله بن عبدالقدوس هو من رجال البخاري في صحيحه في التعليقات كما في

تهذيب التهذيب ج 5 ص 303 وتقريب التهذيب ج 1 ص 430 ، وتخريج البخاري له ولو كان في التعليقات دليل على توثيقه.

قال ابن حجر العسقلاني في مقدمة (فتح الباري في شرح صحيح البخاري) في مقام

ص: 81


1- خلاصة عبقات الأنوار ج 1 ص 341 نقلاً عن تهذيب الكمال في أسماء الرجال ج 15 ص 243
2- تهذيب التهذيب ج 5 ص 303
3- نفس المصدر السابق
4- نفس المصدر السابق

الجواب عن الطعن في رجال البخاري : وقبل الخوض فيه ينبغي لكل منصف أن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح - يعني البخاري - لأي رأو كان ، مقتض لعدالت-ه عن-ده وصحة ضبطه وعدم غفلته ، ولا سيما ما انضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين ، وهذا معنى لم يحصل لغير من خرّج عنه في الصحيحين» .

6 )عبدالله بن عبدالقدوس من رجال الترمذي .

7) كما أن القدح في عبدالله بن عبدالقدوس لا يضر في صحة الحديث .

حتى برواية الأعمش عن عطية عن أبي سعيد لعدم تفرد عبدالله أبي سعيد لعدم تفرد عبدالله بن عبدالقدوس بروايته عن الأعمش ، فلقد رواه عن الأعمش : محمد بن طلحة بن المصرف اليامي ومحمد بن فضيل بن غزوان الضبي في المسند والترمذي كما مر عليك ، وهذا دليل على صدق الرواية ، كما أن الأعمش لم يتفرد بروايته عن عطية ، فقد رواه الأعمش عن عبدالملك بن أبي سليمان ميسرى العزرمي وأبي إسرائيل إسماعيل بن خليفة العبسي كما في مسند أحمد كما مر عليك ، وعن هارون بن سعد العجلي ، وكثير بن إسماعيل التيمي كما في معجم الطبراني .

اما تضعيفه المجمل لعبد الله بن داهر

1) هذا خلاف أصول وقواعد الجرح والتعديل لأن الطعن المبهم ، لا يقبل من أي

كائن كان .

2) لم يكن هناك سبب وجيه للطعن فيه ، سوى روايته فضائل أمير المؤمنين كما قال الذهبي : : «قال ابن عدي : عامة ما يرويه في فضائل علي ، وهو متهم في ذلك»(1). وتضعيفه لهذا السبب غير مقبول .

ص: 82


1- ميزان الاعتدال ج 2 ص 417

3) ومن العجيب والقبيح في حق ابن الجوزي أن يكيد إلى هذا الحد لتضعيف الحديث ، بإيراد عبدالله بن داهر في سند الحديث مع العلم أنه لم يقع في سند من أسانيد هذا الحديث من الأساس ! فراجع الروايات السابقة والتي لم نذكرها فهل تجد في سندها

عبدالله بن داهر ؟! ، ولا أجد لهذا المعنى غير النصب والعداء لأهل البيت وطمس حقهم ، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ... فتأمل.

4) لقد ذكر سبط ابن الجوزي بعد إيراد حديث الثقلين من مسند أحمد بن حنبل قال :

«فإن قيل فقد قال جدك في كتاب (الواهية) - وأورد كلام ابن الجوزي في تضعيف الحديث كما تقدم - قلت : الحديث الذي رويناه أخرجه أحمد في الفضائل ، وليس في إسناده أحد ممن ضعفه جدي ، وقد أخرجه أبو داود في سننه والترمذي أيضاً وعامة

المحدثين ، وذكره رزين في الجمع بين الصحاح . والعجب كيف خفي عن جدي ما روى مسلم في صحيحه من حديث زيد بن أرقم ..» (1) . وما قاله سبط ابن الجوزي م-ا ه-و إلا تبريرات لابن الجوزي ، وإلا فإنه لا يغفل عن هذا الحديث المشهود في مصادر لمسلمين مع ما هو عليه من كثرة النظر والاطلاع ، ولكنه أراد أن يخدع ويمكر فمكر الله به وفضح أمره .

ص: 83


1- تذكرة خواص الأمة : 322

ص: 84

إشكال ابن تيمية

أما إشكال ابن تيمية على حديث الثقلين في كتابه منهاج السنة ، فهو أسخف من أن يناقش ، ولكن نذكره على سبيل التعريض بتلك الأفكار الفارغة ، التي لا تعبر إلا عن سوء فهم وخلط وكثرة ،وهم ، فعندما عجز ابن تيمية عن تضعيف حديث الثقلين من جهة السند كعادته في تضعيف كل ما يرد في فضل أهل البيت . عمد إلى أسلوب آخر لم نره في غيره، وهو قوله : إن هذا الحديث لا يدل على وجوب التمسك بأهل البيت وإنما يدل على وجوب التمسك بالقرآن فقط.

أيُّ عاقل يا تُرى يستفيد من هذا النص الصريح هذا المعنى وهذا الفهم ؟! وظاهر الحديث يجزم ويؤكد على لزوم التمسك بهما - الكتاب والعترة -- وإلا أي معنى للثقلين ؟! إني تارك فيكم الثقلين) ، وأي معنى لقوله (صلی الله علیه وآله وسلم ) : (ما إن تمسكتم بهما ) ؟! ولكن التعصب يعمي القلوب . واستدل - أي ابن تيمية - على ذلك بحديث واحد في صحيح مسلم عن جابر ، وضرب ببقية الأحاديث عرض الحائط أو تغافل عنها مع كثرة روايتها وتعدد طرقها ، وهو حديث يظهر للمتأمل بأنه مبتور بالمقارنة مع بقية الأحاديث الواردة في نفس هذا الباب ، وهو حديث تركت فيكم ما لن تضلوا بعده ، إن اعتصمتم به کتاب الله ...».

وهذا الحديث ظاهر البتر والتحريف ، لأن حديث جابر نفسه جاء في رواية الترمذي وفيه الأمر الواضح بوجوب التمسك بأهل البيت ، ونص الحديث كما تقدم في رواية الترمذي : أيها الناس ، إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي

أهل بيتي» (1).

-كما أن هذا الإشكال نفسه يتوجه إلى ابن تيمية أيضاً ، لأنه يقول بوجوب التمسك بالكتاب والسنة . ومن الضروري أن يكون الأمر الصادر من الرسول صلی الله علیه وآله وسلم

ص: 85


1- سنن الترمذي 5 / 662 ح 3786

واحد . إما لزوم التمسك بالكتاب فقط ، وإما بالكتاب والسنة . وعندما اختار ابن تيمية وجوب التمسك بالقرآن فقط يسقط في المقابل وجوب التمسك بالسنة ، وهذاخلاف ما يذهب إليه ابن تيمية كما هو واضح مذهبه - أهل السنة - كما أنه سمى كتابه الذي ذكر فيه هذا الحديث ( منهاج السنة) ولم يسمه منهاج القرآن !

وإذا كان في اعتقاده أن هذا الحديث الذي ذكره لا يلغي حديث التمسك بالكتاب

والسنة فهو أيضاً لا يلغي وجوب التمسك بالكتاب والعترة .

ولم يقف ابن تيمية عند هذا الحد ، فقال في «... و عترتي فإنهما لم يفترقا حتى يردا على الحوض ] : فهذا رواه الترمذي ، وقد سئل عنه أحمد ، وضعفه غير واحد من أهل العلم وقالوا : إنه لا يصح إنه لا يصح » . والجواب :

تشعر من قوله : أن هذا النص من الحديث لم يروه إلا الترمذي ، وقد علمت كما سبق

أنه قد رواه غير واحد من أعلام السنة وحفاظهم .

فماذا يقصد من قوله : رواه الترمذي ؟!

هل رواية الترمذي دلالة على ضعفه ؟!

ومن الذي سأل أحمد ؟! وماذا قال له ؟!

وفي أي مكان هذا القول ؟!

أولم يروه يروه أحمد - نفسه - ووثقه ؟!

ومن الذي ضعفهُ حتى يقول : غير واحد ؟! ولماذا لم يذكرهم ؟!

وغيرها من الأسئلة التي توجه على ابن تيمية ، فإذا أجاب عليها بكلام محكم نقبل

إشكاله ولا يمكن أن نقبله على عواهنه وهو مجمل .

ولكن هذه عادة ابن تيمية إذا شمر ساعد الجد على تضليل الأمة وستر الحق . هذه أوجه الشبهات التي وردت في هذا الباب ، ولم أرَ حسب تتبع-ي م-ن يطعن في حديث الثقلين الذي ثبت بالتواتر واعترف بصحته أعلام الأمة من الحفاظ والمحدثين ، فلا يجرؤ على طعنه إلا ذو قلب مريض امتلأ بغضاً وغيظاً على أهل البيت - والعياذ بالله -. وبعد أن ثبت لنا جلياً صحة هذا الحديث يجب علينا كشف دلالته ومن ثم الالتزام بها.

ص: 86

دلالة الحديث

على إمامة أهل البيت

دلالة الحديث على إمامة أهل البيت من أوضح الأمور وأظهرها - عند كل مُنصف- لأنه يفيد وجوب اتباعهم في المعتقدات والأحكام والآراء وعدم مخالفتهم بقول أو فعل ، لأن أي عمل يخرج عن إطارهم يُعتبر خارجاً عن القرآن وبالتالي خارجاً عن الدين، وهم بذلك مقياس دقيق يُعرف به الطريق المستقيم والصراط السوي ، حيث لا يكون

الهدى إلا عن طريقهم ولا يكون الضلال إلا بمخالفتهم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا لأن التمسك بالقرآن يعني العمل بما فيه ، وهو الائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه فكذلك يكون التمسك بالعترة ، لأنه لا يقوم جواب شرط إلا بقيام المشروط ، كما أن الضمير في (بهما) يرجع إلى الكتاب والعترة ، ولا أظن أن عربياً أعطي قليلاً من الفهم في اللغة يخالف في ذلك ، وبذلك يكون اتباع أهل البيت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرضاً كما أن اتباع القرآن فرض ، بعيداً عمّن هم أهل البيت ، لأن هذا بحث متأخر ، والمهم هنا إثبات أن الأمر والنهي والاتباع والاقتداء لأهل البيت ، وتحديد هويتهم خارج عن اطار هذا الحديث ، كما يقول علماء الأصول إن القضية لا تثبت موضوعها فيكون بالضرورة أن أهل البيت هم الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : «إني تارك فيكم» نص صريح بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلفهم ووصى الأمة باتباعهم ، وأكد ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم«فانظروا كيف تخلفوني فيهما».

فخلافة القرآن واضحة ، وخلافة أهل البيت لا تكون إلا بإمامتهم .

وبذلك ، يكون كتاب الله وعترة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم السبب الموصل إلى رضوان الله ،

ص: 87

لأنهم حبل الله الذي أمرنا الله بالاعتصام به«وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ »(1).

والآية هنا عامة في تعيين وتحديد حبل الله ، وكل ما يتبين منها هو وج-وب التمسك به . فأتت السنة بحديث الثقلين وأحاديث أخرى ، تبين أن الحبل الذي يجب أن نتمسك به هو كتاب الله مع عترة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم .

وقد قال بذلك مجموعة من المفسرين : فقد أوردها ابن حجر في كتابه الصواعق

(2) في باب ما أنزل في أهل البيت من القرآن .. فراجع .

وذكرها القندوزي في كتابه - ينابيع المودة - قال : «في قوله تعالى : «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ...» أخرج الثعلبي عن أبان بن تغلب عن جعفر الصادق علیه السلام.

قال : نحن حبل الله الذي قال الله عزوجل :«وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا» وأيضاً أخرج صاحب كتاب المناقب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عنهما قال : كُنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذ جاء أعرابي فقال : يا رسول الله سمعتك تقول : واعتصموا بحبل الله ، فما حبل الله الذي نعتصم به ؟ فضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده في يد على وقال : «تمسكوا بهذا هو حبل الله المتين»(3).

وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم :«لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» فهو دال على عدة وجوه :

أولها : إثبات العصمة لهم ، لأن اقترانهم بالكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه

ص: 88


1- آل عمران - 103
2- الصواعق المحرقة : 151
3- ينابيع المودة ج 1 / 356 ح 10 و ج 2 ص 368 ح 51 وص 440 ح 213

ولا من خلفه ، دال على علمهم بما في الكتاب وأنهم لا يخالفونه قولاً ولا فعلاً، ومن

البديهي أن صدور أي مخالفة منهم للكتاب سواء كانت عن عمد أو سهو حاكمة

بافتراقهم عن القرآن ، والحديث صريح في عدم افتراقهما حتى يردا الحوض ، وإلا يكون تكذيباً لرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ، كما أن هذا الفهم تؤيده . كما أن هذا الفهم تؤيده أدلة من القرآن والسنة- نؤجل البحث فيها إلى مكان آخر - .

ثانياً : إن مفاد «لن» التأبيدية تفيد أن التمسك بهما مانع من الضلالة دائماً وأبداً ، ولا يتم ذلك إلا بالتمسك بهما معاً ، لا بواحد منهما كما تقدم، وقول الرسول صل الله علیه وآله وسلم في رواية الطبراني : فلا تقدموهم فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا ، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم» تؤكد هذا المعنى.

ثالثاً : بقاء العترة إلى جانب الكتاب إلى يوم القيامة ، فلا يخلو منهما زمان ، وقد قرَّب هذا المعنى ابن حجر في صواعقه وفي أحاديث الحث على التمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة ، كما أن الكتاب العزيزكذلك ، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض كما سيأتي ، ويشهد لذلك الخبر السابق ... في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي . ثم أحق من يتمسك به منهم إمامهم وعالمهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لما قدمناه من مزيد علمه ودقائق مستنبطاته»

(1).

رابعاً : كما أنه يدل على تميزهم وعلمهم بتفاصيل الشريعة وذلك لاقترانهم بالكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، كما قال صلی الله علیه وآله وسلم : «ولا تعلموهم فإنهم أعلمُ منكم» (2).

والخلاصة أنه لابد من وجود ولو واحد من أهل البيت في كل زمان إلى قيام الساعة

ص: 89


1- الصواعق ص 151
2- بحار الأنوار: ج 11 ص 84 وج 22 ص 465

90

لا يخالف قوله ولا فعله القرآن حتى لا يفترق عنه ، ومعنى لا يفترق قولاً وفعلاً عن

القرآن أنه معصوم لساناً وسلوكاً يجب اتباعه لأنه أمان من الضلال.

وهذا المعنى لا تقول به إلا الشيعة حيث يقولون بوجوب وجود إمام في كل زمان من أهل البيت يكون معصوماً عن الخطأ والزلل يجب موالاته ومعرفته (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) (1) ودلّ على هذا المعنى قوله تعالى : «يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ »(2).

ص: 90


1- وسائل الشيعة : ج 16 ص 246 23
2- اسراء : 71

الفصل الرابع : من هم أهل البيت علیه السلام

اشارة

* أهل البيت في آية التطهير *

* حديث الكساء تحديد هوية أهل البيت *

* أهل البيت في آية المباهلة *

ص: 91

ص: 92

من هم أهل البيت ؟

هذا البحث من أوضح البحوث ، حيث لا يتجاهل إنسان معرفة أهل البيت إلا ذلك المعاند الذي لم يجد مخرجاً من الأدلة القاطعة في وجوب اتباعهم ، فيلجأ إلى أسلوب التشكيك فيهم ، وهذا ما لاحظته بنفسي خلال مناقشاتي مع بعض الأخوة والزملاء ، فعندما لا يجد الواحد منهم مفراً من لزوم اتباع أهل البيت تجده مباشرة يوجه أسئلة مبهمة :

من هم أهل البيت ؟

وأليس أزواجه من أهله ؟! أو لم يقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سلمان منا أهل البيت ؟!

بل أو ليس أبو جهل من أهله صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً ؟!

ولا يريد من كل هذه الأسئلة إلا أن ينكر واقع حديث الثقلين ، وأنه من الأحاديث الدالة على إمامة أهل البيت ، ظناً منه أنه بهذه الأسئلة الحائرة المبهمة يستطيع أن يسكت عقله ونداء ضميره ، ولكن هيهات الحجة قائمة سواء أنكر أو لم ينكر .

فكنت أقول لبعضهم عندما يسأل هذه الأسئلة ، لماذا أنتم تريدون كل شيء جاهز من غير عناء أو بحث ؟! إن الأفكار المعلبة لا تفيد ، فبإمكاني أن أجيب وبإمكانكم أن تردوا إجاباتي وتتنكروا لها وتتنكروا عليها لأنكم لم تذوقوا مرارة البحث ولم تتحملوا عناء الإجابة عليها ، ومن ثم هل أنا الوحيد الذي يفترض

ص: 93

على أن أجيب ؟ وهل أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتمسك بأهل البيت على وجه الخصوص ؟! أما كلنا مكلفون ويجب علي وعليكم الإجابة ، لأنه قامت علينا الحجة بوجوب اتباع أهل البيت ، وأخذ الدين عنهم فيكون لزاماً معرفتهم ومن ثم الاقتداء بهم .

وأنا أيضاً في هذا المقام ، لا أوسع في الأدلة والبراهين ، إنما أكتفي ببعض الإشارات الواضحة ومن يريد الزيادة فعليه بالتوسع.

أهل البيت في آية التطهير

قال تعالى :« إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»(1).

إن نزول هذه الآية المباركة في علي وفاطمة والحسن والحسين من أوضح الأمور لمن تتبع كتب الحديث والتفسير ، يقول ابن حجر في هذا الصدد : «إن أكثر المفسرين على أنها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين» (2) . وهذه الآية لدلالتها الواضحة على عصمة أهل البيت لا تنسجم إلا معهم لما وضحناه آنفاً لأنهم ثقل هذه الأمة ، والأئمة الهادون بعد الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم( باتباعهم ، وإفادة العصمة واضحة من هذه الآية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، وذلك لاستحالة تخلف المراد إذا كان المريد هو الله

ص: 94


1- سورة الأحزاب : 33
2- الصواعق ص 143

سبحانه ، وأداة الحصر «إنما » شاهدةً على ذلك ، وما يهمنا في هذا المقام إثبات

خصوص هذه الآية وأنها نازلة في علي وفاطمة والحسن والحسين علیه السلام .

حديث الكساء تحديد هوية أهل البيت

أقرب الأدلة وأوضحها فيما جاء في تفسير هذه الآية من روايات عُرفت عند أصحاب الحديث بحديث الكساء، ولا تقل صحته وتواتره عن حديث الثقلين .

آ - روى الحاكم في كتابه (المستدرك على الصحيحين في الحديث) :

« عن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب أنه قال : لما نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرحمة هابطة قال : (ادعوا لي ، ادعوا لي) فقالت صفية : من يا رسول الله ؟! قال : أهل بيتي علي وفاطمة والحسن والحسين ، فجيء بهم فألقى عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كساءه ، ثم رفع يديه ثم قال : اللهم هؤلاء آلي «فصل على محمد وآل محمد» وأنزل الله عزوجل : «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»(1).

قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد.

ب - وروى الحاكم مثله عن أم سلمة قالت : « في بيتي نزلت - إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت - فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي وفاطمة والحسن والحسين ، فقال هؤلاء أهل بيتي» (2) . ثم قال الحاكم : هذا صحيح على

ص: 95


1- مستدرك الحاكم ج 3 ص 148
2- المصدر السابق ص 146

جس

شرط البخاري ، ورواه في موضع آخر عن وائلة وقال : صحيح على شرطيهما .

ج----- ورواه مسلم في صحيحه عن عائشة قالت : خرج رسول الله غداة عليه مرطٌ مرجل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ، ثم جاء الحسين فأدخله معه ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها ، ثم جاء عليّ فأدخله ، ثم قال :«إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»(1).

وجاء هذا الخبر في روايات متعددة في الصحاح وكتب الحديث والتفسير(2)وهو من الأخبار الصحيحة المتواترة لم يضعفه أحدٌ من الأولين والآخرين . ويطول بنا المقام إذا ذكرنا كل هذه الروايات ، فأنا أحصيتُ منها سبعاً وعشرين رواية كلها صحيحة.

ومن أوضح الروايات في هذا الباب - في تعيين أهل البيت -- دون غيرهم من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما نقله السيوطي في الدر المنثور عن ابن مردويه ، عن أم سلمة ، قالت : «نزلت هذه الآية في بيتي «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ

ص: 96


1- صحيح مسلم ، باب فضائل أهل البيت ج 4 / 1883 ح 61
2- آ - البيهقي في السنن الكبرى ، باب بيان أهل بيته والذين هم آله ج 2 / 149 وص 419 ب - تفسير الطبري ج 22 ص 5 . ج- - تفسير ابن كثير ج 3 ص 493. د - تفسير الدر المنثور ج6 ص 605 . ه-- صحيح الترمذي ، باب فضائل فاطمة ج 5 / 699 ج 5 / 699 ح 3871. و-مسند أحمد ج 6 ص 292 - 323 ... وغيرها

أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» - وفي البيت سبعة جبرائيل وميكائيل وعل-ي وفاطمة والحسن والحسين ، وأنا على باب البيت ، قلت : يا رسول الله ألستُ من أهل البيت ؟ قال : إنك على خير ، إنك من أزواج النبي »(1).

وفي رواية الحاكم في مستدركه : قالت أم سلمة : يا رسول الله ما أنا من أهل البيت ؟ قال : إنكِ إلى خير ، وهؤلاء أهل بيتي ، اللهم أهل بيتي أحق(2).

وفي رواية أحمد : فرفعتُ الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدي وقال : إنك على خير (3). وفي هذا كفاية في إثبات أن أهل البيت هم أصحاب الكساء بأوضح العبارات وأصرح الألفاظ، فيكونون بذلك ثقل القرآن الذي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الثقلين بالتمسك بهم .

ومن قال بأن العترة بمعنى القربى حتى يشوه المعنى فقوله غير مقبول ، لأن هذا لم يقل به أحد من أئمة اللغة ، فقد نقل ابن منظور في لسان العرب : «إن عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولد فاطمة رضي الله عنها هذا قول ابن سيده ، وقال الأزهري

رحمه الله - ، وفي حديث زيد بن ثابت قال : قال رسول الله .. -ويذكر حديث الثقلين - فجعل العترة أهل البيت ، وقال أبو عبيد وغيره : عترة الرجل وأسرته وفصيلته رهطه الأدنون ، ابن الأثير : عترة الرجل أخص أقاربه ، وقال ابن

ص: 97


1- الدر المنثور ج 1 ص 604
2- مستدرك الحاكم ج 2 ص 416 ، تفسير الآية من سورة الأحزاب
3- مسند أحمد ج 2 ص 292 - 323

الأعرابي : العترة ولد الرجل وذريته وعقبه من صلبه . قال : فعترة النبي صلی الله علیه وآله وسلم ولد فاطمة البتول علیها السلام (1). فيتضح من هذا المعنى أن أهل البيت ليس مطلق الأقارب وإنما هم أخص أقاربه ، ولذلك عندما سئل زيد بن أرقم في رواية مسلم قالوا : فمن أهل بيته ؟ نساؤه ؟

قال : لا وأيم الله ... إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ، ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها ... أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الص-دق-ة م-ن بعده ...

كما أن شرف الانتماء لأهل البيت لم يدَّعه أحد من أقارب رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ولا زوجاته ، وإلا لَحَدَّثنا التاريخ بذلك ، فلا يوجد في التاريخ ولا الحديث أن زوجات النبي صلی الله علیه وآله وسلم احتججن بهذه الآية وهذا الشرف بعكس أهل البيت ، فهذا أمير المؤمنين (ع ) يقول : إن الله عزوجل فضلنا أهل البيت ، وكيف لا يكون كذلك والله عزوجل يقول في كتابه :«إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» فقد طهرنا الله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، فنحن على منهاج الحق».

وقال ابنه الحسنعلیه السلام : «أيها الناس من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن عليّ ، وأنا ابن البشير النذير الداعي إلى الله بإذنه والسراج المنير ،

ص: 98


1- لسان العرب ج 4 / 538

أنا من أهل البيت الذي كان ينزل فيه جبرئيل ويصعد ، وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً» (1). . وفي موضع آخر يقول : «وأقول معشر الخلائق فاسمعوا ، ولكم أفئدة وأسماع فعوا ، إنَّا أهل بيت كرمنا الله بالإسلام ، واختارنا واصطفانا واجتبانا فأذهب عنا الرجس وطهرنا تطهيراً».

واحتجاج ابن كثير بالسياق في لزوم إدخال أزواجه صلی الله علیه وآله وسلم في هذه الآية لا مجال له ، لأن حجية الظهور متوقفة على وحدة الكلام ، ومن المعلوم أن الخطاب قد تغير من التأنيث فى الآيات السابقة لهذه الآية إلى التذكير ، فإذا كان المراد من هذه الآية نساءه يكون الخطاب - انما یرید الله لیذهب عنکن الرجس أهل البیت ویطهرکن تطهیراً - لأن الآيات خاصة بالنساء ولذلك استأنف الله قوله بعد هذه

الآية : «وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ...»(2). ولم يقل أحد أن آية التطهير نازلة في أزواج النبي (3)غير عكرمة ومقاتل ، فكان عكرمة يقول : «من شاء باهلته أنها نازلةٌ في أزواج النبي صلی الله علیه وآله وسلم . وهذا الكلام من عكرمة غير مقبول لتعارضه مع روايات صحيحة صريحة كما سبق في أن أهل البيت هم أصحاب الكساء .

وثانياً : ما هو الذي حرك عكرمة وأثار غضبه حتى ينادي في الأسواق

ص: 99


1- بحار الانوار ج 43 / 361 - 362
2- الأحزاب ، آية 34
3- الدر المنثور ج 6 ص 603

للمباهلة ؟

هل حباً في أزواج النبي أم بغضاً لأصحاب الكساء ؟! وما هو الداعي للمباهلة إذا كانت مسلّمة أنها في أزواج النبي صلی الله علیه وآله وسلم؟! أم كان الرأي العام والسائد أنها

نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين ؟! بل هو كذلك . ويدل على ذلك فحوى ، کلامه : «ليس بالذي تذهبون إليه ، إنما هو نساء النبي »(1)وهذا يعني أن الآية كانت واضحة عند بقية التابعين أنها في - علي وفاطمة والحسن والحسين -عليهم سلام الله. كما أننا لا يمكن أن نقبل عكرمة حكماً وشاهداً في هذا الأمر لما عُرف عنه من شدة العداء لأمير المؤمنين علیه السلام ، فهو من الخوارج الذين قاتلوا علياً ، فكان عليه أن يقول أنها نزلت في نساء النبي صلی الله علیه وآله وسلم ، لأنه لو أقر في نزولها في عل-ي علیه السلام يكون حكم بنفسه على مذهبه وهدم أسس عقيدته التي سوغت له ولأصحابه الخروج على علي علیه السلام . وغير ذلك من اشتهار عكرمة بالكذب على ابن عباس حتى أن ابن المسيب كان يقول المولى له اسمه برد : لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس ، وفي ميزان الاعتدال أن ابن عمر قال ذلك أيضاً لمولاه نافع .

وقد حاول علي بن عبدالله بن عباس صد عكرمة وردعه عن ذلك ، ومن

ن هم أهل البيت؟

ص: 100


1- المصدر السابق : ص 603

وسائله التي اتخذها معه أنه كان يوقفه على الكنيف ليرتدع عن الكذب على أبيه ، يقول عبد الله بن أبي الحارث : «دخلتُ على ابن عبدالله بن عباس وعكرمة موثق على باب الكنيف ، فقلت : أتفعلون هذا بمولاكم ؟! فقال : إن هذا يكذب على أبي»(1).

وأما مقاتل فإنه لا يقل عن عكرمة في عدائه لأمير المؤمنين علیه السلام واشتهاره بالكذب ، حتى عده النسائي في جملة الكذابين المعروفين بوضع الحديث (2).

وقال الجوزجاني كما في ترجمة مقاتل من ميزان الذهب : كان مقاتل كذاباً جسورا

(3).

وقال مقاتل للمهدي العباسي : إن شئت وضعتُ لك أحاديث في العباس قال : لا حاجة لي فيها(4) .

ومثل هؤلاء لا يمكن أن نأخذ من كلامهم ، فذلك ضرباً من الغرور والجهل، لأن الأحاديث الصحيحة المتواترة خلاف ذلك كما تقدم . وهذا غير الروايات التي تقول بعد نزول هذه الآية أن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم بقي تسعة أشهر يأتي باب علي بن أبي طالب علیه السلام عند وقت كل صلاة فيقول : السلام عليكم ورحمة الله ورحمة الله وبركاته

ص: 101


1- وفيات الأعيان ج 3 ص 265 - 266
2- دلائل الصدق ج 2 ص 65
3- الكلمة الغراء ، الشرف الدین ص 217
4- الغدير ج 5 ص 266

أهل البيت «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» كل يوم خمس مرات (1) .

وفي صحيح الترمذي. ومسند أحمد ، ومسند الطيالسي ،ومستدرك الحاكم على الصحيحين ، وأسد الغابة ، وتفسير الطبري، وابن كثير والسيوطي : إن رسول اللهصلی الله علیه وآله وسلم كان يمر بباب فاطمة علیه السلام ستة أشهر كلما خرج إلى صلاة الفجر يقول : الصلاة يا أهل البيت «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا »(2).. وغيرها من الروايات المشابهة التي وردت في هذا الباب .

وبهذا اتضح لنا جلياً أن أهل البيت هم (علي وفاطمة والحسن والحسين) ولا مجال للمنكر المراوغ ، فإن الشك في هذا كالشك في الشمس في رابعة النهار .

ص: 102


1- تفسير الآية عن ابن عباس في الدر المنثور ج6 ص 606
2- مستدرك الصحيحين ج 3 ص 158 ، وقال : حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه ، سنن الترمذي ج 5 ص 699 ، مسند أحمد 3 ص 285 ، مسند الطيالسي : 274 ، أسد الغابة 5 / 521 - 522

أهل البيت في آية المباهلة

إن الصراع بين جبهتي الحق والباطل في ساحات القتال أمر صعب ولكنه أكثر صعوبة إذا كان في ساحة المحراب ، عندما يكشف كل واحد نفسه أمام علام الغيوب ، ويجعلونه حاكماً وقاضياً بينهم ، ففى هذه الحالة لا ينجح من في قلبه شك او ريبة.

نعم ، قد يكون مقاتلاً جلداً في ساحات القتال ، لذلك نجد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم في مقاومته للكفار يدعو للجهاد كل من يقدر على حمل السلاح ولو كان منافقاً .

ولكن عندما تحولت نوعية الصراع من الحرب إلى الدعاء والمباهلة مع النصارى لم يَدْعُ رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم لهذه النوعية الجديدة من الصراع أي واحد من أصحابه ، لأن في مثل هذا المقام لا يتقدم إلا من كان له قلب سليم مطهر من الرجس

والذنب ، وهم النخبة المصطفاة ، ومثل هؤلاء لا يكونون كُثراً بين البشر ، وإنما هم قلة ، ولكنهم خير أهل الأرض .

فمن هؤلاء النخبة المصطفون ؟

عندما جادل رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم علماء النصارى بالتي هي أحسن ، لم يجد منهم إلاّ الكفر والجحود والعصيان ، ولم يعد هناك سبيل سوى الابتهال ، وهو أن يدعو كل واحد منهم بما عنده ، ويجعلوا لعنة الله على الكاذبين ، فحينها جاء الأمر الإلهي : «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا

ص: 103

وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ» (1) . وعندها استجاب القساوسة إلى عرض الرسول الجديد حتى تكون المعركة حاسمة بينهم ، فجمع القساوسة خواصهم استعداداً لهذا اليوم ، وعندما جاء الموعد واحتشدت الجماهير و تقدم النصارى وهم يعتقدون بأن الرسول سوف يخرج إليهم بجمع من أصحابه ونسائه ظهر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وه-و يتقدم بخطوات ثابتة مع كوكبة صغيرة من أهل البيت الحسن على يمينه، والحسين على شماله ، وعلي وفاطمة خلفه ، وعندما رأى النصارى هذه الوجوه المشرقة ارتعشوا خوفاً ، فالتفتوا جميعاً إلى الأسقف زعيمهم :

-يا أبا حارثة ، ماذا ترى في الأمر ؟

فأجابهم الأسقف : أرى وجوهاً لو سأل الله بها أحد أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله .

فازدادت دهشتهم ، وعندما أحس الأسقف منهم ذلك قال :

-أفلا تنظرون محمداً رافعاً يديه ينظر ما تجيبان به ، وحق المسيح إذا نطق فوه بكلمة لا نرجع إلى أهل ولا مال (2).

وحين ذاك قرروا التراجع وترك المباهلة ، ورضوا بالذل ودفع الجزية . فبهؤلاء

ص: 104


1- سورة آل عمران : 61
2- الدر المنثور ، ج 2 ص 228 - 233 من سورة آل عمران آية 61

الخمسة هزم رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم النصارى وردهم صاغرين . وبذلك قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم «والذي نفسي بيده إن العذاب تدلى على أهل نجران ولولا عفوه لمسخوا قردةً وخنازير واضرم عليهم الوادي ناراً ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر وما حال الحول على النصارى كلهم» .

ولكن لماذا أحضر الرسول صلی الله علیه وآله وسلم وهؤلاء الخمسة فقط ، ولم يحضر أصحابه وزوجاته ؟

والإجابة على ذلك بكلمة ، وهي : أهل البيت هم أوجه الخل-ق بع-د الرسول عند الله وأكثرهم نقاءاً وتطهيراً ، ولم تتخ لغيرهم هذه الصفات التي أثبتها الله لأهل البيت في آية التطهير كما تقدم . ولذلك نجد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم في تطبيق هذه الآية كيف يلفت أنظار الأمة لمنزلة أهل البيت، فيفسر قوله تعالى : «أبناءنا» بالحسن والحسين و«نساءنا» بالسيدة فاطمة الزهراءعلیها السلام و «أنفسنا» ب- علي علیه السلام وذلك لأن الإمام لا يدخل ضمن النساء ولا ضمن الأولاد فينحصر دخوله في كلمة أنفسنا ولأن التعبير ب- «أنفسنا يكون قبيحاً إذا كانت الدعوة موجهة إلى ذاته فقط .

فكيف يدعو نفسه ؟! ... ويؤيد ذلك قول الرسول صلی الله علیه وآله وسلم «أنا وعلي من شجرة واحدة وسائر الناس من شجر شتى»(1) .

ص: 105


1- كنز العمال : ج 11 ص 608 ح 32943 و 32944 ، مستدرك الحاكم : ج 2 ص 241

فإذا كان الإمام علي علیه السلام هو نفس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيكون له ما للرسول صلى الله عليه وآله وسلم من قيادة وولاية على المسلمين إلا منزلة واحدة وهي منزلة النبوة كما عبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

في صحيح البخاري ومسلم « يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي »(1).

إن استدلالنا من هذه الآية لم يكن في هذا المقام وإنما هو في بيان من هم أهل البيت ، والحمد لله لم يكن هناك خلاف في أن هذه الآية نزلت في أصحاب الكساء ، وهناك أخبار وأحاديث في هذا المجال.

فقد روى مسلم والترمذي كلاهما في باب فضائل علي علیه السلام : «عن سعد ب--ن أبي وقاص قال : لما نزلت هذه الآية « تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ ...» دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً ، فقال : اللهم هؤلاء أهلي» (2). وذكره السيوطي والحاكم والبيهقي ، وقوله : هؤلاء أهلي يدل على تحديد أهل البيت في هؤلاء الأربعة .

ص: 106


1- راجع البخاري كتاب المناقب، ج 5 / 24 ، وصحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة ج 4 / 1870 ، ومسند أحمد ج 6 / 438
2- صحيح مسلم ج 4 ص 1871 ح 32 ، وج 15 ط . مصر ص 176 بشرح النووي ، صحيح الترمذي ج 5 ص 638 رقم الحديث 3724 ، المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 150

الفصل الخامس : ولاية علي علیه السلام في القرآن

اشارة

* البحث الفاصل *

* آية الولاية *

* وجه الاستدلال من هذه الآية *

* المصادر التي أثبتت نزولها في أمير المؤمنين علیه السلام*

* آية التبليغ نص صريح في الولاية *

* الغدير في المصادر الإسلامية *

* المصادر التي أثبت نزولها في الإمام علي علیه السلام*

* نص الخطبة *

ص: 107

ص: 108

ولاية علي في القرآن

*البحث الفاصل :

بعد فراغي من بحثي الأول الذي كلفني مجهوداً فكرياً ونفسياً ، وجعلني أعيش صراعات مع ضميري وأخرى مع زملائي وأساتذتي في الجامعة ، وصلت فيه إلى قناعة كافية أشك فى الشمس ولا أشك فيها ، وكانت النتيجة من ذلك كما وضحت وجوب اتباع أهل البيت علیه السلام وأخذ الدين عنهم ، وكانت هذه قناعاتي الأولى لفترة من الزمن ، لم أتمكن بعد من تحديد الموقف واختيار مذهبي رغم وجداني الذي كان يلح عليَّ باتباع مدهب التشيع ، ورغم أن أصدقائي وأهلي وزملائي كانوا يصنفونني شيعياً ، وكثير منهم يناديني بالشيعي وبعضهم بالخميني ! ، وأنا بعد لم أحدد موقفي ، لا أشك فيما توصلت إليه ، ولكن نفسي الأمارة بالسوء هي التي تنهاني وتوسوس لي :

كيف تترك ديناً وجدت عليه آباءك ؟!

وماذا تصنع مع هذا المجتمع الذي هو بعيد عن اعتقادك ؟!

وأنت مَنْ حتى تصل إلى هذا ؟! أغفل عنه أعاظم العلماء ؟!! بل جل المسلمين ؟! .. وآلاف من الأسئلة والتشكيكات التي غالباً ما كانت تتغلب عليَّ وتسكتني ! . وأحياناً ينتفض عقلي وضميري.. وهكذا .. دفع وجذب ومد وجزر وتوتر عصبي وانفصام في نفسي ، لا مفر ولا أنيس ولا صديق ولا حبيب ..

ص: 109

فطفقت أسأل وأبحث عن الكتب التي ردت على الشيعة لعلها تنقذني مما أنا فيه وتوضح لي حقائق لعلها غائبة عني ، ولقد كفاني الوهابية عن جمعها فقد كان إمام الجماعة في مسجد قريتنا يحضر لي كل ما أطلبه...

وبعد البحث فيها تعقدت مشكلتي وازداد توتري ولم أجد فيها بغيتي ، لأنها خالية من الموضوعية والنقاش المنطقي وكل ما فيها سب ولعن وشتم ، وافتراءات وكذب ، شكلت لي حجاباً في أول الأمر ، ولكن بعد تجريدها من هذه التأثيرات الإعلامية تبينت أمامي أوهن من بيت العنكبوت .

فعزمتُ بعد ذلك على مواصلة البحث ، رغم اقتناعي بما توصلت إليه في البحث الأول مقاوماً تسويلات نفسي ومتطلعاً لرؤية الحقيقة أكثر ظهوراً وضياء ، فوقع اختياري على بحث أدلة ولاية الإمام علي علیه السلام والناصة على إمامته وكان في ذهني مجموعة من الأدلة التي تؤدي هذا الغرض رغم أنها كافية لمن كان له عقل صاف وقلب سليم ، ولكن أردتُ أن يكون هو البحث الفاصل بين أن أكون سنياً أعتقد بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان وبين أن أكون شيعياً ، أقول بإمامة علی علیه السلام.

وبعد البحث كانت المفاجأة ! حيث لم أستطع وإلى الآن أن أجمع وأحصي وأتتبع كل الأدلة سواء أكانت نقلية أو عقلية ، التي تصرح وبكل وضوح بإمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، بعضها ظاهر في الدلالة وبعضها يحتاج إلى مقدمات مطولة .

وما أسجله في هذا الفصل هو مقتطف يسير ، وذلك مراعاة للاختصار وتشويقاً للباحث ، ولاعتقادي بأن فيه الكفاية بعد الشرح والتوضيح .

ص: 110

(1) قوله تعالى :

«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ» (1) صدق الله العظيم .

وجه الاستدلال من هذه الآية :

تكون هذه الآية واضحة في ولاية أمير المؤمنين وإمامته إذا ثبت أن المراد من قوله تعالى: الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون هو الإمام علي (ع) . وإذا ثبت أيضاً أن كلمة الولي بمعنى الأولى بالتصرف .

* المصادر التي أثبتت نزولها في علي علیه السلام :

لقد قامت الأدلة وتواترت الروايات من الطرفين على أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم بخصوص الإمام علي ( عندما تصدق بالخاتم وهو راكع .

وقد روى هذا الخبر جمع من الصحابة منهم :

(1) أبو ذر الغفاري : وقد رواه عنه مجموعة من الحفاظ مثل :

آ - أبو إسحاق أحمد بن إبراهيم الثعلبي في التفسير - (الكشف والبي-ان ع-ن تفسير القرآن.

ب - الحافظ الكبير الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ج 1 ص 177 ط بيروت .

ص: 111


1- سورة المائدة ، الآية 55

ج- - سبط ابن الجوزي في التذكرة ص 18 .

د - الحافظ ابن حجر العسقلاني في (الكاف) (الشاف) ج 1 ص 649 ... وغيرهم من المحدثين والحفاظ.

(2) المقداد بن الأسود : وأخرجه عنه الحافظ الحسكاني في (شواهد التنزيل) ج 1 ص 177 ط . بيروت تحقيق المحمودي .

(3) أبو رافع القبطي : مولى رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم - : أخرجه-ا عن-ه مجموع-ة م-ن الأعلام مثل :

آ - الحافظ ابن مردويه في كتاب (الفضائل).

ب - الحافظ جلال الدين السيوطي في الدر المنثور) ج 3 ص 104 .

ج- -- المحدث المتقي الهندي في (كنز العمال) ج 1 ص 305 ... وآخرون .

(4) عمار بن ياسر : وأخرج روايته:

آ - المحدث الكبير الطبراني في ( معجمه الأوسط) .

ب - الحافظ أبوبكر ابن مردويه في (الفضائل).

ج- - الحافظ الحاكم الحسكاني في (شواهد التنزيل) ج 1 ص173.

د - الحافظ ابن حجر العسقلاني في (الكاف الشاف) ص 56 عن الطبراني وابن مردویه.

(5) أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام : وأخرجها :

آ - الحاكم النيسابوري ، الحافظ الكبير في كتاب (معرفة علوم الحديث) ص 102 ط مصر سنة 1937 1937 .

ص: 112

ب - الفقيه ابن المغازلي الشافعي في (المناقب) ص 311.

ج- - الحافظ الحنفي الخوارزمي في (المناقب) ص187.

د - الحافظ ابن عساكر الدمشقي ( تاريخ دمشق) ج 2 ص 409 - تحقيق المحمودي .

ه- - ابن كثير الدمشقي في البداية والنهاية) ج 7 ص 357 ط . بيروت .

و - الحافظ ابن حجر العسقلاني في( الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ج 1 ص 649 مصر) .

ز - المحدث المتقي الهندي في (كنز العمال) ج 15 ص146 في باب فضائل علی علیه السلام.

(6) عمرو بن العاص : أخرجها عنه الحافظ أخطب خوارزم أبو المؤيد في (المناقب)ص128. (7) عبدالله بن سلام : أخرجها عنه محب الدين الطبري في (ذخائر العقبى) ص 102 وفي الرياض النضرة ج 2 ص 227 .

(8) عبدالله بن عباس : وأخرجها عنه :

آ - أحمد بن يحيى البلاذري في أنساب الأشراف) ج 2 ص 150 ط . بيروت تحقيق المحمودي .

ب - الواحدي في أسباب النزول) ص 133 ط .

ج-- -- الحاكم الحسكاني في (شواهد التنزيل ج 1 ص 180 .

د - ابن المغازلي الشافعي في (المناقب) ص 311 .

ص: 113

ه- - الحافظ ابن حجر العسقلاني في( الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف) ط .مصر.

و - جلال الدين السيوطي .

(9) جابر بن عبدالله الأنصاري : ومن الذين أخرجوها ها عنه الحاكم الحسكاني في

شواهد التنزيل ج 1 ص 174 .

(10) أنس بن مالك - خادم رسول الله - : وأخرجها :

آ - الحافظ الحسكاني في (شواهد التنزيل) ج 1 ص 165 .

ب - المحدث الكبير الحموي الجويني الخراساني في (فرائد السمطين) ج 1 ص 187-188.

ونختار من هذه الروايات العديدة ما رواه أبو ذر الغفاري رحمه الله في رواية طويلة أخرجها عنه الحاكم الحسكاني بسنده ص 177 - 178 ج 1 ط . بيروت.

قال أبو ذر الغفاري رحمه الله : «أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري أبو ذر الغفاري ، سمعت النبي صلی الله علیه وآله وسلم بهاتين وإلا فصمتا، ورأيته بهاتين وإلا فعميتا ، وهو يقول : على قائدة البررة ، قاتل الكفرة منصور من نصره ، ومخذول من خذله ، أما إني صليتُ مع رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم يوماً من الأيام صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد ، فلم يعطه أحد ، فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللهم اشهد أني سألتُ في مسجد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فلم يعطني أحد شيئاً . وكان علي علیه السلام راكعاً فأومأ إليه بخنصره اليمنى وكان يتختم فيها ، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره ، وذلك بعين النبيصلی الله علیه وآله وسلم ، فلما فرغ النبي صلی الله علیه وآله وسلم من صلاته ، رفع رأسه إلى السماء، وقال : اللهم إن أخي موسى

ص: 114

سألك ، فقال : «رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني ، يفقهوا قولي ، واجعل لي وزيراً من أهلي ، هارون أخي ، أشدد به أزري ، وأشركه في أمري» فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً :« سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ » ، اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك . اللهم فاشرح لي صدري ، ويسر لي أمري ، واجعل لي وزيراً من أهلي، علياً أخي أشدد به أزري ، قال : فوالله ما استتم رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم الكلام حتى نزل عليه جبرئيل من عند الله ، وقال : يا محمد هنيئاً ما وهب لك في أخيك . قال صلی الله علیه وآله وسلم : وما ذاك يا جبرئيل ؟

قال : أمر الله أمتك بموالاته إلى يوم القيامة . وأنزل عليك :«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ »(1).

وهذه الرواية جاءت بألفاظ متعددة نقتصر في هذا المقام بهذه الرواية فإنها كافية لبيان المطلب .

وهذا من الفضائل التي لم يشارك بها أحد أمير المؤمنين ، فلم نجد أحداً في التاريخ ادعى إعطاء الزكاة وهو راكع ، وفي هذا حجة كافية ودلالة واضحة على أن أمير المؤمنين هو المقصود لا غير.

وقد يحاول البعض التشكيك في هذه الآية ونسبتها لأمير المؤمنين متذرعاً لذلك بحجج فارغة لا معنى لها . فتجد الآلوسي مثلاً يصرف معنى الركوع إلى غير معناه

ص: 115


1- المائدة : 55

الظاهر ، فيقول : المقصود منه الخشوع ، وهذا تأويل غير مقبول ، لأنه لا توجد قرينة تصرف المعنى الحقيقي الظاهر في الآية - وهو الركوع ذو الحركة المعهودة -- وقد حدث لي ذات يوم ، وأنا أناقش مجموعة من زملائي في الجامعة بخصوص هذه الآية ، فبعدما أثبتُ لهم أنها نزلت في أمير المؤمنين (ع) ، استشكل أحدهم قائلاً :

- إذا أثبت نزولها في علي فقد أثبت له بذلك منقصة.

- قلت له : فكيف ذلك ؟

- قال: إن ذلك دلالة على عدم خشوعه في الصلاة ، وإلا كيف سمع السائل وكيف أجابه؟ والمعروف أن العباد والأتقياء لا يحسّون بمن حولهم في حالة توجههم إلى الله.

- قلت : كلامك لا وجه له ، بدلالة نفس الآية ، إن الصلاة الله والخضوع والخشوع له ، والله سبحانه أخبرنا بقبول هذه الصلاة بل أثبت بها إمامةً وولايةً لصاحبها ، ومقام المدح واضح في السياق ، فسواء كان المتصدق علياً أو غيره فالحالة سواء ، فإذا كان عندك إشكال على خشوع علي فبالأولى أن يكون على القرآن .

وفي الواقع إن هذه الآية أعلى إحكاماً من تشكيكات المشككين ، فهي واضحة الدلالة في ولاية أمير المؤمنين ، مع العلم أن إثبات ولاية أمير المؤمنين من أوضح الأمور في القرآن . وكنتُ أقول هذا الكلام لبعض الأصدقاء فانبرى أحدهم قائلاً:

أذكر لنا آية تبين مدعاك.

ص: 116

قلتُ : قبل ذلك نرى ماذا قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم في علي علیه السلام ، فقد روى البخاري في صحيحه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لعلي :

«أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»(1).

فيظهر من ذلك أن كل ما لهارون لعلي (ع) ، فله الإمامة والخلافة والوزارة وغير ذلك إلا النبوة ، كما كان لهارون.

فاستنفروا جميعاً :

من أين لك هذا ؟! ... قلت : مهلاً ما هي مكانة هارون من موسى ؟ أو لم يقل موسى «وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي »(2) .. قالوا : لم نسمع بذلك لعل الآية ليست بهذه الطريقة .. ! فعرفتُ منهم العصبية والجدل ، قلت وأنا متحير في أمرهم : إن هذا أمر واضح لم ينكره أحد.

قال أحدهم : لماذا المخاصمة وهذا القرآن أمامك .. أخرج لنا الآية إن كنت صادقاً .. !! وهنا اضطرب حالي ، لأني كنت ناسياً تماماً في أي سورة وفي أي جزء ، وبعد برهه من

الزمن تشجعت وقلت في سري : «اللهم صل على محمد وآل محمد» وفتحت المصحف بطريقة عشوائية ، فأول ما وقع عليه بصري كانت هذه الآية« رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي... وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ».

فخنقتني العبرة وجرت دموعي على خدي، ولم أستطع قراءة الآية من شدة

ص: 117


1- البخاري، كتاب المناقب ج 5 / 24 ، وصحيح مسلم ج 4 / 1870 ، کتاب فضائل الصحابة
2- طه 290 - 32

الدهشة ، فسلمتهم المصحف مفتوحاً وأشرت لهم إلى الآية ، فبهتوا جميعاً لشدة المفاجأة.

دلالة الآية إنما وليكم الله ... على ولاية امير المؤمنين

وبعدما ثبت في البحث الأول أن الآية نزلت في الإمام علي علیه السلام ، فيكون معناها «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وعلی بن أبی طالب» ..

ولا يستشكل أحد ، كيف خاطب الله الفرد بصيغة الجمع ؟!

لأنه أمر جائز في لغة العرب ، فيكون الجمع في هذه الآية للتعظيم ، والشواهد على ذلك كثيرة . كقوله تعالى :« الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ »(1).

فالقائل هو حي بن أخطب، وكقوله تعالى : «وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ »(2) وهذه الآية نزلت في رجل من المنافقين إما في الجلاس بن سيويله

أو نبتل بن الحرث أو عتاب بن قشيرة ، تفسير الطبري ج 10 ص 116 .

وبعد ذلك يتعين البحث عن معنى الولي.

تتمسك الشيعة بأنّ الولي - في هذه الآية - بمعنى الأولى بالتصرف .. فتقول :

ولي أمر المسلمين أو ولي أمر السلطان ، يعني الأولى بالتصرف في أمورهم .

ولذلك قالت الشيعة بوجوب اتباع أمير المؤمنين علي علیه السلام لكونه أولى بالتصرف في أمور المسلمين ، والذي يدل على ذلك هو أن الله تعالى نفى أن يكون

ص: 118


1- آل عمران : 181
2- التوبة : 61

لنا ولي غيره تعالى وغير رسوله وغير ض« وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ » بلفظة «إنما » ولو كان المقصود الموالاة في الدين ، ما خُص بهاالمذكورون ، لأن الموالاة في الدين عامة للمؤمنين جميعاً . قال تعالى : «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ»(1) فالتخصيص يدل على أن نوع الولاية يختلف عن ولاية المؤمنين لبعضهم البعض ، فلا يكون المراد من «وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ... » مجمل ومطلق المؤمنين ، وإنما تكون خاصة بعلي علیه السلام بدليل (إنما) التي تفيد التخصيص فتنفي جملة المؤمنين، وهذا بالإضافة إلى الأحاديث السابقة التي ذكرت الآية في علي بن أبي طالب علیه السلام ، فالوصف الذي جاء فيها «يؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ » لم ينطبق على أحد ولم يَدَّعِهِ أحد غير أمير المؤمنين علیه السلام ، وهو كونه أتى الزكاة وهو راكع ، لأن «وَهُمْ رَاكِعُونَ »حال ل- «يؤْتُونَ الزَّكَاةَ» والركوع هو الحركة المخصوصة ، وصرف الركوع لغير هذا المعنى الحقيقي يكون ضرباً من التأويل من غير دليل ، لأنه ليس في الآية قرينة تصرف الركوع عن معناه الحقيقي ، كما «وَهُمْ رَاكِعُونَ » لا يجوز جعله عطفاً على ما تقدم لأن الصلاة قد تقدمت . والصلاة مشتملة على الركوع فكانت إعادة ذكر الركوع تكراراً ، فوجب جعله حالاً ، وهذا بالإضافة لإجماع الأمة على أن علياً (ه) آتى الزكاة وهو راكع فتكون الآية مخصوصة به، وقد نقل القوشجي - شارح التجريد - عن المفسرين أنهم أجمعوا على أن الآية نزلت في

ص: 119


1- التوبة : 70

علي علیه السلام في حالة تصدقه بالخاتم وهو راكع ، وأيضاً نقله ابن شهر آشوب في

كتاب - المناقب - حيث قال في محكي كلامه :

«اجتمعت الأمة على أن هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين علیه السلام(1) والأحاديث التي تؤيد ذلك قد بلغت حد التواتر فقد نقل السيد هاشم البحراني في كتابه - غاية المرام - من طرق أهل السنة والجماعة أربعة وعشرين حديثاً في نزولها في علي علیه السلام ومن طرق الشيعة تسعة عشرة حديثاً » .. فتأمل .

فإذا تخصصت الآية في أمير المؤمنين فلا يكون المراد من الولي ، الولاية العامة أي بمعنى النصرة والمحبة ، إنما هي ولاية من نوع خاص فتكون أقرب إلى معنى الأولى بالتصرف .

وقد قال العلامة المظفر في ذلك : «ولو سُلّم أن المراد الناصر فحصر الناصر بالله ورسوله وعلى لا يصح إلا بلحاظ إحدى جهتين، الأولى :( أن نصرتهم للمؤمنين مشتملة على القيام والتصرف بأمورهم ، وحينئذ يرجع إلى المعنى المطلوب ) . الثانية أن تكون نصرة غيرهم للمؤمنين كلا نصرة بالنسبة إلى نصرتهم ، وحينئذ يتم المطلوب أيضاً إذ من لوازم النصرة الكاملة للمؤمنين ) .

فثبت بذلك أن ولاية الله ورسوله ، والذين آمنوا - علي - ولاية من سنخ واحد وهي ولاية حق التصرف، والدليل على ذلك استخدام لفظة واحدة لكل المستويات ، ولو لم يكنالمعنى واحداً لكان في ذلك التباس مقصود، وحاشا الله أن

ص: 120


1- الخاتم لوصي الخاتم ص392

يضل عباده ، لأنه لو أراد معنى آخر لولاية المؤمنين لكان الأنسب أن تفرد ولاية أخرى للمؤمنين بالذكر رفعاً للالتباس ، كما في آية أخرى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فكرر لفظة الطاعة . وبذلك كان أمير المؤمنين جديراً أن يكون إمام المتقين وولي المؤمنين .

آية التبليغ نص صريح في الولاية

قوله تعالى : «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ »(1).

قد نزلت هذه الآية لبيان فضل أمير المؤمنين علیه السلام في غدير خم كما مرت الإشارة إليه في حديث زيد بن أرقم في صحيح مسلم.

كنت أفكر في البداية أن أكتفي بمجرد الإشارة لهذه الحادثة لبداهتها عن-د م-ن تتبع كتب الحديث والتاريخ ، ولكن أثارني كاتب سوداني - هو المهندس الصادق الأمين. وهو يرد ويتهجم على الشيعة في صحيفة سودانية (آخر خبر) . وقد جاء في معرض كلامه :

«والحقيقة أن هذه الواقعة التي ترويها كُتب الشيعة في ما يتعلق ب- ( غدير خم) .. وهكذا دأب علماء الشيعة على ذكر هذه (الخرافة) التي تُعد أساس المذهب الشيعي ..» .

وأنا لا أدري هل هذا ينم عن جهل بالحديث والتاريخ ! أم عن بغض الإمام على علیه السلام ونكران لفضائله، فهذه الحادثة واضحة لا يخلو منها كتاب تاريخي .

ص: 121


1- مائده .67

فكيف غابت عن هذا المهندس ؟!

والواضح أنه لم يكلف نفسه ، بأن يغمض عينيه ثم يأخذ أي كتاب في الحديث

أو التاريخ من كتب أهل السنة ، ثم يتصفحه ، فإذا لم يجدها فيحق له بعد ذلك أن ينسبها إلى كتب الشيعة أو يسميها (خرافة).

الغدير في المصادر الإسلامية

حديث الغدير من أكثر الأحاديث تواتراً ، فقد بلغ رواته من الصحابة عشرةً ومائة صحابي ، وقد أحصاهم العلامة الأميني مع الكتب التي أخرجت رواياته في كتابه الغدير ج 1 ص 14 إلى ص 61 ، ويطول بنا المقام إذا ذكرنا أسماءهم والتصنيفات التي أخرجت أحاديثهم من كتب أهل السنة .

وبلغ رواته من التابعين أربعة وثمانين (84) راو كما في الغدير ص 62 إلى ص 72 ، ولم يقف رواة حديث الغدير عند هذا الحد بل ثقل بالتواتر في كل طبقاته ، وقد بلغ مجموع الرواة من القرن الثاني إلى القرن الرابع عشر للهجرة 360 راو ، هذا غير آلاف الكتب السنية التي ذكرت هذا الحديث.

كيف يتسنى لهذا الكاتب بعد ذلك أن يقول : هذه (الخرافة) الشيعية مع العلم بان رواية الغدير بطرق الشيعة لا تبلغ نصف ما جاء الطرق السنة !

ولكن هذه مشكلة أنصاف المثقفين ، يطلقون كلامهم من غير بحث أو دراية ، فهؤلاء علماء السنة وثقاتهم من الأقدمين والمتأخرين يصرحون بصحة حديث الغدير ، ومنهم على سبيل المثال.

(1) ابن حجر العسقلاني - شارح صحيح البخاري - يقول : «وأما حديث «من كنت مولاه فعلي مولاه» أخرجه الترمذي والنسائى وهو كثير الطرق جداً ، وقد

123

ص: 122

استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد ، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان» (1) .

وهذا الكتاب الذي أشار إليه ابن حجر هو كتاب الولاية في طرق حديث الغدير لأبي عباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمذاني الحافظ المعروف بابن عقدة المتوفى سنة 333 وقد أكثر منه النقل ابن الأثير في أسدالغابة ، وابن حجر العسقلاني ، وقد ذكره العسقلاني أيضاً في كتاب «تهذيب التهذيب» ج 7 ص 337 بعد ذكر حديث الغدير فقال : «صححه واعتنى بجمع طرقه أبو العباس ابن عقدة . فأخرجه من حديث سبعين صحابياً أو أكثر».

وقد أشار لهذا المصنف فى إثبات طرق حديث الغدير ابن تيمية بقوله :

«وقد صنف أبو العباس ابن عقدة مصنفاً في جمع طرقه»(2) .

(2) ابن المغازلي الشافعي : بعدما يذكر حديث الولاية بسنده يقول: «هذا حديث صحيح عن رسول الله - صلی الله علیه وآله وسلم- وقد روی حدیث غدیر خم عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم نحو مائة نفس منهم العشرة - أي المبشرين بالجنة – وهو حديث ثابت لا أعرف له علة ، تفرد عليه بهذه الفضيلة لم يشركه أحد» (3).

3) وقد أفرد أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري - صاحب التأريخ - كتاباً أخرج فيه أحاديث الغدير ، وقد ذكر عنه ذلك صاحب كتاب --- العمدة -- بقوله : «وقد ذكر ابن جرير الطبري صاحب التاريخ خبر يوم الغدير وطرقه في خمسة وسبعين طريقاً ، وأفرد له كتاباً سماه كتاب الولاية » (4) .

ص: 123


1- فتح الباري في شرح صحيح البخاري ج 7 ص 61
2- منهاج السنة ج 7 ص 320
3- مناقب أمير المؤمنين ص 26 - 27
4- العمدة ص 157

وقد جاء في شرح - التحفة العلوية - لمحمد بن إسماعيل الأمير : قال الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ (1) في ترجمة من كنت مولاه : ألف محمد بن جري--ر في-ه كتاباً ، - قال الذهبي - وقفت عليه فاندهشت لكثرة طرقه» .

وذكر كتاب ابن جرير أيضاً ابن كثير في تاريخه : «وقد رأيتُ كتاباً جُمع فيه أحاديث غدير خم في مجلدين ضخمين»(2) .

4) وخرج الحافظ أبو سعيد مسعود بن ناصر بن أبي زيد السجستاني - المتوفى سنة 47 ... حديث الغدير في كتاب الدراية في حديث الولاية) في (17) جزءاً جمع فيه طرق حديث الغدير ورواه عن (120) صحابياً .

هذا وقد ذكر الأميني في الغدير - 26 - عالماً من فطاحل علماء أهل السنة، أفردوا كتباً في تخريج روايات أحاديث الغدير ، فضلاً فضلاً عن الكتب التي ذكرت الرواية ، ونختم كلامنا هنا بما قاله ابن كثير عن الجويني : «أنه كان يتعجب ويقول : شاهدت مجلداً ببغداد في يد صحاف فيه روايات هذا الخبر ، مكتوب عليه ، المجلد الثامن والعشرون من طرق من كنت مولاه فعلی مولاه، ويتلوه المجلد التاسع والعشرون(3).

الصادر التي أثبتت نزولها في علي علیه السلام:

أما بخصوص نزول هذه الآية : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك .. في أمير المؤمنين ، فقد صرح بذلك كثيرون منهم على سبيل المثال .

ص: 124


1- تذكرة الحفاظ : ج 2 ص 713
2- التاريخ لابن كثير ج 11 م 147
3- الخلاصة ج 2 هر 298

(1) السيوطى في (الدر المنثور) في تفسير الآية عن ابن أبي حاتم ، وابن مردويه وابن عساكر ، بأسانيدهم عن أبي سعيد قال : (نزلت على رسول الله صلی الله علیه وأله وسلم يوم غديرخم في علي) .

ونقل أيضاً عن ابن مردويه بإسناده إلى ابن مسعود قوله : (كنا نقرأ على مهد رسول الله : «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ »- أن علياً مولى المؤمنين - « وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ »(1).

(2) روى الواحدي في أسباب النزول عن أبي سعيد قال : نزلت يوم غدیر خم في علي)

(2).

(3) الحافظ أبو بكر الفارسي ، روى في كتابه ما نُزِّل من القرآن في أمير المؤمنين بالإسناد عن ابن عباس : أن الآية نزلت في غدير خم في علي بن أبي طالب.

(4) الحافظ أبو نعيم الأصبهاني الأصبهاني ، بسنده عن الأعمش ، عن عطية قال : نزلت

هذه الآية على رسول الله ) يوم غدير خم ) (3).

(5) الحافظ ابن عساكر الشافعي ، بإسناده عن أبي سعيد الخدري : أنها نزلت يوم غدير خم في علي بن أبي طالب(4).

(6) بدر الدين ابن العيني الحنفي ، ذكر في عمدة القارىء في شرح صحيح البخاري قال : قال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين : معناه : بلغ ما أنزل من ربك في فضل علي بن أبي طالب علیه السلام . فلما نزلت هذه الآية أخذ بيد علي

ص: 125


1- الدر المنثور 3 / 117
2- أسباب النزول للواحدي ص 135
3- الخصائص ص 29 - فيما نُزل من القرآن في علي
4- الدر المنثور ج 3 ص 117

وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه .

* نص الخطبة :

.. وعشرات غيرهم أثبتوا نزولها في علي بن أبي طالب ، ونختار من بين هذه الروايات المتعددة ، رواية الحافظ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري .

أخرج بإسناده في كتاب - الولاية في طرق أحاديث الغدير - ما نصه : «ع---ن زيد بن أرقم قال : لما نزل النبي(صلی الله علیه وآله وسلم )بغدير خم في رجوعه من حجة الوداع وكان في وقت الضحى والحر شديد أمر بالدوحات فقممن . ونادى : الصلاة جامعة . فاجتمعنا فخطب خطبة بالغة ، ثم قال : إن الله تعالى أنزل إليَّ : «ي بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ »، وقد أمرني جبرئيل عن ربي أن أقوم في هذا المشهد وأعلم كل أبيض وأسود أن عليَّ بن أبي طالب أخي ووصيي وخليفتي والإمام من بعدي ، فسألت جبرئيل أن يستعفى لي ربي لعلمي بقلة المتقين ، وكثرة المؤذين لي ، واللائمين بكثرة ملازمتي لعلي ، وشدة إقبالي عليه حتى سموني أذناً ، فقال تعالى : «وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ » . ولو شئت أن أسميهم وأدل عليهم لفعلت ، ولكني بسترهم قد تكرمت فلم يرض الله إلا بتبليغي فيه ، فاعلموا معاشر الناس ذلك ، فإن الله قد نصبه لكم ولياً وإماماً ، وفرض طاعته عل-ى ك--ل أحد ، ماض حكمه ، جائز قوله ، ملعون من خالفه ، مرحوم من صدقه ، اسمعوا . أطيعوا ، فإن الله مولاكم وعلى إمامكم ، ثم الإمامة في ولده من صلبه إلى يوم القيامة ، لا حلال إلا ما أحل-ه الله ورسوله ،وهم ، ولا حرام إلا ما حرم الله ورسوله وهم ، فما من علم إلا وقد أمضاه الله فيه ونقلته إليه ، فلا تضلوا عنه ولا تستنكفوا منه ، فهو الذي يهدي إلى الحق ويعمل به ، لن يتوب الله عل-ى أح-د

ص: 126

أنكره ولن يغفر له ، حتماً على الله أن يفعل ذلك أن يعذبه عذاباً لكراً أبد الآبدين ، فهو أفضل الناس بعدي ، ما تُزل الرزق وبقي الخلق ، ملعون من خالفه قولي عن جبرئيل عن الله ، فلتنظر نفس ما قدمت لغد.

افهموا محكم القرآن ولا تتبعوا متشابهه ، ولن يفسر ذلك لكم إلا من أنا آخذ بيده وشائل بعضده ومعلمكم : من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، وموالاته من الله عز وجل أنزله عليَّ ، ألا وقد بلغت ، ألا وقد بلغت ، ألا وقد أسمعت ، ألا وقد أوص وقد أوضحت .

لا تحل إمرة المؤمنين بعدي لأحد غيره، ثم رفعه إلى السماء حتى صارت رجله مع ركبة النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) وقال:

معاشر الناس هذا أخي ووصيي وواعي علمي وخليفتي على من آمن بي وعلى تفسير كتاب ربي . وفي رواية : اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، والعن من أنكره ، واغضب على من جحد حقه ، اللهم إنك أنزلت عند تبين ذلك في علي ، أكملت لكم دينكم بإمامته فمن لم يأتم به وبمن كان من ولدي من صلبه إلى يوم القيامة فأولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون ، إن إبليس أخرج آدم (علیه السلام) من الجنة مع كونه صفوة الله بالحسد فلا تحسدوه فتحبط أعمالكم وتزل أقدامكم ، في علي نزلت سورة والعصر إن الإنسان لفي خسر .

معاشر الناس«فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا » (1)«مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ »(2).

النور من الله في ثم في علي ثم في النسل منه إلى القائم المهدي .

معاشر الناس : سيكون من بعدي أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا

ص: 127


1- التغابن : 8
2- النساء : 47

ينصرون ، وإن الله وأنا بريئان منهم ، إنهم وأنصارهم وأتباعهم في الدرك الأسفل من النار ، وسيجعلونها ملكاً اغتصاباً فعندها يفرغ لكم أيها الثقلان ويرسل عليكم شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران».

لا تحتاج هذه الخطبة إلى شرح وتوضيح ، فعلى العاقل أن يتدبر.

فالدلالة واضحة من هذه الخطبة في وجوب اتباع الإمام علي (علیه السلام) وفيها الرد الكافي على من يقول أن المقصود من «الولي» هو الناصر أو المحب ، لأن القرائن المقامية والمقالية تمنع ذلك فلا يعقل أن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) ، يحتجز كل هذه الجموع الهائلة في شدة الشمس ، حتى يقول لهم الرسول : هذا علي فأحبوه وانصروه ، أيُّ عاقل يرتئي هذا المعنى ؟ وإنه بذلك ، يتهم رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) و بالعبثية ، كما أن المقال يؤكد ذلك . فقول الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم ) : «إن علي بن أبي طالب ، أخ--ي ووصيي، وخليفتي والإمام «بعدي وقوله (صلی الله علیه وآله وسلم ) : «فإن الله قد نصبه لكم ولياً وإماماً وفرض طاعته على كل أحد ..» .

فأمر الولاية ليست بالأمر البسيط ، فالإسلام كله يتوقف عليه .

أليس الإسلام هو التسليم ؟!

فالذي لا يسلم بالقيادة الإلهية وينصاع إليها في كل أوامرها ، هل يحق لنا أن نسمیه مسلماً ؟!

بالطبع لا . وإلا يكون في ذلك التناقض بعينه ، فاتباع القيادات المزيفة والتسليم لها جعله القرآن في عداد الشرك.

قال تعالى : «..اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ...»(1).

ص: 128


1- سورة التوبة ، الآية 31

فإنهم لم يجعلوهم أصناماً وإنما أحلوا لهم ما حرم الله وحرموا لهم ما أحل الله فاتبعوهم

، كذلك الذي يتمرد على القيادة الإلهية يُعد مشركاً لا محال .

فالمتدبر في الآية بعين الوعي والبصيرة يكتشف ذلك جيداً ، فقوله تعالى : «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ...» فإن هذه الآية من سورة المائدة وهي آخر آخر سور القرآن كما جاء في مستدرك الحاكم .

كما أن هذه الآية بالذات نزلت في غدير خم كما تقدم ، وهي في آخر حجة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فيعني ذلك أن الإسلام بالمعنى الظاهري قد كان مبلغاً من صلاة وزكاة وحج وجهاد ، ... إلخ .

فما هو هذا الأمر الإلهي يساوي عدم تبليغه عدم تبليغ الرسالة ؟!

فلابد أن يكون جوهر الإسلام وغايته ، وهو التسليم للقيادة الإلهية والانصياع لأوامرها ، ومن الواضح أن هذا الأمر يشكل حالة عدم رضا من الصحابة ، فالأغلبية ترفضه ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الجبرائيل في أحد الروايات بما معناه : أني قاتلتهم ثلاثة وعشرين عاماً حتى يعترفوا بنبوتي فكيف يسلموا بإمامة علي (علیه السلام) عالة بلحظة واحدة . ومن هنا جاء الخطاب القرآني : «ُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ...»

وبعد أن بلغ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الأمر الذي يساوي كل الرسالة نزل قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً وقد صرح بنزول هذه الآية في علي كثير من المحدثين ، وذكر منهم الأميني في كتابه الغدير ج1 ص 230 إلى ص 237 ستة 237 ستة عشر مصدراً ، فإتمام الدين وإكمال النعمة بولاية علي(علیه السلام) . فمن هنا يمكن أن نحتمل كل الروايات التي تقول : إن قبول الأعمال من العبد منوطة بولاية أهل البيت (علیه السلام) ، ، لأنهم

ص: 129

الطريق الذي أمرنا الله تعالى باتباعه ، قال تعالى :«ِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى » ، ومودتهم لا تعني مجرد الحب لهم وإنما موالاتهم واتباعهم وأخذ معالم الدين عنهم .

جاء في حديث عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام) ، قال : «إن أول ما يسأل عنه العبد إذا وقف بين يدي الله جل جلاله عن الصلوات المفروضات وعن الزكاة المفروضة وعن الصيام المفروض ، وعن الحج المفروض ، وعن ولايتنا أه-ل البيت، فإن أقر بولايتنا ثم مات عليها قبلت منه صلاته وصومه وزكاته وحجه ، وإن لم يقر بولايتنا بين يدي الله جل جلاله لم يقبل الله عز وجل منه شيئاً من أعماله » (1).

وعن علي (علیه السلام)، كان يقول : «لا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين ، رجل يزداد كل يوم إحساناً ورجل يتدارك سيئته بالتوبة ! وأنى له بالتوبة ؟ والله ل--و سجد حتى ينقطع عنقه ما قبل الله منه إلا بولايتنا أهل البيت» .

وعن أنس بن مالك ، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : «معاشر الناس ما لي إذا ذكر آل إبراهيم (علیه السلام) تهللت وجوهكم وإذا ذكر آل محمد كأنما يفقاً في وجوهكم حب الرمان ؟ فوالذي بعثني بالحق نبياً لو جاء أحدكم يوم القيامة بأعمال كأمثال الجبل ولم يجىء بولاية علي بن أبي طالب(علیه السلام) الأكبه الله عزوجل في النار» (2)... وغير ذلك من الروايات.

ص: 130


1- بحار الأنوار ج 2 ص 167
2- المصدر السابق ص 171

الفصل السادس : الشورى والخلافة الإسلامية

اشارة

* أولاً - بحث في دلالة آيات الشورى *

* ثانياً - الشورى في الواقع العملي *

* ثالثاً . الصحابة وآية الانقلاب *

ص: 131

ص: 132

أولا : بحث في دلالة آيات الشورى

اختلف المسلمون في كيفية تعيين الإمام والخليفة اختلافاً شديداً قديماً وحديثاً ، وقد تجسد الخلاف قديماً على الواقع العملي والتطبيق الخارجي أكث-ر من-ه عل-ى الصعيد النظري والفكري ، وأما حديثاً فانحصر الخلاف في الناحية الفكرية ، ف-لا يتعدى المشادات الكلامية والبراهين النظرية.

ومساهمة منا في حل هذا النزاع أحببنا أن نناقش دلالة آيات الشورى في القرآن التي يعتمد عليها أهل السنة في نظرتهم ، ومن ثم التطرق إلى الشورى في الواقع العملي بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وما حدث بعده من انقلاب.

قال تعالى : «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ » آل عمران / 159

وقال تعالى :« فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» البقرة / 233 .

وقال تعالى : «وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ». الشورى / 38

يعتمد أهل السنة في نظرية الخلافة على مبدأ الشورى ويرون أن خلافة

ص: 133

المسلمين لا تكون إلا بالشورى، وبذلك صححوا خلافة أبي بكر بانتخابه بالشورى في سقيفة بني ساعدة ، وترى النظرية أو الخط الثاني وهم الشيعة ضرورة التعيين والتنصيب الإلهي للخليفة حيث لا يمكن ضمان اختيار الأصلح في النظرية الأولى ، وذلك لأن قضية الشورى تتأثر بانفعالات الناس وعواطفهم وتوجهاتهم الفكرية والنفسية وانتماء آتهم العقائدية والاجتماعية والسياسية ، كما تحتاج إلى مستويات من النزاهة والموضوعيةوالتحرر من المؤثرات الشعورية واللاشعورية ، ولذلك يقولون : لابد لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من وصية واضحة في شأن الخلافة ، وادعت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نص على خليفته بل خلفائه من بعده ، وعلى ذلك قالوا بخلافة علي بن أبي طالب (علیه السلام) و أن الشورى التي نزل بها القرآن إنما جاءت فی بعض المواضيع التي تخص ممارسة الحكم لا تعيين الحاكم الذي هو منصب إلهي .

وبما أنه انحصر الخلاف بين هذين الخطين ؛ فإذا ثبت بطلان أحدهما ثبت صحة الآخر ، مما يترتب عليه صحة أو بطلان خلافة الخليفة سواء كان أبا بكر ومن خلفاء أو علياً (علیه السلام) ومن خلفه من أوصياء .

وقد أثبتنا بما لا يدع مجالاً للشك في الفصول السابقة صحة نظرية القائلين بالنص وأحقية أهل البيت في الخلافة الإسلامية ، بل ه-و ح-ق محص-ور ف-يهم لا يتعدى إلى غيرهم ، ولكن من باب إتمام الفائدة وتبيان الحقائق أكثر فأكثر كان لابد من نقاش نظرية الشورى بما هي نظرية مجردة وصلاحيتها في انتقاء خليفة المسلمين .

ص: 134

لقد اعتمد أهل الشورى اعتماداً عظيماً في إقامة نظريتهم على الآيات القرآنية التي توجنا بها صدر البحث فهي العمدة في الباب.

فإذا رجعنا إلى الآيات يتضح لنا أن الشورى الإسلامية تتصور على نحوين :

آ - إما أن يكون موضوع الشورى الذي يراد الاستشارة فيه أمراً جزئياً في نطاق ضيق ومحدود كموضوع فطام الطفل الرضيع كما تشير إليه الآية « فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا...» وهذا النوع من الشورى ليس محل النزاع ولذا نغض الطرف عن مناقشته.

ب - وإما أن يكون موضوع الشورى الذي يراد الاستشارة فيه أمراً كلياً وعاماً يهم كل المسلمين كإعلان الحرب على العدو أو انتخاب خليفة للمسلمين...إلخ.

ولا شك ولا ريب في أنه لابد من الرجوع في مثل هذا الموضوع إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، إذ لا يعقل أن تتم هذه الشورى وليس للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها ، رأي ، بل من القبيح عرفاً والعصيان شرعاً أن تتم الشورى بدون الرجوع إليه أو الرجوع إلى من يحل محله وهو ولي الأمر«وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ » النساء / 83 .

وهذا النوع من الشورى حسب الآية «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ ...»لها ثلاثة أركان :

1 - ضرورة وجود مستشارين حتى تتم الاستشارة وهذا يدل عليه لفظة (هم) في

(وشاورهم).

ص: 135

2 - وجود مادة التشاور وموضوعها لكي تقوم هذه الشورى .

3 - ولي يدير الشورى ، والأمر في النهاية منوط برأيه ، وهذا يدل عليه ضمير تاءالمخاطب في « فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ ...» ولا إشكال أنه إذا كان الموضوع أمراً كلياً يخص كل المسلمين فإن الذي له حق الحسم إنما هو ولي أمر المسلمين .

ولا يمكن للشورى الشرعية بالصيغة الإسلامية أن تتم بانهدام ركن من الأركان الثلاثة ، لأنه إما أن يكون ولي الأمر موجوداً والمستشار موجوداً ولا يكون هناك موضوع للشورى فلا تنعقد هناك المشاورة أصلاً ، إذ لا أمر هناك حتى يتناقش ويتشاور فيه ، وإما أن يكون ولي الأمر موجوداً والموضوع موجوداً ولكن الجماعة المستشارة غير موجودة وهنا يتغير العنوان من الشورى إلى النص أو الأمر.

وإما أن تكون الجماعة المستشارة موجودة وموضوع الشورى موجوداً وولي الأمر غير موجود ، وهنا لا تقع الشورى بصيغتها الشرعية التي قررها الله في كتابه حين فرض على الشورى قيماً يرجع الأمر إليه ، فحين يدلي كل واحد منهم برأيه أين يكون ملجأ الرأي ؟!

ولا يمكن بهذه الشورى غير الشرعية الخروج بقرارات شرعية يلزم المسلمون بها إذ أنها مخالفة وبصراحة للآية التي أكدت أن الأمر في النهاية منوط بولي الأمر « فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ».

ويمكن أن يستشكل ويقال : إن هذه الآية « وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ ...» هي مختصة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يلزم وجود ولي الأمر في الشورى

ص: 136

ولا مانع من انعقاد الشورى دون ولي الأمر فيها بدلالة الآية« وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ » ، إذ ظاهر الآية ليس فيها ولي أمر يعزم ويتوكل كما في الآية الأولى .

ويدفع هذا الإشكال بما يلى :

1 - إن كل ما ثبت لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)من حق الطاعة يثبت لولي الأمر بدليل (4 قوله تعالى : « أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ » وبذلك يتضح أن ذات طاعة ولي الأمر هي طاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لوجود العطف على سبيل الجزم ، كما استخدم لفظاً واحداً لكليهما« أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ... » فلو أنه استخدم لفظة أطيعوا مرة ثالثة لأولي الأمر لصح القول أن هناك اختلافاً في الطاعتين .

2 - إن كيفية الشورى التي قررها الله في الأمور الكلية التي تخص جميع المسلمين هي كيفية واحدة « وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ ...» والإتيان بكيفية أخرى يستلزم الدليل الشرعي لما يترتب عليها من أمور شرعية كوجوب الطاعة لما تخرج به هذه الشورى والاستدلال بآية« وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ » على كيفية ثانية من الشورى غير تامة.

إذ يرد عليها بأن هذه الآية - وبلا إشكال وخلاف – نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمعنى أنها نزلت وهو حي بين ظهراني المسلمين ، والعقل والشرع يمنعان أن يتشاور المسلمون على أمر كلى يخص المسلمين دون وجود الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بينهم ورجوعهم إليه ، فهذا قبيح وبعيد جداً ، مما يدل أنه لابد أن يكون معهم ، وأن الضمير هم في « وَأَمْرُهُمْ شُورَى ... » شامل لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وبالإضافة

ص: 137

إلى ذلك فإن صيغ الآيات تتحدث عن صفات المؤمنين الفائزين«فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ »الشورى ص 36 - 38 .

ومما لا شك فيه أن أفضل مصداق للمؤمنين هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ،

، فلاريب أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أحد هؤلاء ، وإذا ثبت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ضمن هذه الشورى علمت أن أمر الشورى في الآية راجع إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ولا تتم إلا بعزيمته «فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ ...» وعليه فإن هذه الشورى هي ذاتها الكيفية الأولى ، وكل ما هنالك أن آية« وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ... » مجملة وعامة وأن آية وشاورهم في الأمر وإذا عزمت فتوكل .. هي شارحة ومفصلة لها.

بعد أن بينت هذا أضيف إليه على الفور أننا نصل إلى نتيجة محصورة في ما لو التزمنا بأن آية« وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ..» مختصة برسول الله دون أولي الأمر ، لأن الشورى عندئذ لا تتم إلا بوجود رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا مات فلا شورى بسبب عدم وجود ركن أساسي فيها وهو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أما إذا لم نلتزم بانحصار الآية في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده اعتبرنا أنها تتعدى إلى أولي الأمر ، فتكون الشورى موجودة وشرعية بشرط وجود ولى الأمر فيها وله ما لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من حقوق في الشورى لأنه يحل محله ، فيكون معنى

« وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ » أي لا يعقدون أمراً دون مشاورة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وأولي الأمر فيما يحتاجون إليه من

ص: 138

أمر دينهم ، كما قال تعالى : ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ..

وعلى كلا الرأيين تقع نظرية الشورى في تنصيب الخليفة بمأزق ومحذور يستلزم بطلانها ، فعلى الرأي الأول : وهو أن آية وشاورهم في الأمر .. مختصة برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، فمن المعلوم أن الشورى التي انعقدت لتنصيب الخليفة الأول إنما كانت بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فبالتالي هي شورى غير شرعية بحكم الإسلام وبمنظور الرأي القرآني ، وكل ما ينتج عنها غير شرعي ، ومنها تنصيب الخليفة الأول كما دلت كتب التاريخ والروايات على كيفية تنصيبه فيما يسمونه سقيفة بني ساعدة ، وقد ذكرها الذهبي في تاريخه، كما جاءت هذه الحادثة برواية عم-ر ب-ن الخطاب في كتاب صحيح البخاري كتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا ، كما ذكرها الطبري في تاريخه عند ذكره لحوادث سنة 11 ه- ، ج 3 . وابن الأثير ، وابن قتيبة في تاريخ الخلفاء ، ج 1 . وغيرها من مصادر التاريخ المتعددة .

وعلى الرأي الثاني ، أي أن آية وشاورهم .. منعقدة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو من يحل محله وهو ولي الأمر ، فإن الشورى الشرعية لا تنعقد إلا بولي الأمر وولي الأمر لا ينصب إلا بالشورى الشرعية ، فهذا دور والدور باطل ، إذ لا يمكن انعقاد الشورى الشرعية إلا بعد وجود ولي الأمر ولا يمكن أن يوجد ولي الأمر إلا بعد انعقاد الشورى الشرعية ، وهذا الأمر متوقف على نفسه فلا يمكن انعقاد الشورى الشرعية إلى أبد الآبدين ، اللهم إلا أن يقال أن هناك ولي أمر معين من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سبق وجوده الشورى، وهذا تسليم بنظرية النص التي

ص: 139

12.

تدعيها مدرسة أهل البيت أو الخط الثاني .

وربما يقال : إنه ليس من الضروري وجود ولي أمر في الشورى ، بل يكفي فقط وجود صاحب الشورى أي المشاور ، ولا يشترط فيه أن يكون ولياً ، وإن استشكلت أن ضمير عزمت يدل على حق المشاور في الحسم مما يدل على أنه ولي في أمر الشورى فربما أمكن رد الإشكال إن عزمت بمعنى عزم على ما وصلت إليه الشورى في تنفيذ أمرها.

وفيه : إن الظاهر غير ذلك حيث الأظهر من الآية هو ثبوت حق الحسم بالنسبة إليه ، وبمعنى آخر : إن الكلام يستقيم فيما لو كان رأي المستشارين واحداً ولكن إذا اختلفت آراء المستشارين فكيف ينحسم أمر الشورى ؟

فإن قال صاحب الإشكال بالأكثرية فأين الدليل ؟ بل إن الله تعالى ذم الأكثرية في كثير من الآيات «... أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ » ، بل إن قوله هذا يخالف صريح الآية التي توكل أمر العزم إلى المشاور عند تردد الآراء ، فإن سلمنا بذلك فقد خرج من صفة المشاور إلى صفة الولي على هذه الشورى ، وحتى لو اتفقت آراء المشاورين على رأي فهو له حق العزم وعدمه ، نعم كل ما هنالك أنه لا يستطيع العزم بأمر مخالف لرأي المستشارين ، وهذا لا يسلبه صفة الولاية .

ومما سبق يتضح أن نظرية الشورى تقع بين محذورين.

آ - إما أن الشورى انعقدت دون رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأولي الأمر ، وهذه شورى باطلة غير شرعية ، والقول الذي يقول بإمكانية الشورى من دون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأولي الأمر بحاجة إلى دليل شرعي ولا دليل عليها .

ص: 140

ب - وإما أن الشورى تمت بوجود ولي أمر يرجعون إليه ، وهذا يتصور على وجوه :

1 -أن يكون ولى الأمر هذا نصب نفسه بنفسه لولاية أمر المسلمين ، فهذا سلوك لا مسوغ له شرعاً ، وهو مصادرة غير مشروعة لحقوق المسلمين ، فكيف تجب طاعته شرعاً على جماعة المسلمين إذا عزم على أمر بعد الشورى ؟

2 - وإما أن تكون هناك جماعة صغيرة ولته أمر المسلمين فنقع في نفس المحذورين اللذين تكلمنا عنهما ، إذ كيف ولوه ؟ فيقع على هذه الصورة م-ا وق-ع على نظرية الشورى من إشكالات إضافة إلى مشروعية التساؤل : ما هو المسوغ الشرعي لطاعة هؤلاء وأين الدليل ؟!

3 - أن يكون الله ورسوله نص عليه ونصبه لولاية الأمر فلا حاجة حينها للشورى ، إذ لا يمكن مخالفة الله ورسوله ، وهذا الرأي عينه نظرية النص فانتفت الشورى ، وعلى أثرها انتفت وبطلت خلافة الأول.

وبهذا يتضح جلياً بطلان نظرية الشورى في تعيين الخلافة من كل الوجوه ، وينبغي صرف موضوع الشورى في الآيات القرآنية إلى وجوه غير تنصيب ولي أمر المسلمين ، كالاستشارة في أساليب الحكم والحرب .. الخ . كما هو سياق الآية «وَشَاوِرْهُمْ».

ولم يبق لهم باب ، اللهم إلا أن يدعوا أن الله تعالى ورسوله الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) نصا على خلافة الأول ، وهذا ما لم يدعه أبوبكر نفسه ، إذ لو كان لاحتج به على الأنصار في سقيفة بني ساعدة .

ص: 141

ومما يتضح أيضاً من آية الشورى أن الله لم يأمنهم على أساليب الحرب التي لم تخرج

الاستشارة من إطارها كما يستفاد من سياق الآية وكما بينته الروايات التي توضح استشارة الرسول لأصحابه في الحرب ، حتى أناط أمر الشورى برس-ول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكيف يأمنهم على أمر أكبر وهو استخلاف خليفة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا لم تأمن إنساناً في إدارة مائة دينار حتى تجعل له وصياً ومرشداً ، فكيف تأمنه على ألف دينار. إن هذا قبيح في حق الإنسان العالم ، وهو قبيح في حق الإنسان العالم، وهو أشد قبحاً في حق الله تعالى ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) .

ثم كيف يعقل أن الله يوكل الأمر إلى الأمة في اختيار خليفتها ، والله ورسوله قد أنذرا بوقوع انقلاب مباشر بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ...»؟ وإذا تأملت في الآيات يتضح لك أن المخاطبين هم من المسلمين ، إذ لا معنى لانقلاب الكافر ، ولا يمكن حملها على مسيلمة الكذاب لأن انقلابه كان على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

وكيف يعقل أن يترك الله ورسوله الأمر سدى بين المسلمين وهو يعلم وقوع الفتن بينهم دون تعيين راع ووال يرجعون إليه ، والتاريخ خير شاهد على ذلك حيث كان فقدان ولي الأمر سبب الفتن التي حدثت بين المسلمين حيث امتد الانحراف حتى تأمر على المسلمين فُسّاقهم وفسادهم ومن لم يك-ن ل-ه ح-ي-اء ولا خلق ولا دين . ولكي تزداد يقيناً ارجع بعقارب ساعتك عبر مصادر التاريخ 14 . قرناً وتوقف قليلاً عند الأمويين والعباسيين الذين تسلطوا على رقاب الناس حقباً

ص: 142

من الزمن ، لكي تتعرف على أمرائهم وحكامهم وكيف كانوا يتجاهرون بش--رب الخمر وكيف كانوا يلاعبون الكلاب والقرود بعدما يكسونها من صافي الحرير والذهب ، وغير ذلك من فضائح الحكام التي يستحي القلم أن يخطها بين السطور . وهذا مما يدلل على مساوىء الاختيار ، وعقم النظرية من أساسها ، لأن من نختاره اليوم قد ننقم عليه غداً ، ثم لا نقدر على عزله بعد توليته ، وقد حاول المسلمون جهدهم عزل عثمان فأبى قائلاً: «لا أنزع قميصاً قمّصنيه الله» .

وبعدما أثبتنا بعد الدليلين اللذين استدلت بها الطائفة الأولى ، التي اعتمدت الشورى كمبدأ سياسي في اختيار الخليفة لإدارة أمور المسلمين بع-د رس--ول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتبين لنا بعدهما عن مقام القيادة والخلافة.

نرجع ونغض الطرف عن هذا ، ونغمض أعيننا ونتجاهل إلى حد الغفلة ، ونسلم بحجية هذين الدليلين في موضوع الخلافة والقيادة ، فهل يشفي ذلك التجاهل والتغافل والتسليم سقم هذه النظرية التي يواجهها (الغموض التشريعي) في كل ما يتعلق بالأطر والأساليب التنفيذية لمضمونها ؟ إن هذين الدليلين لا يقومان انحناء ولا يسدان ثغرة من متطلبات هذه النظرية العميقة المتعددة الأطراف ، حيث تحتاج إلى تحديد وتفصيل لمعناها، كما يفقد النصان المشار إليهما موازين الشورى ومقاييسها وكيفية ضبطها ، إضافة إلى أنها تحتاج في تطبيقها إلى أدوات تنفيذية ووسائل تطبيقية.

ونحن لا نجد في الأحاديث والروايات المأثورة ولا في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قد طرح هذا المبدأ وألزم الأمة بتنفيذه ، ولو كان قد فعل ذلك لوجدنا رسو،

ص: 143

الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد حدد معالمها الواضحة أو أن يكون مارس إعداداً فكرياً وروحياً وسياسياً للتعاطي مع هذا المبدأ.

وعلى الأقل يكون قد هيأ نماذج متعددة مؤهلة لتولي زعامة التجربة وقيادتها والإشراف على التشريع وتنفيذه ، وكما قدمنا تخلو الأدلة عن ملأ هذه الفراغات . فأين تذهبون وكيف تحكمون !؟

ص: 144

ثانياً : الشورى في الواقع العملي

الشورى وسقيفة بني ساعدة

ذكر المؤرخون أن خلافة أبي بكر كانت عن طريق ترشيحه في سقيفة بني ساعدة ، وهي في الواقع الشرعية الأساسية التي يرتكز عليها أبو بكر في خلافته للمسلمين ، فلا يمكن أن يلتزم المسلم بخلافته إلا إذا التزم وآمن بالسقيفة واعتبرها الكيفية الوحيدة التي يمكن من خلالها تعيين خليفة المسلمين ، وبما أننا في البحث السابق أثبتنا بطلان نظريةالشورى كوسيلة لتنصيب خليفة المسلمين، أحببنا في هذا المقام أن نستعرض حادثة السقيفة ، التي هي التطبيق الخارجي النظرية الشورى حتى نستكشف مدى نزاهتها ، ومن ثم يترتب على ذلك الالتزام بها أو عدم الالتزام .

السقيفة في تاريخ الطبري

ذكر الطبري هذه الحادثة بشكل مفصل في تاريخه ج 3 ننقل منه تنقل منه مختصراً على

قدر الحاجة من ص 218 ص 223 كالآتي :

اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة ، وتركوا جنازة الرسول يغسله أهله ، فقالوا : نولّي هذا الأمر بعد محمد ، سعد بن عبادة . وأخرجوا سعداً إليهم وه-و مريض.. فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر سابقة الأنصار في الدين وفضيلتهم في الإسلام ، وإعزازهم للنبي وأصحابه وجهادهم لأعدائه ، حتى استقامت العرب

ص: 145

وتوفي الرسول وهو عنهم راض ، وقال : استبدوا بهذا الأمر دون الناس، فأجابوه بأجمعهم أن قد وفقت في الرأي، وأصبت في القول ، ولن نعدو ما رأيت ، نوليك هذا الأمر . ثم إنهم ترادّوا الكلام بينهم ، فقالوا : فإن أبت مهاجرة قريش فقالوا : نحن المهاجرون وصحابة رسول الله الأولون ونحن عشيرته وأولياؤه ، فعلام تنازعوننا هذا الأمر بعده ؟ فقالت طائفة منهم : فإنا نقول إذاً : منا أمير ومنكم أمير .

فقال سعد بن عبادة : هذا أول الوهن .

سمع أبوبكر وعمر بأمر الأنصار ، فأسرعا إلى السقيفة مع أبي عبيدة بن الجراح وانحاز معهم أسيد بن حضير وعويم بن ساعدة وعاصم ب-ن ع-دي م-ن ب-ني العجلان . تكلّم أبوبكر - بعد أن منع عمر من الكلام - فحمد الله وأثنى عليه ، ثم ذكر سابقة المهاجرين في التصديق بالرسول دون جميع العرب ، وقال : (فهم أول من عبد الله في الأرض وآمن بالرسول ، وهم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده ، ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم) ثم ذكر فضيلة الأنصار ، وقال :( فليس بعد المهاجرين الأولين أحد عندنا بمنزلتكم فنحن الأمراء وأنتم الوزراء) .

فقام الحباب بن المنذر وقال : يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم فإن الناس في فيئكم وفي ظلكم ، ولن يجترىء مجترىء على خلافكم، ولا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم ، وينتقص عليكم أمركم . فإن أبى هؤلاء إلا ما سمعتم فمنّا أمير ومنهم أمير .

فقال عمر : هيهات ! لا يجتمع اثنان في قرن واحد، والله لا ترضى العرب أن

ص: 146

يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولّي أمرها من كانت النبوة فيهم ، وولي أمورهم منها ، ولنا على من آمن الحجّة الظاهرة والسلطان المبين من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ، ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة ؟!

فقام الحباب بن المنذر وقال : يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ، فإن أبوا عليكم ما سألتموهم فاجلوهم عن هذه البلاد وتولّوا عليهم هذه الأمور ، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من لم يكن يدين به ، أنا جُذيلها المُحَكَكَ وعُذيقها المرجب . أما والله لو شئتم لنُعيدنها جَدَعَة.

قال عمر : إذاً يقتلك الله.

قال : بل إياك يقتل .

فقال أبو عبيدة : يا معشر الأنصار ، إنكم كنتم أول من نصر وآزر فلا تكونوا أول من بدل وغيّر .

فقام بشير بن سعد الخزرجي أبو النعمان بن بشير فقال : يا معشر الأنصار إنا والله لئن كنّا أولي فضيلة في جهاد المشركين ، وسابقة في هذا الدين ، ما أردن-ا ب-ه إلا رضا ربنا وطاعة نبينا والكدح لأنفسنا فما ينبغي لنا أن نستطيل عل-ى الن--اس بذلك ، ولا نبتغي به من الدنيا عرضاً فإن الله ولي النعمة وأولى ، وأيم الله لا يراني الله أنا زعهم هذا الأمر أبداً، فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم.

فقال أبوبكر : هذا عمر ، وهذا أبو عبيدة ، ، وهذا أبو عبيدة ، فأيهما شئتم فبايعوا.

ص: 147

148

فقالا : والله لا نتولى هذا الأمر عليك ... إلخ .

وقام عبدالرحمن بن عوف ، وتكلّم فقال : يا معشر الأنصار إنكم وإن كنتم على فضل ، فليس فيكم مثل أبي بكر وعمر وعلي ، وقام المنذر بن الأرقم فقال : ما ندفع فضل من ذكرت ، وإن فيهم لرجلاً لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد - يعني علي بن أبي طالب (علیه السلام)- .

(فقالت الأنصار أو بعض الأنصار : لا نبايع إلا علياً).

(قال عمر : فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى تخوفت الاختلاف فقلت : ابسط يدك لأبايعك ، فلما ذهبا ليبايعاه ، سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه ، فناداه الحباب بن المنذر : يا بشير بن سعد عققت عقاق ! أنفس-ت عل-ى ابن عمك الإمارة ؟

فقال : لا والله ، ولكني كرهت أن أنازع قوماً حقاً جعله الله لهم، ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد، وما تدعو إليه قريش، وما تطلب الخزرج م--ن تأمير سعد بن عبادة ، قال بعضهم لبعض - وفيهم أسيد بن حضير وكان أحد النقباء - : والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة ، لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيباً أبداً ، فقوموا فبايعوا أبا بكر.

فقاموا إليه فبايعوه ، فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا اجتمعوا له من أمر ... فأقبل الناس من كل جانب يبايعون أبابكر وكادوا يطأون سعد بن عبادة .

فقال أناس من أصحاب أصحاب سعد : اتقوا سعداً لا تطأوه.

ص: 148

فقال عمر : اقتلوه ، قتله الله .

ثم قام على رأسه فقال : لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك .

فأخذ قيس بن سعد بلحية عمر فقال : والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة.

فقال أبوبكر : مهلاً ، يا عمر ! الرفق هاهنا أبلغ .

فأعرض عنه عمر .

وقال سعد : أما والله ، لو أن بي قوة ، أقوى بها على النهوض لأسمعت مني في أقطارها وسككها زئيراً يُحجرك وأصحابك ، أما والله إذاً لألحقنك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع . احملوني من هذا المكان ، فحملوه فأدخلوه في داره ...

لا تحتاج هذه الحادثة إلى شرح وتعليق فهي بنفسها تكشف عن كيفية تولي أبي بكر للخلافة .. وأنها بعيدة كل البعد عن الشورى، فالشورى لا تنسجم مع هذا الريب المكاني ، حيث تقع سقيفة بني ساعدة في مزرعة خارج المدينة ، ولكان مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أولى بانعقاد هذا الأمر فيه ، فإنه محل اجتماع المسلمين وموضع المشاورة في أمور الدنيا والدين ، هذا بالإضافة إلى الريب الزماني حيث ما زال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مسجى لم يُوارى جسده الطاهر في التراب ، فكيف سمحت لهم نفوسهم أن يتركوه في هذه الحال ليتنازعوا في أمر الخلافة ، وأقطاب الصحابة وأعاظمهم مشغولون برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

فهل هناك عاقل يسمي هذا الأ هذا الأمر شورى ؟!

وفي الواقع إن القوم لم يبحثوا عن الخلافة الإسلامية الرشيدة التي عن طريقها

ص: 149

تصان وحدة المسلمين وكينونتهم ، فكلماتهم كاشفة عن هذا الأمر.

فقول سعد : استبدوا بهذا الأمر دون الناس ، أجابوه : أن قد وفقت في الرأي وأصبت في القول ، ولن نعدوا ما رأيت .

وقول عمر : من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته.

وقول الحباب : املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهب بنصيبكم من هذا الأمر.

... فهذه الكلمات كاشفة عن نفسية القوم ، فهم لا يريدون إلا سلطة وسلطاناً .

بالإضافة للكلمات الحادة التي وقعت بين الصحابة الذين تع-ب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثة وعشرين عاماً في تربيتهم ، فمثلاً قول عمر للحباب : قتل-ك الله وقول الحباب : بل إياك يقتل ، أو قول عمر لسعد : اقتلوه قتله الله . وقوله : لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك ، أو قول قيس بن سعد لعم-ر وه-و ماسك بلحيته : والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة .

فمثل هذه الكلمات العنيفة التي تخرج في هذا المكان الانتخابي الحساس إلى حد التهديد بالضرب والدعوة للقتل إنما تدل على تلك النفوس المليئة بالحقد والمشبعة بالعداء والكراهية لبعضها البعض... فكيف لنا أن نقبل مشورة مثل هؤلاء- إن صحت الشورى ...؟!

ثم انظر إلى كلماتهم واحتجاجاتهم على بعضهم البعض ، فهي احتجاجات واهية بعيدة عن الصواب ، فاحتجاج عمر مثلاً - وهو أقوى الاحتجاجات : «لا

ص: 150

ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم ، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم ، وولي أمرهم منهم» .

فإذا كان العرب لا يرضون بإمارة من هو بعيد عن النبي ، فبالأولى أن ترضى بإمارة من هو أقرب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو علي بن أبي طالب (علیه السلام)،

ولذلك قال أمير المؤمنين ( علیه السلام ) : «احتجوا بالشجرة وتركوا الثمرة»(1) .

وإذا كانت العرب لا ترضى بإمارة علي (علیه السلام) فبالأولى أن لا ترضى بإمارة رجل من قبيلة تيم ، فإذا كانت هذه حجتهم فلعلي (علیه السلام) الحجة البالغة .

... قال أبوبكر الجواهري في احتجاج علي (علیه السلام) : «وعلي يقول : (أنا عبدالله وأخو رسول الله) حتى انتهوا به إلى أبي بكر ، فقيل له : بايع ، فقال : أن-ا أح---ق بهذا الأمر منكم لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله ، فأعطوكم المقادة وسلموا إليكم الإمارة ، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ، فأنصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم ، واعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفت الأنصار لكم وإلا فبؤوا بظلم وأنتم تعلمون .

فقال عمر : إنك لست متروكاً حتى تبايع.

فقال له علي : احلب له يا عمر حلباً لك شطره ، اشدد له اليوم أمره ليرده

ص: 151


1- شرح النهج لابن أبي الحديد ج 6 ص 4

عليك غداً . لا والله لا أقبل قولك ولا أتبعك (1).

فحاولوا بعدة طرق أن يكسبوا علياً(علیه السلام) ، فقد حاولوا يوماً أن يغيروا العباس فقالوا: أعطوه نصيباً يكون له ولعقبه من بعده فتقطعون به ناحية علي ب-ن أبي طالب وتكون لكم حجة على علي إذا مال معكم» (2) ... وجاء في رد العباس : «فأما ما قلت إنك تجعله لي ، فإن كان حقاً للمؤمنين فليس لك أن تحكم فيه ، وإن كان لنا فلم نرض ببعضه دون بعض ؟! وعلى رسلك فإن رسول الله من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها (3).

وعندما لم ينجح هذا الأسلوب لجأوا إلى أسلوب الإكراه .

قال عمر بن الخطاب : وإنه كان من خبرنا حين توفّى الله نبيه أن علياً والزبير ومن معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة(4).

فبعث إليهم أبوبكر عمر بن الخطاب ليخرجهم من بيت فاطمة ، وقال له : إن أبوا فاقتلهم.

فأقبل - عمر بن الخطاب ومن معه - بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار فلقيتهم فاطمة فقالت :

يابن الخطاب أجئت لتحرق دارنا ؟!

ص: 152


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 11
2- الإمامة والسياسة ، لابن قتيبة ج 1 ص 14 ، تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 124
3- تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 126
4- مسند أحمد ج 1 ص 55 ، الطبري ج 3 / 205 ، ابن الأثير ج 2 ص 331 ، ابن كثير ج 5 ص 246

قال : نعم ، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة (1).

وفي أنساب الأشراف :

فتلقته فاطمة على الباب فقالت فاطمة:

يا ابن الخطاب أتراك محرقاً عليَّ بابي ؟!

قال : نعم(2) .

وقد عد المؤرخون من الرجال الذين تعدوا على دار فاطمة لإحراقها :

1 - عمر بن الخطاب 2 - خالد بن الوليد

3 - عبدالرحمن بن عوف 4 - ثابت بن قيس شماس

5- زياد بن لبيد 6 - محمد بن مسلم

7 - زید بن ثابت 8 - سلمة بن سلامة بن وغش

9 - سلمة بن أسلم 10 - أسيد بن حضير

قال اليعقوبي : فأتوا في جماعة حتى هجموا على الدار - إلى قوله : وكُسر

سيفه - أي سيف على ودخلوا الدار (3).

وقال الطبري : أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين ، فخرج عليه الزبير مسلطاً بالسيف، فعثر فسقط الس-ي-ف م-ن ي-ده

ص: 153


1- العقد الفريد لابن عبد ربه ج 4 / 259 - 260 ، وأبو الفداء ج 1 ص 156
2- أنساب الأشراف ج 1 ص 586 ، كنز العمال ج 5 ص 651 ح 14138 ، الرياض النضرة ج 1 ص 241
3- اليعقوبي ج 2 ص 126

فوثبوا عليه فأخذوه (1) .

ورأت فاطمة ما صنع بهما - أي بعلي والزبير - فقامت على باب الحجرة وقالت : يا أبابكر ، ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله ، والله لا أكلّم عمر حتى ألقى الله (2).

ولهذا ولمنع فاطمة إرثها ومصائب أخرى ، غضبت فاطمة ، ووجدت على أبي بكر فهجرته ولم تكلّمه حتى توفيت ، وعاشت بعد النبي ستة أشهر ... ! فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبابكر (3) - أي لم يحضر جنازتها-...

وفي رواية : أنها قالت له:

والله لأدعون عليك في كل صلاة أصليها (4).

ولهذا قال أبو بكر في مرض موته :

أما إني لا أسي على شيء من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن ، وددت أني تركتهن - إلى قوله : فأما الثلاث التي فعلتهن : فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء ، وإن كانوا قد أغلقوه على الحرب (5).

وفي اليعقوبي : وليتني لم أفتش بيت فاطمة بنت رسول الله وأدخله الرجال ول--و

ص: 154


1- الطبري ج 3 ص 202 ، عبقرية عمر للعقاد ص 173
2- شرح النهج لابن أبي الحديد ج 6 / 49
3- البخاري ج 5 ص 177 ، ج 4 ص 96
4- الإمامة والسياسة ج 1 ص 20
5- الطبري ج 3 ص 430 ، ومروج الذهب ج 2 ص 309 ، والعقد الفريد ج 4 ص 268 ، وكنز العمال ج ه ص 631 - 632 ح 14113 ، والإمامة السياسة ج 1 ص 24 ، وتاريخ الذهبي ج 3 ص 117 - 118.

كان أغلق على الحرب (1).

وفي هذا يقول شاعر النيل حافظ إبراهيم :

وقولة لعلي قالها عمر* أكرم بسامعها أعظم بملقيه

حرقت دارك لا أبقي عليك بها* إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها

ما كان غير أبي حفص يفوه بها* أمام فارس عدنان وحاميه-ا

دیوان حافظ ابراهيم ط . المصرية.

وقد تطور الأمر أكثر من ذلك ، عندما هددوا علياً (علیه السلام) بالقتل ، فقد أخرجوا علياً (علیه السلام) مكرهاً من بيته وذهبوا به إلى أبي بكر وقالوا له : بايع ، فقال : إن أنا لم أفعل فمه ؟

قالوا : إذن والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك .

فقال : إذن تقتلون عبد الله وأخا رسول الله (2).

فبهذه الطريقة التي بدأت فيها الخلافة بالغلبة وانتهت بالإكراه والتهديد بالقتل، لا يمكن أن تكون مصداقاً لنظرية الشورى .

وعندما شعر أبوبكر وعمر بقبيح ما صنعوا ، جاءوا للاعتذار من فاطمة،ولكن بعد فوات الأوان .

قالت لهم فاطمة : أرأيتكما إن حدثتكما حديثاً عن رسول الله تعرفان--ه

ص: 155


1- تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 137
2- الإمامة والسياسة ج 1 ص 20

و تفعلان به ؟

قالا : نعم ؟

فقالت : نشد تكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول : (رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني ، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني) ؟

قالا : نعم ، سمعناه من رسول الله .

قالت : فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه .

وقالت هي تخاطب أبابكر : والله لأدعون الله عليك في كل صلاة أصليها...»(1).

وهكذا لم يستحق أبوبكر خلافة المسلمين بالشورى ، فإن الشورى باطلة نظرياً ، ولم يكن لها وجود في الواقع الخارجي ، فإذا تجاوزنا وسلمنا بأن أبابكر أتى إلى الخلافة عن طريق الشورى ، وأن الشورى هى الطريق الوحيدة لذلك ، فكيف حق له أن ينصب عمراً خليفة من بعده ؟

وبذلك يكون أبوبكر وخلافته أما محظورين :

الأول : أن تكون الشورى هي الطريق الذي جعله الله لتنصيب الخليفة فيكون أبوبكر عاصياً لأمر الله لمخالفته هذا الأمر وتنصيبه لعمر.

ص: 156


1- المصدر السابق ص 20

الثاني : أن لا تكون الشورى أمراً إلهياً ، فتكون خلافة أبي بكر غير شرعية ، لأنها أتت بالشورى التي لم يأمر بها الله .

وبالتبع تكون خلافة عمر وعثمان غير شرعية ، ما عدا الإمام علي (علیه السلام) فقد أجمعت الأمة جميعها على مبايعته بالخلافة بعد مقتل عثمان فضلاً عن النص على خلافته وإمامته من الله ورسوله ، فإن كانت هناك شورى فهي لعلي(علیه السلام) ، وإن كان هناك تنصيب فهو لعلي (علیه السلام) أيضاً ... كما تواترت الأخبار في ذلك.

ولإتمام الفائدة نختم هذا البحث بهذه المناظرة :

قيل لعلي بن ميثم : لمَ قعد على (علیه السلام) عن قتالهم ؟

قال : كما قعد هارون عن السامري وقد عبدوا العجل (1).

كان كهارون حيث يقول : ابن أم إن القوم استضعفوني الأعراف 150 .

وكنوح إذ قال : «أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ » القمر 10 .

وكلوط إذ قال :« لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ » هود 80 .

وكموسى وهارون ، إذ قال موسى :« رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي» المائدة 25 .

وهذا المعنى قد أخذه من قول أمير المؤمنين لما اتصل به الخبر أنه لم ينازع الأولين . فقال (ع) : لي بستة من الأنبياء أسوة ، أولهم : خليل الرحمن إذ قال : «وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ » مريم 48.

فإن قلتم : إنه اعتزلهم من غير مكروه فقد كفرتم .

ص: 157


1- أي حرص على عدم تفريق الأمة والأعداء من حولها يتربصون بها الدوائر كما حرص هارون على عدم تفريق بني إسرائيل « إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ » 94 طه

وإن قلتم : إنه اعتزلهم لما رأى المكروه فالوصي أعذر .

وبلوط إذ قال : « لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ».

فإن قلتم : إن لوطاً كانت له بهم قوة ، فقد كفرتم ، وإن قلتم : لم يكن له بهم قوة ، فالوصي أعذر .

وبيوسف إذ قال : « رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ » .

فإن قلتم : طلب السجن بغير مكروه يسخط الله ، فقد كفرتم .

وإن قلتم : إنه دعي إلى ما يسخط الله فالوصي أعذر .

وبموسى إذ قال :«فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ » الشعراء 21 .

فإن قلتم : إنّه فرّ من غير خوف فقد كفرتم .

وإن قلتم : فر منهم لسوء أرادوه به ، فالوصي أعذر .

وبهارون إذ قال لأخيه :«َ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي» .

فإن قلتم : لم يستضعفوه ولم يشرفوا على قتله فقد كفرتم .

وإن قلتم : استضعفوه وأشرفوا على قتله فلذلك سكت عنهم فالوصي أعذر .

وبمحمد(صلی الله علیه وآله وسلم) إذ هرب إلى الغار وخلّفني على فراشه ووهبت مهجتي الله .

فإن قلتم : إنه هرب من غير خوف أخافوه فقد كفرتم.

وإن قلتم : إنهم أخافوه فلم يسعه إلا الهرب إلى الغار فالوصي أعذر .

فقال الناس : صدقت يا أمير المؤمنين (1) .

ص: 158


1- مناظرات في الإمامة ص 191 - 192، المناقب لابن شهر آشوب ج 1 ص 270

ثالثاً : الصحابة وآية الانقلاب

«وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ »آل عمران / 144 .

إن محور هذه الآية الكريمة يتحدث عن وفاة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وما يحدث بعده من انقلاب ، وقد جمع هذا المحور في ثلاثة ألفاظ (وما محمد) « أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ » « انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ » ، للدخول في عمق هذه الآية وإلقاء الأضواء عليها بشيء من التفصيل ، لابد من طرح بعض الأسئلة المحفزة لاستخراج الفكرة ومحاولة الإجابة عليها.

لماذا لم يكتف الباري بقوله : «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ» ويعقبه مباشرة بقوله :«أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ» مع أن سياق الآية يستقيم بهذا ، وإنما ذكر وبصيغة تأكيدية صفة الرسالة فيه وأنه رسول قد خلت من قبله الرسل ؟

ما الفارق بين الموت والقتل ، فحرف أو العاطف يفيد الافتراق بين المعطوف والمعطوف عليه فما الفرق بينهما ؟ ولماذا هذا الترديد من قبل الله تعالى وهو العالم بأن رسوله (صلی الله علیه وآله وسلم) سيموت ؟ ومن المخاطبون في قوله : ( انْقَلَبْتُمْ) ؟ وعلى ماذا

انقلبوا ؟ ما هي علاقة الانقلاب بوفاة الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) ؟

المقام مقام استقامة فلماذا استخدم لفظة ط«وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» ولم يقل

ص: 159

المستقيمين أو المسلمين أو المؤمنين ؟

قبل الإجابة على هذه الأسئلة لابد من ذكر مقدمتين هامتين :

أولاً : سبب النزول : ذكر أصحاب التفاسير أن سبب نزول هذه الآية كانت الهزيمة التي لحقت بالمسلمين بعد معركة أحد حيث أشاع المشركون أن رسول (صلی الله علیه وآله وسلم) قتل في المعركة مما سبب حالة من الانهزام والتراجع والتشكيك عند بعض المسلمين . فأنزل الله تعالى هذه الآية معاتباً المسلمين على ذلك.

ثانياً : ما هو الأصل في الآيات ؟ هل الأصل في الآيات القرآنية أنها صالحة لكل زمان إلا ما خرج بدليل ؟ أم العكس ؟

والمقصود بذلك أنها لو كانت صالحة لكل زمان فإننا نستطيع تعميم معنى الآية إلى غير زمان سبب نزولها ، وإلا فإننا نتقيد بالسبب الذي نزلت فيه الآية ، وشمولها إلى زمان غير زمانها هو الذي يحتاج إلى دليل .

اتفق علماء المسلمين سنة وشيعة أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبم إذ لو كان الأصل عدم جريان الآيات القرآنية في كل زمان لبطل العمل بالقرآن في الأزمنة التالية أو لتركنا معظم الآيات القرآنية في زاوية الجمود وعدم الصلاحية ، وهذا لا يتماشى مع روح الإسلام ونهجه وتعاليمه وعموميته . هذا هو الدليل العقلي ، ويؤيده من القرآن الكريم، جل الآيات التي تحث على التدبر والعمل بالقرآن الكريم وتوبخ على فعل العكس .

ولو سمحنا للرأي الثاني لما كان معنى لقوله :«وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» إذ الآية تشير لمطلق القرآن ولم تخصصه بجزء يسير أو

ص: 160

ببعضه بل كل الآيات نحاول أن نفهمها وننصت لها ونستخرج العبرة منها ، كما أن

الله أمرنا بالتدبر فيه «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ».

ويوبخ على الإيمان ببعض دون بعض«الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ » الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ويقول تعالى : «وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ »«وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» «كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ »«إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ».

فهذه الآيات تحفزنا على الالتزام بالقرآن كله لا بعضه .

وعلى كل لو التزمنا بالرأي الثاني فإن أحداً من المسلمين لا يرتضيه ، وعلى فرضه فإن الآية التي نحن بصددها لها من الأدلة ما يثبت أنها ليست محصورة بزمان نزولها فقط بل تمتد على حياة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وما بعده وإليك الأدلة:

إن ما شاع في معركة أحد هو قتل الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) ، والآية تتناول حالة شيوع أو وقع موته « أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ ...» ولو كانت مخصصة بزمان نزولها فقط لقال تعالى «أَفَإِنْ قُتِلَ» ولعل ذكر الموت للدلالة على أن ما وقع في معركة أح-د م--ن انقلاب سيقع نظيره بعد ممات الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم).

والفائدة العملية لهذه المقدمة في بحثنا أننا لسنا ملزمين بدليل لتعميم حكم آية الانقلاب إلى غير الواقعة التي نزلت فيها إذا ثبت الأصل الأول وهو الحق كما رأيت ، وعلى القول الثاني لابد من دليل خاص لإثبات أن الآية مخصصة بالواقعة التي من أجلها نزلت آية الانقلاب وأنها تمتد على امتداد حياة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)

ص: 161

وما بعده ، وعلى فرض صحة القول الثاني فإن دليل سريان الآية على امتداد حياة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وبعده موجود ضمن طيات ذات الآية ، أين وكيف ؟

أما أين ففي قوله تعالى :« أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ ...» وأما كيف لأن ما أرجف به

س-

وشاع حول المدينة وفيها عند معركة أحد هو قتل رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) مما حالة الارتداد والانقلاب على الأعقاب فلو أراد الله تخصيص هذه الآية فقط بمعركة أحد لقال : (أفإن قتل ولكن شموله لحالة الموت أيضاً « أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ ...» موحية بشكل لا لبس فيه ، أن ذات الحالة ستتكرر عند وقوع موته حقيقة ، وما الترديد من قبل الله تعالى بحرف أو الذي يفيد الافتراق بين المعطوف والمعطوف عليه كما يجمع على ذلك أهل اللغة ، وهو العالم بالغيب وكيفي-ة م--وت نبيه (صلی الله علیه وآله وسلم) إلا لإرادته شمول الواقعتين ، واقعة شيوع قتله في أحد وواقعة موته (صلی الله علیه وآله وسلم) ووفاته ، وأما من نسب القتل إلى فعل البشر والموت إلى فعل الرب وأن قصد الله في ذكر هذا التفصيل في بطن الآية إنما هو واقعة أحد فقط ، كل ما هنالك أنه قد تغير اللحاظ من فعل البشر إلى فعل الله ؟ فغير دقيق إذ قال تعالى : «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ » فيجوز إذا اسناد فعل القتل إليه سبحانه مع أن سياق الآية لا يساعد على هذا التفصيل إذ أن الله سبحانه وتعالى يتناول ويركز على التوبيخ والاستنكار على الانقلاب وليس ناظراً للتفصيل بين فعل العبد وفعل الرب .

فإن الله علق جواب الشرط وهو الانقلاب «انقلبتم» على فعلي الشرط وهو

ص: 162

الصحابة وآية الانقلاب

« أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ» وهذا التعليق يدل على أن تركيزه واقع على حالة الانقلاب وأنها جاءت عند موته أو قتله ، وإن إدخال حرف الاستفهام على أداة الشرط التي تفيد التوكيد إنما هو للاستنكار والتوبيخ والاستهجان على هذه الحالة.

ويستبعد جداً أن يفهم من يفهم من الآية ما معناه : أفإن شاع عند سماع موت محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) بفعلي وجعلت فعلي عبر قتل الكفار ل-ه بأيديهم انقلبتم عل-ى أعقابكم ، إذ أن النظر الفوقي إلى الآية ككل وبهذا المعنى يخفف كثيراً من حالة توبيخ الله لهم والذي ينبغي عدم التساهل بها في حدث كهذا ويشتت تركيز الآية ويجعل لها محاور عدة وهذا خلاف بيان أي حكيم فما بالك بحكيم الحكماء .

ويؤيد أن الآية الكريمة غير محصورة بهذه الواقعة ما سيأتيك إن شاء الله فی تفصيلاتها الآتية مما يدفع أي شبهة أو شك في عدم محص-وريتها وعموميتها إلى موت الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) وبعده.

ثم اعلم أن للموت معنيين : عاماً والمقصود به قبض الروح«أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ »«وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ»

وهناك معنى خاصاً له يقابل القتل وهو الذي يموت حتف أنفه لفساد بنية حياته ، وأي آية جاءت باللفظتين فى آن واحد أي لفظ الموت والقتل فإن المقصود المعنى الخاص للموت ، ويتأكد ذلك عند استخدام حرف (أو) الذي يفيد المفارقة بين المعطوف والمعطوف عليه ومثال ذلك : «وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ

164

ص: 163

لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ »«وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ »« لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا ».

إذ لو كان في هذه الآيات الموت بمعناه الأعم فليس هناك مسوغ لاستخدام لفظة القتل إذ هو من ضمنه ، وهذا خلاف البلاغة وهذا ما ينطبق على محل خلافنا، ومن هنا يثبت أن المقصود بالموت في آية الانقلاب ه-و المعنى الأخص الذي هو قسم القتل وليس المقسم له(1).

لماذا ركز الله تعالى على صفة الرسالة في رسوله وأنه رسول قد خلت من قبله الرسل ، وكان يكفيه قوله : «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ » ويعقبها مباشرة « أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ »؟

ولأول وهلة في الإجابة على هذا السؤال ، كما ذهب إليه بعض المفسرين ، إنما أراد الله أن يلفت المسلمين إلى حقيقة وهي أن محمداً (صلی الله علیه وآله وسلم) غير مخلد ، ب-ل ه-و ماض وميت ، شأنه شأن بقية الرسل الذين مضوا وماتوا . هذا المعنى ظاهر ولكنه

ليس الوحيد ، إذ لو كان مراده تثبيت صفة الموت له فقط لقال : وما محمد إلا بشر قد خلت من قبله البشر ، للتأكيد على الطابع البشري من الفناء وعدم الخلود فهناك معان أبعد وأعمق من هذا استدعت أن تقدم صفة الرسالة وتؤكد عليه-ا

وذلك :

ص: 164


1- الموت ب- (المعنى (الأعم)

أولاً : فكما أن الدين لم يكن معلقاً على حياة الرسل السابقين ، كذلك فهو غير معلق على حياة الرسول ، (صلی الله علیه وآله وسلم) ، فكمامات الأنبياء السابقون واستمر الدين

بعدهم ، فكذا رسول الله رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) عندما سيموت أو يقتل سيستمر الدين من بعده .

ثانياً : وهو أعمقها غوراً وأثقبها نظرة وأشملها معنىً هو التأكيد على حقيقة تطابق السنن بين الأمم بعد موت رسلها فما حدث لتلك الأمم سيحدث لهذه الأمة حذو القذة بالقذة وطبق النعل بالنعل ، يؤكد هذه الحقيقة القرآن والسنة والواقع ، أما من القرآن فقوله تعالى : «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ». فضمير (هم) راجع على (الرسل) ولو أراد ب-ه عیسی (علیه السلام) فقد لقال من بعده ، ولا يقال أنه أراد به وعيسى (علیه السلام ) على سبيل التفخيم ، لأن موقع الضمير (هم) في مِنْ بَعْدِهِمْ مخل بالبلاغة والفصاحة أن قصد به التفخيم ثم على القول بالعدم، فإنا نقول : إذا دار الأمر بين استخدام اللفظ على نحو الحقيقة أو المجاز فإننا نتمسك بأصالة الحقيقة ، وفي موردنا استخدام (هم) على نحو الحقيقة يرجع على «تلك الرسل »ومن بينهم رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) بدلالة قوله تعالى قبل هذه الآية :«تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ » ومن ثم استطرد الباري مخاطباً «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا

ص: 165

بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض».

ثم إن تطابق السنن يدلّ عليه كثير من الروايات المشهورة الصحيحة المجمع عليها عند المسلمين كقوله (صلی الله علیه وآله وسلم) : «ستتبعون سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة وطبق النعل بالنعل حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه » وقوله (صلی الله علیه وآله وسلم) : «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» وكقوله : «افترقت اليهود إلى

إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى إلى اثنين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاثة وسبعين فرقة اثنان وسبعون في النار وواحدة ناجية» . بل وتدل عليه كثير من الآيات كقوله تعالى : «فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ » وكقوله تعالى «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ »«أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ» .

وإن لأكبر دلالة على تطابق السنن هو واقع الأصحاب بعد موت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) حيث كفّر بعضهم بعضاً وفسق كل منهم الآخر ووصل الأمر إلى التقاتل فيما بينهم في حروب طاحنة راح ضحيتها أكثر من مائة ألف رقبة مسلمة . وهذا مصداق الآية : و« ...وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ

ص: 166

بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا ...» .

وبعد هذا لا يمكن القول : كيف يمكن للأصحاب أن ينقلبوا وهم الذين ضحوا بأموالهم وأنفسهم وقاتلوا أهليهم ووقفوا مع رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) في الشدة والرخاء ورأوا آياته ومعجزاته !!؟ إذ يرد بالإضافة إلى ما مضى.

آ - إن ضمير المخاطبين في (انقلبتم) إنما هو موجه لهم بالذات ، إذ لا يعقل أن يقصد به الكفار أو المنافقين وهم منقلبون في الأساس.

ب - إن العلم لا يشفع لصاحبه أن يستقيم ، فكم من الناس يعلم أن الحق في ضفة ، ولكن هواه يملي عليه الضفة الأخرى فيتبعها ، بل إن أكثر حالات البغي تأتي بعد العلم بالحق «وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ » «وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ » فكل شيء بيّن وواضح (البينات) ولكن اختلفوا واقتتلوا

«وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ»

«أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ » .

ج - إن التضحيات السابقة والصبر على البلاء لا يعصم الإنسان من الانحراف في المستقبل ، وليست بأعظم من التضحيات والصبر على البلاء الذي صب على بني إسرائيل عندما قطع فرعون أرجلهم وأيديهم من خلاف فصبروا وصلبهم فصبروا واستحي نساءهم وأطفالهم وقتل رجالهم فصبروا على التمسك بدعوة موسی (علیه السلام) ورأوا وبشكل واضح معجزات موسى(علیه السلام) الباهرات وكان من

ص: 167

أعظمها انفلاق البحر فرقاً كل فرقة كالطود العظيم ، ولكن ما إن فارقهم موسی(علیه السلام) بضعة أيام حتى عبدوا فيها العجل، وكأن طبيعة الإنسان الطغيان عندما يحس ويستشعر الكفاية والأمان «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ».

د - مهما ارتقى الإنسان في درجات الإيمان فإنه إن لم يكن معصوماً من قبل الله جاز عليه الانقلاب والكفر ، وليس هناك مثل أعظم من بلعم بن باعورا«وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فسَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ » وهل كان أحد من الأصحاب وصل إلى إيمان هذا حيث كان يحمل

الاسم الأعظم ؟ وقد انحرف فما بالك بمن هو دونه ؟

والسؤال هنا : على ماذا تم الانقلاب ؟

بل بدورنا نسأل على ماذا عادة يتم الانقلاب ؟

إن أمامنا في الآية عناصر أولية من خلالها نستطيع التوصل للإجابة ع-بر التحليل والاستنتاج :

آ - إن للانقلاب علاقة مباشرة بوفاة الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) « أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ

ص: 168

انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ».

ب - الانقلاب دلالة على وجود أصل وقع عليه الانقلاب ، أصل معروف لدى جميع المنقلبين عليه ولو لم يكن المنقلبون يعرفون ذلك الأصل لما قيل لهم : « انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ » بل وإن ما وقع عليه الانقلاب كان ملتزماً به لفترة حتى كان الانقلاب .

ج - إن لهذا الأمر صلة وعلاقة مباشرة بالله والرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) وعليهما انقلبوا .

د - إن ضرر هذا الانقلاب يرجع على المنقلبين في الدنيا والآخرة «وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ » «فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا» «وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ » ثم بين الله أن هذا الشكر مردود نفعه إلى ذات العبد وكذا يفهم منه أن عدم الشكر سيرجع بالضرر على العبد ذاته.

ه- - إن هذا الانقلاب مرتبط بسنن الأولين فعلى ما انقلب عليه الأولون انقلب الآخرون .

و - لم يقل تعالى : وسيجزي المؤمنين والمسلمين، بل قال : «وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ » مما يوحي بأن غير المنقلبين هم القلة « وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ » .

ويؤيده قوله :«انْقَلَبْتُمْ» الذي يفيد العموم والكثرة ولو كان المنقلبون قلة لقال :« انقلب بعضكم» ولما صح توبيخ الأكثرية .

ز - إن هذا الانقلاب متحقق وحادث لا محالة بدلالة جواب الشرط الذي يفيد

ص: 169

التحقق عند تحقق الشرط ، واستخدام صيغة الماضي انقلبتم التي تفيد التحقق لا محالة .

ح - إن الخطاب خاص بالمسلمين ومتوجه إليهم ، ولم يُرِدِ الكافرين إذ هم منقلبون في الأصل ، كما لم يرد بخصوص المنافقين فقط إذ هو خلاف ظاهر الآية ، ولو أراد بالخطاب فقط لقال : أظهرتم انقلابكم بل ذات الانقلاب ووقوعه يحدث عند الوفاة مباشرة .

والمعرفة ماهية هذا الانقلاب فعند التحليل والاستنتاج لابد من مراعاة جميع هذه العناصر ، وينبغي أن تكون النتيجة متوافقة معها تماماً وإلا فليست هي .

لقد كان رسول الله حاكماً على المسلمين وبعد وفاته حدث الانقلاب... وبدورنا نسأل : بعد وفاة الحاكم ، على ماذا يقع الانقلاب عادة ؟! ما هو المورد الذي كان يمثل فيه رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) صمام الأمان للأمة من الخلاف بحيث لو لم يكن الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) موجوداً لتفجر هذا النزاع والخلاف ؟ وهل تطرق القرآن لهذا ؟ القرآن لم يتطرق بشكل صريح لأمر كان عظيماً على الناس لم يقبله الكثيرون ، وتخوف الرسول على أمته من تبليغهم إياه ، ولكن كان أمر الله «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ».

وبإلقاء نظرة سريعة ومختصرة على الآية نستكشف:

1 - إن هذا الأمر الواجب تبليغه به يوازي تبليغ الرسالة ، فإذا لم يبلغه فكأنما

ص: 170

لم يبلغ الرسالة ، وبالتالي فإن الكفر به كفر بالرسالة وإن الانقلاب عليه انقلاب على الرسالة .

2 - إن هذا الأمر هو مرد خلاف عظيم بين الناس ، بل إن الرسول خاف على نفسه من الناس ولذا طمأنه الله تعالى «والله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» .

3 - هذا الأمر هو تمام الرسالة لأن مفهوم الآية أنه إذا بلغ هذا الأمر فقد بلغ الرسالة وأكملها«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا» وهذا مطابق لآية الانقلاب التي توحي بأنه انقلاب على الدين كله.

4 - «يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» الغالبية العظمى من الناس كارهة لهذا الأمر الذي أمر الرسول بتبليغه ؟

ما هو هذا الأمر الذي يريد تبليغه ؟

إن هذا الأمر مرتبط أولاً بالانقلاب وذلك:

1 - لأن هذا الأمر مرتبط بالرسالة ، والانقلاب عليه انقلاب على الرسالة.

2 - توجد فيه بوادر الانقلاب لعدم رضا الغالبية .

3 - تحتم على الرسول تبليغه لدنو أجله «إني أوشك أن أدعى فأجيب» حتى لا يترك لهم مسوغاً للانقلاب ويقيم عليهم الحجة كاملة لأن الانقلاب مرتبط بوفاة الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم ).

4 - إن الأمر الذي يريد تبليغه هو الشيء الوحيد الذي يمكن الانقلاب عليه،

ص: 171

إذ بلغ رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) كل الرسالة بفروعها المتعددة ولم يظهر في مفردة م--ن مفرداتها علامة عدم الرضا من المسلمين إلا هذا الأمر الذي تخوف منه رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) فوعده الله بأن يعصمه من الناس.

ه - إن الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم ) كان يمثل فيه صمام الأمان فإذا مات انفلت الأمان وعمل الناس عكسه.

6 - فلم يبق شيء يقع الانقلاب عليه سوى الخلافة المنصبة من قبل الله .

من هو الرجل الذي بلغ رسول الله (ص) خلافته ؟

تواترت الأخبار ونقلت مئات من مصادر المسلمين حادثة الغدير وتنصيب الإمام علي خليفة على المسلمين كما تقدم ذكرها .

ومن هذا ومن غيره من آلاف الأحاديث يتضح أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نصب علياً خليفة وإماماً على الخلق ، ولكن هذا الأمر لم يكن محل رضاً من المسلمين

اللّهُ آل فما خرج رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الدنيا حتى انقلبوا عليه وغصبوا منه حقه ، ولم يثبت منهم إلا القليل كما قال تعالى في ذيل آية الانقلاب : «..وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ » فيتضح منها:

أولا : هؤلاء قلة بدلالة :

آ - «انْقَلَبْتُمْ» التي تفيد العموم والغالبية.

ب- « وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ » .

ص: 172

ثانياً : هذا الشكر قبال الكفر وهو الانقلاب « فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ»«إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا »وهذا السبيل معروف بدلالة :

آ - هدايته إلى هذا السبيل «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ» .

ب - الانقلاب عليه لأن الآية التي سبقت تقول :« وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ » أي الذين اتبعوا بمفهوم هذه الآية السبيل ، ويكون غيرهم كافرين لأنهم انقلبوا على السبيل.

ج - ألف ولام التعريف .

وهذا السبيل موضع بلاء ونعمة في نفس الوقت ، بلاء يبتلى به الناس ونعم-ة لمن سلكه ، ولأن الذي يُشكر هو النعمة ، وعادة يكون الانقلاب الذي يساوي الكفر هو الانقلاب على النعمة أي الكفر بها ، ولما كانت ولاية على نعم-ة «وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي »(1) وقع عليها الانقلاب ولم يسلم إلا القليل ، وما يؤكد ذلك حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : «بينما أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال : هلم ، فقلت : إلى أين ؟ فقال : إلى النار والله قلت : ما شأنهم ؟ قال : إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أرى يخلص منهم إلا مثل همل النعم» (2) فيؤكد هذا الحديث على ما دلت عليه آية الانقلاب

ص: 173


1- كما تقدم إثبات أنها نزلت بعد تولية علی (عليه السلام )في غدير خم
2- البخاري / ج 8 ص 148 - 151 كتاب الرقاق باب في الحوض

أن قليلين يصبحون شاكرين للنعمة ، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) : فلا أرى يخلص منهم إلا مثل همل النعم . فكما أن النعم الشاردة من القافلة قليلة العدد فكذا الأصحاب الناجون هم القلة.

وقال الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إني فرطكم على الحوض من مرّ عليّ شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً ، ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم فأقول : أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي» (1)

وقول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)لأبي بكر حينما شهد الرسول لشهداء أهل الإيمان والجنة وقال : «أما هؤلاء فإني أشهد لهم . فقال أبوبكر : ونحن يا رسول الله ؟ قال : أما أنتم فلا أدري ماذا تحدثون بعدي » (2) .

ص: 174


1- البخاري / ج 9 ص 58 - 59 كتاب الفتن . وقريب منه في صحيح مسلم / ج 1 ص 217 - 218 كتاب الطهارة باب استحباب إطالة الغرّة. وأيضاً صحيح مسلم / ج 4 ص 1792 - 1800 كتاب الفضائل باب اثبات حوض نبينا وصفاته والجزء الرابع صفحة 2194 كتاب الجنة باب ثناء الدنيا .
2- الموطّأ ج 2 ص 461 - 462 ح 32 كتاب الجهاد باب الشهداء في سبيل الله

الفصل السابع : الثلاثي و تحريف الحقائق

اشارة

* المؤرّخون *

* المحدثون *

* الكُتّاب *

ص: 175

ص: 176

أولاً : المؤرّخون

دور التاريخ في استنهاض الأمة

إن الامم التي تتقدم هي الأمم التي تستفيد من عبر التأريخ ، وتستخلص قمة التجارب في حاضرها ، بعد أن تعي سنن التاريخ وقوانينه التي تقود الأمة نحو التحضر ، بالإضافة إلى معرفة أسباب انحلال الأمم وتراجعها ، فلم يخص الله قوماً بقانون دون قوم ، بل هي سنة واحدة لا تتغير قال تعالى : فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً . فالحياة قائمة على حقيقة واحدة وه-ي الصراع الدؤوب بين الحق والباطل وكل الأحداث التي تجري في تاريخ الإنسانية لا تخرج عن كونها واجهة من واجهات الصراع بين الحق والباطل ، فيمكننا بهذه البصيرة أن نغوص في التاريخ ونجعله حيوياً يتفاعل وحياتنا اليومية ، ويمكنن-ا إدراك أعمق ما يمكن إدراكه في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ أمتنا الإسلامية التي تعيش أعنف التقسمات المذهبية ، ومن أجل ذلك لابد أن نتجاوزانفعالاتنا النفسية وانشداداتنا العاطفية ونحكّم قواعدنا وبصائرنا القرآنية ، حتى نتمكن من القدرة الموضوعية على التحليل والنظر من سطح الأحداث إلى جوهرها ، فنصل إلى رؤية واضحة وواقعية بدلاً عن الرؤية الخاطئة والمشوشة . فلنبدأ كما لو أن القرآن نزل علينا من جديد ، فنقرأ التاريخ من وحي قوله تعالى : «أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً

ص: 177

وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ »

وبالعكس تماماً تجد الأمة الجامدة عاجزة عن فهم التاريخ وقوانينه وتجاربه فتفقد بذلك الرؤية والبصيرة التى تجعلها قادرة على استيعاب الحاضر والسير نحو المستقبل .

*السلطات وتحريف التاريخ *

إذن فكل سؤال أو استنكار في البحث التاريخي بداعي عدم إثارة الفتن القديمة أو أي داعي آخر لا محل له ، وإن دل فإنما يدل على جهل صاحبه ، وفي الواقع إن كانت هناك فتنة فهي بسبب ما حدث في التاريخ من تزييف وتحريف ، وإلاّ فالتاريخ بما هو ، هو مرآة صافية تعكس الماضي للحاضر من غير خداع أو دجل ، ولكن عندما سقط التاريخ في أيدي السياسات المنحرفة تذبذبت صورته وتبدلت أشكاله ، ومن هنا تعددت الآراءواختلفت المذاهب ، وإلا لو كان التاريخ سليماً لا نكشف زيفها وعُرف باطلها.

وما تعانيه الأمة الإسلامية اليوم من فرقة وشتات وتمزق في الصفوف ما هو إلا نتاج طبيعي للانحرافات التي حدثت في التاريخ من تدليس المؤرخين وكتمهم للحقائق ، فهم جزء لا يتجزأ من المخطط الذي استهدف مدرسة أهل البي-ت م-ن أجل مصالح سياسية ، فقد عمل هذا المخطط على كافة الأصعدة والمستويات ليُشكل تياراً آخر ذا مظهر إسلامي في قبال الإسلام الحقيقي الأصلي . وبما أن

ص: 178

التاريخ شاهد عيان ينقل كل ما رأى فلا بد للمخطط أن يسكته أو يعمي عليه حتى لا يفضحه ويكشف حليته ، ومن هنا كان التاريخ تحت قبضة السياسة الحاكمة يدور معها حيثما دارت ، فأصبح المؤرخون تحت تهديد أو إغراء السلاطين ترتعش الريشة في أيديهم لتزييف الحقائق ، إن السياسة التي اتبعها التيار الأموي ومن بعده العباسي كانت تستهدف من الأساس تشويه صورة أهل البيت (علیه السلام) ، فكان مجرد التظاهر بالحب لعلي بن أبي طالب وأهل بيته كفيل بهدم الدار وقطع الرزق - حتى تتبع معاوية شيعة على قائلاً : اقتلوهم على الشبهة والظنة – وحتى بات ذكر فضائلهم جريمة لا تغتفر ، وللتعرف على المأساة التي لاقوها أئمة أهل البيت وشيعتهم في التاريخ ارجع إلى كتاب مقاتل الطالبيين» لأبي الفرج الأصفهاني .

فما بال المؤرخين ، هل يتسنى لهم في تلك الظروف القاسية تدوين مناقب وفضائل أهل البيت وذكر سيرتهم العطرة ؟!

وهكذا أصبحت الأمة تتوارث جيلاً بعد جيل حقائق مشوهة ، بل تطور الأمر إلى أكثر من ذلك عندما أصبح العلماء المتأخرون يبررون للسابقين وينقلون عنهم من غير تأمل أوتدبر ، فتأصلت حالة العداء لأهل البيت وشيعتهم وحالة الجهل والغفلة في الآخرين ، فليس غريباً من ابن كثير عندما يأتي لذكر جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام) في حوادث مائة وثمان وأربعين هجرية لا يزيد على قوله : وفي--ه مات جعفر بن محمد الصادق ، فيذكر موته ولا يروق له ذكر شيء من حياته ، والشواهد على تحريف المؤرخين كثيرة ... نكتفي بذكر نماذج منها :

ص: 179

كيف أرخوا لتاريخ التشيع ؟

آ - فقد أرَّخ الطبري - أول مؤرخ في الإسلام - ومن نقل عنه من المؤرخين، مؤسس الشيعة هو يهودي ، اسمه عبدالله بن سبأ من أهل صنعاء .

وأذكر أن أول ما سمعتُ بهذا الاسم كان من أحد أقاربنا وهو تابع للوهابية ،فكان يقول : الشيعة يهود يرجعون في الأصل إلى عبد الله بن سبأ اليهودي ، وبعد البحث في هذا الأمر ، وجدتهم يضربون على نفس طبول إحسان إلهي ظهير ، وأنا أكتب هذا الكلام وبين يدي كتابه الشيعة والتشيع» وهو ينقل هذه الأكاذيب من الطبري وغيره من المؤرخين ، وهنا ننقل عنه ما نقله عن الطبري: (ولقد ذكره أقدم المؤرخين الطبري بقوله : «كان عبد الله بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء أمه سوداء فأسلم زمان عثمان ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم فبدأ بالحجاز ثم البصرة ثم الكوفة ثم الشام فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام ، فأخرجوه حتى أتى مصر ، فاعتمر فيهم فقال لهم فيما يقول : لَعَجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب بأن محمداً يرجع وقد قال الله عزوجل : «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ » فمحمد أحق بالرجوع من عيسى ، قال : فقبل ذلك عنه ووضع لهم الرَّجعة فتكلموا فيها ، ثم قال : لهم بعد ذلك إنه كان ألف نبي ولكل نبي وصي ولكل نبي وصي وكان علي وكان علي وصي محمد، ثم قال : محمد خاتم الأنبياء ، وعلي خاتم الأوصياء ، ثم قال بعد ذلك من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، ووثب علي وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وتناول أم--ر الأم--ة ، ثم قال لهم بعد ذلك : إن عثمان أخذها بغير حق وهذا وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

ص: 180

فانهضوا في هذا الأمر فحركوه ، وابدؤوا بالطعن على أمرائكم ، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس ، وادعوهم إلى هذا الأمر . فبث دعاته وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه ، ودعوا في السر إلى ما علي-ه رأيهم ، وأظهروا الأمربالمعروف والنهي عن المنكر ، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم ، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك ويكتب أهل ك-ل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون فيقرؤه أولئك في أمصارهم وهؤلاء ء في أمصارهم ... إلخ » .

وبهذا ينسبون عقائد الشيعة وتاريخهم إلى عبدالله بن سبأ وبذلك جعلوا حواجز نفسية بين الباحثين والحقيقة ، وعندها ساروا على منوال المؤرخين من غير بحث أو تدقيق ، فنجد الكاتب أحمد أمين مثلاً في كتابه - فجر الإسلام -- بعد أن ينقل قصة عبدالله بن سبأ ويرسلها إرسال المسلّمات ، يجد الطريق أمامه مفتوحاً لكيل التهم والأكاذيب على الشيعة فيقول في ص 269 : ولم يكتف غلاة الشيعة بهذا القدر في علي ، ولم يقنعوا بأنه أفضل الخلق بعد النبي وأنه معصوم ، بل الهوه فمنهم من قال : «حل في علي جزء إلهي ، واتحد بجسده فيه ، وبه كان يعلم الغيب» ثم بعد ذلك ينقل خرافة ابن سبأ ويحلل فيها ثم يستخلص هذه النتيجة قائلاً: «والحق أن التشيع كان مأوى يلجأ إليه كل من أراد هدم الإسلام لعداوة أو حقد ... وم-ن ك-ان يريد إدخال تعاليم آبائه من يهودية ونصرانية وزرادشتية وهندية ...» وهو يقول ذلك مرتجلاً من غير بحث أو تدقيق ، بل كحاطب ليل لا يعى ما يقول ، ولكن ليس اللوم عليه ، فم-اجاء به هو نتاج لانحراف التاريخوالمؤرخين .

ص: 181

وهكذا كان التاريخ وكانت السبأية عاملاً مهماً في تزييف الحقائق وضلال الأمة ، ولقد تصدى علماء الشيعة لفكرة السبأية وبحثوها بكل تجرد ودقة فلم تظهر أمامهم إلا قصة مفتعلة ، ولقد أفرد لها العلامة مرتضى العسكري مجلدين سماهما - عبدالله بن سبأ وأساطير أخرى - تتبع فيها رواية ابن سبأ في ك-ل المصادر التاريخية ، ولا يسعني المجال لسرد الأدلة التي تكشف حقيقتها فأكتفي هنا بإشارات :

- ترجع هذه الأكذوبة إلى راو واحد وهو - سيف بن عمر - وهو مؤلف كتاب .. (الفتوح الكبيرة والردة) و (الجمل ومسيرة عائشة وعلي) ونقل عنهما الطبري في تاريخه موزعاً على حوادث السنين ، وابن عساكر ، والذهبي في تاريخه الكبير.

قول العلماء في سيف بن عمر

1) قال يحيى بن معين «ت 233 ه- » : ضعيف الحديث فلس خير منه.

2) أبو داوود «ت 275 ه-» : ليس بشيء كذاب.

3) وقال النسائي صاحب الصحيح « ت 303 ه- » : ضعيف ومتروك الحديث ليس بثقة ولا مأمون.

4 )وقال ابن حاتم ت 327 ه-» : متروك الحديث .

5) وقال ابن عُدي «ت 365 ه-» : يروي الموضوعات عن الأثبات ، اتُهم بالزندقة ، وقال : قالوا : كان يضع الحديث.

6) وقال الحاكم «ت 405 ه- » : متروك ، وقد اتهم بالزندقة .

ص: 182

7) وَهّاهُ الخطيب البغدادي «ت 406 ه-» :

8) ونقل ابن عبدالبر «ت 463 ه- عن ابن حبان أنه قال فيه : سيف متروك ، وإنما ذكرنا حديثه للمعرفة » ولم يعقب ابن عبدالبر على هذا الحديث شيئاً .

9) وقال الفيروز آبادي ، صاحب تواليف ، وذكره مع غيره وقال عنهم : ضعفاء .

10) وقال ابن حجر «ت 852 ه-» بعد إيراد حديث ورد في سنده اسمه : فيه ضعفاء أشدهم سيف .

11) وقال صفى الدين «ت 923 ه-» : ضعفوه ، روى ل-ه الترمذي ف--رد حديث . وهذا رأي العلماء في سيف بن عمر مدى العصور .

فكيف بهذه البساطة يسترسل المؤرخون مع روايته ؟! وكيف بني عليه-ا الباحثون آراءهم ، وهذا بالإضافة للاختلافات التي وقعت في اسمه . هل هو ابن السوداء ؟! أم عبدالله بن سبأ . والاختلاف الذي وقع في ظهوره بين الروايات ، هل ظهر في أيام عثمان كما يقول الطبري، أم كما يقول سعد بن عبدالله الأشعري في المقالات والفرق : أنه ظهر في أيام على أو بعد موته !

ولماذا سكت عنه عثمان الذي لم يسكت حتى عن أكابر الصحابة أمثال أبي ذر وعمار وابن مسعود ؟

بل هو في الواقع حلقة من مسلسل الوضع على الشيعة ، كما قال طه حسين : ابن سبأ شخص ادخره خصوم الشيعة للشيعة ولا وجود له في الخارج».

ص: 183

وتستهدف هذه المحاولة تشويه عقائد الشيعة التي تنبع من القرآن والسنة ، مثل الوصية والعصمة ، فلم يجد أعداؤهم طريقاً إلا ربط هذه العقائد بجذر يهودي ، يكون بطلها شخصاً خيالياً اسمه عبدالله بن سبأ فيُلقى اللوم بذلك عليه وعلى الذين أخذوا منه ،وهذا بالإضافة إلى تعديل صورة الصحابة وتنزيههم عن اللوم والعتاب ، بما جرى بينهم من فرقةواختلاف انتهت بقتل عثمان ، وحرب الجمل التي تعتبر أكبر فاجعة بعد حادثة السقيفة ، حيث راح ضحيتها آلاف من الصحابة ، وما هذه القصة المفتعلة عن ابن سبأ إلا تغطية على تلك الفترة الزمنية الحرجة ، فألقوا مسؤولية ما حدث على هذه الشخصية الوهمية وأسدلوا على ذلك الستار ، وإلا من غير ذلك يكون الصحابة أنفسهم مسؤولين عما حدث ، من انشقاق الأمة وتفرقهم إلى مذاهب ومعتقدات شتى ولكن هيهات ، لا يُدفع الخطر عن النعامة إذا وارت رأسها في التراب ، فقد جاؤوا بعذر أقبح من ذنب . فكي-ف يتسنى لهذا الدخيل أن يعبث كل هذا العبث ، حتى غيّر تاريخ الإسلام العقائدي ، والصحابة شهود على ذلك ؟!!!

نموذج آخر :

ب - هناك حذف تام لفضائل على وأهل بيته بصورة متعمدة من التاريخ ، فهذا ابن هشام ناقل سيرة ابن إسحاق ، يقول في مقدمة كتابه : «وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب ... وأشياء يشنع الحديث بها ، وبعض يسوء الناس ذكره ..».

ص: 184

ممهداً بذلك إلى كتم الحقائق ودفنها ، فمن بين هذه الأشياء التي يسوء الناس ذكرها ، خبر دعوة الرسول لعبد المطلب عندما أمره الله «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ».

فقد ذكرها الطبري بإسناده ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فأحجم القوم عنها جميعاً ، وقال علي (ع) : أنا يا نبي الله أكون وزيرك .. قال الرسول : إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ، قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع (1).

فهل هذه الرواية مما يسوء الناس ذكرها ؟ ! أو يشنع يشنع الحديث بها ؟!

لا يعجبك ذكر الطبري لهذه الحادثة، فسرعان ما تراجع عن ذلك فروى في تفسيره هذه الحادثة مع تدليسها وتحريفها قال : فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي وكذا وكذا ... ثم قال : إن هذا أخي وكذا وكذا فاسمعوا له وأطيعوا (2).

فماذا تعني كذا وكذا ؟!

أما ابن كثير في تاريخه عند ذكر هذه الحادثة فأعجبه ما صنعه الطبري في تفسيره فسار على خطته من غير حياء أو أمانة علمية ، فقال : كذا وكذا ... !(3) .

ص: 185


1- الطبري بتلخيص - ط . الأولى ، مصر ج 2 ص 216 - 217
2- تفسير الطبري . ج 19 ص 74 - 75
3- البداية والنهاية ج 3 ص 40

فانظر إلى هذه الحادثة الواحدة التي تتناول فضيلة من فضائل أمير المؤمنين وأحقيته في الخلافة ، انظر كيف فعل بها المؤرخون ، فابن هشام لم يستطع أن يتحايل عليها فحذفها من الأساس ، وأما الطبري وتبعه ابن كثير فزيّفاها وأبهما معناها ... فتأملوا .

ج-- - وإليك نموذجاً آخر من تحريفات المؤرخين للحقائق ، فكما أنهم يخفون فضائل على ( الله ) وأهل بيته ، ففي المقابل يخفون كل ما يشين وينقص م-ن ح-ق الصحابة وبالخصوص الخلفاء ، وإليك هذه الحادثة التي تجمع كلا الاتجاهين من إخفاء لفضائل على (ع) وإخفاء لفضائح الخلفاء :

أخفى المؤرخون وأولهم الطبري، الرسائل التي جرت بين محمد بن أبي بكر -- من شيعة أمير المؤمنين - ومعاوية بن أبي سفيان . لأن فيها إثباتاً لوصاية الإمام علي (ع) وكشفاً لأمر الخلفاء ، فاعتذر الطبري بعدما ذكر إسناد الرسالتين ، بأن فيهما ما لا يتحمل العامة سماعه ، ثم جاء من بعده ابن الأثير وفعل ما فعله الطبري ، ثم سار على نهجهم ابن كثير فأشار إلى رسالة محمد بن أبي بكر وحذف الرسالة وقال : «وفيها غلظة» . وما فعله المؤرخون الثلاثة ، هو من أبشع أنواع كتم الحقائق ، فهو يكشف بكل وضوح عدم أمانتهم العلمية .

فماذا يقصدون من قولهم : «عدم احتمال العامة سماع ما فيها» ؟

هل لأن العامة لا تبقى على عقيدتها بالخلفاء بعد سماع الكتابين ؟

وإليك مختصراً من رسالة محمد بن أبي بكر إلى معاوية ، ورد الأخير عليه ، من كتاب

- مروج الذهب للمسعودي - :

ص: 186

... من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر - ثم ذكر الرسول ( صلی الله علیه وآله وسلم) والثناء عليه .. - وبعثه رسولاً ومبشراً ونذيراً ، فكان أول م-ن أجاب وأناب وآمن وصدق وأسلم وسلّم أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب : صدقه بالغيب المكتوم وآثره على كل حميم ، ووقاه بنفسه كل هول وحارب حربه وسالم سلمه ... لا نظير له .. اتبعه ، ولا مقارب له في فعله ، وقد رأيتك تُساميه وأنت أنت ، وهو هو ، أصدق الناس نية ، وأفضل الناس ذرية ، وخير الناس زوجة وأنت اللعين ابن اللعين ، لم تزل أنت وأبوك تبغيان لرسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم) الغواية وتجهدان في إطفاء نور الله ، تجمعان على ذلك الجموع وتبذلان فيه المال ، وتؤلبان عليه القبائل ، وعلى ذلك مات أبوك ، وعليه خلفته ...

-ثم ذكر أنصار علي وأتباعه وقال : يرون الحق في اتباعه ، والشقاء في خلافه ، فكيف يالك الويل ! ، تُعدل أو تقرن نفسك بعلي وهو وارث رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم) ووصيه وأبو ولده : أول الناس اتباعاً ، وأقربهم به عهداً ، يخبره بسره ، ويطلعه على أمره ، وأنت عدوه وابن عدوه ، فتمتع في دنياك ما استطعت بباطلك . وليمددك ابن العاص في غوايتك ، فكأن أجلك قد انقضى وكيدك قد وهن ثم يتبين لمن تكون العاقبة العليا ، واعلم أنك إنما تكايد ربك الذي أمنت كيده ويئست من روحه ، فهو لك بالمرصاد وأنت منه في غرور ، والسلام على من اتبع الهدى(1) .

ص: 187


1- مروج الذهب - للمسعودي - ج 3 ص 11 - 12

188

رسالة معاوية في الرد على محمد بن أبي بكر . باختصار :

«من معاوية بن صخر ، إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر ...- يتحدثعن رسالة محمد بن أبي بكر قائلاً:

ذكرت فيه ابن أبي طالب ، وقديم سوابقه وقرابته إلى رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم) ومواساته إياه في كل هول وخوف فكان احتجاجك عليَّ وعيبك لي بفضل غيرك لا بفضلك ، فأحمد رباً صرف هذا الفضل عنك وجعله لغيرك ، فقد كنا وأبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب وحقه لازماً لنا مبروراً علينا ، فلما اختار الله لنبيه عليه الصلاة والسلام ما عنده وأتم له ما وعده ، وأظهر دعوته ، وأبلج وأبلج حجته ، وقبضه الله إليه صلوات الله عليه ، فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه حقه ، وخالفه على أمره ، على ذلك اتفاقاً واتساقاً ، ثم إنهما دعوه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما ، وتلك-اً عليهما ، فهما به الهموم وأرادا به العظيم ، ثم إنه بايعهما وسلَّم لهما ، وأقاما لا يشركانه في أمرهما ولا يطلعانه على سرهما حتى قبضهما الله ... أبوك مهد مه-اده وبنى لملكه وساده ، فإن يك ما نحن فيه صواباً فأبوك استبد به ونحن شركاؤه ، ولولا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبن طالب ، وسلّمنا إليه ، ولكن رأينا أباك فعل ذلك به قبلنا فأخذنا بمثله ، فعب أباك فما بدا لك أو دع ذلك . والسلام على من أناب» (1) .

فقد عرفت بذلك السر الذي منع الطبري وابن الأثير وابن كثير من نقل هذه لأنها تكشف واقع الصراع والخلاف الذي حدث بين المسلمين في أمر الخلافة.

ص: 188


1- المصدر السابق ج 3 / 12 - 13

التي هي حق لعلي ، فهذا معاوية يعترف بذلك ولكنه يعتذر بأن خلافته هي امتداد لخلافة أبي بكر ، ويشنع بذلك على ابنه محمد بن أبي بكر) حتى يسكته عن الكلام في هذا الأمر .

...ولكن لا عليك يا معاوية فإن لم يسكت محمد بن أبي بكر ولم يستر أمرك فقد سكت عنها الطبري وابن الأثير وابن كثير.

والشواهد على ذلك كثيرة من تزييف المؤرخين وتحريفهم للحقائق ، يطول بنا المجال باستقصائها ، والمتتبع في التاريخ يجد ذلك جلياً ، ومن العجب أن المؤرخين لايسترون ما فعلوه من التحريفات ، فتجد إشارةً واضحة على ما فعلوه ، فمثلاً فيما حدث لأبي ذر من إهانات جرت له من سوء معاملة عثمان له ، ففي هذا يقول الطبري : فقد ذُكر في سبب إشخاصه - أي أبي ذر - إياه منها -- أي من الشام - أمور كثيرة كرهت ذكر أكثرها » !

وبهذه الصورة الواضحة نكتشف تحريف الطبري للحقيقة .

ص: 189

ثانياً : المحدثون

عندما تقف أمام المؤامرات التي حيكت في الحديث ، وتبديل حقائقه ، تشعر بضرورة نظرية الشيعة ، أي لابد من حاكم وإمام معصوم يحفظ شرع الله ويثبت أركانه ، فإن لم يكن معصوماً نزيهاً فسوف يُسخّرُ الدين لخدمة أهدافه وسياساته ويُحرّف الحديث لمصلحته ، هذا إذا لم يحاربه ويمنع من كتابته ونشره ، كم-ا م-ر عليك من فعل الخلفاء الثلاثة - أبي بكر ، عمر ، عثمان - الذين منعوا من رواية الحديث وأحرقوا ما عند المسلمين وحبسوا الصحابة بالمدينة حتى لا ينشروا الحديث في المناطق الأخرى ، وقال الإمام على (علیه السلام ) في ذلك : «قد عملت الولاة قبلى أعمالاً خالفوا فيها رسول الله متعمدين بخلافه ، ناقضين لعهده ، مغيّرين لسنته ...» .

وأنا لن أتناول هذه الفترة في هذا الفصل، وسأكتفي بالإشارات السابقة ، وإنما سوف أتناول هنا عهد تدوين الحديث الذي يعتبر عند أهل السنة العصر الذهبي للحديث ، مع الإشارة لما فعله معاوية من وضع الأحاديث وكتم فضائل أهل البيت.

أ . الحديث في عهد معاوية:

ويمكن أن نطوي فترة معاوية بما نقله المدائني في كتاب الأحداث ، يقول : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة (1) أن :« برئت الذمة ممن روى

ص: 190


1- هو العام الذي جمع فيه معاوية شيعته سنة 42 ه- وسماهم أهل السنة والجماعة وبذلك اشتهر بعام الجماعة

شيئاً في فضل أبي تراب - أي الإمام علي (علیه السلام) - وأهل بيته» ، فقامت الخطباء في كل كورة ، وعلى كلِّ منبر يلعنون علياً ويبرأون منه ، ويقعون فيه وفي أهل بيته . وكان أشد الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة لكثرة ما بها من شيعة علي (علیه السلام)عالية. فاستعمل عليهم زياد بن سُمية ، وضم إليه البصرة، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم . أيام علي (علیه السلام) ، فقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشردهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم . وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق : أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة وكتب إليهم ، أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه ، وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم واكتبوا إلي بكل مايروي ي-رجل منهم ، واسمه وايم أبيه وعشيرته ، ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه ، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع ، ويعظمهم في العرب منهم والموالي فكثر ذلك في كل مصر ، تنافسوا في المنازل والدنيا ، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمال معاوية ، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه وقربه وشفعه ، فلبثوا بذلك حيناً».

ويضيف المدائني يقول : «ثم كتب إلى عماله أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية . فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإن هذا أحبُّ إليَّ

ص: 191

وأقرُّ لعيني ، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله » .

ثم يواصل قوله : «فقرئت كتبه على الناس فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجَدَّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر ، وألقى على معلمي الكتاتيب ، فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن ، وحتى علموه بناتهم ونساءهم ،وخدمهم ، وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله» .

ويضيف :« ثم كتب إلى عماله نسخة إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البينة أنه يجب علياً وأهل بيته ، فامحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه ، وشفع ذلك بنسخة أخرى : من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره . فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق ، ولا سيما بالكوفة ، حتى أن الرجل من شيعة علي (علیه السلام) ليأتيه من يثق به ، فيدخل بيته ، فيلقي إلي-ه س-ره ويخاف من خادمه و مملوكه ، ولا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ، ليكتمن عليهم ، فظهر حديث كثير ،موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة . وكان أعظم الناس في ذلك بلية ، القراء المراؤون والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقدروا مجالسهم ، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل حتى انتقلت تلك

ص: 192

الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين ، الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها ، وهم يظنون أنها حق ، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها» (1) .

ويتضح لک من ذلك شدة المؤامرة التي حيكت لتزييف الحقائق إلى درجة أنهم أحلوا الكذب على رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) ، وكل هذا يرجع للعداء الشديد الذي يحمله معاوية لعلي وشيعته ، ولذلك جندَ معاوية كل إمكانياته للوقوف في وجه علي وشيعته ، فكانت أول خطوة هي تعرية الإمام (علیه السلام) من كل فضيلة ومنقب-ة ب--ل

الله لعنه على المنابر لمدة ثمانين عاماً . والثانية هي تشكيل سياج ذي مظهر جميل خلاب حول مجموعة من الصحابة حتى يكونوا رموزاً بدلاً من الإمام علي (علیه السلام) ، فتحت تهديدات معاوية وإغراءاته انجرف لخدمته مجموعة من المنافقين يضعون الأحاديث كذباً على رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) تحت ستار أنهم صحابة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ).

قال أبو جعفر الإسكافي : إن معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي تقتضي الطعن فيه ، والبراءة منه وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله ، فاختلقوا ما أرضاه - منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير ...»(2).

ص: 193


1- تأملات في الصحيحين ص 42 - 44
2- أبو هريرة - محمود أبو ريه - ص 236

فهكذا باع هؤلاء القوم آخرتهم بدنيا معاوية ، فهذا هو أبو هريرة كما يروي الأعمش . قال: لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة ، جاء إلى مسجد الكوفة ، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس ، جثا على ركبتيه ، ثم ضرب صلعته مراراً ، وقال : يا أهل العراق أتزعمون أني أكذب على الله وعلى رسوله ، وأحرق نفسي بالنار ؟! والله لقد سمعت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) يقول : إن لكل نبي حرماً وإن حرمي بالمدينة ما بين عير إلى ثور(1) ، فمن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله ، والملائكة والناس أجمعين ، وأشهد بالله أن علياً أحدث فيها . فلما بلغ معاوية قوله أجازه ، وأكرمه ، وولاه المدينة(2).

وإليك سَمُرَةَ بن جندب نموذجاً آخر من عمال معاوية في وضع الأحاديث جاء في شرح النهج لابن أبي الحديد : روي أن معاوية بذل السمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروي أن هذه الآية نزلت في علي «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ »(3).

وأن الآية الثانية نزلت على ابن ملجم - قاتل علي بن أبي طالب --- وهي قوله تعالى : «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ » (4) . فلم يقبل - أي

ص: 194


1- قال ابن أبي الحديد في شرحه : الظاهر أنه غلط من الراوي ، لأن ثور بمكة ... والصواب ما بين غير واحد
2- أحاديث أم المؤمنين عائشة ص399
3- سورة البقرة ، الآية -205-204
4- سورة البقرة ، الآية 207

سمرة - فبذل - أي معاوية - له مائتي ألف درهم فلم يقبل أيضاً . فبذل ل-ه أربعمائة ألف درهم فقبل»(1).

روى الطبري : سُئل ابن سيرين ، هل كان سمرة قتل أحداً ؟ ! فقال : وهل يحصى من قتل سمرة بن جندب ؟! استخلفه زياد على البصرة ، وأتى الكوفة فجاء وقد قتل ثمانية آلاف من الناس . وروى أنه قتل فى غداة واحدة سبعاً وأربعين كلهم قد جمعوا القرآن (2) .

فيا تُرى هل يكون هؤلاء المقتولين غير شيعة علي (علیه السلام ) ؟!

وقال - أي الطبري - : مات زياد وعلى البصرة سمرة بن جندب، فأغره معاوية أشهراً ، ثم عزله فقال سمرة : لعن الله معاوية ، والله لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذبني أبداً (3).

أما المغيرة بن شعبة فقد صرح بهذه الضغوط التي سلطها عليه معاوية .

روى الطبري عنه : أن المغيرة بن شعبة قال لصعصعة بن صوحان العبدي وكان المغيرة يومذاك أميراً على الكوفة من قبل معاوية - : إياك أن يبلغني عنك أنك تعيب عثمان عند أحد من الناس ، وإياك أن يبلغني عنك أنك تذكر شيئاً من فضل علي علانية فإنك لست بذاكر من فضل علي شيئاً أجهله . بل أنا أعلم بذلك ، ولكن هذا السلطان - يقصد معاوية - قد ظهر وقد أخذنا بإظهار عيبه-

ص: 195


1- أحاديث أم المؤمنين ص 400
2- في حوادث سنة خمسين من تاريخ الطبري ج 5 / 236 - 237 وابن الأثير ج 3 ص 462 - 463
3- في حوادث سنة 53 من تاريخ الطبري ج 5 / 291 ، وابن الأثير ج 3 ص 495

أي على - للناس ، فنحن ندع كثيراً مما أمرنا به ، ونذكر الشيء الذي لانجد منه بدأ ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا تقية ، فإن كنت ذاكراً فضله فاذكره بينك وبين أصحابك ،وفي منازلكم سراً ، وأما علانية في المسجد ، فإن هذا لا يحتمله الخليفة لنا ولا يعذرنا فيه...» (1).

وهكذا استجاب لمعاوية جمع من الصحابة والتابعين ، ومن رفض قتل ،كالشهيد حجر بن عدي وميثم التمار وآخرين .

وبهذا ظهرت في تلك الفترة آلاف من الأحاديث المكذوبة التي تنسج فضائل وبطولات للصحابة وخاصة للخلفاء الثلاثة - أبي بكر - وعمر ، وعثمان -- ثم تناقل هذه الأحاديث جيل بعد جيل حتى دونت في المصادر المعتمدة.

وإليك بعض النماذج من الأحاديث المكذوبة ، ومن أراد التوسع فليرجع إلى موسوعة الغدير للعلامة الأميني ج 7، 8 ، 9 .

1.الشمس تتوسل بأبي بكر

قال النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) : «عُرض عليَّ كل شيء ليلة المعراج حتى الشمس فإني سلمت عليهاوسألتها عن كسوفها فأنطقها الله تعالى وقالت : لقد جعلنى الله تعالى على عجلة تجري حيث يريد فأنظر إلى نفسي بعين العجب فتنزل بي العجلة فأقع في البحر فأوى شخصين أحدهما يقول : أحد ، أحد ، والآخر يقول : صدق صدق . فأتوسل بهما إلى الله تعالى فينقذني من الكسوف ، فأقول يا رب من هما ؟! فيقول : الذي يقول أحد ، أحد هو حبيبي محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) ، والذي يقول

ص: 196


1- تاريخ الطبري ج 5 / 189 في ذكر حوادث سنة 43 ه-

صدق ، صدق هو أبو بكر الصديق (رحمه الله علیه)(1)

2 - أبوبكر في قاب قوسين

بلغنا أن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) لما كان قاب قوسين أو أدنى أخذته وحشة فسمع في حضرة الله تعالى صوت أبي بكر (رحمه الله علیه) ، فاطمأن قلبه واستأنس بصوت صاحبه (2) .

3 . أبوبكر ألف القرآن

ما نزل في أبي بكر من القرآن كثير ، نكتفي بألف القرآن : آلم ، ذلك الكتاب فالألف : أبوبكر ، واللام الله ، والميم محمد(3) ولم يتركوا فضيلة كانت لنبي أو رسول إلا وجعلوا له منها نصيباً . وأما فضائل عمر فحدث ولا حرج، ونذكر منها ما كان له من ولاية تكوينية .

وقد قال الرازي في تفسيره : وقعت الزلزلة في المدينة فضرب عمر الدرة على الأرض ، وقال : اسكني بإذن الله . فسكنت وما حدثت الزلزلة في المدينة بعد ذلك !

ونقل أيضاً : وقعت النار في بعض دور المدينة ، فكتب عمر على خرقة : يا نار

ص: 197


1- الغدير ج 7 ص 288 ، نقلاً عن نزهة المجالس ص 442
2- الغدير ج 7 ص 293 ، نقلاً عن العبيدي المالكي في عمدة التحقيق ص 260 ، وقال : هذه كرامة للصديق انفرد بها وحده
3- الغدير ج 8 / 49 ، نقلاً عن عمدة التحقيق ، العبيدي المالكي ص228

اسكني بإذن الله ، فألقوها في النار فانطفأت في الحال !

ب . رواة الحديث وتدليس الحقائق

هناك فنون كثيرة ومتعددة لتزييف الحقائق وتحويرها عند كتاب الأحاديث فطابع التعصب واضح في كتبهم ، فحينما يتعرضون لأحاديث تتضمن فضيلة لعلي (علیه السلام) أو تمس وتكشف منقصة عند الخلفاء والصحابة ، تمتد إليها أياديهم لتقلب حقيقتها ، وإليك نماذج من هذه الفنون حتى تقف على الدور الخطير الذي لعبه المحدثون في تزوير الحقائق.

1 . النموذج الأول:

لما أراد معاوية أن يأخذ البيعة ليزيد كان عبدالرحمن بن أبي بكر من أشد المعارضين لبيعة يزيد . خطب مروان في مسجد الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)وكان والياً على الحجاز من قبل معاوية فقال : إن أمير المؤمنين قد اختاركم ، فلم يأل ، وقد استخلف لابنه يزيد بعده ، فقام عبدالرحمن بن أبي بكر ، فقال : كذبت والله يا مروان ! وكذب معاوية ، ما الخيار أردتم-اه لأمة محمد ، ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية كلما مات هرقل قام هرقل . فقال مروان : هذا الذي أنزل الله فيه ، والذي قال لوالديه أف لكما الآية ، فسمعت عائشة مقالته من وراء الحجاب ، فقامت من وراء الحجاب وقالت : يا مروان ، یا مروان ! - فأنصت الناس ، وأقبل مروان بوجهه - ، فقالت : أنت القائل لعبد الرحمن أنه نزل فيه

القرآن ، كذبت والله ما هو به ولكنه فلان بن فلان ، ولكنه فضض من لعنه الله

ص: 198

وفي رواية ، فقالت : كذب والله ما هو به ، ولكن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) لعن أبا مروان، ومروان في صلبه فمروان فضض من لعنة الله عزوجل(1) .

ثم تعال وانظر كيف حرف البخاري ما يشين بمعاوية ومروان:

كان مروان على الحجاز ، استعمله معاوية ، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه ، فقال عبدالرحمن بن أبي بكر (شيئاً) فقال : خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه ، فقال مروان : إن هذا الذي أنزل الله فيه «والذي قال لوالديه أف لكما أتُعذري ؟! فقالت عائشة من وراء الحجاب : ما أنزل الله فيه شيئاً من القرآن ، إلا أن الله أنزل عذري »(2).

فحذف قول عبدالرحمن وأبدله بقول : قال (شيئاً) كما أبدل قول عائشة ، كل هذا محافظة على صورة معاوية ومروان . وقد أورد هذه الحادثة ابن حجر في فتح الباري (3) مفصلاً ، فانظر إلى أي مدى بلغت النزاهة بالبخاري في نقل الحقائق .

2 . النموذج الثاني:

حذف البخاري فتوى عمر بعدم الصلاة .

روى مسلم عن شعبة قال : حدثني الحكم عن ذر عن سعيد بن عبدالرحمن عن أبيه : أن رجلاً أتى عمر فقال : إني أجنبت فلم أجد ماء . فقال : لا تصلي .

ص: 199


1- تاريخ ابن الأثير ج 3 ص 506 - 507 في ذكر حوادث سنة 56 ه-
2- البخاري ج 6 ص 166 - 167 ، والذي قال لوالديه من تفسير سورة الأحقاف
3- فتح الباري : ج 8 ص 467 - 468

فقال عمار : أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء فأما أنت فلم تصل وأما أنا فتمعكت في التراب وصنيت ، فقال النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفيك !

فقال عمر : اتق الله يا عمار ، فقال : إن شئت لم أحدث به (1).

بما أن الحديث ظاهر في جهل عمر بأبسط الأحكام الشرعية الضرورية التي يعرفها كل مسلم (التيمم) والتي صرح بها القرآن وعلمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كيفيتها ، ورغم ذلك يفتي عمر بعدم الصلاة ، مما يدل على جهله أولاً ، ويدل على عدم اهتمامه بالصلاة ، بل عدم الصلاة في حالة كونه جنبا كما صرحت الرواية.

وأذكر في هذا المقام أن أحد الأصدقاء كان يناقشني في علم عمر ، فقال لي : إن عمر كان يوافق القرآن قبل نزوله.

قلت له : هذه مجرد أخبار لا تمت إلى الواقع بصلة ، وإلا كيف يوافقه قبل نزوله وهو لم يوافق القرآن بعد أن نزل في حادثة التيمم وتحديد مهور النساء . وقد كان هذا الحديث أعنف صدمة لاقتني في بحثي عن شخصية عمر ، لأنه يكشف تماماً عن وزنه العلمي والديني ، ومما زاد استغرابي هو إصرار عمر على جهله بعد أن أخبره عمار بالحكم الشرعي في المسألة .

ثم انظر إلى البخاري الذي لم يرق له أن يروي هذه الفتوى التي لم يفتها حتى جهلاء السوق ، فأخرج في صحيحه بنفس السند وبنفس المتن غير أنه أسقط

ص: 200


1- صحيح مسلم باب التيمم ج 1 ص 280 - 281 ح 112

الفتوى.

«جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال : إني أجنبتُ فلم أصب الماء . فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب : أما تذكر ...» (1).

3 - النموذج الثالث :

أخرج ابن حجر في فتح الباري في شرح صحيح البخاري ج 13 ص 230 حديث : إن رجلاً سأل عمر بن الخطاب عن قوله : «وفاكهة وأباً» ما الأب ؟!

قال عمر : نهينا عن التعمق والتكلف .

قال ابن حجر : أنه جاء في رواية أخرى عن ثابت عن أنس أن عمر قرأ : «وفاكهة وأباً» فقال : ما الأب ؟! ، ثم قال : ( ما كُلفنا) أو قال : (ما أمرنا بهذا).

ثم انظر ماذا فعل التعصب بالبخاري فهو يعمل قصارى جهده لینزه عمر والخلفاء من كل ما يلصق بهم فكيف ياترى يروي هذا الحديث وهو يثبت جهل عمر بالقرآن ،لأن ماسأل عنه في غاية البساطة لمن عرف القرآن وأسلوبه ، واحتجاج عمر بعدم التكلف لاوجه له لأنه ليس مورداً من موارد التكلف فالعذر أقبح من الذنب ، وعندما سُئل الإمام علي

(علیه السلام) نفس هذا السؤال ، قال الجواب في نفس الآية : ««وَفَاكِهَةً وَأَبًّاد مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ » الفاكهة متاعٌ لنا والأباء متاع للأنعام ، وهو نوع من العشب .

ص: 201


1- صحيح البخاري ج 1 ص 92 كتاب التيمم ، باب التيمم ، هل ينفخ فيهما

قال البخاري في صحيحه عن ثابت عن أنس قال : «كنا عند عمر فقال : نهينا عن التكلف» (1) .

إن هذا الحديث كغيره من عشرات الأحاديث التي كانت لا تنسجم مع معتقدات البخاري فاعتمد هذه الطريقة من اسقاط وتبديل وحذف للخبر كاملاً.

كما فعل بحديث الثقلين «كتاب الله وعترتي ...» الذي أخرجه مسلم والحاكم على شرطه ، وغيره من الأحاديث الصحيحة التي لم يستطع البخاري توجيهها وتحريفها ، فتجنب تدوينها في كتابه ، وهذا هو السبب الأساسي الذي جعل صحيح البخاري لدى الحكام أصح كتاب بعد كتاب الله ولا أعرف له سبباً غير هذا .

4 . النموذج الرابع :

وإليك هذه الحادثة التي يظهر لك من خلالها إلى أي مدى يتعمد البخاري تحريف الحقائق ، فقد روى علماء السنة وحفاظهم مثل الترمذي في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، وأحمد بن حنبل في مسنده ، والنسائي في خصائصه والطبري في تفسيره ، وجلال الدين السيوطي في تفسيره (الدر المنشور) ، والمتقي الهندي في كنز العمال ، وابن الأثير في تاريخه ، وغيرهم كثيرون ، رووا :

«أن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) بعث أبا بكر(رحمه الله علیه)وأمره بأن ينادي بهذه الكلمات وهى «بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ...» ثم أتبعهم علياً (علیه السلام) وأمره بأن ينادي بها هو .

ص: 202


1- صحيح البخاري ج 9 ص 118 كتاب الاعتصام، باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعلم

فقام علي (علیه السلام) في أيام التشريق فنادى : إن الله بريء من المشركين ورسوله ،

)) فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، ولا يحجنَّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ، ورجع أبوبكر(رحمه الله علیه ) فقال : يا رسول الله نزل في شيء ؟ قال : لا ولكن جبرائيل جاءني فقال : لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك».

وهنا وقع البخاري في معضلة ، فهذه الرواية تخالف تماماً مذهبه وعقيدته . فهى تثبت فضيلة لعلى (علیه السلام) وما أعظمها من فضيلة ، وفي المقابل تنتقص أو لا تثبت شيئاً لأبي بكر ، فكيف له أن يحور هذه الرواية إلى مصلحته وعقيدته ، فيثبت به--ا منقبة لأبي بكر ولا شيء لعلي.

تعالوا ، لكي تنظروا ، كيف خرج البخاري بذكائه من هذه المخمصة .

أخرج البخاري في صحيحه كتاب تفسير القرآن ، باب قوله : «فسيحوا في ألأرض أربعة أشهر».

قال : أخبرني حميد بن عبدالرحمن أن أبا هريرة(رحمه الله علیه ) قال : بعثني أبوبكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ، قال حميد بن عبدالرحمن ، ثم أردف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعلي بن أبي طالب(علیه السلام) وأمره أن يؤذن ببراءة ، قال أبو هريرة : فأذن معنا على يوم النحر في أهل منى ببراءة ، وأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت

عریان» (1).

ص: 203


1- صحيح البخاري ج 6 ص 81

سوف أترك لك أيها القارىء مساحة للتعليق ، لكي تنظر إلى هذا التشويه والتحريف ، وكيف قضى البخاري على فضيلة علي بن أبي طالب (علیه السلام) وكي--ف أثبت لأبي بكر منقبة لم يحلم بها بعد أن عزله الله بوحي من عنده ، فقال جبرائيل للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك . ثم انظر ، كيف جعل الأمر في يد أبي بكر فأصبح هو الآمر والمرسل والمسير للأمور بحضرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)... !

فسبحان مقلب الأحوال من حال إلى حال.

5 - النموذج الخامس :

اشترك مسلم في صحيحه مع ابن هشام والطبري في حذف جزء من حديث يشين منزلة أبي بكر وعمر.

بعد ما نقل ابن هشام أخبار غزوة بدر وتعرض رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه لقافلة قريش التجارية ، ذكر استشارة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه وقال : «وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم ، فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش : فقام أبوبكر الصديق ، فقال وأحسن ثم قام عمر بن الخطاب ، فقال

وأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله امض لما أراك الله فنح- معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لوسرت بنا إلى برك الغماد الجالدنا معك من دونه حتى تبلغه . فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) خيراً ودعا له» .

ص: 204

فيا ترى ماذا كان قول أبي بكر وعمر لرسول الله ؟!

وإذا كان حسناً فلماذا لم يذكره ! ولماذا ذكر قول المقداد من دون قوليهما ؟!

ثم نرجع إلى مسلم لكي نرى هل وصل به الغدر أيضاً ، ليفعل كما فعل ابن هشام والطبري . روى مسلم : أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شاور أصحابه حين بلغ--ه إقبال أبي سفيان قال : فتكلم أبوبكر فأعرض عنه ، ثم تكلم عمر فأعرض عنه ...

ثم ذكر بقية الحديث» (1) .

وأيضاً لم يذكر مسلم ما قاله أبو بكر وعمر ولكنه كان أكثر صدقاً من ابن هشام والطبري ، فقال : «أعرض رسول الله » ولم يقل «وأحسن». رغم أن ما فعله جناية في حق الحديث. فمن المفترض أن يذكر قولهما ، مما يدل على أن في الأ. نكاية . فلماذا أعرض رسول الله عن قولهما إذا كان حسناً ؟!

يتضح لنا من الخبرين بعدما حصل فيهما التزوير الواضح أن هناك أمراً لا يليق بالشيخين لم يذكروه ولكن أظهر الله نوره ولو كره الكافرون ، فقد روي في كتاب المغازي للواقدي وإمتاع الأسماع للمقريزي . بعد ما ذكر الخبر : فقال عمر : يا رسول الله ، إنها والله قريش وعزها والله ما ذلت مُذ عزّت والله ما آمنت مذ كفرت والله لا تسلم عزها أبداً ، ولتقاتلنك فتأهب لذلك أهبته وأعد لذلك عدته.

ومن هنا نعرف سبب إعراض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه ، فهذا الكلام الذي قاله

ص: 205


1- صحيح مسلم كتاب الجهاد ، باب غزوة بدر ج 3 ص 1403 و 1404 ح 83 ، سيرة ابن هشام ج 2 / 266

عمرلا يليق بصاحب رسول الله فكيف يدعى أن لقريش عزاً ؟

وهل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقصد ذلتها ؟

ولكن للأسف ، هذه معرفة عمر للإسلام ومنهجه الحضاري.

وهكذا دائماً يخلط البخاري ومسلم الحق بالباطل ، ويبدلان الأحاديث التي يشعران منها توهيناً وتنقيصاً لأبي بكر وعمر.

ص: 206

ثالثاً : الكُتّاب ودورهم في تحريف الحقائق

واصل دور المحدثين والمؤرخين من جاء بعدهم من كُتّاب ، بذلوا قصارى جهدهم لتزييف الحقائق وتشويه مذهب أهل البيت ، بشتى أساليب الدعاية ونشر الأكاذيب ، وقد نجح هؤلاء الكتاب نجاحاً كبيراً في تعميق الجهل في نفوس أه--ل مذهبهم وتوسيع الفجوة بينهم وبين معرفة الحقيقة ، فصوروا التشيع بأبشع وأقبح ما يكون من الصور ، من جراء ما نسجوه من خرافات وأوهام ، ولا أقول هذا مجرد افتراض ، إنما عايشت هذا الجهل مدة من الزمن ، وأحسست به أكثر عندما تفتحت بصيرتي وأنار الله قلبي بنور أهل البيت ، فوجدت مجتمعي يركد في رك--ام من الجهل والافتراءات على الشيعة ، فكلما أسأل عن الشيعة سواء كان المسؤول عالماً أو مثقفاً كان يجيبني بسلسلة من الأكاذيب على الشيعة فيقول مثلاً : إن الشيعة تدعي أن الإمام علياً (علیه السلام ) هو الرسول ولكن جبرائيل أخطأوأنزل الرسالة على محمد ، أو أنهم يعبدون الإمام علياً ... وغيرها من الأكاذيب التي لا تمت إلى الواقع بصلة ، وأشد محنة من ذلك عندما يبادرك سؤال حائر :

هل الشيعة مسلمون ؟

وما هو الفرق بين الشيعة والشيوعية ؟

إن هذا الجهل بالتشيع ، الذي تعيشه مجموعة كبيرة من الأمة الإسلامية ، كان نتاجاً طبيعياً لمجهود هؤلاء الكتاب ، لفرض الجهل المطبق على أبناء هذه الأمة لكي لا يتعرفوا على مذهب التشيع ، وهذا هو المخطط الذي بدأ قديماً ليتم مسيرته إلى

ص: 207

اليوم ، فتجد مئات من الكتب المسمومة ضد الشيعة في متناول يد الجميع ، هذا إذا لم تكن توزع مجاناً من قبل الوهابية ، ويفترض في هذا الجو المشحون ضد الشيعة أن يُسمح للكتاب الشيعي بالانتشار ، حتى تكون المعادلة متكافئة ، وهذا ما لم يحصل ، فهذه هي المكتبات الإسلامية يكاد يندر فيها الكتاب الشيعي بخلاف المكتبات الشيعية سواء كانت تجارية أو في المعاهد العلمية فهى لا تخلو من كتب ومصادر السنة بجميع خطوطها واتجاهاتها.

والأدهى والأمر من كل ذلك ، إذا وفرت لأحدهم كتاباً فإنه لا يقرؤه هذا إذا لم يحرقه بحجة أنه لا يجوز قراءة كتب الضلال ...

وأذكر كيف كان إمام المسجد في قريتنا يُصرح بكفري وضلالتي ، ويمنع الجميع من الجلوس معي أو قراءة كتبي . أي منطق هذا يسلب الإنسان حرية تفكيره ولكنها سياسة الجهل والتجهيل والحصار الفكري.

آ . بعض الكتب التي ألفت ضد الشيعة :

1) محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية ، للخضري .

2)السنة والشيعة ، لرشيد رضا ، صاحب (المنار) .

3 )الصراع بين الوثنية والإسلام ، للقصيمي .

4) فجر الإسلام وضحى الإسلام ، لأحمد أمين .

5)الوشيعة في نقد الشيعة ، لموسى جار الله.

6)الخطوط العريضة ، لمحب الدين الخطب .

7) الشيعة والسنة - الشيعة والقرآن - الشيعة وأهل البيت - الشيعة والتشيع.

ص: 208

احسان إلهي ظهير.

8) منهاج السنة لابن تيمية

9) إبطال الباطل ، للفضل ابن روزبهان .

10)أصول مذهب الشيعة ، د . ناصر الغفاري .

11) وجاء دور المجوس ، عبدالله محمد الغريب .

12) التحفة الإثنا عشرية ، للدهلوي .

13) جولة في ربوع الشرق الأدنى ، لمحمد ثابت المصري .

وغيرها من الكتب المغرضة ، وقد ردَّ علماء الشيعة على هذه الكتب ، وأمثالها بردود وافية ومفصلة.

وقد لاحظت اختلاف المنهجية بين النوعين من الكتب ، فتجد كتب الشيعة تهدف إلى تأصيل وإثبات صحة مذهبها بالأدلة والبراهين ، اعتماداً على مصادر ومراجع أهل السنة ، من غير أن تتهجم على المذاهب الأخرى . أما الكتب التى تحاول الرد على الشيعة فإنها تهدف من الأساس ضرب المذهب الشيعي بأي طريقة كانت حتى ولو كانت بالتهم والافتراءات .

والشواهد على ما قلناه كثيرة وسوف نتطرق لها أثناء عرضي لبعض النماذج .

ب. ومن الكتب الشيعية التي ردت وأصلت مذهبها :

1 - الشافي في الإمامة :

يتكون من أربعة مجلدات ، أثبت فيه الشريف المرتضى «الإمامة كمبداً ديني

ص: 209

واجتماعي وسياسي ، وأثبت بدليل النقل والعقل الصحيح أنها ضرورة دينية واجتماعية ، وأن علياً ( علیه السلام ) هو الخليفة الحق المنصوص عليه بعد الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم ) ، وأن من عارض وعاند فقد عارض الحق والصالح العام .ذكرالشريف جميع الشبهات التي قيلت والتي يمكن أن تقال حول الإمامة ، وأبطلها بمنطق العقل والحجة الدامغة» (1).

وهذا الكتاب بمثابة رد على كتاب «المغني» لعبد الجبار المعتزلي .

2 . كتاب نهج الحق وكشف الصدق ، للعلامة الحلي :

وقد تناول فيه مجموعة من المسائل تنحصر في مسائل :

(1) الادراك . (2) النظر . (3) صفات الله

(4) النبوة . (5) الإمامة . (6) المعاد .

(7) أصول الفقه . (8) فيما يتعلق بالفقه.

ويظهر لقارىء هذا الكتاب أن مؤلفه ، كان باحثاً علمياً غير متعصب لرأيه ،ولا منحازلعقيدة ابتداء ، ولم يبحث عن الدليل لعقيدته ، بل جعل رأيه وعقيدته تابعين للقرآن وخاضعين للدليل .

وقد قام الفضل بن روزبهان الأشعري بنقد هذا الكتاب وسماه إبطال الباطل وإهمال كشف العاطل ولكنه لم يستخدم أسلوب العلامة الحل-ي ب-ل ك--ان كثير التعرض والسب ، ولكنه في الجملة كتاب يعتمد - نسبياً -- الحجة والمناقشة

(1)

ص: 210


1- الشافي ج 1 ص 19 ، من كلام المحقق

العلمية . ولذلك دفع كثيراً من علماء الشيعة للرد عليه وتبيين مواضع الشبهة فيه.

3 - إحقاق الحق - للسيد نور الله الحسيني التستري:

كتاب ضخم ، ألفه صاحبه في الرد على الروزبهان في كتابه - إبطال الباطل-، وقد علق على هذا الكتاب أي - إحقاق الحق - آية الله شهاب الدين المرعشي النجفي ، فبلغ عدد مجلداته خمسة وعشرين مجلداً من الحجم الضخم ، وقد بذل فيه صاحبه الجهد الواضح والشاق من تتبع الأدلة واستخراج الأحاديث والروايات من كتب أهل السنة . وحري بهذا الكتاب أن يكون في متاحف المسلمين ، لما يُعبر عن مجهود فردي جبار ، تعجز عن القيام به لجنة مختصة.

4 . ورد على روزبهان أيضا ، العلامة المظفر ، في كتاب من ثلاثة مجلدات ، اسمه . دلائل الصدق .

وتطرق فيه أيضاً ، للرد على كتاب منهاج السنة لابن تيمية ، الذي كتبه رداً على العلامة الحلى في كتابه منهاج الكرامة ، ولكنه لم يفصل - أي المظفر - في الرد عليه - أي الرد على ابن تيمية - وأشار فى المقدمة بقوله : «ولولا سفالة مطالبه وبذاءة لسان قلمه ،وطول عباراته ، وظهور نصبه وعداوته لنفس النبي الأمين وأبنائه الطاهرين لكان هو الأحق بالبحث معه»(1).

5 . موسوعة الغدير ، 11 مجلدا للعلامة عبد الحسين الأميني:

وهو مجهود جبار بذل فيه مؤلفه ، غاية الجهد والمشقة ، أثبت فيه بكل الطرق والأدلة مذهب أهل البيت (علیهم السلام) ، ومما يزيد عجبك فيه ، أن مؤلفه جمع فيه من المصادر التي بلغت 94000 ، مصدراً من كتب أهل السنة.

ص: 211


1- دلائل الصدق ج 1 ص 3

وقد تعرض فيه للرد على بعض الكتب السنية التي تعرضت للشيعة ، مثل :

1 - العقد الفريد . 2 - والفرق بين الفرق .

3- الملل والنحل . 4 - منهاج السنة

ه - البداية والنهاية . 6 - المحصر .

7 - السنة والشيعة . 8 - الصراع.

9 - فجر الإسلام . 10 - ظهر الإسلام .

11 - ضحى الإسلام . 12 - عقيدة الشيعة.

13 - الوشيعة.

وقد أحسن وأجاد في الرد عليهم بالحجج والأدلة الباهرة والبراهين الساطعة .

وقد تميز بالنقاش الموضوعي الذي لا يميل إلى التعصب والجدل.

6 . وأيضاً من الموسوعات الضخمة ، التي أثبتت مذهب التشيع ، وردت على أعدائه ،كتاب (عبقات الأنوار في إمامة الأئمة الأطهار) للسيد حامد حسين ابن السيد محمد قلي الهندي ، ولم أحصل على نسخته الأصلية ، وحصلت على ملخص له اسمه (خلاصة عبقات الأنوار) للمؤلف علي الحسيني الميلاني . يتكون من 10 مجلدات ، وهو ردّ على كتاب

«التحفة الإثنا عشرية »لعبد العزيز الدهلوي ، وهو نقد لعقائد الشيعة ، وقد رد عليه مجموعة من علماء الشيعة بعدد من الكتب ، منها کتاب« السيف المسلول على مخربي دين الرسول » لأبي أحمد بن عبدالنبي النيسابوري ، وكتابه من أربع مجلدات ، كل مجلد منها باسم للسيد دلدار عل-ي التقى ، وكتاب «النزهة الإثنا عشرية »للميرزا محمد الكشميري ، وكتاب «الأجناد

ص: 212

الإثنا عشرية المحمدية» للسيد محمد قلى وهو مجموعة من المجلدات الضخمة وكتاب الوجيز في الأصول للشيخ سبحان علي خان الهندي ، وكتاب الإمامة للسيد محمد بن السيد ، وله ردّ بالفارسية سماه «البوارق الإلهية» .

وغيرها من الكتب التي ردت على الدهلوي، ذكرها صاحب كتاب الذريعة ، وكتاب أعيان الشيعة ، ومن أعظم هذه الردود هو كتاب العبقات وتتجلى عظمة المؤلف ودقته في النظر ، واحاطته بالعلوم ، وتتبعه للأقوال ، وأمانته في النقل العلمي بقواعد البحث، في أساليبه في الرد على الإشكالات أو النقد للاستدلالات ، لقد قطع رحمه الله بأقوى الحجج وأمتن البراهين كافة الطرق والذرائع ، ودفع جميع الشكوك والشبهات ، حتى لم يبق للخصوم أي طعن في المذهب أو قدح في دليل أو تضعيف لحديث ... إلا ودفعه بالتي هي أحسن ورد عليه الرد الجميل بتحقيقات أنيقة وتدقيقات رشيقة واحتجاجات برهانية وإلزامات نبوية ، واستدلالات علويَّة ، ونغوض رضوية ، مستنداً في ذلك كله إلى كتب أهل السنة ، ومستدلاً بأقوال أساطين علمائهم في مختلف العلوم والفنون ، ولقد تناول كل كلمة جاءت في التحفة راداً عليها أو منتقداً لها » (1).

وقد ساعده على ذلك مكتبة أسرته الشهيرة التي فاقت 30 ألف كتاب من مطبوع إلى مخطوط من مختلف المذاهب والفرق ، ولم نجد - إلى يومنا هذا - كتاباً في الرد عليه ، رغم أن كتاب التحفة ، قد دارت حوله الردود . فأول من رد عليه

ص: 213


1- من كلام المحقق

السيد دلدار علي في كتابه الصوارم الإلهية وكتاب صارم الإسلام ، فرد عليه رشيد الدين الدهلوي، تلميذ صاحب التحفة بكتاب - الشوكة العمرية - فرد عليه باقر على بكتاب

- الحملة الحيدرية - كما ردَّ على التحفة الميرزا في كتابه «النزهة الإثنا عشرية» فرد عليه أحد السنة بكتاب «رجوم الشياطين» ، فرد عليه السيد جعفرالموسوي بكتاب «معين الصادقين في رد رجوم الشياطين» .

كما رد على التحفة أيضاً ، السيد محمد قلي والد صاحب العبق--ات بكت-اب «الأجناد الإثنا عشرية المحمدية» فرد عليه محمد رشيد الدهلوي ، فعاد السيد ورد عليه بكتاب«الأجوبة الفاخرة في الرد على الأشاعرة» حتى حسم هذا الأمر صاحب العبقات ، فلم يُرد عليه . وهذا كاف للدلالة على العجز .

7. معالم المدرستين ، للمرتضى العسكري .

وهو من الكتب المقارنة بين مدرسة أهل البيت ومدرسة الخلفاء ،اعتمد صاحبه الموضوعية والنقاش العلمي الدقيق ، وهو من ثلاثة أجزاء .

8 . المراجعات ، لعبد الحسين شرف الدين .

وهو مناظرة جرت بينه ، وبين شيخ الأزهر سليم البشري ، ويعتبر من المناظرات النادرة التي التزم فيها المتناظران الأسلوب الهادىء والحوار الأخلاقي ، ولعبد الحسين كتب أخرى كثيرة في هذا المجال، من بينها النص والاجتهاد ، والفصول المهمة فى تأليف الأمة ، والكلمة الغراء في تفضيل الزهراء ، وكتاب «أبو هريرة» .

ص: 214

وهناك ردود متعددة من علماء الشيعة على كتب السنة مثل :

1 - أجوبة مسائل جار الله لعبد الحسين شرف الدين الموسوي .

2- مع الخطيب فى خطوطه العريضة ، للطف الله الصافي

3 - شبهات حول الشيعة .

4 - كذبوا على الشيعة.

علماء السنة ومثقفوها يتشيعون

قد تمكنت مجموعة من نخبة السنَّة وعلمائها من كسر الأغلال وتعدي حواجز الكبت الإعلامي ، لتنفتح على العلوم والمعارف الأخرى وكان من بينها التشيع كمذهب له تاريخه ومعارفه وثقافاته مما أدى إلى انجلاء سحاب التعتيم الداكن على سماء الحقيقة فلم يسعهم إلا إعلاء صرخة الحق وإعلان ولائهم لنهج أ أه--ل البيت (عليهم السلام).

وقد ضم هذا الموكب آلافاً من أصحاب الفكر والأقلام الحرة قديماً وحديثاً ، لايسعنا المجال لذكرهم وإنما نكتفي بذكر نماذج منهم :

1 - المحدث الجليل أبو النفر محمد بن مسعود بن عياش المعروف بالعياشي ، كان من كبار علماء السنة قبل تشيعه ، وهو يُعد من كبار علماء الشيعة الإمامية ، له تفسيره المأثور (تفسير العياشي) .

2 - الشيخ محمد مرعي الأمين الأنطاكي ، تخرج من الأزهر وتقلد منصب قاضي القضاة في حلب ، وله مركزه العلمي والاجتماعي ، وقد هداه الله تعالى للالتزام بمنهج أهل البيت (علیهم السلام) وله كتاب مطبوع ومنتشر «لماذا اخترت مذهب

ص: 215

الشيعة» وقد تشيع معه آلاف من أهالي حلب.

3 - الشيخ سليم البشري، وهو من علماء أهل السنة والجماعة ، قد تزيَّمَ مشيخة الأزهر الشريف مرتين في حياته ، وقد جرت بينه وبين عبد الحسين شرف الدين وه-و م-ن علماء الشيعة حوارات متعددة جمعت في كتاب يسمى ب- «المراجعات» وقد أسفر هذا الحوار الهادىء عن تشيع الشيخ سليم البشري فقد صرَّحَ في أول محاورة أنه غير متعصب بقوله :

«وإنما أنا نشاد ضالة ، وبحاث عن حقيقة ، فإن تبين الحق ، فإن الحق أحق أن يُتبع ، وإلا فأنا كما قال القائل :

نحن بما عندنا وأنت بما عن-* دك راض والرأي مختلف »(1).

وبعد الحوارات التي أفصحت عن علم الطرفين ، وعظيم قدرهما وأخلاقهما وتجردهما للحقيقة ، يصرح الشيخ سليم البشري في آخر المطاف بقوله : «حتى

برح الخفاء ، وصرح الحق عن محضه ، وبان الصبح لذي عينين ، والحمد لله على

هدايته لدينه ، والتوفيق لما دعا إليه من سبيله ، (صلی الله علیه وآله وسلم ) »(2).

4 - الشيخ محمود أبو رية ، عالم وكاتب مصري له كثير من الكتب والإبداعات من بينها: «أضواء على السنة المحمدية » ، وكتاب «أبو هريرة شيخ المضيرة» .

ص: 216


1- المراجعات ص 56
2- المصدر السابق ص 424

5 - المحامي أحمد حسين يعقوب ، وهو كاتب أردني متشيع له كتاب «نظرية عدالة الصحابة» وكتاب الخطط السياسية لتوحيد الأمة الإسلامية» .

6 - الدكتور التيجاني السماوي، وهو تونسي متشيع وله مجموعة من الكتب منها : «ثم اهتديت» و «لأكون مع الصادقين» و «فاسألوا أهل الذكر» و«الشيعة هم أهل السنة» .

7 - الكاتب الصحفي السيد إدريس الحسيني من المغرب العربي ، له«لقد شيعني الحسين» و «الخلافة المغتصبة » و «هكذا عرفت الشيعة» .

8 - صائب عبد الحميد ، له كتاب «منهج في الانتماء المذهبي».

9 -سعيد أيوب ، له كتاب «عقيدة المسيح الدجال» يقول في بداية كتابه :« لقد وجدتني داخل البحث أحاول إزالة الركام عن الحقائق ، حتى تكون الحقيقة واضحة أمام العيون والعقول ، ذلك الركام الذي وضعه أساتذة التعتيم على امتداد التاريخ البشري ! وعندما أمسكت بالمعول الذي أزيل به شباك الالتواء ، كانت عندي الأسباب الكافية لإنجاز هذا العمل»(1) . وله كتاب «معالم الفتن» يتكون من جزءين .

10 - الكاتب المصري صالح الورداني له كتاب «الخدعة - رحلتي من السنة إلى الشيعة - حركة أهل البيت (علیه السلام) - الشيعة في مصر - عقائد السنة وعقائد الشيعة التقارب والتباعد» .

ص: 217


1- عقيدة المسيح الدجال ص 9

11 - الكاتب المصري، محمد عبد الحفيظ ، له كتاب «لماذا أنا جعفري» .

12 - الكاتب السوداني ، الأستاذ السيد عبد المنعم محمد الحسن ، وله كتاب بنور فاطمة اهتديت».

13 - الشيخ عبدالله ناصر من كينيا ، تشيع بعد أن كان من كبار مشايخ الوهابية وله كتب عديدة في هذا المجال منها : الشيعة والقرآن» «الشيعة والحديث» ، «الشيعة والصحابة » ، «الشيعة والتقية » ، «الشيعة والإمامة» .

14 - سماحة العالم والخطيب والمناظر السيد علي البدري، له خدمة واسعة في نشر مذهب أهل البيت (علیهم السلام) بعد أن تشيع ، فطاف العالم وه-و يعقد المناظرات المتعددة وقد ضمنها كتاب ضخم في طريقه إلى المطبعة تحت عنوان «أحسن المواهب في حقائق المذاهب» .

15 - الكاتب السوري السيد ياسين المعيوف البدراني ، له كتاباً تحت عنوان «يا ليت قومي يعلمون» .

ج- . نماذج من تحريفات الكتاب :

وهي كثيرة يطول بنا المجال في سردها ، فجل الكتب التي ردت على الشيعة لم تقصد إلا التشويه والتزوير ونشر التهم والأكاذيب . هذا بالإضافة إلى اعتمادهم على الكتب السنية في رد المعتقدات الشيعية ، وهذا غير منهجي في باب الاحتجاج والمناظرة .

يقول الشيخ المظفر في ذلك : «إعلم أنه لا يصح الاستدلال على خصم إلا بما هو حجة عليه ، ولذا ترى المصنف رحمه الله وغيره - أي العلامة الحلي - إذا كتبوا

ص: 218

في الاحتجاج على أهل السنة التزموا بذكر أخبارهم لا أخبارنا ، والقوم لم يلتزموا بقاعدة البحث ولم يسلكوا طريق المناظرة (1) . كما أنهم يعتمدون في الرد على التصوير المجمل لعقائد الشيعة من غير الرد المنطقي لكل جزيئة من جزيئات المذهب ، وهذا غير منصف في باب الأمانة العلمية ، فتجد الدكتور ناصر الغفاري يقول في مقدمة كتابه «أصول مذهب الشيعة » ص 15 : «.. لأن في جملة من العقائد ما يكفي لمعرفة حقيقتها بمجرد عرضها، ولهذا ذكر شيخ الإسلام ، ابن تيمية أن تصور المذهب الباطل يكفي في بيان فساده ، ولا يحتاج مع حسن التصور إلى دليل آخر».

وإذا صح هذا فلابد أن يكون المصور للعقيدة مؤمناً معتقداً بها ، حتى يكون له الحرية الكافية في توضيح معتقداته ، ومن الإجحاف أن يأتي طرف دخيل ليصوّر عقائد غيره بأبشع الصور. وما يقول به ابن تيمية هو ضرب من سياسة التجهيل على أتباعه عندما يصور لهم المذاهب التي تخالفه بالصورة التي يريدها ، ولو كان هذا كاف للحجة لكان ذلك الكافر الذي يعيش في أوروبا الحامل صورة مشوهة عن الإسلام بسبب تصوير المستشرقين وأعداء الدين ، معذوراً في ذلك ، ولكن هذا كلام ضعيف ومنهجية خاطئة لا تصلح للاستدلال ، ومع الأسف هذا هو ديدنهم، وإليك بعض النماذج من التحريفات .

(1) کتاب ، أصول مذهب الشيعة ، د . ناصر عبدالله الغفاري، الذي هو عبارة

ص: 219


1- دلائل الصدوق ج 1 ص 4 ، المقدمة

عن رسالة دكتوراه ، من جامعة محمد بن سعود الإسلامية ، ونال بها مرتبة الشرف الأولى.

1 . من افتراءاته على الشيعة :

أ - قوله : إذن فالشيعة تحارب السنة ، لهذا فإن أهل السنة اختصوا بهذا الاسم لاتباعهم سنة المصطفى (صلی الله علیه وآله وسلم )(1) . ثم بعد ذلك يحاول أن يُخرج من تلك الروايات الشيعية التي توجب اتباع السُنة . فيقول : «غير أن الدارس لنصوص الشيعة ورواياتها قد ينتهى إلى الحكم بأن الشيعة ، تقول بالسنة ظاهراً ، وتنكره-ا باطناً ، إذ أن معظم رواياتهم وأقوالهم تتجه اتجاهاً مجانفاً للسنة التي يعرفها المسلمون ، في الفهم والتطبيق ، وفي الأسانيد ، والمتون ...» (2).

أما قوله : إن الشيعة تحارب السنة ، فلا محل له ، فكتب الحديث عند الشيعة تفوق أضعافاً مضاعفة كتب أهل السنة ، بل روايات الكافي وحدها تزيد على روايات الصحاح الستة ، هذا بالإضافة إلى العديد من الموسوعات الضخمة في الحديث كبحار الأنوار الذي بلغ عدد مجلداته 110 مجلداً .

فإذا كان الشيعة يحاربون السنة فلماذا هذه الموسوعات الضخمة ؟!

أم ماذا يقصد بالسنة ؟

هل هى ما رواه أهل السنة في صحاحهم ؟

ص: 220


1- أصول مذهب الشيعة ج 1 ص 307
2- اصول مذهب الشيعة ج 1 ص 307

إذا كان نعم ، فهذا حجةٌ عليهم لا على الشيعة .

وقوله : «إن معظم رواياتهم وأقوالهم تتجه اتجاهاً مجانفاً ...» هذا من عجیب القول فإذا كانوا من الأصل يوافقون السنة في الأحاديث سنداً ومتناً وتطبيقاً وفهماً لم يكن هناك داع للاختلاف . فالشيعة يؤمنون بسنة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) ويلتزمون بها ، واحتكار أهل السنة لسنة رسول الله هذا أمر غير منصف.

ثم ثانياً : هل أنت وقومك محور الدين تقيس كل شيء بنفسك؟! أي عدل يحكم بذلك.

ب - تحريفه للحقائق في نقل النصوص المبتورة التي تغير المعنى ، وهو يقول في آخر مقدمته : واهتممت بالنقل الحرفي في الغالب رعاية للموضوعية وضرورة الدقة في النقل والحذو ، وهذا ما يفرضه المنهج العلمي في نقل كلام الخصوم».

فهل التزم - حضرة الدكتور - بذلك ؟

(1) ذكر في ص 552 ج 2 ، في كلامه عن رؤية الله حديثاً عن ابن بابويه القمي عن أبي بصير عن أبي عبدالله (ع) قال : قلت له : أخبرني عن الله عزوجل ، هل يراه المؤمنون يوم القيامة ؟

قال : نعم.

وينقل هذه الرواية من كتاب التوحيد ص 117 ولكن لم يذكر الرواية كاملة مما غيَّرالمعنى المعنى تماماً . وإليك الرواية كاملة ولك الحكم .

قال : قلت له : أخبرني عن الله عز وجل . هل يراه المؤمنون يوم القيامة ؟

قال : نعم ، وقد رأوه قبل يوم القيامة .

ص: 221

فقلت : متى؟

قال : حين قال لهم ، ألستُ بربكم . قالوا بلى»

ثم سكت - أي الإمام - ساعة ثم قال : وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل ي--وم القيامة ، ألست تراه في وقتك هذا ؟

قال أبو بصير ، فقلت له : جعلت فداك ، فأحدث بهذا عنك .

فقال: لا، فإنك إذا حدثت به . فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقول ثم قدّر أن ذلك تشبيه، كفر ، وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين تعالى الله عما يصفه المشبهون والملحدون .

فترى كم هو الفارق بين المعنى الأول والثاني ، بل المعنى الأول بمنطوق الرواية كاملة هو من قول المشبهين والملحدين .

ولماذا لم ينقل قول الإمام الباقر عندما سأله الخارجي ، قال له : يا أبا جعفر أي شيءتعبد؟

قال : الله

قال : رأيته ؟

قال : بلى ، لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ،لا يُعرف بالقياس ولا يُدرك بالحواس، موصوف بالآيات ، معروف بالدلالات ولا يجور في حكمه ، ذلك الله لا إله إلا هو»(1).

ص: 222


1- الاحتجاج ج 1 / 166 - 167

(2) ومن الشواهد أيضاً على بتر الرواية ، كلامه في الكيفية الله . فينقل رواية من بحار الأنوار عن أبي عبدالله جعفر الصادق بأنه سُئل : «عن الله تبارك وتعالى ، هل يُرى في الميعاد ؟

فقال : سبحان الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً ... إن الأبصار لا تدرك إلا ما له لون وكيفية ، والله خالق الألوان والكيفية »(1) .

ويقول تعقيباً لذلك : ويظهر أن الحجة التي احتج بها هؤلاء الذين وضعوا هذه الرواية على جعفر تتضمن نفي الوجود الحق ، لأن ما لا كيفية له مطلقاً لا وجود له» (2) . ونعلق على هذه القاعدة أولاً ، ثم نذكر الشاهد في بتر الحديث.

قوله : «ما لا كيفية له مطلقاً لا وجود له» .

وذكر هذه القاعدة - الغريبة من نوعها -نقضاً لحديث الإمام الصادق (علیه السلام)المتقدم . وحقيقةً أن عقلاً لم يتنور برواية أهل البيت وتربى على مرويات كعب الأحبار ووهب بن منبه لا يفهم أحاديث أهل البيت .

فماذا يعني بقوله : «مطلقاً» . هل يعني ما لا كيفية له من مطلق مقولات الكيف ؟

وإذا كان يعني ذلك ، نعم فالله سبحانه وتعالى خارج من مقولات الكيف . لا يحاط بأين أو جهة أو مكان . ومن يقول إن الله يكيف بهذه المقولات المعروفة فى

ص: 223


1- ج 2 ص 551
2- نفس المصدر السابق

الكيف فقد كفر ، ووصف الله بأوصاف المادة ، لأن الكيفية من لوازم الجسمية والمحدودية والله غير محدود وغير مادة ، وهذا هو الخطأ الذي وقع فيه الكاتب ،عندما تصور الله سبحانه وتعالى يكيف بكيف وهذا يرجع إلى نزعته الحسية فلا يستطيع أن يفهم إلا في حدود الحس ، ولذلك ينكر وجود كل موجود خارج عن اطار الكيف.

إما إذا كان يقصد كيفاً خارجاً عن مقولات الكيف المعروفة ، فلا يسمى هذا كيفاً . فكلامه إذن لا وجه له.

ثم يذكر جزء من رواية ليؤيد بها كلامه ويثبت التناقض في روايات الشيعة ، يقول : كما أن هذا يناقض ما رواه صاحب الكافي عن أبي عبدالله أنه : «... ولكن لابد من إثبات أن له كيفية لا يستحقها غيره ، ولا يشارك فيها ولا يحاط بها، ولا يعلمها غيره »(1).

وإليك الرواية بتمامها لكي أثبت لك خلاف ما ادعاه :

«قال السائل : فقد حددته إذا أثبت وجوده ، قال أبو عبدالله (علیه السلام) : «لم أحدده ، ولكني أثبته ، إذ لم تكن بين النفي والإثبات منزلة ، قال السائل : فله أنية وماهية ؟ قال (علیه السلام ) : نعم لا يثبت الشيء إلا بأنّيَّة وماهية . ق-ال السائل : فل-ه كيف ؟ قال : لا ، لأن الكيفية جهة الصفة والإحاطة ، ولكن لابد من الخروج من جهة التعطيل والتشبيه ، لأن من نفاه فقد أنكره ورفع ربوبيته ربوبيته وأبطله ، ومن شبه

ص: 224


1- المصدر السابق

بغيره فقد أثبته بصفة المخلوقين المسموعين الذين لا يستحقون الربوبية ولكن لابد من إثبات أن له كيفية لا يستحقها غيره ، ولا يشارك فيها ولا يحاط بها ولا يعلمها غيره»(1).

اقرأ وتأمل المعنى الذي يستفاد من هذه الرواية ، فإنه مغاير تماماً لما قاله : «ما لا كيفية له مطلقاً لا وجود له فقول الإمام للسائل : «فله كيفية ؟ قال : لا ».

رداً على هذه القاعدة التي استدل عليها بالحديث وهو مبتور ، فالكيفية التييقصدها الكاتب ويعتقد بها هي الكيفية التي من عوارض الموضوع ، وقد نزهه الإمام منها بجوابه للسائل : «لأن الكيفية جهة الصفة والإحاطة» وهذا لا يجري على الله سبحانه وتعالى وأما الكيفية التي قالها الإمام في آخر الحديث : «كيفية لا يستحقها غيره ، ولا يشارك فيها .. فهذه الكيفية إن سُميت كيفية فهي ضرب من المجاز لقصور مفردات اللغة وما سُميت كيفية إلا من باب الاشتراك اللفظي، فاشترك اللفظ واختلف المعنى .

وقد روى هذه الرواية ابن بابويه القمي بنفس السند ونفس المتن : «... ولكن لابد من إثبات ذات بلا كيفية لا يستحقها غيره ولا يشارك فيها ولا يحاط بها ولا يعلمهاغيره»

(2).

فهذه الرواية ترفع الاشتباه وتبين تمام المقصود ، وهي نفي كل كيفية ، لأن

ص: 225


1- الشافي في شرح الكافي ج 3 ص 63
2- التوحيد ، للشيخ الصدوق ص 247

إثباتها الله هو عين التشبيه بل المراد منها إثبات جميع صفاته الكمالية ، وهي عين ذاته.

(2) إحسان إلهي ظهير

وهو من أكثر الكتاب عداوة للشيعة ، وله في الرد عليهم مجموعة من الكتب بين يدي منها أربعة :

(1) الشيعة والسنة.

(2) الشيعة وأهل البيت .

(3) الشيعة والقرآن .

(4) الشيعة والتشيع .

وقد استخدم كل طاقاته في الرد عليهم والتعرض لأفكارهم ، ويا ليته كان نزيهاً أميناً حسن الخلق والأدب ، فقد افترى على الشيعة ما يشيب منه الصغير ويهرم فيه الكبير ، وأنا أدعو كل صاحب عقل صائب أن يقرأ كتبه ، ثم يلاحظ ، :أولاً : أسلوبه ، وثانياً : افتراءاته ، وثالثاً : تزويره . بعد مراجعة كتب الشيعة التي تتناول نفس الموضوع .

وأكتفي في هذا المقام ، بذكر بعض الشواهد ، لأن المقام لا يسمح بالرد والتفصيل ، وقبل أن أتعرض لتزويره للحقائق ، أشير إلى ملاحظتين سريعتين على منهجه في الطرح وأسلوبه في عرض الأفكار .

ا. الملاحظة الأولى : يرتكز منهجه على سرد معتقدات الشيعة بأسلوب مشوه تحت عناوين منفرة . حتى يشكل حجاباً بين القارىء وبين معتقدات الشيعة ، ومن

ص: 226

المفترض أن يتبع منهجاً سليماً في الرد بأن يذكر معتقدات الشيعة أولاً ، ثم يذكر أدلتهم عليها وبعد ذلك يردها بالدليل والبرهان ، ثم يستدل على ما يعتقد به.

ومثال لذلك ، يذكر في كتابه الشيعة والسنة] ص 63 ، تحت عنوان ، مسألة البداء يقول : وكان من الأفكار التي روّجها اليهود ، وعبد الله بن سبأ (أن الله يحصل له البداء )أي النسيان والجهل تعالى الله عما يقولون» .

ثم يذكر روايات من كتب الشيعة حول البداء ، من غير أن يذكر أدلة الشيعة على البداء من الكتاب وروايات البخاري ومسلم ، وأقوال علماء السنة ، ومن العقل ، ومن غير أن يوضح مفهوم الشيعة للبداء . بل يعرف-ه م-ن عن-ده ب--- :

«النسيان والجهل» ويبني على هذا التعريف الخاطيء تفسيره لروايات الشيعة للبداء .وحاله هذا كحاله في مسألة التقية ، فيذكر ص 153 تحت عنوان «الشيعة والكذب». ويبدأ قوله : «الشيعة والكذب كأنهما لفظان مترادفان لا فرق بينهما ، تلازما من أول يوم أسس فيه هذا المذهب وكون فيه ، هذا فما كانت بدايته إلا من الكذب وبالكذب ...» .

ثم يبرهن على ذلك فيقول : ولما كان التشيع وليد الكذب أعطوه صبغة التقديس و التعظيم وسموه بغير اسمه ، واستعملوا له لفظة (التقية) ..».

أسألكم - بالله - أيُّ منهج هذا في المناقشة العلمية ، تهجم وسخرية م--ن غ-ير فهم ، فكيف جاز له أن يفسر التقية بالكذب ؟ ، وقد استخدم القرآن هذا اللفظ قال تعالى : «لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ...»آل عمران 28.

ص: 227

وبالمعنى في آية أخرى:

«مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ...» النحل 106 .

والتقية بمعنى إخفاء الإيمان وإظهار خلافه، إذا خاف الإنسان على نفسه وماله وعرضه ، وهذا ما لا يخالف فيه أحد . المسلمين ، لأن الذي يُكره لا يُحاسب فيما أكره عليه ، بل أحياناً يجب عليه ذلك إذا تعلق الضرر بالآخرين ، أو على مصلحة الرسالة والدين كما فعل مؤمن آل فرعون ، وفي حالة الاضطرار يرتفع الحكم من الموضوع .

قال تعالى : « فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »البقرة 173.

ولم يرد إحسان ظهير من هذا إلا الخدعة والمكر بطريقة ذكية . فيفسر التقية بالكذب ويرسلها إرسال المسلمات ، وعندما يثبت هذا في ذهن القارىء يحشد له مجموعة من الروايات الشيعية التي تصرح بالتقية ، فيضع للقارىء في مكان (التقية) كلمة (الكذب) ، فيخرج بمعان تجعله ينفر مما يقوله الشيعة .

ولست هنا في مقام الرد أو إثبات ما يقوله الشيعة لأنه لم يكن أهلاً للمناقشة والأدلة ولم يذكر دليلاً واحداً مخالفاً حتى يرد عليه ، وما يهمنا هنا هو بيان أسلوبه ومنهجه فقط.

ب . الملاحظة الثانية:

من غير المنطقي التهكم على عقائد الغير ومحاكمتها لأنها تخالف معتقداتك،

ص: 228

ولكن مع الأسف هذا أسلوبه وأسلوب غيره من الكتاب - كل شيء يخالف م-ا قلناه .صلاتهم غير صلاتنا وصومهم غير صومنا وزكاتهم غير زكاتنا...

كأنما هم محورالدين وأئمة المسلمين ، لابد أن يدور كل شيء حول رحاهم ، متجاوزين بذلك القاعدة التي تقول انحن مع الدليل نميل معه حيثما مال] .

وهذا مخالف لمنهج القرآن في المباحثة والمناظرة العلمية ، الذي يعترف بالطرفين ، فيعلم الله رسوله ، كيف يخاطب الكفار والمشركين .

قال تعالى : «ُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ » سبأ 24 . فانظر هذا التعامل الأخلاقي النبيل ، فلم يقل لهم إني عل-ى ح-ق وأنتم على ضلال ، بل قال إما نحن أو أنتم على حق أو على باطل .... فهذا هو منهج القرآن عندما طرح للجميع حرية المناقشة قائلاً : (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ).

فكان رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) ، يسمع براهينهم ويردها بالتي هي أحسن ، وقد سجل القرآن نماذج كثيرة سواء كانت مع رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) أو مع الأنبياء السابقين، ففي قصص إبراهيم ونمرود ، وموسى وفرعون ، خير عبر ، وقد أثبت الله سبحانه وتعالى حجج وبراهين الكافرين في قرآنه ، وأعطاها من القداسة ما أعطى غيرها من الآيات ولم يجوز لمسلم أن يمسها من غير وضوء . بناء على الفقه الشيعي . أين إحسان .... ظهير ، وأمثاله من هذا المنهج القرآني الأصيل ، وهو يفتخر بنفسه وجماعته قائلا : «قراء القرآن الذين يتلونه آناء الليل وآناء «النهار» (1).

ص: 229


1- الشيعة والقرآن ، ص 7

فما فائدة من يقرأ القرآن ويتلو آياته ولا يتدبرها ، ويستخلص منها الرؤى والبصائر ، التي تكشف ل-ه طريقه في الحياة ، ويستنطقها كيفية التعامل مع الآخرين ، الذين يخالفونه في العقيدة والمذهب ، ولكن صدق الإمام علي (علیه السلام) حينما قال : «كم قارىء للقرآن والقرآن يلعنه» .

أ . نماذج من تزويراته

(1) نقل فى كتابه الشيعة وأهل البيت ص 38 نصاً للإمام علي (علیه السلام ) من نهج البلاغة ، مستدلاً على أن الإمام علي (علیه السلام) معترف بالشورى وليس بالنص ، وأن

شورى المهاجرين والأنصار هي رضا الله ، ولا تنعقد الإمامة بدونهم ، هذا ما استخلصه

من النص ، وهو كما تعلم نقض كامل لما تقوله الشيعة ، وإليك النص الذي استنتج منه ذلك : «إنما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإن اجتمعوا على رجل ، وسموه إماماً كان ذلك رضا الله ، فإن خرج منهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه ، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى».

وبعد رجوعي إلى المصدر تبين لي أن الرجل غير أمين في نقله ، فإنه اقتطع ما يعجبه من وسط الكلام وترك صدره وآخره ، حتى يزيف الحقيقة ويحرفها .

ص: 230

وإليك تمام النص الذي يتغير بتمامه كل المفهوم، ويتضح أن ما ذكره الإمام (عليه السلام) كان من باب ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم ، وهو عبارة عن خطاب من علي

(علیه السلام) إلى معاوية :

«إنه بايعني القوم ، الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد ، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا ... ولعمري يا معاوية لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان ، ولتعلمنَّ أني كنتُ في عزلة عنه ، إلا أن تتجنى فتجن ما بدا لك والسلام » (1).

فاحتج أمير المؤمنين على معاوية بنفس ما يحتج به معاوية وأتباعه إلى اليوم بصحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، فألزمه على (علیه السلام) بحجت--ه --- أي حجة معاوية نفسه فقال : إن كانت بيعة الخلفاء قبلي صحيحة فبيعتي مثلهم ، فقد بايعني الناس ولا طريق لمنكر بعد ذلك ، فليس لشاهد البيعة أن يختار كما حدث في بيعة عمر بعدما عينه أبوبكر ، فلم يكن لهم خيرة بعد تعيينه ، ولا للغائب أن يرد ذلك ، كما لم يتمكن الإمام (علیه السلام) من رد بيعة أبي بكر في السقيفة ، لأنها كانت خفية ، فهذه هي الشورى التي ادعيتموها ، سواء كانت في إمرة أبي بكر أوعمر أو عثمان ، فهي رضا الله كما تدعون ، فلا يجوز أن يخرج منها خارج وإلا رد كما ردوا مانعي الزكاة عندما امتنعوا عن دفعها إلى أبي بكر ، لأنه لم يكن الخليفة

ص: 231


1- نهج البلاغة ، شرح محمد عبده ج3 / 8

الشرعى في نظرهم فليس لك مناص يا معاوية لأنه قد اجتمع الناس إلى مبايعتي. إلا أن تتجنى ، فتجنَّ ما بدا لك.

هذا هو المعنى الذي يُستفاد من جملة السياق ، ولكنه لم يرق لهوى إلهي ظهير .

(2) أورد في كتابه حديثاً من التفسير المنسوب إلى الحسن العسكري ، يقول فيه : إن رجلاً ممن يبغض آل محمد ، وأصحابه الخيرين ... أو واحد منهم يعذبه الله عذاباً ... لو قسم على مثل عدد خلق الله لأهلكهم أجمعين» (1) .

ثم يقول : ولأجل ذلك قال جده الأكبر ، علي بن موسى الملقب بالرضا- الإمام الثامن عند الشيعة - حينما سُئل : عن قول النبي (صلی الله علیه وآله وسلم ) : «أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم وعن قوله : دعوا لي أصحابي : فقال (علیه السلام) : هذا صحيح »(2).

ويريد أن يستدل بذلك على أن نظرة أهل البيت للصحابة ، كانت تعتبر عدالتهم جميعاً فلا يحق للشيعة الطعن أو الجرح في أحد منهم ، وإلا يكونوا مخالفين لأقوال أئمتهم. تأمل إلى هذا الكذب الصريح عندما أنقل إليك تمام النص :

«قال : حدثني أبي ، قال سئل الرضا (علیه السلام)عن قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ، وعن قوله : دعوا لي أصحابي ، فقال (علیه السلام ) : هذا

ص: 232


1- الشيعة وأهل البيت ، ص 40
2- الشيعة وأهل البيت . ص 40

صحيح يريد من لم يغير بعده ولم يبدل ، قيل : وكيف يعلم أنهم قد غيروا أو بدلوا ؟ قال: لما يروونه من أنه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ليذادن برجال من أصحابي يوم القيامة عن حوضي ، كما تذاد غرائب الإبل عن الماء ، فأقول : يا رب أصحابي ، أصحابي .

فيقال لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ؟ فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: بُعداً لهم وسحقاً لهم . فترى هذا لمن لم يغير ولم يبدل» (1).

انظر ما فعلته الخيانة في نقل الحديث كيف غيرت مفهومه تماماً ، ألم أقل لكم أنه كذاب؟!

وقول الإمام (علیه السلام) : «لما يروونه» أي ما يرويه محدثوهم وحفاظهم من أهل السنة والجماعة ، وتصديقاً لقول الإمام (علیه السلام) ، سوف أنقل ل-ك بعض الرواي-ات

التي جاءت في البخاري ومسلم .

روى البخاري ج 6 / 66 وص 6 / 66 وص 122 في تفسير سورة المائدة ، باب أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك .

وتفسير سورة الأنبياء كما رواه الترمذي في أبواب صفة القيامة ج 4 / 615

2423 ، باب ما جاء في شأن الحشر، وتفسير سورة الأنبياء ج 5 / 321 -322 ح 3167 : «وإنه يجاء برجال من أمتي ، فيؤخذ ذات الشمال ، فأقول : بهم يا رب أصحابي فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد

ص: 233


1- عيون أخبار الرضا، ج 2 / 3387

234

الصالح :« وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم ، فلما توفيتني كن-ت أن--ت الرقي-ب عليهم» ، ف يقال : إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم ، من فارقتهم» .

وروى البخاري ج 8 / 149 في كتاب الدعوات باب الحوض.

وابن ماجة ج 2 / 1016 ح 3057 كتاب المناسك باب الخطبة يوم النحر، حديث رقم 5830 ، كما أورده أحمد في مسنده بطرق متعددة :

«ليردن على ناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم ، اختلج-وا دوني فأقول: أصحابي ، فيقال : لا تدري ما أحدثوا بعدك» .

وفي صحيح مسلم : ج 4 / 1800 ح 40 کتاب الفضائل باب إثبات حوض نبينا ، الحديث 40 : ليردن عليَّ الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رأيتهم رفعوا لي اختلجوا ،دوني ، فلأقولن : أي ربِّ أصحابي ، فليقالن لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» .

وروى البخاري ج 8 / 150 - أيضاً - : «إني فرطكم على الحوض ، م-ن م-ر عليَّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ليردن على أقوام ، أعرفهم ويعرفونني ، ثم يحال بيني وبينهم ، فأقول : أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سُحقاً ، سُحقاً لمن غير بعدي».

ولولا الخوف من الخروج عن الموضوع ، لوسعتُ في هذا المقام .

فيا إحسان ، إذا امتدت يدك لتحرف ما جاء في أحاديث الشيعة ، فإنك لا تستطيع أن تحرف ما جاء في صحاحكم .

(3) أورد في ص 66 ، من نفس الكتاب ، حديثاً للإمام علي (علیه السلام) من نه--ج

ص: 234

البلاغة وإليك ما نقل : دعوني ، والتمسوا غيري، فأنا كأحدكم ، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم ، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً».

وعندما رجعت إلى مصدر النص ، وجدت مكره وحيلته ، حيث أخذ أول الكلام وآخره وترك ما بينهما ، فتغير بذلك المعنى ، وإليك تمام النص :

قال عندما أراده الناس على البيعة ، بعد قتل عثمان : «دعوني والتمسوا غيري ، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه ، وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت علي-ه العقول ، وإن الآفاق قد أغامت . والمحجة قد تنكرت ، واعلموا أني إن أجبتكم ركبتُ بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب ، وإن تركتموني فأنا كأحدكم ، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم ، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً»(1).

فانظر إلى النص الذي حذفه ، كيف ينقلب المعنى رأساً على عقب م-ن دون-ه، فماذا تسمى هذا - يا إحسان - ؟! ، ومن هو الذي يكذب على أهل البيت ؟!

ليس فقط من أنواع الكذب أن تقول قولاً وتنسبه إلى من لم يقله ، وإنم-ا م-ن الكذب أيضاً أن تحرّف مراد كلامه وتنسبه إليه.

سبحان الله قد عرف أمير المؤمنين (علیه السلام) أنهم لا يثبتون على هذه البيعة وسوف يرتدون عليه ويقاتلونه في الجمل وصفين والنهروان ، ويحتجون عليه بآلاف التبريرات ، ولذلك أقام عليهم الحجة ، وأخبرهم بمنهجه في الحكم ، وهو

ص: 235


1- نهج البلاغة ص 136 ، الخطبة رقم 92

الحق والحق مرصعب (وأكثرهم للحق كارهون) .

وحدث ما قاله (علیه السلام) بالفعل ، ولكن لم أكن أتوقع أن يستمرهذا الانقلاب والتبرير إلى يومنا هذا فيحرفون كلامه ، لما فيه من كشف عن سوء عن سوء نية وزيف من بایعه.

(4) وأختم بهذا التزوير والتحريف الواضح ، وأترك لك التعليق ، وأكتفي به، لأني لوجاريت هذا النسق من التزوير والتحريف لطال بنا المقام ، وباختصار فإن الرجل لم يكن صادقاً حتى مع نفسه ، وحمله على هذه الأفعال شدة عداوته لأهل البيت وشيعتهم ، وإلا لماذا هذا التعسف الواضح ؟ أيريد به أن يثبت للناس حقاً مضيَّعاً ؟ وهو يتّبع الباطل والتزوير وسيلةً وهدفاً ؟!

أورد في كتابه ، الشيعة وأهل البيت ص 67 : «والطبرسي أيضاً ينقل عن محمد الباقر ، ما يقطع أن علياً كان مقراً بخلافته ، ومعترفاً بإمامته ، ومبايعاً له بإمارته ، كما يذكر أن أسامة بن زيد حب رسول الله لما أراد الخروج ، انتقل رسول الله إلى الملأ الأعلى : فلما ورد الكتاب على أسامة ، انصرف بمن معه حتى دخل المدينة فلما رأى اجتماع الخلق على أبي بكر ، انطلق إلى علي بن أبي طالب (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : ما هذا ؟ قال علي (رضي الله عنه) : هذا ما ترى ، قال أسامة : فهل بايعته ؟ فقال : نعم

وقد نقل هذه الحادثة من كتاب الاحتجاج للطبرسي، وإليك تمام النص من المصدر :

«وروى عن الباقر (علیه السلام) ، أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكر : أكتب إلى أسامة بن زيد يقدم عليك ، فإن في قدومه قطع الشنيعة عنا . فكتب أبو بكر إليه :

من أبي بكر خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، إلى أسامة بن زيد أما بعد :

ص: 236

فانظر إذا أتاك كتابي ، فأقبل إلي أنت ومن معك ، فإن المسلمين قد اجتمعوا عليَّ وولوني أمرهم ، فلا تتخلف ، فتعصي ويأتيك مني ما تكره ، والسلام .

قال : فكتب أسامة إليه جواب كتابه : من أسامة بن زيد عامل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على غزوة الشام . أما بعد : فقد أتاني منك كتاب ينقض أوله آخره ، ذكرت في أوله أنك خليفة رسول الله وذكرت في آخره أن المسلمين قد اجتمعوا عليك فولوك أمرهم ورضوك ، فاعلم أني ومن معي من جماعة المسلمين والأنصار فلا والله مارضيناك ولا وليناك أمرنا ، وانظر أن تدفع الحق إلى أهله ، وتخليهم وإياه فإنهم أحق به منك ، فقد علمت ما كان من قول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في علي يوم الغدير فما طال العهد فتنسى ، انظر مركزك ولا تخالف فتعصي الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونعصي من استخلفه رسول الله عليك وعلى صاحبك ولم يهذلني حتى قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنك وصاحبك رجعتما ، وعصيتما - يعني عمر فأقمتما في المدينة بغير إذن».

فأراد أبو بكر ، أن يخلعها من عنقه ، قال : فقال له عمر : لا تفعل ، قميص قمصك الله لا تخلعه فتندم ، ولكن ألح عليه بالكتب والرسائل ، وَمُرْ فلاناً وفلاناً أن يكتبوا إلى أسامة أن لا يفرق جماعة المسلمين ، وأن يدخل معهم فيما صنعوا قال : فكتب إليه أبوبكر وكتب إليه الناس من المنافقين : أن إرْضَ بما اجتمعنا عليه وإياك أن تشمل المسلمين فتنة من قبلك فإنهم حديثو عهد بالكفر» قال : فلما وردت الكتب على أسامة انصرف بمن معه حتى دخل المدينة ، فلما رأى اجتماع الخلق على أبي بكر انطلق إلى علي بن أبي طالب له فقال له : ما هذا ؟ قال له على : هذا ما ترى ، قال له : سامة : فهل بايعته ؟ فقال : نعم ي- أسامة ، فقال : طائعاً أو مكرهاً ؟ فقال : لا بل كارهاً .

ص: 237

قال : فانطلق أسامة فدخل على أبي بكر وقال له : السلام عليك يا خليفة المسلمين ،قال: فرد عليه أبوبكر وقال : السلام عليك أيها الأمير »(1) .

ولا نقول له أكثر مما قاله عزوجل في محكم كتابه الكريم :

«انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا » (2).

«فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ »(3)

(3) كتاب «تبديد الظلام وتنبي-ة النيام إلى خطر التشيع على المسلمين والإسلام» لابن الجبهان :

لم أركاتباً أكثر منه عداءاً لأهل البيت وشيعتهم ، فقد شد عزمه على التشنيع بهم والافتراء عليهم من غير منهج في النقاش أو أسلوب في الحوار ، وكل ما عنده تكفير وتفسيق ومصادرة لآراء الآخرين ، والذي يقرأ الكتاب سيجدني متسامحاً جداً .

وقد ثبت لي أنه لا يريد من كتابه هذا كتابه هذا سوى إثارة الفتنة بين الشيعة والسنة وتفريق صفوف المسلمين بشتى الوسائل والطرق ، لكي يزدادوا بلاء وضعفاً على ضعفهم ، وكان من الأفضل أن يوجه كتابه إلى أعداء الإسلام والمسلمين دويلة (إسرائيل) .

وبما أنه أتفه من أن يناقش لأنه لم يذكر دليلاً حتى يكون أهلاً لذلك ، وإنما هو

ص: 238


1- الاحتجاج ، للطبرسي ج 1 / 224 - 225
2- سورة النساء ، الآية
3- سورة المائدة ، الآية 13

مجموعة من الأكاذيب والافتراءات على أهل البيت وشيعتهم ، فينفي كل فضل جاء في حقهم وينكر الآيات الواضحة والأحاديث الدالة على وجوب التمسك بهم .

وإليك نماذج من أساليبه في كيفية تضعيف الأحاديث التي تذكر فضائل أهل البیت.

أ - بعد أن أن يورد يورد مجموعة من الأحاديث يقول : «ونرد عليها وعلى الأمساخ البشرية التي تشبثت بها»(1).

1 - الحديث الأول : «مثل أهل بيتي فيكم كمثل باب حطة من دخل-ه ك-ان آمناً».

«مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من تمسك بها نجا ومن تخلف عنها غرق ».

... يضعف هذا الحديث بأوهن ما يكون من الأدلة ، فيقول : إن هذا الحديث يستوجب أن النجاة والأمن في التمسك بأهل البيت ، والهلاك والضياع في التخلف عنهم وهذا لايجوز بمنطوق القرآن ، لأن القرآن لا يشترط في النجاة إلا الإيمان بالله والعمل الصالح ،ولاينذر بالهلاك إلا هذا الكفر واقتراف المعاصي ، ولا توجد فى كتاب الله آية واحدة تنقض قولنا هذا (2).

أقول : ولكن ما علاقة قولك بهذا الحديث ! فإثبات الشيء لا ينفي ما عداه ... هذا أولاً .

ثانياً : كل القرآن ينقض قولك ، فهذا القرآن بين يديك يأمرنا بالتمسك بالأنبياء

ص: 239


1- تبديد الظلام ص 90
2- المصدر السابق ص 91

والرسل ، ويحكم كفر من لم يتمسك بهم « وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا »، كما يأمرنا بالتمسك بالأولياء :«أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ » ، فالأمر في هذه الآية واضح في الوجوب فيلزم التمسك بهم ، وأوجب الله علينا أيضاً التمسك بالمؤمنين واتباع سبيلهم .

قال تعالى : «وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا »(1).

فعدم التمسك بهم يعني الهلاك - ومع الأسف - لم يرجع الجبهان إلى كتاب الله

حتى يرى كيف كان دخول الباب لبني إسرائيل غفراناً لذنوبهم .

«وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ »(2).

لم يجهل الجبهان ذلك لكن شدة عداوته لأهل البيت حملته على ذلك ، ونزي-ده غيظاً بقوله تعالى :« لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى »(3)

فقد جعل الله أجر رسالته في موالاة أهل البيت.

ويضيف مستدلاً بقوله : لماذا نتبع أهل البيت ، هل لهم علم لم يبلغه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للمسلمين عامة . إن اعتقاد ذلك ، يعني اتهام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمحاباة وكتمان الرسالة...

ص: 240


1- سورة النساء ، الآية 115
2- سورة البقرة ، الآية 58
3- سورة الشورى ، الآية 23

وما دام الدين قد اكتمل فما الذي نحتاجه من أهل البيت .

انظر إلى سخافة الاستدلال ، فإذا كان تبليغ أحكام الدين وتوضيحها لبعض الناس دون غيرهم محاباة فلزم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - وهو رسول لكل البشر - أن يبلغ بنفسه كل البشر فرداً فرداً ، أو على الأقل الذين في زمانه ، وهذا ما لا يقول به عاقل كما أن هذا الأمر خارج عن نطاق التبليغ ، فقد امتاز أهل البيت بصفات أهلتهم لقيادة الأمة ، فمن الواضح اختلاف الناس في مدى فهمهم واستيعابهم ، واختلافهم في درجات الإيمان ، فقد بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للكل ولكن أهل البيت كانوا أسبق الناس إيماناً وأكثرهم جهاداً وأفضلهم تقوى وورعاً ، ولذلك طهرهم الله من الرجس في كتابه ... فما هذا الحقد الدفين يا ابن الجبهان ؟! أما أن اكتمال الدين ينفي حاجة المسلمين ، فلماذا نحتاج إلى الصحابة والسلف الصالح لنقلدهم ؟!

وبهذه الأدلة السخيفة رد هذا الحديث.

2 - الحديث الثاني : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ».

يقول : «محرف ، وصحته «كتاب الله وسنتي» ، وعلى فرض أنه غ-ي-ر مح-رف فمن هم العترة المشار إليهم في هذا الحديث» (1).

...بهذه البساطة رد حديث كتاب الله وعترتي» !

وقد مر البحث حوله في أول الكتاب .

من الواضح كما أقر علماء الأصول أن القضية لا تثبت موضوعها ، فالحديث

ص: 241


1- ص 40

هنا في مقام إثبات مجمل القضية وهو وجوب التمسك بكتاب الله وعترة وعترة أهل

البيت أما معرفة ما هو الكتاب ، وما هي العترة ، لا يُعرف من هذا الحديث فيحتاج إلى دليل آخر خارج عنه ، حتى يفصل المراد منهما .

فكيف يستشكل على الحديث بقوله : من هم أهل البيت ؟!

فهذا سؤال يفترض عليه أن يوجهه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)لأنه افترض صحة الحديث .

3 - الحديث الثالث : يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق» يقول : موضوع ولا أساس له من الصحة ، لأن محبة غير الله ورسوله لا تصلح معياراً للإيمان ولا مقياساً للعقيدة ، لأن محبة الله ورسوله تستتبع حتماً محب--ة الصالحين ولا تنفصل عنها.

أولاً - لماذا ياترى استثنى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فإذا كان المعيار هو الاستتباع فحب الله يستتبع أيضاً حب رسوله وعباده الصالحين.

ثانياً - فإذا كان حب الله ورسوله يستتبع حب الصالحين ، فأيضاً حب الصالحين يستتبع حب رسوله وحب الله ، وهذا يثبت صحة الحديث لأن الحديث في بيان كيفية معرفة المنافق ، وبما أن الذي يُظهر الإيمان بالله ورسوله لا يستطيع أن يعلن عن عدم حبه الله ورسوله وإلا لا يسمى منافقاً ولكن يستطيع أن يعلن بغضه لأي شخص آخر ، وبما أن الإمام عليا (علیه السلام ) ، من الصالحين بل من أصدق المصاديق فمن أبغضه يكون بالاستتباع يبغض الله ورسوله ، فيشكل لنا هذا الحديث معياراً دقيقاً في معرفة المنافقين .

ثالثاً - وإذا كان عنوانك أن الحب والبغض ليس معياراً للإيمان ولا مقياساً للعقيدة فلماذا تكفر الشيعة ، بسبب بغضهم لبعض الصحابة - على حسب زعمك - ؟!

ص: 242

ولماذا أنت تحبهم وتحب السلف الصالح بما فيهم من بني أمية وبني العباس وتستبسل في الدفاع عنهم ؟!

ألا ترجو من ذلك ثواباً ؟!

فإذا كان ، لا ، فكلامك كله لغو وضياع للوقت.

4 - الحديث الرابع: «أنا مدينة العلم وعلي بابها » .

يقول : إن صبغة الحديث تدل على تفاهته ، وتفاهة من نسبه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فإن النفور واضح بين كلمة «المدينة» وكلمة «العلم» ولا يوجد أي

انسجام لا تلقى بين مفهومهما ولا بين منطوقهما ، ولو قال : «أنا بحر العلم وعلى شاطئه» لكان أليق .

ويستدل أيضاً : لماذا جعل رسول الله هذا العلم في مدينة وجعل مفاتح-ه عن-د علي ولم يجعلها مشاعاً من غير أبواب ، حتى يتيسر لكل الناس الدخول إليها من حيث شاءوا..

هذا مبلغ علمه وغاية استدلاله . أي منافاة ، والحديث لم يكن بخصوص تعريف العلم حتى يقول : بحر وإنما أراد بيان الرابطة بينه وبين على (علیه السلام) ، فالحديث ناظر إلى مجمل العلاقة بينهما ، فكان مثال المدينة أوضح لعدم التمكن من الدخول إليها إلا عن طريق الباب .

أما قوله : ولم يجعلها مشاعاً من غير أبواب ...

فيكفيه قوله تعالى : « فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»(1).

ص: 243


1- سورة النحل ، الآية 43

هذا هو منهجه الذي يدل على نصبه وشدة عداوته لرسول الله وعترته الطاهرة . فبهذا التفكير الساذج والأدلة المضحكة لا يثبت لأهل البيت منقبة ، وفي المقابل يصحح كل الروايات الضعيفة والأحاديث المردودة متناً وسنداً لأنها تثبت فضيلة لأي واحد آخر من السلف .

فيا علماء أهل السنة والجماعة ، أتقبلون مثل هذا عالماً من علمائكم ، يدافع عنكم ويمثل رأيكم ، فإذا كان نعم . فعلى أهل السنة والجماعة السلام . وإذا كان لا، فلماذا لاتعترضون عليه وتوقفونه عند حده ، وهذا الكتاب الذي بين يدي هو الطبعة الثالثة ، وقد يكون طُبع عشرات المرات .... فأوقفوه .

ومن المؤسف جداً . أنه مكتوب عليه طبع هذا الكتاب بإذن من رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد» .

فسبحان الله ! ، اسم مناقض تماماً لهذا الكتاب ، فأي بحوث علمية وهي لم تبحث هذا الكتاب نفسه ، وألا يُنسب إليها ما نُسب إلى مؤلفه من الجهالة وحماقة العقل وقلة الفهم ، والتحريف وتزوير الحقائق لأن الإقرار بالشيء ه-و التصديق به.

وأي دعوة ، وأي إرشاد ؟!

اللهم إلا الدعوة إلى الافتراق والاختلاف ، والإرشاد إلى هذه المتناقضات المخزية فإلى متى تعيش الوهابية في هذا التناقض ، فعندما ضعف الدكتور الترابي

ص: 244

حديث الذبابة بأدلة منطقية وبراهين علمية ، شهروا عليه سيوفهم وأفتوا بكفره ، ولكن عندما يضعف الجبهان عشرات الأحاديث الصحيحة والمتواترة عندكم ، التي رواها البخاري ومسلم ، لا يُحرك له ساكن ....!

فهل عندكم الذبابة أكثر شرفاً من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟!!

«وحقا يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق».

ب - نماذج من افتراءاته على الشيعة

1 - قال في ص 494 : «وزد على ذلك أن أذانهم يختلف عن أذاننا ، وصلاتهم تختلف عن صلاتنا ، وصيامهم يختلف عن صيامنا ، وهم لا يعترفون بالزكاة ولا مستحقيها».

2 - يقول في ص 495 : «وأنهم لا يعذبون بكبيرة ولا صغيرة ، وأن من سواهم مخلدون في النار ، ثم إباحتهم إعارة فروج الإماء وإسقاطهم الجمعة والجماعة والجهاد والحدود بحجة غيبة الإمام ، وتسميتهم أمة محمد بالأمة الملعونة ، واعتقادهم بأن لعن الصحابة وأمهات المؤمنين من أعظم القربات إلى الله » .

3 - ويذكر في ص 222 : «وقد لا يصدق القارىء الكريم أن نكاح الأم عندهم هو من البر بالوالدين ، وأنه عندهم من أعظم القربات» .

4 - وفي ص 190 : «يمد الشيعي إليك يده مصافحاً ، ولكن ليشغلك عن اليد الأخرى التي امتدت إلى جيبك».

5 - وفي ص 28 : «كل من يولد في أيام عاشوراء فهو سيد ، وكل من حملت به أمه في أيام عاشوراء فهو سيد حتى ولو كان حملاً غير شرعي» .

ص: 245

بل لم يقف عند ذلك ، فقد امتد لسانه إلى الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، الذي تعتقد فيه مجموعة من المسلمين، أنه إمام معصوم، والمجموعة الأخرى تعتقد فيه أنه من جهابذة العلم والعلماء ، وقد دان بفضله أئمة المذاهب الأربعة .

ولم يذكر لنا التاريخ أن أحداً قدح فيه ، ولو كان من أشد أعدائه ، إلى أن أتى ابن الجبهان قائلا في حقه :

إن قول جعفر : [من أراد الدنيا لا ينصحك ومن أراد الآخرة لا يصحبك ] قول من برع في أساليب المراوغة وأتقن فنون الدجل . ولكن إذا كان القول بأن الناس على دين ملوكهم صحيحاً فصحة القول بأنهم على دين أئمتهم م-ن ب-اب أولى ، وبما أنكم نسخة مطابقة لأصل [جعفر] الذي تعترفون بأنه المؤسس الأكبر لكل معتقداتكم»(1) .

فانظر إلى أي مدى بلغ به النصب والعداء لأهل بيت الرسالة .

8 - ولم يكن هذا المنهج من إبداعات الجبهان ، فقد سبقه إليه أستاذه مؤسسر الوهابية محمد بن عبدالوهاب ، فقد جاء في رسالة «في الرد على الرافضة» : 34 : إباحتهم نكاح المتعة ، بل يجعلونها خيراً من سبعين نكاحاً دائماً ، وقد جوز لهم شيخهم الغالي علي بن العالي ، أن يتمتع أن يتمتع اثنا عشر نفساً في ليلة واحدة بامرأة واحدة ، وإذا جاء الولد منهم أقرعوا بينهم فمن خرجت قرعته كان الولد له».

ص: 246


1- ص 203 و 206

9 - ص 44 : ومنها أن اليهود مسخوا قردة وخنازير ، وقد نقل أنه وقع ذلك لبعض الرافضة في المدينة المنوّرة وغيرها، بل قد قيل أنهم تمسخ صورهم ووجوههم عند الموت ، والله أعلم .

فهذا هو منهجهم في الرد على الشيعة ، لا يخرج عن أساطير ألف ليلة وليلة وأحلام قمر الزمان وشهرزاد .

رابعاً - وأما افتراءات أحمد أمين في - ضحى الإسلام - فسوف نضرب عنها صفحاً ، خاصة بعدما بلغنا اعتذاره عما كتبه عن الشيعة ، ويذكر ذلك الإمام الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء في كتابه - أصل الشيعة وأصولها - ص 140 :

«ومن غريب الاتفاق أن أحمد أمين في العام الماضي 1349 ه- بعد انتشار كتابه ، ووقوف العديد من علماء النجف عليه - زار مدينة العلم - النجف ، وحظي بالتشرف بأعتاب تلك المدينة ، في الوفد المصري المؤلف من زهاء 30 بين مدرس وتلميذ وزارنا بجماعته ، ومكثوا هزيعاً من ليلة من ليالي رمضان ، في نادينا في محفل حاشد ، فعاتبناه على تلك الهفوات ، عتاباً خفيفاً ، وصفحنا عنه صفحاً جميلاً . وأردنا أن نمر عليه كراماً ، ونقول له سلاماً ، وكان أقصى ما عنده من الاعتذار عدم الاطلاع وقلة المصادر ، فقلنا : وهذا أيضاً غير سديد ، فإن من يريد أن يكتب عن موضوع يلزم عليه أولاً أن يستحضر العدة الكافية ويستقصي الاستقصاء التام ، وإلا فلا يجوز له الخوض والتعرض له ، وكيف أصبحت مكتبات الشيعة ومنها مكتبتنا مشتملة على ما يناهز 5000 مجلداً أكثرها من كتب علماء السنة وهي في بلدة كالنجف فقيرة من كل شيء إلا من العلم والصلاح إن شاء الله ، ومكتبات القاهرة ذات العظمة والشأن خالية من كتب الشيعة إلا من

ص: 247

شيء لا يذكر.

نعم ، القوم لا علم لهم من الشيعة بشيء وهم يكتبون عنهم كل شيء» .

ص: 248

الفصل الثامن : المذاهب الأربعة تحت المجهر

اشارة

* حركة الاختلاف بين المذاهب *

* وقفة مع أئمة المذاهب الأربعة *

* خاتمة *

* لمحة عن الفقه الشيعي *

* مناظرة يوحنا مع علماء المذاهب الأربعة *

ص: 249

ص: 250

المذاهب الأربعة تحت المجهر

حركة الاختلاف بين المذاهب

لقد انعكست آثار السقيفة وتحويل الخلافة عن أهل البيت في كل المجالات والأصعدة فأثرت سلبياً في التاريخ وعلم الحديث . وغيرها من العلوم وظهرت آثارها الواضحة على الفقه الإسلامي، فتعددت المدارس الفقهية ، وتباين-ت ع-ن بعضها.

وقد نقل التاريخ تعصب كل جماعة لمدرستهم الفقهية وما حصل بينهم من مشادات ونزاعات إلى درجة أن يكفر بعضهم البعض ، وكشف لنا أيضاً دور السلطات الحاكمة وكيف كانت تتلاعب بدين المسلمين فالعالم الذي يوافق هواها يكون إماماً للمسلمين وتُلزم الناس بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بتقليده والاقتداء به .

وقد رست المرجعية الفقهية بعد ظروف وملابسات متعددة على أربع من مئات المجتهدين وهم : مالك ، أبو حنيفة ، الشافعي ، أحمد بن حنبل ، ثم حُرِّمَ الاجتهاد من بعدهم وأمر الجميع بتقليدهم ، ويرجع ذلك إلى تاريخ 645 ه- عندما رأت السلطات الحاكمة أن مصلحتها تتطلب حصر الاجتهاد في المشايخ الأربعة ، وقد تعصب مجموعة من العلماء لهذه الفكرة وأعلنوا تأييدهم لها ، واعتبرت مجموع---ة أخرى أن هذا التصرف ما هو إلا كبت للحرية ومصادرة للقدرات ، وقد ألف ابن القيم فصلاً طويلاً في - إعلام الموقعين - استقصى فيه أدلة القائلين بوج---وب س---د

ص: 251

باب الاجتهاد وعطلها بالأدلة القوية ، ورغم أن الرأي الذي يقول بوجوب الوقوف على اجتهادات الأئمة الأربعة مخالف للدين والعقل السليم إلا أنه كانت له الغلبة لتأييد السلطات لهذا الرأي الذي يضمن لها مصالحها .

يقول الأستاذ عبد المتعال الصعيدي : «وإني أستطيع أن أحكم بعد هذا بأن منع الاجتهاد قد حصل بطرق ظالمة ، وبوسائل القهر والإغراء بالمال ، ولا شك أن هذه الوسائل لو قُدرت لغير المذاهب الأربعة - التي نقلدها اليوم -- لبقي جمهور يقلدها أيضاً ولكانت الآن مقبولة عند من ينكرها ، فنحن إذاً في حل من التقيد بهذه المذاهب الأربعة التي فرضت علينا بتلك الوسائل الفاسدة وفي حل من العود إلى الاجتهاد في أحكام ديننا ، لأن منعه لم يكن إلا بطريق القهر ، والإسلام لا يرضى إلا بما يحصل بطريق الرضا والشورى بين المسلمين . كما قال تعالى : (وأمرهم شورى بينهم)(1) .

هذه هي الحقيقة المرة التي يصل لها الباحث المنصف في تاريخ المذاهب الأربعة فبأي حق فُرضَ على المسلمين التعبد بأحدهم ، وبأي دليل مُنعَ العلماء من الاجتهاد ولماذا اختير هؤلاء الأربعة دون غيرهم ؟! مع وجود علماء أكثر منهم علماً وفضلاً . مثل :

(1) سفيان الثوري

ولد سنة 65 ه- ، وله مذهب خاص ولكن لم يطل العمل به لقلة أتباعه ،

ص: 252


1- میزان الاجتهاد ص 14

وعدم مؤازرة السلطة له . وهو أحد تلاميذ الإمام الصادق (علیه السلام) ، وخريج مدرسته ، ويعتبر من الفقهاء الذين تُشَدُّ لهم الرحال في طلب العلم ، وقد روى عنه عشرون الفا .

وأراد المنصور قتله فلم يتمكن وهرب حتى توفي متوارياً منه سنة 161 ه- فبقي مذهبه معمولاً به إلى القرن الرابع.

(2) سفيان بن عيينة

عالم وفقيه ثابت أخذ العلم عن الصادق (علیه السلام ) ، والزهري وابن دينار وغيرهم .

وقال الشافعي في حقه : ما رأيتُ أحداً فيه من آلة الفتيا ما في سفيان ، وما رأيتُ أكفأ منه على الفتيا ، وله مذهب يُعمل به انقرض في القرن الرابع.

(3) الأوزاعي

لقد كان الأوزاعي من العلماء ، وقد انتشر مذهبه في الشام ، وعمل أهلها بمذهبه مدة من الزمن ، ولقد كان الأوزاعي محترماً مقرباً من قبل السلطة ، فقد كان المؤيدين لها،فاتخذته لذلك رمزاً دينياً ، وعندما جاء العباسيون قربوه لمكانته من من أهل الشام ، فكان المنصور يعظمه ويراسله لما عرف منه الانحراف عن آل محمد صلوات الله عليهم ، ولكن رغم ذلك فقد انقرض مذهب الأوزاعي عندما عين محمد بن عثمان - الشافعي - قاضياً على دمشق ، فحكم بمذهب الشافعية وعمل على فرضه ونشره في الشام ، حتى تحول الشاميون إلى شوافع سنة 302 ه- .

إلى غيرهم من عشرات المجتهدين أمثال : ابن جرير الطبري ، وداود ابن علي

ص: 253

الظاهري، والليث بن سعيد والأعمش والشعبي . وآخرين ...

فلماذا بقيت هذه المذاهب الأربعة وانتشرت دون غيرها ؟!

أكان أئمتها أعلم الناس في عهدهم ؟!

أم اجتمع عليهم رضا الناس فجعلوهم أئمتهم ؟

كل هذا لم يكن متوفراً للمذاهب الأربعة ، فناهيك عن التاريخ الذي يثبت وجود علماء كانوا أعلم منهم ، فالعقل وحده يحكم بانتفاء هذا الشرط لأن تحديد الأعلمية من الصعوبة بمكان ، كما أن انتشار هذه المذاهب واشتهار أئمتها لم يكن في ظروف وأجواء تحكمها الحرية والنزاهة العلمية ، بل يظهر للمتتبع لتاريخها أنها فرضت على المسلمين في حين غرة من أمرهم ، أما اجتماع الناس عليهم ورضاهم بهم فلم يكن له أثر في التاريخ الإسلامي ، بل على العكس تماماً ، فقد تعصب كل أناس لمذهبهم وطعن بعضهم في معتقدات البعض حتى نتج من ذلك نزاعات دموية راح ضحيتها الآلاف من المسلمين ، فأصبحوا أعداء متخاصمين ، وعاملوا بعضهم معاملة الخارجين عن الدين حتى قال محمد بن موسى الحنفي - قاضي دمشق - المتوفى سنة 506 ه- : لو كان لي من الأمر شيء لأخذت من الشافعية الجزية ويقول أبو حامد الطوسي المتوفى سنة 567 ه- : لو كان لي أمر لوضعت على الحنابلة الجزية . فكثرت الحوادث التي وقعت بين الحنفية والحنابلة ، وبين الحنابلة والشافعية . فقام خطباء الحنفية يلعنون الحنابل والشوافع على المنابر، والحنابل يحرقون مسجداً للشافعية بمرو ، وشبت نار الفتنة والعصبية بين الحنفيةوالشافعية في نيسابور فحرقت الأسواق والمدارس ، وكثر القتل في الشافعية ، ثم يسرف

ص: 254

الشافعية في أخذ الثأر منهم وذلك سنة 554 ه- ومثل ذلك حدث بين الشافعية والحنابلة حتى تضطر السلطة إلى حل النزاع بالقوة وذلك في سنة 716 ه- (1).

وكان الحنابلة يخلّون بأعمالهم بالأمن ويهرجون في بغداد ، ويستظهرون بالعميان على الشافعية ، الذين كانوا يأوون إلى المساجد ، فإذا مرَّ بهم شافعي المذهب أغروا به العميان فيضربونه (2) .

وتجتمع بقية المذاهب على الحنابلة غضباً من أعمال ابن تيمية ، ونودي في دمشق وغيرها : من كان على دين ابن تيمية حُل ماله ودمه . بمعنى أنهم يعاملونهم معاملة الكفرة ، وفي المقابل نجد الشيخ ابن حاتم الحنبلي يقول : «من لم يكن حنبلياً فليس بمسلم» (3).

فهو يكفر يكفّر جميع المسلمين ما عدا الحنابلة ، وعكسه الشيخ أبوبكر المغربي - الواعظ في جوامع بغداد - ذهب إلى تكفير الحنابلة أجمع (4).

وغيرها من الحوادث التي يدمى لها القلب ، فقد بلغ بهم التعصب إلى قتل العلماء والفقهاء غدراً بالسم . وهذا الفقيه - أبو منصور - المتوفى سنة 567 ه- قتله الحنابلة بالسم تعصباً عليه ، قال ابن الجوزي : إن الحنابلة دسوا إليه امرأة

ص: 255


1- البداية والنهاية ج 14 ص 75 - 76 ، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 1 ص 190 -191
2- ابن الأثير ج 8 ص 308
3- تذكرة الحفاظ ج 3 ص 375
4- راجع شذرات الذهب ج 3 ص 353

جاءت إليه بصحن حلاوة ، وقالت : هذا يا سيدي من غزلي ، فأكل هو وامرأت--ه وولده وولد له صغير فأصبحوا موتى، وكان من علماء الشافعية المبرزين(1) وكثير من أمثالهم من العلماء الذين قتلوا بسيف التعصب .

وهكذا تعصب كل أناس لأئمتهم إلى درجة أنهم وضعوا في فضلهم أحاديث ونسبوها إلى رسول الله كذباً ،وزوراً ، فأخرجتهم عن حدود المعقول والاتزان وذلك مثل ما نسبوه لرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) : «إن آدم افتخر بي وأنا أفتخر برجل من أمتي اسمه النعمان ، وبصورة أخرى : الأنبياء يفتخرون بي ، وأنا أفتخر بأبي حنيفة ، من أحبه فقد أحبني ومن أبغضه فقد أبغضني» (2) ، وقد أخذهم الغلو في أبي حنيفة إلى أن ذكروا في فضائله الله خص أبا حنيفة بالشريعة والكرامة ، ومن كرامته أن الخضر ( علیه السلام ) كان يجيء إليه كل يوم وقت الصبح ، ويتعلم منه منه أحك--ام الشريعة إلى خمس سنين ، فلما توفي أبو حنيفة دعا الخضر ربه فقال : يا رب إن كان لي عندك منزلة فأذن لأبي حنيفة حتى يعلمني من القبر على عادته حتى أعلم الناس شريعة محمد على الكمال ليحصل لي الطريق ، فأجابه ربه إلى ذلك . وتمت للخضر دراسته على أبي حنيفة وهو في قبره في مدة خمسة وعشرين سنة ، إلی آخر ما في هذه الأسطورة التي تتلى في مجالس الحنفية في الهند ومساجدهم» (3).

ص: 256


1- طبقات الشافعية ج 4 ص 182 ، ط دار المعرفة بيروت
2- الياقوت في الوعظ ، لأبي فرج علي ابن الجوزي ص 48
3- المرجع السابق ، ص 48

وادعت المالكية لإمامهم أموراً ، منها : أنه مكتوب على فخذه بقلم القدرة مالك حجة الله في أرضه ، وأنه يحضر الأموات من أصحابه في قبورهم ويُنحي الملكين عن الميت ، ولا يدعهما يحاسبانه على أعماله(1).

وقد ذُكر أنه : ألقي كتابه الموطأ في الماء ولم يبتل .

وقال الحنابلة في إمامهم : «أحمد بن حنبل إمامنا فمن لم يرض فهو مبتدع» .

فكل المسلمين مبتدعون على حسب هذه القاعدة .

ويقولون أنه ما قام بأمر الإسلام أحد بعد رسول الله كما قام به أحمد بن حنبل ولا أبو بكر الصديق مثله ، وأن الله جل وعلا كان يزور قبره، كما روی ابن الجوزي في مناقب أحمد ص 454 قال : «حدثني أبوبكر بن مكارم ابن أبي يعلى الحربي - وكان شيخاً صالحاً - قال : كان قد جاء في بعض السنين مطر كثير جداً قبل دخول رمضان بأيام فنمت ليلة في رمضان فرأيت في منامي كأني قد جئت على عادتي إلى قبر الإمام أحمد بن حنبل أزوره فرأيت قبره قد التصق بالأرض مقدار ساف - أي صف من الطين أو اللبن - أو سافين فقلتُ : إنما تم هذا على قبر الإمام أحمد من كثرة الغيث فسمعته من القبر وهو يقول : لا بل هذا من هيبة الحق عزّوجل :قد زارني فسألته عن سر زيارته إيَّاي في كل عام فقال عزّوجل يا أحمد لأنك نصرت كلامي فهو يُنشر ويُتلى في المحاريب . فأقبلتُ على الحده أقبله ثم قلت : يا سيدي ما السر في أنه لا يقبل قبر إلا قبرك ؟ فقال لي : يا بني ليس

ص: 257


1- مشارق الأنوار للعدوي ص 88

هذا كرامة لي ولكن هذا كرامة لرسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم )لأن مع-ي ش-ع-رات م--ن شعره (صلی الله علیه وآله وسلم ) ألا ومن يحبني يزورني في شهر رمضان . قال ذلك مرتين» .

وغير ذلك من المناقب التي تدل على التعصب والغلو الفاحش ، وقد ظهر هذا التعصب بوضوح في أشعارهم .

قال شاعر الحنفية :

غدا مذهب النعمان خير المذاهب * كذا القمر الوضاح خير الكواكب

مذاهب أهل الفقه عندي تقلصت * وأين عن الرواسي نسج العناكب

ويقول شاعر الشافعية :

مثل الشافعى في العلماء * مثل البدر في نجوم السماء

قل لمن قاسه بنعمان جهلا ً* أيقاس الضياء بالظلماء

ويقول شاعر المالكية :

إذا ذكروا كتب العلوم فحي * هل بكتب الموطأ من تصانيف مالك

فشد به كف الصيانة تهتدي * فمن حاد عنه هالك في الهوالك

ويقول الحنبلي :

ص: 258

سبرت شرائع العلماء طراً * فلم أركاعتقاد الحنبلی

فكن من أهله سراً وجهراً * تكن أبداً على النهج السوي

ويقول آخر:

أنا حنبلي ما حييت وإن أمت * فوصيتي للناس أن يتحنبلوا

وهكذا كل واحد يجر النار إلى قرصه ، ويتعصب لإمامه ، ويفتخر بمذهبه ويتبرى من ، المذاهب الأخرى ، حتى قيل : إن من يصير حنفيا يُخلع عليه ، ومن يصير شافعياً يُعزر

(1) . وقد وصف السبكي ، في طبقات الشافعية بقوله : فهذا أبو سعيد المتوفى سنة 562 ه- كان حنفي المذهب ، وتحول شافعياً ، فلقي عناء وامتحن لذلك ، وهذا السمعاني لما انتقل من المذهب الحنفي إلى المذهب الشافعي لاقى محناً وتعصباً ، وقامت الحروب على ساق ، وأضرمت نيران الفتنة بين الفريقين ، فكانت تملأ ما بين خراسان والعراق واضطرب أهل مرو لذلك اضطراباً فظيعاً ، وفتحت باب المشاقة ، وتعلق أهل الرأي بأهل الحديث وساروا إلى باب السلطان ... إلى آخر ما وصفه (2).

ومثل هذه الحوادث كثيرة لا تحصى ، وما ذكرناه كاف كنماذج وأمثلة لح-رك-ة الاختلاف والتعصب بين المذاهب الأربعة ، حتى أصبح التكتم بالمذهب لازماً . يقول أبوبكر محمد بن عبدالباقي المتوفى سنة 535 ه- في ذلك - وكان حنبلي-اً -

ص: 259


1- الدين الخالص ج 3 ص 35
2- طبقات الشافعية ج 4 ص 23 ، ط دار المعرفة ، بيروت

يصف حالة التكتم بقوله:

احفظ لسانك لا تبح بثلاثة * سن ومال ما استطعت ومذهب

فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثة * بمكفر وبحاس--------د ومك----------ذب

وقد صوّر الزمخشري الخلاف وشدة التطاحن بين المذاهب بقوله :

إذا سألوا عن مذهبي لم أبح به * وأكتمه كتمانه لي أسلم

فإن حنفي---ا قل--ت ق--الوا بأننى * أبيح الطلى وهو الشراب المحرم

وإن شافعياً قلت قالوا بأننى * أبيح نكاح البنت والبنت تحرم

وإن مالكي--ا قل--ت ق----الوا بأنني * أبيح لهم أكل الكلاب وهم هم

وإن قلت من أهل الحديث وحزبه * يقولون تيس ليس يدري ويفه-م(1).

ص: 260


1- الكشاف للزمخشري ج 1 ترجمة المصنف

وقفة مع أئمة المذاهب الأربعة

إن البحث عن تاريخ أئمة المذاهب الأربعة من الصعوبة بمكان ، لأن أخبارهم إما منقولة عن المتعصبين لهم الغالين فيهم، وإما عن طريق أعدائهم المتح-املين عليهم ، وبين هذين الخطين المتعارضين يصعب الخروج برؤية مجردة نزيهة .

يقول أحمد أمين : كما أن العصبية المذهبية حملت بعض الأتباع لكل مذهب أن يضعوا الأخبار لإعلاء شأن إمامهم ، ومن هذا الباب ما رووه من الأحاديث بتبشير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكل إمام من مثل ما روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال في أه-ل العراق : إن الله وضع خزائن علمه فيهم ، ومثل : يكون في الأمة رجل يقال ل-ه النعمان بن ثابت ويكنى بأبي حنيفة يُحيي الله على يديه سنتي في الإسلام ... الخ .

حتی لقد زعموا أن أبا حنيفة بشرت به التوراة ، وكذلك فعل بعض الشافعية بالشافعي والمالكية في مالك ، وما كان أغناهم عن ذلك . ومن أجل ذلك صَعُبَ على الباحث معرفة التاريخ الصحيح لكل إمام ، فقد كان كلما أتى جيل زاد في فضائل إمامه (1).

ولقد حظي أبو حنيفة وحده من هذه الفضائل بمجموعة من الكتب ، نذكر منها على سبيل المثال : «عقود المرجان في مناقب أبي حنيفة النعمان»، لأبي جعفر الطحاوي . و«مناقب أبي حنيفة» للخوارزمي . و «البستان في مناقب النعمان»

ص: 261


1- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 1 ص 285

للشيخ محي الدين عبدالقادر بن أبي الوفاء ، و «شقائق النعمان في مناقب النعمان»

للزمخشري .. وغيرها وهذا إن دل إنما يدل على درجة الغلو والتعصب لأبي حنيفة ، والتنازع والمشادة حول المذاهب وأئمتها ، وإلا ما هو الداعي لكتابة ك--ل هذه الكتب ، التى لم يُحظ بمثلها الخلفاء الراشدون ؟

ومن بين هذين الخطين المتناقضين بين الغلو والتحامل ، نحاول أن نستكشف رؤيةً مجردةً لتاريخ المذاهب والملابسات التي انتشرت فيها.

(1) الإمام أبو حنيفة

نشأة أبي حنيفة

هو النعمان بن ثابت ، ولد سنة 80 ه- في خلافة عبدالملك بن مروان ، وتوفي ببغداد سنة 150 ه- ، وقد نشأ في الكوفة في عهد الحجاج ، وكانت الكوفة احدى مدن العراق العظيمة ، التي نشأت بها حلقات العلم ، وكانت الأهواء المتضادة والآراء المتضاربة في السياسة والعلم وأصول العقائد آنذاك تدعو إلى الدهشة ، وفي هذه الأجواء نبغ أبو حنيفة في علم الكلام والجدل وناظر فيه ، ثم انتقل إلى حلقة الفقه حتى اختص به ، وقد تتلمذ على يد حماد بن أبي سليمان المتوفى سنة 120 ه- وكان من أنبغ تلاميذه ، وقد انفرد أبو حنيفة بعد وفاة حماد فعلا صيته واشتهر اسمه ، وقد درس أيضاً على مشايخ عصره ، وحضر عند عطاء ب-ن رب-اح في مكة ، وعلى نافع مولى ابن عمر في المدينة وآخرين ، وكان أكثر ملازمة لحماد بن سليمان ، وقد روى عن أهل البيت مثل الإمام محمد الباقر وابنه الصادق (علیه السلام ) .

ص: 262

فقه أبي حنيفة

لم يُعرف لأبي حنيفة فقه خاص إلا عن طريق تلامذته ، فلم يكتب فقها بنفسه ولم يدوّن شيئاً من آرائه ، وكان لأبي حنيفة تلاميذ كثيرون ، ولكن الذين حملوا مذهبه ونشروه أربعة وهم : أبو يوسف وزفر ومحمد بن الحسن الشيباني والحسن بن زياد اللؤلؤي .

وقد لعب أبو يوسف وهو يعقوب بن ابراهيم دوراً كبيراً في نشر المذهب الحنفي ، فقد حظي بالقبول عند خلفاء بني العباس ، وولي رئاسة القضاء في عهد المهدي والهادي والرشيد ، ونال عند الرشيد حظاً مكيناً ، فاستغل أبو يوسف هذا المنصب فعمل على نشر المذهب الحنفي في الأقطار، على أيدي القضاة الذين ك--ان يعينهم من أصحابه ، فكان نفوذ المذهب الحنفي يستمد من نفوذ سلطته ، قال ابن عبدالبر في ذلك ، كان أبو يوسف قاضي القضاة قضى لثلاث-ة م-ن الخلفاء ، وَليَ القضاء في بعض أيام المهدي ثم للهادي ثم للرشيد ، وكان الرشيد يكرمه ويجل-ه وكان عنده حظياً مكيناً ، لذلك كانت له اليد الطولى في نشر ذكر أبي حنيفة وإعلاء شأنه ، لما أوتي من قوة السلطان وسلطان «القوة»

(1).

وقد شارك تلميذ أبي حنيفة ، محمد بن الحسن الشيباني في نشر مذهب أبي حنيفة بتأليفاته التي أصبحت المرجع الأول لفقه أبي حنيفة ، رغم أنه تتلمذ أيضاً على الثوري والأوزاعي ومالك ، وأدخل الحديث في فقه أهل الرأي .

ص: 263


1- الانتقاء لابن عبدالبر ص 5

أما زفر ابن الهذيل وهو من أقدم أصحاب أبي حنيفة فقد نشر مذهب أبي حنيفة بلسانه ، وتولى القضاء في زمن أبي حنيفة في البصرة ، وقد كان شديد القياس ، حتى هجاه أحمد بن المعدل المالكي بقوله :

إن كنت كذاباً بم--ا ح--دثتني * فعليك إثم أبي حنيفة أو زفر

المائلين إلى القياس تعمداً * والراغبين عن التمسك بالخبر

وكان القياس أكثر ما يعاب على أبي حنيفة وأصحابه ، وقد ذُكر في العقد الفريد ج 5 ص 303 - 304 أن مساوراً قال في أبي حنيفة :

جه

كنا من الدين قبل اليوم في سعة * حتى بلينا بأصحاب المقاييس

قاموا من السوق إذ قامت مكاسبهم * فاستعملوا الرأي بعد الجهد والبؤس

فلقيه أبو حنيفة فقال : هجوتنا يا مساور ، نحن نُرضيك . فوصله بدراهم فقال مساور :

إذا ما الناس يوماً قايسونا * بآبدة من الفتيا طريفه

أتيناهم بمقياس صحیح * تلاد من طراز أبي حنيفه

إذا سمع الفقيه بها وعاها * وأثبتها بحبر من صحيفه

فأجابه أصحاب الحديث :

إذا ذوالرأي خاصم عن قياس * وجاء ببدعة هنّة سخيفه

أتیناهم بقول الله فيها * و آثار م-برزة شريفه

ومن الغريب في الحال أن العلماء الذين أصلوا المذهب الحنفي ودونوه لم يكونوا

ص: 264

مقلدين لأبي حنيفة في آرائه ، وإنما كانوا علماء مستقلين يوافقون أستاذهم أب--ا حنيفة أحياناً ويخالفونه أحياناً ، ولذلك نجد كتب الحنفية تورد أقوال أربعة في المسألة الواحدة. لأبي حنيفة قول، ولأبي يوسف قول ، ولمحمد قول ، ولزفر قول .

يقول العلامة الخضري : وقد حاول بعض الحنفية أن يجعل أقوالهم المختلفة أقوالاً للإمام رجع عنها ، ولكن هذه غفلةٌ شديدة عن تاريخ هؤلاء الأئمة ، بل عما ذُكر في كتبهم ، فإن أبا يوسف يحكي في كتاب الخراج) رأي أبي حنيفة ، ثم يذكر رأيه مصرحاً بأنه يخالفه ، ويبين سبب الخلاف ، وكذلك يفعل في كتاب أبي حنيفة وابن أبي ليلى ، فإنه أحياناً يقول برأي ابن أبي ليلى بعد ذكر الرأيين ، ومحمد رحمه الله يحكي في كتبه أقوال الإمام، وأقوال أبي يوسف ، وأقواله مصرحاً بالخلاف ، على أنه لو كان كما قالوا لم يكن ما رجع عنه من الآراء مذهباً .

ومن الثابت أن أبا يوسف ، ومحمد رجعا عن آراء رآها الإمام ، لما اطلعوا على ما عند أهل الحجاز من الحديث ، فالمحقق تاريخياً أن أئمة الحنفية الذين ذكرناهم بعد أبي حنيفة ، رحمه الله ، ليسوا مقلدين له (1) .

الخلاصة ، أن المذهب الحنفي اتسع وانتشر بمجهود أصحابه ، وقد ساعدهم على ذلك السلطة التي كان يمتلكها أبو يوسف ، فيكون المذهب الحنفي من تأسيس مجموعة من الفقهاء كل واحد مستقل بنفسه وليس من إمام واحد وهو أبوحنيفة . ومحاولة الحنفية بإرجاع الجميع إليه أمر غير وجيه .

ص: 265


1- الخضري، تاريخ التشريع الإسلامي ص 172 - 173

طعون على أبي حنيفة

كان هناك غير المغالين فيه طرف آخر من معاصريه من العلماء العدول الذين رموه بالزندقة ، والخروج عن الجادة ، ووصفوه بفساد العقيدة والخروج عن نظام الدين ، ومخالفة الكتاب والسنة ، وطعنوا في دينه وجرَّدوه عن الإيمان (1).

اجتمع سفيان الثوري وشريك وحسن بن صالح وابن أبي ليلى ، فبعثوا إلى أبي حنيفة فقالوا : ما تقول في رجل قتل أباه ونكح أمه وشرب الخمر في رأس أبيه ؟

فقال : مؤمن ، فقال ابن أبي ليلى : لا قبلت لك شهادةً أبداً .

وقال له سفيان الثوري : لا كلمتُك أبداً (2).

وحدث إبراهيم بن بشار عن سفيان بن عينية أنه قال : ما رأيت أحداً أجراً على الله من أبي حنيفة ، وعنه أيضاً : كان أبو حنيفة يضرب لحديث رسول الله الأمثال فيبرره بعلمه (3).

وحكي عن أبي يوسف ، قيل له : أكان أبو حنيفة مرجئياً ؟

قال : نعم ، قيل : كان جَهْمِيّاً ؟ قال : نعم ، قيل : أين أنت منه ؟ قال : إنما كان أبو حنيفة ،مدرساً ، فما كان من قوله حسناً قبلناه وما كان قبيحاً تركناه عليه (4).

فهذا رأي أقرب المقربين إليه ، تلميذه والناشر مذهبه ، فما بال الآخرين ... !

ص: 266


1- أبو حنيفة ، لمحمد أبو زهرة ص 5
2- أبو حنيفة ، لمحمد أبو زهرة ص5
3- تاريخ بغداد للخطيب ج 13 ص 405 و 413
4- الانتقاء لابن عبدالبر ص 148

وعن الوليد بن مسلم قال : قال لي مالك بن أنس : أيُذكر أبو حنيفة في بلادكم ؟ قلت : نعم ، قال : لا ينبغي لبلادكم أن تُسكن(1).

وقال الأوزاعي : إننا لا ننقم على أبي حنيفة أنه رأى ، كلنا يرى ، ولكنا ننقم عليه أنه يجيئه الحديث عن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) ، فيخالفه إلى غيره(2).

قال ابن عبدالبر : وممن طعن عليه وجرحه ، محمد بن اسماعيل البخاري ، فقال في كتابه (الضعفاء والمتروكون) : أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، قال نعيم ب--ن حماد : حدثنا يحيى بن سعيد ومعاذ بن معاذ سمعنا سفيان الثوري يقول:

استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين . وقال نعيم الفزاري : كنتُ عند سفيان بن عيينة ، فجاء نعي أبي حنيفة ، فقال : ... كان كان يهدم الإسلام عروة عروة ، وما ولد في الإسلام مولود أشرّ منه ، هذا ما ذكره البخاري (3).

وقال ابن الجارود فى كتابه الضعفاء والمتروكون : النعمان بن ثابت جل حديثه وهم .

وعن وكيع بن الجراح أنه قال : وجدتُ أبا حنيفة خالف مائتي ح-دي-ث ع--ن رسول الله .

وقيل لابن المبارك : كان الناس يقولون أنك تذهب إلى قول أبي حنيفة ، قال :

ص: 267


1- تاريخ بغداد للخطيب ج 13 ص 421
2- تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص 52
3- الانتقاء لابن عبدالبر ص 150

ليس كل ما يقول الناس يُصيبون فيه ، كنا نأتيه زماناً ونحن لا نعرفه ، فلما عرفناه

(1) .

ومن الواضح أن هذه الآراء قد تميزت بالموضوعية ، فلم تكن سباً وشتماً وخروجاً عن عن حد المعقول بل هي إشكالات علمية على أبي حنيفة ، وقد تغاضينا في هذا المقام عن تهريجات أعدائه وعن مغالاة أتباعه ، واكتفينا بآراء العلماء فيه ، وهي كافية في قدح شخصيته ، فكيف تسنى له أن يكون إماماً ، وفي الأمة من هو أجدر منه ، فقهاً وعلماً وعدالة ؟! ولكنها السياسة ، وما أدراك ما السياسة .

أبو حنيفة والإمام الصادق (علیه السلام)

كان أبو حنيفة كثير الجدل قوي المناظرة ، وقد أراد المنصور ، أن يستغله في ضرب الإمام الصادق(علیه السلام) ، الذي انتشر ذكره وعلا-صيته ، وكان يصعب عل-ى المنصور أن يرى في الكوفة ومكة والمدينة وقم حلقات علمية هي أشبه شيء بفروع لمدرسةالإمام جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام) ، ولذلك اضطر المنصور لجلب الإمام (علیه السلام) من المدينة إلى الكوفة وطلب من أبي حنيفة أن يهيء من مهمات المسائل ، فيسأل الإمام بها في مجلس عام لكي يحرج الإمام الصادق(علیه السلام) ويحط من منزلته .

قال أبو حنيفة : ما رأيتُ أفقه من جعفر بن محمد الصادق ، لما أقدمه المنصور

ص: 268


1- المصدر السابق

بعث إلي فقال : يا أبا حنيفة ، إنا الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهيء له من المسائل الشداد ، فهيأت له أربعين مسألة .

ثم بعث إلى أبو جعفر وهو بالحيرة فأتيته ، فدخلت عليه ، وجعف-ر ب-ن محم-د جالس عن يمينه ، فلما بصرتُ به ، دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمد الصادق ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور ، فسلمت عليه ، وأوماً إليَّ فجلستُ ثم التفت إلي-ه فقال : يا أبا عبدالله ، هذا أبو حنيفة.

قال جعفر : نعم ، قد أتانا ، كأنه كره ما يقول فيه قومه أنه إذا رأى الرجل عرفه ، ثم التفت المنصور إلى فقال : يا أبا حنيفة ألق على أبي عبدالله من مسائلك ، فجعلتُ ألقي فيُجيبني ، فيقول : أنتم تقولون كذا وأهل المدينة يقولون كذا ونحن نقول كذا ، فربما تابعنا وربما تابعهم وربما خالفنا جميعاً حتى أتي--ت عل-ى الأربعين مسألة ، ثم قال أبو حنيفة : ألسنا روينا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس(1).

وكان الإمام الصادق(علیه السلام) ينهى أبا حنيفة عن القياس ويشدد الإنكار علي-ه،ويقول: بلغني أنك تقيس الدين برأيك ، لا تفعل فإن أول من قاس إبليس(2).

وقال له : يا أبا حنيفة ، ما تقول في محرم كسر رباعية ظبي ؟! قال : يا ابن رسول الله ما أعلم فيه . فقال : أنت تتداهى ولا تعلم أن الظبي لا يكون له رباعية ،

ص: 269


1- مناقب أبي حنيفة ، للموفق ج 1 ص 148 ، تذكرة الحفاظ للذهبي ج 1 ص 166
2- الطبقات الكبرى للشعراني ج 1 ص 3

وهو ثني أبداً (1).

وحدثنا أبو نعيم : إن أبا حنيفة وعبدالله بن أبي شبرمة وابن أبي ليلى دخلوا على جعفر بن محمد الصادق ، فقال لابن أبي ليلى : من هذا الذي معك ؟

قال : هذا رجل له بصر ونفاذ في الدين .

قال : لعله يقيس أمر الدين برأيه ؟

قال : نعم.

فقال جعفر لأبي حنيفة : ما اسمك ؟

قال : نعمان .

قال : ما أراك تُحسن شيئاً ، ثم جعل يوجه إليه أسئلة فكان جواب أبي حنيفة عدم الجواب عنها .

فأجابه الإمام عنها.

قال : يا نعمان حدثني أبي عن جدي أن رسول الله (صلى الله عليهوآله وسلم) قال : أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس.

قال الله تعالى له : اسجد لآدم . فقال : أنا خير منه ، خلقتني من نار وخلقته من طين ، فمن قاس الدين برأيه قرنه الله يوم القيامة بإبليس ، لأنه من أتباعه بالقياس.

يقول الفخر الرازي : «العجب أن أبا حنيفة كان تعويله على القياس ،

ص: 270


1- وفيات الأعيان ج 1 ص 328 شذرات الذهب ج 1 ص 220

وخصومه يذمونه بسبب كثرة القياسات ، ولم يُنقل عنه ولا عن أحد من أصحابه أنه صنف في إثبات القياس ورقة ، ولا أنه ذكر في تقريره شبهة ، فضلاً عن حجة ، ولا أنه أجاب عن دلائل خصومه في إنكار القياس ، بل أول من قال في هذه المسألة وأورد فيها الدلائل هو الشافعي»(1) .

ومن أجل ذلك نجد الإمام الصادق ( عالیه السلام) يوجه الأمة إلى الطرق الصحيحة في استنباط الأحكام الشرعية ، وخاصة بعدما تفشى القياس والعمل به كمصدر من مصادر التشريع ، فتخرّج من مدرسته آلاف العلماء المجتهدين . وكان من بينهم م أبو حنيفة الذي انقطع له طوال عامين قضاهما بالمدينة ، وفيها يقول : لولا العام-ان لهلك النعمان .

وكان لا يخاطب صاحب المجلس إلا بقول : «جعلت فداك يا ابن بنت رسول الله » (2) .

ويعلق عبدالحليم الجندي لتلمذة أبي حنيفة على الإمام الصادق (علیه السلام) بقوله :

«ولئن كان مجداً لمالك أن يكون أكبر أشياخ الشافعي ، أو مجداً للشافعي أن يكون أكبر أساتذة ابن حنبل ، أو مجداً يتتلمذا أن يتلمذا لشيخيهما هذين ، إن التلمذة للإمام الصادق قد سربلت بالمجد فقه المذاهب الأربعة لأهل السنة ، أما الإمام الصادق فمجده لا يقبل الزيادة أو النقصان . فالإمام مبلغ للناس كافة ، علم جده عليه الصلاة والسلام. والإمامة مرتبته وتلمذة أئمة السنة له تشرف

ص: 271


1- الإمام الصادق ، لعبد الحليم الجندي هامش ص 180
2- المصدر السابق ص 162

منهم المقاربة صاحب المرتبة»(1).

فحقاً إن مجالسة الإمام الصادق (علیه السلام) شرف يفتخر به ، فهو عالم أهل البيت و معدن الحكمة . قد اعترف بفضله الأعداء ، قال المنصور : هذا الشجى المعترض في حلقي أعلم أهل زمانه . وإنه ممن يريد الآخرة لا الدنيا.

وليس الأمر هو الاعتراف بفضله ، أو التشرف بمجالسته ، فحسب إنما هو التسليم له والإنصياع لأمره لأن طاعته فرض من الله على كل مسلم، كما هو ثابت بحديث الثقلين «كتاب الله وعترتي أهل بيتي» ومع الأسف لم يكن أبو حنيفة من أهل التسليم له فانفرد بنفسه يفتي برأيه ويقيس في الدين ، ويخالف بذلك أحاديث رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) التي لم يقبل منها سوى سبعة عشر حديثاً ... !

وأختم هذا المقام بمناظرة جرت بين الإمام الصادق (ع) وأبي حنيفة عندما جاء إليه أبو حنيفة :

قال له الصادق ( الله ) : من أنت ؟

-أبو حنيفة .

-مفتي أهل العراق ؟

-نعم .

-بم تفتيهم ؟

-بكتاب الله.

ص: 272


1- المصدر السابق ص 163

- وإنك لعالم بكتاب الله ؟ ... ناسخة ومنسوخة ؟ .. محكمه ومتشابهه ؟

- نعم .

-فأخبرني عن قول الله عزوجل : «وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين» . أي موضع هو ؟

- هو ما بين مكة والمدينة.

فالتفت الإمام يميناً وشمالا.ً

-ناشدتكم بالله .. هل تسيرون بين مكة والمدينة ولا تأمنون على دمائكم من القتل ؟ وعلى أموالكم من السرقة ؟

«وبصوت واحد قال الحاضرون : اللهم نعم» .

والتفت الإمام (علیه السلام) إلى أبي حنيفة هذه المرة :

- ويحك يا أبا حنيفة ! ... إن الله لا يقول إلا حقاً .

فسكت أبو حنيفة لحظات ، ثم تراجع عن قوله السابق :

-ليس لي علم بكتاب الله.

وطرح مبرراً جديداً :

إنما أنا صاحب قياس.

قال الإمام (علیه السلام) .

-انظر في قياسك ، إن كنتَ مُقيساً .

أيهما أعظم عند الله : القتل ؟ ... أو الزنا ؟

- بل القتل

ص: 273

فكيف رضي في القتل شاهدين ، ولم يرض في الزنا إلا بأربعة ؟ أيقاس ل-ك هذا ؟

- قال : لا .

- حسناً :

الصلاة أفضل أم الصوم ؟

-بل الصلاة أفضل

-فيجب على قولك على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حالة حيضها .دون الصيام، وقد أوجب الله تعالى عليها قضاء الصوم دون الصلاة . وأعرض عن هذا أيضاً .

- البول أقذر أم المني ؟

- البول أقذر .

-يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول ، دون المني ، وقد أوجب الله تعالى الغسل من المني دون البول.

أيقاس لك ذلك ؟

فسكت أبو حنيفة ، وقال :

إنما أنا صاحب رأي .

وسرعان ما ساله الإمام :

-فماترى في رجل كان له عبد ، فتزوج وزوج عبده في ليلة واحدة ، فدخلا بامرأتيهما في ليلة واحدة ، ثم سافرا وجعلا امرأتيهما في بيت واحد ، وولدتا

ص: 274

غلامين .. فسقط البيت عليهم فقتل المرأتين وبقى الغلامان ، أيهما في رأيك المالك

وأيهما المملوك ؟ .. وأيهما الوارث وأيهما الموروث .

وللمرة الثالثة ، تراجع ابو حنيفة عن قوله : إنه صاحب راي، واعلن بعد لحظات صمت وتفكير وحيرة وخجل :

إنما أنا صاحب حدود.

فقال الإمام :

- فما ترى في رجل أعمى ، فقأ عين صحيح ، وأقطع قطع يد رجل كيف ي-ق--ام عليهما الحد ؟

حاول أبو حنيفة أن يجيب عن أسئلة الإمام حتى يحصل على تبرير لتربعه على عرش الفتيا، في العراق، ولكنه فشل ثم قال بتحسر :

-لا علم لي ... لا علم لي .

-... لولا أن يقال دخل على ابن رسول الله ، فلم يسأله عن شيء ما سألتك عن شيء .. فقس إن كنت مقيسا .

-لا .. لا أتكلم بالرأي والقياس في دين الله بعد هذا المجلس.

ولكن الإمام (علیه السلام) ابتسم قائلاً :

كلا .. كلا .. إن حبَّ الرئاسة غير تاركك ...كما لم يترك من قبلك.

(ب) الإمام مالك بن أنس

هو أبو عبدالله ، مالك بن أنس بن مالك ، ولد في المدينة سنة 93 ه- على أحد الأقوال وتوفى سنة 179 ه- على أحد الأقوال ، وقد ازدهر عهد مالك بالعلم

ص: 275

وأصبحت المدينة يؤمها طلاب العلم من مختلف الأقطار الإسلامية ، وامتازت مدرسة المدينة بالتمسك بالحديث ومحاربة مدرسة الرأي بالكوفة برئاسة أبي حنيفة ، مما أحدث بينهما خلافاً وتنازعاً خرج عن حد العلم والموضوعية.

وكان في قبال هذه المدارس ، مدرسة الإمام الصادق (علیه السلام) التي كانت تضج بالعلماء والوفود من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، الذين كانوا يتحينون الفرص للقاء أئمة أهل البيت (علیهم السلام) وكان الصادق(علیه السلام) أقلهم مضايقة من قبل السلطات . وقد انتمى مالك إلى مدرسته مدة من الزمن وأخذ عنه الحديث ، فيعتبر من أكبر شيوخ مالك ، ثم تتلمذ مالك على يد عدد من المشايخ ، أمثال :

عامر بن عبدالله بن الزبير بن العوام ، وزيد بن أسلم ، وسعيد المقبري وأبي حازم ،وصفوان بن سليم ، وغيرهم ، وقد اختص مالك بملازمة والأخذ من و ب بن هرمز ، ونافع مولى بن عمر ، وابن شهاب الزهري ، وربيعة الرأي ، وأبو الزناد ، وقد تقدم مالك حتى تزعم مدرسة الحديث، ولكن سرعان ما تدخلت السياسة لكي تنتصر لمدرسة الرأي ، وتسخط على أهل الحديث ، ولذلك كان مالك بن أنس عرضة لضغوط الدولة حتى منعوه من الحديث وضُرب بالسياط لأجل فتوى أفتاها لم توافق هوى الدولة ، وذلك في زمن ولاية جعفر بن سليمان سنة 146 ه- فإنه جردَ مالكاً ومده وضربه بالسياط حتى انخلعت كتفاه .

قال إبراهيم بن حماد : كنتُ أنظر إلى مالك إذا أقيم من مجلسه حمل يده اليمنى أو يده اليسرى بالأخرى .

ومن الغريب والمثير جداً أنه بعد زمن قليل أصبح مالك مقدماً في الدولة ،

ص: 276

منوطاً بالعناية ، وصل إلى مرحلة كان يتهيب منه الأمراء ، فالسؤال الذي يطرح نفسه أي شيء حصل عند مالك حتى ترضى عنه الدولة وترفعه هذه المكانة ؟

فهل كانت الدولة تبغضه لرأي معين تنازل عنه مالك ؟

أم ثبت على ما يراه وتحملته الدولة وتنازلت له ؟

أم هناك شيء آخر ؟

وهذا السؤال الحائر ، والاستفهام الذي يعترض من يدرس تاريخ الإمام مالك فيلاحظ تبدل العلاقة بينه وبين الدولة ، من حالة ضغط وغضب إلى أن أخذ مالك والمنصور يتبادلان العواطف والثناء .

فالمنصور يقول لمالك : أنت والله أقل الناس وأعلم ، لئن بغيت لأكتبن قولك كما تُكتب المصاحف ، ولأبعث به إلى الآفاق فأحملهم عليه.

ومن هنا كانت انطلاقة مذهب الإمام مالك عندما أصبح رضاً للسلطان ، وإلا فإن المسألة ليست علماً وعدمه بل ملك وسلطان ودعاية وإعلام ، وحمل الناس بالرضا أو بالقهر على تقليد المذهب ، وهذا هو الذي دعى ربيعة الراي- أستاذ مالك وأكثر منه علماً- أن يقول : أما علمتم أن مثقالاً من دولة خير حمل علم (1).

وعندما حصل مالك من السلطان هذا الرضا ، أخذ يقول : وجدت المنصور أعلم بكتاب الله وسنة رسوله وآثار من مضى».

سبحان الله ! ، أي علم للمنصور ، حتى يكون أعلم الناس بكتاب الله وسنة

ص: 277


1- طبقات الفقهاء لأبي اسحاق ص 54

رسوله (صلی الله علیه وآله وسلم ) ؟!

ولكنه التزلف ، والتقرب إلى الملك والسلطان .

وأما الدليل على أن مالكاً كان منزوياً عن السلطان ؟ ! لم يحدثنا التاريخ أن--ه وقف بجرأة أمام المنصور ، يخالفه في أمر أو يعترض طريقه ، كما فعل عبد الله مرزوق عندما التقى بأبي جعفر في الطواف ، وقد تنحى الناس عن-ه ، فق-ال ل-ه عبدالله : من جعلك أحق بهذا البيت من الناس تحول بينه وبينهم وتنحيهم منه ؟!

فنظر أبو جعفر في وجهه فعرفه . فقال : يا عبدالله بن مرزوق ، من جرأك على هذا ، ومن أقدمك عليه ؟

فقال عبدالله : وما تصنع بي ؟ أبيدك ضرر أو نفع ؟ والله ما أخاف ضرك ولا أرجو نفعك، حتى يكون الله عزوجل يأذن لك في .

قال المنصور : إنك أحللت بنفسك وأهلكتها .

فقال عبدالله : اللهم إن كان بيد أبي جعفر ضري ، فلا تدع من الضر شيئاً إلا أنزلته علي ، وإن كان بيده منفعتي ، فاقطع عني كل منفعة منه ، أنت يا رب بيدك كل شيء ، وأنت مليك كل شيء.

فأمر به أبو جعفر ، فحمله إلى بغداد ، فسجنه بها ثم أطلقه (1) .

ولذلك نجد مالكاً بعد عن الإمام الصادق (علیه السلام ) ، لانه لا يتفق مع آرائه من مجانبة السلطان والابتعاد عنه .

ص: 278


1- الإمامة والسياسة ج 2 ص 147

وأنا - في نظري - أن السبب الأساسي في غضب السلطة أولاً على مالك لأنها رأت منه تودداً للإمام الصادق (علیه السلام ) ، والشبهة التي كانت تدور في ذلك الوقت ، أن العرب يريدون أن يثأروا لأهل البيت ، ولذلك نجد أن السلطة قربت الموالي ونصرت أبا حنيفة في الكوفة ، وعندما انتفى هذا الأمر لم تجد السلطة طريقاً إلا أن تلمع شخصية مالك وتطرحه كرمز ديني للدولة ، حتى يصدق عليها اسم الدولة الإسلامية ، وخاصة أن العباسيين ثاروا على الأمويين بحجة أنهم بعدوا عن ، ولهذا نجد أن المرسوم الملكي صرح بصلاحيات لمالك لم تكن معهوده عن--د عالم من قيل : «إن رابك ريب من عامل المدينة أو عامل مكة أو أحد عمال الحجاز في ذاتك أو ذات غيرك أو سوء أو شر في الرعية ، فاكتب إلى بذلك أنزل بهم ما يستحقون» .

فعظُمت بذلك منزلة مالك ، فأخذ الولاة يهابونه هيبة المنصور ، كما حدث الشافعي عندما قدم المدينة يحملُ كتاباً لواليها من والي مكة ، ويطلب منه أن يوصله إلى مالك ، فقال الوالي : يا فتى إن المشي من جوف المدينة إلى جوف مكة حافياً راجلاً أهون عليَّ من المشي إلى باب مالك ، فلست أرى الذلة حتى أقف على باب داره (1) .

وعندما جاء المهدي بعد المنصور عظمت مكانة مالك وازداد قرباً إلى السلطة، فكان المهدي يجله ويحترمه ويصله بهدايا جزيلة ، وعطاء وافر ، ويظهر للناس

ص: 279


1- معجم الأدباء ج 17 ص 285

شأنه وعلو منزلته وعندما جاء الرشيد لم يغير في الموازين فاحتفظ لمالك بمكانة وعظمه غاية التعظيم ، فوقعت هيبة مالك في النفوس .

هكذا السياسة.

ترفعُ مَنْ تُريدُ أن ترفعه ، وتُنسي ذكر مَنْ تريدُ له ذلك . وبعد ذلك ما هو المانع الذي يحول بين مذهب مالك من الانتشار بعد أن أصبح رضاً للدولة ؟!

لك الله يا سيدي، جعفر بن محمد الصادق ( علیه السلام).

يعرفون أن الحق لك وعندك ، ولا تجوز الإمامة لغيرك .

أو لم يقل مالك : «ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق ، فضلاً وعلماً وعبادة وورعاً» (1).

ومع ظهور فضله ، لم يلق (علیه السلام) وشيعته إلا الضغط والإرهاب والقتل والتشريد ، والذي يشهد به تاريخ الشيعة من وفاة رسول الله (صلى الله عليهوآله وسلم) وطوال تاريخهم.

ولكني أتساءل ، كما يتساءل صاحب كتاب «الإمام الصادق معلم الإنسان» ، عندما قال : «إننى لا أتساءل لماذا ظل المسلمون ممزقين إلى سنة وشيعة ، لا وإنما أتساءل بدهشة : كيف استطاع الشيعة الصمود حتى اليوم ، رغم كل الظروف القاهرة العصيبة ، التي مروا بها في ظل الإرهاب الفكري والجسدي ؟ ! .. ورغم

ص: 280


1- ابن شهر آشوب، مناقب الإمام الصادق ج 4 ص 248 - الإمام الصادق معلم الإنسان ص 24

كل محاولات طمس معالم الحق وتمزيق الإسلام ؟!»(1).

وإلا ، أوليس من الظلم تقديم كل المذاهب على مذهب جعفر بن محمد (صلی الله علیه وآله وسلم ) ؟! . بل ، من المؤسف جداً أنه غير معروف إلى الآن حتى في أوساط المثقفين من طبقات المجتمع.

وأذكر يوماً ، أن أستاذنا في الجامعة كان يدرسُنا الفقه المالكي فاعترض علي-ه مجموعة من الطلبة قائلين : لماذا لا تُدرسنا الفقه على المذاهب الأربعة ؟ قال : أنا مالكي ، وأهل السودان كلهم مالكية ، ومن كان منكم غير مالكي أنا مستعد أن أدرسه مذهبه بصورة خاصة ، قلت له : أنا غير مالكي أتدرسني مذهبي ؟ ، قال : نعم ، وما مذهبك ؟ أشافعي أنت ؟

قلتُ : لا .

قال : حنفى أنت ؟

قلت : لا .

قال : حنبلى أنت ؟

قلت : لا .

ظهرت الحيرة والاندهاشة على وجهه . وقال :

- إذن مَنْ تقلد ؟!

قلتُ : جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام ) .

ص: 281


1- الإمام الصادق معلم الإنسان ص 52

قال : ومَنْ جعفر ؟!

قلتُ : أستاذ مالك وأبي حنيفة ، ومن ذرية أهل البيت ، اشتهر مذهبه باسم المذهب الجعفري .

قال : ما سمعتُ بهذا المذهب من قبل .

قلتُ : نحن الشيعة .

قال : أعوذ بالله من الشيعة ...

وخرج ... !

فمن كان له حظ وإعلام وسلطان بلغ الثريا ، فمالك نفسه لم يكن طامعاً اً في هذه المرتبة لأنه يعلم أن هناك كثيرين أجدر منه بهذه المكانة . ولكن السلطة تريده مرجعاً عاماً في الفتوى ، وقد أمره المنصور بوضع كتاب يحمل الناس عليه بالقهر ، فامتنع مالك فقال المنصور : ضعه فما أحد اليوم أعلم منك (1) ، فوضع الموطأ ، ونادى منادي السلطان أيام الحج : أن لا يفتي إلا مالك (2).

انتشار المذهب المالكي

انتشر المذهب المالكي بواسطة القضاة والملوك ، ففي الأندلس حمل ملكها الناس على تقليد مذهب مالك ، لما بلغه كلام من مالك في مدحه عندما سأل عن سيرة الملك في الأندلس فذكر له عنها ما أعجبه فقال : نسأل الله تعالى أن يزين حرمنا

ص: 282


1- شرح الموطأ للزرقاني ج 1 ص 7
2- وفيات الاعيان ج 4 ص 135

بِمَلِكِكُم . فلما بلغ قوله إلى الملك حمل الناس على مذهبه ، وترك مذهب الأوزاعى فاتبعه الناس خضوعاً لسلطته - فالناس على دين ملوكه -.

وكذلك انتشر في أفريقيا بواسطة القاضي سحنون . يقول المقريزي : ولما ولي المعز ابن باديس حمل جميع أهل أفريقيا على التمسك بمذهب مالك وترك ما عداه ، فرجع أهل أفريقيا وأهل الأندلس كلهم إلى مذهبه ، رغبة فيما عند السلطان ، وحرصاً على طلب الدنيا إذ كان القضاء والإفتاء في جميع تلك المدن لا يكون إلا لمن تسمى بمذهب مالك ، فاضطرت العامة إلى أحكامهم وفتاويهم ، ففش-ا ه-ذا المذهب هناك وحظي بالقبول لا بحسب مؤهلاته ومقوماته الروحية ، وإنم-ا س-ار على حسب نظام القوة التي خضع الناس لها بدون تبصر»(1).

وكذلك انتشر في المغرب عندما تولى علي بن يوسف بن تاشفين ، في دولة بني تاشفين فعظم الفقهاء وقربهم ، وكان لا يقرب إلا من كان مالكياً ، فتنافس الناس في تحصيل المذهب المالكي فنفقت في زمانه كتب المذهب وعملوا بها وتركوا ما سواها حتى قل اهتمام الناس بكتاب الله وسنة نبيه .

هكذا لعبت السياسة في دين المسلمين فأصبحت هي التي تتحكم في اعتقاداتهم وتسيّر عباداتهم ، فتوارث الناس المذاهب المفروضة وسلموا بها من غير جدال أو نقاش، وكان الأجدر أن يستقل كل جيل في معرفة ذلك ولا يقلد ويطيع طاعةً عمياء .

ص: 283


1- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 1 ص 166

قال ابن حزم مذهبان انتشرا في مبدء أمرهما بالرئاسة والسلطان :

مذهب أبي حنيفة فإنه لما ولي أبو يوسف القضاء كان لا يولي قاضياً إلا من أصحابه المنتسبين إليه وإلى مذهبه.

والثاني : مذهب مالك عندنا في الأندلس ، فإن يحيى بن يحيي كان مكيناً عن--دالسلطان مقبولاً في القضاء ، فكان لا يولى قاضياً في أقطار الأندلس إلا بمشاورته واختياره ولايسير إلا بأصحابه ، والناس سراع إلى الدنيا ، فأقبلوا عل-ى م-ا يرجون به بلوغ أغراضهم(1).

طعون على مالك

تجاوزت في هذا المقام، أقوال المتعصبين له، وتركتُ ما عندهم من فضائل ما أنزل الله بها من سلطان ، لأنها ليست ميزاناً واقعياً لمعرفة شخصية مالك ، وإليك نموذجاً منها : «إن القيسي رأى النبي(صلی الله علیه واله وسلم) يمشي في طريق وأبوبكر خلفه وعمر خلف أبي بكر ومالك بن أنس خلف عمر وسحنون(2) خلف مالك» (3) .

.. ومئات من أمثالها .. وهي قضايا تافهة وفضائل مصطنعة ليست جديرة بالنقاش .

واكتفيتُ هنا بكلمات العلماء وبعض المعاصرين لمالك ، وهى آراء حرة لا تعدو

ص: 284


1- ابن خلكان ج 2 ص 116
2- هو القاضي المالكي الذي نشر مذهب مالك في الأندلس
3- مناقب مالك للزاوي ص 17 ، ص 18

أن تكون مجرد مؤاخذات علمية .

قال الشافعي : الليث أفقه ،من مالك ، إلا أن أصحابه لم يقوموا به ، وقال سعيد بن أيوب: لو أن الليث ومالك اجتمعا لكان مالك عند الليث أبكم ولباع الليث مالكاً في من يريد(1).

وسأل علي بن المديني يحيى بن سعيد : أيما أحب إليك رأي مالك أو رأي سفیان ؟

قال : رأي سفيان لا يشك في هذا .

وقال : سفيان فوق مالك في كل شيء.

وقال يحيى بن معين : سمعتُ يحيى بن سعيد يقول سفيان أحب إلي من مالك في كل شيء(2) .

وقال سفيان الثوري : ليس له حفظ یعنی مالكاً .

وقال ابن عبدالبر : تكلم ابن ذويب في مالك بن أنس بكلام فيه جفاء وخشونة ، كرهت ذكرها (3).

وتكلم في مالك إبراهيم بن سعد ، وكان يدعو عليه ، وكذلك تكلم فيه عبدالرحمن بن زيد بن أسلم ، وابن أبي يحيى ، ومحمد بن اسحاق الواق---دي ، واب--ن

ص: 285


1- الرحمة الغيثية لابن حجر ص 84 و 85
2- تاريخ بغداد ج 9 ص 164 ، الامام الصادق والمذاهب الاربعة ج 1 / 498
3- جامع فضائل العلم ج 2 ص 158

أبي الزناد ، وعابوا أشياء من مذهبه.

وقال سلمة بن سليمان لابن المبارك : وضعت شيئاً في رأي أبي حنيفة ولم تضع في رأي مالك ؟

قال : لم أره عالما (1).

وقال ابن عبدالبر في مالك : أنهم عابوا أشياء من مذهبه ، وعن عبد الله بن إدريس قال : قدم علينا محمد بن إسحاق فذكرنا له شيئاً عن مالك ، فقال : هاتوا علمه.

وقال يحيى بن صالح : قال لي ابن أكثم : قد رأيت مالكاً وسمعت منه ورافقت محمد بن الحسن ، فأيهما كان أفقه ؟ فقلت : محمد بن الحسن فيما يأخذه لنفسه أفقه من مالك(2) .

وكان أبو محمد بن أبي حاتم يقول : عن أبي زرعة عن يحيى بن بكير أنه قال: الليث أفقه من مالك ، إلا أنه كانت الحظوة لمالك (3).

وقال أحمد بن حنبل :كان ابن أبي ذؤيب يشبه سعيد بن المسيب ، وكان أفضل من مالك ، إلا أن مالكاً أشد تنقية للرجال منه(4).

ومن كل هذه الأقوال يمكننا القول : بأنه ليس هناك أفضلية لمالك على غيره من العلماء ، وليست له ميزة تؤهله للمرجعية الفقهية، ولكن السياسة لا تنظر

ص: 286


1- المصدر السابق
2- الخطيب البغدادي ج 2 ص 175
3- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 1 ص 498
4- تذكرة الحفاظ ج 1 ص 191

للمؤهلات الموضوعية ، فلها ميزانها الخاص الذي تقيم به على أساس موازينها السياسية ومصالحها ، فالفقيه الذي لا يتعارض مع سياستها هو الفقيه الذي يجب على المسلمين تقليده والاقتداء به.

ج- الإمام الشافعي

هو أبو عبدالله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع . ولد سنة 150 ه- وقيل في اليوم الذي مات به أبو حنيفة . واختلف في مكان ولادت--ه ب--ين غزة وعسقلان واليمن وقول شاذ متروك بمكة ، وتوفي في مصر سنة 204 ه- .

هاجر مع أمه وهو صغير إلى مكة ، وفيها التحق بالكتاب فحفظ القرآن الكريم ، وتعلم الكتابة وبعدها خرج إلى البادية ولازم هذيلاً 20 سنة على ما حدث به ابن كثير في البداية والنهاية وسبع عشرة سنة كما حدث هو عن نفسه في معجم البلدان ، فاكتسب فصاحة هذيل وفي طوال هذه المدة لم يكن للشافعي توجه علمي وفقهي حيث لم يتوجه إليه إلا في العقد الثالث من عمره ، وإذا كان بقاؤه في البادية 20 سنة فيكون طلبه للفقه في العقد الرابع ، أي بعد أن تجاوز الثلاثين سنة .

تتلمذ الشافعي على شيوخ من مكة والمدينة واليمن وبغداد ، وأول من تلقى الشافعي منه العلم هو مسلم بن خالد المخزومي المعروف بالزنجي ، وكان ممن لا يُعتمد عليه في الحديث ، فقد ضعفه وطعن فيه كثير من الحفاظ ، كأبي داود وأبي حاتم ، والنسائي(1) .

ص: 287


1- راجع لسان الميزان ج 7 ص 385

ثم درس على سعيد بن سالم القداح ، وقد أتهم بأنه من المرجئة ، وأخذ عن سفيان بن عيينة تلميذ الإمام الصادق (علیه السلام ) ، وهو أحد أصحاب المذاهب البائدة كما أخذ من مالك بن أنس في المدينة .. وآخرين ، وقد ذكر ابن حجر منهم ثمانين .. وفيه ضربٌ من المبالغة ، وقد أنكر الرازي تعصباً منه، أخذ الشافعي م--ن محمد بن الحسن الشيباني، القاضي ، تلميذ أبي حنيفة ، ولا مجال لتعصبه فقد اعترف الشافعي بأخذ العلم منه.

أما تلاميذ الشافعي فمنهم العراقي ومنهم المصري ، وقد شكلوا فيما بعد العامل الرئيسي في نشر مذهبه ، فمن العراق : خالد اليماني الكلبي ، أبو ثور البغدادي الذي يُعد صاحب مذهب منفرد كان له مقلدون إلى القرن الثاني ، وتوفى سنة 240 ه- . والحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني ، والحسن بن علي الكرابيسي ، وأحمد بن عبدالعزيز البغدادي ، وأبو عبدالرحمن أحمد بن محمد الأشعري ، كان يشبه الشافعي ويوصف به لأنه انتصر للمذهب ودافع عن أصحابه لمكانته من السلطان وعلو منزلته في الدولة فكان له جاه عظيم . ومن تلاميذه أحمد بن حنبل ، رغم إدعاء الحنابلة بأن الشافعي كان يحدّث عن أحمد وتتلمذ عليه كم-ا جاء في طبقات الحنابلة.

أما تلاميذه في مصر ، فقد كانوا أكثر تأثيراً في نشر مذهبه ، وتأليف الكتب ومن أشهرهم

، يوسف بن يعقوب البويطي ، وهو خليفة الشافعي في الدرس ومن أكبر الدعاة له.

فكان يدني الغرباء ويعرفهم فضل الشافعي ، حتى كثر أتباعه وانتشر مذهبه فحسده بن أبي الليث الحنفي وأخرجه من مصر فمات في السجن ببغداد .

ص: 288

ومن تلاميذه : إسماعيل بن يحيى المزني ، أبو ابراهيم المصري ، له تصانيف في المذهب الشافعي ساعدت في نشر المذهب ، مثل الجامع الكبير ، الجامع الصغير، والمنثور. ..

والدارس لتاريخ الشافعي يجد أن تلاميذه وأصحابه هم الذين ساندوه ونشروا مذهبه .

وهناك اختلاف بين مدرسة الشافعى في العراق، ومدرسته في مصر ، تستدعي التأمل ،فقد عُرف عن الشافعي أنه عدل عن فتاويه في العراق ، وعرفت بالمذهب القديم وهو الذي أخذه تلاميذه في العراق ، ومن كتب المذهب القديم ، الأمالي ومجمع الكافي، فعند هجرته إلى مصر حرّم الأخذ بمذهبه القديم بعد أن انتشر وعمل به العوام .. فهل رجع عنها لأنها كانت باطلة ؟! أم أن اجتهاده كان ناقصاً في بغداد واكتمل في مصر؟!

ثم ما هو الضمان بصحة مذهبه الجديد في مصر ؟!

وهل لو طال به العمر يعدل عنه ؟! ... فلذلك تجد قولين في المسألة الواحدة في الفقه الشافعي ، كما جاء في كتاب الأم ، وقد يُعتبر هذا التردد والاختلاف ناتجاً من عدم الجزم وهو نقص في الاجتهاد والعلم .

وقد أكد هذا المعنى قول البزاز : كان الشافعي رضي الله عنه) بالعراق يُصنف الكتب و أصحاب محمد - أي الشيباني - يكثرون عليه أقاويله بالحجج ويضعفون أقواله وقدضيّقوا عليه ، وأصحاب الحديث لا يلتفتون إلى قوله ، ويرمونه بالاعتزال فلما لم يقم له بالعراق سوق خرج إلى مصر ، ولم يكن بها فقيه معل-وم

ص: 289

فقام له بها سوق.. (1).

واختلف هذا الوضع عندما هاجر إلى مصر لأن الشافعي عُرف بأنه تلميذ مالك وناصر مذهبه والمدافع عنه ، وهذا هو العامل الذي هيأ له النجاح في مصر ، وذلك أن الطابع العام كان مالكياً ، بالإضافة إلى أنه قَدِمَ إلى مصر بتوصية من خليف-ة العصر إلى أمير مصر فوجد بذلك العناية الكافية في مصر وخاصة من أصحاب مالك فأخذ بعد ذلك بنشر مذهبه الجديد.

ولكن ما برح الشافعي كثيراً حتى أخذ يؤلف الكتب في الرد على مالك ، ومعارضة أقواله ، ويقول الربيع في ذلك : سمعتُ الشافعي يقول :

قدمتُ مصر ولا أعرف أن مالكاً يخالف من أحاديثه إلا ستة عشر حديثاً ، فنظرت ، فإذا هو يقول بالأصل ويدع الفرع ويقول بالفرع ويدع الأصل . وق--ال أبو عمر : وتكلم في مالك أيضاً فيما ذكره الساجي في كتاب العلل ، عبدالعزيز بن أبي سلمى ، وعبد الرحمن بن زيد ، وعابوا أشياء من مذهبه إلى أن يقول وتحامل عليه الشافعي ، وبعض أصحاب أبي حنيفة في شيء من رأي-ه حس--داً لم-وض-ع إمامته (2).

فضاق المالكية به ذرعاً ، وتربصوا به حتى قتلوه ، وقد نص اب-ن حج--ر عل-ى أنهم ضربوه بمفتاح حديد فمات(3) ، وذكر قصيدة أبي حيان في مدح الشافعي :

ص: 290


1- المناقب للبزاز : ج 2 ص 426
2- جامع بيان العلم وفضله ج 2 ص 161
3- توالي التأسيس ص 185

ولما أتى مصر انبرى بالأذى له * أناس طووا كشحاً على بغضه طيا

أتى ناقداً ما حصلوه وهادماً * لما أص-لوا إذ كان بنيانهم وهي--ا

فدسوا عليه عندما انفردوا به * شقياً لهم شل الإله له اليديا

فشق بمفتاح الحديد جبينه * فراح قتيلا لا ب--واك ولا نعي---ا

فذهب الشافعي ضحية التعصب المذهبي من المالكية.

ورغم كل ذلك كانت مصر البذرة الأولى التي انتشر منها مذهب الشافعي ، بفضل أصحابه وتلامذته ، ولولاهم لكان حاله حال المذاهب المنقرضة ، كما انتشر في الشام التي كانت يغلب عليها مذهب الأوزاعي . وبعدما ولي القضاء فيها محم--د بن عثمان الدمشقي الشافعي عمل على نشر مذهب الشافعي في الشام وانقرض بعد ذلك المذهب الأوزاعي وتمت الغلبة لمذهب الشافعي أيام الدولة الأيوبية فكان ملوكهم شوافع ، مما ساعد على تمكين المذهب ، وعندما جاءت بعدهم دولة المماليك في مصر لم تنقص من حظوة المذهب الشافعي ، فقد كان كل ملوكها شوافع إلا سيف الدين فقد كان حنفياً ولكنه لم يؤثر في انتشار مذهب الشافعي .

وبهذه الطريقة علا اسم الشافعي بواسطة الملوك والسلاطين ولولا ذلك لكان مذهبه نسياً منسياً .

ص: 291

طعون على الشافعي

كان لكل إمام خطان متضادان ، الغالون والمبغضون ، كما تقدم ذكره .. ولا يمكن والحال هذا القيام بتقييم دقيق لحال الشافعي ، وقد وصفه المغالون بصفات ، فجعلوه بدرجة من الكمال ، بحيث يمتنع لأي مخلوق الوصول إليها ، وفي المقابل وضع المبغضون فيه أحاديث نزلوه بها إلى درجة إبليس .

روى أحمد بن عبدالله الجويباري عن عبد بن معدان عن أنس عن النبي (صلى الله عليه و آله وسلم) : يكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس أضر على أم--تي م-ن إبليس، ويكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي» (1) .

وهذا مما لا يختلف فيه اثنان بأنه موضوع .

وفي المقابل يروي ابن عبدالبر بسنده عن سويد بن سعيد قال :«كنا عند سفيان بن عيينة في مكة ، فجاء رجل ينعى الشافعى ويقول : إنه مات ، فقال سفيان : إن مات محمد بن إدريس فقد مات أفضل أهل زمانه (2).

وهذا أيضاً خبر مكذوب لأن وفاة سفيان كانت سنة 198 ه- أي قبل وفاة الشافعي بست سنوات .

ولكن رغم هذا فقد توجهت الطعون على الشافعي فرموه بالاعتزال مرة وبالتشيع مرة

أخرى وأنه يروي عن الكذابين وأنه قليل الحديث.

ص: 292


1- اللآلي المصنوعة ، للسيوطي ج 1 ص 457
2- الانتقاء ص 70

وسئل يحيى بن معين : الشافعى كان يكذب ؟

قال : لا أحب حديثه ولا أذكره .

وروى الخطيب عن يحيى بن معين أنه قال : الشافعي ليس بثقة...

وهناك طعون لا قيمة لها ، ولست في مقام الترجيح والتقييم ، وما أثارني ه-و تهمة الشافعي بالتشيع ، وتُعد هذه التهمة من أخطر الاتهامات في تلك العصور التي كان فيها العلويون والشيعة تبنى عليهم الأعمدة ويقتلون شر قتلة حتى أصبح التظاهر بالعداء لعلي ( علیه السلام ) وأولاده وشيعته أمراً رائجاً ... وللتوسع راجع الكتب التاريخية مثل ، مقاتل الطالبين ، لأبي الفرج الأصفهاني، حتى تتعرف عل-ى ن-وع قليل من أنواع التعذيب لأهل البيت وشيعتهم ، وبذلك انقسم الناس إلى قسمين قسم صبر وضحى وتمسك بولائه لأهل البيت ، وهم الأقلية ، وقسم وهو السواد الأعظم خضع وباع دينه بدنيا السلاطين ، وقد صدق الإمام الحسين (علیه السلام) عندما قال : الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم ، يحوطونه ما درت معايشهم ، فإذا ما محصوا بالبلاء قل الديانون.

وفي هذا الجو المظلم أظهر الشافعي حبه لأهل البيت ، وكان مجرد الحب له-م تهمة بالتشيع ، وفي الوقع لم يكن الشافعي شيعياً ، أي موالياً لأئمة أهل البيت ومتابعاً لخطاهم ولكنه مجرد الحب الذي يعلق على فطرة كل إنسان ، ولذلك ق--ال الشافعي .

يا آل بیت رسول الله حبكم *فرض من الله في القرآن أنزله

يكفيكم من عظيم الذكر أنكم *من لم يصل عليكم لا صلاة له

ص: 293

مستنداً في ذلك على قوله تعالى : « لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»(1).

وهي آية صريحة في وجوب حب أهل البيت (علیه السلام) ، وقد كنتُ أعجب كيف يجعل الله أجر رسالته في حب أهل البيت ؟! ولم يتضح لي هذا الأمر إلا بعدما عرفتُ كم هي قيمة الابتلاء في قيمة الابتلاء في حب أهل البيت والتمسك باسم .. وهذا الشافعي نموذج أمامك فما أن أظهر حبه لأهل البيت حتى اتهموه بالترفض ، قال الشافعي :

قالوا : ترفضت ، قلت : کلا* ما الرفض ديني ولا اعتقادي

لك-ن توليت دون شك*خ-ير إمام وخير هاد

إن كان حب الوصي رفضاً *فإنني أرفض العُبّاد

وعندما ظهر منه حبه لعلي (علیه السلام ) ، هجاه بعض الشعراء :

يموت الشافعي وليس يدري *عل-ىٌ اُم رب-ه الله

والشافعي في هذا الجو المشحون ضد أهل البيت وشيعتهم ، لم يت--وان في الجه-ر بالحب لهم حتى أنشد يقول :

يا راكب-اً ق-ف بالمحص-ب من منى* واهتف بقاعد خيفها والناهض

سحراً إذ افاض الحجيج إلى م-نى * فيضاً كملتطم الفرات الفائض

إن كان رفضاً حب آل محمد *فليشهد الثقلان أني رافضي

ص: 294


1- الشورى ، 23

كما كان الشافعي يسمي الذين خرجوا على علي (علیه السلام) وقاتلوه ، أهل البغي . مما ثبت عليه تهمة التشيع التي كانت كابوساً في صدور السلطة . ولكن بعد الدراسة والتقييم يظهر لنا أن تشيع الشافعي كان تشيعاً بالنسبة إلى مجتمعه ال-ذي غرق في العداء لأهل البيت (علیهم السلام) تبعاً لملوكهم ولذلك أتهم بالتشيع ، وإذا جردنا ذلك المجتمع من تبعية السلطة وسياستها فلا نجد أحداً يبغض أهل البيت ما عدا الخوارج ومن حذا حذوهم ، فحب أهل البيت لا يخلو منه قلب مسلم غير مستسلم فيكون الشافعي بذاك محباً لأهل البيت وليس بشيعي ، والفرق شاسع لأن كل من يحب القيم والمبادىء يحب أهل البيت الذين تجسدت فيهم هذه المبادىء حتى ولو كان غير مسلم ، والشواهد على ذلك كثيرة ، يكفينا منها أن الكاتب المسيحي جورج جورداق ، ألف موسوعةً من خمس مجلدات في الإمام علي(علیه السلام) يصفه فيها بأعظم ما يوصف ، ... ويكتب آخر في السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) كتاباً يسميه «فاطمة وتر في غمد» ، وهو سليمان كتاني صاحب كتاب «الإمام علي نبراس ومتراس»، كما أن أطول قصيدة في العالم والتي تتكون

من خمسة آلاف بيت ألفها مسيحي في حق الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) وثاني قصيدة تتكون من ثلاثة آلاف بيت أيضاً هي لمسيحي في فضل الإمام علي بن أبيطالب (علیه السلام) ، وثالث قصيدة من ألف بيت المسيحي في الإمام (علیه السلام) وكل هذا لا يكفي لتشيعهم ، فمجرد الحب لا يكفي وإنما الحب الحقيقي هو الموالاة والاتباع والانقطاع التام إليهم لأخذ الدين ومعالم الإسلام كما يقول الشاعر :

لو كان حبك صادقاً لأطعته* إن المحب لمن يحب مطي-ع

ص: 295

د . الإمام أحمد بن حنبل

هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال ، ولد سنة 164 ه- في بغداد على الأشهر ومرو على الأضعف ، وقد نشأ أحمد يتيماً في حجر أمه ، وتوجه إلى العلم وهو ابن خمسة عشر عاماً .. أي سنة 179 ه- ، فدرس علم الحديث بعد تعلم قراءة القرآن واللغة ، وأول شيخ تلقى عليه العلم هو هشام بن بشير السلمي ، المتوفى سنة 183 ه- ، وقد صاحبه أحمد ثلاث سنوات أو أكثر ، وقد رحل إلى مكة لطلب الحديث والكوفة والبصرة والمدينة واليمن والشام والعراق وتتلمذ فيها على مجموعة من العلماء ،لا حاجة لذكرهم ، أهمهم الشافعي ،ومن الغري-ب من الحنابلة أنهم جعلوا الشافعي تلميذاً لأحمد.

وله تلامذة كثيرون أشهرهم أحمد بن محمد بن هاني المعروف بالأثرم المتوفى سنة 261 ه- ، وصالح بن أحمد بن حنبل وهو أكبر أولاده ، وعبدالله بن أحمد ب--ن حنبل ، المتوفى سنة 290 ه- ، روى الحديث عن أبيه .

من كتب أحمد وآثاره

لم يصنف أحمد كتاباً في الفقه يعد أصلاً يؤخذ منه مذهبه الفقهي ، وإنما له كتب عدت من الموضوعات الفقهية ، مثل المناسك الكبيرة ، والمناسك الصغيرة ، ورسالة صغيرة في الصلاة ، ولكنها لا تتعدى أن تكون كتب حديث وإن كان في موضوعاتها ما تناوله بالبسط والشرح(1) .

ومن المعروف عنه أنه يكره وضع الكتب التي تشمل التفريع والرأي ، فقد قال

ص: 296


1- أحمد بن حنبل ، لأبي زهرة ص 198

يوماً لعثمان بن سعيد : لا تنظر إلى ما في كتب أبي عبيد ولا فيما وضع إسحاق ولا فيما وضع سفيان ولا الشافعي ولا مالك وعليك بالأصل .

ومن أشهر تأليفاته في الحديث مسنده - يشمل أربعين ألف حديث تكرر منها عشرة آلاف - ، وقد وثق أحمد مسنده ، فعندما سُئل عن حديث قال : «انظر فإن كان في المسند وإلا فليس بحجة» وقد طعن فيه كثير من الحفاظ ولم يوثقوا كل ما فيه ، بل صرحوا بوجود روایات موضوعة وليس هنا مقام البحث في هذا الأمر.

محنة أحمد بن حنبل

إن أظهر منعطف في تاريخ أحمد بن حنبل هي المحنة التي لاقاها بسبب القول بعدم خلق القرآن ، وقد بدأت محنته في زمن المأمون الذي كان يأخذ الناس بالعنف للقول بخلق القرآن ، وقد كان المأمون متكلماً عالماً فأرسل منشوره إلى كل ولاته يأمرهم بامتحان الناس بخلق القرآن ، جاء فيه : «إن خليفة المسلمين واجب عليه حفظ الدين وإقامته والعمل بالحق في الرعية ، وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية وسفلة العامة مما لا نظ-ر ل-ه ولا روية ، ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته، ولا استضاءة بنور العلم وبرهانه ، في جميع الأقطار والآفاق ، أهل جهالة بالله وعمى عنه ، وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده ، والإيمان به، ونكوب عن واضحات أعلامه ، وواجب سبيله ، وقصور عن أن يقدروا الله حق قدره ، ويعرفونه کنه معرفته ويفرقوا بينه وبين خلقه لضعف آرائهم ونقص عقولهم وجفائهم عن التفكر والتذكر ، وذلك أنهم ساووا بين الله تبارك وتعالى وما أنزل من القرآن ، فأطبقوا مجتمعين على أنه - أي القرآن

ص: 297

قديم أزلي لم يخلقه الله ويخترعه ...»(1).

ومن هنا بدأت محنة خلق القرآن ، ولم يقع ابن حنبل في فخ الامتحان والتعذيب إلا في عهد المعتصم ، لوفاة المأمون قبل امتحانه . وقد كان المعتصم شديداً في امتحان الناس والتنكيل بهم، وعندما جاء دور أحمد بن حنبل ، فقد أقسم أنه لا يقتله بالسيف وإنما سيضربه ضرباً بع-د ض--رب ... ويزجه في مكان مظلم لا يرى فيه النور ، وبقي أحمد ثلاثة أيام يؤتى به كل أحمد ثلاثة أيام يؤتى به كل يوم للمناظرة ، عسى أن يرضخ لحكم السلطه ولكنه تمسك بقوله ورفض . فلما يئس المعتصم منه أم--ر بضربه بالسياط ، وضرب 38 سوطاً ، ولم يدم بعد ذلك تعذيب ابن حنبل فقد أطلق المعتصم سراحه وهذا ما يثير العجب والغرابة ، هل هذا كاف في أن يصنع من أحمد بطلاً تاريخياً وقد شهد التاريخ أناساً أكثر منه تعذيباً وصبراً ؟! ثم لماذا لم يدم تعذيبه ؟! هل خضع وقال بمقالة السلطان ؟

وقد ذكر بعضهم أن العامة قد اجتمعوا على دار السلطان ، وهموا بالهجوم ، فأمر المعتصم بإطلاقه .. ، وهذا لا يستقيم وتاريخ المعتصم الذي عُرف بالقوه وصلابة الإرادة ، وعظمت دولته ، فلا يؤثر فيها استنكار العامة ، ثم أي عامة هذه ، هل هم أتباع أحمد ؟! لم يكن أحمد مشهوراً ومعروفاً قبل المحنةحتى يكون له عوام ، وإذا كانوا أتباعه فقد حرم أحمد عليهم الخروج على السلطان .. ! فهذا السبب غير مقنع .

ويظهر أن سبب ذلك أن أحمد أجاب الخليفة وقال بمقالته ، فأطلق سراحه كما

ص: 298


1- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 2 ص 453 - 454

ذكر الجاحظ في رسالته مخاطباً أهل الحديث بعد أن ذكر المحنة والامتحان : «وق---د كان صاحبكم هذا - أي أحمد بن حنبل - يقول : لا تقية إلا في دار الشرك فلو كان ما أقر به من خلق القرآن ، كان منه على وجه التقية ، فلقد أعملها في دار الإسلام وقد كذب نفسه ، وإن كان ما أقربه على الصحة والحقيقة فلستم من-ه وليس منكم ، على أنه لم ير سيفاً مشهوراً ، ولا ضرب ضرباً كثيراً ، ولا ضرب إلا ثلاثين سوطاً مقطوعة الثمار مشبعة الأطراف ، حتى أفصح بالإقرار مراراً ، ولا كان في مجلس ضيق ولا كانت حاله مؤيسة ، ولا كان مثقلاً بالحديد ، ولا خُلعَ قلبه بشدة الوعيد ولقد كان منازع بألين الكلام ويجيب بأغلظ الجواب ويرزنون ويخف ويحلمون ويطيش»(1)...

ويؤيد ذلك ما ذكره اليعقوبي فى تاريخه من قول الجاحظ بإقرار أحمد بن حنبل بأن القرآن مخلوق ، قال : وامتحن المعتصم أحمد بن حنبل في خلق القرآن ، فقال : أحمد : أنا رجل علمت علماً ولم أعلم فيه بهذا فأحض-ر ل-ه الفقهاء وناظره عبدالرحمن بن إسحاق ، وغيره .. فامتنع أن يقول أن القرآن مخلوق ، فضرب عدة سياط ، فقال إسحاق بن ابراهيم : ولني يا أمير المؤمنين مناظرته ، فقال : شأنك به ، فقال إسحاق : هذا العلم الذي علمته نزل به عليك ملك أو علمته من الرجال ؟!

ص: 299


1- مقدمة كتاب - أحمد بن حنبل والمحنة ص 14 ، نقلاً عن هامش الكامل ج 3 ص 131 - ص 139 .

فقال أحمد : بل علمته من الرجال.

فقال إسحاق : شيئاً بعد شيء أو جملة ؟

قال : علمته شيئاً بعد شيء .

قال إسحاق : فبقي عليك شيء لم تعلمه.

قال أحمد : بقي عليَّ شيء لم أعلمه .

قال إسحاق : فهذا مما لم تعلمه ، وعلمكه أمير المؤمنين .

قال أحمد : فإني أقول يقول أمير المؤمنين .

قال إسحاق : في خلق القرآن ؟

قال أحمد : في خلق القرآن .

فأشهد عليه وخلع عليه وأطلقه إلى منزله(1).

وتكون هذه الضجة مفتعلة أكثر من الواقع ، وقد صنع الواقع ، وقد صنع منها الحنابلة أساطير وأوهاماً حتى تكون دعاية وإعلاماً بطرح إمامة أحمد بن حنبل ، وإلا إذا حوكمت هذه المسألة على أرض الواقع ، لم يكن ابن حنبل بطلها.

أبطال لم تسلط عليهم الأضواء

(1) أحمد بن نصر الخزاعي ، المقتول سنة 231 ه- ، وهو من تلاميذ مالك بن أنس وروى عنه ابن معين ومحمد بن يوسف ، وكان من أهل العلم ، وقد امتحنه

ص: 300


1- تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 472

الواثق وسأله : ما تقول في القرآن ؟

قال : كلام الله ليس بمخلوق ، فحمله أن يقول أنه مخلوق فأبى وسأله عن رؤية الله يوم القيامة ، فقال بها . وروى الحديث في ذلك فقال الواثق : ويحك ، هل يُرى كما يُرى المحدود المتجسم ويحويه مكان ، ويحصره الناظر ، إنما كفرت برب هذه صفته ، ولما أصر أحمد الخزاعي على رأيه ، دعى الخليفة السيف المسمى الصمصامة ، وقال : إني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد رباً لا نعبده ، ولا نعرفه بالصفة التي وصفه بها ، ثم مشى إليه بنفسه فضرب عنقه ، وأم-ر ب-ه وحمل رأسه إلى بغداد ، فنصب بالجانب الشرقي أياماً ، ثم بالجانب الغربي أياماً ، ولما صلب كتب الواثق ورقة وعلقت في رأسه : هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك ، دعاه عبدالله الإمام هارون - وهو الواثق - إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه فأبى إلا المعاندة فعجل الله به إلى ناره (1) .

(2) يوسف بن يحيى البويطي ، كما تقدم من تلاميذ الشافعي وخليفت-ه عل-ى حلقة درسه ، حمل من مصر إلى بغداد مثقلاً بأربعين رطلاً من الحديد ، وامتحن فأبى أن يقول أن القرآن مخلوق ، وقال : والله لأموتن في حديدي هذا حتى يأتي من بعدي قوم يعلمون أنه مات في هذا الشأن قوم في حديدهم ، ولئن دخلت عليه - يعني الواثق - لأصدقن ،ومضى على امتناعه ح-ت-ى م-ات بسجنه سنة 232 ه- .

ص: 301


1- طبقات الشافعية ج 1 ص 215 ، ط دار المعرفة بيروت

.. وآخرون لايتسع المجال لذكرهم كانوا أكثر جموداً وإصراراً من أحمد ، ومن الظلم أن يُخص أحمد بن حنبل بهذه المحنة وأن تكون أعظم بطولاته ، رغم أنه كان غير ذلك تماماً كما عرفت خضوعه وإقراره للمعتصم .

أحمد في عهد المتوكل

عندما جاء المتوكل إلى سدة الحكم ، قرب أهل الحديث ونكّل بالمعتزلة ، بعكس ما كان في عهد المأمون والمعتصم والواثق ، وامتحنهم بخلق القرآن ، فمن قال منهم بخلق القرآن عُذب وقُتل ، فوجد أهل الحديث بغيتهم وارتفع بذلك صيتهم ، وتبوأوا المكانة الرفيعة ، وانتقموا من المعتزلة شر انتقام .

قال أحمد أمين : «فأراد الخليفة المتوكل أن يحتضن الرأي العام وأن يكتسب تأییده، فأبطل قوله بخلق القرآن ، وأبطل الامتحانات والمحاكمات ، ونصر المحدثين» (1) .

وقد كان النصيب الأكبر في القرب من المتوكل هو لأحمد بن حنبل ، لأنه هو البقية من محنة القرآن بعد أن قتل أبطاله . وكان المتوكل يوصي الأمراء باحترام أحمد وتقديره ، ويصله بصلات سنيه ويعطف عليه ورتب له في كل شهر أربعة آلاف درهم (2). فعلاً نجم أحمد وازدحم الناس على بابه وتهافت رجال الدولة وأعيانها عليه ، وكان أحمد في المقابل يذهب إلى صحة خلافة المتوكل وإمامته

ص: 302


1- ظهر الإسلام ج 4 ص 8
2- تاريخ ابن كثير ج 10ص339

ولزوم طاعته ، وكان يؤيد الدولة ويشد أزرها ، وهذا ليس بغريب من أحمد فإن-ه يرى طاعة الحاكم أياً كان يراً أو فاجراً .

قال أحمد في إحدى رسائله : السمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين ، البر والفاجر ، ومن ولي الخلافة فأجمع الناس عليه ورضوا به ، ومن غلبهم بالسيف وسُميَّ أمير المؤمنين ، والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة ، البر والفاجر وإقامة الحدود إلى الأئمة وليس لأحد أن يطعن عليهم أو ينازعهم ، ودفع الصدقات إليهم جائز من دفعها إليهم أجزأت عنه ، براً كان أو فاجراً . وصلاة الجمعة خلفه وخلف كل من ولي جائزة إمامته ومن أعادها فهو مبتدع تارك للآثار مخالف للسنة.

ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين وكان الناس قد اجتمعوا عليه وأقروا له بالخلافة بأي وجه من الوجوه ، أكان بالرضا أو الغلبة ، فقد شق الخارج عصا المسلمين وخالف الآثار عن رسول الله ، فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية(1) .

ويقول أبو زهرة في نفس الكتاب ص 522 : «ولأحمد رأي يتلاقى فيه مع سائر الفقهاء وهو جواز إمامة من تغلب ورضيه الناس ، وأقام الحكم الصالح بينهم ، بل إنه يرى أكثر من ذلك ، إن من تغلب وإن كان فاجراً تجب طاعته حتى لا تكون الفتنة.

ص: 303


1- تاريخ المذاهب الإسلامية ، لأبي زهرة ص 522

فلذلك نجد أتباعه من السلفية والوهابية يحكمون على الحسين بن علي (علیه السلام) بأنه باغ ويجب على يزيد قتله لخروجه على إمام زمانه ، وقد سمعته بأذني يأذني من أحدهم وهو يناقشني مدافعاً دفاعاً مستميتاً عن يزيد ، قال : الحسين خرج عل-ى إمام زمانه ويجب أن يقتل ، فانظر إلى أي مدى يأخذ الإنسان التقليد الأعمى لأسلافه ، فما قيمة أحمد بن حنبل في قبال الحسين (علیه السلام) ، حتى أقول بمقالته وأعمل بفتواه وأرمي الحسين بالظلم والبغي ؟!

إذا تجردنا من هذا التقليد الأعمى ، وتدبرنا آيات القرآن لكان خيراً وأقرب للحق ، قال تعالى : «وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ » هود 113 .

وقال : « وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا » الكهف 28 . وقال جل شأنه: «فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ » القلم 8 . وقال : «وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ » الشعراء 151.

.. ولكنهم تركوا القرآن وراء ظهورهم ، واحتجوا بروايات وضعها الظلمة من حكام بني

أمية ، حتى يخضعوا الناس لسلطانهم ، وقد رد أهل البيت هذه الأحاديث بأحاديث صادقة وموافقة للقرآن ولروح الإسلام .

قال الإمام الصادق (علیه السلام) : «من حب بقاء الظالمين فقد أحب أن يُعصى الله» . هذا فوق كونه حديثاً فهو دليل عقلي متين ، حيث من يرى الاستسلام للظالم وطاعته ولا يخرج عليه فقد أحب بقاء معصية الله . قال تعالى :« وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ... الظَّالِمُونَ ...الفَاسِقونَ » المائدة 44 - 45 - 47

ص: 304

بالإضافة إلى الآيات والروايات الدالة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلذلك عندما أراد الحسين (علیه السلام) الخروج على طاغية زمانه يزيد قال : «أيه-ا الناس إن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً

لعهد الله ، مخالفاً لسنة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله ، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله و حرموا حلاله ، وأنا أحق من غيري»(1).

ولكن ماذا نقول لأناس تركوا أئمة أهل البيت وأبدلوهم بأئمة مصطنعين لم يأمر الله بطاعتهم ، قال تعالى : «وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا » الاحزاب 67 - 68 .

فما أعظم هذه الجريمة في حق الأمة الإسلامية ، التي ارتكبها حكام الأمويين بوضع هذه الأحاديث المكذوبة على رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ، بل ما أعظم ذن-ب ه-ذه الفتوى بها أحمد بن حنبل ، وكم هي محبطة لجيل الثورة الإسلامية الذين يرفضون الظلم والاستبداد في هذا العصر الذي اتصف بالوعي والنهضة الشاملة ، التي لا يمكن أن تقف في طريقها ايحاءات علماء البلاط والسلطة . فإن كان هناك جرماً ارتكبته مجموعة من الشباب الذين انضموا تحت رايات شيوعية وغير إسلامية ، فالجرم الأكبر ارتكبه علماء السوء .

ص: 305


1- تاريخ الطبري ج 5 ، حوادث سنة 61ه- ص403

الفقه عند أحمد بن حنبل

من المعروف عن ابن حنبل أنه رجل حديث ولم يكن فقيهاً ، فقد جمع أتباعه بعض آرائه المتفرقة المنسوبة له وجعلوا منها مذهباً فقهيا ، ولذلك نجد المجموعة الفقهية التي نسبت إلى أحمد مختلفة متضاربة ، بالإضافة إلى اختلافهم في تفسير مراده من بعض الكلمات التي لا يُفهم منها الحكم الشرعي في المسألة مثل قوله : «لاينبغي» . فهل هي تحمل على الحرمة أو الكراهة ، وكذلك قوله : يعجبني أو لا يعجبني ... أو أكره ، أو لا أحب .

كما أن أحمد نفسه لم يدع أنه من أهل الفقه والفقاهة ، بل كان يتحرز من الفتيا ويفر منها.

قال الخطيب بإسناده: «كنت عند أحمد بن حنبل ، فسأله رجل عن مسألة في الحلال والحرام ، فقال له أحمد : سل عافاك الله غيرنا ، قال : إنما نريد جوابك يا أبا عبدالله ، قال : سل عافاك الله غيرنا ، سل الفقهاء ، سل أبا ثور» (1). فلا يحسب نفسه بذلك من الفقهاء .

وقال المروزي : سمعتُ أحمد يقول :أما الحديث فقد استرحنا منه وأما المسائل فقد عزمتُ إن سألني أحد عن شيء أن لا أجيب(2).

وذكر الخطيب بالإسناد أنه قدم أحمد بن حرب (الزاهد النيسابوري) من مكة ،

ص: 306


1- تاريخ بغداد ، ج 2 ص 66
2- مناقب أحمد ص 75

فقال لى أحمد بن حنبل : من هذا الخراساني الذي قدم ؟

قلت : من زهده كذا وكذا .

فقال : لا ينبغي لمن يدعي ما يدعيه - يعني الزهد - أن يدخل نفسه بالفتيا (1).

.. فهذا هو ديدنه لا يتدخل في الفتيا، بل يراها لا تنسجم مع الزهد . فكيف يكون لمثل هذا فقه أو مذهب يُقلد فى الأمور العبادية ؟!

وقال أبوبكر الأشرم - تلميذ أحمد بن حنبل - : كنتُ أحفظ الفقه والاختلاف فلما صحبت أحمد تركت كل ذلك.

وقال أحمد بن حنبل : إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام (2) .

... أي بصريح العبارة : لا تُفتِ حتى ولو كان في يدك حديث ، إلا إذا كان لك إمام تعتمد عليه في هذه الفتوى .

كما أنه لا يرى الترجيح بين أقوال الصحابة ، إذا اختلفوا في مسألة ، بل يرى تقليد من شئت ، وكان هذا جوابه لعبد الرحمن الصيرفي عندما سأله هل يمكن الترجيح بين أقوال الصحابة.

والذي ينهى عن الترجيح وأخذ الأصلح من الأقوال هو أبعد عن الاجتهاد ومن الأدلة التي تدل على عدم وجود مذهب فقهي لأحمد بن حنبل ، أن كثيراً من أصحابه المتعصبين له اختلفوا في مذهبهم الفقهي .

ص: 307


1- تاريخ بغداد ج 4 ص 119
2- أحمد بن حنبل ، لأبي زهرة ص 196

هل هم أحناف أم شافعية ؟ ، مثل أبي الحسن الأشعري ، عندما ترك الاعتزال وأصبح حنبلياً ، فلم يُعرف عنه أن يدين الله عزوجل بفقه حنبلي ، وكذلك القاضي الباقلاني فقد كان مالكياً ، وكذلك عبدالله الأنصاري الهروي، المتوفي سنة 481 ه- ، القائل :

أنا حنبلى ما حييت وإن أمت *فوصيتى للناس أن يتحنبلوا

ورغم تعصبه لأحمد كان في الفقه على طريقة ابن المبارك ، وهذا هو المعروف من معاصريه والمقربين من عهده ، فالمنتسبون له إنما ينتسبون عقائدياً وليس فقهياً .

بالإضافة إلى أن ابن حنبل ينهي في سائله عن : الرأي والقياس والاستحسان ويجعل القائلين بالقياس في رديف الجهمية والقدرية والروافض ويحمل على أبي حنيفة في شخصه ، ورغم ذلك نجد أن القول بالقياس قد أدخل بالفقه الحنبلي ، وهذا مما يدعونا نشك أن أحمد بن محمد بن هارون (أبوبكر الخلال) ، المتوفى سنة 311 ه- وهو الراوي والناقل للفقه الحنبلي، لم يكن أميناً في نقله أو اختلط عليه الأمر ، خاصة أنه لم يكن في عصر أحمد بن حنبل فقد جمع أشتات المسائل الفقهية المنسوبة إلى أحمد . ويؤيد ذلك اختلاف الروايات في أقوال أحمد اختلافاً عظيماً يصعب على العقل نسبتها جميعها إليه .

يقول أبو زهرة : «إن الفقه المنقول عن أحمد بن حنبل قد تضاربت أقواله فيه تضارباً يصعب على العقل نسبة كل هذه الأقوال إليه . وافتح أي كتاب من كتب

ص: 308

الحنابلة ، وأي باب من أبوابه تجده لا يخلو من عدة مسائل ، اختلفت فيها الرواية بين ، لا ونعم(1) .

فلم يكن المذهب الفقهي لابن حنبل واضحاً عند معاصريه ، وما هو موجود إنما هومذهب مصطنع نشره الحنابلة بالعنف والشدة ، كما في بغداد التي كان يغلب عليها المذهب الشيعي ، أما خارج بغداد فلم يكن معروفاً ، فكان يعتنق-ه أف--راد معدودون في مصر وذلك في القرن السابع، ولكن عندما ولي القضاء موفق الدين عبدالله بن محمد عبد الملك الحجازي، المتوفى 769 ه- انتشر مذهب أحمد بن بواسطته ، فقرب الفقهاء الحنابلة ورفع منزلتهم ، وأما في باقي الأقطار فلم يكن لهم ذكر ، وقد علل ابن خلدون ذلك بقوله :

«أما أحمد فمقلده قليل لبعد مذهبه عن الاجتهاد» ، كما في المقدمة . فلم يجد الحنابلة طريقاً إلى نشر مذهبهم إلا بالهرج والمرج وضرب الناس في الشوارع والطرقات ، حتى بلبلوا النظام في بغداد ، فخرج توقيع الخليفة الراضي يستنكر عليهم فعائلهم ويذمهم بقولهم بالتشبيه ، فمنه : «تارة إنكم تزعمون صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال رب العالمين وهيأتكم الرذيلة على هيئته ، وتذكرون الكف والأصابع والرجلين والنعلين

المذهبين ... والصعود إلى السماء والنزول إلى الدنيا ، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً ..» (2).

ص: 309


1- أحمد بن حنبل ، لأبي زهرة ص 168
2- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 2 ص 509

فأصبح المذهب الحنبلي على ذلك المستوى ، لم يكن له كثير من الأتباع كما كانت تفر منه النفوس لعقائدهم في الله وتشبيههم الرب ووصفه بصفات لا تليق به ، فلم يجد الفرصة الكافية في الانتشار حتى جاء المذهب الوهابي بزعامة محمد بن عبدالوهاب الذي تبنى الخط الحنبلي فساعدته سلطة آل سعود على نشر المذهب بحد السيف في أوله وبريق الريالات في آخره ، ومع الأسف إن كثيراً من الناس يتمسكون بالفقه الحنبلي ولا دليل لهم على ذلك إلا من باب : «إنا وجدنا آباءنا على أمة وأنا على آثارهم مقتدون» ، وإن كان غير ذلك فلابد من إثبات براهينهم في هذه الموارد الثلاثة : كون أحمد بن حنبل فقيهاً ، وكون الفقه المنسوب إليه غير مكذوب ، وبعد أن يثبت ذلك كله لابد من إثبات حجة دامغة في وجوب اتباع أحمد بن حنبل بالذات . وإلا يكون اتباعاً للظن ، والظن لا يغني عن الحق شيئاً ، وهذا بالإضافة إلى أن المتعصبين لأحمد مثل ابن قتيبة لم يذكره في جماعة الفقهاء ، فلو كان فقيهاً مجتهداً لم يبخسه حقه وكذلك ابن عبدالبر لم يذكره عندما ذكر الفقهاء في كتابه الانتقاء ، ولم يتطرق له ابن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ في كتابه اختلاف الفقهاء ، فسئل عن ذلك فقال : لم يكن أحمد فقيهاً إنما كان محدثاً وما رأيت له أصحاباً يعول عليهم ، فأساء ذلك الحنابلة ، وقالوا :إنه رافضي ، وسألوه عن حديث الجلوس على العرش ، فقال : إنه محال . وأنشد :

سبحان من ليس له أنيس* ولا له في عرش ه جلیس

ص: 310

فمنعوا الناس من الجلوس إليه ، ومن الدخول عليه ، ورموه بمحابرهم ، فلما لزم داره رموه بالحجارة حتى تكدست(1) .

وهذا يدل على تعصب الحنابلة وشذوذهم في نشر مذهبهم الذي لم يعترف به العلماء ، قال الشيخ أبو زهرة : إن كثيراً من الأقدمين لم يعدوا أحمداً من الفقهاء، كابن قتيبة وهو قريب من عصر أحمد حمد جداً وابن جرير الطبري وغيرهما .

(3) خاتمة

وبعد هذا العرض لمدارس الفقه عند أهل السنة ، اتضح لنا جلياً أنه ليس هناك ميزة لهذه المذاهب عن غيرها حتى تنتشر وتعم كل العالم الإسلامي ، لولا السياسة التي اقتضت أن يكون أئمة المذاهب الأربعة هم مصادر الفقه ، وذلك لأن السياسة الحاكمة لا يمكن أن تحارب الدين، بل بالعكس فإنها تنصر العلماء وتقربهم لكن بشرط أن لا تمس تعاليمهم مصالح الدولة . فمركز السلطان فوق كل شيء .

ولذلك نجد أن المذاهب الأربعة قد أختيرت من بين مئات المذاهب وشملها العفو الملكي والرضا السلطاني ، فقلدت تلاميذهم منصب القضاء وجعلت أمور الدين بأيديهم . فنشروا ما يشاؤون من مذاهب شيوخهم كما تقدم شرحه.

وصدر مرسوم في عهد المنتصر العباسي ، يقتضي الالتزام بقول المشايخ السابقين وأن لا يذكر قول مع أقوالهم ، وأفتى علماء الأمصار بوجوب اتباع المذاهب

ص: 311


1- ضحى الإسلام ج 2 ص 235 ، لأحمد أمين

الأربعة وتحريم ما سواها وغلق باب الاجتهاد .

يقول أحمد أمين : كان للحكومات دخل كبير في نصرة مذاهب أهل السنة ، والحكومة عادة ، إذا كانت قوية وأيدت مذهباً من المذاهب تبعه الناس بالتقليد وظل سائداً إلى أن تزول الدولة»(1).

وبعد هذا ، هل يحتج محتج بوجوب اتباع المذاهب الأربعة ؟!

بل من الأساس ، هل جاء دليل على حصر المذاهب في أربعة ؟!

وإذا لم يكن هناك دليل على اتباعهم، هل غفل الله ورسوله عن هذا الأمر فلم يبين لهم عمن يأخذون دينهم وشرائع أحكامهم ..؟! وعمن لا يأخذون ؟!

تعالى الله أن يترك الخلق من غير أن يبين لهم أحكامهم والطريق الذي ب-ه نجاتهم، فقد بيّن على لسان رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وأقام الحجة والبرهان على وجوب اتباع عترة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخاصته ومعدن حكمته ، ولكن لما كانت العترة الطاهرة مناهضة لحكام وطواغيت عصرهم وظالميهم ومغتصبي حقهم ،عملت السلطة على صرف الناس عنهم ، وعدم التمسك بهم ، والناس همج رعاع أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل ريح لا يستضيئون بنور العلم ولا يلجأون لركن وثيق .

وفي المقابل يمكنك أن تنظر إلى مدرسة أهل البيت - التشيع - ، التي لم تحتج إلى السلطة كي تلمع لها فقهاءها ، بل تمسكوا بما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي فإن العليم الخبير أنبأني أنهم-ا ل-ن

ص: 312


1- ظهر الإسلام ج 4 ص 96

يفترقا حتى يردا على الحوض».

فلازموا العترة واستقوا منها دينهم وأفكارهم ، لم يخالفوا أهل البيت ولم يتقدموا عليهم ولم يحتاجوا إلى غيرهم كي يستفتوهم ، بل أخذوا ممن كان حديثهم حديث جده وحديث جده حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحدیث رسول الله حدیث جبرائيل وحدیث جبرئيل حديث الله .

قال الشاعر :

إذا شئت أن تبغى لنفسك مذهبا *ينجيك يوم البعث من لهب النار

فدع عنك قول الشافعي ومالك *وأحمد المروي عن كعب أحبار

ووال أناساً قولهم وحديثهم *روى جدنا عن جبرئيل عن الب-اري

(4) الفقه عند الشيعة

واستمر هذا الوضع في الأخذ من أئمة أهل البيت (علیه السلام) مباشرة حتى جاء

الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن المهدي (علیه السلام) ، فرسم للشيعة طريقهم الذي يسلكونه في أخذ الأحكام الفقهية حال غيبته ، فقال : «فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه» (1) .

وبذلك انفتح لهم باب الاجتهاد والتحقيق والاستنباط ، فظهرت فكرة المرجعية الفقهية ، بحيث يختار الشيعي من العلماء أكثرهم علماً وتقوى وورعاً ويقلده في

ص: 313


1- وسائل الشيعة، ج 27 ص 131

أحكام الفقه والمستجدات ، وقد فصل الفقهاء في هذا الباب وإليك بعضها من كتاب -المسائل الإسلامية ، لسماحة آية الله العظمى السيد الحسيني الشيرازي ص 90 :

(المسألة 1) : يجب أن يكون اعتقاد المسلم بأصول الدين) عن دليل وبرهان ، ولا يجوز له أن يقلد فيها بمعنى أن يقبل كلام أحد فيها دونما دليل .

أما في (أحكام الدين وفروعه فيجب إما أن يكون مجتهداً يقدر على استنباط الأحكام من أدلتها ، وإما أن يكون مقلداً بمعنى أن يعمل على رأي مجتهد جامع للشرائط ، وإما أن يقوم بوظيفته عن طريق الاحتياط بنحو يحصل له اليقين بأن--ه قام بالتكليف ، مثلما لو أفتى جماعة من المجتهدين بحرمة عمل ، وأفتى آخرون باستحبابه احتاط بأن يقوم بذلك العمل ، فمن لا يكون مجتهداً ولا يمكنه الاحتياط يجب عليه أن يقلد مجتهداً ويعمل وفق رأيه .

(مسألة 4) : بناء على وجوب تقليد الأعلم ، إذا تعسر تشخيص الأعلم وجب تقليد من يظن أنه أعلم ، بل يجب تقليد من يحتمل احتمالاً ضعيفاً بأعلميته ،ويعلم بعدم أعلمية غيره . أما إذا تساوى جماعة في العلم - في نظره - قلد واحداً منهم ، ولكن إذا كان أحدهم أورع وجب تقليده دون سواه على الأحوط .

(مسألة 5) : الحصول على فتوى المجتهد ورأية يمكن بإحدى الطرق الأربع التالية :

1) السماع المباشر من المجتهد .

2) السماع من عادلين ينقلان فتوى المجتهد.

ص: 314

3) السماع ممن يثق بقوله ويعتمد على نقله.

4)وجود الفتوى في رسالته العملية ، في صورة الاطمئنان إلى صحة ما جاء في الرسالة وسلامتها من الأخطاء» .

وقد تطور الفقه وتقدم عند الشيعة وفتحت المدارس والحوزات الدينية التي تخرّج الفقهاء والمراجع فظهر فيهم الأفذاذ طوال التاريخ إلى العصر الحاضر .

والذي يراجع المكتبة الفقهية الشيعية ، يقف منذهلاً أمام تلك المجهودات الجبارة .

.. وأنقل إليك نزراً يسيراً من الكتب الفقهية الشيعية.

ففي باب الروايات الفقهية ، هناك كتب كثيرة أشهرها :

(1) وسائل الشيعة : 20 مجلداً ضخماً ، للحر العاملي .

(2) مستدرك الوسائل : 18 مجلداً ، للنوري الطبرسي.

ومن الكتب الفقهية الاستدلالية :

(1) جواهر الكلام ، لمحمد حسن النجفي يتكون من 43 مجلداً .

(2) الحدائق النضرة ، للشيخ يوسف البحراني ، 25 مجلداً .

(3) مستمسك العروة الوثقى ، للسيد محسن الطباطبائي الحكيم ، 14 مجلداً .

(4) الموسوعة الفقهية ، للسيد محمد الحسيني الشيرازي - من العلماء المعاصرين - وقد طبع من هذه الموسوعة 110 مجلدات ، وقد تناولت جميع أبواب الفقه ، من بينها : فقه القرآن الكريم، وفقه الحقوق، وفقه الدولة الإسلامية ، وفقه الإدارة ، وفقه السياسة ، وفقه الاقتصاد ، وفقه الاجتماع .

ص: 315

(5) ومن الموسوعات الحديثة أيضاً : فقه الصادق . للسيد محمد صادق الروحاني ، تتكون من 26 مجلداً ، وسلسلة الينابيع الفقهية لعلي أصغر مرواري---دي تتكون من 30 مجلداً .

مناظرة يوحنا مع علماء المذاهب الأربعة

ونختم هذا الفصل بمناظرة يوحنا مع علماء المذاهب الأربعة ، وهي من أروع المناظرات في هذا الباب، وعلى القارىء أن يتمعن ما فيها ما فيها من احتجاجات حكيمةوسديدة وقد نقلنا هذه المناظرة من كتاب مناظرات في الإمامة لمؤلفه عبدالله الحسن ص 418 - 489 .

قال يوحنّا : فلما رأيت هذه الاختلافات من كبار الصحابة الذين يُذكرون مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - فوق المنابر عظم عليَّ الأمر وغمّ عليَّ الحال وكدت أفتتن في ديني ، فقصدت بغداد وهي قُبّه الإسلام لأفاوض فيما رأيت من اختلاف علماءالمسلمين لأنظر الحق وأتبعه ، فلمّا اجتمعت بعلماء المذاهب الأربعة ، قلت لهم : إني رجل ذمّي ، وقد هداني الله إلى الإسلام فأسلمت وقد أتيت إليكم لأنقل عنكم معالم الدين ، وشرائع الإسلام ، والحديث ، لأزداد بصيرة في ديني .

فقال كبيرهم وكان حنفيّاً : يا يوحنا ، مذاهب الإسلام أربعة فاختر واحداً منها ، ثم اشرع في قراءة ما تريد.

فقلت له : إني رأيت تخالفاً وعلمت أن الحق منها واحد فاختاروا لي ما تعلمون أنه الحق الذي كان عليه نبيكم.

قال الحنفي : إنا لا نعلم يقيناً ما كان عليه نبينا بل نعلم أن طريقته ليست

ص: 316

خارجة من الفرق الإسلامية وكل من أربعتنا يقول إنّه محق ، لكن يمكن أن يكون مبطلاً ، ويقول : إنّ غيره مبطل لكن يمكن أن يكون محقاً ، وبالجملة إن مذهب أبي حنيفة أنسب المذاهب ، وأطبقها للسنّة ، وأوفقها للعقل ، وأرفعها عند الناس إن مذهبه مختار أكثر الأمة بل مختار سلاطينها ، فعليك به تَنْج .

قال يوحنّا : فصاح به إمام الشافعية ، وأظن أنه كان بين الشافعي والحنفي منازعات فقال له: اسكت لا نطقت ، والله لقد كذبت وتقولت ، ومن أين أنت والتمييز بين المذاهب ، وترجيح المجتهدين ؟ ويلك ثكلتك أمك وأين لك الوقوف على ما قاله أبو حنيفة ، وما قاسه برأيه ، فإنّه المسمّى بصاحب الراي يجتهد في مقابل النص ، ويستحسن في دين الله ويعمل به حتى أوقعه رأيه الواهي في أن قال : لو عقد رجل في بلاد الهند على امرأة كانت في الروم عقداً شرعياً ، ثم أتاها بعد سنين فوجدها حاملا وبين يديها صبيان يمشون ويقول لها : ما هؤلاء ؟ وتقول له : أولادك فيرافعها في ذلك إلى القاضي الحنفي فيحكم أن الأولاد من صلبه ويلحقونه ظاهراً وباطناً ، يرثهم ويرثونه ، فيقول ذلك الرجل : وكيف هذا ولم أقر بها قطّ ؟ فيقول القاضي : يحتمل أنك أجنبت أو أن تكون أمنيت فطار منيك في قطعة فوقعت في فرج هذه المرأة(1) ، هل هذا يا حنفي مطابق للكتاب والسنة ؟

قال الحنفي : نعم إنّما يلحق به لأنها فراشه والفراش يلحق ويلتحق بالعقد ولا يشترط فيه الوطي، وقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» فمنع

ص: 317


1- انظر : الفقه على المذاهب الأربعة ج 5 ص 120

الشافعي أن يصير فراشاً بدون الوطي، وغلب الشافعي الحنفي بالحجة.

ثم قال الشافعي : وقال أبو حنيفة : لو أنّ امرأة زُفّت إلى زوجها فعشقها رجل فادعى عند قاضي الحنفيّة أنه عقد عليها قبل الرجل الذي زُفّت إليه ، وأرشى المدعي فاسقين حتى شهدا له كذباً ،بدعواه ، فحكم القاضي له تحرم على زوجها الأول ظاهراً وباطناً وتثبت زوجيّة تلك المرأة للثاني وأنها تحلّ عليه ظاهراً وباطناً ، وتحل منها على الشهود الذين تعمدوا الكذب في الشهادة (1) ! فانظروا أيها الناس هل هذا مذهب من عرف قواعد الإسلام ؟ قال الحنفي : لا اعتراض لك ، عندنا أن حكم القاضي ينفذ ظاهراً وباطناً وهذا متفرع عليه ، فخصمه الشافعي ومنع أن ينفذ حكم القاضي ظاهراً وباطناً بقوله تعالى «وَأَنِ احْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ »(2) ولم ينزل الله ذلك.

ثم قال الشافعي : وقال أبو حنيفة : لو أن امرأة غاب عنها زوجها فانقطع خبره ، فجاء رجل فقال لها : إن زوجك قد مات فاعتدي ، فاعتدت ، ثم بعد العدة عقد عليها آخر ودخل عليها ، وجاءت منه بالأولاد ، ثم غاب الرجل الثاني وظهرت حياة الرجل الأول وحضر عندها فإن جميع أولاد الرجل الثاني أولاد للرجل الأول يرثهم ويرثونه(3).

ص: 318


1- انظر : الأم للشافعي ج 5 ص 22 - 25
2- سورة المائدة : الآية 49
3- الفقه على المذهب الأربعة ج 5 ص 119

فيا أولي العقول ، هل يذهب إلى هذا القول من له دراية وفطنة ؟

فقال الحنفي : إنّما أخذ أبو حنيفة هذا من قول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) : «الولد للفراش وللعاهر الحجر » فاحتج عليه الشافعي بكون الفراش مشروطاً بالدخول ، فغلبه .

ثمّ قال الشافعي : وإمامك أبو حنيفة قال : أيما رجل رأى امرأة مسلمة فادعى القاضي بأن زوجها طلقها ، وجاء بشاهدين ، شهدا له كذباً فحكم القاضي بطلاقها ، حرمت على زوجها ، وجاز للمدعي نكاحها وللشهود أيضاً(1) ، وزعم أن حكم القاضي ينفذ ظاهراً وباطناً .

ثم قال الشافعي : وقال إمامك أبو حنيفة : إذا شهد أربعة رجال على رجل بالزنا ، فإن صدقهم سقط عنه الحد ، وإن كذبهم لزمه ، وثبت الحد (2) فاعتبروا يا أولي الأبصار .

ثم قال الشافعي : وقال أبو حنيفة : لو لاط رجل بصبي وأوقبه فلا ح--د عل-ي-ه بل يعزر (3) .

ص: 319


1- ومثله أيضاً ، كما قال في ج13 من تاريخ بغداد ص 373 قال الحارث بن عمير : وسمعته يقول ( يعني أبو حنيفة : لو أنّ شاهدين شهدا عند قاض ، أنَّ فلان بن فلان طلق امرأته ، وعلموا جميعاً أنّهما شهدا بالزور ففرق القاضي بينهما ، ثم لقيها أحد الشاهدين فله أن يتزوج بها
2- الفقه على المذاهب الأربعة ج 5 ص 129 . كتاب الاربعين ، الشيرازي ص 647
3- لفظه : لاحد في الواط ولكن يوجب التعزير حسب ما رآه الفقه على المذاهب الأربعة جه ص 141 . كتاب الاربعين ، الشيرازي ص647

وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) «من عمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول» (1) . وقال أبو حنيفة : لو غصب أحد حنطة فطحنها ملكها بطحنها ، فلو أراد أن يأخذ صاحب الحنطة طحينها ويعطي الغاصب الأجرة لم يجب على الغاصب إجابته وله منعه ، فإن قتل صاحب الحنطة كان دمه هدراً ، ولو قتل الغاصب قتل صاحب الحنطة به(2).

وقال أبو حنيفة : لو سرق سارق ألف دينار وسرق ألفاً آخر من آخر ومزجها ملك الجميع ولزمه البدل .

وقال أبو حنيفة : لو قتل المسلم التقي العالم كافراً جاهلاً قتل المسلم به والله يقول : « وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا »(3) الفقه على المذاهب الأربعة ج 5 ص 123 ، كتاب الأربعين الشيرازي ص 647 (4)الفقه على المذاهب الاربعة ج 5 ص 124 . الايضاح لابن شاذان ص 298 الفصول المختاره ص 161


1- المستدرك للحاكم ج 4 ص 355 ، كنز العمال ج 5 ص 340 ح 13129
2- الفتاوى الخيرية ج 2 ص 150
3- سورة النساء : الآية 141 §ً. وقال أبو حنيفة : لو اشترى أحد أمه أو أخته ونكحهما لم يكن عليه حد وإن علم وتعمد
4- . قال أبو حنيفة : لو عقد أحد على أمّه أو أخته عالماً بها أنها أمه أو أخته ودخل بها لم يكن عليه حد لأن العقد شبهة

وقال أبو حنيفة : لو نام جنب على طرف حوض من نبيذ فانقلب في نومه،ووقع في الحوض ارتفعت جنابته وطهر(1).

وقال أبو حنيفة : لا تجب النيّة في الوضوء (2) ، ولا في الغسل (3) ، وفي الصحيح : «إنما الأعمال بالنيات» (4) .

وقال أبو حنيفة : لا تجب البسملة في الفاتحة(5) وأخرجها منها مع أنّ الخلفاء كتبوها في المصاحف بعد تحرير القرآن .

وقال أبو حنيفة : لو سلخ جلد الكلب الميت ودبغ طهر وإن له الشراب فيه ولبسه في الصلاة (6) ، وهذا مخالف للنص بتنجيس العين المقتضي لتحريم الانتفاع به .

ثم قال : يا حنفي، يجوز في مذهبك للمسلم إذا أراد الصلاة أن يتوضأ بنبيذ ، ويبدأ بغسل رجليه ، ويختم بيديه(7) ، ويلبس جلد كلب ميت

ص: 321


1- قال القمي الشيرازي: وفي كتاب مطارع الانوار: انه اجاز الوضوء بالنبيذ للصلاة - كتاب الاربعين : كنز العمال : فرجموا ص 647
2- الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 63
3- الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 117
4- مسند أحمد ج 1 ص 25 ، حلية الأولياء ج 6 ص 342 ، السنن الكبرى للبيهقي ج 1 ص 41
5- الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 242
6- الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 26 . من فقه الجنس ص 210
7- الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 68 ، الفقه على المذاهب الخمسة ص 37 . كتاب الاربعين ص 647

مدبوغ (1)، ويسجد على عذرة يابسة ، ويكبر بالهندية ، ويقرأ فاتحة الكتاب بالعبرانية (2) ،ويقول بعد الفاتحة : دو برگ سبز - يعني : دو برگ سبز - يعني مدهامتان - ثم يركع ولا يرفع رأسه ، ثم يسجد ويفصل بين السجدتين بمثل حد السيف وقبل السلام يتعمّد خروج الريح ، فإن صلاته صحيحة ، وإن أخرج الريح ناسياً بطلت صلاته (3).

ثم قال : نعم يجوز هذا ، فاعتبروا يا أولي الأبصار ، هل يجوز التعبد بمثل هذه العبادة ؟ أم يجوز لنبي أن يأمر أمته بمثل هذه العبادة افتراء على الله ورسوله ؟

فأفحم الحنفي وامتلأ غيظاً وقال : يا شافعى أقصر فض الله فاك ، وأين أنت من الأخذ على أبي حنيفة وأين مذهبك من مذهبه ؟ فإنما مذهبك بمذهب المجوس أليق لأنّ في مذهبك يجوز للرجل أن ينكح ابنته من الزنا وأخته (4) ، ويجوز أن يجمع بين الأختين من الزنا ، ويجوز أن ينكح أمه من الزنا ، وكذا عمته وخالته من الزنا (5) ،

ص: 322


1- الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 26
2- الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 230
3- الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 307 . كتاب الاربعين ، القمي ص 647 وفيات الاعيان : 185 و 181
4- انظر الفقه على المذاهب الأربعة ج 5 ص 134 .كتاب الاربعين ، الشيرازي ص 650 من فقه الجنس ص 211 ، الفصول المختارة للمفيد : ص 162 ، المجموع النووي : ج 16 ص 221
5- انظر الفقه على المذاهب الأربعة ج 5 ص 134 . كتاب الاربعين ، الشيرازي ص 650 من فقه الجنس ص 211

والله يقول : «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ»(1)وهذه صفات حقيقية لا تتغير بتغير الشرائع والأديان ، ولا تظن يا شافعي يا أحمق أن منعهم من التوريث يخرجهم من هذه الصفات الذاتية الحقيقية ولذا تضاف إليه ، فيقال : بنته وأخته من الزنا ، وليس هذا التقييد موجباً لمجازيته كما في قولنا أخته من النسب بل لتفصيلة ، وإنما التحريم شامل للذي يصدق عليه الألفاظ حقيقة ومجازاً اجتماعاً ، فإن الجدة داخلة تحت الأم إجماعاً ، وكذا بنت البنت ، ولا خلاف في تحريمها بهذه الآية ، فانظروا يا أولي الألباب هل هذا إلا مذهب المجوسي ، يا خارجي .

يا شافعي ، إمامك أباح للناس لعب الشطرنج (2) مع أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : «لا يحب الشطرنج إلا عابد وثن».

يا شافعي ، إمامك أباح للناس الرقص والدف والقصب(3) ، فقبح الله مذهبك ، ينكح فيه الرجل أمه وأخته ويلعب بالشطرنج ويرقص ، ويدف، فهل هذا إلا ظاهر الافتراء على الله ورسوله ، وهل يلتزم بهذا المذهب إلا أعمى القلب وأعمى عن الحق .

قال يوحنا : وطال بينهما الجدال واحتمى الحنبلي للشافعي ، واحتمى المالكي للحنفي ،ووقع النزاع بين المالكي والحنبلي ، وكان فيما وقع بينهما أن الحنبلي

ص: 323


1- سورة النساء : الآية 23
2- انظر : الأم للشافعي : ج 6 ص 208 ، الفقه الإسلامي وأدلته : ج 5 ص 566 ، كتاب الأربعين : ص 650 ، من فقه الجنس ، الوائلي ص 211
3- الفقه الإسلامي وأدلته ج 7ص128، كتاب الأربعين الشيرازي ص 650

قال : إن مالكاً أبدع في الدين بدعاً أهلك الله عليها أمماً بدعاً أهلك الله عليها أمماً وهو أباحها ، وهو لواط الغلام ، لواط المملوك وقد صح أن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) قال : «من لاط بغ--لام فاقتلوا الفاعل والمفعول »(1) .

وأنا رأيت أن مالكيّاً ادعى عند القاضي على آخر أنه باعه مملوكاً والمملوك لا يمكنه من وطئه ، فأثبت القاضي أنه عيب في الممل-وك ويجوز له ردّه(2) ، أفلا تستحي من الله يا مالكي يكون لك مذهب مثل هذا وأنت تقول مذهبي خير من مذهبك ؟! وإمامك أباح لحم الكلاب (3) فقبح الله مذهبك واعتقادك.

فرجع المالكي عليه وصاح به : اسکت یا مجسّم یا حلولي، يا حولي، يا فاسق ، بل مذهبك أولى بالقبح ، وأحرى بالتنفير ، إذ عند إمامك أحمد بن حنبل أنّ الله جسم يجلس على العرش ، ويفصل عنه العرش بأربع أصابع ، وأنه ينزل كل ليلة جمعة من سماء الدنيا على سطوح المساجد في صورة أمرد ، قطط الشعر له نعلان شراكهما من اللؤلؤ الرطب ، راكباً على حمار له ذوائب (4).

ص: 324


1- كتاب الاربعين القمى الشيرازي ص 652 عن كتاب مطالع الانوار ، الفقه على المذاهب الأربعة ج 5 ص 140
2- ونسب الى أبي حنيفة كتاب الاربعين ، القمي الشيرازي ص 652 عن كتاب مط-الغ الأنوار
3- من فقه الجنس : ص 210
4- الامام الصادق والمذاهب الأربعة ج 2 ص 509 ، وممن روى انه تعالى ينزل الى سماء الدنيا 509 (تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً) البخاري في التهج بالليل ، مسند احمد بن حنبل : ج 1 ص 120 و 446 ، الترمذي : ج 1 ص 142

قال يوحنّا : فوقع بين الحنبلي والمالكي والشافعي والحنفي النزاع ، فعلت أصواتهم وأظهروا قبائحهم ومعايبهم حتى ساء كل من حضر كلامه-م ال-ذي ب-دا منهم ، وعاب العامة عليهم.

فقلت لهم : على رسلكم ، فوالله قسماً إنِّي نفرت من اعتقاداتكم ، فإن كان الإسلام هذا فياويلاه ، واسوأتاه ، لكنّي أقسم عليكم بالله الذي لا إله إلا هو أن تقطعوا هذا البحث وتذهبوا فإن العوام قد أنكروا عليكم.

قال يوحنّا : فقاموا وتفرقوا وسكتوا أسبوعاً لا يخرجون من بيوتهم ، فإذا خرجوا أنكر الناس عليهم ، ثم بعد أيام اصطلحوا واجتمعوا في المستنصرية فجلست غداة إليهم وفاوضتهم فكان فيما جرى أن قلت لهم : كنت أريد عالماً من علماء الرافضة نناظره في مذهبه ، فهل عليكم أن تأتونا بواحد منهم فنبح-ث معه ؟

فقال العلماء : يا يوحنّا ، الرافضة فرقة قليلة لا يستطيعون أن يتظاهروا بين المسلمين لقلّتهم ، وكثرة مخالفيهم ، ولا يتظاهرون فضلاً أن يستطيعوا المحاجة عندنا على مذهبهم ، فهم الأرذلون الأقلّون ومخالفوهم الأكثرون ، فقال يوحنا : فهذا مدح لهم لأن الله سبحانه وتعالى مدح القليل ، وذم الكثير بقوله :«وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ » (1) « وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ » (2)«وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي

ص: 325


1- سورة سبأ : الآية 13
2- سورة هود : الآية 40

الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ»(1)«وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ »(2)«وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ»(3)« وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ »(4)« وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ» (5)إلى غير ذلك من الآيات .

قال العلماء : يا يوحنا حالهم أعظم من أن يوصف ، لأننا لو علمنا بأحد منهم فلا نزال نتربص به حتى نقتله ، لأنهم عندنا كفرة تحل علينا دماؤهم ، وفي علمائنا من يفتي بحل أموالهم ونسائهم .

قال يوحنا : الله أكبر هذا أمر عظيم ، أترى بما استحقوا هذا فهل هم ينكرون الشهادتين ؟

قالوا : لا

قال : أفهم لا يتوجهون إلى قبلة الإسلام ؟

قالوا : لا

قال : إنّهم ينكرون الصلاة أم الصيام أن الحج أم الزكاة أم الجهاد ؟

قالوا : لا ، بل هم يصلّون ويصومون ويزكّون ويحجون ويجاهدون .

قال : إنّهم ينكرون الحشر والنشر والصراط والميزان والشفاعة ؟

ص: 326


1- سورة الأنعام : الآية 16
2- سورة الأعراف : الآية 17
3- سورة البقرة : الآية 343
4- سورة الأنعام : الآية 37
5- سورة الرعد : الآية 1

قالوا : لا ، بل مقرون بذلك بأبلغ وجه.

قال : أفهم يبيحون الزنا واللواط وشرب الخمر والربا والمزامر وأنواع الملاهي ؟

قالوا : بل يجتنبون عنها ويحرمونها .

قال يوحنّا : فيالله والعجب قوم يشهدون الشهادتين ، ويصلّون إلى القبلة ، ويصومون شهر رمضان ، ويحبّون البيت الحرام، ويقولون بالحشر والنشر وتفاصيل الحساب ، كيف تباح أموالهم ودماؤهم ونساؤهم ونبيكم يقول : «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم ونساءهم إلا بحق وحسابهم على الله » (1) .

قال العلماء : يا يوحنا إنّهم في الدين بدعاً فمنها : أنهم يدعون أن علياً - ( علیه السلام ) - أفضل الناس بعد رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) ويفضلونه على الخلفاء الثلاثة، والصدر الأول أجمعوا على أنّ أفضل الخلفاء كبير تيم .

قال يوحنا : أفترى إذا قال أحد : إن عليّاً يكون خيراً من أبي بكر وأفضل منه تكفرونه ؟

قالوا : نعم لإنه خالف الإجماع .

قال يوحنا : فما تقولون في محدّثكم الحافظ أبي بكر أحمد بن موسی بن مردویه؟

قال العلماء : هو ثقة مقبول الرواية صحيح المثل .

ص: 327


1- صحيح مسلم ج 1 ، ص 51 - 53

قال يوحنّا : هذا كتابه المسمّى بكتاب المناقب روى فيه أن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم )قال : «على خير البشر ، ومن أبى فقد كفر » .

وفي كتابه أيضاً سأل حذيفة عن علياً(علیه السلام) قال : «أنا خير هذه الأمة بعد نبيّها ، ولا يشك في ذلك إلا منافق».

وفي كتابه أيضاً عن سلمان ، عن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم ) قال : علي بن أبيطالب خير من أخلّفه بعدي».

وفي كتابه أيضاً عن أنس بن مالك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : «أخي ووزيري وخير من أخلّفه بعدي علي بن أبي طالب».

وعن إمامكم أحمد بن حنبل روى في مسنده أن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم ) قال لفاطمة : «أما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلماً ، وأكثرهم علماً ، وأعظمهم حلماً»(1).

وروي في مسند أحمد بن حنبل أيضاً أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال :«اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك» (2) فجاء علي بن أبي طالب في حديث الطائر ، وذك-ر ه-ذا الحديث النسائي والترمذي في صحيحهما (3) وهما من علمائكم .

ص: 328


1- مسند أحمد ج 5 ص 25 ، المعجم الكبير للطبراني ج 20 ص 229 – 230 538 ، مجمع الزوائد ج 9، ص 102 ، كنز العمال ج 11 ص 605 ح 32924
2- المعجم الكبير للطبراني ج 1 ص 226 ح 730 ، تاريخ بغداد ج 9، ص 369 ، كنز العمال ج 13 ص 167 ح 36507 ، وقد أفردت لهذا الحديث كتب مستقلة ، مثل : قصة الطير للحاكم النيسابوري المتوفي سنة 405 ه- ، وقد تقدم بعض المصادر لهذا الحديث فراجع
3- صحيح الترمذي ج 5 ص 595 ح 3721 ، مجمع الزوائد ج 9 ص 126 ، المستدرك ج 3 ص 130 - 131 ، مشكاة المصابيح للخطيب التبريزي ج 3 ص 1721 ح 6085 ، خصائص أمير المؤمنين ص 34 ح

وروى أخطب خوارزم في كتاب المناقب وهو من علمائكم عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «يا على أخصمك بالنبوة ولا نبوة بعدي ، وتخصم الناس بسبع فلا يحاجك أحد من قريش . أنت أولهم إيماناً بالله وأوفاهم بأمر الله وبعهده ، وأقسمهم بالسوية ، وأعدلهم بالرعية وأبصرهم بالقضيّة ، وأعظمهم يوم القيامة عند الله عزوجل في المزية» (1) :

وقال صاحب كفاية الطالب من علمائكم : هذا حديث حسن عال ورواه الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء (2) .

قال يوحنا : فيا أئمة الإسلام فهذه أحاديث صحاح روتها أئمتكم وهي مصرحة بأفضلية علي وخيرته على جميع الناس ، فما ذنب الرافضة ؟ وإنما الذنب لعلمائكم والذين يروون ما ليس بحق ، ويفترون الكذب على الله ورسوله .

قالوا : يا يوحنّا ، إنّهم لم يرووا غير الحق ولم يفتروا بل الأحاديث له-ا تأويلات ومعارضات .

قال يوحنّا : فأي تأويل تقبل هذه الأحاديث بالتخصيص على البشر ، فإنّه

ص: 329


1- مناقب الخوارزمي ص 110 ح 18 ، فرائد السمطين ج 1 ص 223 ح 174
2- كفاية الطالب 270 ، حلية الأولياء ج 1 ص 65 - 66

نص في أنّه خير من أبي بكر إلا أن تخرجوا أبا بكر من البشر . سلّمنا أن الأحاديث لاتدل على ذلك فأخبروني أيهما أكثر جهاداً ؟

فقالوا : علي .

قال يوحنا : قال الله تعالى : «وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا » (1) وهذا نص صريح .

قالوا : أبوبكر أيضاً مجاهد فلا يلزم تفضيله عليه.

قال يوحنا : الجهاد الأقل إذا نسب إلى الجهاد الأكثر بالنسبة إليه قعود ، وهب أنه كذلك فما مرادكم بالأفضل ؟

قالوا : الذي تجتمع فيه الكمالات والفضائل الجبلية والكسبية كشرف الأصل والعلم والزهد والشجاعة والكرم وما يتفرّع عليها.

قال يوحنا : هذه الفضائل كلها لعلى (علیه السلام) بوجه هو أبلغ من حصولها لغيره.

قال يوحنا : أما شرف الأصل فهو ابن عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وزوج ابنته ، وأب--و سبطيه، وأمّا العلم فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «أنا مدينة العلم وعلي بابها »(2) وقد تقرر في

ص: 330


1- سورة النساء : الآية 95
2- راجع : ابن جرير الطبري في مسند علي من تهذيب الآثار ص 105 ح 173 ، المستدرك ج 3 ص 126 ، مجمع الزوائد ج 9 ص 114 ، المعجم الكبير للطبراني ج 11 ص 65 - 66 ، ح 11061 ، تاريخ بغداد ج 4 ص 348 ، كنز العمال ج 11 ص 614 ح 32977 و 32078، ذخائر العقبى ص 83 ، وقد أفردت لهذا الحديث كتب مستقلة ، مثل فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي ، للمغربي

العقل أن أحداً لا يستفيد من المدينة شيئاً إلا إذا أخذ من الباب ، فانحصر طريق الاستفادة من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في علي (علیه السلام ) وهذه مرتبة عالية ، وقال(صلى الله عليه وآله وسلم) «أقضاكم علي» (1) وإليه تُعزى كل قضيّة ، وتنتهي كل فرقة ، وتنحاز إلي-ه ك-ل طائفة ، فهو رئيس الفضائل وينبوعها ، وأبو عذرها ، وسابق مضمارها ، ومجلّي حيلتها ، كل من برع فيها فمنه أخذ ، وبه اقتفى ، وعلى مثاله ،احتذى، وقد عرفتم أن أشرف العلوم العلم الإلهي ، ومن کلامه اقتبس وعنه نقل ومنه ابتدأ.

فإن المعتزلة الذين هم أهل النظر ومنهم تعلم الناس هذا الفنّ هم تلامذته ، فإنّ كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبدالله بن محمد ابن الحنفيّة (2) ، وأبو هاشم عبدالله تلميذ أبيه ، وأبوه تلميذ علي بن أبي طالب (علیه السلام) .

وأمّا الأشعريون فإنّهم ينتهون إلى أبي الحسن الأشعري وه-و تلميذ أبي على الجبائي ، وهو تلميذ واصل بن عطاء (3) .

وأمّا الإمامية والزيدية فانتهاؤهم إليه ظاهر .

وأمّا علم الفقه فهو أصله وأساسه ، وكلّ فقيه في الإسلام فإليه يعزي نفسه.

أمّا مالك فأخذ الفقه عن ربيعة الرأي، وهو أخذه عن عكرمة ، وهو أخذه

ص: 331


1- طبقات ابن سعد ج 2 ص 135 ، ذخائر العقبى ص 83 ، مناقب الخوارزمي ص 81 ح 66 ، مسند أحمد ج 5 ص 113
2- هو عبد الله بن محمد بن الحنفية الملقب بالأكبر ، والمكنى بأبي هاشم ، إمام الكيسانية مات سنة 98 أو 99 . تنقيح المقال للمامقاني ج 2 ص 212
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 17

عن عبدالله ، وهو أخذه عن علي .

وأمّا أبو حنيفة فعن الصادق (علیه السلام) .

وأمّا الشافعي فهو تلميذ مالك ، والحنبلي تلميذ الشافعي(1) ، وأما فقهاء الشيعة فرجوعهم إليه ظاهر ، وأمّا فقهاء الصحابة فرجوعهم إلي-ه ظ-اهر كابن عبّاس وغيرهم ، وناهيكم قول عمر غير مرة : «لا يفتين أحد في المسجد وعلي حاضر» وقوله : «لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن»(2) ، وقوله : «لولا علي لهلك عمر» (3) .

وقال الترمذي في صحيحه والبغوي عن أبي بكر قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)« من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في فهمه ، وإلى يحيى بن زكريا في

زهده ، وإلى موسى بن عمران في بطشه فلينظر إلى على بن أبي طالب» (4) .

وقال البيهقي بإسناده إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : «من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في تقواه ، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى موسى في هيبته ، وإلى

ص: 332


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 17 - 18
2- مناقب الخوارزمي ص 96 - 97 ح 97 و 98 ، فرائد السمطين ج 1 ص 344 - 345 ح 266 و 267
3- فيض القدير ج 4 ص 357 ، فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 2 ص 309 ، علي إمام المتقين لعبد الرحمن الشرقاوي ج 1 ص 100 – 101 ، مناقب ابن شهر آشوب ج 2 ص 361
4- البداية والنهاية ج 7 ص 356 ، كفاية الطالب ص 121

عيسى في عبادته ، فلينظر إلى علي بن أبي طالب»(1) وهو الذي بيّن حد الشرب (2) ، وهو الذي أفتى في المرأة التي وضعت لستة أشهر (3)وبقسمة الدراهم على صاحب الأرغفة (4) والآمر بشق الولد نصفين (5) ، والآ. بضرب عنق العبد ، والحاكم في ذي الرأسين (6) ومبين أحكام البغاة (7) ، وهو الذي أفتى في الحامل الزانية(8) .

ص: 333


1- كنز العمال ص 226 ، الرياض النضرة ج 2 ص 218 ، كفاية الطالب ص 122 ، الغدير ج 3 ص 353
2- الموطأ لمالك ج 2 ص 842 ح 2 ، المستدرك ج 4 ص 375 ، فضائل الخمسة ج 2 ص 300
3- الاستيعاب ج 3 ص 1103 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 19 ، وذكر القرطبي في تفسيره ج 16 ص 390 ، عند الكلام على تفسير قوله تعالى : (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) سورة الاحقاف : الآية 15 ، أن عثمان قد أتي بامرأة ولدت لستة أشهر ، فأراد أن يقضي عليها الحد فقال له علي (عليه السلام) ليس ذلك عليها ، قال الله تعالى ( وحمله وفصاله ثلاثون شهراً)
4- الاستيعاب ج 3 ص 1105 - 1106 ، فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 2 ص 302 ، ذخائر العقبى ص 84 ، الصواعق المحرقه ص 77
5- مناقب ابن شهر آشوب ج 2 ص 367 ، الفصول المائة ج 5 ص 366 ح 15 ، كنز العمال ج 3 ص 379 ، بحار الأنوار ج 40 ص 252 ، الغدير ج 6 ص 174
6- کنز العمال ج 3 ص 179 ، بحار الأنوار ج 40 ص 257
7- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 9، ص 231 ، كتاب الأم ج 4 ص 233 ، باب الخلافة في قتال أهل البغي ، وقد قال الشافعي : عرفنا حكم البغاة من علي (عليه السلام)
8- قد روي أنه أتى عمر بن الخطاب بامرأة حامل قد اعترفت بالفجور فأمر برجمها فلقيها علي فقال : ما بال هذه ؟ فقالوا : أمر عمر برجمها ، فردعا علي ( عليه السلام) وقال : هذا سلطانك عليها فما سلطانك على ما في بطنها ؟ ولعلك انتهرتها ، أو أخفتها ، قال : قد كان ذلك ، قال : أو ما سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله قال : لا حدّ على معترف بعدبلاء أنه من قيد أو حبس أو تهدد فلا إقرار له ، فخلى سبيلها ثم قال : عجزت النساء أن تلدن مثل علي بن أبي طالب ، لولا علي لهلك عمر . راجع : الرياض النضرة ج 3 ص 163 ، ذخائر العقبى ص 81 ، مطالب السؤول ص 13 ، مناقب الخوارزمي ص 48 ، الأربعين للفخر الرازي ص 466 ، الغدير ج 6 ص 110

ومن العلوم علم التفسير ، وقد علم الناس حال ابن عبّاس فيه وكان تلميذ علي (علیه السلام) وسئل فقيل له : أين علمك من علم ابن عمّك ؟

فقال : كبشة مطر في البحر المحيط (1).

ومن العلوم علم الطريقة والحقيقة ، وعلم التصوف ، وقد علمتم أنّ أرباب هذا الفنّ في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون ، وعنده يقفون ، وقد صرح بذلك الشبلي والحنبلي وسري السقطي وأبو زيد البسطامي وأبو محفوظ معروف الكرخي وغيرهم، ويكفيكم دلالة على ذلك الخرقة التي هي شعارهم وكونهم يسندونها بإسناد معنعن إليه أنه واضعها (2) .

ومن العلوم علم النحو والعربية ، وقد علم الناس كافة أنه هو الذي ابتدعه وأنشأه ، وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامع تكاد تلحق بالمعجزات ، لأن القوة البشرية لا تفي بمثل هذا الاستنباط.

فأين من هو بهذه الصفة من رجل يسألونه ما معنى (أبًا) فيقول : لا أقول في كتاب الله برأيي ، ويقضي في ميراث الجد بمائة قضية يغاير بعضها بعضاً ، ويقول :

ص: 334


1- نهج الحق وكشف الصدق ص 238 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 19
2- نهج الحق وكشف الصدق ص 228 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 19

إن زغت فقوموني وإن استقمت فاتبعوني(1) . وهل يقيس عاقل مثل هذا إلى من قال : سلوني قبل أن تفقدوني(2) ، سلوني عن طرق السماء فوالله إني لأعلم بها من طرق الأرض؟ وقال : إن هاهنا لعلماً جماً ، وضرب بيده على صدره ، وقال : لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً فقد ظهر أنه أعلم(3).

وأمّا الزهد فإنه سيّد الزهّاد ، وبدل الأبدال ، وإليه تُشدّ الرحال ، وتنقص الأحلاس ، وماشبع من طعام قط ، وكان أخشن الناس لبساً ومأكلاً .

قال عبدالله بن أبي رافع : دخلت على علي (ة) يوم عيد فقدم جراباً مختوم--اً فوجد فيه خبز شعير يابساً مرضوضاً فتقدم فأكل .

فقلت : يا أمير المؤمنين فكيف تختمه وإنما هو خبز شعير ؟

فقال : خفت هذين الولدين يلتانه بزيت أو سمن(4) . وكان ثوبه مرقوعاً بجلد تارة وبليف أخرى ، ونعلاه من ليف ، وكان يلبس الكرباس الغليظ فإن وجد كم--ه طويلاً قطعه بشفرة ولم يخيطه ، وكان لا يزال ساقطاً على ذراعيه حتى يبقى سدى بلا لحمة ، وكان يأتدم إذا ائتدم بالخل والملح فإن ترقى عن ذلك فبعض نبات الأرض ، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الإبل ، ولا يأكل اللحم إلا قليلاً

ص: 335


1- تقدمت تخريجاته
2- تقدمت تخريجاته
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 7 ص 253 ، وقد تقدمت تخريجاته فيما سبق
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 7 ص 253 ، وقد تقدمت تخريجاته فيما سبق

ويقول : لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوانات ، وكان مع ذلك أشد الناس قوة ، وأعظمهم يداً (1) .

وأمّا العبادة فمنه تعلّم الناس صلاة الليل ، وملازمة الأوراد ، وقيام النافلة وما ظنّك برجل كانت جبهته كثفنة البعير ، ومن محافظته على ورده أن بسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير فيصلّي عليه والسهام تقع عليه وتمرّ على صماخيه يميناً وشمالاً فلا يرتاع لذلك ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته.

فأنت إذا تأملت دعواته ومناجاته ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وتعالى وإجلاله وما تضمنته من الخضوع لهيبته والخشوع لعزته عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص .

وكان زين العابدين (علیه السلام) يصلّي في كل ليلة ألف ركعة ويقول : أنى لي بعبادة علي (علیه السلام)(2)

وأمّا الشجاعة فهو ابن حلاها وطلاع ثناياها ، أنسى الناس فيها ذكر من قبله ومحى اسم من يأتي بعده ، ومقاماته في الحروب مشهورة تُضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة ، وهو الشجاع الذي ما فرَّقط ولا ارتاع من كتيبة ولا بارز أحداً إلا قتله ، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت إلى ثانية.

ص: 336


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 26
2- الإرشاد للمفيد ص 256 ، إعلام الورى ص 255 ، بحار الأنوار ج 46 ص 74 ح 62

وجاء في الحديث إذا ضرب واعتلا قد ، وإذا ضرب واعترض قط ، وفي الحديث : كانت ضرباته وتراً (1) ، وكان المشركون إذا أبصروه في الحرب عهد بعضهم إلى بعض ، وبسيفه شيّدت مباني الدين، وثبتت دعائمه ، وتعجبت الملائكة من شدة ضرباته وحملاته.

وفي غزوة بدر الداهية العظمى على المسلمين قتل فيها صنادید قریش کالولید بن عتبة والعاص بن سعيد ونوفل بن خويلد الذي قرن أبابكر وطلحة قبل الهجرة وعذبهما ، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه»(2) ولم يزل في ذلك يصرع صنديداً بعد صنديد حتى قتل نصف المقتولين فكان سبعين ، وقتل المسلمون كافّة مع ثلاثة آلاف من الملائكة مسومين النصف الآخر(3) ، وفيهنادى جبرائيل :

«لا س--يف إلا ذو الفقار *ولا فت-ى إلا عل-ی»(4).

ص: 337


1- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج 1 ص 20
2- المغازي للواقدي ج 1 ص 92
3- المغازي ج 1 ص 147 - 152 ، الإرشاد للشيخ للمفيد ص 41 - 43 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 24
4- مناقب الخوارزمي ص 167 ح 200 ، مناقب ابن المغازلي ص 198 - 199 ح 235 ، كفاية الطالب ص 277 ، الطبري ج 2 ص 197 ، ابن هشام في السيرة ج 3 ص 52 ، سنن البيهقي ج 2 ص 276 ، المستدرك ج 2 ص 385 ، الرياض النضرة ج 3 ص 155 ، ذخائر العقبى ص 74 ، ميزان الاعتدال ج 2 ص 317 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 29

ويوم أحد لما انهزم المسلمون عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورمي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الأرض وضربه المشركون بالسيوف والرماح و علي (علیه السلام) مصلت سيفه قدامه ، ونظر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد إفاقته من غشوته فقال : يا علي ما فعل المسلمون ؟

فقال : نقضوا العهود وولوا الدبر.

فقال : اكفني هؤلاء ، فكشفهم عنه ولم يزل يصادم كتيبة بعد كتيبة وهو ين-ادي المسلمين حتى تجمعوا ، وقال جبرئيل (علیه السلام ) : إن هذه هى المواساة ، لقد عجبت الملائكة من حسن مواساة علي لك بنفسه.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : وما يمنعه من ذلك وهو مني وأنا منه(1) . ولثبات علي(علیه السلام ) رجع بعض المسلمين ورجع عثمان بعد ثلاثة أيام ، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : لقد ذهبت بها عريضة (2).

وفي غزوة الخندق إذ أحدق المشركون بالمدينة كما قال الله تعالى : «إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا » (3) ، واقتحم عمرو بن عبدود الخندق على

ص: 338


1- ذخائر العقبى ص 68 ، فضائل الصحابة لأحمد ج 2 ص 594 ح 1010 ، مجمع الزوائد ج 6 ص 114 ، نهج الحق وكشف الصدق ص 249
2- تاريخ الطبري ج 2 ص 203 ، الكامل لابن الأثير ج 2 ص 110 ، السيرة الحلبية ج 2 ص 227 ، البداية والنهاية ج 4 ص 28 ، السيرة النبوية لابن كثير ج 3 ص 55 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 15 ص 21 ، الدر المنثور ج 2 ص 89
3- سورة الأحزاب : الآية 10

المسلمين ونادى بالبراز فأحجم عنه المسلمون وبرز علي (علیه السلام ) متعمّماً بعمامة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبيده سيف فضربه ضربة كانت توازن عمل الثقلين إلى يوم القيامة (1) ، وأين كان هناك أبو بكر وعمر وعثمان .

ومن نظر غزوات الواقدي وتاريخ البلاذري علم محله من رسول الله من الجهاد وبلاءه يوم الأحزاب ، ويوم بني المصطلق ، ويوم قلع باب خيبر ، وفي غزاة الخيبر ، وهذا باب لا يغني الإطناب فيه لشهرته.

وروى أبو بكر الأنباري في أماليه أن علياً (علیه السلام )جلس إلى عمر في المسجد وعنده أناس ، فلمّا قام عرض واحد بذكره ونسبه إلى التيه والعجب.

فقال عمر : لمثله أن يتيه ، لولا سيفه لما قام عمود الدين ، وه-و بع-د أقضى الأمة وذو سابقها ، وذو شأنها .

فقال له ذلك القائل : فما منعكم يا أمير المؤمنين منه ؟

فقال : ما كرهناه إلا على حداثة سنّه ، وحبّه لبني عبدالمطلب ، وحمله سورة براءة إلى مكة.

ولما دعا معاوية إلى البراز لتسريح الناس من الحرب بقتل أحدهما فقال ل-ه عمرو : قد أنصفك الرجل.

فقال له معاوية : ما غششتني في كل ما نصحتني إلا اليوم ، أتأمرني بمبارزة أبي

ص: 339


1- المغازي للواقدي ج 2 ص 470 - 471 ، وقد تقدم حديث قتل عمر بن ود

الحسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطوق ؟ أراك طمعت في إمارة الشام بعدي (1) .

وكانت العرب تفتخر لوقوعها في الحرب في مقابلته ، فأما قتلاه فافتخر رهطهم لأنه -(علیه السلام )- قتلهم وأقوالهم في ذلك أظهر وأكثر من أن تحصى وقالت أم كلثوم (2) في عمر بن عبدود ترثيه :

لو كان قاتل عمر و غير قاتله* بكيته أبداً ما عشت في الأبد

لكن قاتله من لا نظير له* قد كان يدعى أبوه بيضة البلد(3)

وجملة الأمر أن كل شجاع في الدنيا إليه ينتمي ، وباسمه من مشارق الأرض ومغاربها .

وأمّا كرمه وسخاؤه فهو الذي كان يطوي في صيامه حتى صام طاوياً ثلاثة أيام يؤثر السائل كل ليلة بطعامه حتى أنزل الله فيه : «هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ »(4)وتصدق بخاتمه في الركوع فنزلت الآية :«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ »(5)، وتصدق بأربعة دراهم

ص: 340


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 20 وج 8 ص 53
2- وهي أخته عمرة وكنيتها أم كلثوم
3- المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 33 ، الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 62 ، الإرشاد للمفيد ج 1 ص 108 ، لسان العرب لابن منظور ج7 ص 127
4- سورة الإنسان : الآية ، 1 تقدمت تخريجاته 1
5- سورة المائدة : الآية 55

فأنزل الله فيه الآية«الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً »(1). وتصدق بعشرة دراهم يوم النجوى(2) فخفّف الله سبحانه عن سائر الأمة بها.

وهو الذي كان يستسقى للنخل بيده ويتصدق بأجرته ، وفيه قال عدوه معاوية بن أبي سفيان لمحجن الضبي لما قال له : جئتك من عند أبخل الناس ، فقال :ويحك كيف قلت؟ تقول له أبخل الناس ولو ملك بيتاً من تبر وبيتاً من تبن لأنفق تبره قبل تبنه (3) ، وهو الذي يقول : يا صفراء ويا بيضاء غرّي غيري ، بي تعرّضت أم لي تشوقت ، هيهات هيهات قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها (4) ، وهو الذي جاد بنفسه ليلة الفراش وفدى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نزل في حقه«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ »(5).

قال يوحنّا : فلما سمعوا هذا الكلام لم ينكره أحد منهم ، وقالوا : صدقت إنّ هذا الذي قلت قرأناه من كتبنا ونقلناه عن أئمتنا لكن محبة الله ورسوله وعنايتهما أمر وراء هذا كله ،فعسى الله أن يكون له عناية بأبي بكر أكثر من على فيفضله عليه.

قال يوحنا : إنّا لا نعلم الغيب ، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى ، وهذا الذي

ص: 341


1- سورة البقرة : الآية 274
2- تقدمت تخريجاته
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 22
4- نهج البلاغة صبحي الصالح ص 480 - 481 ، قصار الحكم 77
5- سورة البقرة : الآية 207 ، تقدمت تخريجات نزولها

قلتموه تخرص ، وقال الله تعالى : «قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ » (1) ونحن إنما نحكم بالشواهد التي لعلي (علیه السلام) على أفضليته فذكرناها.

وأمّا عناية الله به فتحصل من هذه الكمالات دليل قاطع عليها ، فأي عناية خير من أن يجعله الله بعد نبيه أشرف الناس نسباً، وأعظمهم حلماً ، وأشجعهم قلباً ، وأكثرهم جهاداً وزهداً وعبادة وكرماً وورعاً ، وغير ذلك من الكمالاتالقديمة ، هذه هي العناية .

وأمّا محبة الله ورسوله فقد شهد بها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في مواضع ؛ منها : الموقف الذي لا ينكر وهو يوم خيبر ، إذ قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «لأعطين الراية غ--داً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله » (2) فأعطاها علياً .

ص: 342


1- سورة الذاريات : الآية 10
2- ترجمة الإمام علي بن أبيطالب من تاريخ دمشق لابن عساكر ج 1 ص 205 ص 269 وص 157 ح 219 - 231 ، سنن الترمذي ج 5 ص 596 ح 3724 ، فرائد السمطين ج 1 ص 259 ، مجمع الزوائد ج 1 ص 151 ، المستدرك للحاكم ج 3 ص 38 ، وص 437 ، عيون الأثر ج 2 ص 132 ،مسند أحمد بن حنبل ج 2 ص 384 ، صحيح مسلم ج 4 ص 1878 ح 33 - (2405) ، أنساب الأشراف للبلاذري ج 2 ص 93 ، خصائص النسائي ص 34 ح 11 ، مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص 181 ح 216 ، الطبقات لابن سعد ج 2 ص 110 ، ينابيع المودة ص 49 ، المعجم الصغير للطبراني ج 2 ص 100 ، مسند أبي داود الطيالسي ص 320 ، تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي ص 24 ، السنن الكبرى للبيهقي ج 9 ص 106 وص 131 ، حلية الأولياء ج 1 ص 62 ، أسنى المطالب للجزري ص 62 ،صحيح البخاري ج 5 ص 22 ، أسد الغابة ج 4 ص 21 ، البداية والنهاية ج 4 ص 182 ، تاريخ الطبري ج 3 ص 12 ، ذخائر العقبى ص 87 ، تاريخ الإسلام للذهبي ج 2 ص 194 ، العقد الفريد ج 2 ص 194 ، الكامل في التاريخ ج 2 ص 149 ، مروج الذهب ج 3 ص 14 ، إحقاق الحق ج 5 ص 400 ، فضائل الخمسة ج 2 ص 161

وروى عالمكم أخطب خوارزم في كتاب المناقب أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : «يا علي لو أن عبداً عبدالله عز وجل مثلما قام نوح في قومه ، وكان له مثل جبل أحد ذهباً فأنفقه في سبيل الله ، ومد في عمره حتى حجّ ألف حجة على قدميه ، ثم قتل ما بين الصفا والمروة مظلوماً ثم لم يوالك يا علي لم يشم رائحة الجنة ولم يدخلها» (1).

وفي الكتاب المذكور قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «لو اجتمع الناس على حب علي بن أبي طالب لم يخلق الله النار» (2) وفي كتاب الفردوس : حبّ علي حسنة لا تضر معها سيئة ، وبغضه سيئة لا تنفع معها حسنة(3).

وفي كتاب ابن خالويه عن حذيفة بن اليمان قال ، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : «من أراد أن يتصدق بفصه الياقوت التي خلق الله بيده ثم قال لها : كوني فكانت فليتول علي بن أبي طالب بعدي» .

وفي مسند أحمد بن حنبل في المجلد الأول : أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ بيد حسن وحسين وقال : «من أحبّني وأحب هذين وأحبّ أباهما كان معي في درجتي يوم

ص: 343


1- لسان الميزان ج 5 ص 219 ، ميزان الاعتدال ج 3 ص 597
2- مناقب الخوارزمي ص 67 ح 39 ، الفردوس ج 3 ص 373 ح 5135
3- الفردوس ج 2 ص 142 ح 2725 ، مناقب الخوارزمي ص 75 ص 56

القيامة » (1).

قال یوحنا : يا أئمة الإسلام هل بعد هذا كلام في قول الله تعالى ورسوله في محبّته وفي تفضيله على من هو عاطل عن هذه الفضائل ؟

قالت الأئمة : يا يوحنا ، الرافضة يزعمون أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أوصى بالخلافة إلى علي (علیه السلام) ونص عليه بها ، وعندنا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يوص إلى أحد بالخلافة.

قال يوحنا : هذا كتابكم فيه : «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ » (2).

وفي بخاريكم يقول : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) :«ما من حق امرىء مسلم أن يبيت إلا وصيته تحت رأسه» (3) أفتصدقون أن نبيّكم يأمر بما لا يفعل مع أن في كتابكم تقريعاً للذي يأمر بما لا يفعل من قوله«أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ »(4) فوالله إن كان نبيكم قد مات بغير وصيّة فقد خالف أمر ربه ، وناقض قول نفسه ، ولم يفتد بالأنبياء الماضية من إيصائهم إلى من يقوم بالأمر من بعدهم ، على أن الله تعالى يقول : «فبهداهم

ص: 344


1- مسند أحمد ج 1 ص 77 ، سنن الترمذي ج 5 ص 599 ح 3733 ، تاريخ بغداد ج 13 ص 288 ، كنز العمال ج 13 ص 639 ح 37613
2- سورة البقرة : الآية 180
3- صحيح البخاري ج 4 ص 2صحيح مسلم ج 3 ص 1249 ح 1 ، سنن ابن ماجة ج 2 ص 901 ح 2699
4- سورة البقرة : الآية 44

اقتده» (1)لكنه حاشاه من ذلك وإنما تقولون هذا لعدم علم منكم وعناد ، فإن إمامكم أحمد بن حنبل روى في مسنده أن سلمان قال : يا رسول الله فمن وصيك ؟

قال : يا سلمان من كان وصي أخي موسى (علیه السلام) .

قال : يوشع بن نون ! قال : فإن وصيّي ووارثي علي بن أبي طالب .

وفي كتاب ابن المغازلي الشافعي بإسناده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : لكل نبي وصي ووارث ، وأنا وصيّي ووارثي علي بن أبي طالب (2).

وهذا الإمام البغوي محيي سنة الدين ، وهو من أعاظم محدثيكم ومفسّريكم ، وقد روى في تفسيره المسمّى بمعالم التنزيل عند قوله تعالى : وأنذر عشيرتك الأقربين (3) عن على (علیه السلام ) أنه قال : لما نزلت هذه الآية أمرني رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن أجمع له بني عبدالمطلب فجمعتهم وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصون ، فقال لهم بعد أن أضافهم برجل شاة وعس من لبن شبعاً وريّا وإن كان أحدهم ليأكله ويشربه : يا بني عبد المطلب إنِّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني ربى أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني عليه ، ويكون أخي ووصتي وخليفتي من بعدي ؟ فلم يجبه أحد.

ص: 345


1- سورة الأنعام : الآية 90
2- مناقب ابن المغازلي ص 200 - 201 ح 238 ، ذخائر العقبى ص 71
3- سورة الشعراء : الآية 214

قال على : فقمت إليه ، وقلت : أنا أجيبك يا رسول الله.

فقال لي : أنت أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي ، فاسمعوا له وأطيعوا ، فقاموا يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع (1) .

وهذه الرواية قد رواها أيضاً إمامكم أحمد بن حنبل في مسنده (2)و محمد بن إسحاق الطبري في تاريخه(3) والخركوشي أيضاً رواها ، فإن كانت كذباً فقد شهدتم على أئمتكم بأنهم يروون الكذب على الله ورسوله ، والله تعالى يقول : « أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ »(4)

« الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ي»(5) ، وقال الله تعالى في كتابه : « فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ »(6) وإن كانوا لم يكذبوا وكان الأمر على ذلك فما ذنب الرافضة ؟ إذن فاتقوا الله يا أئمة الإسلام ، بالله عليكم ماذا تقولون في خبر الغدير الذي تدعيه الشيعة ؟

قال الأئمة : أجمع علماؤنا على أنه كذب مفترى .

قال يوحنا : الله أكبر ، فهذا إمامكم ومحدّتكم أحمد بن حنبل روى في مسنده أن البراء بن عازب قال : كنا مع سول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفر فنزلنا بغدير خم فنودي

ص: 346


1- معالم التنزيل للبغوي ج 3 ص 400
2- مسند أحمد ج 1 ص 159
3- تاريخ الطبري ج 2 ص 319 - 321
4- سورة هود : الآية 18
5- سورة يونس : الآية 69 و 96 ، وسورة النحل : الآية 116
6- سورة آل عمران : الآية 61

فينا الصلاة جامعة وكسح لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت شجرتين ، وصلّى الظهر ، وأخذ بيد علي (علیه السلام ) فقال : ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟

قالوا : بلى فأخذ بيد علي ورفعها حتى بان بياض إبطيهما وقال لهم : من کنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانص-ر م-ن ن-ص-ره ، واخذل من خذله.

فقال له عمر بن الخطاب : هنيئاً يابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.

ورواه في مسنده بطريق آخر وأسنده إلى أبي الطفيل ، ورواه بطريق آخر وأسنده إلى زيد بن أرقم (1) ، ورواه ابن عبد ربه في كتاب العقد الفريد (2) ، ورواه سعيد بن وهب ، وكذا الثعالبي في تفسيره (3) وأكد الخبر مما رواه من تفسير سأل سائل أن حارث بن النعمان الفهري أتى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في ملأ من أصحابه فقال : يا محمد أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك محمد رسول الله فقبلنا ، وأمرتنا أن نصلي خمساً فقبلنا منك ، وأمرتنا أن نصوم شهر رمضان فقبلنا ،

ص: 347


1- مسند أحمد ج 2 ص 93 و ج 4 ص 368 و 372 وص381
2- العقد الفريد ج 5 ص 61
3- وممن ذكر خبر الحارث بن النعمان : فرائد السمطين ج 1 ص 82 ح 53 ، نور الأبصار للشبلنجي ص 71 ط السعيدية وص 71 ط العثمانية ، نظم درر السمطين للزرندي الحنفي ص 93 ، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 328 ط الحيدرية وص 274 ط اسلامبول و ج 2 ص 99 ط العرفان بصيدا

وأمرتنا أن نحج البيت فقبلنا ، ثم لم ترض حتى رفعت بضبعي ابن عمك ففضلته علينا وقلت : «من كنت مولاه فعلي مولاه فهذا شيء منك أم من الله ؟

فقال : والله لا إله إلا هو ، إنّه من الله تعالى ، فولّى الحارث بن النعمان وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء .

فما وصل إلى راحلته حتى رماه الله بحجر فسقط على رأسه وخرج من دبره فخر صريعاً ، فنزل : «سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ» (1)، فكيف يجوز منكم أن يروي أئمتكم وأنتم تقولون : إنه مكذوب غير صحيح .

قال الأئمة : يا يوحنّا قد روت أئمتنا ذلك لكن إذا رجعت إلى عقلك وفكرك علمت أنه من المحال أن ينص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على علي بن أبي طالب الذي ه-و كما وصفتم ثم يتفق كل الصحابة على كتمان هذا النص ويتراخون عنه ، ويتفقون على إخفائه ، ويعدلون إلى أبي بكر التيمي الضعيف القليل العشيرة ، مع أنّ الصحابة كانوا إذا أمرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقتل أنفسهم فعلوا ، فكيف يصدق عاقل هذا الحال من المحال ؟

قال يوحنّا : لا تعجبوا من ذلك فأمة موسى كانوا ستة أضعاف أمّة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) واستخلف عليهم أخاه هارون وكان نبيّهم أيضاً وكانوا يحبّونه أكثر من موسى ، فعدلوا عنه إلى السامري ، وعكفوا على عبادة عجل جسد له خوار ،فلا يبعد من أمّة محمد أن يعدلوا عن وصيّه بعد موته إلى شيخ كان رسول

ص: 348


1- سورة المعارج : الآية 1

الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تزوج ابنته ، ولعله لو لم يرد القرآن بقصة عبادة العجل لما صدقتموها .

قال الأئمة : يا يوحنا فلم لم ينازعهم بل سكت عنهم وبايعهم ؟

قال يوحنّا : لا شك أنه لما مات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان المسلمون قلة .

واليمامة فيها مسيلمة الكذاب وتبعه ثمانون ألفاً والمسلمون الذين في المدينة حشوهم منافقون ، فلو أظهر النزاع بالسيف لكان كل من قتل علي بن أبي طالب بنيه أو أخاه كان عليه وكان قليل من الناس يومئذ من لم يقتل علي من قبيلته وأصحابه وأناسبه قتيلاً أو أزيد وكانوا يكونون عليه ، فلذلك صبر وشاققهم على سبيل الحجة ستة أشهر بلا خلاف بين أهل السنّة ، ثم بعدما جرى من طلب البيعة منهم فعند أهل السنة أنه بايع ، وعند الرافضة أنه لم يبايع ، وتاريخ الطبري(1) يدلّ على أنه لم يبايع ، وإنما العبّاس لما شاهد الفتنة صاح : بايع ابن أخي .

وأنتم تعلمون أن الخلافة لو لم تكن لعلي لما ادعاها ، ولو ادعاها بغ-ي-ر ح-ق لكان مبطلاً ، وأنتم تروون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : «علي مع الحق والحق مع علي»(2) فكيف يجوز منه أن يدعي ما ليس بحق فيكذب نبيكم يومئذ ؟!

وأما تعجبكم من مخالفة بني إسرائيل نبيّهم في خليفته وعدولهم إلى العجل والسامري ففيه سر عجيب إنّكم رويتم أن نبيكم قال : «ستحذون حذو بني إسرائيل حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة ، حتى لو دخلوا جحر ضب

ص: 349


1- تاريخ الطبري ج 3 ص 208
2- تقدمت تخريجاته

لدختلموه»(1) وقد ثبت في كتابكم أن بني اسرائيل خالفت نبيه-ا في خليفت-ه، وعدلوا عنه إلى ما لا يصلح لها .

قال العلماء : يا يوحنا أفتدري أنت أن أبابكر لا يصلح للخلافة ؟

قال يوحنّا : أما أنا فوالله لم أر أبابكر يصلح للخلافة ، ولا أنا متعصب للرافضة ، لكنّي نظرت الكتب الإسلامية فرأيت أن أئمتكم أعلمونا أن الله ورسوله أخبر أن أبابكرلا يصلح للخلافة.

قال الأئمة : وأين ذلك ؟

قال يوحنا : رأيت في بخاريكم (2) ، وفي الجمع بين وفي الجمع بين الصحاح الستة ، وفي صحيح أبي داود ، وصحيح الترمذي (3) ، ومسند أحمد بن حنبل(4) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث سورة براءة مع أبي بكر إلى أهل مكة ، فلما بلغ ذي الحليفة دعا علياً (علیه السلام) ثم قال له : أدرك أبا بكر وخذ الكتاب منه فاقرأه عليهم ، فلحق-ه بالجحفة فأخذ الكتاب منه ورجع أبو بكر إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : يا رسول الله أنزل في شيء ؟

قال : لا ولكن جاءني جبرئيل (علیه السلام) وقال : لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك .

ص: 350


1- انظر : معالم التنزيل للبغوي ج 4 ص 465 ، مجمع البيان ج 10 ص 462 باختلاف ، وقد تقدم المزيد من تخريجات الحديث فيما سبق
2- صحيح البخاري ج 6 ص 81
3- سنن الترمذي ج 5 ص 256 - 257 ح 3090 - 3092 و ج 3 ص 222 ح 871
4- مسند أحمد ج 1 ص 81

فإذا كان الأمر هكذا وأبوبكر لا يصلح لأداء آيات يسيرة عن النبي ( النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته ، فكيف يصلح أن يكون خليفته بعد مماته ويؤدّي عنه ، وعلمنا من هذا أنّ علياً (علیه السلام) يصلح أن يؤدي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

فيا أيها المسلمون لم تتعامون عن الحق الصريح ؟ ولم تركنون إلى هؤلاء وكم

ترهبون الأهوال ؟

أطرق الحنفي برأسه إلى الأرض ثم رفعه وقال : يا يوحنا والله إنك لتنظر بعين الإنصاف ، وإنّ الحق لكما تقول ، وأزيدك في معنى هذا الحديث ، وهو أن الله تعالى أراد أن يبين للناس أن أبا بكر لا يصلح للخلافة ، فلذلك أمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخرج عليّاً وراءه ويعزله عن هذا المنصب العظيم ليعلم الناس أن أبا بكر لا يصلح لها ، وأن الصالح لها علي(علیه السلام) فقال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا يبلغ عنك إلا أنت أو رجل منك (1) ، فما تقول أنت يا مالكي ؟

قال المالكي : والله فإنّه لم يزل يختلج في خاطري أن علياً نازع أبابكر في خلافته مدة ستة أشهر ، وكلّ متنازعين في الأمر لابد وأن يكون أحدهما محقاً ، فإن قلنا إن أبا بكر كان محقاً فقد خالفنا مدلول قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «علي مع الحق

والحق مع علي» (2) . وهذا حديث . وهذا حديث صحيح لا خلاف فيه ونظر إلى الحنبلي ليرى

ص: 351


1- مسند أحمد ج 3 ص 212 ، المصنّف لابن أبي شيبة ص 4 - 85 ح 12184 ، كنز العمال ج 2 ص 431 ح 4421 ، البداية والنهاية ج 5 ص 37 ، وقد تقدمت تخريجاته
2- تقدمت تخريجاته

رأيه .

قال الحنبلي : يا أصحابنا كم نتعامى عن الحق ؟ والله إن اليقين أنّ أبا بكر وعمر غصبا حق على (علیه السلام).

وقال يوحنا : فاختبط القوم ، وكثر بينهم النزاع لكن كان مآل كلامهم أن الحق في طرف الرافضة ، وكان أقربهم إلى الحق إذن إمام الشافعية ، فقال لهم : أراكم تشكون أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)قال : من مات ولم يعرف إمام زمانه (1) فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً .

فما المراد بإمام الزمان ؟ ومن هو ؟

قالوا : إمام زماننا القرآن فإنا به نقتدي .

فقال الشافعي : أخطأتم لأن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال : الأئمة من قريش(2) ولا يقال للقرآن إنه قرشي.

فقالوا : النبي إمامنا .

فقال الشافعي : أخطأتم ، لأن علماءنا لما اعترض عليهم بأن كيف يجوز لأبي بكر وعمر أن يتركا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مسجى غير مغسل ويذهبا لطلب الخلافة ، وهذا دليل على حرصهم عليها ، وهو قادح في صحة خلافتهما .

ص: 352


1- تقدمت تخريجاته
2- مسند أبي داود ص 125 ح 926 ، مسند أحمد ج 3 ص 183 ، المصنف لابن أبي شيبة ج 12 ص 169 ح 12438 وص 173 ح 12447 ، كنز العمال ج 12 ص 30 ح 33831

أجاب علماؤنا إنّهم لمحوا أقوال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» ولم يجوزوا على أنفسهم الموت قبل تعيين الإمام ، فبادروا لتعيينه هرباً من ذلك الوعيد ، فعلمنا أن ليس المراد بالإمام هنا النبي.

فقالوا للشافعي : فأنت من إمامك يا شافعي ؟

قال : إن كنت من قبيلتكم فلا إمام لي ، وإن كنت من قبيلة الإثني عشرية فإمامي محمد بن الحسن (علیه السلام ) .

فقال العلماء : هذا والله أمر بعيد كيف يجوز أن يكون إمامك واحداً من مدة لا يعيش أحد مثله ، ولا يراه أحد ؟ هذا بعيد جداً .

فقال الشافعي : الدجّال من الكفرة تقولون : إنّه حي وموجود ، وهو قبل المهدي والسامري ، كذلك ووجود إبليس لا تنكرونه ، وهذا الخضر ، وهذا عيسى تقولون : إنهما حيّان ، وقد ورد عندكم ما يدل على التعمير في حق السعداء والأشقياء ، وهذا القرآن ينطق أن أهل الكهف ناموا ثلاث مائة سنة وتسع سنين لا يأكلون ولا يشربون ، أفبعيد أن يعيش من ذرية محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) واح-د م--دة طويلة يأكل ويشرب إلا أنه لا يخبرنا أحد أنه رأه ؟! فاستبعادكم هذا بعيد جداً .

قال يوحنا : إن نبيكم قال : ستفترق أمتي من بعدي إلى ثلاث وسبعين فرقة واحدة ناجية ، واثنتان وسبعون في النار فهل تعرف الناجية من هي؟

قالوا : إنهم أهل السنة والجماعة لقول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لما سئل ع-ن الفرقة

ص: 353

الناجية من هم ؟ فال : الذين هم على ما أنا عليه اليوم وأصحابي»(1)

قال يوحنا : فمن أين لكم أنكم أنتم اليوم على ما كان عليه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ؟

قالوا : ينقل ذلك الخلف عن السلف .

فقال يوحنا : فمن الذي يعتمد على نقلكم ؟

قالوا : وكيف ذلك ؟

قال : لوجهين :

الأول : أن علماءكم نقلوا كثيراً من الأحاديث التي تدل على إمامة علي (علیه السلام ) وأفضليته ، وأنتم تقولون إنه مكذوب عليه ، وشهدتم على علمائكم أنهم ينقلون الكذب فربما يكون هذا أيضاً كذباً ولا مرجح لكم .

الثاني : أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)كان يصلي كل يوم الصلوات الخمس في المسجد ولم يضبط له أنه هل كان يبسمل للحمد أم لا ؟ وهل كان يعتقد وجوبها أم لا ؟ وهل كان يسبل يديه أم لا ؟ ولو كان يعقدهما فهل يعقدهما تحت السرة أو فوقها ؟ وهل كان يمسح الوضوء ثلاث شعرات أو ربع الرأس ، أو بعضه أو جميعه ، فإذا كان سلفكم لم يضبط شيئاً كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يفعله في اليوم والليلة مراراً متعدّدة ، فكيف يضبطون شيئاً لم يفعله في العمر إلا مرة واحدة أو مرتين ، هذا بعيد ! وكيف تقولون إن أهل السنة هم على ما كان عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والحال أنهم

ص: 354


1- المعجم الصغير للطبراني ج 1 ص 256 ، كنز العمال ج 1 ص 210 ح 1055 و 7 105 ، مجمع الزوائد ج 1 ص 189

يناقض بعضهم بعضاً في اعتقاداتهم ، واجتماع النقيضين محال .

قال يوحنّا : فأطرقوا جميعاً ، ودار الكلام بينهم ، وارتفعت الأصوات بينهم ، وقالوا : الصحيح أنا لا نعرف الفرقة الناجية من هي ، وكلّ منّا يزعم أنه هو الناجي ، وأن غيره هو الهالك ، ويمكن أن يكون هو الهالك ، وغيره الناجي .

قال يوحنا : هذه الرافضة الذين تزعمون أنهم ضالون يجزمون بنجاتهم ، وهلاك من سواهم ، ويستدلون على ذلك بأن اعتقادهم أو فى للحق ، وأبعد عن الشك.

قالت العلماء : يا يوحنا ، قل وإنا والله لا نتهمك لعلمنا أنك تجادلنا على إظهار الحق .

قال يوحنا : أنا أقول باعتقاد الشيعة أن الله قديم ولا قديم سواه ، وأنه موجود ، وأنه ليس بجسم، ولا في محل ، وهو منزه عن الحلول ، واعتقادكم أنكم تثبتون معه ثمانية قدماء هي الصفات حتى إن إمامكم الفخر الرازي شنّع عليكم ، وقال : إن النصارى واليهود كفروا حيث جعلوا مع الله إلهين اثنين قديمين وأصحابنا أثبتوا قدماء تسعة ، وابن حنبل أحد أئمتكم قال : إن الله جسم ، وإنّه على العرش ، وإنه ينزل في صورة أمرد ، فبالله عليكم أليس الحال كما قلت ؟

قالوا : نعم

قال يوحنا : فاعتقادهم إذاً خير من اعتقادكم ، واعتقاد الشيعة أن الله سبحانه لا يفعل قبيحاً ، ولا يخل بواجب ، وليس في فعله ظلم ، ويرضون بقضاء الله لأنه لا يقضي إلا بالخير، ويعتقدون أن فعله لغرض لا لعبث ، وأنه لا يكلف نفساً إلا

ص: 355

وسعها ، ولا يُضلّ أحداً من عباده ، ولا يحول بينهم وبين عبادته ، وأنه أراد الطاعة ، ونهى عن المعصية، وأنهم مختارون في أفعال أنفسهم ، واعتقادكم أنتم أنّ الفواحش كلها من الله - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وأن كل ما يقع في الوجود من الكفر والفسوق والمعصية والقتل والسرقة والزنا فإنه خلقه الله تعالى في فاعليه وأراده منهم وقضى عليهم به ورفع اختيارهم ، ثم يعذبهم عليه ، وأنتم لا ترضون بقضاء الله بل إن الله تعالى لا يرضى بقضاء نفسه ، وإنه هو الذي أضلّ العباد وحال بينهم وبين العبادة والإيمان ، وإن الله تعالى يقول : « وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى »(1).

فاعتبروا هل اعتقادكم خير من اعتقادهم أم اعتقادهم خير من اعتقادكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون !!

وقالت الشيعة : أنبياء الله معصومون من أول عمرهم إلى آخره عن الصغائر والكبائر فيما يتعلق بالوحي وغيره عمداً وخطاً ، واعتقادكم أنه يجوز عليهم الخطأ والنسيان ، ونسبتم أن رسول الله ( سهى في القرآن بما يوجب الكفر فقلتم : إنه صلى الصبح فقرأ سورة النجم :

«أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى»(2)، وهذا كفر وشرك جلي ، حتى أن بعض علمائكم صنّف كتاباً في-ه تعداد ذنوب نسبها للأنبياء (ع) فأجابته الشيعة عن ذلك الكتاب بكتاب سموه

ص: 356


1- سورة الزمر : الآية 7
2- سورة النجم : الآية 19 و 20

بتنزيه الأنبياء (1) ، فماذا تقولون أيّ الاعتقادين أقرب إلى الصواب ، وأدنى من الفوز ؟

واعتقاد الشيعة أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقبض حتى أوصى إلى من يقوم بالأمر بعده ، وأنه لم يترك أمته هملاً ولم يخالف قوله تعالى ، واعتقادكم أنه ترك أمته هملاً ، ولم يوص إلى من يقوم بالأمر بعده ، وإن كتابكم الذي أنزل عليكم في-ه وجوب الوصيّة ، وفي حديث نبيّكم وجوب الوصيّة ، فلزم على اعتقادكم أن يكون النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أمر الناس بما لم يفعله ، فأي الاعتقادين أولى بالنجاة .

واعتقاد الشيعة أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يخرج من الدنيا حتى نص بالخلافة على علي بن أبي طالب (علیه السلام) ولم يترك أمته هملاً فقال له يوم الدار :

«أنت أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا أمره»(2) وأنتم نقلتموه ونقله إمام القراء والطبري والخركوشي وابن إسحاق .

وقال فيه يوم غدير خم : من كنت مولاه فهذا علي مولاه حتى قال له عمر : بخ بخ لك يا علي ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ، نقله إمامكم أحمد بن حنبل في مسنده (3). وقال فيه لسلمان : «إن وصيّي ووارثي علي بن أبي طالب رواه إمامكم أحمد بن حنبل(4) . وقال فيه : «إنّ الأنبياء ليلة المعراج قالوا لي : بعثنا على الإقرار بنبوتك ، والولاية لعلي بن أبي طالب» ورويتموه في الثعلبي

ص: 357


1- تنزيه الأنبياء لعلم الهدئ الشريف المرتضى أعلى الله مقامه
2- تقدمت تخريجاته
3- مسند أحمد ج 4 ص 281
4- فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ج 2 ص 615 ح 1052

والبيان وقال فيه : «إنّه يحبّ الله ورسوله» رويتموه في البخاري ومسلم (1) . وقال فيه لا يؤدّي عنّي إلا أنا أو رجل مني ، وعنى به علي بن أبي طالب ، ورويتوه في الجمع بين الصحيحين ، وقال فيه : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» ، ورويتموه في البخاري (2) . وأنزل الله فيه : هل أتى على الإنسان حين من الدهر) (3) وأنزل فيه : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون (4) وأنه صاحب آية الصدقة (5) ، وضربته لعمرو بن ود العامري أفضل من عمل الأمة إلى يوم القيامة(6) وهو أخو رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وزوج ابنته ، وباب المدينة ، وإمام المتقين ، ويعسوب الدين ، وقائد الغر المحجلين(7) ، حلال المشكلات ، وفكّاك المعضلات ، هو الإمام بالنص

ص: 358


1- صحيح مسلم ج 4 ص 1871 - 1873 ح 32 - 35 ، صحيح البخاري ج 5 ص 23
2- صحيح مسلم ج 5 ص 1870 ح 30 - 32 ، صحيح البخاري ج 5 ص 24
3- سورة الدهر : الآية 1
4- سورة المائدة : الآية 55
5- وهي قوله تعالى : الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية ، سورة البقرة الآية 274 ، وقد تقدمت تخريجات نزولها فيه (عليه السلام)
6- المستدرك ج 3 ص 32 ، تاريخ بغداد ج 13 ص 19 رقم : 6978 ،الفردوس بمأثور الخطاب ج 3 ص 455 ح 5406
7- فقد جاء في فرائد السمطين ج 1 ص 143 ح 105 : عن عبد الله بن عكيم الجهني ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله إن الله تبارك وتعالى أوحى إلي في علي (عليه السلام) : ثلاثة أشياء ليلة أسري بي : إنّه سيّد المؤمنين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين ومثله أيضاً بتفاوت ما جاء في ص 145 ح 109 ، بحار الأنوار ج 18 ص 343 ، سفينة البحار ج 1 ص 133

الإلهي ، ثم من بعده الحسن والحسين اللذان قال فيهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «هذان إمامان قاما أو قعدا ، وأبوهما خير منهما »(1).

وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «الحسن والحسين سيّداشباب أهل الجنة» (2) ، ثم علي زين العابدين ، ثم أولاده المعصومون الذين خاتمهم الحجّة القائم المهدي إمام الزمان (علیه السلام) الذي من مات ولم يعرفه مات ميتة الجاهلية (3) ، وأنتم رويتم في صحاحكم عن جابر بن سمرة أنه قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : «يكون بعدي إثنا عشر أميراً» وقال كلمة لم أسمعها (4) وفي بخاريكم(5) قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : «لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم إثنا عشر رجلاً» ثم تكلّم بكلمة خفيفة خفيت على .

وفي صحيح مسلم لا يزال أمر الدين قائماً حتى تقوم الساعة ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش»(6) ، وفي الجمع بين الصحيحين والصحاح الستة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : «إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي اثنا عشر خليفة

ص: 359


1- كفاية الأثر : ص 38 ، بحار الأنوار ج 36 ص 289
2- مسند أحمد ج 3 ص 3 و 62 ، سنن الترمذي ج 5 ص 614 ح 3768 ، تاريخ بغداد ج 11 ص 90 ، كنز العمال ج 12 ص 112 ح 34246
3- تقدمت تخريجاته
4- مسند أحمد ج 5 ص 92 و 94 ، المعجم الكبير ج 2 ص 236 ح 1875 و ص 248 ح 1923
5- صحيح البخاري ج 4 ص 218
6- صحيح مسلم ج 3 ص 1453 ح 10

كلهم من قريش»(1).

وروى عالمكم ومحدثتكم وثقتكم صاحب كفاية الطالب عن أنس بن مالك ، قال : كنت أنا وأبوذر وسلمان وزيد بن ثابت وزيد بن ارقم عند النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إذ دخل الحسن والحسين (علیه السلام) فقبلهما رسول الله ، وقام أبوذر فانكب عليهما ، وقبل أيديهما ، ورجع فقعد معنا ، فقلنا له سراً فقعد معنا ، فقلنا له سراً : يا أباذر رأيت شيخاً من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقوم إلى صبيين من بني هاشم فينكب عليهما ويقبلهما ويقبل أيديهما.

فقال : نعم ، لو سمعتم ما سمعت لفعلتم بهما أكثر مما فعلت.

فقلنا : وما سمعت فيهما من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا أباذر ؟

فقال : سمعته يقول لعلي ولهما : «والله لو أن عبداً صلّى وصام يصيرحتى كالشن البالي إذا ما نفعه صلاته ولا صومه إلا بحبّكم والبراءة من عدوكم .

يا علي ، من توسل إلى الله بحقكم فحق على الله أن لا يرده خائباً .

يا علي ، من أحبّكم وتمسك بكم فقد تمسك بالعروة الوثقى».

قال : ثمّ قام أبوذر وخرج فتقدمنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلنا : يارسول الله أخبرنا أبوذر بكيت وكيت.

فقال : صدق أبوذر ، والله ما أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي

ص: 360


1- صحيح مسلم ج 3 ص 1452 ح 5 ، مسند أحمد ج 4 ص 94 و 96 ، وقد تقدمت تخريجات هذه الأحاديث

ذر(1).

ثم قال(صلى الله عليه وآله وسلم) : خلقني الله تعالى وأهل بيتي من نور واحد قبل أن يخلق الله آدم بسبعة آلاف عام ، ثم نقلنا من صلبه في أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات .

قلت يا رسول الله : وأين كنتم ؟ وعلى أي شأن كنتم ؟

فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): كنا أشباحاً من نور تحت العرش نسبّح الله ونقدسه .

ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : لما عرج بي إلى السماء وبلغت إلى سدرة المنتهى ودعني جبرئيل .

فقلت : يا حبيبي جبرئيل في مثل هذا المقام تفارقني؟

فقال : يا محمد إني لا أجوز هذا الموضع فتحترق أجنحتي ، ثم زج بي من النور إلى النور ما شاء الله تعالى ، فأوحى تعالى إلي : يا محمد : إلى اطلعت إلى الأرض اطلاعة فاخترتك منها وجعلتك نبياً ، ثم اطلعت ثانياً فاخترت منها علياً وجعلته وصيك ووارث علمك وإماماً من بعدك ، وأخرج من أصلابكم الذرية الطاهرة والأئمة المعصومين خزان علمي ، ولولاهم ما خلقت الدنيا ولا الآخرة ، ولا الجنة ولا النار ، أتحب أن

تراهم ؟

ص: 361


1- مجمع الزوائد ج 5 ص 197 وج 6 ص 442 ، مشكل الآثار ج 1 ص 224 ، مسند أحمد بن حنبل ج 2 ص 175 وص 223 ط الميمنية ، الكامل في في الضعفاء لابن عُدي جه ص 1816 ، البداية والنهاية ج 7 ص 165 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 8 ص 259 ، بتفاوت

فقلت : نعم يا رب ، فنوديت : يا محمد ارفع رأسك ، فرفعت رأسي فإذا أنا بأنوار علي ، والحسن ، والحسين ، وعلي بن الحسين ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، وموسى بن جعفر ، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي ، وعلي بن محمد ، والحسن بن علي ، والحجة بن الحسن يتلألأ من بينهم كأنه كوكب دري -عليهم أفضل الصلاة والسلام -

فقلت : يا رب من هؤلاء ومن هذا ؟

فقال سبحانه وتعالى : هؤلاء الأئمة من بعدك المطهرون من صلبك ، وهذا هو الحجة الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلما وجوراً ويشفي صدور قوم مؤمنين .

فقلنا : بآبائنا وأمهاتنا أنت يا رسول الله لقد قلت عجباً .

فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) : وأعجب من هذا أن أقواماً يسمعون هذا مني ثم يرجعون على أعقابهم بعد إذ هداهم الله ويؤذونني فيهم لا أنا لهم الله شفاعتي(1).

قال يوحناً : واعتقادكم أنتم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما مات مات على غير وصيّة ، ولم ينص على خليفته ، وأن عمر بن الخطاب اختار أبابكر وبايعه وتبعته الأمة ، وأنه سمى نفسه خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنتم تعلمون كلّكم أن أبابكر وعمر لما مات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تركاه بغير غسل ولا كفن وذهبا إلى سقيفة بني ساعدة فنازعا الأنصار في الخلافة ، وولي أبوبكر الخلافة ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

ص: 362


1- كفاية الأثر : ص 69 - 73

مسجى ، ولا شك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يستخلفه ، وأنه كان يعبد الأصنام قبل أن يسلم أربعين سنة ، والله تعالى يقول« لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ »(1) ومنع فاطمة إرثها من أبيها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بخبر (رواه) .

قالت فاطمة : يا أبابكر ترث أباك ولا أرث أبي ، لقد جئت شيئاً فرياً، وعارضته بقول الله :«يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» (2)«وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ»(3) ، وقال الله تعالى«يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ »

(4)ولو كان حديث أبي بكر صحيحاً لم يمسك علي بن أبي طالب (عليه السلام) سيف رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وبغلته وعمامته ونازع العباس عليا بعد موت فاطمة(علیها السلام ) في ذلك ، ولو كان هذا الحديث معروفاً لم يجز لهم ذلك ، وأبوبكر منع فاطمة (علیها السلام) فدكاً لأنها ادعت ذلك ، وذكرت أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) نحلها إياها فلم يصدقها في ذلك مع أنها من أهل الجنة ، وأن الله تعالى أذهب عنها الرجس الذي هو أعم من الكذب وغيره ، واستشهدت عليا (علیه السلام ) وأم أيمن مع شهادة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لها بالجنة ، فقال : رجل مع رجل وامرأة ، وصدّق الأزواج في ادّعاء الحجرة ، ولم يجعل الحجرة صدقة فأوصت فاطمة وصيّة مؤكّدة أن يدفنها علي ليلاً حتى لا يصلي عليها أبوبكر(5) .

ص: 363


1- سورة البقرة : الآية 124
2- سورة مريم : الآية 6
3- سورة النمل : الآية 16
4- سورة النساء : الآية 11
5- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 16 ص 280 - 281 ، وقد تقدمت تخريجاته

وأبوبكر قال : أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم (1) ، فإن صدق فلا يصح له التقدم على علي بن أبي طالب (علیه السلام) وإن كذب فلا يصلح للإمامة ، ولا يحمل هذا على التواضع لجعله شيئاً موجباً لفسخ الإمامة وحاملاً له عليه.

وأبوبكر قال : إنّ لي شيطاناً يعتريني ، فإذا زغت فقوموني زغت فقوموني(2) . ومن يعتريه الشيطان فلا يصلح للإمامة !!

وأبوبكر قال في حقه عمر : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، ووقى الله المسلمين شرها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه (3) ، فتبيّن أن بيعته كانت خطاً على غير الصواب ، وأن مثلها مما يجب المقاتلة عليها.

وأبوبكر تخلف عن جيش أسامة وولاه عليه ، ولم يول النبي(صلى الله علي وآله وسلم) على علي أحداً (4) .

وأبو بكر لم يوله رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عملاً في زمانه قط إلا سورة براءة ، وحين ما خرج أمر الله تعالى رسوله بعزله وأعطاها علياً (5).

ص: 364


1- الإمامة والسياسة ج 1 ص 22 ، كنز العمال ج 5 ص 588 ح 14046 وح 1405 ، تاريخ الطبري ج 3 ص 210 ، نهج الحق ص 264 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 169
2- نفس المصدر السابق
3- تقدمت تخريجاته
4- انظر : الملل والنحل للشهرستاني ج 1 ص 144 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 4 ص 96
5- تقدمت تخريجاته

وأبوبكر لم يكن عالماً بالأحكام الشرعية ، حتى قطع يسار السارق ، وأحرق بالنار الفجاءة السلمي التيمي(1)، وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : «لا يعذب بالنار إلا رب النار» (2) .

ولما سئل عن الكلالة لم يعرف ما يقول فيها فقال : أقول برأيي فإن كان صواباً فمن الله وإن كان خطأ فمن الشيطان .

وسألته جدة عن ميراثها ، فقال : لا أجد لك في كتاب الله شيئاً ولا في سنة محمد ، ارجعي حتى أسأل فأخبره المغيرة بن شعبة أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أعطاها السدس وكان يستفتي الصحابة في كثير من الأحكام .

وأبوبكر لم ينكر على خالد بن الوليد في قتل مالك بن نويرة ، ولا في تزويج

امرأته ليلة قتله من غير عدة

وأبوبكر بعث إلى بيت أمير المؤمنين (علیه السلام) لما امتنع من البيعة فأضرم في-ه

النار(3) وفيه فاطمة (علیها السلام) وجماعة من بني هاشم وغيرهم فأنكروا عليه.

ص: 365


1- راجع : الامامة والسياسة ج 1 ص 14
2- ) شرح السنة للبغوي ج 12، ص 198 ، مجمع الزوائد ج 6 ص 251 ، كشف الأستار ج2 ص 211 ح 1538
3- الإمامة والسياسة ج 1 ص 191 ، نهج الحق ص 27 ، وفي شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج 2 ص 56 : فأتاهم عمر ليحرق عليهم البيت ، فخرج إليه الزبير بالسيف وخرجت فاطمة (عليها السلام) تبكي وتصيح ، فنهنهت من الناس إلخ وروى ذلك عن أبي بكر الجوهري

وأبوبكر لما صعد المنبر جاء الحسن والحسين وجماعة من بني هاشم وغيرهم وأنكروا عليه وقال له الحسن والحسين (علیه السلام) : هذا مقام جدنا ولست أهلاً له(1) .

وأبوبكر لما حضرته الوفاة ، قال : يا ليتني تركت بيت فاطمة لم أكشفه ، وليتني كنت سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : هل للأنصار في هذا الأمر حق ؟

وقال : ليتني في ظلّة بني ساعدة ضربت على يد أحد الرجلين ، وكان هو الأمير وأنا الوزير(2) .

وأبوبكر عندكم أنه خالف رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في الاستخلاف ، لأنه استخلف عمر بن الخطاب ولم يكن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ولاه ق-ط عملاً إلا غزوة خيبر فرجع منهزماً ، وولاً ، وولاه الصدقات فشكا العباس فعزله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنكر الصحابة عل-ى أبي بكر تولية عمر حتى قال طلحة : وليت عمر فظاً غليظاً .

وأمّا عمر ، ، فإنّه أتي إليه بامرأة زنت وهي حامل فأمر برجمها ، فقال على (علیه السلام ) : إن كان لك عليها سبيل فليس لك على حملها من سبيل ، فأمسك وقال : لولا على لهلك عمر(3).

وعمر شك في في موت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وقال : ما مات محمدولايموت حتى تلا عليه

ص: 366


1- نهج الحق ص 272 ، أسد الغابة ج 2 ص 14 ، الصواعق المحرقة ص 175 ، ط المحمدية وص 105 ط الميمنية بمصر
2- الإمامة والسياسة : ج 1 ص 14 ، مروج الذهب ج 2 ص 301 - 302 ، نهج الحق ص 265
3- تقدمت تخريجاته

أبوبكر الآية«إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ »(1)فقال : صدقت ، وقال : كأني لم أسمعها(2).

وجاءوا إلى عمر بامرأة مجنونة قد زنت فأمر برجمها ، فقال له علي ( علیه السلام )

القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق ، فأمسك ، فقال : لولا علي لهلك عمر(3).

وقال في خطبة له : من غالى في مهر امرأته جعلته في بيت مال المسلمين، فقالت له امرأة ، تمنعنا ما أحل الله لنا حيث يقول : «وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا »(4) فقال : كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات في البيوت(5) .

وكان يعطي حفصة وعائشة كل واحدة منهما مائتي ألف درهم ، وأخذ مائتي ألف درهم من بيت المال فأنكر عليه المسلمون فقال : أخذته على وجه القرض(6).

ص: 367


1- سورة الزمر : الآية 3
2- تاريخ الخميس ج 2 ص 167 ، صحيح البخاري ج 6 ص 17 ، وقد تقدم الحديث مع تخريجاته
3- تقدمت تخريجاته
4- سورة النساء : الاية 20
5- الدر المنثور ج 2 ص 466 ، نهج الحق ص 278 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 182 و ج 12 ص 17
6- نهج الحق ص 279 ، وفيه عشرة آلاف

ومنع الحسن والحسين (علیه السلام ) إرثهما من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ومنعهما الخمس(1).

وعمر قضى في الحد بسبعين قضية وفضّل في العطاء والقسمة ومنع المتعتين وقال : متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حلالاً وأنا محرمهما ، ومعاقب من فعلهما (2).

وخالف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبا بكر في النص وعدمه ، وجعل الخلافة في ستة نفر ، ثم ناقض نفسه وجعلها في أربعة نفر ، ثم في الثلاثة ، ثم في واحد ، فجعل إلى عبد الرحمن بن عوف الاختيار بعد أن وصفه بالضعف والقصور ، ثم قال : إن اجتمع علي وعثمان فالقول ما قالا ، وإن صاروا ثلاثة ثلاثة فالقول للذين فيهم عبدالرحمن بن عوف ، العلمه أن علياً وعثمان لا يجتمعان على أمر ، وأن عبد الرحمن بن عوف لايعدل بالأمرعن ابن اخته وهو عثمان وهو عثمان ، ثم أمر بضرب عنق من تأخر عن البيعة ثلاثة أيام (3).

وعمر أيضاً مزق الكتاب كتاب فاطمة(علیها السلام ) وهو أنه لما طالت المنازعة بين فاطمة وأبي بكر ، ردّ عليها فدك والعوالي ، وكتب لها كتاباً فخرجت والكتاب في يدها فلقيه-ا عمر فسألها عن شأنها ، فقصت قصتها ، فأخذ منها الكتاب وخرقه (4)، ودعت عليه فاطمة ، فدخل على أبي بكر ولامه على ذلك واتفقا على منعها .

وأمّا عثمان بن عفّان فجعل الولايات بين أقاربه ، فاستعمل الوليد أخاه لأُمّه

ص: 368


1- أحكام القرآن للجصاص ج 3 ص 61
2- نهج الحق : ص 281 ، الدر المنثور ج 2 ص 487 ، وقد تقدمت تخريجاته
3- الإمامة والسياسة ج 1 ص 28 – 29 ، نهج الحق 285 ، تقدم الحديث مع تخريجاته
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 16 ص 274

على الكوفة ، فشرب الخمر ، وصلّى بالناس وهو سكران(1) ، فطرده أهل الكوفة فظهر منه ما ظهر.

وأعطى الأموال العظيمة أزواج بناته الأربع ، فأعطى كل واحد من أزواجهن مائة ألف مثقال من الذهب من بيت مال المسلمين ، وأعطى مروان ألف ألف درهم من خمس أفريقية (2) .

وعثمان حمى لنفسه عن المسلمين ومنعهم عنه (3) ، ووقع منه أشياء منكرة في حق الصحابة . وضرب ابن مسعود(4) حتى مات وأحرق مصحفه ، وكان ابن مسعود يطعن في عثمان ويكفره .

وضرب عمّار بن ياسر صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى صار به فتق (5) .

ص: 369


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 3 ص 18 ، تاريخ الخميس ج 2 ص 255 و 259 الكامل في التاريخ ج 3 ص 52 ، الإمامة والسياسة ج 1 ص 32 ، أسد الغابة ج 5 ص 90 ، نهج الحق ص 290
2- تاريخ الخميس ج 1 ص 26 ، تاريخ الطبري ج 5 ص 49 ، تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 155 ، المعارف لابن قتيبة ص 84 ، نهج الحق ص 293 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 198
3- نهج الحق ص 294 ،تاريخ الخميس ج 2 ص 262 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 199 ، تاريخ الخلفاء ص 164
4- نهج الحق ص 295 ، أسد الغابة ج 3 ص 259 ، تاريخ ابن كثير ج 7 ص 163 ، تاريخ الخميس ج 2 ص 268 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 198 ، وج 3 ص 40
5- تاريخ الخميس ج 2 ص 271 ، الإمامة والسياسة ج 1 ص 32 ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج 1 ص 238 ، نهج الحق ص 296

واستحضر أبا ذرّ من الشام لهوى معاوية وضربه ونفاه إلى الربذة(1) ، مع أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقرب هؤلاء الثلاثة.

وعثمان أسقط القود عن ابن عمر - لما قتل النوار بعد الإسلام .

وأراد أن يسقط حد الشراب عن الوليد بن عتبة الفاسق ، فاستوفى منه علي(علیه السلام) وخذلته الصحابة حتى قتل ولم يدفن إلا بعد ثلاثة أيام ودفنوه في حش كوكب.

وغاب عن المسلمين يوم بدر ، ويوم بدر ، ويوم احد ، وعن بيعة الرضوان .

وهو كان السبب في أن معاوية حارب علياً(علیه السلام ) على الخلافة ، ثم آل الأمر إلى أن سب بنو أمية علياً (علیه السلام ) على المنبر ، وستموا الحسن ، وقتلوا الحسين ، وشهروا أولاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذريته في البلاد يطاف بهم على المطايا (2) ، فآل الأمر إلى الحجاج حتى أنه قتل من آل محمد إثني عشر ألفاً ، وبنى كثيراً منهم في الحيطان وهم أحياء ، وكلّ السبب في هذا أنهم جعلوا الإمامة بالاختيار والإرادة ، ولو أنهم اتبعوا النص في ذلك ولم يخالف عمر بن الخطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله : «آتوني بدواة وكتف أكتب لك---م كتاباً لن تضلوا بعده أبداً» (3) ، لما حصل الخلاف وهذا الضلال .

قال يوحنا : يا علماء الدين هؤلاء الذين يسمّون الرافضة هذا اعتقادهم الذي ذكرنا ، وأنتم هذا اعتقادكم الذي قررناه ، ودلائلهم هذه التي سمعتموها ، ودلائلكم

ص: 370


1- تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 162 ، الكامل في التاريخ ج 3 ص 56 ، نهج الحق ص298 ، أنساب الأشراف ج 5 ص 52 ، مروج الذهب ج 2 ص 339
2- انظر : ينابيع المودة ب 61 ص 350 ، مقتل الحسين (عليه السلام) للمقرم
3- تقدمت تخريجاته

هذه التي نقلتموها.

فبالله عليكم أيّ الفريقين أحق بالأمر إن كنتم تعلمون ؟

فقالوا بلسان واحد : والله إن الرافضة على الحق ، وإنهم المصدقون على أقوالهم ، لكن الأمر جرى على ما جرى فإنّه لم يزل أصحاب الحق مقهورين ، واشهد علينا يا يوحنا إنا على موالاة آل محمد ، ونتبرأ من أعدائهم ، إلا أنا نستدعي منك أن تكتم علينا أمرنا لأن الناس على دين ملوكهم.

قال يوحنا : فقمت عنهم وأنا عارف بدليلي ، واثق باعتقادي بيقين فلله الحمد والمنّة ، ومن يهد الله فهو المهتد.

فسطرت هذه الرسالة لتكون هداية لمن طلب سبيل النجاة ، فمن نظر فيها بعين الإنصاف أرشد إلى الصواب ، وكان بذلك مأجوراً ، ومن ختم على قلبه ولسانه فلا سبيل إلى هدايته كما قال الله تعالى :«إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ » (1) فإن أكثر المتعصبين « سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ »(2).

اللهم إنا نحمدك على نعمك الجسام ، ونصلّي على محمد وآله المطهرين من

ص: 371


1- سورة القصص : الآية 56
2- سورة البقرة : الآية 6 - 7

الآثام ، مدى الأيام ، على الدوام إلى يوم القيامة .

إلى هنا ما وقفنا عليه من الكتاب المذكور ، والله سبحانه الحمد والمنة(1).

ص: 372


1- الكشكول للبحراني ج 2 ص 28

الفصل التاسع : عقائد أهل السنة

اشارة

* عقائد السلفية *

* مرحلة أحمد بن حنبل *

* مرحلة ابن تيمية *

* مرحلة محمد بن عبد الوهاب *

* تهافت الأشاعرة *

ص: 373

ص: 374

عقائد أهل السنة

لمحة تاريخية :

كان أهل السنة قبل تصدر أحمد بن حنبل منصة الإمامة في مجال العقائد ، على

فرق متعددة وطوائف مختلفة . بين مرجىء يرى أنه لا علاقة بين الإيمان والعمل فلا يضر مع الإيمان معصية ، كما لا تنفع مع الكفر طاعة ، وقدري ينكر القدر إلى جهمي ينفي كل صفة الله سبحانه وخارجي .. وإلى غير ذلك من الاختلاف الفكرية والعقائدية . حتى جاء أحمد بن حنبل فقضى على سائر المذاهب الدارجة بين أهل الحديث ،ووحدهم على أصول اختارها ، وادعى أنها عقائد السلف الصالح من الصحابة والتابعين . وفي واقع الحقيقة أن نسبة هذه الأصول والعقائد إلى أحمد أقرب وأصدق من نسبتها إلى الصحابة والتابعين ، فلم تكن معروفة ، ولا متفقاً عليها قبل ظهور ابن حنبل ، والاختلافات العقائدية عند السنة في تاريخهم وإلى الآن كاشفة عن هذا الأمر .

وقد أخذت هذه العقائد الحنبلية في الذيوع والانتشار في أيام المتوكل الذي قرّب أحمد إلى بلاطه وفتح له المجال حتى صار إمام العقائد من غير منازع ، واستمر على هذا الحال حتى ظهر أبو الحسن الأشعري في الساحة العقائدية ، بعد أن تاب من الاعتزال والتحق بالعقائد الحنبلية، ولكنه لم يكتف بتقليد ابن حنبل فعمل على تغليف وعقلنة عقائده فظهر باعتقادات لم يوافق فيها أحمد كل الموافقة ولم يخالفه ، ورغم ذلك فإن مذهبه الجديد أتيح له الانتشار في كافة الأقطار الإسلامية حتى تمكن من سحب البساط من تحت أقدام ابن حنبل في الإمامة

ص: 375

العقائدية ، فأصبح المذهب الأشعري هو المذهب الرسمي لأهل السنة ، يقول المقريزي بعد أن يشير إلى أصول عقيدة الإمام الأشعري : «هذه جملة : من أصول عقيدته التي عليها الآن جماهير أهل الأمصار الإسلامية ، والتي من جهر بخلافها أريق دمه» (1)فتأججت بذلك نار النزاع بين الأشاعرة والحنابلة على طول العصور المختلفة . فكان الحنابلة يتمسكون بروايات التشبيه والتجسيم ويثبتون الله تعالى صفات لا يجوز نسبتها إليه ، وكان الأشاعرة يتبرأون من هذه الأمور .

ولكن إذا تجاوزنا المشاكل يمكننا أن نقسم المعتقدات السنية إلى مدرستين هما الأشاعرة والحنابلة ، بعد انقراض المعتزلة تقريباً ، وسوف نتناول في هذا الفصل نماذج من المدرستين .

مدرسة الحنابلة (السلفية)

وللتحدث عن العقائد السلفية لابد أن نقسمها إلى ثلاث مراحل تاريخية وهي:

آ - مرحلة أحمد بن حنبل .

ب - مرحلة ابن تيمية.

ج- - مرحلة محمد بن عبدالوهاب.

أولاً : أحمد بن حنبل . منهجه في العقائد

إن المرتكز العقائدي في منهجية ابن حنبل والحنابلة هو السماع ، أي الاعتماد على الآيات والأحاديث النبوية في إثبات العقائد ، ولا يعطون بذلك الدليل العقلي

ص: 376


1- الخطط المقريزية ج 2 ص 360

والبرهان كبير عناية واهتمام .

وهذه المقدمة نفسها تحتاج إلى إثبات ، حيث لا يمكن اعتبار أن السماع ه-و الميزان والمعيار لمعرفة العقائد مجرداً عن العقل ، وذلك لأن السماع لايمكن أن يكون حجة ملزمة إلا إذا آمن الإنسان أولاً بالله سبحانه وتعالى ، ثم آمن برسوله (صلی الله علیه وآله وسلم ) وصدق كلماته ثم وثق واطمأن بصدورها منه (صلی الله علیه وآله وسلم ) ، وهذه المراحل الثلاثة إذا لم تتوفر يستحيل عليك أن تلزم إنساناً وتحتج عليه بالآيات والروايات ، وإلا يصبح الأمر جدلاً فارغاً يدور في حلقة لا نهاية لها ، ومن المعروف عقلاً امتناع إثبات الشيء من نفسه لأنه يستلزم الدور ، والدور باطل وإليك مثالا لذلك :

إن إثبات وجود الله سبحانه وتعالى بآية قرآنية والاحتجاج بها موقوف على الإيمان والتصديق بالآية القرآنية والإيمان بالآية موقوف على الإيمان بالله تعالى والإيمان بالله تعالى موقوفاً على الإيمان بالآية ، وبحذف المتكرر يصبح الإيمان بالآية موقوفاً على الإيمان بالآية ... وهذا باطل .

ثم نسأل على أي شيء نزل هذا الوحي ؟ أعلى غير الإنسان نزل ؟

فإذا نزل على الإنسان : فلماذا خص الله الإنسان بذلك ؟

أليس لأن الإنسان يملك تلك الجوهرة الثمينة وهي العقل ؟

فإن كانت الإجابة نعم . فاين محل العقل في هذا المعيار ؟!

وهذه هي بداية الانحراف في الفكر الحنبلي، حيث لم يعط اهتماماً للعقل ولم يدخله في استدلالاته العقائدية مع علمنا بأنه لا يستقيم الدليل إلا إذا وافق العقل .

ص: 377

والاشتباه الذي وقع فيه الحنابلة وغيرهم من الحشوية والأشاعرة هو عدم معرفتهم بالعقل الذي لا يمكن معرفته كما هو إلا عن طريق مدرسة أهل البيت ( علیهم السلام) ، إن الحنابلة وغيرهم من الحشوية والأشاعرة يعتقدون أن العقل قد يوافق الشرع وقد يخالفه ، وبالأحرى فإنه لا كاشفية للعقل ولا حجية له ، وإن كان في العقل قدر من الحجية فإنما هي مستمدة من الشرع ، وما كان هذا الرأي المتطرف إلا ردة فعل عن منهج المعتزلة الذي يعتبر أن حجية العقل ذاتية ، وأن الدليل السمعي الذي لا يوافقه العقل لا قيمة له ، وقد علمت أن المعتزلة قد أخذوا الناس بالجبر في عهد المأمون والمعتصم والواثق لقبول منهجهم وقد ابتلوا أهل الحديث خاصة بأنواع العذاب مما سبب لهم موقفاً خاص من المنهج العقلي، وإلا ما هو دليلهم في العزوف عن العقل وجمودهم على ظواهر النصوص ؟! وما حدث من الشد والجذب بين المعتزلة والحنابلة قطع بينهم أسلوب التفاهم للوصول إلى نقاط مشتركة ، فحافظ كل كيان على منهجه وتعصب له ، ولا يمكن حل هذه المشكلة الجوهرية التي ينبني عليها فهم الدين ومعتقداته إلا باكتشاف معيار ثابت يتفق عليه الجميع حتى يكون قاسماً مشتركاً في التفكير والتعامل مع الدين.

ينقل المؤلفان ، حنا الفاخوري، وخليل الجر : «وهناك نوعان من البرهان العقلي الذي لا يستند إلا إلى العقل ومبادئه ، والبرهان السمعي الذي يستند إلى القرآن والحديث والإجماع . وفيما نرى المعتزلة لا يعترفون إلا بقيمة الأول ، يعتبرون أن كل برهان سمعي لا يدعمه العقل مردود ، يظل المتكلمون وعلى رأسهم الأشاعرة يؤكدون أن البراهين العقلية لا قيمة لها إلا لأن الشرع يأمر بها ،

ص: 378

وأن العقل لا قيمة له في ذاته بل فيما يستمده من الشرع» (1) .

فانظر إلى البون الشاسع في وجهات النظر ، فريق لا يعترف بقيمة العقل وحجيته وفريق لا يعترف بقيمة سوى العقل .

وهذا الاختلاف المنهجي هو سبب تفرق المسلمين وتمذهبهم عندما اختلفوا في أسس التفكير ، فباختلاف المناهج اختلفت النتائج ، فإذا كان هناك تفكير لإعادة وحدة المسلمين لابد أن يبدأ من توحيد قواعد الفكر وإثبات طرق البرهان ، فمثلاً : انظر إلى هذا الاختلاف الذي نتج عن التباين في أسس التفكير ، ففي موضوع أفعال العباد ، قالت المعتزلة : إن الإنسان خالق لأفعاله ، وإلا يكون مخالفاً للعقل على حد زعمهم . فضربت لذلك بكل الروايات التي تخالف هذا المعنى عرض الحائط ، وفي الاتجاه المقابل نجد الحنابلة وصلوا إلى نتائج بأن أفعال الإنسان ليست بإرادته ، وإنما بإرادة الله ، فالإنسان مجبور على أفعاله ، وتمسكوا لإثبات ذلك بظواهر الآيات والأحاديث ولم يعطوا للعقل أهمية.

يقول أحمد بن حنبل في رسالته : «... والزنى والسرقة ، وشرب الخمر ، وقتل النفس ، وأكل المال الحرام ، والشرك بالله عزوجل ، والذنوب والمعاصي ، كلها بقضاء وقدر من الله عزوجل»(2).

روايات في ضرورة العقل

وإذا نظرنا إلى حقيقة الأمر نجد أن كلاً من الأشاعرة والحنابلة والمعتزلة لم

ص: 379


1- تاريخ الفلسفة العربية ج 1 ص 179
2- الملل والنحل للسبحاني ج 1 ص 164

يتعرفوا على حقيقة العقل ، ولكي نعرف هذه الحقيقة لابد أن نطلع أولاً على بعض روايات أهل البيت (علیهم السلام) ، لنعرف أهمية العقل ومكانته .

عن أبي جعفر (علیه السلام ) - الإمام محمد الباقر - قال : لما خلق الله العقل قال له : أقبل فأقبل ، ثم قال له : أدبر فأدبر ، فقال : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحسن منك إياك آمر وإياك أنهى ، وإياك أثيب وإياك أعاقب» (1)

جاء في وصية الإمام موسی بن جعفر (علیه السلام ) ، هشام بن الحكم، في حديث طويل أحببنا نقله بالكامل لإتمام الفائدة :

يا هشام، إن الله تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه فقال : «فبشر عباد الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ» الزمر 18.

يا هشام : إن الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول ونصر النبيين بالبيان ودلّهم على ربوبيته بالأدلة ، فقال : «وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» البقرة 163 .

يا هشام : قد جعل الله ذلك دليلاً على معرفته لأن لهم مدبراً ، فقال :

ص: 380


1- مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول ج 1 ص 84 ح 26

«وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» النحل آية 13 . وقال : «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» سورة غافر 67 .

وقال : «إِنَّ فی َاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ »الجاثية 4 .

وقال :« يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ »الحديد .17

وقال : « وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ »الرعد 5 .

وقال : «وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» الروم 24.

وقال : «قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ » الأنعام 152 .

ص: 381

وقال : « هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » الروم 28 .

يا هشام : ثم وعظ أهل العقل ورغبهم في الآخرة فقال : «وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ » الأنعام 32 .

يا هشام : ثم خوف الذين لا يعقلون من عقابه فقال تعالى : «ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ » الصافات 137.

وقال :«إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»العنكبوت 35 .

يا هشام : إن العقل مع العلم ، فقال :«وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ » العنكبوت 43

يا هشام : ثم ذم الذين لا يعقلون فقال : «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ » البقرة 170.

وقال : «وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ» البقرة 171 .

وقال : «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ » يونس 41.

وقال :«أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا » الفرقان 44

ص: 382

وقال :«لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ» الحشر 14 .

وقال : « وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ » البقرة 44 .

يا هشام : ثم ذم الله الكثرة فقال : «وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» الأنعام 116

وقال :«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ » لقمان 25 .

وقال : «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ » العنكبوت 63

يا هشام : ثم مدح القلة وقال : «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ» سبأ 13 .

وقال :« وَقَلِيلٌ مَا هُمْ » ص 24 . وقال : «وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ» غافر 28 .

وقال :«وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ » هود 40 .

وقال :«وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»وقال (أكثرهم لا يعقلون) .

وقال :«أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ» .

يا هشام : ثم ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر وحلاهم بأحسن الحلية فقال : «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ » البقرة .269 .

وقال :« وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ

ص: 383

إِلَّا أُولُوالْأَلْبَابِ» آل عمران 7.

وقال : «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ»

آل عمران 190 .

وقال :«أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ» الرعد 20 .

وقال :«أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ » الزمر 9.

وقال: «كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ » ص29.

وقال : «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ هدی وذکری لِأُولِي الْأَلْبَابِ» الذاريات 55.

وقال : «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» ق 37 .

یا هشام :«وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ»لقمان 12، يعني عقل .

وقال : «وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ » قال الفهم والعقل .

يا هشام : إن لقمان قال لابنه : تواضع للحق تكن أعقل الناس وإن الكيس لذي الحق يسير، يا بني : إن الدنيا بحر عميق ، قد غرق فيه عالم كثير فلتكن سفينتك فيها تقوى الله وحشوها الإيمان وشراعها التوكل، وقيمها العقل ودليلها العلم وسكانها الصبر .

ص: 384

يا هشام : إن لكل شيء دليلاً ، ودليل العقل التفكر ، ودليل التفكر الصمت ، ولكل شيء مطية ومطية التواضع ، وكفى بك جهلاً أن تركب ما نهيت عنه.

يا هشام : ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله ، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة ، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلاً ، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.

يا هشام : إن الله على الناس حجتين ، حجة ظاهرة ، وحجة باطنة فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (علیه السلام ) ، وأما الباطنة فالعقول .

يا هشام : إن العاقل الذي لا يُشْغِلِ الحلال شكرَه ولا يُعْلِلِ الحرامُ صبَره.

یا هشام : من سلط ثلاثاً على ثلاث فكأنما أعان هواه على هدم عقله :

من أظلم نور تفكره بطول أمله ، ومحى طرائف حكمته بفضول كلامه وأطف-اً نور عبرته بشهوات نفسه . فكأنما أعان هواه على هدم عقله . ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه.

يا هشام : كيف يزكو عند الله عملك وأنت قد شغلت قلبك عن أمر ربك وأطعت هواك على غلبة عقلك.

يا هشام : الصبر على الوحدة علامة قوة العقل ، فمن عقل عن الله اعتزل أهل لدنيا والراغبين فيها ، ورغب فيما عندالله وكان الله أنيسه في الوحشة وصاحبه في الوحدة وغناه في العيلة ومعزه من غير عشيرة .

یا هشام : نصب الحق لطاعة الله ولا نجاة إلا بالطاعة ، والطاعة بالعلم والعلم بالتعلم والتعلم بالعقل ولا علم إلا من عالم رباني ، ومعرفة العلم بالعقل.

ص: 385

يا هشام : قليل العمل من العالم مقبول مضاعف ، وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود .

یا هشام : إن العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة ، ولم يرض بالدون من الحكمة

مع الدنيا ، فلذلك ربحت تجارتهم .

يا هشام : إن العقلاء تركوا فضول الدنيا ، فكيف الذنوب ، وترك الدنيا من الفضل وترك الذنوب من الفرض .

يا هشام : إن العاقل نظر إلى الدنيا وإلى أهلها فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة، ونظر إلى الآخرة فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة ، فطلب بالمشقة أبقاهما.

يا هشام : إن العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة ، لأنهم علموا أن الدنيا طالبة مطلوبة والآخرة طالبة ومطلوبة . فمن طلب الآخرة ، طلبته الدنيا ، حتى يستوفي منها رزقه ، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت ، فيفسد عليه دنياه وآخرته.

يا هشام : من أراد الغنى بلا مال ، وراحة القلب من الحسد والسلامة في الدين : فليتضرع إلى الله عزوجل في مسألته بأن يكمل عقله فمن عقل قنع بما يكفيه ومن قنع بما يكفيه استغنى ، ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى أبداً .

يا هشام : إن الله حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا:

«رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ » آل عمران 8 .

حين علموا أن القلوب تزيغ وتعود إلى عماها ورداها.

إنه لم يخف الله من لم يعقل عن الله ، ومن لم يعقل عن الله ، لم يعقد قلبه على

ص: 386

معرفة ثابتة ببصرها ويجد حقيقتها في قلبه ، ولا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدقاً وسره العلانيته موافقاً، لأن الله تبارك اسمه لم يدل على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه وناطق عنه.

يا هشام : كان أمير المؤمنين (علیه السلام ) يقول : ما عُبد الله بشيء أفضل من العقل، وما تم عقل امرىء حتى يكون فيه خصال شتى : الكفر والشرك منه مأمونان ، والرشد والخير منه مأمولان ، وفضل ماله مبذول ، وفضل قوله مكفول ، ونصيبه من الدنيا القوت ، لا يشبع من العلم دهره ، الذل أحب إليه مع الله من العز مع غيره ، والتواضع أحب إليه من الشرف ، استكثر قليل المعروف من غيره واستقل كثير المعروف من نفسه ، ورأى الناس كلهم خيراً منه ، وأنه شرهم في نفسه وهو تمام الأمر .

یا هشام : إن العاقل لا يكذب وإن كان فيه هواه .

يا هشام : لا دين لمن لا مروءة له ، ولا مروءة لمن لا عقل له ، وإن أعظم الناس قدراً الذي لا يرى الدنيا لنفسه خطراً ، أما إن أبدانكم ليس لها ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها .

يا هشام : إن أمير المؤمنين (علیه السلام) كان يقول :

إن علامة العاقل أن يكون فيه ثلاث خصال : يجيب إذا سُئل ، وينطق إذا عجز القوم عن الكلام ، ويشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله ، فمن لم يكن فيه من هذه الخصال الثلاث شيء فهو أحمق .

إن أمير المؤمنين(علیه السلام) قال : لا يجلس في صدر المجلس إلا رجل فيه هذه

ص: 387

الخصال الثلاث أو واحدة منهن ، فمن لم يكن فيه شيء منهن فجلس فهو أحمق .

وقال الحسن بن علي (علیه السلام) : إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها من أهلها . قيل يا

ابن رسول الله من أهلها ؟

قال : الذين قص الله في كتابه ذكرهم ، فقال : إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الزمر 9.

قال : هم أولوا العقول.

وقال علي بن الحسين (علیه السلام) : مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح ، وآداب العلماء زيادة في العقل ، وطاعة ولاة العدل تمام العز ، واستثمار المال تمام المروءة ، وإرشاد المستشير قضاء لحق النعمة ، وكف الأذى من كمال العقل ، وفيه راحة البدن عاجلاً وأجلاً.

یا هشام : إن العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه ، ولا يسأل من يخاف منعه ، ولا يعد بما لا يقدر عليه ، ولا يرجو يعنف برجاءه ، ولا يقوم على ما يخاف فوته بالعجز عنه» (1).

وهناك مئات الروايات التي تكشف عن أهمية العقل ومكانته في مدرسة أهل البيت

(علیه السلام) ، والعقل هو ذلك النور الإلهي الذي يكشف به الإنسان حقائق الأشياء

وهو بذلك عطاء إلهي ، وليس أمراً ذاتياً في الإنسان يتحول معه من القوة إلى الفعل كما ذهبت إليه الفلاسفة ، الذين عرفوا العقل بتلك القدرة التي يقدر بها الإنسان على استخراج النظريات من الضروريات كاستحالة اجتماع النقيضين ،

ص: 388


1- مرآة العقول ج 1 ص 38 - 65

وأن كل متغير حادث . وعند استخراج النظريات من هذه الضروريات يكون الإنسان قد وصل إلى حد العقل ، وهو مرتبة من مراتب النفس ، وعند كمالها تكون عقلاً . فالنتائج تسمى معقولات ، بعد إيصالها إلى الضروريات ، وإن كان بعشرين واسطة ، فخلطوا بين العقل والمعقول ، وبين العلم والمعلوم ، واشتغلوا بالمعلوم والمعقول فتاهوا عن النور الذي به علموا وعقلوا الأشياء ، وهذا هو الضلال البعيد ، لأننا نرى بوجداننا أن هذا النور الذي نتعرف به على حقائق الأشياء خارج عن ذواتنا وعن ذوات المعلومات ، وإنما هو عطاء إلهي نعلم به أنفسنا ونكشف به حقائق الأشياء ، وإلا أين هذا العقل حال الطفولة،ومن المعلوم أنه إذا كان ذاتياً فالذاتي لا ينفصل.

قال تعالى : «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا »، والآية لا تعدو أن تكون تنبيهاً إلى واقع العقل والعلم ، وأنهما هما النوران الكاشفان اللذان لم يكن أحد منا يملكهما ، حينما أخرج من بطن أمه ، ثم أصبح الآن يملكهما . فلابد إذن أن يعترف أنهما من الله . لأنه لو كان من نفسه إذن لكان لديه من الطفولة.

يقول (صلی الله علیه وآله وسلم) مؤكداً هذه الحقيقية : «فإذا بلغ المولود حد الرجال أو ح-د النساء ، كُشف ذلك الستر ، فيقع في قلب هذا الإنسان نور فيفهم الفريضة والسنة

والجيد والرديء . ألا ومثل العقل في القلب كمثل السراج في البيت».

فالعقل إذن نور إلهي معصوم عن الخطأ ، والوحي أيضاً نور إلهي معصوم عن الخطأ ، فلا اختلاف بينهما . وإنما هم نوران من مشكاة واحدة فقد جعل الله النور

ص: 389

الأول في الإنسان ، وجعل النور الثاني في القرآن والأحاديث ، وكلاهما يكمل الآخر ويصدقه.

وتكون العلاقة بين العقل والوحي علاقة الإثارة ، كما قال أمير المؤمنين (علیه السلام) واصفاً مهمة الأنبياء : ليثيروا دفائن العقول » فإذن لا انفصال بين العقل وبين الوحى طبقاً لمبدأ العقلانية القائمة على أصل الذكر ، وهو العقل السليم الذي يزكو وينمو ويؤيد ويسدد بالوحي الإلهي ، فيكون بذلك المقياس السليم لكشف معارف الدين هو العقل المستبصر ببصائر الوحي .

وهذه الحقيقة المخيفة كانت هي السبب في اختلاف المسلمين وتمذهبهم.

فأهل الحديث جمدوا على ظواهر النص، والمعتزلة اعتمدوا التأويل ، والأشاعرة حاولوا الجمع بين التأويل والجمود على النصوص ، والفلاسفة ، شقوا لأنفسهم طريقاً مخالفاً لطريق الله ، وادعوا الوصول إلى الحقائق عبرالطاقةالبشرية . وكلهم لم يصيبوا واقع الحقيقة .

وبما أن حديثنا الآن عن الحنابلة ، فإنكارهم للعقل وعدم العمل به لا وجه له، والذي ينظر إلى كتب الحنابلة يجد تلك العقائد المتناقضة أو التي تخالف عقل الإنسان وفطرته ، فيؤمنون بالروايات التي تثبت التشبيه والتجسيم لله سبحانه وتعالى ، فترى عقائدهم لا تختلف عن عقائد اليهودية والنصرانية والمجوسية بكثير ، فظهرت بينهم مذاهب التجسيم والتشبيه والرؤية والجبر .. وغير ذلك من معتقدات أهل الكتاب .

وهذا كله يرجع لتعاملهم التعسفي مع الأحاديث التي لم يدققوا في مدلولاتها أو

ص: 390

لم ينظروا إلى أسانيدها ، ومن غير عرضها على القرآن والعقل ، بل آمنوا بها مطلقاً .: «فبلغ بهم التقليد إلى حد أن صاروا يأخذون بظواهر كل ما رواه الرواة من الأخباروالآثار الموقوفة والمرفوعة والموضوعة والمصنوعة ، وإن كانت شاذة أو منكرة أو غريبة أو من الإسرائيليات مثل ما روي عن كعب ووهب و ... أو معارضة بالقطعيات التي تُعد من نصوص الشرع ومدركات الحس ويقينيات العقل ، ويكفرون من أنكرها ويفسقون من خالفها ...»(1).

وإذا كان التعامل مع الأحاديث بهذه الصورة، فلا محال أن تكون العقائد الإسلامية أسيرة آلاف من الأحاديث الموضوعة والإسرائيليات التي قام اليهود بدسها فى المعتقدات الإسلامية.

وادعاء الحنابلة تمسكهم بالكتاب والسنة ، ورمي غيرهم بالضلال والكفر ادعاء فارغ لا دليل عليه ، فالكل يعترف بحجية السنة والعمل بها ولكن الفرق هو أن الحنابلة يؤمنون بكل ما روي عن رسول الله من غير توثيق ومن غير فهم أو وعي في مدلولاته ، كما قال الزمخشري :

إن قلت من أهل الحديث قالوا تيس ليس يدري ويفهم .

وقال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) : «من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» إشارة صريحة بأن أعداء الدين سوف ينسبون إلى الرسول وإلى الإسلام كل ما

ص: 391


1- من كلام السيد رشيد رضا - تلميذ محمد عبده - كتاب أضواء على السنة المحمدية لمحمود أبو رية ص 23

يشينه ويحرف عقائده ، فلذلك لابد أن تخضع دراسة الحديث إلى الأساليب العلمية

والمنطقية ، وليس كما فعلت الحنابلة يؤمنون بكل ما وجد في بطون الكتب من أحاديث معقولة أو غير معقولة ، موافقة للقرآن أو غير موافقة.

يقول ابن حنبل في رسالته :« فنروي الحديث كما جاء على ما روي ، نصدق به وتعلم أنه كما جاء» (1) .

: «قال : وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلياً حدتهم قال : سألت أبا عبدالله عن الأحاديث التي تروي إن الله تبارك وتعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا[ وأن الله يُرى] [وأن الله يضع قدمه] وما أشبه هذه الأحاديث فقال أبو عبدالله : نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى . أي لا نكيفها ولا نحرفها بالتأويل . فنقول معناها كذا ، ولا نرد منها شيئاً» (2).

هذه هي منهجيتهم مع الأحاديث ، لا يردون منها شيئاً ويصدقون بكل شيء ،وما يتذرعون به من تبريرات واهية، تُضحك الثكلى ، لأن إثبات هذه الأحاديث هو عين إثبات التجسيم والتشبيه ، وقد تطرف بعضهم من الحشوية ، وأثبت فعلاً الجسمية الله سبحانه وتعالى .

قال الشهرستاني : «أما مشبهة الحشوية فقد أجازوا على ربهم الملامسة والمصافحة ، وأن المسلمين المخلصين يعانقونه سبحانه في الدنيا والآخرة إذا بلغوا

ص: 392


1- الملل والنحل للسبحاني ج 1 ص 165
2- في عقائد الإسلام - من رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 155

في الرياضة والاجتهاد إلى حد الإخلاص»(1).

نماذج من أحاديث التجسيم

وإليك مجموعة من الروايات كنموذج وليس للحصر ، وقد اخترتها من كتاب السنة الذي رواه عبد الله من أبيه أحمد بن حنبل وكتاب التوحيد لابن خزيمة.

1 - روى عبدالله بن أحمد بإسناده قال : قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) : «ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره قال : قلت : يا رسول الله أو يضحك الرب ؟ قال : نعم . قلت : لم نعدم من رب يضحك خيراً »(2). وغيرها من الروايات التي تثبت الضحك الله سبحانه وتعالى.

2 - «قال عبدالله : قرأت على أبي .. ثم ذكر الإسناد إلى سعيد بن جبير : أنهم يقولون : إن الأرواح من ياقوته ، لا أدري أقال حمراء أم لا ؟ وأنا أقول سعيد بن جبير يقول : إنها كانت من زمردة وكتابتها الذهب وكتبها الرحمن بيده ويسمع أهل السموات صرير القلم» (3).

3 - قال : حدثني أبي .. بإسناده عن أبي عطاق قال : «كتب الله التوارة لموسى بيده وهو مسند ظهره إلى الصخرة في الألواح من در ، يسمع صريف القلم ليس

ص: 393


1- الملل والنحل للشهرستاني ج 1 ص 96
2- كتاب السنة ص 54ح 262
3- كتاب السنة ص 76 ح 382

بينه وبينه إلا الحجاب» (1).

فهل تفهم من هذه الروايات غير التجسيم المحض والتشبيه الظاهر ، كذب من يؤمن بهذه الأحاديث ولا يتخيل ربه ويتصوره بل هم يتصورونه ويتوهمونه.

وقد حدث يوماً نقاش بين أخي وأحد مشايخ الوهابية - الذين هم الامتداد الطبيعي لعقائد الحنابلة - وكان النقاش يدور حول الصفات الإلهية ، فينزه أخي الله عن هذه الصفات، ويثبت له بكل الطرق فساد تلك المعتقدات ، ولكن من غير جدوى ، وأخيراً وجه له أخى سؤالاً قائلاً :

إذا أثبت له سبحانه هذه الصفات من مكان وجهه ، ويدين ورجلين وعينين... وإلى آخر ما يصفون به ربهم ألا يمكن أن يتصوره الإنسان ويتخيله ؟ بل حتماً يتخيله لأن نفس الإنسان مجبولة على التصور والتخيل بعد الوصف ، فكان جوابه مفصحاً عن تمام عقيدته في التجسيم والتصوير ، قال : تخيله وتصوره ولكن لا تخبر به ...!!

فقال له أخي : ما هو الفرق بين أن تضع أمامك صنماً وتعبده ، وبين أن تتخيل صنماً وتعبده ؟

فقال : هذا كلام الروافض قبحهم الله ، يؤمنون بالله ولا يصفونه بهذه الصفات ، فهم يعبدون رباً غير موجود .

قال له أخي : إن الله الحق هو الذي لا تحيط به العقول ولا تدركه الأبصار لا

ص: 394


1- كتاب السنة ص 76 ح 383

يؤين بأين ولا يكيف بكيف ، ولا يقال له لما وكيف لأنه هو الذي أين الأين وكيف الكيف ، فكل ما لا تتصوره هو الله ، وكل ما يتصور هو مخلوق، فقد تعلمنا من أئمة أهل البيت (البيت (علیه السلام) ، والعقل هو ذلك النور الإلهي الذي يكشف به الإنسان حقائق الأشياء) قولهم : «كل ما تصورتموه في أدق معانيه فهو مخلوق مثلكم ، مردود عليكم» فتمام معرفة الله هو بالعجز عن معرفته.

فقال غاضباً : نحن نثبت ما أثبته الله لنفسه وكفى .

ثم انظر كيف أثبتوا الله سبحانه أصبعاً ، قاتلهم الله ، ثم يثبتون من الأصابع الخنصر ومن الخنصر - والعياذ بالله - المفصل ، كما ذكر ابن خزيمة في كتاب التوحيد ، قال بإسناده عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) : لما تجلى

ربّه للجبل رفع خنصره وقبض على مفصل منها فانساخ الجبل ، فقال له :حميد : أتحدث بهذا ؟ فقال : حدثنا أنس عن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم ) وتقول لا تحدث به ؟ (1).

وروى ابن حنبل عن أبيه مثل هذا الخبر بإسناده عن أنس ، عن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم ) «فلما تجلى ربه للجبل قال هكذا .. وأشار بطرف الخنصر يحكيه»(2) .

ماذا تفهم من هذا أيها القارىء اللبيب ؟

أثبتوا الله يداً ولليد أصبعاً ، ومن الأصابع الخنصر ، ثم قالوا للخنصر

ص: 395


1- كتاب التوحيد ص 113
2- كتاب السنة ص 65 ح 317

مفصل ... !!! وقف عند ذلك حتى نكمل لك الصورة .

فقد أثبتوا أن الله ذراعين وصدراً ، قال عبدالله حدثني أبي ... وذكر الإسناد عن عبدالله بن عمرو قال : «خلقت الملائكة من نور الذراعين والصدر » (1) .

وقال بإسناده عن أبي هريرة عن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم ) : «إن غلظ جلد الكافر اثنان وسبعون ذراعاً بذراع الجبار ، وضرسه مثل ذلك»(2).

ويفهم أيضاً من هذا الحديث بالإضافة إلى الصدر والذراعين أن الذراعين لهما طول محدد ، وإلا لا يمكن أن يكونا مقياساً للطول.

ولم يقفوا عند هذا الحد بل جعلوا الله رجلاً .

قال عبدالله بن أحمد بن حنبل بإسناده عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) : «يُلقى في النار فتقول هل من مزيد حتى يضع قدمه أو رجله عليها فتقول : قط قط » (3) .

وروى ابن خزيمة عن أبي هريرة عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) قال : «وأما النار فلا تمتلىء حتى يضع الله رجله فيها ، فتقول قط قط ، فهنالك تمتلىء»(4).

وبعد ذلك تعالى معي أيها القارىء الكريم لكي ترى أنهم تجاوزوا ذلك وأثبتوا لله نَفساً ، قال عبدالله بن أحمد أحمد بن حنبل بإسناده إلى أبي بن كعب قال : «لا تسبوا

ص: 396


1- المصدر السابق ص 190 ح 1009
2- المصدر السابق ص 190 ح 1007
3- الممصدر السابق ص 184 ح 976
4- مسند أحمد : ج 2 ص 314

الريح فإنها من نفس الرحمن» (1).

فماذا تبقى حتى تكتمل الصورة ، وخاصة بعدما أثبتوا له وجه . هل الكلام والصوت؟!

قد أثبتوه بل شبهوة بصوت الحديد.

قال عبدالله بن أحمد بسنده : «إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كصلصلة الحديد على الصفا»(2).

ثم أثبتوا الله ثقلاً ووزناً ولذلك يسمع للكرسي صوت أطيط إذا جلس عليه ، وإذا لم يكن له وزن فما معنى الأطيط ؟

روى عبدالله بن أحمد بن حنبل بإسناده عن عمر قال : «إذا جلس على الكرسي سمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد»(3) أي كصوت . سرج الناقة بالراكب الثقيل .

وقال بإسناده إلى عبدالله بن خليفة قال : «جاءت امرأة إلى النبي (صلی الله علیه وآله وسلم ) فقالت : ادع الله أن يدخلني الجنة ، قال : فعظم الرب ، وقال : سمع كرسيه السموات والأرض ، إنه ليقعد عليه فما يفضل منه إلا قيد أربع أصابع وإن له أطيطاً كأطيط الرحل إذا ركب»(4).

ص: 397


1- السنة ص 190 ح 1010
2- السنة ص 71 ح 353
3- السنة ص 79 ح 402
4- السنة ص 80 ح 409

وزاد ابن خزيمة :« من ثقله»(1) .

وتكتمل الصورة الدرامية بذلك فيكون الله إنساناً له من الصفات ما للإنسان من جسمية ومحدودية وأعضاء وتراكيب ، وهذا هو الظاهر وإن تنكروا عليه بل صرحوا بأكثر من ذلك :

جاء في الحديث خلق الله آدم على صورته طوله سبعون ذراعاً .

ويثبتون له إمكانية الرؤية والنظر إليه ، كما روى ابن خزيمة بإسناده إلى ابن عباس أن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم ) قال : «رأيت ربي في أحسن صوره ، فقال : يا محمد ،

قلتُ : لبيك وسعديك ، قال : فيما يختصم الملأ الأعلى ؟ قلتُ : يا رب لا أدري ، قال : فوضع يده بين كتفي ، فوجدت بردها بين ثديي ، فعلمت ما بين المشرق والمغرب»(2).

وقال بإسناده ... إن عبدالله بن عمر بن الخطاب بعث إلى عبد الله بن عباس يسأله : هل رأى محمد (صلی الله علیه وآله وسلم ) ربه ؟ فأرسل إليه عبدالله بن عباس : أن نعم . فرد عليه عبدالله بن عمر رسوله عن كيف رآه ؟ قال : فأرسل أنه رآه في روضة خضراء دون فراش من ذهب على كرسي من ذهب يحمله أربعة من الملائكة . ملك في صورة رجل وملك في صورة ثور وملك في صورة نسر وملك في صورة أسد» (3).

ص: 398


1- التوحيد ص 106
2- التوحيد ص 217
3- التوحيد ص 198

وهذا غيض من فيض ، ونكتفي بهذا القدر من عقائد الحنابلة ومن لف لفهم ، في صفات الله سبحانه وتعالى ، وتجاوزنا بقية معتقداتهم الأخرى ، وما ذكرناه كاف لفضح عقائدهم .

وعندما رأى بعض الحنابلة قبيح ما صنعوا حاولوا أن يبرروا ذلك ويتذرعوا بقولهم : بلا كيف .

وقد اعتمد الأشعري هذا التبرير ، فيقول في كتابه الإبانة ص 18 : «إن الله سبحانه وجها بلا كيف ، كما قال : ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام )وإن له يدين بلا كيف ، كما قال( خلقت بيدي)...(1)

وقد صدق فيهم قول الشاعر :

قد شبهوه بخلقه وتخوفوا* شنع الورى فتستروا

ومن الواضح ، لكل صاحب عقل سليم أن هذا التبرير لا يغير في وجه القضية لأن الجهل بالكيفية لا يفيد شيئاً ، ولا يرجع إلى معنى صحيح وهو أقرب إلى الإبهام والإلغاز ، لأن إثبات هذه الألفاظ بمعانيها الحقيقية هو عين إثبات الكيفية لها ، لأن الألفاظ قائمة بنفس كيفيتها ، وإجراء هذه الصفات بمعانيها المتعارفة هو عين التجسيم والتشبيه ، والاعتذار بقولهم : بلا كيف لا يتعدى أن يكون لقلقة لسان .

ص: 399


1- أي بلا كيف

وأذكر يوماً كنت اناقش أحد أساتذتي في الجامعة حول استواء الله على العرش ، وعندما ضاق بي ذرعاً قال : نحن نقول ما قاله السلف : «الاستواء معلوم، والكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة ».

قلت له : لم تزد في الأمر إلا إبهاماً ، وفسرت الماء بعد الجهد بالماء .

قال : كيف وقد احتد النقاش .

قلت : إذا كان الاستواء معلوماً ، فالكيف أيضاً معلوم .

وإذا كان الكيف مجهولاً ، فكذلك الاستواء مجهول ولا ينفصل عنه ، فالعلم بالاستواء هو عين العلم بالكيفية ، والعقل لا يفرق بين وصف الشيء وبين كيفيته، لأنهما شيء واحد.

فإذا قلت فلان جالس ، فعلمك بجلوسه هو علمك بكيفيته فأنت عندما تقول الاستواء معلوم فنفس العلم بالاستواء هو العلم بالكيفية وإلا يكون في كلامك تناقض ، بل هو التناقض بذاته . فتكون عالماً بالاستواء وفي نفس الوقت غير عالم بالكيفية .

... فسكت مدة ولم يحر جواباً ، ثم اعتذر أنه على عجل واستأذن وذهب .

فكل ما يقولونه من عدم الكيف مع إجراء المعاني الحقيقية للألفاظ هو تناقض وتهافت ، وكذلك قولهم أن الله يداً حقيقية ، لكن لا كالأيدي كلام ينقض آخره أوله والعكس ، لأن اليد بالمعنى الحقيقية لها تلك الكيفية المعلومة ، ونفي الكيفية منها هو حذف لحقيقتها.

وإذا كانت هذه الألفاظ الجوفاء تكفي لإثبات التنزيه الله عزوجل فيمكن أن

ص: 400

يقال ، إن الله جسماً بلا كيف ولا كالأجسام وله دم بلا كيف ولحم وشعر ... بلا كيف.

حتى قال أحد المشبهة : «إنما استحييت عن إثبات الفرج واللحية واعفوني عنهما واسألوا عما وراء ذلك»(1).

ولا يُفهم من ذلك أننا نؤمن بالتأويل في مثل هذه الآيات فلا يجوز تأويل ظواهر الكتاب والسنة بحجة أنها تخالف العقل بل ليس في القرآن والسنة ما يخالف العقل ، وما يتبادر من الظاهر أنه مخالف للعقل ، ليس بظاهر وإنما يتخيلونه ظاهراً .

وفي مثل هذه الآيات لا يحتاج الأمر إلى تأويل ، لأن اللغة تنقسم في دلالاتها المعنوية إلى قسمين :

1 - دلالة إفرادية .

2 - دلالة تركيبية.

فقد يختلف المعنى الإفرادي عن المعنى التركيبى إذا كان هناك قرينة تصرفه إلى ذلك ، ويكون موافقاً إذا لم توجد قرينة تصرفه عن المعنى الإفرادي فمثلاً : أسد - وهو مفرد - يتبادر إلى الذهن ذلك الحيوان المفترس الذي يعيش في الغابة ، ويفهم أيضاً نفس هذا المعنى في حالة التركيب إذا لم تكن هناك قرينة مثل قولك : رأيت أسداً يأكل فريسته في الغابة .

ص: 401


1- الشهرستاني ج 1 ص 96

ويتغير هذا المعنى تماماً إذا قلنا في الجمله التركيبية :

رأيت أسداً يقود سيارة .

فيكون المقصود منه ذلك الرجل الشجاع ، وهذا ديدن العرب في فهم الكلام فعندما يقول الشاعر :

أسد عليَّ وفي الحروب نعامة *فتخاء تنفر من صفير الصافر

فلا يمكن أن نفهم منه إلا ذلك الرجل الذي يتظاهر بالشجاعة أمام الضعفاء ويفر جبناً إذا لاقى الأعداء .

والذي يفهم هذا الكلام لا يمكن أن نسميه مؤولاً للنص خارجاً عن ظاهر الكلام .

وهكذا الحال في مثل هذه الآيات ، فعندما يقول تعالى مثلاً (یدالله فوق أيديهم فيكون معنى اليد القدرة من غير تأويل ، كالذي يقول :«البلد في ي-د السلطان» أي تحت تصرفه وإدارته ، ويصح هذا القول وإن كان سلطاناً مقطوع اليد وكذلك في بقية الآيات . نثبت المعنى التركيبي الذي يظهر من خلال بقية السياق ولا نجمد على المعنى الحرفي الفردي من غير تأويل أو تحريف ، وهذا هو العمل بالظواهر ولكن الظواهر التي تظهر من بقية السياق . وهؤلاء الحنابلة يضلون العامة بالظواهر الفردية دون الإجمالية التركيبية.

وبهذه الطريقة تكون ظواهر الكتاب والسنة حجة لا يجوز العدول عنها ولا يجوز لأحد تأويلها ، بعد إمعان النظر في القرائن المتصلة والمنفصلة ، والذي يحتج بالظواهر الفردية الحرفية فقد ضل وغفل عن كلام العرب.

ص: 402

وقبل أن نودع أحمد بن حنبل وعقائده ، أحببنا أن نطلع القارىء الكريم على كلمات أهل البيت وأحاديثهم في صفات الله ، لكي تعرف أن هذا النور الذي يصدر من كلماتهم هو من مشكاة القرآن الكريم، وأن عظم المأساة التى تعرض لها الفكر الإسلامي هي نتاج طبيعي لابتعادنا عن هذه الكلمات وأئمة أهل البيت : وصدق الإمام الصادق (علیه السلام) عندما قال : لو عرف الناس محاسن كلامنا لأتبعونا».

وأنقل إليك هذه الكلمات من كتاب التوحيد للشيخ الصدوق ، وهو كتاب ضخم حوى جواهر كلمات أهل البيت في باب التوحيد ، وأطلب من القارىء الكريم أن يتدبر في هذه الكلمات بعين البصيرة والفهم ، ثم يقارن بينها وبين ما جاء في كتاب السنة لعبدالله بن أحمد بن حنبل ، وكتاب التوحيد لابن خزيمة ، أو أي كتاب عند أهل السنة جمعت فيه أحاديث التوحيد وصفات الله سبحانه وتعالى .

ص: 403

خطبة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم

«الحمد لله الذي كان في أوليته وحدانياً ، وفي أزليته متعظماً بالإلهية ، متكبراً بكبريائه وجبروته ، ابتدأ ما ابتدع ، وأنشأ ما خلق على غير مثال كان سبق بشيء مما خلق ، ربنا القديم بلطف ربوبيته وبعلم خبره فتق وبأحكام قدرته خلق جميع ما خلق ، وبنور الإصباح فلق ، فلا مبدل لخلقه ، ولا مغير لصنعه ، ولا معقب لحكمه ، ولا راد لأمره ، ولا مستراح عن دعوته ولا زوال لملكه ولا انقطاع لمدته ، وهو الكينون أولاً والديموم أبداً ، المحتجب بنوره دون خلقه في الأفق الطامح ، والعز الشامخ والملك الباذخ ، فوق كل شيء علا ، ومن كل شيء دنا ، فتجلى لخلقه من غير أن يكون يُرى . وهو بالمنظر الأعلى فأحب

الاختصاص بالتوحيد إذ احتجب بنوره ، وسما في علوه ، واستتر عن خلقه، وبعث إليهم الرسل لتكون له الحجة البالغة على خلقه ويكون رسله إليهم شهداء عليهم ، وابتعث فيهم النبيين مبشرين ومنذرين ليهلك هلك من عن بينة ويحيي من حيا عن بيئة ، وليعقل العباد عن ربهم عن ربهم ما جهلوه فيعرفوه بربوبيته بعدما أنكروا ، ويوحدوه بالإلهية بعدما عضدوا» (1) .

ص: 404


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 44 الحديث رقم 4

حديث الرضا علیه السلام

عن الفتح بن يزيد الجرجاني قال : لقيتُه على الطريق عند مُنصَرَ في من مكة إلى خراسان وهو سائر إلى العراق فسمعته يقول : من اتقى الله يتقى ، ومن أطاع الله يُطاع .

فتلطفت في الوصول إليه فوصلت فسلّمت فردّ عليّ السلام ثم قال : يا فتح من أرضى الخالق لم يُبال بسخط المخلوق ، ومن أسخط الخالق فَقَمِن أن يسلط عليه سخط المخلوق ، وإن الخالق لا يوصَفُ إلا بما وصف به نفسه ، وأنى يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه ، والأوهام أن تناله ، والخطرات أن تحدّه ، والأبصار عن الإحاطة به ؟ جلّ عما وصفه الواصفون ، وتعالى عما ينعته الناعتون ، نأى في قربه ، وقرب في نايه ، فهو في بعده قريب، وفي قربه بعيد ، كيف الكيف فلا يقال له : كيف وأين الأين فلا يقال له : أين . إذ هو مبدع الكيفوفية والأينونية . يا فتح كل جسم مُغذّى بغذاء إلا الخالق الرزاق ، فإنه جَسَّم الأجسام ، وهو ليس بجسم ولا صورة ، لم يتجزأ ، ولم يتناه ، ولم يتزايد ، ولم يتناقص ، مُبرء من ذات ما ركَّب في ذاتِ من جَسَّمَه ، وهو اللطيف الخبير السميع البصير ، الواحد الأحد الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، مُنشىء الأشياء ومُجسّم الأجسام ، ومُصور الصور ، لو كان كما يقول المشبهة لم يعرف الخالق من المخلوق ، ولا الرازق من المرزوق ، ولا المنشىء من المُنْشأ ، لكنه المنشىء ، فرقٌ بين من جَسمَهُ وصَوَّرَهُ وشيَّاه وبينه إذ كان لا يشبهه شي .

ص: 405

قلتُ : فالله واحد والإنسان واحد ، فليس قد تشابهت الوحدانية ؟ فقال : أحَلْت ثبتك الله إنما التشبيه في المعاني فأما في الأسماء فهي واحدة وهي دلالة على المسمى ، وذلك أن الإنسان وإن قيل واحد فإنه يخبر أنه جثة واحدة وليس باثنين ، والإنسان نفسه ليس بواحد ، لأن أعضاءه مختلفة وألوانه مختلفة غير واحدة ، وهو أجزاء مجزأة ليس سواء دمه غير لحمه ، ولحمه غير دمه ، وعصبه غير عروقه ، وشعره غير بشره ، وسواده غير بياضه، وكذلك سائر جميع الخلق، فالإنسان واحد في الاسم ،لا واحد في المعنى والله جل جلاله واحد لا واحد غيره ، ولا اختلاف فيه ولا تفاوت ولا زيادة ولا نقصان ، فأما الإنسان المخلوق المصنوع المؤلف فمن أجزاء مختلفة وجواهر شتّى غير أنه بالاجتماع شيء واحد..

قلتُ : فرجت عني فرج الله عنك ، غير غير أنك قلت : السميع البصير ، سميع بالأذن وبصير بالعين ؟ فقال : إنه يسمع بما يُبصر ، ويرى بما يسمع ، بصير لابعين مثل عين المخلوقين ، وسميع لا بمثل سمع السامعين، لكن لما لم يخف عليه خافية من أثر الذرة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء تحت الثرى والبحار قُلنا : بصير، لا بمثل عين المخلوقين ، ولما لم يشتبه عليه ضروب اللغات ولم يشغله سمع عن سمع قلنا : سميع ، لا بمثل سمع السامعين ...» (1).

ص: 406


1- المصدر السابق ص 61 ح 18

خطبة أمير المؤمنين عليه السلام

الحمد لله الذي لا من شيء كان ، ولا من شيء كَوَّن ما قد كان ، مستشهد بحدوث الأشياء على أزليته وبما وسَمَها به من العجز على قدرته ، وبما اضطرها إليه من الفناء على دوامه ، لم يخلُ منه مكان فيُدرك بأينية ، ولا له شبه مثال فيوصف بكيفية ولم يغب عن علمه شيء فيعلم بحيثيَّة ، مُبائن الجميع ما أحدث في الصفات ، وممتنع عن الإدراك بما ابتدع من تصريف الذوات وخارج بالكبرياء والعظمة من جميع تصرف الحالات ، مُحرَّم على بوارع ثاقبات الفطن تحديده وعلى عوامق ناقبات الفكر تكييفه ، وعلى غوائص سابحات الفطر تصويره لا تحويه الأماكن لعظمته ، ولا تذرعه المقادير لجلالته، ولا تقطعه المقائيس لكبريائه ، ممتنع عن الأوهام أن تكتنهه ، وعن الأفهام أن تستغرقه وعن الأذهان أن تُمثّله ، قد يئست من استنباط الإحاطة به طوامح العقول ، ونضبت عن الإشارة إليه بالاكتناه بحار العلوم ، ورجعت بالصغرِ عن السمو إلى وصف قدرته لطائف الخصوم ، وأحدٌ لا من عدد ، ودائم لا بأمد ، وقائم لا يعمد ، ليس بجنس فتعادله الأجناس ، ولا بشبح فتضارعه الأشباح ، ولا كالأشياء فتقع عليه الصفات ، قد ضلّتِ العقول في أمواج تيار إدراكه ، وتحيّرت الأوهام عن إحاطة ذكر أزليته ، وحصرت الأفهام عن استشعار وصف قدرته ، وغرقت الأذهان في لجج أفلاك ملكوته ، مقتدر بالآلاء وممتنع بالكبرياء ، ومتملك على الأشياء فلا دهر يُخلقه ولا وصف يحيط به ، قد خضعت له ثوابت الصعاب في محل تخوم قرارها ،

ص: 407

وأذعنت له رواصن الأشباب في منتهى شواهق أقطارها مستشهد بكلية الإجناس على ربوبيته وبعجزها على قدرته ، وبفطورها على قدمته ، وبزوالها على بقائه ، فلا لها محيص عن إدراكه إياها ، ولا خروج من إحاطته بها ، ولا حتجاب عن إحصائه لها ولا امتناع من قدرته عليها كفى بإتقان الصنع لها آيةً ، ومُركَّب الطّبع عليها دلالة وبحدوث الفِطَر عليها قدمةً وبإحكام الصنعة لها عبرةً ، فلا إليه حد منسوبٌ ، ولا له مَثَلٌ مضروب ، ولا شيء عنه محجوب ، تعالى عن ضرب الأمثال والصفات المخلوقة علواً كبيراً (1) .

ص: 408


1- توحيد الصدوق ص 69 ح 26

ثانياً : مرحلة ابن تيمية ، أحمد بن عبدالحليم

بعد انتشار العقائد الأشعرية ، التي عمّت معظم البلدان الإسلامية ، حتى أصبحت المذهب الرسمى في الأصول لجمهور المسلمين ، قل ذكر ابن حنبل وتحجم مذهبه العقائدي، حتى ظهر ابن تيمية الذي ولد سنة 661 ه في بيت المشيخة الحنبلية وفي واحد من أهم معاقل الحنابلة في مدينة حران ، نشأ في هذه الأسرة وتتلمذ على يد والده الذي أفرد له كرسياً في دمشق بعد هجرته إليها ، ودرس على آخرين علوم الحديث والرجال واللغة والتفسير والفقه والأصول ، وبعد وفاة والده ترأس ابن تيمية حلقة التدريس ، وكانت هذه فرصته ليعيد لعقائد الحنابلة أمجادها ، فاستغل هذا المنبر في التكلم في صفات الله ، ذاكراً براهين تناصر عقيدة القائلين بالتجسيم ، وظهر هذا الأمر واضحاً عندما أجاب على أسئلة حماه عندما كتبوا إليه يسألونه عن آيات الصفات مثل قوله الرحمن على العرش استوى

وقوله ثم استوى إلى السماء ومثل قوله ( صلی الله علیه وآله وسلم) : «إن قلب ابن آدم بين اصبعين من أصابع الرحمن» فأجابهم برسالة طويلة ، سُميت بالعقيدة الحموية ، كشف فيها عن اعتقاده بالتجسيم والتشبيه ، من غير أن يفصح بذلك ، تستراً بألفاظ وكلمات لو رفعت لظهر واقع الأمر، فأحدثت هذه الرسالة ضجة في أوساط العلماء ، وأنكروا عليه ذلك ، فاحتمى بأمير دمشق الذي انتصر له.

وينقل ابن كثير في ذلك : كان وقع في دمشق محنة للشيخ تقي الدين ابن تيمية ، وقام عليه جماعة من الفقهاء ، وأرادوا إحضاره إلى مجلس القاضي جلال

ص: 409

الدين الحنفي فلم يحضر ، فنودي في البلد في العقيدة التي كان قد سأله عنها أهل حماه المسماة ب- (الحموية) ، فانتصر له الأمير سيف الدين جاعان ، وأرسل يطلب الذين قاموا عليه ، فاختفى كثير منهم ، وضرب جماعة ممن نادى على العقيدة فسكت الباقون» (1) .

وهكذا سكت العلماء عن العقائد المنحرفة بقوة السلطان ، فوجد ابن تيمية ماله ليتحدث كيف يشاء ، وقد نقل لنا شاهد عيان اعتقاد ابن تيميه في الله، وهو ذلك الرحالة الشهير ابن بطوطة ، فصادف أن حضر يوماً درس ابن تيمية في المسجد الأموي ، قال : وكنت إذ ذاك بدمشق فحضرت يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع، ويذكرهم فكان من جملة كلامه أن قال : إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كنز ولي هذا ، ونزل درجة من المنبر. فعارضه فقيه مالكي ، يُعرف بابن الزهراء وأنكر عليه ما تكلم به ، فقامت العامة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً حتى سقطت عمامته وظهر على رأسه شاشية حرير ، فأنكروا عليه لباسها واحتملوه إلى دار عز الدين بن مسلم قاضي الحنابلة ، فأمر بسجنه وعزره بعد ذلك (2).

وذكر هذه المقولة لابن تيمية ابن حجر العسقلاني في الدرر الكامنة ج 1 ص 154 ويظهر لك جلياً من ذلك تعصبه الشديد للمثبتين للصفات حتى وصل به

ص: 410


1- البداية والنهاية ج 14 ص 5 - 4 ، أحداث سنة 698 ه-
2- رحلة ابن بطوطة ج 1 ص 110

الحد أن يتشبّه بالله سبحانه ، وهذا هو الكفر والزندقة بعينه .

وقد تستر على هذه العقائد بقوله أنها عقائد السلف وما جرى عليه أمر المسلمين ، فيفتري على السلف ويتستر بهم ليواري سوء عقيدته ، مع العلم أن غطاء السلف قد حاول الحنابلة من قبل التلحف به ، ولكن من غير جدوى لكثرة المذاهب العقائدية التي كانت قبل أحمد وبعده ، وهذه الاختلافات تؤكد على عدم وحدة المسلمين على عقيدة واحدة، وكل من المذاهب يدعي وصلاً بليلى ، وليلى لا تقر لهم بذلك .

ويكذب الشهرستاني ادعاء ابن تيمية المذهب السلف كما ذكر في الملل والنحل : «ثم إن جماعة من المتأخرين زادوا على ما قاله السلف فقالوا : هذه الآيات لابد من إجرائها على ظاهرها ، والقول بتفسيرها كما وردت من غير تعرض للتأويل ولا توقف في الظاهر - كما فعل ابن تيمية -- فوقعوا في التشبيه الصرف ، وذلك على خلاف ما اعتقده السلف . ولقد كان التشبيه صرفاً خالصاً في اليهود لا في كلهم ، بل لعلها القراء أو القرائين منهم ، إذ وجدوا في التوراة ألفاظاً كثيرة تدل على ذلك»(1).

وقد خدع ابن تيمية العامة بإطلاقاته الكثيرة مثل قوله : «أما الذي أقوله الآن وأكتبه ، وإن كنت لم أكتبه فيما تقدم من أجوبتي ، وإنما أقوله في كثير من المجالس : إن جميع ما في القرآن من آيات الصفات، فليس عن الصحابة اختلاف

ص: 411


1- الملل والنحل ص 84

في تأويله ، وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة ، وما رووه من الحديث ،ووقفت على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير، فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئاً من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف»(1).

وبهذا الإطلاق يصدّق العوام مقالته ، وبقليل من المراجعة في كتب التفاسير المأثورة يظهر لنا كذب ابن تيمية ، إما في عدم مراجعته للتفاسير ، أو في الادعاء بعدم وجود تأويل في آيات الصفات من الصحابة ، وأكتفي لك بالشواهد :

إذا راجعنا تفسير الطبري، والذي يصفه ابن تيمية بقوله : ليس فيه بدعة ، ولا يروي عن متهمين(2) .

وعندما نراجع فيه آية الكرسي التي اعتبرها ابن تيمية من أعظم آيات الصفات ، كما في الفتاوي الكبيرة ج 6 ص 322.

يورد الطبري روايتين بالإسناد إلى ابن عباس ، في تفسير قوله تعالى «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ».

قال : اختلف أهل التأويل في معنى الكرسي ، فقال بعضهم هو علم الله تعالى ذكره ، وذكر من قال ذلك بإسناده أن ابن عباس قال : كرسيه علمه.

ورواية أخرى بإسناد عن ابن عباس أيضاً ، قال : كرسيه علمه ، ألا ترى في

ص: 412


1- تفسير سورة النور ، ابن تيمية ص 178 - 179
2- المقدمة في أصول التفسير ص 51

قوله : « وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا »(1).

انظر وتعجب ، في الكذب المحض ، فهو يقول : «أن السلف لم يختلفوا في شيء من الصفات» والطبري يقول : اختلف أهل التأويل» ويطلق ابن تيمية قوله : «لم أجد إلى ساعتي هذه أحداً من الصحابة تأول شيئاً من آيات الصفات» رغم ادعائه أنه راجع مائة تفسير ، والطبري يذكر روايتين عن ابن عباس .

وإليك الشاهد الثاني : من نفس تفسير الطبري، في تفسير قوله تعالى :«وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ».

يقول الطبري : واختلف أهل البحث في معنى قوله «وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» فقال بعضهم : يعني بذلك وهو علي عن النظير والأشباه ، وأنكروا أن يكون معنى ذلك هو العلي : المكان . وقالوا : غير جائز أن يخلو منه مكان ولا معنى لوصفه بعلو المكان لأن ذلك وصف بأنه في مكان دون مكان»(2).

هذا هو قول السلف ، ولكن ابن تيمية اختار لنفسه طريقاً آخر ، فلم يجد من يؤيده فنسبه إلى السلف ، فنرى السلف لا يؤمنون بالمكان الله سبحانه ، ونرى ابن تيمية يحشد مجموعة من الآيات والأحاديث ليثبت بها مكان الله سبحانه وتعالى في رسالته لأهل حماة ، فيصل إلى قوله : ... إن الله سبحانه على العرش استوى ، وأنه فوق

ص: 413


1- تفسير الطبري ج 3 ص 7
2- تفسير الطبري ج 3 ص 9

السماء» (1) ويقصد بذلك المكان .

أما في تفسير ابن عطية الذي يعتبره ابن تيمية أرجح التفاسير فقد أورد ما أورده الطبري من روايات ابن عباس ، ثم علق على بعض الروايات التي ذكرها الطبري وتمسك بها ابن تيمية بقوله : هذه أقوال جهلة مجسمين وكان الواجب ألا تُحكى» (2) .

وهذا شاهد أخير في تفسير قوله تعالى : «كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ »القصص 88 .

وقوله : «وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ »الرحمن 27 . التي يثبت بها ابن تيمية الوجه على الحقيقة.

قال الطبري : واختلف في معنى قوله (الا وجهه) فقال بعضهم معناه كل شيء هالك إلا هو.

وقال آخرون : معنى ذلك إلا ما أريد به وجهه ، واستشهدوا بتأويلهم بقول الشاعر :

استغفر الله ذنباً لست محصيه * رب العباد إليه الوجه والعمل (3)

ولم يزد على ذلك شيئاً.

ص: 414


1- العقيدة الحموية الكبرى، مجموع الرسائل الكبرى لابن تيمية ص 429 - 432
2- فتح القدير للشوكاني ج 1 ص 272
3- تفسير الطبري ج 20 ص 82

وقال البغوي : (إلا) (وجه أي إلا هو ، وقيل إلا ملكه .

قال أبو العالية : إلا ما أريد به وجهه (1) ولم يزد على ذلك.

وفي الدر المنثور عن ابن عباس قال : المعنى إلا ما يريد به وجهه.

وعن مجاهد : إلا ما أريد به وجهه.

وعن سفيان : إلا ما أريد به وجهه من الأعمال الصالحة .

هذا قول السلف ، ولم يزد فيهم واحد على ذلك ، فمن أين بعد ذلك لابن تيمية ، أن يقول : هذا قول السلف ... !

فلا نقول له إلا قوله تعالى :« لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون» 61 آل عمران .

«إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ » البقرة 159 .

... ولذلك لم يسكت العلماء المعاصرون على قوله ، وأفتوا فيه ونفّروا الناس عنه ، حتى سجن ومنع من الكتابة داخل السجن ، ومات مسجوناً في دمشق لعقائده الفاسدة ولآرائه الشاذة ، وقد رد عليها كثير من العلماء والحفاظ ، وأرسل إليه الذهبي رسالة يعاتبه فيها على ما جاء به من معتقدات ، وهي طويلة نكتفي منها ببعض الشواهد ، وقد ذكرها العلامة الأميني بطولها في كتابه الغدير ج 5 ص 88 .. نقلاً عن تكملة السيف الصقيل للكوثري ص 190:

ص: 415


1- تفسير البغوي ج 3 / 459

«يا خيبة من اتبعك ، فإنه معرض للزندقة والانحلال ، ولا سيما إذا كان قليل العلم والدين باطنياً شهوانياً ، لكنه ينفعك ويجاهد عنك بيده ولسانه ، وفي الباطن عدو لك بحاله وقلبه فهل معظم أتباعك إلا قعيد مربوط خفيف العقل ؟

أو عامي كذاب بليد الذهن ؟

أو غريب واجم قوي المكر ؟

أوناشف طالح عديم الفهم ؟

فإن لم تصدقني ففتشهم وزنهم بالعدل ...».

وجاء في الدرر الكامنة لابن حجر العسقلاني ج 1 ص 147 :

فمن هنا وهناك ردوا عليه ، ما أبدعته يده الأثيمة من المخاريق التافهة والآراء المحدثة ، الشاذة ، عن الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، ونودي عليه بدمشق : من اعتقد عقيدة ابن تيمية ، حل دمه وماله ».

وقال فيه الحافظ عبدالكافي السبكي ، وقد ألف في الرد على ابن تيمية كتاباً سماه شفاء الأسقام في زيارة خير الأنام عليه الصلاة والسلام .

وقال في خطبة كتابه - الدرة المضيئة في الرد على ابن تيمية : «أما بعد فإنه لما أحدث ابن تيمية ما أحدث في أصول العقائد ، ونقض من دعائم الإسلام الأركان والمعاقد، بعد أن كان مستتراً بتبعية الكتاب والسنة ، مظهراً أنه داع إلى الحق ،هاد إلى الجنة ، فخرج عن الإتباع إلى الإبتداع ، وشدّ عن جماعة المسلمين بمخالفة الإجماع ، وقال بما يقتضي الجسمية والتركيب في الذات المقدسة وإن

ص: 416

الافتقار إلى الجزء ليس بمحال ، وقال بحلول الحوادث بذات الله تعالى ...» (1).

وعشرات العلماء الذين اعترضوا عليه ، ولا يتسع المقام لتتبع كلماتهم وإيراد أقوالهم ، ونكتفي في الختام بقول شهاب الدين ابن حجر الهيثمي ، قال في ترجمة ابن تيمية : ابن تيمية عبد خذله الله ، وأضله ، وأعماه ، وأصمه ، وأذله ، بذلك صرح الأئمة الذين بينوا فساد أحواله ، وكذبوا أقواله ، ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة الإمام المجتهد المتفق على إمامته وجلالته وبلوغه مرحلة الاجتهاد أبي الحسن السبكي وولده التاج والشيخ الإمام العز بن جماعة ، وأهل عصرهم وغيرهم من الشافعية والمالكية والحنفية ، ولم يقصر اعتراضه على متأخري السلف الصوفية بل اعترض على مثل عمر بن الخطاب وعلي ابن أبيطالب رضي الله عنهما والحاصل أنه لا يقام لكلامه وزن بل يرمى في كل وعر وحزن ، ويعتقد فيه أنه مبتدع ، ضال ، مضل ، غال ، عامله الله بعدله ، وأجارنا من مثل طريقته وعقيدته وفعله . آمين ! ... إلى أن قال : إنه قائل بالجهة وله في اثباتها جزء، ويلزم أهل هذا المذهب الجسمية والمحاذاة والاستقرار» (2) .

... نكتفي بهذا القدر عن ابن تيمية ، وسوف نتناول بعض أفكاره بالتحليل العلمي والرد عليها عندما نتحدث عن الوهابية ، لأنها هي الامتداد التاريخي لعقائد ابن تيمية ، الذي هو بدوره امتداد لعقائد الحنابلة .

ص: 417


1- الملل والنحل ج 4 ص 41 - 42 ، السبحاني
2- المصدر السابق ص 48

ولقد تفنّن الرجل في خلط الحق بالباطل ، ولذلك ظن فيه بعض المسلمين الخير ، فسموه - شيخ الإسلام - واشتهر أمره وانتشر ، وإلا فالباطل المطلق لا أنصار له.

وقد قال أمير المؤمنين (علیه السلام) في ذلك : «إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع ، وأحكام تبتدع ، يخالف فيها كتاب الله ، ويتولى عليها رجال رجالاً على غير دين الله . فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين ، ولو أن الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين ، ولكن يؤخذ من هذا ضغت ومن هذا ضغث فيمزجان ، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه ، وينجو الذين سبقت لهم منا الحسنى» نهج البلاغة خطبة 50 .

ص: 418

ثالثاً : مرحلة محمد بن عبدالوهاب

قام ابن عبدالوهاب مجدداً لعقائد الحنابلة بعد أن أشرب في قلبه فكر ابن تيمية ، فأعلن حركته في نجد وبدأ تحركه في المنطقة التي شهدت أسوأ أنواع الكبت والظلم والقتل والتشريد ، وبلغت العقيدة الحنبلية المتحجرة عظمتها ومجدها و دخلت في إطارها التطبيقي على الواقع الخارجي ، لأول مرة في تاريخها بعد أن مرت بمرحلتين لم تجد فيهما كبير حظ وعناية ، وكان السبب في ذلك أن الأشاعرة احتكروا الساحة العقائدية بعد أحمد بن حنبل مباشرة ، أما في المرحلة الثانية إن ابن تيمية افتقد الأرضية الكفيلة بإنجاح دعوته لأنه بنها بين أوساط علمية كان فيهم كبار العلماء والفقهاء ، فأخمدوا ضوضاءها بالاستدلال والبرهنة فاروا في وجهه ثورة أخمدت دعوته وأبطلت كيده ، وكانت السلطة أيضاً ناصرت العلماء في مجابهتهم له ، فلم يكن لبذرة الفساد نصيب سوى الكمون في ثنايا الكتب ، أو النجاح في مرضى القلوب» (1) .

وعكس هذا فقد كانت الأجواء مهيأة لمحمد بن عبدالوهاب في نشر أفكاره وسمومه في الأمة ، فكان الجهل والأمية في كل مكان من أقاليم نجد ، بالإضافة إلى سلطة آل سعود التي آلت على نفسها نشر الدعوة بحد السيف ، وبهذه العوامل حملوا الناس على الإيمان بالوهابية ، وإلا حكموا عليهم بالكفر والشرك وأحلوا ما

ص: 419


1- الملل والنحل للسبحاني ج 4 ص 353

لهم ودمهم ... مبررين ذلك بمجموعة عقائد فاسدة تحت عنوان التوحيد الصحيح ، فيبدأ ابن عبدالوهاب الحديث عن التوحيد بقوله : «... وهو نوعان : توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ، أما توحيد الربوبية فيقر به الكافر والمسلم ، وأما توحيد الألوهية فهو الفارق بين الكفر والإسلام ، فينبغي لكل مسلم أن يميز بين هذا وهذا ويعرف أن الكفار لا ينكرون أن الله هو الخالق الرازق المدبر ، قال الله تعالى :«قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ » (1)«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ » (2). فإذا ثبت لك أن الكفار يقرون بذلك ، عرفت أن قولك لا يخلق ولا يرزق إلا الله ، ولا يدبر الأمر إلا بالله ، لا يصيرك مسلماً حتى تقول: لا إله إلا الله مع العمل بمعناها» (3) .

وبهذا المفهوم الساذج البسيط الذي لا ينم إلا عن جهل بحكمة الله وآياته ، يكفر كل المجتمع بعد أن يصل إلى مراده بقوله : «إن مشركي زماننا أي المسلمين أغلظ شركاً من الأولين ، لأن أولئك يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة ، وهؤلاء شركهم في الحالتين لقوله تعالى : «فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ

ص: 420


1- يونس : 31
2- العنكبوت : 61
3- في عقائد الإسلام ، من رسائل الشيخ محمد بن عبدالوهاب ص 38

مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ»العنکبوت 65»(1).

فكل من يتوسل برسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) وأهل بيته (علیهم السلام) أو يزور مقاماتهم هو مشرك كافر ، بل شركه أعظم من شرك عبدة اللات والعزى ومناة وهبل ، وتحت هذه العقيدة قتل الأنفس ونهب الأموال ، وسبي الذراري من مسلمي نجد

والحجاز ، وكان شعارهم :هذا لم يرو عن عالم من

أدخل في الوهابية وإلا فالقتل لك والترمل لنسائك واليتم لأطفالك .

ويقول أخوه سليمان بن عبدالوهاب في رده عليه في كتاب (الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية) : «حدثت من قبل زمان الإمام أحمد في زمن أئمة الإسلام حتى ملئت بلاد الإسلام كلها ولم يرو عن أحد من أئمة المسلمين أنهم كفّروا بذلك ولا قالوا هؤلاء مرتدون ولا أمروا بجهادهم ، ولا سموا بلاد المسلمين بلاد شرك وحرب كما قلتم أنتم ، بل كفرتم من لم يكفر بهذه الأفاعيل وإن لم يفعلها ، وتمضي قرون على الأئمة من ثمانمائة عام ومع هذا لم يرو عن عالم من علماء المسلمين أنه كفّر بل ما يضن هذا عاقل ، بل والله لازم قولكم أن جميع الأمة بعد زمان أحمد - رحمه الله تعالى - علماؤها وأمراؤها وعامتها كلهم كفار مرتدون ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، واغوثاه إلى الله ! ثم واغوثاه أن تقولوا كما يقول بعض عامتكم أن الحجة ما قامت إلا بكم ...»(2).

ص: 421


1- محمد بن عبدالوهاب رسالة أربع قواعد ص 4
2- الصواعق الالهية : ص 38

ويقول أيضاً في ص 4 : «فإن اليوم ابتلي الناس بمن ينتسب إلى الكتاب والسنة ويستنبط من علومهما ولا يبالي من خالفه . وإذا طلبت منه أن يعرض كلامه على أهل العلم لم يفعل ، بل يوجب على الناس الأخذ بقوله وبمفهومه ، ومن خالفه فهو عنده كافر ، هذا وهو لم تكن فيه خصلة واحدة من فعال أهل الاجتهاد لا والله ، ولا عُشْرُ واحدة ، ومع هذا فراح كلامه ينطلي على كثير من الجهال ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، الأمة كلها تصيح بلسان واحد ومع هذا لا يرد لهم في كلمة بل كلهم كفار وجهال : اللهم اهد هذا الضال ورده إلى الحق .

مناقشة توحيد الربوبية

ولكي نبين الخطأ الذي تعمده ابن عبدالوهاب ، والاشتباه الذي وقع فيه كثير من أتباعه ، والذي على أساسه يكفرون غالبية المسلمين إلى عصرنا هذا ، لابد أن نطرح أفكاره على طاولة البحث والتدقيق.

ونبدأ هنا بتوحيد الربوبية : فتفسير الرب بمعنى الخالق ، بعيد عن مراد القرآن . فمعنى الرب في اللغة والقرآن الكريم لا يخرج عن معنى من بيده أمر التدبير والإدارة والتصرف وقد ينطبق هذا المعنى الكلي على مصاديق متعددة مثل التربية والإصلاح والحاكمية والمالكية والصاحبية، ولا يمكن حمل الرب على معنى الخالقية كما ذهبت إليه الوهابية التي بنت على أساسه أهرامات من الأفكار المنحرفة . ولكي يثبت هذا الخطأ بجلاء تعال نتدبر ه-ذه الآيات القرآنية لكي نكتشف منها معنى الرب في الكتاب العزيز :

قال تعالى : «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ » البقرة 21 .

ص: 422

وقال تعالى : «قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ » الأنبياء 56.

فلو كان الرب بمعنى الخالق لم يكن هناك حاجة لذكر( الذي خلقكم) أو (الذي فطرهن) مرة أخرى ، وإلا يصبح تكراراً من غير معنى ، فإذا وضعنا بدل الرب في الآيتين لفظة [الخالق] ، لم يكن هناك حاجة لقوله( الذي خلقكم)( الذي فطرهن )بخلاف إذا قلنا أن معنى الرب هو المدبر ، المتصرف إذ تكون الحاجة إلى الجملة الأخيرة متحققة ، فيكون معنى الآية الأولى، أن الذي خلقكم هو مدبركم ، وفي الآية الثانية أن خالق السموات والأرض هو المتصرف فيه المالك لتدبيرهما ، والشواهد على ذلك كثيرة لا يتسع المجال التفصيل فيها.

وعلى ذلك فقوله : «أما توحيد الربوبية فيقر به الكافر والمسلم» كلام لا وجه له وتخالفه النصوص القرآنية الصريحة ، قال تعالى : «قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ»الأنعام 164 ، هذا خطاب من الله سبحانه إلى رسوله (صلی الله علیه وآله وسلم) ، ليقول لقومه ، أتأمروني أن أتخذ رباً أقر له بالربوبية والتدبير غير الله الذي لا مدبر سواه ، كما تتخذون أنتم أصنامكم وأوثانكم وتقرون لها بالتدبير ، وإذا كان الكفار يقرون بالربوبية الله وحده ، كما يزعم ابن عبدالوهاب لكان ليس لهذه الآية معنى ، فتكون زائدة ونازلة عبثاً - والعياذ بالله - لان كل الناس على حد زعمه مسلمهم وكافرهم يوحدون الله في ربوبيته فلا يأمرون الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) بأن يتخذ رباً غير الله ، ومثل هذه الآية ما نزل في مؤمن آل فرعون ، قال تعالى : ...« أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ »غافر 28.

وعشرات الآيات تؤكد أن الرب لا يعني الخالق ، وإنما يعني المدبر الذي بيده

ص: 423

تدبیرالأمور ، والرب بهذا المعنى كما تؤكد الآيات لم يكن موضع اتفاق بين البشر ، ولم يكن ابن عبدالوهاب إلا تلميذاً مقلداً لابن تيمية . فقد نقل منه هذه الفكرة من غير تدبر فيها فكان خطره على المسلمين أعظم ، لأن ابن تيمية لم يخرج هذه الفكرة من إطار الاصطلاح والمنهج العلمي ، بخلاف ابن عبدالوهاب الذي ساعدته الظروف على ممارسة هذه الفكرة على الواقع العملي وتطبيقها على المسلمين ، فكانت نتيجتها تكفيرهم ما عدا الوهابية، ولكي يتضح لك ذلك نتناول نظرته حول توحيد الألوهية.

مناقشة توحيد الألوهية :

يقصد الوهابية بتوحيد الألوهية أنه صرف العبادة الله سبحانه وتعالى ، وأن لا يُشرك في عبادته غيره ، وهذا هو التوحيد الذي بعث الله الأنبياء والرسل من أجله.

لا إشكال ولا غبار على هذا المفهوم، وإن كان هناك إشكال فهو في نفس الاصطلاح لأن الله في القرآن لا يعني المعبود ، فيمكننا أن نسمي هذا التوحيد بتوحيد العبادة ولكن لا كلام لنا في الاصطلاحات إذا اتفقنا في المفاهيم .

قد أجمع المسلمون على وجوب اجتناب عبادة غير الله ، وأن يفرد الله تعالى وحده بالعبادة ، ولكن الخلاف هو في تحديد - مفهوم العبادة - وهو أهم شيء في هذا الباب ،لأنه المكان الذي زلت فيه أقدام الوهابية ، فإذا قلنا أن التوحيد الخالص هو صرف العبادة الله تعالى ، لا يكون له معنى إذا لم نحدد مفهوم العبودية. ونعرف حدودها وضوابطها ، حتى يكون لنا معيار ثابت نعرف به الموحد من

ص: 424

المشرك ، فمثلاً الذي يتوسل ، ويزور مقابر الأولياء ويعظمهم ، هل يعد مشركاً أم موحداً ؟ وقبل الإجابة لابد لنا من ضابط نكتشف به مصاديق العبادة في الواقع الخارجي.

مناقشة الوهابية في مناط مفهوم العبادة

اعتبرت الوهابية أن مطلق الخضوع والتذلل والتكريم عبادة.

فكل من يخضع أو يتذلل لشيء يعتبر عابداً له ، فمن يخضع ويتذلل لنبي من أنبياء الله أو ولي من أوليائه بأي شكل من أشكال الخضوع يكون عابداً له ، وبالتالي مشركاً بالله تعالى ، فالذي يسافر ويقطع المسافات من أجل زيارة رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) حتى يُقبل ضريحه الطاهر ويتمسح به تبركاً يُعتبر كافراً مشركاً ، وكذلك الذي يبني المشاهد والقبب على الأضرحة لتكريمها وتعظيمها .

يقول ابن عبدالوهاب في إحدى رسائله : «... فمن قصد شيئاً من قبر أو شجر أو نجم أو ملك مقرب أو نبي مرسل لجلب نفع أو كشف ضر فقد اتخذ إلهاً من دون الله ، فكذَّب بلا إله إلا الله ، يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل ، وإن قال هذا المشرك : لم أقصد إلاالتبرك ، وإني لأعلم أن الله هو الذي ينفع ويضر . فقل له : إن بني إسرائيل ما أرادوا إلا ما أردت ، كما أخبر الله عنهم أنهم لما جاوزوا البحر أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة فأجابهم بقوله إنكم قوم تجهلون ...» (1).

ص: 425


1- عقائد الإسلام ، من رسائل الشيخ محمد بن عبدالوهاب ص 26

ويقول في رسالة أخرى: «... وأيضاً من تبرك بحجر أو شجر أو مسح علىقبر أو قبة يتبرك بهم فقد اتخذهم آلهة ...» (1) .

ثم انظر إلى هذا الوهابي، محمد سلطان المعصومي ، كيف وصف المسلمين الموحدين الذين يزورون قبر رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ، ويتبركون بمقامه الطاهر ويقولون : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، يقول في حقهم : ... والعبد الضعيف في زياراتي الأربع للمدينة الطيبة ، قد أمعنت النظر فشاهدت في المسجد النبوي وعند قبره الشريف، ما يضاد الإيمان ويهدم الإسلام ويبطل العبادات من الشركيات والوثنيات الصادرة من الغلو وتراكم الجهالات والتقليد الجامد الأعمى أو التعصب الباطل ، وغالب من يرتكب هذه المنكرات بعض الغرباء من أهل الآفاق ، مما لا خبر له عن حقيقة الدين ، فإنهم قد اتخذوا قبر النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) وثناً غلواً في المحبة وهم لا يشعرون» (2) .

ولكى يتضح الخلط والجهل الذي ارتكبه الوهابية لابد أن تنقض هذه القاعدة التي اعتمدوها مقياساً في معرفة العبادة ، وهو الخضوع والتذلل والتكريم.

لا يمكن شرعاً وعقلاً حمل مطلق الخضوع والتذلل على العبادة ، فنحن نرى

ص: 426


1- المصدر السابق
2- المشاهدات المعصومية عند قبر خير البرية ص 15

كثيراً من الأمور التي يمارسها الإنسان في حياته الطبيعية ، يتخللها الخضوع والتذلل ، مثل خضوع التلميذ لأستاذه والجندي أمام قائده ، ولا يمكن أن يتجرأ إنسان ويصف عملهم هذا بالعبادة ، فقد أمرنا الله سبحانه بإظهار الخضوع والتذلل للوالدين ، قال تعالى : «وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ » (1)والخفض هنا كناية عن الخضوع الشديد ، فلا يمكن أن نسمي هذا العمل عبادة بل إن شعار المسلم هو التذلل والخضوع للمؤمن والتعزز على الكافر قال تعالى : «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ» وإذا كان التذلل عبادة يكون قد أمر الله المؤمنين بأن يعبدوا بعضهم البعض ، وهذا محال .

وهناك آيات أكثر وضوحاً في هذا الآمر ، وتنفي تماماً ما ادعته الوهابية ، منها سجود الملائكة لآدم ، والسجود هو أعلى مراتب الخضوع والتذلل . قال تعالى :َ«وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ...» البقرة 34 .

فإذا كان السجود لغير الله سبحانه وإظهار قمة الخضوع والتذلل عبادة كما تدعي الوهابية فيتحتم عليها أن تسمى الملائكة - والعياذ بالله - مشركين كفاراً ، وأن تسمي آدم طاغوتاً ، فمالهم لا يتدبرون القرآن ؟ أم على قلوبهم أقفالها ؟

ومن هذه الآية نعرف أن قمة الخضوع ليس عبادة ، ولا يعترض معترض بقوله إن السجود ليس بمعناه الحقيقي ، أو إن المقصود من السجود لآدم (ع) هو جعله قبلة كما يجعل المسلمون الكعبة المشرفة قبلة - فإن كلا الاحتمالين باطل،

ص: 427


1- الاسراء 24

لأن السجود الظاهر من هذه الآية هو الهيئة المتعارفة . ولا يجوز صرفه إلى أي معنى آخر ، وأما كونه قبلة فهذا تأويل من غير مصدر ولادليل ، كما أن السجود لآدم لو كان معناه أن آدم (علیه السلام) كان قبلة لما كان لإبليس أي مبرر للاعتراض حيث السجود لا يكون لآدم بذاته ، وقد أكد القرآن الكريم خلاف ذلك بقول إبليس : « أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا » ففهم إبليس من الأمر الإلهي السجود لنفس آدم ( علیه السلام) . لذلك اعترض بقوله : (... أنا خير منه) أي أفضل فكيف يسجد الأفضل للمفضول وإذا كان المقصود من السجود هو اتخاذ آدم قبلة فلا يلزم من ذلك أن تكون القبلة أفضل من الساجد ، فبذلك لا يكون لآدم حظ من الفضل وهذا خلاف ظاهر الآية . والذي يؤكد ذلك قول إبليس : « أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ...أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ » الاسراء 61 - 62 .

فامتناع إبليس عن السجود كان لأن في هذا السجود لآدم (علیه السلام) منزلة وفضلاً عظيماً ، وقد اعترض عليَّ أحد الوهابية يوماً - وهو أمير جماعة أنصار السنة فى مدينة

بربر شمال السودان - في هذا المبحث بقوله إن سجود الملائكة كان بأمر الله ، وهو يظن بذلك أنه ألقمني حجراً وأبطل حجتي . قلتُ له : إذن أنت ما زلت تصر على أن هذا الفعل هذا الفعل - وهو السجود - من مصاديق الشرك بل هو الشرك بعينه ، ولكن أمر الله

به . قال نعم .

قلت : وهل هذا الأمر الإلهي يخرج سجود الملائكة لآدم (علیه السلام) من الشركية.

قال : نعم .

قلت : هذا كلام لا وجه له ، ولا يقبله جاهل فضلاً عن عالم ، فإن الأمر الإلهى

ص: 428

لا يغير ماهية الشيء ولا يبدل موضوعه ، فمثلاً إن ماهية السب والشتم هي الإهانة ، فإذا أمرنا الله تعالى بسب فرعون فهل هذا الأمر الإلهي يغير ماهية السب ، فيكون سبّنا له مدحاً وتكريماً لفرعون .... ؟!

وأيضاً إذا حرم الله علينا ضيافة شخص معين ، فلا يغير هذا التحريم ماهية الضيافة وهي الإكرام والاحترام فتصبح الضيافة إهانة للضيف ، فإذا اعتبرت أن السجود شرك وعبادة ، فإذا أمر الله به فلا يغير هذا الأمر ماهيته ، فيصبح السجود بالأمر الإلهي توحيداً خالصاً ، وهذا محال ، فيلزم من كلامك أن تتهم الملائكة بالشرك.

بدأت الحيرة على وجهه وظل ساكتاً .

قطعت صمته قائلاً : أمامك أمران ، إما أن يكون هذا السجود خارجاً من الأساس عن إطار العبادة ... وهذا ما نقوله .

وإما أن يكون هذا السجود من أجلى مصاديق العبادة وتكون الملائكة الساجدة مشركة ولكنه شرك أذن الله به وأجازه ، وهذا ما لا يقول به مسلم عاقل ، وهو مردود بقوله تعالى: « قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ » الأعراف 28 .

فلو كان السجود عبادة وشركاً لما كان الله سبحانه وتعالى يأمر به.

وقد أخبرنا القرآن أيضاً بسجود أخوة يوسف وأبيه ، وهذا السجود لم يكن بالأمر الإلهي ، ولم يصفه الله سبحانه بالشرك ، ولم يتهم أخوة يوسف وأباه بذلك ، قال تعالى : «وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا

ص: 429

430

تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا »يوسف 100 .

وكانت هذه الرؤية في الآية : « إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ».

فقد عبر الله تعالى في الموضعين بالسجود ليوسف ، وبهذا يستفاد أن مجرد السجود أو أي عمل يظهر منه الخضوع والتذلل والتعظيم ليس عبادة . وبهذا لا يمكن أن نسمي ذلك المسلم الموحد الذي يخضع ويتذلل أمام قبر رسول الله وأضرحة الأئمة والأولياء مشركاً عابداً للقبر ، لأن الخضوع لا يعني العبادة ولو أن مثل هذا العمل عبادة للقبر لكان عمل المسلمين في الحج من الطواف حول البيت الحرام والسعي بين الصفا والمروة وتقبيل الحجر الأسود أيضاً عبادة لأن هذه الأعمال من حيث الشكل والظاهر لا تختلف عن الطواف بقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو تقبيله أو التمسح به ، ورغم ذلك نجد الله سبحانه وتعالى يقول :«وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ »الحج 29 . وقال جل شأنه:«إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ».

فهل ترى أن الطواف بالحجارة والطين عبادة لها ؟

لو كان مطلق الخضوع عبادة للزم أن تكون هذه الأفعال عبادة ، ولا مخرج هنا بالأمر الإلهي ، كما وضحنا أن الأمر الإلهي لا يغير ماهية الفعل ، ولكن مشكلة الوهابية أنهم لم يفهموا العبادة ولم يعرفوا روحها وحقيقتها ، فيتعاملون فقط بالظواهر والأشكال ، فعندما يروا ذلك الزائر يقبل مقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يذهب

ص: 430

ذهنهم إلى ذلك المشرك الذي يقبل صنمه ، فينتزع الحكم من تلك الحالة الذهنية

لينسبها إلى ذلك الموحد الذي يقبل مقام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا هو الاشتباه ، فلو كان مجرد الشكل الخارجي كافياً للحكم لوجب عليهم أن يكفروا كل من يقبل الحجر الأسود ، ولكن الواقع غير ذلك ... فتقبيل الحجر الأسود من المسلم توحيد خالص ، وتقبيل الصنم من الكافر يُعد شركاً خالصاً .

فما هو الفرق ؟!

هناك ضابط آخر نتعرف به على العبادة ، وهو :

تعريف العبادة بالمفهوم القرآني

العبادة هي الخضوع اللفظي والعملي عن اعتقاد بألوهية المعبود أو ربوبيته أو الاعتقاد باستقلاله في فعله أو بأنه يملك شأناً من شؤون وجوده وحياته على وجه الاستقلال.

فكل عمل مصحوب بهذا الاعتقاد يُعد شركاً بالله ، ولذلك نجد أن مشركي الجاهلية كانوا يعتقدون بألوهية معبوداتهم وقد صرح القرآن بذلك ، قال تعالى : «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا »مريم 81 أي كان هؤلاء يعتقدون بألوهية معبوداتهم .

قال الله تعالى :«الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» الحجر96 .

فهذه الآيات تردُّ الوهابية على أعقابهم حيث تُصرح أن الشرك الذي كان يقع فيه الوثنيون هو من باب اعتقادهم بألوهية معبوداتهم ، وقد نص الله سبحانه على

ص: 431

هذا الأمر في قوله تعالى : «وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ » الحجر 94 - 96

فتحدد هذه الآيات الملاك الأساسي في قضية الشرك ، وهو الاعتقاد بألوهية المعبود ، ولذلك استنكروا واستكبروا على عقيدة التوحيد التي جاء بها الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ، قال تعالى :«إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ » .

ولذلك كانت دعوة الأنبياء لهم محاربة اعتقادهم بإله غير الله سبحانه وتعالى ، حيث يمتنع عقلاً عبادة من لا يعتقد بألوهيته ، فيعتقد أولاً ثم يعبد ثانياً .

قال تعالى : « يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ »الأعراف 59 . فبين القرآن الكريم بذلك انحرافهم عن الإله الحقيقي.

فإذا المناط في الشرك ، هو الخضوع المقترن بالاعتقاد بالألوهية ، وقد يكون الشرك ناتجاً من الاعتقاد بربوبية المعبود ،أي كونه مالكه ومسيطراً على أمره من الخلق والرزق والحياة والممات ، أو لكونه مالكاً للشفاعة والمغفرة ، فالذي يخضع لشيء معتقداً بربوبيته يكون عابداً له ، ولذلك جاءت الآيات القرآنية تدعوا الكفار والمشركين لعبادة الربّ الحق ، قال تعالى :«وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ » المائدة27.

قال تعالى : «إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ» الأنبياء 92.

وهناك مناط ثالث ، وهو الاعتقاد بأن الشيء مستقل في ذاته أو في فعله من غير أن يكون قائماً بالله ، فالخضوع المقترن بهذا الاعتقاد يُعد شركاً ، فإذا خضعت

ص: 432

أمام إنسان باعتبار أنه مستقل في فعله سواء كان هذا الفعل عادياً مثل التكلم والحركة أو كالمعجزات التي كان يقوم بها الأنبياء يكون هذا الخضوع عبادة على حد سواء ، بل لو اعتقد الإنسان أو حبة الصداع تشفي بصورة مستقلة عن الله تعالى يكون هذا الاعتقاد شركاً .

وبهذا نعرف أن الملاك في العبادة ليس فقط إظهار الخضوع والتذلل وإنما الملاك الحقيقي هو الخضوع والتذلل بالقول أو الفعل لمن يُعتقد بأنه إله أو رب أو مالك لشيء من شؤونه على وجه الاستقلال.

الاعتقاد بالاستقلالية وعدمها ملاك في التوحيد والشرك

وأركّز على هذا المعنى - أي على وجه الاستقلال - لأن فيه نكته دقيقةً تُعتبر الفاصل بين التوحيد والشرك ، لم يلتفت إليها الوهابية، وهي لابد منها لكي نعرف كيفية التعامل مع السنن الطبيعية والغيبية ، فذهبت الوهابية إلى أن التوسل بالأسباب الطبيعية لا غبار عليه كالأخذ بالأسباب المادية في الحالة الطبيعية ، أما التوسل بالأسباب الغيبية كأن تطلب من أحد شيئاً لا يحصل عليه بالسنن المادية وإنما بالسنن الغيبية فهو شرك ، وهذا خلط واضح حيث جعلوا السنن المادية والغيبية ملاكاً في التوحيد والشرك ، فالأخذ بالسنن المادية يكون عن التوحيد والأخذ بالسنن الغيبية يكون عين الشرك .

وإذا أمعنا النظر في هذه السنن بشقيها نجد أن ملاك التوحيد والشرك خارج عن إطار نفس هذه السنن ، وإنما يعود الملاك إلى نفس الإنسان ونوعية اعتقاده بهذه السنن ، فإذا اعتقد إنسان أن هذه الوسائل والأسباب استقلالية بذاتها أي

ص: 433

منفصلة عن الله ، يكون هذا الاعتقاد شركاً .

فمثلاً ، يعتقد أن الدواء الفلاني يشفي من المرض بصورة مستقلة وذاتية فيكون عمله شركاً ، فمهما كان نوع السبب بسيطاً طبيعياً أم غيبياً فلا دخل له في الأمر وإنما الأساس في الاعتقاد بالاستقلالية وعدمها فإذا اعتقد إنسان أن كل الأسباب غير مستقلة لا في وجودها ولا في تأثيرها بل هي مخلوقة الله تعالى مسيرة لأمره وإرادته ، يكون اعتقاده هذا عين التوحيد.

ولا أعتقد أن مسلماً على ظهر هذه الأرض يعتقد في سبب ما أنه مؤثر على نحو الاستقلال ، فلا يحق لنا نسب الشرك والكفر لهم ، فتوسلهم بالرسل والأولياء أو التبرك بآثارهم لطلب الشفاء أو غيره ،لا يُعد شركاً لأنه حالة طبيعية في الأخذ بالأسبابالمتعددة .

وقد تحدث القرآن الكريم عن الأسباب بحيث ينسب بعض الأشياء إلى الله سبحانه ، وأحياناً ينسبها إلى أسبابها المباشرة ، وإليك أمثلة من ذلك.

قال تعالى : «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ »الذاريات 58 فهي تؤكد أن الرزق بيد الله.

وإذا نظرنا إلى قوله : « وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ...» ، تنسب الرزق إلى الإنسان .

وفي آية أخرى تجعل الله هو الزارع الحقيقي قال تعالى :«أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ » الواقعة 63 - 64 .

وفي آية أخرى يجعل الله سبحانه صفة الزراعة للإنسان قال تعالى : « يُعْجِبُ

ص: 434

الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ » الفتح 39.

وفي آية يجعل الله وفاة الأنفس بيده قال تعالى :«اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا»الزمر42. وفي آية أخرى يجعل التوفي فعل الملائكة قال تعالى : « حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ».

وفي آية يعتبر القرآن الشفاعة حقاً مختصاً بالله وحده ، قال تعالى : «قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا» الزمر 44 .

ويخبر في آية أخرى عن وجود شفعاء غير الله سبحانه كالملائکه قال تعالى :«وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ » النجم 26.

وفي آية يجعل الله الإطلاع على الغيب أمراً مختصاً به ، قال تعالى :«قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ » النمل 65 .

ونجد في آية أخرى أن الله اختار من عباده رسلاً لإطلاعهم على الغيب إذ يقول :« وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ» آل عمران 179.

وغير هذه من الآيات .

فالناظر لهذه الآيات من أول وهلة ومن غير تدبر يشعر أن هناك شيئاً من التناقض ، وفي الواقع إنها تقرّ ما قلناه أي أن الله سبحانه هو المستقل بفعل كل شيء وأما بقية الأسباب التي تقوم بنفس الأفعال إنما تقوم بها على نحو التبعية وفي ظل القدرة الإلهية ، وقد لخص الله سبحانه هذا الأمر بقوله : «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ

ص: 435

رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى» الأنفال 17

فيصف النبي بأنه رمى إذ رميت وفي المقابل يصف نفسه أن هو الرامي الحقيقى لأن النبي ( صلی الله علیه وآله وسلم ) لم يرم إلا بالقدرة التي منحها له الله ، فيكون رامياً

بالتبع.

فيمكننا أن نقسم الفعل الإلهي إلى قسمين :

1 - فعل من غير واسطة (كن فيكون ).

2 - فعل بتوسط واسطة ، مثل أن ينزل الله المطر بواسطة السحاب ، ويُشفي المريض بواسطة العقاقير الطبية ... وهكذا.

فإذا تعلق الإنسان وتوسل بهذه الوسائط معتقداً أنها غير مستقلة يكون موحداً وخلاف ذلك يكون مشركاً .

هل القدرة وعدمها ملاك في التوحيد والشرك

وللوهابية خلط واشتباه آخر في قضية التوحيد والشرك وهو مشابه تماماً لما سبق ، فيجعلون من ملاكات التوحيد والشرك ، قدرة المطلوب منه أو عدم قدرته فإذا كان قادراً لا إشكال وإلا يكون شركاً ... وهذا جهل أحمق .

فما دخل هذا الأمر في التوحيد والشرك ، ولا يتعدى البحث هنا عن جدوائية الطلب أو

عدم ذلك.

فما بال أولئك من قساة الوهابية ينتهرون زوار رسول الله (ع) قائلين قائلين : يا مشرك ، هل ينفعك رسول الله بشيء.

ناسين أو جاهلين ، وهم للجهل أقرب أن المنفعة وعدمها ليس لها دخل في التوحيد والشرك.

وهذا مثل جهل آخر عند الوهابية وهو عدم جواز التوسل والطلب من

ص: 436

الأموات .

يقول ابن القيم - تلميذ ابن تيميه - : ومن أنواع الشرك ، طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم ، وهذا أصل شرك العالم ، فإن الميت قد انقطع عمله وهو

لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً» (1).

وهذا من عجائب القول وغرائبه ، لا يصدر إلا ممن ليس له نصيب في الدين علماً وفهماً ، فكيف يكون طلب شيء محدد من حي عن التوحيد ، وطلب ذلك الشيء نفسه من ميت شركا ؟! ، ومن الواضح أن مثل هذا العمل خارج عن إطار التوحيد والشرك ، ويمكننا أن نضعه في إطار جدوائية هذا الطلب وعدمها ، فيكون الطلب من غير فائدة ولا يكون شركاً.

وكما أشرنا إن الملاك الأساسي في التوحيد والشرك هو الاعتقاد ، والاعتقاد هنا مطلق لا يُخصص بحياة أو موت ، فكلام ابن القيم ظاهر البطلان ، فقوله : «إن الميت قد انقطع عمله إن صح لا يزيد على كون أن الطلب من الميت لا فائدة فيه لا إنه شرك ، وقوله : «ولا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فهو كلام عام يشمل الميت والحي فكل ما هو موجود لا يملك لنفسه شيئاً سواء كان حياً أو ميتاً ، وإنما يملك بإذن الله وإرادته حياً وميتاً .

وهناك مجموعة أخرى من اشتباهاتهم ، هي أصغر من أن تناقش ويمكنك أيها القارىء الرد عليها كما تبين لك من الأسس السابقة.

فيجوز لكل مسلم أن يستغيث ويتوسل بأولياء الله في أي أمر غيبياً كان أو مادياً مع ملاحظة الشروط السابقة .

ص: 437


1- فتح المجيد ، تأليف مفيد ابن عبدالوهاب ص 67 ط 6

قال تعالى : «قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي...»النمل 38 - 49 - 40

فإذا طلب سيدنا سليمان (علیه السلام) هذا الأمر الغيبي من أتباعه ، وإذا تمكن رجل عنده

علم من الكتاب أن يقوم بذلك ، فجاز لنا أن نطلب من الذي عنده علم الكتاب كله وهذا بالتأكيد عند رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وأهل بيته ( علیه السلام ) .

هل التوسل بالأنبياء والصالحين حرام ؟

قد عرفنا فيما سبق أن التوسل والاستغاثة خارجة عن إطار التوحيد والشرك ، وبقي شيء آخر وهو جواز هذا الأمر أو حرمته .

لم يقل أحد من علماء الإسلام بحرمة التوسل قديماً وحديثاً ، وقد جاءت كثير من الروايات تبيح ذلك ، وإليك بعض الأحاديث :

- حديث عثمان بن حنيف :

إن رجلاً ضريراً أتى إلى النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) فقال : ادع الله أن يعافيني ،فقال إن شئت دعوت وإن شئت صبرت وهو خير ، قال : فادع ، فأمره أن يتوضأ ويحسن وضوءه ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضي ، اللهم شفعه في . قال ابن حنيف : فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا كأن لم يكن به ضر»(1).

وقد ناقش إسناد هذا الحديث الشيخ جعفر السبحاني في كتابه (مع الوهابيين في

ص: 438


1- سنن ابن ماجه ج 1 ص 441 ، مستدرك الحاكم ج 1 ص 313 ، مسند أحمد ج 4 ص 138 ، الجامع الصغير ص 59 ، تلخيص المستدرك للذهبي

خططهم وعقائدهم) وقال : «... لا شك في صحة وسند الحديث هذا ، حتى أن إمام الوهابية ابن تيمية) قد اعترف بصحة سنده قائلاً : إن المقصود من اسم ( أبو جعفر) الذي ورد في سند الحديث هو أبو جعفر الخطي وهو موثق».

يقول الرفاعي - الكاتب الوهابي المعاصر -- الذي يسعى لتضعيف الأحاديث الخاصة بالتوسل يقول حول هذا الحديث : «لا شك أن هذا الحديث صحيح ومشهور وقد ثبت فيه بلاشك ولا ريب ارتداد بصر الأعم- بدعاء رسول الله » (1) . ويقول الرفاعي في كتابه التوصل لقد أورد هذا الحديث النسائي ، البيهقي ، الطبراني، الترمذي والحاكم في مستدركه ، ولكن أورد الترمذي والحاكم حملة (اللهم شفعني فيه) بدلاً من جملة (وشفعه في) . كتب زيني دحلان في خلاصة الكلام ذكر هذا الحديث مع مستندات صحيحة كل من البخاري في تاريخه وابن ماجة والحاكم في مستدركما ،كما ذكره جلال الدين السيوطي في كتابه الجامع(2)...»(3).

وهناك أحاديث وروايات أخرى كثيرة تجاوزنا ذكرها روماً للاختصار، وللزيادة ، راجع حديث توسل آدم برسول الله كما جاء في مستدرك الحاكم ج 2 ص 615 والدر المنشور ج 1 ص 59 ، نقلاً عن الطبراني وأبي نعيم الأصفهاني والبيهقي ، وحديث توسل النبي بحق الأنبياء من قبله ، كما رواه

ص: 439


1- التوصل إلى حقيقة التوسل ص158
2- كشف الارتياب ص 309 ، نقلاً عن خلاصة الكلام
3- التوصل إلى حقيقة التوسل ص 66

الطبراني في الكبير والأوسط وابن حبان والحاكم وصححوه ، وحديث التوسل بحق السائلين في صحيح ابن ماجة ج 1 ص 256 ح 778 ، باب المساجد ، ومسند أحمد ج3 ج 3 ص 21 ... وغيرها من الروايات .

وبالإضافة إلى ذلك ما يدل على جواز التوسل إجماع المسلمين وسيرة المتشرعة فقد كان المسلمون من القديم إلى اليوم يتوسلون بالأنبياء والصالحين ولم يعترض عليهم عالم أو يحرم ذلك.

نكتفي بهذا القدر - الموجز - عن عقائد الوهابية ، فالنقاش معهم يطول ويحتاج إلى كتاب منفصل ، وقد رد عليهم العلماء في عشرات الكتب والمقالات .. ومن الطريف ذكره أن العلامة محسن الأمين رد على الوهابية بقصيدة طويلة تناول فيها عقائدهم ورد على إشكالاتهم تتكون من 546 بيتاً راجعها في آخر كتابه (كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبدالوهاب ).

ص: 440

تهافت الأشاعرة

ذكر التاريخ أن أبا الحسن الأشعري انتقل من مدرسة الاعتزال وأعلن انتماءه إلى المدرسة الحنبلية ، ولكن لم تكن هذه النقلة كافية للتخلي تماماً عن منهج الاعتزال فقد ظهرت انعكاسته واضحة في أسلوبه الجديد ، فقد حاول أن يصبغ المعتقدات السلفية بصبغة عقلية ، فلم يحالفه التوفيق في ذلك ، لأن العقائد السلفية عقائد سماعية تعتمد على الحديث ، ومع العلم أن كثيراً من الأحاديث غير صحيحة دست من قبل أعداء الدين في التراث الإسلامي ، فلم تتماش هذه الأحاديث مع القواعد العقلية مما أحدث تناقضاً واضحاً في منهج أبي الحسن الأشعري ، فنتجت مجموعة من التهافتات عندما أراد أن يبرهن على عقائد أهل الحديث بمنهج عقلي .

ونستعرض هنا نموذجاً واحداً من تهافتاته ، وهو كاف لعرض العقلية الأشعرية وهي : مسألة رؤية الله .. وقد أجمع أهل السنة والجماعة على إمكانها .

وقد حاول أبو الحسن الأشعري وتلاميذه أن يخرجوها من إطار الأحاديث إلى إطارالبرهان العقلى ، ولذلك اخترناهم في هذا الباب حتى نستعرض آراءهم .

قد حفلت الكتب السنية بروايات صريحة في الرؤية البصرية الله جل وعلا، وإليك نماذج من هذه الأحاديث قبل الدخول في غمار البحث .

-عن جابر ، قال : كنا جلوساً عند ص ليلة البدر النبي (صلی الله علیه وآله وسلم ) فنظر إلى القمر ليله البدر فقال : «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ، لا تضامون في رؤيته ، فإن

ص: 441

استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا . ثم قرأ :«وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ »(1) .

صحيح البخاري ج 1 ص 145 ، باب فضل صلاة العصر ، وج 9 ص 156 .

صحیح مسلم ج 2 ص 439 ح 211 باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما .

وجاء في حديث طويل ، أن أبا هريرة أخبرهما : أن أناساً قالوا : يا رسول الله ! هل نرى ربنا يوم القيامة .

قال : هل تمارون في القمر ليلة البدر ، ليس دونه سحاب ؟

قالوا : لا ، يا رسول الله .

قال النبي (صلی الله علیه وآله وسلم ) : ما تمارون في رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة ، إلا كما تمارون في رؤية أحدكم ... إلى أن يقول : حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم رب العالمين في أدنى صوره من التي رأوه فيها ، فيقال : ماذا تنتظرون ؟ ... تتبع كل أمة ما كانت تعبد .

قالوا : فارقنا الناس في الدنيا ، على أفقر ما كنا إليهم ، ولم نصاحبهم ونحن ننتظر ربنا الذي كنا نعبد.

فيقول : أنا ربكم .

فيقولون : لا نشرك بالله شيئاً ... مرتين أو ثلاثة .

ص: 442


1- طه : 130

حتى أن بعضهم ليكاد أن ينقلب ، فيقول : هل بينكم وبينه علامة فتعرفونه بها ؟

فيقولون : الساق .

فيكشف عن الساق .

صحيح البخاري ج 6 ص 56 - 57 ، تفسير سورة النساء - ج 9 ص 158 كتاب التوحيد.

صحيح مسلم ج 1 ، ص 163 - 167 ح 299 باب معرفة طريق الرؤية .

- عن جرير بن عبدالله ، قال : قال النبي (صلی الله علیه وآله وسلم ) : إنكم سترون ربكم عياناً . صحيح البخاري ج 9 ص 156 كتاب التوحيد ، قوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة (1) .

... وغيرها من عشرات الأحاديث التي وردت في الصحاح ، يقول ابن حجر حول أحاديث الرؤية :«جمع الدارقطني الأحاديث الواردة في رؤيته تعالى في الآخرة فزادت على العشرين، وتتبعها ابن القيم في حادي الأرواح فبلغت الثلاثين وأكثرها جياد ، وأسند الدارقطني عن يحيى بن معين قال : عندي سبعة عشر حديثاً في الرؤية صحاح (2) .

وبهذه الأحاديث التي زعموا صحتها بنوا اعتقادهم برؤية الله تعالى يوم القيامة حتى تطرّف إمام الحنابلة وكفر كل من يخالف هذا الاعتقاد ، ولم يقفوا عند هذا

ص: 443


1- القيامة : 22 - 23
2- فتح الباري ، في شرح صحيح البخاري ج 13 ص 371

الحد بل جوزوا إمكانية رؤيته في الدنيا .

قال الاسفرائيني : أجمع أهل السنة على أن الله تعالى يكون مرئياً للمؤمنين في الآخرة ، وقالوا بجواز رؤيته في كل حال ، ولكل حي من طريق العقل ووجوب رؤيته للمؤمنين خاصة في الآخرة من طريق الخبر (1).

بل قالوا بوقوع رؤيته في المنام ، وادعوا كذباً وزوراً أن أول من رأى ربه في المنام رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) وقد تقدم ذكر الخبر.

وبعد ذلك أصبح علماؤهم يدعون رؤية الله في المنام .

وأورد الشعراني وابن الجوزي والشبلنجي عن عبدالله بن أحمد بن حنبل ، قال : سمعت أبي يقول : رأيت رب العزة عزوجل في المنام فقلت : يا رب ، ما أفضل ما تقرب به المتقربون إليك ؟

فقال : كلامي يا أحمد.

فقلت : يا رب ، بفهم أو بغير فهم ؟

قال : بفهم أو بغير فهم(2).

ويدعي الألوسي في تفسيره روح المعاني رؤية الله ثلاث مرات : «فأنا والله تعالى الحمد قد رأيت ربي مناماً ثلاث مرات وكانت المرة الثالثة في السنة السادسة

ص: 444


1- الفرق بين الفرق ص 5
2- الطبقات الكبرى للشعراني ج 1 ص 54 ح 94 وعن ابن الجوزي في مناقب أحمد ص 527 نور الأبصار للشبلنجي ص 465

والأربعين والمائتين والألف بعد الهجرة، رأيته جل شأنه له من النور ماله، متوجهاً جهة المشرق ، فكلمني بكلمات أنسيتها حين استيقظت ، ورأيت مرة في منام طويل كأني في الجنة بين يديه تعالى وبيني وبينه ستر حبيك بلؤلؤة مختلفة ألوانه فأمر سبحانه أن يذهب بي إلى مقام عيسى( عليه السلام ) ثم إلى مقام محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) فذهب بي إليهما ، فرأيت ما رأيت والله تعالى الفضل والمنة (1).

هذا ملخص عقيدتهم في رؤية الله سبحانه ، ... وتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً .

... وما قدروا الله حق قدره .

ومن الواضح أن هذا الاعتقاد يستلزم مما لا شك فيه وبأدنى تفكر الآتي :

- إن الرؤية الحسية التي تؤكدها الأحاديث تستلزم أن يكون المرئى جسماً له كثافة ولون حتى تتم الرؤية ، فمن مستلزمات الرؤية أن يكون المرئي جسماً تنعكس منه الأشعة ، وأن يكون في مقابل الرائي ، وأن تكون هناك مسافة بين الرائي والمرئي بالإضافة إلى سلامة الحاسة ، وبهذه الشروط يكون الله - والعياذ بالله - جسماً له لون ويكون محدوداً وبمكان وهذا محال .

- ويستلزم أيضاً أن الله يتغير ويتشكل بصور الله يتغير ويتشكل بصور مختلفة (فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، فيأتيهم في الصورة التي يعرفون) .. والطريقة التي يعرفونه بها هي (الساق) فله - سبحانه -

ص: 445


1- تفسير روح المعاني ج 9 ص 52 . دار إحياء التراث العربي بيروت ط 1985 م

ساق تُكشف وتغطى .. !!

وهذه العقائد التي تستلزم الفكر صراحة هي نتاج طبيعي للأحاديث الإسرائيلية التي سلم بها إخواننا أهل السنة لورودها في البخاري ومسلم ، فقداستهما مقدمة على قداسة الله وتنزيهه ، وإلا لولا هذه الأحاديث لما ذهب عقل سليم لهذا القول.

ولذلك نجد أهل البيت (علیه السلام) وقفوا في وجه هذه العقيدة وكل العقائد التي تؤدي إلى التجسيم والتشبيه ، وكذبوا تلك الأحاديث التي دسّها كعب الأحبار اليهودي ، ووهب بن منبه اليماني اللذان روجا فكرة التجسيم والرؤية كثيراً . وهذه العقيدة قد حفلت بها كتب أهل الكتاب وهي بعيدة كل البعد عن المعارف القرآنية.

وخلاصة القول : إن هذه الأحاديث مهما كثرت لا قيمة لها في أصول العقائد بعد حكم العقل ، وإذا تنازلنا وسلمنا بدخولها في مجال تقسيم الأفكار العقائدية فيقابلها كم هائل متضافر متواتر وارد عن أهل البيت (ع) تنفي التجسيم ولوازمه والرؤية وكل ألوان الإحاطة بالله تعالى .

نماذج من أحاديث أهل البيت في نفي الرؤية

دخل المحدث أبو قُرّة على أبي الحسن الرضا (علیه السلام) ، فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤاله التوحيد ، فقال أبو قُرّة :

إنا روينا أن الله عز وجل قسم الرؤية والكلام بين اثنين فقسم لموسى (علیه السلام )

الكلام ولمحمد (صلی الله علیه وآله وسلم) الرؤية :

ص: 446

فقال أبو الحسن (علیه السلام ) : فمن المبلغ عن الله عز وجل إلى الثقلين الجن والإنس

«لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ »(1)« وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا» (2)« لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ »(3).. أليس محمداً (صلی الله علیه وآله وسلم)؟

قال : بلى .

قال ( علیه السلام ) : فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيُخبرهم أنه جاء من عند الله وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله ويقول : «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ »«وَلَايُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا »و « لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ » ثم يقول : أنا رأيته بعيني ، وأحطتُ به علماً هو على صورة البشر .

... أما تستحون ؟ ما قدرت الزنادقه أن ترميه بهذا أن يكون يأتي عن الله بشيء ثم يأتي بخلافه من وجه من وجه آخر !!!

قال أبو قرة : فانه يقول (ولقد رآه نزلة أخرى(4).

فقال أبو الحسن ( علیه السلام ) : إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال :

«مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى » (5) يقول : ما كذب فؤاد محمد(صلی الله علیه وآله وسلم) ما رأت عيناه ،

ص: 447


1- الأنعام : 103
2- طه : 110
3- الشورى : 11
4- النجم: 13
5- النجم: . 11

ثم أخبر بما رأى ، فقال : لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) (1)... فآيات الله عز وجل غير الله وقد قال : ولا يحيطون به علماً فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم ووقعت المعرفة .

فقال أبو قُرة : فتكذب بالرّوايات .

فقال أبو الحسن (علیه السلام) : إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتُ بها .

وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يُحاط به علم ولا تدركه الأبصار وليس كمثله شيء

(2).

- حضر أبو عبدالله بن سنان عند الإمام أبي جعفر ( علیه السلام) ، فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له : يا أبا جعفر أي شيء تعبُدُ ؟

قال ( علیه السلام) : الله.

قال : رأيته .

قال ( علیه السلام) : لم تره العيون بمشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ،

يُعرف بالقياس ولا يُدرك بالحواس ، ولا يشبه بالناس ، موصوف بالآيات معروف بالعلامات ، لا يجور في حكمه ، ذلك الله لا إله إلا هو .

... قال أبو عبدالله بن سنان : فخرج الرجل وهو يقول : الله أعلم حيث يجعل رسالته

(3).

ص: 448


1- النجم: 18
2- التوحيد للصدوق ص 110 - 112 حديث رقم 9
3- المصدر السابق ص 108 حديث رقم 5

-كتب أحمد بن إسحاق إلى أبي الحسن الثالث ( علیه السلام) يسأله عن الرؤية وما فيه

الناس ، فكتب ( علیه السلام).

«لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه البصر، فإذا انقطع الهواء وعُدم الضيَّاء بين الرائي والمرئي لم تصح الرؤية وكان في ذلك الاشتباه ، لأن الرائي من ساوى المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه وكان في ذلك التشبيه ، لأن الأسباب لابد من اتصالها بالمسبّبات (1) .

-كتب محمد بن عبيدة إلى الإمام أبي الحسن الرضا ( علیه السلام) يسأله عن الرؤية

وما ترويه العامة والخاصة ، فكتب ( علیه السلام) بخطه :

«اتفق الجميع فلا تمانع بينهم أن المعرفة من جهة الرؤية ضرورة ، فإذا جاز أن يُرى الله عزوجل بالعين وقعت المعرفة ضرورةً ، ثم لم تخل تلك المعرفة من أن تكون إيمانا أو ليست بإيمان فإن كانت تلك المعرفة من جهة الرؤية إيماناً فالمعرفة التي في دار الدنيا من جهة الاكتساب ليست بإيمان لأنها ضدّهُ فلا يكون في الدنيا أحدٌ مؤمناً لأنهم لم يروا الله عز ذكره ، وإن لم تكن تلك المعرفة التي من جهة الرؤية إيماناً لم تخل هذه المعرفة التي هي من جهة الاكتساب أن تزول أو لا تزول في المعاد ، فهذا دليل على أن الله عز ذكره ، لا يُرى بالعين ، إذ العين تؤدّي إلى ما وصفنا»(2)

ص: 449


1- المصدر السابق ص 109 حديث رقم 7
2- المصدر السابق حديث رقم 8

أدلة الأشاعرة عقلياً على جواز الرؤية ومناقشتها

آ - عدم الممانعة العقلية في إمكان الرؤية البصرية ، لأن هذا الإمكان لا يقتضي إثبات محذور أو محال عقلي على الله تعالى :

1 - فليس في جواز الرؤية إثبات حدوثه ، لأن المرئي لا يكون مرئياً لأنه محدث وإلا لكان من اللازم أن يُرى كل محدث .

2 - وليس في الرؤية إثبات حدوث معنى في المرئي ، لأن الألوان مرئيات ولا يجوز حدوث معنى فيها لأنها أعراض .

3 - وليس في إثبات الرؤية الله تعالى تشبيه الباري تعالى ، ولا تجنيسه ولا قلبه عن حقيقته ، لأنا نرى السواد والبياض فلا يتجانسان ولا يشتبهان بوقوع الرؤية عليهما.

... ونلاحظ على هذا الادعاء الآتي :

- لنا أن نقول على الأول ، صحيح أن الحدوث ليس شرطاً كافياً في الرؤية ، بل لابد من انضمام شروط أخر ، كالمسافة المناسبة والكثافة التي تسمح بانعكاس

الضوء ، وعدم توفرها في بعض المحدثات يسمح بعدم رؤيتها . ولكن الرؤية بنفسها تستلزم الجهة (للمقابلة) ، والجسمية (للكثافة) فهي تستلزم ،الحدوث، فكل مرئي محدث ، لا العكس .

ونقول عن الثاني (وليس في الرؤية إثبات حدوث معنى ...) : إن المعنى يحدث باتصال الضوء والمقابلة ، وإن لم يكن اتصال ضوء ولا مقابلة لم تكن رؤية بصرية .

ص: 450

ونقول عن الثالث : إنها مجرد دعوى كسوابقها فالتشبيه متحقق لا مفر منه فإن حقيقة الرؤية قائمة بالمقابلة، والمقابلة لا تنفك عن كون المرئى في جهة ومكان ، وليس أظهر من هكذا تشبيه ، حيث الجهة والجسمية ، وتعالى ليس كمثله شيء .

ب - يقول الباقلاني : «والحجة على ذلك أنه تعالى موجود : والشيء إنما يصح أن يُرى من حيث كان موجوداً إذ كان لا يُرى الجنسه ، لأنا لا نرى الأجناس المختلفة ولا يُرى لحدوثه إذ أنا نرى الشيء في حال لا يُصح أن يحدث فيها ، ولا لحدوث معنى فيه إذ قدترى الأعراض التي لا تُحدث المعاني»(1) .

وبتقرير آخر : «إننا ما دمنا نرى الأعراض فإننا نرى الجواهر بالضرورة»(2).

«إن الرؤية مشتركة بين الجواهر والأعراض ، ولا بد للرؤية المشتركة من علة واحدة وهي : إما الوجود أو الحدوث ، والحدوث لا يصح للعلية لأنه أمر عدمي ، فتعين الوجود ... فنتج أن صحة الرؤية مشتركة بين الواجب والممكن»(3) .

وضعف الدليل واضح إذ ينتقض بعدم رؤية أشياء مع القطع بوجودها (كرؤية الأفكارو العقائد والروحيات والنفسانيات من القدرة والإرادة).

مما يكشف عن سبب آخر للرؤية وليس هو الوجود .

ولذا اعترض عليه كثير من الأشاعرة أنفسهم كشارح المواقف ، والتفتازاني في شرح المطالع ، وكذا القوشجي في شرح التجريد(4).

ص: 451


1- د . عبدالرحمن البدوي ، مذاهب الإسلاميين ج 1 ص 613
2- د . حسن حنفي (من العقيدة إلى الثورة) ج 2 ص 253
3- الملل والنحل للسبحاني ج 2 ص 199
4- دلائل الصدق، للمظفر ج 1 ص 99 -103

ومع أن لفظ (الوجود) أصح من (الحدوث) في جعله من شرائط الرؤية إلا أن مقولة كل موجود تجوز رؤيته غير صحيحة بإطلاقها ، وحتى تصح لا بد أن تقيد بسائر شروط الرؤية ، وهذه الشروط لا تنسجم إلا مع الموجودات المخلوقة أما بشأن الرب تعالى فلا يمكن المقايسة بينالخلق والخالق «ِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» ولا يخفى أن إجراء القوانين الطبيعية على الرب تعالى هي عين التشبيه والجهل.

وبهذه الأدلة المتساقطة التي زعموا أنها عقلية أثبتوا الرؤية الله سبحانه وتعالى ، والله بريء مما يقولون .

أدلة الأشاعرة على الرؤية من القرآن ومناقشتها

آ - قال تعالى :«كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ»القيامة 20 - 25 .

وقد ميّز الأشعري بين معنى كلمة (النظر) ، بمعنى الاعتبار«أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ » الغاشية 17 ، وبمعنى الانتظار «مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً » يس 49 وبمعنى الرحمة «لا ينظر الله إليهم »آل عمران 77 ، وبمعنى ) الرؤية .

وقد اختار الأشعري من بين هذه المعاني معنى (الرؤية) ، لعدم صحة بقية المعاني فأما الأولى (الاعتبار فدار الآخرة ليست دار اعتبار بل جزاء ، وليس بمعنى (الانتظار) لأنها عُلقت على الوجه ، كما أن الانتظار فيه مشقة لا يناسب

ص: 452

أهل الجنة . أما معنى (الرحمة فبعيد ، لعدم جواز تعطف الخلق على الخالق كما هو واضح.

ثم عضد اختيار الرؤية بقرينة من لسان العرب، وهي أن النظر بمعنى الرؤية يرتبط ب-(إلى) ولا تقول العرب في النظر بمعنى الانتظار باستخدام (إلى) «مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً » فلما أراد الانتظار لم يقل (إلى) فلما قال عز وجل «إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ » علمنا أنه لم يرد الانتظار ، وإنما أراد نظر الرؤية ، ولما قرن الله النظر بذكر الوجه أراد نظر العينين اللتين في الوجه.

واستدل أيضاً بأن النظر في هذه الآية لا يمكن أن يكون نظر الانتظار لأن الانتظار معه تنقيص وتكدير وذلك لا يكون يوم القيامة ، لأن الجنة دار نعيم ولیست دار ثواب أو عقاب (1) .

ويلاحظ عليه :

1 - أما قوله كلمة النظر إذا كانت بمعنى الرؤية تعدت بالحرف إلى وإذا كانت بمعنى الانتظار تُعدى بنفسها ، يجاب بأن (ناظرة) اسم فاعل ، وهو في عمله فرع الفعل ،والفرعية تسبب ضعف العامل فيفتقر إلى ما يقويه ، كما أن المعمول هنا مقدم ، والتقديم سبب آخر لضعف العامل ومن هنا عُدي ب- (إلى) .

كما أن تعديته ب- (إلى) مستعملة في كلام العرب ، كما في قول جميل بن معمر :

ص: 453


1- الملل والنحل ، للسبحاني ج 2 ص 203

وإذا نظرت إليك من ملك *والبحر دونك زدتني نعما

أي : وإذا انتظرتك.

وقال حسان بن ثابت :

وجوه يوم بدر ناظرات *إلى الرحمن يأتي بالفلاح

أي : منتظرات ... وهو كثير الاستعمال .

وقد عدى القرآن الكريم اسم الفاعل (ناظرة) بالباء في قوله تعالى :«فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ » النمل .35

ومعنى هذا الكلام أن «ناظرة» تتعدى بنفسها وبالحرف .

2 - أما أن الانتظار فيه تنقيص ، ولا يناسب أهل الجنة ... نتساءل ، من أين عرف أن الآيات تتحدث عن الجنة ؟!

بل هي ظاهر في الموقف - الحساب - بدلالة السياق«تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ » (1) فالآيات تحكى عن أحوالهم قبل دخولهم إلى مستقرهم ومأواهم ، لأنهم إن دخلوا النار فقد فعل بهم الفاقرة يقيناً.

فمعنى الانتظار ، وارد جداً ، ولا سيما أنه استعمال حقيقي في لسان العرب فلا يحق للأشعري أن يصادر هذا المعنى.

ص: 454


1- القيامة: 25

فإذا قلنا (النظر) بمعنى الانتظار ، فذلك ينفي الرؤية الحسية الله سبحانه ، وإذا قلنا أن (النظر) بمعنى الرؤية فيكون المراد منه الاستعمال المجازي ، وقد قرر هذا الاستخدام الشيخ السبحاني ، وذلك بتقدير حذف مضاف( إلى ثواب ربها ناظرة ) ويبرر هذا التقدير حكم العقل بعد المقابلة بين الآيات، فالآية الثالثة تقابل الآية الأولى ، والآية الرابعة تقابل الثانية ،وعند المقابلة يُرفع إيهام الثانية بالآية الرابعة ، وإليك تنظيم الآيات حسب المقابلة:

آ - «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ »يقابلها قوله وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (1)

ب -«إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ »يقابلها قوله «تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ » (2) .

وبما أن الآية الرابعة «تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ » واضحة المعنى تكون قرينة على المراد من الآية الثانية «إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ » .

فإذا كان المقصود من الآية الرابعة أن الطائفة العاصية تظن وتتوقع أن ينزل بها عذاب يكسر فقارها ويقصم ظهرها ، يكون ذلك قرينة على أن الطائفة المطيعة تكون مستبشرة برحمته متوقعة لفضله وكرمه ، لا النظر لذاته وهويته سبحانه وإلا لخرج المتقابلان عن التقابل وهو خلف .

«يجب أن يكون المتقابلان - بحكم التقابل - متحدي المعنى والمفهوم ولا يكونان

ص: 455


1- القيامة : 22 و 24
2- القيامة : 23 و 25

مختلفين في شيء سوى النفي والإثبات»(1) .

وبهذه المقابلة تكون الآية واضحة الدلالة غير متشابهة ، ولاسيما أن الآيات الشريفة تتحدث عن الموقف ، فما غير الثواب والرحمة يرتجى .

وإلى هذا تشير جملة من الأخبار مثل ماورد في توحيد الصدوق عن الإمام الرضا (علیه السلام ) في قوله تعالى «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ»يعني مشرقة تنتظر ثواب ربّها (2).

وبهذا عرفنا أن رؤية الله سبحانه ووقوع النظر إلى ذاته خارج عن إطار هذه الآية بكلا الاحتمالين ، فسواء كان المعنى من (ناظرة) الانتظار تسقط دلالة الآية على الرؤية ، وإذا كان بمعنى الرؤية فهي كناية عن النظر إلى رحمة الله ، مثلاً يقال : فلان ينظر إلى يد فلان . وهذا سائد في التعبيرات العرفية ، وعلى هذا قول الشاعر :

إني إليك لما وعدت لناظر نظر الفقير إلى طر الفقير إلى الغني الموس ني الموسر

ولهذا ينظر المؤمنون إلى رحمة الله يوم القيامة ، أما الكفار يبين حالهم قوله تعالى : .... ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم آل عمران 11 .

ومن الواضح أن المراد من (لا ينظر إليهم) هو عدم شمولهم برحمته ولا يكون المقصود هو عدم رؤية الله لهم ، لأن رؤيتهم أو عدم رؤيتهم ليس أمراً مطلوباً

ص: 456


1- الملل والنحل ، للسبحاني ج 2 ص 204
2- التوحيد للصدوق ص116 ح 19

حتى يهددوا به لأن المقام مقام رحمة.

الدليل الثاني

ب - قال تعالى :«وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ»الأعراف143.

لم يستدل أبو الحسن الأشعري بهذه الآية ، واستدل بها الأشاعرة ، وتقريب الاستدلال بهذه الآية عند الشيخ الباجوري(1) .

1 - إن سيدنا موسى ( علیه السلام ) قد طلبها - أي الرؤية - ولا شك أنه أدرى من المعتزلة بما يجوز في حقه تعالى وبما لايجور ، ولو كان يعلم استحالتها لما استساغ أن يطلبها.

2 - أنه سبحانه علّق حصول الرؤية في آخر الآية على أمر جائز في نفسه،وهو استقرار الجبل ، بل هو من حيث ذاته أقرب من صيرورته دكّاً ، وكل أمر يعلق على أمر جائز فهو جائز .

3 - وقالوا - أي المعتزلة - : أنه سألها لأجل قومه ، وهو قول باطل لأن تجويز الرؤية باطل بل هو كفر عند أكثر المعتزلة ، فلا يجوز لموسى (علیه السلام) تأخير الرد

ص: 457


1- الشيخ ابراهيم الباجوري( شرح جواهرالتوحيد)نسقه وأخرج أحاديثه محمد أديب الكيلاني وعبد الكريم شنان ، وراجعه عبد الكريم الرفاعي دمشق 1972

عليهم ، ففيه تقرير الباطل .

ألا ترى أنهم لما قالوا له :« اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ إله» رد عليهم بساعته « إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ » الأعراف 138 ، والحق أن السائلين القائلين : « لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً » البقرة 55 ، لم يكونوا مؤمنين ، ولم يكونوا حاضرين عند سؤاله - عليه الصلاة والسلام - للرؤية .

4 - وقد نقل ابن نورك عن الأشعري (قدس سره) أنه قال : قال تعالى «لن تراني» ولم يقل (لست بمرئي) على ما مقتضى المقام لو امتنعت الرؤية .

هذه زبدة استدلالاتهم بهذه الآية ، وإليك مناقشة ما قالوا :

-الوجه الأول ، ويجاب عليه بأن سؤال موسى كان بلسان بني إسرائيل وهو ما يرفضه الأشاعرة ، ولمعرفة صحته أو عدم صحته ينبغي أولاً معرفة أن الآيات المتعددة حول طلب الرؤية تحكى واقعة واحدة أم اثنتين ، فلابد أن نستعرض كل الآيات التي تناولت الموضوع .

1 - سورة طه : «يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى» 80 .

«وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى -قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى -قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ »83-85 .

2 - سورة البقرة:

-«وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ - ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ -وَظَلَّلْنَا

ص: 458

عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ » 55- 57 .

3 - سورة البقرة :

«وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ » 51 .

4 - سورة النساء :

- «يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا » 153.

ه - سورة الأعراف :

«وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ »142.

-«وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ » 145 .

-«وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ» 148 .

- «وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ

ص: 459

أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي

مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ » 150 .

-«وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ

قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا

فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ

خَيْرُ الْغَافِرِينَ»155 .

و بعد هذا الاستعراض نلاحظ الآتي.

1 - إن سؤال بني إسرائيل « حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً » «أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً » هو

سؤال واحد في سورة طه ، ويأتي بعد السؤال الصاعقة والعفو ، كما يتلوه عبادة العجل.

2-في سورة طه آية 80 – موعد بني إسرائيل يتلوه المن والسلوى ويليه فتنة السامری وعبادة العجل .

3 - وفي سورة الأعراف 155 الميقات وهو الموعد المضروب .

تصل إلى أن السؤال وقع في الميقات بقرينة إضافية هي الصاعقة والرجفة.

4- عمل كان سؤال موسى للرؤية في نفس الميقات ؟ وهو ميقات أربعين ليلة

ثلاثون + عشرة) ، وفي الآية 51 سورة البقرة بعده عُبِدَ العجلُ ، وفي آية الأعراف 143 - 148 تلقى موسى الألواح ، ووجد قومه يعبدون العجل ، وفي آیه

سورة طه 82 - 85 موعد لقوم موسى وعبادة العجل، وفي سورة النساء 153 بعد

سؤالهم الرؤية تذكر ثم اتخذوا العجل .

و الخلاصة أن سؤال قوم موسى في الميقات ومن بعده عبادة العجل ، وسؤال موسی

(علیه السلام) الرؤية في نفس الميقات ووجد قومه يعبدون العجل .

ص: 460

وعلى هذا فإن سؤال قوم موسى (علیه السلام) «أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً » هو سؤال موسى

(علیه السلام) : « أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ » تم في واقعة واحدة وهي الميقات.

ومما يؤكد أنها واقعة واحدة أنه من البعيد تكرار سؤال موسى (علیه السلام) سؤال

قومه بعد أن تأخذهم الصاعقة أو يندك الجبل ، وعلى أقل تقدير أنه يذكرهم بها.

ولذا يصح أن موسى سأل الرؤية بلسان بني إسرائيل.

وقد بين الإمام علي بن موسى الرضا ( علیه السلام ) هذا المطلب في جواب المأمون

العباسي . قال : حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علي بن موسی( علیه السلام )

فقال له المأمون : يابن رسول الله أليس من قولك أن الأنبياء معصومون قالوا بلى، فسأله عن آيات من القرآن ، فكان فيما سأله أن قال له : فما معنى قول الله عزوجل : ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر الیك قال لن تراني الآية ، كيف يجوز أن يسأل كليم الله موسى بن عمران( علیه السلام ) ربه الرؤية ؟ ألا يعلم أن الله تعالى ذكره لا يجوز عليه الرؤية حتى يسأل هذا السؤال ؟ فقال الرضا ( علیه السلام ) : إن كليم الله موسى بن عمران ( علیه السلام ) علم أن الله،تعالى عن أن يُرى بالأبصار ولكنه لما كلمه الله عزوجل وقربه نجياً رجع ألی قومه فأخبرهم أن الله عزوجل كلمه وقربه وناجاه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتی نسمع كلامه كما سمعت ، وكان القوم سبعمائة ألف رجل ، فاختار منهم سبعین ألفاً ، ثم اختار منهم سبعة آلاف ثم اختار منهم سبعمائة ، ثم اختار منهم سبعین

ص: 461

رجلاً لميقات ربه ، فخرج بهم إلى طور سيناء ، فأقامهم في سفح الجبل ،وصعد موسی (علیه السلام) إلى الطور وسأل الله تبارك وتعالى أن يكلمه ويسمعهم كلامه، فكلمه الله تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام ، لأن الله عز وجل أحدثه في الشجرة ، ثم جعله منبعثاً منها حتى سمعوه من جميع الوجوه ، فقالوا : لن نؤمن لك بأن هذا الذي سمعناه كلام الله حتى نرى الله جهرة ، فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا ، بعث الله عزوجل عليهم صاعقة أخذتهم بظلمهم فماتوا ، فقال موسى : يا رب ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا : إنك ذهبت بهم فقتلتهم لأنك لم تكن صادقاً فيما ادعيت من مناجاة الله إياك ، فأحياهم الله وبعثهم معه ، فقالوا : إنك لو سألت الله أن يريك أن تنظر إليه لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حق معرفته ، فقال موسى (علیه السلام) : يا قوم إن الله لا يُرى بالأبصار ولاكيفية له ، وإنما يُعرف بآياته ويعلم بإعلامه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى تسأله ، فقال موسى (علیه السلام) يا رب إنك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم فأوحى الله جل جلاله إليه : يا موسى اسألني ما سألوك فلن أواخذك بجهلهم ، فعند ذلك قال موسى (علیه السلام):

« رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ» (وهو يهوي) « فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ »(بآية من آياته )« جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا

ص: 462

أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ » إليك ( يقول : رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قوم« وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ » (1)منهم بأنك لا ترى ، فقال المأمون : لله درك يا أبا الحسن . والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة ، وقد أخرجه بتمامه في كتاب عيون أخبار الرضا (علیه السلام) .

وعليه لا يبقي وجه لمثل هذا الاستدلال ، فالسؤال بلسان بني إسرائيل وكان الجواب بتدبير إلهي منه تعالى ، لأنهم لا يسمعون لموسى(علیه السلام) والتعليق على الجبل ودلّه وأسلوب الصدمة العنيف مألوف في تأديب بني إسرائيل لنزعتهم الحسية وقسوة قلوبهم .

فكيف ينسب لموسى(علیه السلام) ما تبرأ منه في آية 155 الأعراف حيث دعا الله سائلاً إياه تعالى إحياء قومه ، فبدأ تأدباً بقوله : « رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ» فلا يتهمني بنو إسرائيل بقتلهم ، ثم قال :« أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا » فإذن هو فعل سفيه « إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ ».

ثم يشرع في الدعاء : « أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ».

أما الوجه الثاني : فإنه تعالى لم يعلّق الرؤية على استقرار الجبل من حيث

ص: 463


1- الاعراف: 143

هو الذي هو ممكن ، ولا على استقرار الجبل حال دكه بل علقه تعالى على استقرار الجبل بعد تجلي الرب تعالى ، وهو غير ممكن وغير واقع ، وهي طريقة عقلائية تفيد الامتناع ، مما يدلل على عدم إمكانية الرؤية ، ولا يقال لو أراد الله تعالى الامتناع لعلق على المحال العقلي بنفسه لا بالدلالة العقلائية ، كما في قوله حتى يلج الجمل في سم الخياط» . نقول إن الحكمة الإلهية اقتضت أن تظهر المنع بطريقة العجز البشري ، لما هو معروف من طباع بني إسرائيل - المادية ، الحسية ، التشكيكية - فلا ينفع معهم الحوار العقلي الهادىء ، بل لابد من أسلوب الصدمة الرادعة نفسياً والكاشفة عقلياً عن الاستحالة ، ونلاحظ أن دخول الكفار الجنة ليس بمستحيل عقلاً وقد شبهه الله سبحانه بالمستحيل وهو ولوج الجمل في سم الخياط ، مقابل الرؤية التى هي مستحيله عقلاً ، وعلقت على أمر بنفسه ليس مستحيلاً وإنما الاستقرار بشرط التجلي -يكون مستحيلاً لعدم الوقوع

وللتضاد - .

أما ردع موسى (علیه السلام) لبني إسرائيل فليس محكياً في الآيات القرآنية لأنها لیست بصدد تفصيل القصة ،والروايات الواردة عن أهل البيت (علیه السلام) تبين أنه

(علیه السلام) ردّ عليهم ، ولكن كافة أساليب موسى في نصحهم وردعه لهم لم يمنعهم عن التفكير بنفس النسق الحسي.

أما بقية الوجوه فما هي إلا احتمالات لا يعول عليها ، وباب الاحتمال واسع حتى في أوضح النصوص ، فلذلك لا يؤخذ إلا بالاحتمال العقلائي الناقض

ص: 464

للحجة ، لا مطلق ما يرد في الذهن .. هذا أولاً.

وثانياً : إن بين أيدينا نصاً ينبغي النظر فيه أولاً ثم البحث عما يعارضه أو يقيّده أويخصصه في نص آخر أو دلالة عقلية واضحة.

أما التساؤل ، لِمَ لم يقل (الست بمرئي) للدلالة على الامتناع بدلاً عن (لن تراني) فسؤال غير وجيه ، لأنه إن سلمنا بدلالة لست بمرئي) أظهر في الامتناع ، إلا أنه (لن) تراني تفيد ذلك ، والذي ينبغي النظر فيه هو مدلول (لن تراني هل تفيد الامتناع أم لا ؟

ثم ليبحث من شاء عن حكمة اختيار (لن تراني).

والحق أن (لن) تؤكد وتؤبد النفي ، لكن تأبيد النفي يكون بحسب متعلقة فتكون مؤبدة في متعلقها (محمولها) مثل قوله تعالى : « فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا » مريم 26.

فالتأبيد هنا متعلق على اليوم ، أي مؤبد في هذا اليوم ، كما أن التأبيد يكون عاماً بحسب متعلقه ولا يشمل غيره ، مثل (ولن يتمنونه أبداً )فلن تفيد التأبيد و(أبداً) مؤكد لهذا التأبيد، رغم هذا هي مختصة بالدنيا ولا تشمل الآخرة ، إذ يتمنون الموت فراراً من العذاب ، فهذا التأبيد مختص بالدنيا بقرينة (بما قدمت أيديهم هذا إذا كانت لن التأبيدية متعلقة بزمن ، وتُفيد الديمومة إذا لم تعلق بزمن .

أما قول الناس : لن افعل ، ثم يفعل ، فلا ينبغي الاستشهاد به لأن هذا الأمر لا

ص: 465

دخل له بفعل (لن) التى تفيد التأبيد وإنما يتعلق بإرادة القائل والظروف المحيطة بالفعل .

و (لن) في الآية الكريمة تفيد الامتناع عن الرؤية ذلك لأنها علقت على استقرار الجبل بعد التجلي ، وأيضاً قول موسى (سبحانك) يفيد تنزيه الله سبحانه والتنزيه في هذه الآية عن الرؤية ويعني ذلك أن الرؤية نقص وهو محال بحق الرب تعالى .

أما دعوى التقييد بالدنيا بعد التسليم كون (لن) للتأبيد فغير وارد لأن سياق الآية لا يقبل التقييد أو التخصيص وذلك لأن سبب النفي واحد وهو التنزيه ، في قوله

(سبحانك) والتنزيه لا يقيد بزمن .

هذا إلى أن هناك كثيراً من الآيات تنفي الرؤية عن الله سبحانك بكل وضوح وصراحة ، ونكتفي في هذا المقام باستعراض آية واحدة هي أكثر ظهوراً في الأمر .

قال تعالى :«لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ». الانعام 103

1 - الإدراك مفهوم عام لا يتعين في البصر أو السمع أو العقل إلا بإضافته إلى الحاسة التي يراد منها الإدراك ، فالإدراك بالبصر يراد منه الرؤية بالعين ، والإدراك بالسمع ، يراد منه السماع ولأجل ذلك لو قال قائل : أدركته ببصري وما رأيته يكون تناقض (1).

ص: 466


1- الملل والنحل ، للسبحاني ج 2 ص 227

2 - «تمدح تعالى بنفي إدراك الأبصار له ، فيكون إثباته له نقصاً»(1).

3 - إن (لا تدركه) مطلقة في الدنيا والآخرة ، (والأبصار) عامة لأنها جمع محلى بألف ولام ، فتشمل جميع الخلق لعدم جواز الاستثناء ء وهو الظاهر .

وقد تهرب أبو الحسن الأشعري من هذه الآية بقوله يحتمل أن يكون (لا تدركه) في الدنيا وتدركه في الآخرة . لأن رؤية الله أفضل اللذات ، وأفضل اللذات في أفضل الدارين .ويحتمل أن تكون (الأبصار) أبصار الكافرين لأن الله وعد المؤمنين برؤيته.

هذا كلام أقل من أن يحتاج إلى النقاش ، لأن مجرد الاحتمال لا يمنع الظهور ،والاحتمال يمكن أن يرد على كل شيء ، وواضح أن طرح الاحتمالين لإثارة الشك . والذي دفعه لذلك الأحاديث المكذوبة التي آمن بها ، وهي تثبت الرؤية .

أما تفسير الرازي فلم تسلم هذه الآية من تشكيكاته التي عمّت كل شيء فقال في تفسيره الكبير ص 124 : احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى تجوز رؤيته وأن المؤمنين يرونه يوم القيامة بوجوه عدة منها :

آ - أن الآية في مقام المدح ، فلو لم يكن جائز الرؤية لما حصل التمدح بقوله لا تدركه الأبصار ألا ترى أن المعدوم لا تصح رؤيته كما الروائح والطعوم والإرادة ولا مدح في شيء منها بذلك ، لأن الشيء إذا كان معدوما في نفسه بحيث

ص: 467


1- الفاضل البغدادي السيوري - النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر ص23

تمتنع رؤيته فلا يلزم من عدم رؤيته وعند إدراكه مدح ، أما إذا كان في نفسه جائز الرؤية ثم أنه قدر على حجب الأبصار عن رؤيته وعن إدراكه ، كانت هذه القدرة الكاملة دلالة على المدح والعظمة ، فتثبت أن هذه الآية دالة على أنه تعالى جائز الرؤية بحسب ذاته.

ويلاحظ على هذا الكلام أن فيه قياس الرب على الخلق وهو تعالى (ليس كمثله شيء) .. هذا أولاً :

ثانياً : لو كان المدح دليلاً على الجواز ، فليكن في مثل قوله تعالى : «وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا » الإسراء 111.

فهل الشريك والولد وولي الذل جائز على الله تعالى ؟!

فالملازمة ممنوعة كما هو واضح ، فإذن يُمدح أيضاً على الغير جائز .

أما مدح المعدوم يرد بأن المدح ليس بالجزء الأول «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ فقط »

بل بمجموع الجزئين أي بضميمة«وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ» والمدح هنا في المقابلة . بواستشكل الرازي أيضاً بأن الأبصار صيغة جمع لا تفيد الاستغراق بمعنى لا تدركه جميع الأبصار ، فيمكن أن تدركه بعض الأبصار ، وهذا يفيد سلب العموم أي أن النفي متوجه إلى المجموع لا لكل جزء من أجزاء المجموع ولا يفيد عموم السلب أي النفي المتوجه إلى كل جزء من أجزاء المجموعة.

ويلاحظ عليه : أن لفظة (الأبصار) صيغة جمع محلى بألف ولام ، فهي تفيد

ص: 468

العموم (الاستغراقي) بلا ريب ، والنفي متوجه للنسبة (العموم ومتعلقه) فيفيد عموم السلب - أي كل الأبصار لا تدركه - نعم لو توجه النفي لنفس العموم لكان سلب العموم ولكن هذا أجنبي عن المقام غير ظاهر ونظير هذا : « إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» فتفيد عموم السلب - أي أن الله لا يحب كل المعتدين - وقوله تعالى : فإن الله لا يحب الكافرين آل عمران 320 ، وقوله « وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ »... كذلك تفيد عموم السلب كما أن المقابلة بين «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ » وبين (وهو يدرك الأبصار) لدلالة قطعية على عموم السلب في الأولى ، كما أن الثانية عامة في الإثبات .

ج وقد نقل الرازي إشكالاً آخر وهو ما تقل عن ضرار الكوفي وهو : أن الله تعالى لا يرى بالعين وإنما بحاسة سادسة يخلقها الله تعالى يوم القيامة ، وذلك لتخصيص عدم الرؤية بالبصر فقط ، فيكون إدراك الله بغير البصر جائز.

... وهذا هروب من طاولة البحث لأن محل النزاع هو الرؤية البصرية التي صرحوا بها

(وهي بهذه العيون كالقمر في ليلة البدر) .

د - يقول الرازي أيضاً : إن الإدراك لا يساوق الرؤية بل هو اللحوق والإحاطة « قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ» (1) «حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ »(2).

ص: 469


1- الشعراء 61
2- يونس: 90

وليس مجرد العلم أو الرؤية .

ولاشك أن الإحاطة بالله نقص فيكون النفي مدحاً والرؤية التي نثبتها ليست إحاطة .

والرد عليه ، أنا نسلم أن الإدراك اللحوق والبلوغ ونمتنع أن يكون بمعنى الإحاطة ، ولا ترادف ولا ملازمة بينهما .

فالإدراك مفهوم عام ضمن معنى اللحوق - والبلوغ ولا يتحدد إلا بمتعلقه فإذا قيل ، أدركته ببصري أي أن البصر لحق بالمرئي ورآه ، وكذا العقل والأذن وكل حاسة يحسبها ، كما يستخدم الإدراك بمفهومه العام كقوله (إنا لمدركون) بمعنى ملحوقون . أما الزعم أن اللحاق يقتضي الإحاطة ، فدعوى لا يُعرف لها وجه كما أن الرؤية هي إحاطة سواء وقعت على الجزء أو الكل ، وما يُرى بعضه يُرى كله بتعدد اللحاظ والزوايا.

والخلاصة : أن الآية الشريفة محكمة الدلالة على منع الرؤية ، وفي نسق حكم العقل الواضح ، وما هذه الإشكالات إلا الإثارة التشكيك وأغلبها يمكن وصفه (بالمهزلة) .

وقبل أن نختم هذا البحث أحب أن أشير إلى جوهر الخلاف في هذه المسائل التي تتعلق بالله سبحانه وتعالى .

فلماذا أخواننا أهل السنة والجماعة بمختلف طوائفهم ينسبون الله سبحانه ما لا يليق بجلالته ؟!

ص: 470

ولماذا تسعى الشيعة دائماً لتنزيه الله من كل نقص وشائبة ؟!

يمكن أن يجاب على هذا السؤال بعدة إجابات ، إلا أننا نقتصر على جواب واحد شامل لجميع الأجوبة على نحو الإجمال :

بعد أهل السنة عن نهج أهل البيت وتقوقعهم على رواياتهم الخاصة، ويستحيل أن يُعرف الله بغير الطريق الذي حدده ، فلا يمكن معرفته بروايات كعب الأحبار ، ووهب ابن منبه ، وأبو هريرة ... وغيرهم .

وإن الذي يؤسفني هو حرمان أهل السنة أنفسهم من هذا الكم الهائل من المعارف الإلهية التي رواها الثقات عن أئمة الطهر ومعادن الحكمة الإلهية ، ولو أنهم اطلعوا على قليل منها لما أتوا بهذه الأفكار المخزية .

صدق أبو عبد الله الحسين (علیه السلام) عندما قال : نحن حزب الله الغالبون وعترة

رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) الأقربون وأهل بيته الطيبون وأحد الثقلين اللذين جعلنا رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) ثاني كتاب الله تبارك وتعالى ، الذي فيه تفصيل كل شيء لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والمعوّل علينا في تفسيره ، لا يبطينا تأويله بل نتبع حقائقه ، فأطيعونا ، فإن طاعتنا مفروضة ، أن كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة ، قال الله عزوجل« أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ »(1) .

ص: 471


1- النساء: 59

وقال : « وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا »(1)(2).

وإليك في هذا المقام قليلاً من الروايات حتى تعلم أن إلها كما وصفه أهل البيت لا تقع عليه الرؤية :

روى الطبرسي في خطبة عن علي (علیه السلام ) قال :

«دلیله آياته ، ووجوده إثباته ، ومعرفته توحيد، وتوحيده تمييزه من خلقه وحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة . إنه ربِّ خالق غير مربوب مخلوق : كل ما تصور فهو بخلافه » (3).

وقوله (علیه السلام) : «توحیده تمييزه من خلقه مطلق يفيد أنه سبحانه ممتاز عن خلقه بالحقيقة في جميع شؤونه لا مشاركة بينه وبين خلقه بوجه من الوجوه ، وقوله (علیه السلام) : «حكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة» تصريح بهذا الإطلاق لأن المباينة الصفتية هي أن كل صفة وحكم يجري على الله تعالى ، لا يجري ولایطلق على ما سواه من الخلق بما له من المعنى الشخصي، وكذلك كل نعت

ص: 472


1- النساء: 83
2- الاحتجاج ج 2 ص 94 - 95
3- المصدر السابق ج 1 ص 475 - 476

وتقديس يمجد ويقدس تعالى به لا يُطلق على من سواه بما له من معنى(1) .

وجاء في خطبة الإمام الرضا (علیه السلام) في مجلس المأمون : أول عبادة الله معرفته، وأصل معرفة الله توحيده ، ونظام توحيده الله نفي الصفات عنه بشهادة العقول أن كل صفة وموصوف مخلوق وشهادة كل مخلوق أن له خالقاً ليس بصفة ولا موصوف ، وشهادة كل صفة وموصوف بالاقتران ، وشهادة الاقتران بالحدث وشهادة الحدث بالامتناع من الأزل الممتنع من الحدث ، فليس الله عَرَفَ من عرف بالتشبيه ذاته ، ولا إياه وحد من اكتنهه ولا حقيقته أصاب من مثله ، ولا به صدق من نهاه ، ولاصمد صمده من أشار إليه ، ولا إياه عنى من شبهه ، ولا إياه عنى من شبهه ، ولا له تذلل بعضه ، ولا إياه أراد من توهمه ، كل معروف بنفسه مصنوع وكل قائم في سواه معلول ، بصنع الله يستدل عليه ، وبالعقول يُعتقد معرفته ، وبالفطرة تثبت حجته، خلق الله الخلق حجاب بينه وبينهم ومباينت-ه إياهم مفارقته إنيتهم ، وابتداؤه إياهم دليلهم على أن لا ابتداء له لعجز كل مُبتدء عن ابتداء غيره ، وأدوه إياهم دليل على أن لا أداة فيه لشهادة الأدوات بفاقة المتأدين وأسماؤه تعبير و أفعاله تفهيم ، وذاته حقيقةٌ ، وكنهه تفريق بينه وبين خلقه، وغيره تحديد لما سواه فقد جهل الله من استوصفه وقد تعداه من استمثله وقد أخطأه من اكتنهه ،ومن قال : كيف فقد شبهه ومن قال : لِمَ فَقَد علَّلهُ ، ومن قال : متى فقد وقته ،

ص: 473


1- توحيد الإمامية ، آية الله الشيخ محمد باقر الملكي ص 204

ومن قال : فيم فقد ضمَّنهُ ، ومن قال : إلام فقد نهاه ، و من قال:حتام فقد غیام ومن غيّاه فقد غاياه ، ومن غاياه فقد جزأه ، ومن جزأه فق وصفه،ومن وصفه فقد الحد فيه ، لا يتغير الله بتغير المخلوق ، كما لا يتعحدد بتحدد المحدود،أحدٌلا بتأويل عدد ، ظاهر لا بتأويل المباشرة ، متجلٍ لا بأستهلال رؤیه ،باطنٌ لا بموايلة، مُبائنٌ لا بمسافة ،قريب لا بمداناة ، لطيف لا یتجسم،موجود لابعدعدم ، فاعل لا باضطرار مُقَدِّر لا بحول فكرة مُدبر لابحرکه،مریدٌ لا بهمامه ، شاء لا بهمة، مُدرك لا بمجسة سميع لا بآلة ، بصير لا بأداه.

لا تصحبه الأوقات، ولا تضمنه الأماكن ، ولا تأخذه السنات ولاتحده الصفات ، ولا تقيده الأدوات سبق الأوقات كونه ، والعدم وجوده والبتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له وبتجهيره الجواهرعرف أن لا جوهر له.وبمضادَّته بين الأشياء عُرف أن لا ضدّ له ، وبمقارنته بین الأمور عرف عن لاقرین له ضادّ النور بالظلمة ، والجلاية بالبهمة ، والجسو بالبلل،واصرد بالحرور، مؤلّفٌ بين متعادياتها ، مُفرق بين متدانياتها ، دالة بتفريقها علی مفرقها،وبتألیفها على مؤلفها ، ذلك قوله تعالى : «وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » ففرق بها بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل له ولا بعد . شاهدهٌ بغرائزها أن لاغریزه لمغرزها ، دالة بتفاوتها أن لا تفاوت لمفارتها مخبرة بتوقیتها أن لا وقت لُموقتها،حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبينها غیره له معنی الربوبیه إذ لا مربوب وحقيقة الإلهية إذ لا مألوه ومعنى العالم ولمعلوم،ومعنی الخالق ولا

ص: 474

مخلوق ، وتأويل السمع ولا مسموع ، ليس منذ خَلَقَ استحق معنى الخالق ، ولا بإحداثه البرايا استفاد معنى البارئية ، كيف ولا تُغيّبه مذ ولا تدنيه قد ولا تحجبه لعل ، ولا توقته متى ، ولا يشتمله حين ولا تقارنه مع ،إنما تحدّ الأدوات أنفسها، وتُشير الآلة إلى نظائرها وفي الأشياء توجد فعالها ، منعتها «منذ» القدمة ، وحمتها «قد» الأزلية ، وجنبتها لولا التكملة ، افترقت فدلت على مفرقها ، وتباينت فأعربت عن مبانيها ، بها تجلى صانعها للعقول وبها احتجت عن الرؤية ، وإليها تحاكم الأوهام ، وفيها أثبت غيره ، ومنها أنيط الدليل ، وبها عُرف الإقرار ، وبالعقول يعتقد التصديق بالله ، وبالإقرار يكمل الإيمان به، لا ديانة إلا بعد معرفته ، ولا معرفة إلا بالإخلاص ، ولا إخلاص مع التشبيه ، ولا نفي مع إثبات الصفات للتشبيه فكل ما في الخلق لا يوجد في خالقه ، وكل ما يمكن فيه يمتنع في صانعه، لا تجري عليه الحركة ولا السكون ، وكيف يجري عليه ما هو أجراه ، أو

يعود فيه ما هو ابتدأه إذاً لتفاوتت ذاته ، ولتجزأ كنهه ، ولا متنع من الأزل معناه ، ولما كان للبارىء معنى غير المبروء ، ولوحد له وراء إذا حد له أمام ، ولو التمس له التمام إذا لزمه النقصان ، كيف يستحق الأزل من لا يمتنع من الحدث ، أم كيف يُنشىء الأشياء من لا يمتنع من الإنشاء ، إذاً لقامت عليه آية المصنوع ، ولتحول دليلاً بعدما كان مدلولاً عليه ، ليس في محال القول حُجة ولا في المسألة عنه جواب ، ولا في معناه الله تعظيم ، ولا في إبانته عن الحق ضيم ، إلا بامتناع الأزلي أن يُتنّى ، وما لا بدأ له أن يُبدأ ، لا إله إلا الله العلى العظيم ، كذب العادلون بالله،

ص: 475

وضلوا ضلالاً بعيداً ، وخسروا خسراناً مبيناً ، وصلى الله على محمد النبي وآله الطيبين الطاهرين .

ص: 476

فهرست الموضوعات

الموضوع الصفحة

الفصل الاول 11

مقتطفات من حياتي...13

كيف كانت البداية...15

في الجامعة...21

في قريتنا...27

مناظرة مع شيخ الوهابية...27

ملاحظات للباحث لابد منها...31

الفصل الثاني 35

وانكشف الزيف...39

حديث : «.. ... عليكم بسنتي ..» الخدعة الزائفة...39

مصادر الحديث ...41

رواية الترمذي ...41

سند الحديث عند أبي داود ...42

سند الحديث عند ابن ماجة ...خطأ الإشارة المرجعية غير معرفة.

الواقع التاريخي وحديث وسنتي ...43

الخلفاء هم أئمة أهل البيت...59

أهل البيت طريق التمسك بالكتاب والسنة...62

الفصل الثالث 65

إثبات حديث «كتاب الله وعترتي»...خطأ الإشارة المرجعية غير معرفة.

ص: 477

أولاً : سند الحديث...67

عدد الرواة من الصحابة ...67

عدد الرواة من التابعين...68

عدد الرواة خلال القرون...69

حديث الكتاب والعترة في كتب الحديث ...70

شبهات على حديث الثقلين...78

دفع الشبهة...78

الواد. على ابن الجوزي في تضعيفه لابن عبد القدوس ...80

إشكال ابن تيمية...85

الفصل الرابع 91

من هم أهل البيت ؟...93

أهل البيت في آية التطهير...94

حديث الكساء تحديد هوية أهل البيت...95

أهل البيت في آية المباهلة...103

الفصل الخامس 107

ولاية على في القرآن ...109

دلالة الآية «إنما وليكم الله ...» على ولاية أمير المؤمنين...118

آيتم التبليغ نص صريح في الولاية...121

الغدير في المصادر الإسلامية...122

الفصل السادس 131

أولاً : بحث في دلالة آيات الشورى ...133

ثانياً : الشورى في الواقع العملي...145

الشورى وسقيفة بني ساعدة...145

السقيفة في تاريخ الطبري...145

ثالثاً : الصحابة وآية الانقلاب...159

من هو الرجل الذي بلّغ رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) خلافته ؟...172

الفصل السابع 175

أولاً : المؤرّخون...177

دور التاريخ في استنهاض الأمة...177

ص: 478

كيف أرخوا لتاريخ التشيع ؟...180

قول العلماء في سيف بن عمر...182

ثانياً : المحدثون ...190

1 - الشمس تتوسل بأبي بكر...196

2 - أبوبكر في قاب قوسين...197

3 - أبوبكر ألف القرآن ...197

ب - رواة الحديث وتدليس الحقائق ...198

علماء السنة ومثقفوها يتشيعون ...215

2) إحسان إلهي ظهير...226

أ - نماذج من تزويراته...230

ب - نماذج من افتراءاته على الشيعة ...245

الفصل الثامن 249

المذاهب الأربعة تحت المهجر...251

حركة الاختلاف بين المذاهب...251

(1) سفيان الثوري...252

(2) سفيان بن عيينة...253

(3) الأوزاعي ...253

وقفة مع أئمة المذاهب الأربعة...261

نشأة أبي حنيفة...266

فقه أبي حنيفة...236

طعون على أبي حنيفة...266

أبو حنيفة والإمام الصادق(علیه السلام) ...268

(ب) الإمام مالك بن أنس...275

انتشار المذهب المالكي...282

طعون على مالك...284

ج- - الإمام الشافعي...287

طعون على الشافعي...292

د - الإمام أحمد بن حنبل ...296

من كتب أحمد وآثاره ...296

محنة أحمد بن حنبل...297

ص: 479

أبطال لم تسلط عليهم الأضواء...300

أحمد في عهد المتوكل...302

الفقه عند أحمد بن حنبل...306

(3) خاتمة ...311

(4) الفقه عند الشيعة...313

مناظرة يوحنا علماء المذاهب الأربعة...316

الفصل التاسع 373

عقائد أهل السنة...375

لمحة تاريخية...375

مدرسة الحنابلة (السلفية)...376

:أولاً : أحمد بن حنبل ( منهجه في العقائد)...376

روايات في ضرورة العقل...379

نماذج من أحاديث التجسيم ...393

خطبة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم...404

حديث الرضاعلیه السلام...405

خطبة أمير المؤمنين علیه السلام...407

ثانياً : مرحلة ابن تيمية ، أحمد بن عبدالحليم ...409

ثالثاً : مرحلة محمد بن عبدالوهاب...419

مناقشة توحيد الربوبية...422

مناقشة الوهابية في مناط مفهوم العبادة ...425

تعريف العبادة بالمفهوم القرآني...431

الاعتقاد بالاستقلالية وعدمها ملاك فى التوحيد والشرك ...433

هل القدرة وعدمها ملاك في التوحيد والشرك...436

هل التوسل بالأنبياء والصالحين حرام ؟...438

تهافت الأشاعرة ...441

نماذج من أحاديث أهل البيت في نفي الرؤية...446

أدلة الأشاعرة عقلياً على جواز الرؤية ومناقشتها...450

أدلة الأشاعرة على الرؤية من القرآن ومناقشتها ...452

الدليل الثاني ...457

ص: 480

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.