تاريخ حرم أئمة البقيع وآثار أخرى في المدينة المنورة

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: النجمی، محمدصادق، 1315-1390.

عنوان العقد: تاریخ حرم ائمه البقیع علیهم السلام و آثار دیگر در مدینه منوره

عنوان واسم المؤلف: تاريخ حرم أئمة البقيع(علیهم السلام) وآثار أخری في المدينة المنورة/ آية الله الشيخ محمد صادق النجمي ؛ ترجمه سید محمد رضا المهري.

تفاصيل المنشور: قم: موسسة المعارف الاسلامیة، 1429ق. = 1387.

مواصفات المظهر: 376ص.

الصقيع: موسسة المعارف الاسلامیة؛ 174.

حالة الاستماع : برونسپاری

ملحوظة : العربية.

ملحوظة : ببليوغرافيا مع ترجمة.

موضوع : بقیع

المزارات الإسلامية -- المدینة

المعرف المضاف: المهري، السیدمحمدرضا، 1336 -، مترجم.

ترتيب الكونجرس: BP262/7/ن 3ت 2043 1387

تصنيف ديوي: 297/7635

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1 2 9 8 5 5 2

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: سجل كامل

تاريخ حرم أئمة البقيع(علیهم السلام) وآثار أخری في المدينة المنورة

تأليف: آية الله الشيخ محمد صادق النجمي

ترجمة: سید محمد رضا المهري

نشر: مؤسسة المعارف الإسلامية

ص: 1

اشارة

نجمي محمد صادق

تاريخ حرم أئمة البقيع وآثار أخرى في المدينة المنورة / تأليف محمد صادق النجمي؛ ترجمة سيد محمد رضا مُهري . _ قم: نشر مؤسسة المعارف الإسلامية ، اسفند 1386

376 ص :مصور

ISBN2- 87 – 7777 – 966 – 978:

فهرستنویسی بر اساس اطلاعات فیپا

عنوان اصلی : تاریخ حرم ائمة بقيع (علیهم السلام) و آثار دیگر در مدينة منورة

کتابنامه بصورت زیرنویس

1 - بقیع . 2 - زیارتگاههای اسلامی - مدینه . الف . مّهری ، سید محمد رضا ، ...- مترجم. ب .عنوان

2043 ت 3 ن / 7 / 262 BP 7635/297

1386

-----------------------

اسم الكتاب ...تاريخ حرم أئمة البقيع(علیهم السلام)

تأليف ... آية الله الشيخ محمد صادق النجمي

المترجم... سید محمد رضا المهري

الناشر ...مؤسسة المعارف الإسلامية

تصحيح وإخراج... الشيخ ناجي المياحي

الطبعة... الأولى 1429 ه .ق

المطبعة ...عترت

العدد ...2000

ISBN ... 2- 87 – 7777 – 966 – 978:

رقم الايداع الدولي ... 2- 87 – 7777 – 966 – 978:

حقوق الطبع محفوظة لمؤسسة المعارف الإسلامية

قم المقدسة - تلفون 7732009 ص ب 768 / 37185

www.maaref islami.com

E-mail:info@maarefislami.com

محرر: هادي ميرزائي

ص: 2

الموضوع

مقدمة المترجم

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المترجم

إن أئمّتنا الأطهار (علیهم السلام) يسكنون فوق سماء الإمامة ويرقدون تحت ثرى البقيع ، لا يرقى الطير إلى مقامهم الرفيع الشامخ، ولا ترتفع قبورهم عن الأرض بقدر جناح طائر ، هم الكوثر الذي أعطاه الرحمن رسوله، إلّا أنّ مراقدهم الشريفة لم تحظ بأدنى اهتمام من أمة الرسول، وقد أمر الله رسوله أن يشكره على أن وهبه الكوثر فيصلي وينحر، أما الأمة فقد نحرت من أبنائه الطاهرين ما استطاعت واستطالت على الآخرين في حياتهم ونالت من قبورهم بعد وفاتهم .

لهفي على ريحانة المصطفى (علیها السلام) وقرة عينه الإمام الحسن السبط (علیه السلام) رابع أهل الكساء وسيد شباب أهل الجنة، الذي أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهيراً، وباهل به رسول الله أهل نجران، وما كان قعوده أدنى قدراً عند الله ولا أقل صبراً من قيام أخيه الحسين (علیه السلام) وقد قال فيهما الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «الحسن والحسين إمامان قاما أوقعدا ».

فإن صَبَرَ الحسين (علیه السلام) على ظلم الأعداء فقد صَبَرَ الحسن (علیه السلام) على ظلم الأصحاب قبل الأعداء، إذ نادوه جهلاً « يا مذل المسلمين» ، وهو صابر على أذاهم وفي العين قذى وفي الحلق شجى .

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ***على المرء من وقع الحسام المهند

وأين عبادة العباد من عبادة زين العابدين الإمام الزكي علي بن

ص: 5

الحسين (علیه السلام) ، وأين صبر الصابرين وصبر مريض طريح الفراش يشاهد مقتل أبيه وإخوته واعمامه وأبناء عمومته، البقية الباقية من ذرية رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ولعمري ليذوب الصبر من صبر عليل لا يقوى على القيام يحوّل إليه أمر نساء ثكلى وبنات يتامى ثم يكبّل بالأصفاد ويسار به وبهنّ من بلد إلى بلد، ثم أيّة صحيفة دعاء أجلّ قدراً وأوفى استجابة من الصحيفة السجادية المباركة، فإذا طَمَعَتْ في دعاء مقبول مجاب فتوجّه إلى الله واقرأ صحيفة السجاد (علیه السلام)، وإذا طمحت في مناجاة ربك بأفضل ما يناجي به عبد ربه فاقرأ مناجاة سيد الساجدين (علیه السلام).

ومن مثل عَلَمي الهدى، باقري العلوم، الصادقين الجوادين التقيين النقيين، الهاديين المهديين ، الإمامين الهمامين محمد بن علي الباقر وابنه جعفر بن محمد الصادق عليهما أفضل الصلاة والسلام .

لقد ملئا الخافقين من علوم الدين وأسرار الحقيقة، ففسّرا آيات الذكر الحكيم خير تفسير وأولاه أحسن تأويل، ورويا من سنة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أصدق ما روي ، وبيّنا أحكام الشريعة أجمل البيان حتى لم يبق في مدينة الرسول فقيه إلّا وينادي : قال الباقر قال الصادق واعترف بالجميل من قال: «لولا السنتان - اللتان أخذ خلالهما العلم من الصادق (علیه السلام) - لهلك النعمان» .

فلولا الباقران الصادقان لَطُمِرَتْ أحكام الدين ونُسيَت معارفه ومُحيَت آثاره ، ولم يبق من شريعة السماء إلّا القياس والاستحسان .

أولئك الذين أنعم الله عليهم من الشهداء الطيبين والعلماء الصالحين، ولكن المؤسف أشد الأسف أن خَلَفَ من بعدهم خَلَفٌ أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات، رجال علم جهلاء وشيوخ سفهاء غيّروا معالم الدين وأفسدوا أمور المسلمين حتى بلغ بهم البغي أن هاجموا مدينة الرسول فدمروا معالمها وهدموا آثارها، انظر إلى ما فعلوه في البقيع وغير البقيع إنّهم لم يرحموا حتى الذي

ص: 6

وضع حجر أساسه الرسول الكريم بيديه المباركتين على قبر ابنه إبراهيم وقبر الصحابي الجليل عثمان بن مظعون وغيرهما .

هذا ما تمنّاه سلفهم ابن تيمية ونفّذه خلفه محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، ولا زالت أرض الجزيرة العربية ترضخ تحت وطأة أسرة ملكية جبارة تنال من مهد الإسلام الأول ما شاءت ولا يردعها رادع ولا تجد من يسألها ، وإلى الله المشتكى.

ويأتي المسلمون من أرجاء المعمورة إلى الأرض المقدسة التي جعلها الله لهم، فيدخلونها صامتين مطأطئين رؤوسهم، لا يرتد إليهم طرفهم، فمن تجرّأ بكلمة كانت بها نفسه، ومن رفع رأسه ضرب عنقه، يتهمون المؤمنين بالكفر بلا مسوغ شرعي ولا أدلة مقنعة، فقد تمخّضت تلك العصبيات الجاهلية فأنجبت الإرهاب العالمي الذي يقتل باسم الدين دون هوادة ويعيث في الأرض الفساد وهو ينادي «الله أكبر، الله أكبر »، فبرئ منهم أذانهم شوهوا سمعة الإسلام في العالم بما اقترفوه من جرائم فادحة ومذابح تقشعر منها القلوب، متناسين أنّهم يدعون الانتماء إلى نبي الرحمة الذي فتح مكة فلم يقتل أحداً من المشركين الذين دنّسوا طهارة المسجد الحرام، وقتلوا وقاتلوا المسلمين، وأخرجوهم من ديارهم، انظر كيف أخذ الرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الراية يوم فتح مكة من حاملها عندما سمعه يقول: « اليوم يوم الملحمة » وأعطاها لعلي بن أبي طالب (علیه السلام) وأمره أن ينادي: «اليوم يوم المرحمة »، وبعد أن سيطر عليها نادى بأهلها: « اذهبوا فانتم الطلقاء».

أين أبناء أولئك الطلقاء من هذا النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الرؤوف الرحيم فقد وثبوا بعد أربعة عشر قرناً على مدينته الطيبة فمحوا الآثار التاريخية الإسلامية فيها.

وقد وقف على تلك الأطلال شيخ جليل جاء من أقصى الأرض فتأمل تلك الفاجعة المؤلمة بقلب يعصره الأسى والألم وفكر في أن يفعل شيئاً وهو لا حول له عليهم ولا قوة، فتذكّر سلاحاً أقوى من أسلحة الفتك التي بأيديهم، إنّه سلاح

ص: 7

الفكر، سلاح التحقيق العلمي التاريخي، سلاح القلم، فحمله شيخنا العالم الفاضل آية الله الشيخ محمد صادق النجمي وألف هذا الكتاب القيّم ذاكراً فيه جذور الوهابية وتاريخها المظلم وما ارتكبته من جرائم في أقدس أرض خلقها الله وضد أقدس أهل بيت خصهم الله بهداية الإنسانية .

وقد تبنّت مؤسسة المعارف الإسلامية مشكورة ترجمة هذا الأثر إلى لغة الضاد حتى يتسنى للناطقين بلغة القرآن أن يقرؤوه فكلّفتني أمر الترجمة والتزمت هي بالتصحيح والتدقيق والطبع والنشر، فإليك الإنجاز الكبير من المؤلف القدير والنتيجة الطيبة من المؤسسة المباركة والعمل المتواضع من المترجم الراجي رحمة ربه ليغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر.

محمد رضا المُهري

الثالث عشر من شعبان سنة 1428 ه ق.

الموافق 27 /8 /2007 م

ص: 8

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤلف

كيفية تأليف الكتاب

في سنة 1393 هجرية سافرت ولأوّل مرّة لأداء فريضة الحج وزيارة المدينة المنوّرة، كباقي الزوّار ووقفت بجانب القبور المطهرة لأئمة الهدى (علیهم السلام) وقبور الصحابة الأجلاء والشهداء العظام رضوان الله عليهم، فشعرت بحزن عميق لمشاهدة الصورة المتواضعة لتلك القبور الكريمة، وحيّرني سؤال طرأ في خاطري وهو:

يسعى الجميع في أرجاء العالم لحفظ الآثار والمباني الدينية والتاريخية كنماذج تفتخر الأمم وتتباهى بها، وتتناقلها الأجيال كأمانة ثمينة ومحروسة، إذن فما بال هذا الحرم الشريف - (بقيع الغرقد ) بمبانيه الرفيعة وقببه وأفنيته ومع ما لها من عظمة و قداسة معنوية التي لا يماثلها أيّ واحد من الآثار التاريخية في العالم ، قد انتهى إلى هذا الوضع المؤسف والمحزن ؟! دون أن يعلم أحد كيف كانت هذه المباني قبل هدمها، ومتى بُنيت وعلى يد مَنْ ؟

و تشتدّ هذه الحيرة ويزيد هذا العجب ويفرض ذلك التساؤل نفسه أكثر فأكثر عندما نعلم أنّ الذين قاموا بهدم هذه الآثار التاريخية والدينية لم يكن لديهم أيّ مانع من حفظ الآثار التاريخية لبلدهم إذا كانت لم تحمل جانباً عقائدياً، (كآثار

ص: 9

اليهود في خيبر)، بل صرفوا مبالغ باهضة لحراستها والحفاظ عليها .

في سفراتي التالية دعاني حب الإستطلاع إلى التحقيق والبحث في هذا الموضوع ، - فاستطعت - خلال الفرص المتاحة لي أثناء العطل الرسمية - أن أجمع بعض المعلومات حول هذا الموضوع وتدوينها في أوراق صغيرة الحجم، إلّا أن انتصار الثورة الإسلامية العظيمة وقيام الحرب المفروضة علينا، إضافةً إلى تحمّل المسؤولية المقدسة في إمامة الجمعة، منعني من الاستمرار في نشاطات جانبية كهذه، فاحتفظت بتلك القصاصات في ملف خاص حتى تسنح لي الفرصة لتنظيمها .

وأخيراً حيث قام قسم التعليم والأبحاث في بعثة السيد القائد بنشر مجلة علمية مباركة تسمّى «ميقات الحجّ» التي تصدر فصليّاً، فأدرّت عليّ ببركات وفوائد عديدة ومنها هذا التوفيق الإجباري في إحياء تلك القصاصات بعد مرور أكثر من عشر سنوات عليها، فنشرتها في المجلة كمقالات استمرت من سنة 71 إلى 79 شمسية (1)، وقد زاد الإقبال عليها والتشجيع من قبل الأصدقاء والشخصيات الكبيرة والبارزة خصوصاً رئيس قسم التعليم والأبحاث في بعثة السيد القائد فقررت أن أجمع تلك المقالات وأجري عليها التعديلات اللازمة لتظهر على صورة كتاب وفي متناول من يرغب .

وإني أقدم جزيل الشكر لرئيس ذلك القسم المحترم وجميع الإخوان الأعزاء والزملاء الكرام في الأقسام الثقافية لتلك البعثة المباركة الذين تعاونوا معي في نشر تلك المقالات وهذه المجموعة، فإنّني أتضرّع إلى الباري تعالى أن يوفقهم دوماً لما فيه الخير .

وأرى من الضروري أن أشير إلى مسألة تهم المحققين وأصحاب القلم

ص: 10


1- الموافق لسنة 1992 إلى 2000 ميلادية .

خصوصاً العاملين في أمور التبليغ والإرشاد، ألا وهي:

قد يتصور البعض أنّ مسألة هدم المباني والآثار الدينية - التي هي الموضوع الذي نعالجه في هذه المجموعة - قد تمّ في برهة زمنية معينة وعلى أيدي جماعة خاصة وانتهى الأمر كله فلم تعد تلك الجماعة - بعد مرور حوالي مائة سنة - ولا ترى أية ضرورة للاستمرار في تلك الأعمال الشنيعة إذ أنها قد حصلت على أهدافها في إزالة هذه الآثار .

والآن وقبل أن يمضي قرن على تلك الحادثة نجد أنّ عامة المسلمين وحتى بعض الخواص ليس لديهم رؤية واضحة عن السوابق التاريخية لتلك المراقد ولا عن الأهداف الداعية إلى هدمها أو النتائج والآثار المترتبة على هذه القضية، ومن الطبيعي أنّ عدم الاطلاع على الحقائق والبعد عنها سيزداد عمقاً كلما مر الزمان وتطاولت القرون فتتناساها الأجيال القادمة تماماً .

ولكني أريد أن أقول: إنّ هذا التصور غير صحيح والأمر على عكس ذلك تماماً ، فالهدم والتخريب لم ينته بعد، بل هو مستمر على صورة نشاطات ثقافية، ومنها ما نشاهده من تأليفات جديدة ومتنوعة عن تاريخ الحرمين الشريفين والمدينة المنورة والتي يتم نشرها في نطاق واسع وبشتى اللغات، وخلافاً للكتب القديمة التي ألفت عن المدينة المنورة والتي كان يخصص جزءاً كبيراً منها بهذه المباني والآثار الدينية فنجد الكتب الجديدة هذه لا تعكس أي أثراً منها (1)

ص: 11


1- ككتاب يدعى« تاريخ معالم المدينة المنورة قديماً وحديثاً» الذي ألفه السيد أحمد ياسين وانتشر في المدينة سنة 1412 هجرية، يعرض الكتاب في صفحاته الأربعمائة الآثار القديمة والحديثة للمدينة من مساجد وقلاع وآبار وقصور ودوائر حكومية هامة مفعمة بالصور والشرح والتبيين، إلّا أنه لا يتطرق إلى البقيع وهو أهم أثر تاريخي في المدينة إلّا في سبعة أسطر باعتباره المقبرة العامة لسكان المدينة .

وكأن تلك الآثار لم تكن موجودةً أبداً ! وهم بذلك يحاولون إلقاء الستار عليها حتى تجهلها الأجيال المقبلة ولا تسمع شيئاً عن الحوادث التي مرت بها .

من هذا المنطلق علينا أن نواجه هذه الحركة السلبية لإطفاء الحقائق فننشرالكتب والمقالات ونستغل سائر الوسائل الإعلامية أيضاً حتى نوصل الحقيقة إلى أسماع المسلمين فتطلع الأجيال القادمة على الحوادث السالفة لها .

وفي الختام نلفت نظر القارئ العزيز إلى أنّ الهدف من تأليف هذا الكتاب مضافاً على التعريف بهذه الآثار هو الحفاظ على تاريخ هذه الآثار وترسيخها في الأذهان لا مجرد الاطلاع عليها ؛ إذن فنقل الأقوال المختلفة والمتشابهة من الكتب والكتاب هو بهدف التأكيد على وجود هذه الآثار فحسب ولا يُعتبر تكراراً عبثاً .

ومن الله التوفيق

محمد صادق النجمي

10 /1380هجري شمسي

12/ 2001 ميلادي

ص: 12

«... وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا

» سورة النساء :64

«وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ » سورة المنافقون : 5

«... قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا » سورة الکهف :21

« وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى » سورة البقرة : 125

صدق الله العلي العظيم

ص: 13

ص: 14

تمهيد

الداعي من بناء العتبات المقدسة :

كان المسلمون شيعةً وسنةً منذ بداية الإسلام وإلى يومنا هذا يكرمون الأنبياء والأولياء ويؤدّون الاحترام للمرشدين وأصحاب الفكر وكذلك الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل الإسلام والقرآن وعلى هذا المنوال أيضاً كان أصحاب الأديان السماوية الأخرى وجميع المفكرين على مرّ التاريخ . ويتبلور هذا الاحترام عادةً في زيارة قبورهم فهي من تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية المباركة وتعتبر عبادة وسنة مستحبة .

يتجمع المسلمون من قريب أو بعيد حول مدفن أولئك العظماء فيسلّمون عليهم ويدعون الله لهم رفيع الدرجات ويذكرون فضائل أخلاقهم وإرشاداتهم الدينية وصبرهم وتحملهم الصعاب والمصائب في سبيل ترسيخ الدين الحنيف وتعاليمه القيمة .

وبهذا يعبرون عن ولائهم لأولئك الأولياء وعن استعدادهم لاتّباع سيرتهم والعمل بما أرشدوا إليه، ويؤدون الصلاة والدعاء عند قبورهم متضرعين إلى الله أن يغفر لهم ويتوب عليهم.

ولهذا الغرض جعلوا سقوفاً وبنوا أبنيةً على تلك القبورحسبما تقتضيه الحاجة لتقي الزوّار من الحر والقر أثناء الزيارة والعبادة وأداء الصلاة ؛ وإذا اقتضت الحاجة إلى مكان أوسع بنيت المساجد بجانب تلك القبور وأطلق عليها

ص: 15

«المشهد» أو «الحرم».

وعلينا أن نشير إلى أنّ هذا التجليل والاحترام للأولياء من قبل المسلمين ليس بدعةً ابتدعها الناس دون دليل شرعي يُستند عليه، بل هو ستند عليه، بل هو سنةٌ مقتبسة من القرآن الكريم والسنة النبوية وسيرة الصحابة وأولياء الدين، والتي نذكر نماذج منها .

«1» عندما يتحدث الباري (عزَّ و جلَّ) عن الأنبياء يستعمل كلمة «السلام» فيذكرهم بهذه الكلمة الطيبة قائلاً: «سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ »(1) «سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ»(2) «وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ »(3).

«2» وإذا ذكر الشهداء والعباد الصالحين عبّر عنهم بهذا المديح «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا»(4)

«3» يحث القرآن الكريم المسلمين إذا وقفوا موقف التوبة والاستغفار أن يتوسلوا برسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وجعل سبحانه شفاعة الرسول ودعاءه عاملاً لغفران ذنوب العباد، إذ قال جلّ من قائل: «... وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» (5).

كما يستنكر على المنافقين موقفهم من رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وامتناعهم عن طلب الاستغفار منه، فيقول تعالى: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ »(6).

ص: 16


1- الصافات: 109 .
2- الصافات: 120 .
3- الصافات: 181 .
4- النساء: 69 .
5- النساء: 64 .
6- المنافقون: 5 .

«4» يقول القرآن الكريم في أصحاب الكهف: «... قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا » (1). فعندما اطّلع المؤمنون الصادقون في إيمانهم على أمر أصحاب الكهف ورأوا ذلك دليلاً على إثبات المعاد الجسماني بمفهومه الحقيقي، قالوا بعد وفاة هؤلاء: يجب أن نبني مسجداً على قبورهم حتى لا ينسى الناس ذكراهم ويتخذونهم قدوةً لهم في مسيرة التكامل الإنساني والديني .

ذكر الله (عزَّ و جلَّ) القرار الذي اتخذه المؤمنون في إقامة مبنى على قبور أصحاب الكهف والاستعانة به كمركز للعبادة، فقد أقر سبحانه عملهم هذا وأمضى عليه بالقبول .

«5» إنّ دفن جثمان الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) داخل بيته وتحت السقف خير دليل وأوضح مصداق على هذه الحقيقة بأنّ وجود المبنى فوق قبور الأولياء الصالحين عمل يستحسنه الإسلام ويؤيده كما يمكن ملاحظة هذه الحقيقة بالنسبة لقبور الأنبياء السابقين مثل قبور إبراهيم وإسحاق ويعقوب (علیهم السلام) وقبور زوجاتهم في مدينة الخليل، التي سميت باسم النبي إبراهيم الخليل (علیه السلام)(2).

وكذلك داود وسليمان (علیهما السلام) في بيت لحم وقبور سائر الأنبياء وآثارهم في بيت المقدس وبلاد الشام والتي كانت تتميز طوال القرون المتباعدة قبل الإسلام وبعده بصلابة البناء وجمال العمران .

والجدير بالذكر - عن قبور الأنبياء الماضين - أنّ الخليفة الثاني عند فتحه بيت المقدس لم يعترض على وجود هذه المقابر والآثار بل أقام بها الصلاة (3)مؤيداً

ص: 17


1- الكهف: 21 .
2- الاسم الأصلي لمدينة «الخليل» الواقعة على بعد 25 كيلو متر من بيت المقدس هو «حَبرون» أو «حَبری».
3- تاريخ الطبري: ج 3 / ص 405 طبعة لبنان - مؤسسة الأعلمي - تاريخ أبو الفداء (إبن كثير ) ج 7 / ص 58 طبعة مكتبة المعارف بيروت .

بفعله ذلك، وهكذا كانت سيرة العلماء وقادة المسلمين على مرّ التاريخ .

إذن فالمسلمون شيعةً وسنة وعلى مرّ التاريخ كانوا يكرمون الشخصيات الذين لهم المكانة المعنوية ويبنون على مراقدهم الأبنية والمساجد، متمسكون في ذلك بالمصادر الإسلامية الأساسية وهي الكتاب والسنة الشريفة (1)، ومقتدون بسيرة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في زيارته لقبور الشهداء والصحابة، حيث كانت تلك الزيارات من المعالم الواضحة في حياته .

الهدف من هدم المراقد

المعرفة الخاطئة للدين :

المسلمون - وعلى طول التاريخ الإسلامي - كانوا يعملون على تكريم كبار الشخصيات الدينية ولم تكن هناك أية معارضة لهذا الأمر، إلى أن ظهر في مستهل القرن الثامن في الشام شخص يسمى ابن تيمية، فقام بتحريم أي نوع من الاحترام للأنبياء ومراقدهم، ولم يكتف بذلك بل اتهم من يرتكب ذلك بالشرك والارتداد عن الإسلام ! وادّعى أنّ من لم يتب عن هذا العمل يجب قتله، وأفتى بلزوم هدم هذه الأبنية والآثار .

ولم يلق لرأيه مَنْ يؤيده ويدافع عنه إلّا النفر القليل وسرعان ما أصبح منسيّاً لا يعتدّ به إلى أن ظهرت هذه الظاهرة من جديد مع ظهور الوهابية في نجد والحجاز في القرن الحادي عشر أي بعد مضيّ أربعة قرون، وعلى أساس هذا

ص: 18


1- راجع کتاب «شفاء السقام» للسبكي «المتوفى 756 » وكتاب «وفاء الوفا» للسمهودي، وهما من كبار علماء أهل السنة .

المعتقد قام الوهابيون سنة 1344 للهجرة بعد استيلائهم على مكة والمدينة بهدم هذه المراقد في الحرمين الشريفين وسائر مدن الحجاز فهدموا مراقد أهل بيت النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وصحابته وسائر الشخصيات الدينية، ولم تسلم حتى المساجد المجاورة لتلك المراقد من أيدي التخريب والهدم، ولم يبق اليوم أي أثر منها . والآن يطرح هذا السؤال: ما السبب والدافع إلى هذه العقيدة؟ وكيف يدّعي البعض الإسلام ثم يسمح لنفسه أن يهين شخصيات الإسلام ويهدم آثارهم و مراقدهم؟» .

والجواب: إنّ من الآفات الكبيرة والخطيرة التي تصيب أيّ دين ومذهب هو الفهم الخاطئ والعصبية الزائدة والتفكير المنحرف وبالأحرى فرض الآراء الشخصية في الدين، فتظهر أصحابها بعنوان أنصار ذلك الدين وتسبّب تضعيف العقيدة وإيجاد الفرقة بين معتنقيه . ولا نريد أن نتطرق في هذا البحث إلى مصاديقها في الأديان السابقة .

وعلينا أن نقول: إنّ أنصار الدين الإسلامي الحنيف أيضاً لم يسلموا - وبكل أسف - من المفاهيم الخاطئة والأفكار المنحرفة في الدين التي هي السبب في إيجاد الخلافات والعصبيات حتى انتهت في بعض الحالات إلى إراقة الدماء بين أتباع القرآن الحكيم .

و من المصاديق البارزة لمثل هذا الانحراف الفكري، والمعرفة الخاطئة هو ما اعتقده الخوارج الذين ظهروا في عهد الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وفي ذلك المجتمع الصغير ثم انتشروا أيام خلافة أمير المؤمنين (علیه السلام) وشكّلوا معارضةً لحكومة الإمام آنذاك، وفي النهاية استشهد الإمام (علیه السلام) على يد واحد من عوامل هذه الحركة .

ثم من بعده أيضاً وإلى يومنا هذا نشاهد نشاطات لهم في مختلف نقاط العالم الإسلامي، فيخلقون الفتن بين المسلمين وقد قتل بعض المسلمين على أيديهم .

ص: 19

الخوارج في زمن الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)

أشرنا إلى أنّ ظهور الخوارج إنما يرجع على عهد الرسول(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فبعد انتهاء معركة حنين توقف الرسول في موضع يسمى «الجعرانة » ليقسم الغنائم بين المقاتلين فقام رجل وقال: «يا محمد اعدل» !

فقال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل ! لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، فقال عمر بن الخطاب دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق . فقال: معاذ الله ! أن يتحدّث الناس أنّي أقتل أصحابي . إنّ هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرّميّة»(1).

وفي رواية أخرى أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال له ( يعني ذي الخويصرة):

«فمن يطع الله إن عصيته ! أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني ؟ قال: ثم أدبر الرجل . فاستأذن رجل من القوم في قتله، فقال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «إنّ من ضئضئ (2) هذا قوماً يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عادٍ» (3).

ولم تنته خشونة الخوارج بموقف ذي الخويصرة آنذاك وتجرئه على رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وجواب الرسول له بل أصبحت هذه المجموعة بعد وفاة النبي تشكل خطراً كبيراً على الإسلام والمسلمين وقد أحدثت خسائر جسيمة بالمسلمين،

ص: 20


1- صحيح مسلم : ج 2 ص 740 ح 1063 ( باب ذكر الخوارج وصفاتهم)، دار احياء التراث العربي، : بيروت - لبنان .
2- ضئضئ: بضادين معجمتين مكسورتين وسكون الهمزة وبالياء آخر الحروف، وهو الأصل ،والمراد منه النسل . راجع لسان العرب: ج 1 ص 110 فصل الضاد المعجمة .
3- صحیح مسلم : ج 2 ص 740 ح 1063.

ولهذا فقد بيّن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في مواضع عديدة أوصاف هذه الفئة ومعالمها حتى يتّضح للمسلمون مدى انحرافاتهم في الفكر والعقيدة كي لا يلتبس عليهم الأمر بزيادة عبادتهم وتلبسهم بالصلاح (1).

ونكتفي هنا بذكر ثلاث خصائص لهم اهتم بها رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أكثر من غيرها والتي ترتبط بدراستنا هذه أيضاً:

اهتمام الخوارج بالعبادة وتلاوة القرآن :

من خصائص الخوارج التي واجهت اهتماماً خاصاً في حديث الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كثرة عبادتهم، ومداومتهم على الصلاة والصيام، وقراءة القرآن بحيث يستصغر الناظر عبادة سائر المسلمين مقارنة بعبادة هؤلاء، وهذا ما أشارت إليه عدة أحاديث شريفة منها:

عندما تحدث الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عن مستقبل مَن سيحذو حذو ذي الخويصرة ،قال: «فإنّ له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ». (2)

وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في حديث آخر: «يخرج في هذه الأمة قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم » (3)

وأما في معركة النهروان فقد خاطب أمير المؤمنين (علیه السلام) جيشه وقال:

«أيها الناس إنّي سمعت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يقول: يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن ليس قراء تكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا

ص: 21


1- يروي البخاري تسعة أحاديث في الخوارج كما أنّ مسلم وباقي الصحاح والسنن تروي ما تقارب ثلاثين حديثاً فيهم .
2- صحیح مسلم: ج 2 ص 744 ح 148 .
3- نفس المصدر : ج 2 ص 743 ح 147 .

صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرؤون القرآن يحسبون أنّه لهم وهو عليهم لا تتجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية »(1).

ابتعاد الخوارج عن الإسلام

الخصوصية الثانية للخوارج والتي تؤكد عليها الأحاديث الشريفة، هي ابتعاد الخوارج عن الإسلام وعن مفاهيم القرآن الكريم ، فلغرورهم وتحجّرهم لا يقبلون نصيحة ناصح ولا يهتدون بهدي هادٍ.

قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «إنّ بعدي من أمتي قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه، هم شر الخلق والخليقة »(2) .

إذن فلا أمل بتوبتهم ورجوعهم إلى الإسلام فحالهم كالسهم لن يعود إلى القوس بعد خروجه منه .

تكفير المسلمين

ومن أخطر ما يمتاز به الخوارج تكفيرهم للمسلمين، إذ كانوا يعتبرون كل مسلم حسن الإسلام مرتداً وخارجاً من الإسلام، لأنه لا يوافقهم في عقائدهم وأفكارهم الباطلة، فإذا لم يتب عما هو عليه وجب قتله، في حين أنّهم لم يمسّوا المشركين وعبدة الأوثان بأي أذى، وفي ذلك يقول الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : « يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان » (3). وقد نقلت في التاريخ نماذج من أعمالهم الإجرامية .

وهذه العقيدة الباطلة هي التي تسببت في اندلاع معركة النهروان ومقتل المسلمين في مواقف عديدة .

ص: 22


1- المصدر السابق: ح 156 .
2- المصدر السابق : ح 158 .
3- المصدر السابق : 1064.

من أحمد بن تيمية إلى محمد بن عبد الوهاب:

كانت عقائد الخوارج وأعمالهم مخالفة لقوانين الإسلام وتعاليم القرآن فهي عقيدة موضوعة لم تلبث أن اختفت بين طيّات الكتب باعتبارها حدثاً تاريخياً والذي أخفاه غبار النسيان وبقيت كذلك عدة قرون، إلى أن ظهر أحمد بن تيمية في الشام مطلع القرن الثامن فبدأ يكتب في مختلف المسائل الإسلامية، من أصول العقائد إلى فروع الأحكام مخالفاً في كتبه مسلّمات الإسلام وفتاوى العلماء وأئمة الدين، وكانت بعض آرائه طابقة مع أفكار الخوارج، وقد نشر ابن تيمية أفكاره في خطبه وكتبه وقد سعى سعياً حثيثاً في تبليغ آرائه ومعتقداته .

واعترض عليه جمّ غفير من علماء الشام ومصر وبغداد ونقدوا عقائده في تأليفاتهم ومناقشاتهم العلمية، حتى أصدر بعضهم فتاوى في انحرافه وارتداده و دخل ابن تيمية سجون مصر والشام عدة مرات، ومات سنة 728 هجرية في سجن دمشق .

ولكن مع مخالفة العلماء وخصوصاً علماء الكلام له إلّا أنّ مظاهر التجديد في أفكاره استقطبت نسبةً من عوام الناس إليه، وجعلت البعض يميل إليه، ويتقبّل أفكاره . وإضافةً إلى نشاطه الشخصي في نشر آرائه فإنّ دخوله في السجن كان له أثر فعّال في استرحام الناس له وبالتالي قبول معتقداته.

وقد ساهم تلميذه ابن قيم وهو من المؤيدين له مساهمةً جادةً في كتبه وتأليفاته لبيان معتقدات استاذه ونشرها

ومع ذلك، وكما أشرنا إليه، فإنّ مخالفة العلماء وفقهاء المذاهب الثلاثة «الشافعي والحنفي والمالكي »العقائد ابن تيمية أدت إلى ترك الناس لفتاواه وتأليفاته، وكذلك تأليفات تلميذه ابن قيّم .

واستمر الحال كذلك إلى أن ظهر في القرن الحادي عشر في نجد الحجاز

ص: 23

شخص يُدعى «محمد بن عبد الوهاب» حيث قام بعد أربعة قرون بترويج أفكار ابن تيمية ومعتقداته واستطاع بسبب العوامل التي سنذكرها أن يوصل تلك الفتاوى إلى مرحلة التنفيذ، فأصبحت الأفكار المنسية التي كانت في طيّات كتب ابن تيمية وابن قيم آراء عملية تمّ إجراؤها في المجتمع .

لقد أُلِّفَت من قبل الموافقين والمخالفين في ترجمة ابن تيمية وتلميذيه «ابن قيم» و «ابن عبد الوهاب » وحول أفكارهم وعقائدهم كتب عديدة ومقالات كثيرة، ونحن وفي هذه المقدّمة نشير إلى خلاصة من حياته وبعض عقائده وفتاواه، ونستند فيها إلى تلك التأليفات :

ولد تقي الدين أحمد بن تيمية سنة 661 ه- ب- «حران» من توابع الشام، وأكمل دراسته الأولية حتى سن السابعة عشر هناك.

ثم هاجر برفقة والده عبد الرحيم إلى دمشق خوفاً من المغول، وحتى سنة 698ه- لم يسمع أحد شيئاً من أفكاره الشاذة المنحرفة ولكنها ظهرت في طليعة القرن الثامن من الهجرة ، فكان يتسبب بآرائه المخالفة لمسلّمات الإسلام وللآراء المشهورة عند المسلمين في إثارة الرأي العام والبلبلة بين الناس، ودخل بذلك سجون الشام ومصر مرات عديدة إلى أن جاءه الأجل سنة 728 ه- في سجن دمشق .

وباعتباره عالماً حنبلياً وذا تأليفات كثيرة، كان له إلى جانب ضعفه في العقليات نقاط قوة أيضاً، غير أن أتباعه لم يلقوا الضوء إلّا على نقاط قوته فكانت كلماتهم عنه تقتصر على المديح فقط مخفين بذلك أخطاءه الفاحشة.

أمّا أصحاب الرأي الحر فقد تأمّلوا فى الجانبين، فنقدوا أفكاره ورأوها متباينةً مع تعاليم أنبياء الله وأوليائه، وألفوا فيه كتباً مختلفة .

وهكذا فقد نقد عقائده ورد عليه عشرات العلماء من المعاصرين له أو ممن جاءوا بعده .

ص: 24

ابن تيمية يتجاسر على الأعلام والشخصيّات :

على العكس مما انتهجه الفقهاء وعلماء الدين في مراعاة الأدب والاحترام تجاه من يخالفهم في الرأي وذكر المخالفين بالخير والصلاح، نجد أنّ كتب ابن تيمية أمثال «منهاج السنّة » (1) وغيره تدلّ على تجرّيه على علماء الدين واستعماله الفاظاً موهنةً ركيكة وخارجة عن إطار الأدب تجاه المخالفين له في الرأي .

ولم يكتف ابن تيمية في منهاج سنته بالحمل على العلامة الحلي وسائر علماء الشيعة بل أهان في مواقف كثيرة قداسة أئمة الهدى (علیهم السلام) واجترأ عليهم، فكتابه يحتوي في مختلف فصوله على اتهامات وأكاذيب سردها تحت عناوين «حماقات الشيعة» و«الإمام المنتظر وخرافاتهم فيه» وغير ذلك .

ولم يقتصر ابن تيمية على الشيعة وأئمتهم بل اتبع منهجه تجاه كبار الصحابة وعلماء أهل السنة أيضاً متطاولاً عليهم بالعبارات المستهجنة والألفاظ الموهنة الركيكة.

ورغم أنّ ابن حجر العسقلاني كان يؤيد ابن تيمية ويدافع عنه إلّا أنّه يشير إلى أسلوبه الأخلاقي قائلاً:

كان ابن تيمية متبحراً في مختلف العلوم مثل الفقه والتفسير والحديث كما كان متضلعاً في الخطابة لا ينافسه فيها أحد، ممّا أدى به إلى شدة الإعجاب بنفسه فهاجم العلماء وتحامل عليهم دون أن يفرّق بين صغيرهم وكبيرهم، ضعيفهم وقويهم، قديمهم وحديثهم، حتى أنه ذكر عمر بن الخطاب في إحدى

ص: 25


1- الذي يعتبر من أشهر كتب ابن تيمية والذي ألفه ردّاً على كتاب «منهاج الإستقامة في اثبات الإمامة » الذي الفه العالم الشيعي الكبير، العلامة الحلّي (المتوفى سنة 726 ق) . والذي ننقل منه في هذه المقدمة من الطبعة الاولى للكتاب ببولاق مصر .

خطاباته فحمل عليه بشدة وانتقد أعماله فوصلت أخبار جرأته على الخليفة إلى أحد معاصريه من العلماء يدعى «الشيخ إبراهيم» ، فقام برد ابن تيمية واستنكاره، ولم يستطع ابن تيمية أن يتجاهل ردود الشيخ إبراهيم عليه، فزاره بنفسه وقدّم إليه الاعتذار وأعلن استغفاره وندمه لما صدر منه تجاه عمر بن الخطاب»(1).

ويضيف ابن حجر قائلاً: كان ابن تيمية يقول في علي بن أبي طالب: «أنه قد أخطأ وخالف نص القرآن الكريم في سبعة عشر موضعاً ».

وفي مقارنة له بين أمير المؤمنين (علیه السلام) وعثمان بن عفان كان يقول: «أما علي ابن أبي طالب فكان يحب الرئاسة والسلطة، ولم يكن هدفه في جميع حروبه تعزيز الإسلام وحماية القرآن وإنما كان يهدف للرئاسة ونيل الخلافة، ولذلك فقد واجه الهزيمة في حروبه كلها، أما عثمان فكان يحب المال حبّاً جماً وهذا ما أودى به إلى القتل(2).

يقول ابن حجر ايضاً: حمل ابن تيمية في إحدى جلساته على الإمام الغزالي واستهانه، بحيث أثار بعض الناس حتى كادوا يقتلونه إلّا أنه نجا منهم، كما أنّ ابن تيمية كان يسبّ محي الدين العربي ويلعنه»(3).

ابن تيمية لم يتزوج :

كان ابن تيمية غير معتدل فى أعماله، يدلّنا على ذلك تجرّيه على الخلفاء واستحقاره العلماء وكبار رجال الدين، وخلافه مع أئمة أهل السنة في عقائدهم وفتاواهم .

ص: 26


1- الدرر الكامنة : ج 1 / ص 154 .
2- نفس المصدر.
3- نفس المصدر .

إضافةً إلى ذلك نجد الاضطراب في حياته الشخصية أيضاً، فقد عاش ما يقارب 70 سنة دون أن يتزوج، ومع ذلك یری نفسه شيخ الإسلام بين أنصارالمذهب الحنبلي .

ابن قيّم :لا شك أنّ ابن قيم الجوزي (المتوفى 751ه- ) كان أكبر تلميذ لابن تيمية وخير مدافع عن أفكاره، وقد تبنّى التبليغ لآراء استاذه أيام حياة ابن تيمية وبعد موته، وقاوم ابن قيّم المعارضين له ونشر عقائده من خلال ما ألفه من كتب أو أنشده من شعر ، ولاقى في هذا السبيل ما ذاقه استاذه من التعذيب والسجون . ولذا تجد أنّ الوهابيين يرجعون إلى مؤلفات ابن قيّم أيضاً ويتمسكون بآرائه إضافة إلى آراء ابن تيمية وسنشير إليه فيما بعد .

محمد بن عبد الوهاب مؤسس الوهابية:

ينتسب المذهب الوهابي إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي حيث اقتبس اسم المذهب من اسم أبيه «عبد الوهاب» . إلّا أنّ الوهابيين لا يرضون بهذه التسمية ويتّهمون أعداءهم بإطلاق هذا الاسم عليهم، فهم يسمّون مذهبهم حيناً بالمذهب «المحمدي» نسبةً إلى اسم محمد بن عبد الوهاب، كما يسمّون أنفسهم في حين آخر «بالسلفية» باعتبارهم أتباع الصحابة والسلف الصالح كما يدّعون .

ولد ابن عبد الوهاب في مدينة «العيينيّة» من توابع نجد سنة 1115 هجريّة وكان أبوه قاضياً هناك وكان يعتبر من علماء المذهب الحنبلي .

أبدى الشيخ محمد في مقتبل عمره اهتماماً كبيراً بالكتب الدينية من التفسير والحديث والفقه ودراسة العقائد والآراء المختلفة . فدرس الفقه الحنبلي في مسقط رأسه على يد أبيه ، ثم هاجر إلى المدينة المنورة ليكمل دراسته هناك

ص: 27

يذكر« أحمد زيني دحلان» المؤرخ المعاصر لابن عبد الوهاب: «كان محمد ابن عبد الوهاب في أيام دراسته يشير إلى مسائل كانت تدلّ على عقائده الخاصة، حتى خشي أساتذته على مستقبله وقالوا عنه: لو قام هذا بالتبليغ لأضلّ الناس بأفكاره ».

وبعد ذلك ترك محمد بن عبد الوهاب المدينة ورحل إلى أماكن أخرى فعاش أربع سنوات في البصرة، وخمساً في بغداد، وسنة في كردستان، وسنتين في همدان، ومدة في أصفهان وقم . ثم رحل إلى «حريملة» مسقط رأس أبيه، وكان قليل التحدث أيام حياة أبيه ، وقد جرى النزاع بينهما في بعض المواقف، إلى أن توفي أبوه سنة 1153 ه- وهو في سن الثامنة والثلاثين آنذاك، وحينئذ رفع الشيخ محمد الستار عن عقائده الخاصة مما أثار الرأي العام في هذه المدينة فاضطرّ إلى ترك البلد متّجهاً إلى مسقط رأسه «العيينيّة »، لكنه لم يدم فيها طويلاً حيث أجبر على تركها أيضاً، فذهب ليسكن في «الدرعية» حين كان يحكمها محمد بن سعود الجد الأكبر لآل سعود باعتباره رئيس القبيلة .

عرض ابن عبد الوهاب دعوته على حاكم الدرعية واتفقا على أن تكون الدعوة بيد محمد بن عبد الوهاب والحكومة لمحمد بن سعود، ولتوطيد العلاقة بينهما تمت مصاهرة بين الأسرتين .

وهكذا بدأ محمد بن عبد الوهاب دعوته تحت ظلّ هذا الحاكم وسرعان ما شرعوا بالهجوم على القبائل والمدن القريبة وانهالت الغنائم من كل جانب على مدينة الدرعية وقد كانت فقيرة آنذاك . وما كانت هذه الغنائم إلّا أموال المسلمين من أهالي نجد بعد ما اعتبرهم محمد بن عبد الوهاب مشركين وعبدة أوثان واستباح أموالهم وثرواتهم على جيشه، كما سنذكر ذلك، واستمرت هذه الهجمات واتسعت من قبل الوهابيين إلى أن قامت دولة سياسية دينية في الحجاز

ص: 28

مبتنية على المذهب الوهابي وعلى معتقدات ابن تيمية وآرائه .

عوامل نجاح محمد بن عبد الوهاب:

لاشك أنّ محمد بن عبد الوهاب إنما استمد آراءه وعقائده من آراء ابن تيمية وعقائده، فلم يقل إلّا ما قاله ابن تيمية وابن قيّم قبل خمسة قرون

وقد يتساءل البعض أنه لماذا واجه ابن تيمية تلك الاعتراضات الشديدة ودخل السجون ورغم ذلك لم يستطع الوصول إلى مرامه، وعلى العكس منه فإنّ الشيخ محمد استطاع أن ينشر دعوته في نجد ثم في منطقة الحجاز وأن يوصل آراءه وفتاويه إلى مرحلة التنفيذ ؟

للإجابة على هذا السؤال يجب الإشارة إلى عدة نقاط :

1 - البيئة النائية عن العلم والمعرفة:

كما أشرنا سابقاً فإنّ ابن تيمية قد عرض أفكاره في مدن كبيرة مثل دمشق والقاهرة حيث يقطن فيها العلماء والقضاة ذوو السلطة من المذاهب الثلاثة «المالكي والحنفي والشافعي» ، فتصدى له هؤلاء العلماء بكل قوة، وناقشوه في أفكاره وألفوا الكتب العديدة في الرد عليه بل وأصدروا الفتاوى في انحرافه وارتداده، وقد دخل السجن عدة مرات حتى كانت نهاية حياته في غياهب أحد السجون .

أما الشيخ محمد فقد نشر أفكاره في نجد حيث تسكنها جماعات بدوية بعيدة عن العلم والحضارة.

ولعل أكبر علماء تلك الديار كان الشيخ عبد الوهاب أبو الشيخ محمد، وكذلك الشيخ سليمان أخوه، وقد خالفه هذان أيضاً، فألف أخوه أوّل كتاب في الردّ عليه (1)، إلّا أنّ التخلّف السائد عند الناس لم يسمح لهذه الردود أن تغير شيئاً.

ص: 29


1- وسمّاه «الصواعق الالهية ) والذي طبع في اسطنبول وتوجد نسخ منه في مكتبة السيّد المرعشي النجفي.

كان أهل نجد أناساً بسطاء ذوي قلوب ساذجة تتقبل كل جديد يطرق الأسماع، خصوصاً إذا كان تحت غطاء «التوحيد» والذي يدّعيه الشيخ محمد .

2 - الحصول على الثروة :

العامل الثاني الذي أخضع أهل نجد لأفكار محمد بن عبد الوهاب هو اتهامه المسلمين كافة بالشرك وعبادة الأوثان، معتبراً نفسه عالماً وفقيهاً للمذهب الحنبلي . ولذلك فإنّ الوهابيين استطاعوا في هجماتهم المتتالية على أهالي نجد وساير البلاد مثل الحجاز واليمن والشام والعراق أن يريقوا الدماء ويستحلوا الأموال، وكان ذلك عاملاً قوياً في ترسيخ أفكار الشيخ محمد بين أتباعه الذين كانوا يعيشون في ظروف اقتصادية متردّية، فاجتمع الناس حوله من كل مكان يتسابقون في تنفيذ أوامره .

3 - الدعم السياسي والعسكري:

أحد عوامل انتشار الوهابية، الدعم السياسي والعسكري من قبل آل سعود لهذا المعتقد، نتيجة المعاهدة المبرمة بين الشيخ محمد ومحمد بن سعود . فكانت الوهابية منذ نشأتها تتمتع بدعم قوي من قبل آل سعود باعتبارهم زعماءً لقبيلة كبيرة، وقد استمر هذا الدعم إلى يومنا هذا، حيث ترى الحكومة السعودية نفسها ملزمة بنشر هذه العقيدة وصرف الأموال الطائلة عليها .

4 - الاستعانة بالعنف والشدة :

ومن عوامل نجاح الوهابية في الحجاز استخدام العنف والغلبة، وإعمال السيف قتلاً ونهباً وتشريداً، وكذلك تخويف الناس وإرعابهم . بحيث يتحير الإنسان منها وتقشعر النفوس والجلود أمام المجازر التي ارتكبها الوهابيون في مختلف بلاد الحجاز والشام واليمن والعراق، وإليك مثالان من تلك الجرائم الوحشية:

ص: 30

مجازر الوهابيين في الطائف

كتب المؤرخ السعودي جميل صدقي الزهاوي عن فتح الوهابيين للطائف « إنّ من أقبح أعمال الوهابيين مجازرهم في الطائف، إذ لم يرحموا الكبير والصغير، فذبحوا الرضيع في حجر أمه، وأتوا على جمع يتدارسون القرآن فقتلوهم جميعاً، وحينما خلت البيوت، هاجموا المحلات التجارية والمساجد، فقتلوا من رأوا حتى الراكعين والساجدين ، ورموا بالكتب في الأزقة والأسواق وداسوها بأرجلهم بما فيها نسخ من المصحف الشريف وصحيحي البخاري ومسلم وسائر كتب الحديث والفقه ».

وقعت هذه الحادثة في ذي القعدة سنة 1217ه- (1).

هجوم الوهابيين على العتبات المقدسة

تعتبر مجازر الوهابيين في العتبات المقدسة صفحة سوداء في تاريخ الإسلام .

يذكر الكاتب الوهابي صلاح الدين مختار أنّ الأمير سعود اتجه نحو العراق بجيش كبير جداً من أهالي نجد وعشائر الجنوب والحجاز وتهامة وساير المناطق حيث حاصر مدينة كربلاء في شهر ذي العقدة فهدم جيشه الحصون واقتحموا المدينة وقتلوا معظم من رأوه في الأزقة والشوارع أو في البيوت، ثم تركوا المدينة عند الظهر حاملين معهم غنائم كثيرة، واجتمعوا على ترعة ماء تسمى «الأبيض» فأخذ سعود خمس الأموال المنهوبة لنفسه ووزع الباقي بين المقاتلين بحيث أخذ كل من المشاة سهماً واحداً وكل فارس سهمين (2).

ص: 31


1- الفجر الصادق: ص 22نقلاً عن «وهابيت، مباني فكري» و «کشف الارتياب :» ص 23.
2- تاريخ المملكة العربية السعودية: ج 3 ص 73، نقلاً عن «وهابيت، مباني فكري»، تأليف آية الله السبحاني .

يروي الدكتور عبد الجواد الكليدار الكربلائي في كتابه تاريخ كربلاء والحائر الحسيني أنّ عدد القتلى من أهالي كربلاء والزوار الإيرانيين وغير الإيرانيين كان عشرين ألفاً.

ثم يذكر أن الأمير سعود بعد الفراغ من الحرب اتّجه إلى خزينة الحرم المليئة بالأموال الطائلة والودائع الثمينة، فأخذ ما رآه كله، ويقال أنه فتح باب مخزن كانت فيه نقود كثيرة .

ومما استولى عليه جوهرة عظيمة متلألئة وعشرين سيفاً مطلية بالذهب ومرصعة بالأحجار الكريمة، إضافة إلى الأواني المحلاة بالذهب والفضة والفيروزج والألماس ، وغير ذلك من الذخائر الثمينة .

وعثر أيضاً على أربعة آلاف رداء كشميري وألفي سيف مذهّب ومقادير وافرة من البنادق وسائر الأسلحة فنهبها كلها دون استثناء

فأصبحت كربلاء بعد هذه الحادثة بحالة يرثى لها .

وعاود الأمير سعود في شهر جمادى الأولى سنة 1223ه- هجومه على العراق وعلى كربلاء خاصة على رأس قوة كبيرة، إلّا أنّ سكان المدينة كانوا مستعدين له أتم الاستعداد لما لاقوه من آلام في الهجمة السابقة .

وابتدأت القوات الوهابية تمطر المدينة بالرصاص ولكن دون جدوى فلم يقدروا على دخولها فتركوها وعادوا من حيث أتوا .

وقد هاجم الأمير سعود بعد مجزرة كربلاء مدينة النجف عدة مرات، فكان يقتل من يلاقيه خارج المدينة، إلّا أنّه واجه مقاومة أهل النجف وعلى رأسهم العلماء وخصوصاً العالم الشيعي الكبير المرحوم الشيخ جعفر كاشف الغطاء، فلم يقدر سعود دخول النجف واضطرّ إلى الانسحاب عنها بجيشه .

ص: 32

ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب كما يراهما أبو زهرة :

يرى الكاتب المصري الشهير محمد أبو زهرة - كباقي الذين يعرفون أفكار الوهابيين وآرائهم - أنّ الوهابية تعود في أصولها إلى أفكار ابن تيمية وعقائده ويضيف الكاتب نقاطاً هامة تتناسب مع بحثنا هذا ويستنير القارئ منها ليزداد إطلاعاً على آراء هذه الفئة وأعمالها، وإليك ملخصاً لما يذكره :

يذكر الكاتب الفوارق بين دعوتي محمد بن عبد الوهاب وابن تيمية فيقول: إنّ الوهابيين لم يضيفوا شيئاً على ما أملاه ابن تيمية، إلّا أنهم كانوا أكثر عنفاً منه فارتكبوا ما لم يرتكبه ابن تيمية، فنلخص ذلك فيما يلي:

1 - كان ابن تيمية يضيّق دائرة الأمور العبادية، أما الوهابيون فقد زادوا عليه، إذ اعتبروا حتى بعض الأمور العادية خارجةً عن حدود الإسلام، فحرموا التدخين وتشددوا في تحريمه، فكانت عامة الوهابيين يرون المدخن مشركاً، وهم بذلك يشبهون الخوارج الذين كانوا يكفّرون كل من ارتكب حراماً

2 - حرّم الوهابيون على أنفسهم القهوة وأمثالها في بداية الأمر، إلّا أنّنا نراهم اليوم متساهلين في ذلك .

3 - لم يكتف الوهابيون بالدعوة والتبليغ وإنما رفعوا السيف على من يخالفهم، وكانوا يقولون: نحن نحارب البدع .

4 - كلما احتل الوهابيون مدينةً أو قرية هدموا الأضرحة والقبور التي كانت فيها، بحيث لقبهم بعض الكتاب الأوربيين ب- «هدّامي المعابد» . إلّا أنّ الكاتب يرى هذا القول مبالغة فيه لأّن الأضرحة غير المعابد .

5 - تطرق الوهابيون إلى أمور صغيرة ليست فيها عبادة صنم ولا مقدمةً لعبادة صنم حسبما يرونه، فأفتى علماؤهم مثلاً بتحريم التصوير، إلّا أنّ الحكام لم يعيروا لهذه الفتوى أهمية .

ص: 33

6 - وسّع الوهابيون مفهوم البدعة بصورة غريبة، حتى أنهم اعتبروا وضع الستار على الروضة النبوية الشريفة بدعة (1).

ومن الجدير بالذكر أنّ موضوع التصوير في أقوال أبي زهرة جاء على سبيل المثال لا الحصر، فالوهابيون في بداية أمرهم قاوموا كل جديد في حياتهم مثل البرقية والتلفون والدراجة ،والسيارة فاعتبروها بدعة وحراماً.

ولكن عندما استولى عبد العزيز على الحرمين الشريفين، اضطرّ إلى رفع مستوى دولته حسب مقتضيات العصر، فما اعتنى باعتراض المتعصبين من أتباع محمد بن عبد الوهاب وأجاز استعمال الصناعات الحديثة وأذن باستيرادها إلى الحجاز، كما جوّز التدخين من قبلهم اليوم .

نظرةً إلى عقائد الوهابيين وآرائهم:

كما ذكرنا سابقاً، إنّ الوهابيين لهم عقائد وفتاوى خاصة بهم، تخالف العقائد المسلّمة لدى المسلمين كما تخالف فتاوى الفقهاء والأئمة، سواء من الشيعة أو السنة، وذكرنا أيضاً أنّ عقائدهم هذه ذات سوابق في التاريخ حيث ترجع إلى ابن تيمية الحراني وتحيي هذه العقائد أفكاره وآراءه .

وإليك الآن نماذج من موضوعي «العقائد» و «الأحكام الفقهية :

العقيدة بتجسيم الله والإشارة إليه :

يعتقد ابن تيمية - ومع الأسف الشديد -بالتوحيد الجسماني خلافاً للنظرية المحتومة في الإسلام التي تنزه الله تعالى من التجسيم.

وخلافاً لشعار القرآن الكريم الذي يقول: ليس كمثله شيء، وعلى عكس ما

ص: 34


1- محمد أبو زهرة، العقائد الإسلامية ص 343.

رام إليه المتكلمون وفلاسفة الإسلام طيلة مئات السنين من نفي التجسيم وإخراج المعتقدين بتجسيم الله وماديته عن حيطة الإسلام واستدلّوا على تحريف التوراة الذي بأيدينا اليوم الفصل منها يرى الله موجوداً جسمانياً ينزل إلى الأرض ويدخل خيمة يعقوب الله ليتصارع معه (1).

نعم يرى ابن تيمية أنّ لله مكاناً وجهةً يشار إليها، ويجعله مستقراً على العرش ، لا ينزل إلى السماء إلّا فى أوقات خاصة . وهو يعتقد أنّ الله قابل للرؤية وسنشاهده بأعيننا المادية يوم القيامة .

وقد أظهر ابن تيمية معتقده هذا لأول مرة سنة 698 هجرية خلال خطبة في مسجد دمشق، مما استوجب النزاع والخلاف وإثارة البلوى في دمشق وقد عارضه علماء البلد وفقهاؤه .

امتدت أفكار ابن تيمية إلى القاهرة والإسكندرية، ولكن سيطر حاكم دمشق آنذاك على الموقف وأخمد النائرة بصورة مؤقتة، ولكنها كانت نار تحت الرماد ، فقد انفجرت الساحة ثانية سنة 705 هجرية جرّاء قوله بالتجسيم من جديد .

واستدعى علماء مصر وقضاتها ابن تيمية إلى القاهرة لاستكشاف حقيقة الأمر، وبعد البحث والنقاش أفتوا بانحرافه وتمّ سَجنه لمدة سنة ونصف، وبعد إطلاق سراحه تمّ تسفيره إلى الإسكندرية، ثم قفل راجعاً إلى دمشق .

دواعي ابن تيمية في ميله إلى فكرة التجسيم

قبل الدخول في أصل الموضوع، يجب أن نجيب على هذا التساؤل حول هدف ابن تيمية باعتباره عالماً دينياً في ميله إلى فكرة التجسيم، إذ كيف يمكن

ص: 35


1- راجع المجلد الأول من كتاب البيان، ترجمة المؤلف بمساعدة السيد الهريسي .

لشخص مولع بالقرآن والحديث أن يدّعي أنّ لله مكاناً وأنّه قابل للرؤية ويتركب من أعضاء كأعضاء جسم الإنسان ؟

للإجابة على هذا السؤال نقول: كما ذكرنا سابقاً فإنّ من البلايا والمخاطر التي تصيب كل دين أو مذهب عدم الفهم الصحيح والتسرع في الأمور والاستنتاجات الخاطئة المنحرفة، وأحياناً العجب والغرور .

ويتبلور مثل هذا النوع من التفكر الديني الخاطئ في ابن تيمية وعقائده في التوحيد ومعرفة الخالق وبعض فتاواه الفقهية، وتنتهي عقيدته هذه بتجسيم الله إلى عاملين أساسيين:

أولاً: عدم وجود المعرفة الصحيحة لعالم الوجود .

ثانياً: الجمود في اتباع ظواهر الألفاظ .

فكلام ابن تيمية يدلّ على عدم حصوله على المعرفة السليمة للوجود ويرى - كالماديين - أنّ العالم لا يزيد عن الطبيعة والأمور المادية والجسمانية، ولا يعتقد بما وراء الطبيعة شيئاً.

وكان يتمسك بالمنقولات ويستدل على ظواهر بعض الآيات والأحاديث ليفّسر معتقده عن التوحيد، وأراد بذلك أن يبرر تلك العقيدة المكنونة في باطنه .

ومع أنّ الكتاب لم يلاحظوا هذه الناحية من ظهور عقيدة ابن تيمية في التجسيم ، ولم يذكروا في ترجمته وتعليل انحيازه إلى تجسيم الباري إلّا الجانب الثاني وهو جموده على ظواهر الألفاظ إلّا أنّ هذا الموضوع إنما يتبين من خلال كلماته بالكناية حيناً وبالتصريح حيناً آخر، فيؤكد على كون جميع الموجودات في العالم ماديةً جسمانية، وينكر ما وراء المادة والطبيعة .

فتراه عندما يسمع كلام العلامة الحلي (رحمه الله ) الذي يقول في أوصاف الباري

ص: 36

سبحانه: «إنه غير مرئي ولا مدرك بشيء من الحواس لقوله تعالى «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ »» يرد عليه قائلاً: «وأما إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يكون داخل العالم ولا خارجه فهذا مما يعلم العقل استحالته وبطلانه بالضرورة (1)» .

وهذا القول من ابن تيمية ينطبق تماماً على ما يقوله الماديون ومن لم يؤمن بما وراء الطبيعة في إنكارهم لوجود الله، بأنّ ما لا تراه العين ولا يمكن لمسه وليس له لون أو رائحة يمتنع العقل عن قبوله (فتدبّر) .

الجمود على ظواهر الألفاظ

العامل الثاني في ميل ابن تيمية إلى فكرة تجسيم الله سبحانه هو جموده على ظواهر الألفاظ وإنكاره أي شكل من أشكال المجاز والاستعارة في الكلام .

ونحن نعلم أنّ الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة والأدب العربي عامةً مليئة بالمجاز والكناية كما هو الحال في اللغات الأخرى بل وأكثر منها، إلّا أنّ ابن تيمية لا يعترف بأية كناية أو استعارة ويحمل كل لفظ استعمل في القرآن أو الحديث في أوصاف الباري سبحانه على المفهوم الأولي للكلمة ويرى إطلاقها إطلاقاً حقيقياً . فيستدل على قوله تعالى: «الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى »(2) بأنّ الله جالس على مكان يسمى العرش، وعلى قوله تعالى: « يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ »(3) بأنّ لله يداً، وهكذا .

ص: 37


1- منهاج السنة : ج 1 ص 218 ، الطبعة الأولى ببولاق بمصر .
2- سورة طه: الآية 5 .
3- سورة الفتح: الآية 10.

وكان ابن تيمية يؤكد على هذه الأفكار في خطاباته ومحاوراته من جهة، وفي كتبه ومؤلفاته من جهة أخرى . حتى أن الرحالة الشهير ابن بطوطة كتب في مذكرات سفره «رحلة ابن بطوطة» تحت عنوان «الفقيه ذو اللوثة» : «رأيت في دمشق كبير فقهاء الحنابلة تقي الدين ابن تيمية يتحدث في مختلف العلوم مع أنّه كان في عقله شيء، إلّا أنّ أهل الشام كانوا يحترمونه كثيراً» (1) .

ويضيف ابن بطوطة: «كان يعظ الناس يوم جمعة في المسجد الجامع وكنت حاضراً هناك، فذكر أنّ الله ينزل من عرشه إلى السماء الأولى مثل نزولي من هذا المنبر، قال هذا الكلام ونزل درجاً واحداً من المنبر ، فاعترض عليه فقيه مالكي يدعى ابن الزهراء وردّ كلامه فقام الناس دفاعاً عن ابن تيمية وضربوا الفقيه بالأيدي والنعل حتى سقطت العمامة من رأسه» (2) .

ويذكر ابن حجر العسقلاني أيضاً (المتوفى سنة 753 هجرية) والمعاصر لابن تيمية هذه الواقعة، لكنه يتشكك في الموضوع بأنه قد يكون الخبر كاذباً (3)، رغم أنّ ابن بطوطة يذكر الحادثة بتفاصيلها مثل أية حادثة أخرى باعتبار شاهد عيان لا صلة له بها .

يدعي ابن تيمية في كتابه العقيدة الحموية الكبرى أنّه لم يذكر أحد من السلف الصالح أو الصحابة والتابعين بأن الله ليس في السماء ولا فوق العرش ولم يقل أحد أنّه تعالى موجود في كل مكان، وأنّ نسبة الأماكن كلها واحدة له، ولم يقل أحد أنّ الله ليس داخل العالم ولا خارجه، ولم يقل أحد أنّه تعالى لا

ص: 38


1- رحلة ابن بطوطة: ص 90 طبعة دار التراث، بيروت .
2- نفس المصدر : ص 109.
3- الدرر الكامنة : ج 1 / ص 104 .

يشار إليه بالحواس (1).

ويذكر في منهاج السنة أيضاً: «يعتبر نزول الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا من الأحاديث الشهيرة والثابتة عند علماء الحديث، وكذلك الحديث القائل بأنّ الله يقترب يوم عرفة من عباده »(2).

وقد ذكر ابن قيّم تلميذ ابن تيمية والمتحد معه في الرأي بكل إصرار في قصيدته النونية آراء شيخه في جسمانية الله، وأنّ له مكاناً يشار به إليه، وأنّه مستقر فوق العرش ؛ يقول ابن قيّم: يمكننا أن نستدلّ بألف دليل، بل بألفي دليل على أنّ لله مكان فوق العرش :

يا قومنا والله إنّ لقولنا *** ألفاً يدل عليه أو ألفان

كل يدل بأنه سبحانه ***فوق السماء مباين الأكوان

والله فوق العرش جل جلاله ***سبحانه عن نفي ذي البهتان

والله فوق العرش ينظر خلقه ***فانظره إن سمحت لك العينان

فالذات خصت بالسماء وإنما ***عمّ العلوم جميع ذي الأكوان (3)

الاعتقاد برؤية الله سبحانه :

الموضوع الثاني في عقائد ابن تيمية يتعلق برؤية الله جلّت عظمته، فهو يدافع

ص: 39


1- ج 1 ص 451 و 452، نقلاً عن دائرة المعارف الإسلامية الكبرى، ج 3 / ص 187.
2- منهاج السنة : ج 1 / ص 262
3- من كتب ابن قيّم «أعلام الموقعين عن ربّ العالمين» ومنها «القصيدة النونية» التي سماها «الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية» والتي تشمل ستة آلاف بيت ، يشرح في معظمها أفكار شيخه ابن تيمية . تمّ طبع هذا الكتاب بطريقة الأوفسيت في دار المعرفة ببيروت عن النسخة المطبوعة في سنة 1345 الهجرية في القاهرة .

بكل شدّة عن فكرة رؤية الله تعالى في الآخرة، وقد كتب في ذلك كثيراً في مختلف مؤلفاته وخصوصاً في منهاج السنة، حيث ناقش الموضوع بالتفصيل، ويردّ على العلامة (رحمه الله ) الذي استدل بآية « «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ »على عدم إمكان رؤية الله .

فيقول ابن تيمية اتفق العلماء والمحدثون على إثبات رؤية الله ورووا أحاديث متواترة وعديدة في هذا المجال، منها هذا الحديث: «إنّكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر لا تضامّون في رؤيته»(1).

كما يذكر ابن قيّم هذا الأمر في قصيدته ويقول:

إنّ العباد يرونه سبحانه *** رؤيا العيان كما يرى القمران

ويضيف أيضاً:

فیرون ربهم جهرة ***نظر العيان كما يرى القمران (2)

إثبات سائر الأعضاء لله تعالى :

ولا تقتصر عقيدة ابن تيمية في جسمانية الله سبحانه على مسألة المكان والرؤية - كما أشرنا اليه - بل يرى ابن تيمية لله سائر أعضاء الجسد أيضاً، فالإله الذي يصوّره ابن تيمية له أعضاء مختلفة كأعضاء جسم الإنسان مثل العين واليد والساق وغير ذلك .

ورعاية للاختصار في هذا المجال نكتفي بكلام ابن حجر العسقلاني الذي يقول: الذين يقولون إنّ ابن تيمية يعتقد بجسمانية الله، إنما يستدلّون على ما أدلى به ابن تيمية في «العقيدة الحموية الكبرى» و« العقيدة الواسطية » وسائر كتبه، حيث يقول:

ص: 40


1- منهاج السنة: ج 1 ص 215 - 216 .
2- القصيدة النونية : ص 243.

«ما ذكَرَتْه الآيات والأحاديث في صفات الله عن «اليد» و «الساق» و «القدم» و«الوجه» وغيرها، إنما هي صفات حقيقية له تعالى ولا يجوز حمل هذه الألفاظ على الكناية والاستعارة والمجاز، كما أنّ ذات الباري مستقرة فوق العرش حقيقةً»(1).

التوحيد في نظر الوهابيين

كما ذكرنا سابقاً، يعتبر محمد بن عبد الوهاب من أتباع ابن تيمية ومحيي عقائده ومجري آرائه وفتاواه، ولذا نجد أنّ ما ذكره محمد بن عبد الوهاب وأتباعه من عقائد وفتاوى فقهية إنما يدور في إطار آراء ابن تيمية وابن قيّم وعقائدهما وتأليفاتهما، ولذا فإنّ الوهابيين قد كرروا في مسألة التوحيد نفس الآراء التي ذكرناها عن ابن تيمية، فنرى «عبد اللطيف » حفيد محمد بن عبد الوهاب - والذي هو من علماء الوهابيين - يقول في رسائله الخمسة المسماة «الهديّة السنية في بيان بعض معتقدات الوهابيين نحن نعتقد أنّ الله جالس على العرش كما يشير :تعالى: « «الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى »، ونعتقد أن لله يدين لأنّه يقول: « بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ » ونعتقد أنّ له عيناً ووجهاً حيث يقول: « «وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ» ، إلّا أنّنا لا ندرك كيفية هذه

الأعضاء، ونحن نصدق أيضاً جميع الأحاديث الشريفة المروية عن الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)

في صفات الله ونشهد أنّ الله سيأتي بين عباده يوم القيامة و...»(2).

ص: 41


1- الدرر الكامنة: ج 1 ص 155 .
2- كشف الارتياب: ص 125 .

فتاوى الوهابيين الفقهية

حرمة زيارة قبور الأنبياء (علیهم السلام) :

عرضنا قسماً من آراء الوهابيين في أهم موضوع عقائدي، ألا وهو التوحيد ومعرفة الخالق.

ونشير الآن إلى بعض فتاواهم الفقهية التي ترتبط مباشرة ببحثنا ومن هذه هذا الفتاوى حرمة شدّ الرحال لزيارة قبور الأنبياء والصالحين وحرمة التوسل والتبرك بهم، أو بناء مشاهدهم وإصلاح قبورهم .

وقد طرح ابن تيمية هذا الموضوع ولأول مرة سنة 726 هجرية في دمشق وتسبب في خلق فتنة جديدة، وقد وصلت هذه الفتنة ذروتها عندما انتبه العلماء والقضاة أنّ ابن تيمية قد ألف سنة 710 ه- أي قبل ستة عشر عاماً كتاباً في حرمة زيارة قبور الأنبياء وحرمة التوسل والتبرك بهم وسمّاه «اقتضاء الصراط المستقيم».

واشتدت هذه الفتنة يوماً بعد يوم وامتد لهيبها إلى المدن الأخرى فرأى الحاكم أنّ أحسن طريقة لحلّ هذه الفتنة هي سَجن ابن تيمية في قلعة دمشق، وظلّ في السجن سنتين إلى أن مات .

ولكن وعلى الرغم من وجود الدلائل القطعية على استحباب زيارة قبور الأنبياء وبالأخص القبر المطهر لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، والتي تعتبر لدى كافة المسلمين من أفضل العبادات، فقد حرّم ابن تيمية زيارة قبر الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وسائر الأنبياء والصالحين واعتبرها بدعةً وشركاً.

وحيث أنّه يرى ارتكاب كل عمل محرم ارتداداً عن الدين، فهو يفتي أن زائر تلك المشاهد المطهرة مرتد، مهدورٌ دمه ومباح ماله إن لم يتب، كما هو الحال

ص: 42

في سائر المرتدين، ويجب على المسلمين قتله في أسرع وقت ممكن، كما يجب الإسراع في تخريب تلك القبور والمشاهد ومحو آثارها لأنّها تلعب دور الأصنام والأوثان !

وقد ألّف ابن تيمية كتاباً في هذا المجال، سمّاه «الجواب» ، كما خصص عدّة صفحات من كتاب «منهاج السنة » بهذا الموضوع (1)، وخاطب في منهاجه هذا عموم المسلمين، وإن كانت عمدة هجومه على الشيعة لأنّهم أكثر اهتماماً واحتراماً من سائر المسلمين لمراقد الأئمة (علیهم السلام) والصالحين .

فتاوى الوهابيين في رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) و.

يشارك الوهابيون أيضاً ابن تيمية في آرائه وفتاواه المذكورة في زيارة قبر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وفي شخصيته . ومراعاة للإختصار نكتفي عن شرح كل تلك الفتاوى بذكر ما رواه المرحوم آية الله السيد محسن الأمين العاملي في «كشف الارتياب» . يذكر المرحوم في فصل بعنوان« اعتقاد الوهابيين في النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وسائر الأنبياء والصالحين وقبورهم » ما يلي:

«إعقتادهم في النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّ الإستغاثة به وطلب الشفاعة منه إلى الله والتوسل به إليه بقول : يا رسول الله، أو يا رسول الله اشفع لي، أو أتوسل بك إلى الله والتبرك بقبره والصلاة والدعاء عنده و تعظيمه كل ذلك شرك وكفر وعبادة للأصنام والأوثان، موجبة لحل المال والدم، وأنه يحرم السفر لزيارته ، ويجب هدم ضريحه وقبته ويحرم التبرك بتربته، ولمس ضريحه وتقبيله، وأنّ ضريحه صنم من الأصنام ووثن من الأوثان، بل هو الصنم الأكبر والوثن الأعظم،

ص: 43


1- كشف الارتياب: ص 130 - 133 .

وكذلك سائر الأنبياء والصالحين»(1).

كما ذكروا أقوالاً أخرى تنافي الأدب والاحترام تجاه رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

ويضيف المرحوم آية الله الأمين العاملي في فصل آخر تحت عنوان: «اعتقادهم في عموم المسلمين »:

«واعتقادهم في عموم المسلمين أنّهم كفروا بعد ايمانهم وأشركوا بعد توحيدهم، أو أنهم كفار بالكفر الأصلي، بل شرّ من الكفار، فيجب قتالهم، وتحلّ دماؤهم وأموالهم على المسلمين (أي الوهابيين ) »(2).

تخريب المشاهد والقبور

هذه نظرة الوهابيين وعقيدتهم بالنسبة لمشاهد الأنبياء والصالحين وقبورهم وهذه آراءهم وفتاواهم في وجوب تخريب القبور، ولذلك كانوا إذا هاجموا أية بلدة وسيطروا عليها ابتدأوا بتخريب المشاهد ومزارات الأولياء وتسويتها بالأرض.

فعندما فتحوا الطائف هدموا قبة عبد الله بن عباس، وعند دخولهم مكة بادروا إلى هدم مشاهد عبد المطلب جد الرسول وأبي طالب عمه، وخديجة (علیها السلام) زوجته، كما خرّبوا مكان ولادة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ومولد فاطمة الزهراء (علیها السلام) ، وفي جدّه أبادوا قبر حواء، وعندما حاصروا المدينة المنورة هدموا مسجد حمزة عم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قبل دخول المدينة، ويقال أنّهم ضربوا قبة الرسول من خارج المدينة .

ولما دخلوا المدينة في شهر رمضان سنة 1344 هجرية حملوا معهم إليها الشيخ عبد الله بُلَيهد قاضي قضاتهم بمكة حتى يناقش علماء المدينة ورجالها

ص: 44


1- نفس المصدر: ص 127.
2- المصدر السابق .

بموضوع هدم المشاهد والقبور الموجودة في المدينة، ويحصل على موافقتهم ولو بالظاهر.

ولهذا الغرض شكّل هذا الشيخ اجتماعاً سأل فيه الحاضرين عن آرائهم حول تخريب المشاهد فسكت معظمهم خوفاً من القتل، وأجاب الآخرون بالإيجاب .

يقول المرحوم السيد الأمين: إنّ هدم المقابر والمشاهد يعتبر أساس عقيدة الوهابيين، فلا بد لديهم من إبادة كل تلك الآثار حتى الحرم النبوي الشريف فلذلك لم يكن هدف الشيخ بُلَيهد من هذا السؤال استفساراً حقيقياً، بل كان الهدف منه جلب رضا أهل المدينة واستمالتهم »(1).

وعلى كل، فبعد تلك المناظرة القصيرة بدءوا بهدم أضرحة المدينة ومشاهدها سواء كانت داخل البلد أو خارجها ، ومن جملتها حرم الأئمة الأربعة (علیهم السلام) في البقيع، فهدموا الجدران والضريح والصندوق الموضوعين على تلك القبور الشريفة، ولم يبقوا منها إلّا أربعة صخور تدل على مكان القبور، وكان ذلك في الثامن من شوال سنة 1344 للهجرة، ودفعوا لكل عامل اشترك في هذه الجريمة النكراء ألف ريال مجيدي .

ثم هاجموا قبري عبد الله وآمنة والدي رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وحرم زوجاته وبناته وابنه إبراهيم وقبور عثمان بن عفان وإسماعيل بن الإمام الصادق (علیه السلام) ومالك بن أنس إمام دار الهجرة وسائر المقابر داخل البقيع أو خارجها فهدموها جميعاً .

ولم يبق إلّا الحرم النبوي الشريف إذ لم يهدموه خوفاً من غضب المسلمين في جميع أنحاء العالم، وإلّا فإن لم يخشوا الناس لكان حرم رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وقبته أولى بالتخريب من غيره وذلك لاحترام المسلمين لهذا القبر الشريف وحبّهم له، ولو أنّ بعض كتاب الوهابيين يبررون عدم هدم قبة الرسول باعتبارها

ص: 45


1- كشف الارتياب: ص 55 .

جزءاً من المسجد النبوي لا جزءاً من القبر، وإلّا ... .

وهكذا ما اجترءوا على حرم رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ووجدوا الحلّ في تعيين عمال لهم على الضريح الشريف ليتعاملوا مع الناس بشدة وخشونة، وكانوا ولا زالوا يضربون الزوّار أحياناً بالعصا ليمنعوهم من تقبيل الضريح أو لمسه ليحولوا حسب عقيدتهم دون هذه الأعمال المحرّمة والمشوبة بالكفر والشرك كما يرون.

«قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا »(1).

الصورة

منظر من مقبرة البقیع و سورها قبل الهدم

مضاعفات الحادث

عند انتشار الخبر المفجع بهدم المشاهد المطهرة لأئمة البقيع (علیهم السلام) في بلاد المسلمين تلقّى المسلمون الخبر كمصيبة عظمى ألمت بالعالم الإسلامي فتوالت برقيات الاستنكار من العلماء والمراجع والشخصيات السياسية في العراق وإيران

ص: 46


1- سورة الكهف: 103 - 104 .

والهند وسائر الدول على حكام الحجاز، وعطّلت الدروس في الحوزات العلمية وكذلك صلاة الجماعة في المساجد وأقاموا مراسم العزاء استنكاراً لهذه الجريمة، ولكن دون أي جدوى، فقد حصل ما حصل، وقد هدمت تلك الزمرة المتخلفة المتحجّرة كل الآثار والأبنية الدينية والتاريخية التي يعود بناء بعضها إلى أكثر من عشرة قرون، وبحجة أداء واجب شرعي حسب رأيهم، وسنذكر في هذا الكتاب تاريخ تلك الأبنية الجليلة وكيفية بنائها قدر ما تسمح لنا الظروف من المراجع والكتب الموثقة ليطّلع عليها القراء الكرام .

«وما توفيقي إلّا بالله»

ص: 47

ص: 48

الفصل الأول : تاريخ حرم أئمة البقيع (علیهم السلام)

اشارة

ص: 49

ص: 50

المرحلة الأولى من تاريخ حرم أئمة البقيع (علیهم السلام)

إشارة

يعتبر «بقيع الغرقد» أفضل وأقدس بقعة بعد مدفن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في المدينة المنورة، وكان البقيع أول مقبرة أحدثها المسلمون بأمر من الرسول الأكرم(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

لقد دفن في البقيع أربعة من الأئمة المعصومين (علیهم السلام) وكذلك زوجات رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأبنائه وأقربائه، بالإضافة إلى جمع غفير من الصحابة (1) والشهداء والعلماء ممن صنعوا تاريخ الإسلام طوال القرون، إذن فلهذه المقبرة مكانة رفيعة وموقع تاريخي عظيم .

كلمة (البقيع) في اللغة :

يدعى هذا المدفن التاريخي المقدس «ببقيع الغرقد» أو «البقيع» كما أطلق عليه في القرون الأخيرة «جنة البقيع» أيضاً .

يقول ابن الأثير: «البقيع المكان المتسع من الأرض ولا يسمّى بقيعاً إلّا وفيه شجر أو أصولها »، ويضيف ابن الأثير : « أنّ وجود شجرة «الغرقد» وأصولها في البقيع كان سبباً لتسميته بذلك »(2).

ويذكر ياقوت الحموي معنى مشابهاً ويضيف: «أنّ «الغرقد» شجرة برية ذات أشواك وثمر »(3).

ص: 51


1- يروي السمهودي عن الإمام مالك أنّ عشرة آلاف من أصحاب رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد توفوا في المدينة، ومن الطبيعي أن يدفن معظمهم أو كلهم في البقيع .
2- النهاية : ج 1 ، ص 146 (مادة بقيع) .
3- معجم البلدان: كلمة «بقيع».

كيفية إحداث مقبرة البقيع

كان أول من دفن في البقيع من الأنصار أسعد بن زرارة، ومن المهاجرين: عثمان بن مظعون (1).

يقول السمهودي: «لمّا توفي عثمان بن مظعون قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «ادفنوا عثمان بن مظعون في البقيع يكون لنا سلفاً فنعم السلف سلفنا عثمان»(2).

ويضيف السمهودي:« ومات إبراهيم بن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في حيّ ابن مازن خارج المدينة، فسأله أصحابه: «أين ندفنه ؟ ، فقال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «ألحقوه بالسلف الصالح عثمان بن مظعون».

يقول السمهودي: « بعد دفن إبراهيم في البقيع رغب أهل المدينة في دفن موتاهم فيها، فقامت كل قبيلة بقطع الأشجار والجذور في جزء من البقيع وتسوية الأرض لحفر القبور، وترك الناس شيئاً فشيئاً مقبرتي المدينة القديمتين وهما مقبرة «بني سليم» و «بني حرام»»(3).

جدير بالذكر أنّ وفاة عثمان بن مظعون كانت في السنة الثانية للهجرة، بينما توفي إبراهيم في أوائل السنة العاشرة أي بعد ثماني سنين، ولابدّ أنّ الكثيرين قد دُفنَوا خلال هذه السنين.

فالمقصود من كلام السمهودي ،إذن أنّ دفن إبراهيم في البقيع بناء على أمر الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هو الذي دفع المسلمين في المدينة أن يتأسوا برسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ويهتموا بالبقيع أكثر مما مضى ويجعلونه مدفناً لموتاهم .

ص: 52


1- تاريخ ابن شبة: 96/1 .
2- تاريخ ابن شبة: 1 / 96 ، الاستيعاب: 3 / 85 أسد الغابة: 386/3 .
3- راجع أسد الغابة :ترجمة عثمان بن مظعون وإبراهيم وتاريخ وفاتهما .

فضيلة البقيع

ذُكِرَت أحاديث عديدة عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في فضيلة البقيع ، منها أنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال: «يحشر من البقيع سبعون ألفاً على صورة القمر ليلة البدر »(1).

وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في حديث آخر: «يحشر من هذه المقبرة سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب وكأنّ وجوههم القمر ليلة البدر »(2).

وقد ذكرت كتب الحديث والتاريخ الشيء الكثير عن ذهاب رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ليلاً أو نهاراً إلى البقيع ودعائه واستغفاره لأهلها .

جاء في رواية أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان يأتي البقيع ويخاطب أهل القبور قائلاً: «السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لكم وأنتم لنا سلف ونحن بالأثر»(3).

وفي حديث آخر أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال: «السلام عليكم قوم مؤجلون، أتانا وأتاكم ما توعدون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد»(4).

يروى عن عائشة أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان يترك الفراش ويخرج ليلاً بعد أن تنام العيون، فكنت أتبعه بنفسي أو آمر خادمي «بريدة» أن يتبعه، فنراه يدخل البقيع ويطول بقاؤه فيها ويرفع يديه إلى السماء كراراً فيدعو لأهل البقيع ويستغفر لهم .

فسألته مرةً بعد رجوعه فقال: «إني أمرْتُ أن أدعو لهم».

فقلت: علّمني ما أقول إذا دخلت البقيع وكيف أُسلّم عليهم، فقال: قولي: «السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منّا

ص: 53


1- تاريخ ابن شبّة: ج 1 ص 93 .
2- نفس المصدر : 91 ، وفاء الوفا: ج 3 ص 886 .
3- سنن الترمذي: 2 / 258، حديث رقم 1059 .
4- وفاء الوفا للسمهودي: 3 / 885 .

والمستأخرين، وإنا إن شاء الله للاحقون» (1).

أما حرم أئمة البقيع (علیهم السلام) والذي يعرف في كتب التأريخ «بمشهد أهل البيت» أو «حرمهم » فيقع في نهاية الجانب الغربي من البقيع، وقد دُفن في هذا الحرم المطهر أربعة من أئمة أهل البيت (علیهم السلام) وهم: الإمام الحسن المجتبى والإمام السجاد والإمام الباقر والإمام الصادق (علیهم السلام) ، وقبر كل واحد منهم (علیهم السلام) بجانب قبر الآخر، ويقع قبر العباس عم الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على بعد مترين أو ثلاثة أمتار منهم ،وإلى جانبه قبر آخر لفاطمة بنت أسد .

وكانت هذه القبور الستة قبل الهدم واقعة تحت قبة واحدة ،ولكل منها - سوى قبر فاطمة -ضريح وصندوق جميلين .

وسنناقش هنا ثلاثة مواضيع مستقلة بعضها عن بعض وهي:

1 - تاريخ حرم أئمة البقيع (علیهم السلام).

2 - تاريخ أضرحة أئمة البقيع (علیهم السلام).

3 - قبر فاطمة بنت أسد أو فاطمة بنت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

نبذة عن تاريخ حرم الأئمة في البقيع :

إشارة

بعد مرور قرابة قرن من هدم الحرم المطهر لأئمة البقيع وإمحاء جميع آثار ذلك البناء الشامخ لا يمكن معرفة قدمه وعظمته عن طريق فحص آثاره كباقي الأبنية التاريخية والدينية، إلّا أنّ المراجع المختلفة تدلنا على - إلى حد ما - تاريخ هذا الحرم الشريف وكيفية بنائه، وما مرّ على ذلك البناء الرفيع على مرّ السنين .

ومجمل تاريخ هذا الحرم المقدس هو أنّ قبور أئمة البقيع لم تكن كسائر القبور المكشوفة التي لا جدران ولا سقف لها، بل كانت مثل القبر

ص: 54


1- تاريخ ابن شبة : ج 1 / ص 89 90 و 95 .

المطهر لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) و قبر الإمام الرضا (علیه السلام) داخل بيت كان لعقيل بن أبي طالب، ثم تحول على مرّ الأيام إلى بناء على شكل مسجد، ثم بُنيت عليه أرفع وأكبر قبة في وقتها، وكان لهذا المشهد طوال قرون متوالية خدم وحراس، وعلى القبور أضرحة وصناديق مزركشة وبديعة ، عليها أغطية وفوقها قناديل وكانت الأرض مفروشة، وظلت كذلك إلى أن هدمها الوهابيون في الثامن من شوال سنة 1344 هجرية .

الصورة

منظر من مقبرة البقيع قبل الهدم

وتوضيحاً لهذه الحقيقة التاريخية، يجب أن نشير إلى أمرين:

1 – المقابر العائلية في البقيع

يمكننا أن نستنتج من كلام المؤرخين أنّ أهل المدينة كانوا يدفنون موتاهم في أماكن مختلفة منها مقبرتان عامتان هما مقبرة «بني حرام» و «بني سالم»(1)،

ص: 55


1- يقول السمهودي المتوفى سنة 911 هجرية في وفاء الوفا ج 3 ص 888: أصبحت هاتان المقبرتان مهجورتين على مرّ الأيام واندثرت آثارهما ولكن موقعهما في المدينة معلوم .

وكان يدفن البعض موتاهم في منازلهم ، إلّا أنّ دفن عثمان بن مظعون وإبراهيم ابن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (1) في البقيع منح هذه المقبرة صفة رسمية وجعل الناس يرغبون في الدفن بها وبدأ بعض صحابة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بإزالة الأشواك وجذور الأشجار منها وتخصيص أجزاء منها كمدفن عائلي خاص بهم، كما دفن بعض أقارب رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في بيوت متصلة بالبقيع .

لقد حدثت تغييرات عديدة طوال القرون الأربعة عشر الماضية على البقيع فلم يبق من القبور العديدة في هذه المقبرة التاريخية المتعلقة بأشخاص معروفين من الصحابة والشخصيات الإسلامية إلّا عدد يسير، إلّا أنّ هذا القليل يكفي للدلالة على صدق أقوال المؤرخين ووجود نظام خاص لمدافن البقيع في ذلك الزمان، إذ نلاحظ أنّ قبور المنسوبين إلى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مجتمعة كلّها في القسم الغربي من المقبرة، وقد دفنوا هناك حسب علاقتهم ببعض ، وكيفية انتسابهم بالرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

فقبور الأئمة الأربعة لا تقع مع قبر العباس وفاطمة بنت أسد في مكان واحد، كما تقع قبور جميع نساء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أو عدد منهنّ بعضها بجوار بعض في نقطة معينة (2)، وكذلك قبرا ابنتي الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) رقية وأم كلثوم الواقعان في مكان واحد، وتُعرَف مجموعة هذه القبور «بمقابر بني هاشم» وكذلك الحال في تسمية سائر نقاط البقيع بأسماء خاصة مثل «الروحاء» و«الزوراء» (3).

ص: 56


1- توفي في ذي الحجة سنة ثمان للهجرة.
2- ما عدا خديجة المدفونة في مكة وميمونة التي دفنت في سَرِف .
3- « الروحاء» بمعنى مكان الارتياح و الزوراء بمعنى موضع الزيارة . تعتبر« الروحاء» القسم الأوسط من البقيع حيث هناك عثمان بن مظعون وإبراهيم بن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وكانت هذه التسمية من قبل رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عند دفن عثمان بن مظعون حيث قال: «هذه الروحاء» تاريخ المدينة : ج 1 ص 100 .
2 - البقيع خلف بيوت المدينة:

الأمر الثاني الجدير بالذكر هو أنّ الشواهد التاريخية تدلّ على أنّ بيوت المدينة بعد هجرة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كانت تمتد إلى البقيع قبل أن يتحوّل إلى مقبرة عامة، وكما قيل عنها: «شرقيّها نخل وغربيّها بيوت» (1) ، فكانت تقع من الغرب خلف بيوت المدينة، وكانت هناك أزقة عديدة توصل هذه البيوت بعضها ببعض وتنتهي إلى البقيع، فتحولت بعض هذه البيوت إلى مدافن لأشخاص من المشهورين (2) بينما تم هدم باقي البيوت لإلحاقها بالبقيع(3).

وسنذكر لاحقاً دلائل وقرائن مختلفة في هذا الصدد، ولكن ينبغي أن نشير في هذه العجالة إلى بعض تلك الدلائل التاريخية:

أ) ذكرت كتب التاريخ في ذكر المدينة تعريفاً للروحاء التي تعتبر جزءاً من البقيع، فقيل فيها:

«الروحاء المقبرة التي وسط البقيع يحيط بها طرق مطرقة»(4).

ب) وذكرت مصادر أخرى :

«الروحاء كل ما حاذت الطريق من دار محمد بن زيد إلى زاوية دار عقيل اليمانية الشرقية»(5).

ص: 57


1- أخبار المدينة : ج 1 ص 152، وفاء الوفا: ج 3 ص 889 عمدة الأخبار في مدينة المختار: ص 151 .
2- سنوضح هذا الموضوع لاحقاً .
3- يذكر ابن النجّار: أنّ عمر بن عبد العزيز اشترى بيتاً كان لزيد بن علي وأخته خديجة بألف وخمسمائة ديناراً، ثم هدمه وألحقه إلى البقيع فأصبح مقبرةً خاصة لآل عمر بن الخطاب - أخبار المدينة : ص 156 .
4- تاريخ المدينة لابن شيبة : ج 1 /ص 101 .
5- تاريخ المدينة لابن شيبة : ج 1 / ص 101 ، عمدة الأخبار في مدينة المختار، ص 52 .

ج) إختلف مؤرخوا أهل السنة ممّن ذكروا تاريخ المدينة، في محل دفن فاطمة الزهراء (علیها السلام) كما هو حال علماء الشيعة إلّا أنّ آراءهم المتضاربة تدلّ على هذه الحقيقة التاريخية التي تشير إلى وجود أزقة مختلفة في غربي البقيع . إذ يقولون حيناً: «قبرُ فاطمة بنت رسول الله زاوية دار عقيل اليمانية الشارعة في البقيع»(1).

ويقولون في حين آخر: «إنّ قبر فاطمة من وجاهَ زُقاق نُبَيه وإنّه إلى دار عقيل أقرب »(2).

وفي موضع آخر يقولون: « أنّ قبر فاطمة حذو زاوية دار عقيل مما يلي دار نُبَیه » (3).

وأيضاً: «إنّ قبر فاطمة (رضی الله عنها)مخرج الزقاق الذي بين دار عقيل ودار أبي نُبيه »(4).

هذه العبارات المختلفة والجمل الصريحة تدلّ على وجود بيوت وأزقة عديدة بجوار البقيع كالزقاق الذي يوصل بيت محمد بن زيد ببيت عقيل، وذاك الذي يقع بين بيتي عقيل ونبيه أو الأزقة التي تنتهي إلى البقيع .

كما كانت هناك بيوت لمحمد بن زيد وعقيل بن أبي طالب، ونبيه وابن نبيه وبيوت أخرى التي لم تُذكر أصحابها .

ص: 58


1- تاريخ المدينة : ج 1 ص 105 ، وفاء الوفا: ج 3 / ص 901 .
2- نفس المصدر .
3- نفس المصدر .
4- تاريخ المدينة : ج 1 ص 106 ، وفاء الوفا : ج 3 ص 901.

بيت عقيل أو المقبرة العائلية

بيان مسألة تاريخية:

من الحوادث التاريخية التي لا يهتم بها المورّخون كما ينبغي هي أن عقيل ابن أبي طالب كان يعاني كأبيه من إساءة الأعداء له، وقد حرّفوا شخصيته من أوجه مختلفة، منها: التحريف في تاريخ هجرته إلى المدينة، إذ ادّعوا أنّه هاجر في السنة الخامسة أو السادسة، وقيل أيضاً في الثامنة للهجرة، كل ذلك لينزلوا من شأنه، مع أنّ التاريخ الصحيح يذكر أن هجرته كانت في السنة الثانية وبعد معركة بدر ، كما أنّ الشواهد المختلفة تدلّ على ذلك، ونكتفي بواحدة منها وهي حضور عقيل في حفل زفاف أمير المؤمنين (علیه السلام) .

يروي المحدث الكبير« ابن مردويه » أنّ عقيل بن أبي طالب حضر زفاف أمير المؤمنين (علیه السلام) في السنة الثانية للهجرة وكان له دور في إقامة حفل الزواج، وكان ممّن شايع الزهراء (علیها السلام) مع رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) . وأنّه بعد مرور عدة أيام من عقد الزواج بين أمير المؤمنين (علیه السلام) والزهراء (علیها السلام) خاطب عقيل أمير المؤمنين (علیه السلام) قائلاً: « يا أخي ! نحن بنو هاشم مسرورون بمصاهرتك رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وستكتمل فرحتنا إن نشاهد حفل عرسك، فلماذا لا تطلب من رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يزفّ إليك زوجك؟!» ، فقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «الحياء يمنعني »، فذهبا إلى أم أيمن وذكرا لها الأمر ، فتوسّطت عند الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فتمّ بذلك حفل الزواج .

وذكروا أيضاً في حفل زواج الزهراء (علیها السلام) أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أركب ابنته فاطمة (علیها السلام) على مطيته الخاصة «الشهباء » وأمر سلمان أن يمسك زمامها، ومشى بنفسه مع جمع خلفها منهم حمزة وعقيل (1).

ص: 59


1- أعيان الشيعة - ترجمة أمير المؤمنين والزهراء (علیهما السلام).

إذن فإنّ هجرة عقيل إلى المدينة كانت في السنة الثانية، ويذكر أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وزع بعض الأراضي في المدينة من البقيع إلى المسجد بين المهاجرين لبناء مساكن لهم ، وقد حصل عقيل منها وبنى بها بيتاً

والجدير بالذكر أنّ بيت عقيل بن أبي طالب من بين تلك البيوت يتفرد بأهمية خاصة، وسنرى في الصفحات الآتية اهتمام رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبعض الخواص بهذا البيت حتى أنّه أصبح علماً - كما أشرنا - بحيث تُعْرَفُ البيوت الأخرى به . وتأتي هذه الأهمية من أنّ هذا البيت وإن كان يعتبر سكناً خاصاً لعقيل بن أبى طالب إلّا أنه قد تحول إلى مقبرة خاصة لأقرباء الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأبنائه، فكانت فاطمة بنت أسد أوّل من دفنت به (1) ، وبعدها العباس عم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وبعد ذلك دفن فيه أربعة من أئمة الهدى (علیهم السلام) أبناء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) . ويعتبر هذا الأمر من مسلمات التاريخ التي لم يشك فيها مؤرخ ، ما عدا ما يتعلق بقبر فاطمة فهل أنه لفاطمة بنت أسد أم فاطمة بنت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؟ وسنناقش هذا الموضوع في الصفحات الآتية .

ولنعد الآن إلى نماذج من التاريخ وأقوال بعض المؤرخين:

قبر عم الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وفاطمة بنت أسد في بيت عقيل:

1- يقول ابن شبة أقدم مؤرخي المدينة المتوفى سنة 262 هجرية: «دفن العباس بن عبد المطلب » (2) عند قبر فاطمة بنت أسد بن هاشم في أول مقابر بني

ص: 60


1- توفيت فاطمة بنت أسد في السنة الرابعة للهجرة، وقيل في السنة السادسة .
2- توفي العباس عم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في شهر رجب أو رمضان سنة اثنتين وثلاثين ؛ ويصرح المرحوم الشهيد الثاني في كتاب الدروس باستحباب زيارته، وقد جاء في زيارة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عن بعد: «السلام على عمك سيد الشهداء، السلام على عمك العباس بن عبد المطلب ». المحدث القمي، تحفة الأحباب: 241 .

هاشم التي في دار عقيل»(1).

2، 3 - ذكر أيضاً هذه الجملة الصريحة مؤرخ المدينة الشهير السمهودي (2) وكذلك المؤرخ الثالث للمدينة أحمد بن عبدالحميد العباسي في كتابه (3).

قبر الإمام المجتبى (علیه السلام) في بيت عقيل :

يقول العباسي - بعد الإشارة إلى أنّ قبر فاطمة والعباس واقعان في بيت عقيل - : ومما يؤيد هذه الحقيقة التاريخية ما رواه «ابن حبّان » أنه بعد إقامة الصلاة على الحسن بن علي (علیهما السلام) ، دفن جثمانه في البقيع بجوار قبر جدته فاطمة بنت أسد» (4).

وجاء في تاريخ المدينة لابن شبة وفي مراجع أخرى أنّ الحسن بن علي (علیهما السلام) أوصى أخاه أن ادفني عند قبر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فإذا خالَفَت بنو أمية فادفني عند قبر أمي فاطمة، فدفن في المقبرة إلى جنب فاطمة (رضی الله عنها) (5) حسب وصيته .

يروي الشيخ المفيد والطبرسي هذه الوصية أنه قال (علیه السلام): «ثم رُدّني إلى جدتي فاطمة بنت أسد فادفني هناك»(6).

قبور ثلاثة من أئمة أهل البيت إلى جنب قبر الإمام المجتبى (علیهم السلام) :

يقول ابن النجّار المتوفى سنة 643 ه- « يقع قبر العباس عم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وقبر

ص: 61


1- تاريخ المدينة: ج 1 / ص 127 .
2- وفاء الوفا: ج 3 ص 910 .
3- عمدة الأخبار: ص 153 .
4- عمدة الأخبار: ص 153 .
5- تاريخ المدينة : ج 1 ص 111 .
6- إرشاد المفيد: ص ،192 ، إعلام الورى للطبرسي: ص 211 .

الحسن بن علي بن أبي طالب تحت قبة قديمة ومرتفعة»، ويضيف: «ومعه في القبر ابن أخيه علي بن الحسين زين العابدين، وأبو جعفر محمد بن علي الباقر وابنه جعفر الصادق»(1).

ويقول الإمام الغزالي: ويستحب أن يزور قبر الحسن بن علي وفيه أيضاً قبر علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد (علیهم السلام)»(2).

يذكر المؤرخ الشهير المسعودي (المتوفى 346 ه-) في الإمام السجاد (علیه السلام): وفي سنة خمس وتسعين قبض علي بن الحسين ودفن في بقيع الغرقد مع عمه الحسن بن علي»(3).

وفي وفاة الإمام محمد الباقر (علیه السلام) يقول: «ودُفن في البقيع مع أبيه علي بن الحسين »(4).

ويقول في وفاة الإمام الصادق (علیه السلام): «توفي أبو عبد الله جعفر بن محمد سنة ثمان وأربعين ومائة ودُفن بالبقيع مع أبيه وجده »(5).

فالنتيجة الهدف من بيان هذه النماذج التاريخية هو - كما ذكرنا - أن فاطمة بنت أسد والعباس لم يدفنا في المكان الذي لا سقف ولا جدران له بل دفنا تحت بيت مسقف كان يتعلّق بعقيل بن أبي طالب، ثم دفنت بعدهما الأجساد المطهرة الأربعة لأئمة أهل البيت (علیهم السلام) بجوار قبريهما، وفي نفس البيت وتحت نفس السقف .

ص: 62


1- أخبار مدينة الرسول ص 153 .
2- إحياء علوم الدين: ج 1 ص 387 ط . ج و ج 1 ص 231 ط .ق .
3- مروج الذهب: ج 3 / ص 169 .
4- نفس المصدر : ص 232 .
5- نفس المصدر : ص 297 .

ولماذا في البيت ؟

يمكن أن يخطر ببال القارئ الكريم أنّه مع وجود البقيع فإنّ بعض أقرباء الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأبنائه دفنُوا خارج هذه المقبرة وفي بيت عقيل، وكانت فاطمة بنت أسد هي التي دُفَنَتْ في هذا البيت لأوّل مرّة، فلماذا دفنها رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بنفسه في ذلك البيت بدلاً من البقيع ؟

فالجواب واضح للذين يعرفون تاريخ المدينة، لأنّ أهل المدينة في ذلك الزمن كانوا يدفنون الشخصيات والأجلاء داخل البيوت بدلاً من المقبرة العامة وكانوا يهتمون بالمقابر الخاصة أكثر مما هو متداول اليوم .

فعلى سبيل المثال: دُفن عبد الله والد الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في بيت النابغة (1) ورافع ابن مالك (2) في منزل آل نوفل بعد استشهاده في أحد ونقل جثمانه إلى المدينة، كما دُفن سعد بن مالك (3) الأنصاري بجانب منزل «بني قارط» ، والخليفة الأول والخليفة الثاني داخل بيت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ومن ذلك القبيل أيضاً اقتراح الإمام المجتبى (علیه السلام) ليدفن هناك .

ص: 63


1- سنناقش في مدفن عبد الله فيما يأتي .
2- رافع بن مالك الأنصاري، أحد الشخصيات البارزة ومن الصحابة الأوفياء لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فقد سافر إلى مكة ليبايع رسول الله، كما حضر بيعتي العقبة الأولى والثانية، وبعد ما حفظ بعض سور القرآن عاد إلى المدينة ليدعو أقاربه وعشيرته إلى الإسلام، وحضر معركتي بدر وأحد واستشهد فی أحد، ونقلوا جثمانه إلى المدينة ودفنوه في بيت آل نوفل - أسد الغابة : ج 2 / ص 158 - الإصابة ج 1 / ص 499 - وفاء الوفاج 3 / ص 941 .
3- سعد بن مالك الساعدي (والد سهل الساعدي) كان صحابياً من الأنصار، ولما كان يستعد لمعركة بدر أصيب بمرض وتوفّي به، فدفنوه إلى جنب منزل بني قارط، واعتبره رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ممن شارك في بدر فأعطى نصيبه من الغنائم لأبنائه - أسد الغابة: ج 2 ص 289، الإصابة ج 2 ص 34، الاستيعاب ج 2 / ص 35 .

كما أنّ دَفنَ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والزهراء (علیها السلام)داخل بيته وحجرته لم يكن أمراً جديداً من الناحية الاجتماعية، بل كان عملاً طبيعياً مألوفاً لما لهما من مكانة عالية .

أما الأمر الجديد في دفن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هو ما قاله أمير المؤمنين (علیه السلام): «إنّ الله لم يقبض نبياً في مكان إلّا وارتضاه لرمسه وإني دافنه في حجرته التي قبض فيها» (1).

فكان الكلام عن مكان قبض رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لا عن مدفنه داخل البيت أو الحجرة، أما الأمر الخطير في مدفن الزهراء (علیها السلام) هو وصيتها بأن تُدفَنَ ليلاً وبالخفاء، دون علم كبار القوم، لا أنّ دفنها كان داخل الحجرة . و(تولى أمير المؤمنين (علیه السلام) غسلها في جوف الليل ودفنها سراً بوصية منها في ذلك ) (2).

دعاء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عند بيت عقيل :

كما أشرنا سابقاً، هناك عدة روايات ذُكِرَتْ في كتب الحديث والتاريخ بأنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان يحضر إلى جانب البقيع كثيراً ما فيناجي ربّه هناك ويدعو لأهل البقيع ويطلب لهم من الله الرحمة والغفران، كما كان يترك أحياناً فراشه في جوف الليل ليأتي إلى البقيع لنفس الهدف .

وبالمناسبة، نذكر روايةً عن محل وقوف رسول الله ودعائه عند البقيع، والتي نقلها علماء أهل السنة في كتب تاريخ المدينة، ولها أهمية خاصة وترتبط ببحثنا التاريخي هذا .

وها هو نص الرواية التي رواها السمهودي نقلاً عن أوّل مؤرخ للمدينة «ابن زبالة» والذي كان حيّاً في سنة 199 هجرية:

ص: 64


1- إعلام الورى: ص 144 ط.ج وص 84 ط. ق .
2- المصدر السابق ص 158 ط.ج وص 92 ط.ق .

عن خالد بن عوسجة: « كنت أدعو ليلة إلى زاوية دار عقيل بن أبي طالب التي تلي باب الدار فمرّ بي جعفر بن محمد (علیه السلام) يريد العُريض معه أهله، فقال لي: أعن أثر وقفت هاهنا ؟ قلت: لا، قال: هذا موقف نبي الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بالليل إذا جاء ليستغفر لأهل البقيع »(1).

استحباب الدعاء واستجابته في هذا الموضع:

بعد نقل هذه الرواية عن ابن زبالة يكمل السمهودي رواية عنه قائلاً: «هذا البيت لعقيل وهو البيت الذي دُفن فيه عقيل مع ابن أخيه عبد الله بن جعفر» .

وكان استاذي «زين المراغي » يقول: ينبغي أن يقف المسلمون في هذا المكان من أجل الدعاء والعبادة، وقد سمعت كثيراً ما يقول أهل العبادة أنّ الدعاء عند هذا البيت وقرب هذا القبر مستجاب .

ويقول: وقد تكون استجابة الدعاء ببركة قبر عقيل أو ببركة قبر عبد الله بن جعفر لكثرة جوده وسخائه، فلعل الله قد جازاه باستجابة الأدعية وقضاء الحوائج بجوار قبره .

ثم يقول ابن زبالة وقد جرى لرجل صالح ثقة أنّه كان يدعو ربه ويتضرّع في هذا المكان، إذ لاحظ ورقةً سقطت أمامه فرفعها متفألاً الخير بها وقرأ على طرفي الورقة هذه الآية: «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»(2).

جواب السمهودي وتبريره :

بعدما روى السمهودي تبرير ابن زبالة وتعليله وبعد قبوله نص الرواية

ص: 65


1- وفاء الوفا : ج 3 / ص 890 أخبار المدينة لابن النجار: ص 157، ما ورد في نسخة أخبار المدينة: «يريد العريض ومعه أهله».
2- سورة غافر: 60 .

واستجابة الدعاء في هذا المكان وبجوار هذا البيت يرد السمهودي على ابن زبالة قائلاً: «لم أر إلى الآن في كلام أي من مؤرخي المدينة ما يدل على دفن عبدالله بن جعفر في هذا المكان، بل اختلف المؤرخون في مدفنه أساساً أنه كان في المدينة أم في الأبواء»(1).

ثم يقول السمهودي: «أما دليل استجابة الدعاء في هذا المكان هو ما جاء في كلام جعفر بن محمد (علیه السلام) من أن الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان يدعو في هذا المكان لا لأنه مدفن عبد الله بن جعفر» .

ويضيف مؤيّداً هذا المعنى: «وعليه فإنّ الدعاء في أي مكان دعا فيه رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مستحب ومستحسن، إذ قد يستجاب الدعاء وتنال الآمال ببركة دعاء الرسول في هذا الموضع »(2).

هكذا كان تبرير السمهودي وردّه على تبرير ابن زبالة في بيان علة استجابة الدعاء عند بيت عقيل .

نقد الموضوع وتحليله

يرى المؤلف أنّ مؤرخي المدينة قد أخطئا كلاهما، فهذه الرواية المهمة تشيرعلى حقيقة رفيعة المعنى إلّا أنهما نسيا «الأصول» في تحليلهما لها وتمسكا بالفروع.

فالنقطة الأساسية الجديرة بالذكر في هذه الرواية الشريفة هي هذه الجملة من قول الإمام الصادق (علیه السلام): «هذا موقف نبي الله بالليل إذا جاء ليستغفر لأهل

ص: 66


1- بناء على قول الرافعي في «عنوان النجابة في من دفن بالمدينة من الصحابة» يحتمل أن يكون قبر عبد الله في مكة .
2- وفاء الوفا: ج 3 / ص 890 .

البقيع » ، قالها بعد أن سأل خالد بن عوسجة بأنّه هل كان يدري شيئاً عن المكان الذي وقف فيه ودعا ربه؟ فأجاب خالد بالنفي، فدلّه الإمام بجملته تلك على أهمية ذلك المكان .

نعم، هذا هو الأمر الذي يجب التأمل فيه أنّه لماذا كان الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يختار موضعاً خاصاً للدعاء أمام باب بيت عقيل، فكان يناجي ربه في جوف الليالي المظلمة وفي هذا المكان الخاص وعند باب هذا البيت لا غيره .

هذه هي النقطة الأساسية الحساسة من الرواية والتي كان ينبغي أن يتدارسها ويناقشها الكتاب والمؤرخون أمثال «ابن زبالة» و«السمهودي» ، فإذا انكشف هذا الأمر الأساسي لاتضحت مسائله الجانبية مثل استحباب الدعاء واستجابته في هذا الموضع .

إنباء الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وإخباره الغيبي عن الحوادث الآتية:

إشارة

كان رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) طوال عهد نبوته يخبر أصحابه عن أهم الحوادث القادمة وخصوصاً ما سيقع على أهل بيته ويرتبط بالإسلام والمسلمين، وكان ينبّه المسلمين قولاً وفعلاً عن أهمية الحوادث التي تمسّ مصير الإسلام، ولا تنفكّ عن الأهداف الرئيسية لرسالته الخالدة، فمثلاً في موضوع الولاية والوصاية نجده يخبر أمته بالقول والفعل، وبالسمع والبصر ليلفت انتباه الأمة إلى هذا الأمر الخطير، فيجمع الحجاج في غدير خم وقد اشتدت حرارة الجو فيصبر حتى يصل المتأخرون ويعود المتقدمون، فينتبه المسلمون إلى أهمية الأمر قبل بيانه، ثم يعرّف عليهم أمير المؤمنين (علیه السلام) بالقول والفعل مشيراً إلى الهدف الأساسي لذلك الإجتماع العام وهو أنّه: «مَن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه».

لم يكتف رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بالقول خطاباً لأمير المؤمنين (علیه السلام): أنت منّى

ص: 67

بمنزلة هارون من موسى »(1) و « أنت ولي كل مؤمن بعدي »(2)، بل أمر أن تغلق جميع الأبواب المنتهية إلى المسجد ما عدا باب بيت علي، ولما اعترضوا على ذلك قال: «ما أنا سددت أبوابكم وفتحت بابه، ولكن الله أمرني بسدّ أبوابكم وفتح بابه »(3).

ولم يكتف أيضاً بتعريف أهل البيت للمسلمين وأنّ آية التطهير قد نزلت فيهم، بل كان رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يقف خمس مرات يومياً في أوقات الصلاة الخمسة وعلى مرأى المصلين من المهاجرين والأنصارالمنتظرين لقدومه حتى يؤمهم في الصلاة، يقف عند بيت أمير المؤمنين أمام الباب الذي ينفتح على المسجد ويقول: «السلام عليكم يا أهل البيت «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا » ، الصلاة الصلاة »(4).

وسائر الأمور والحوادث الهامة التي لا تعتبر من أصول الإسلام، فهي أيضاً لم تغب عن الرسول ونظرته الثاقبة للحقائق، فأخبر المسلمين بها وأنها ستحدث في المستقبل القريب أو البعيد، وهذه الحوادث هي التي يطلق عليها المحدثون اسم (الملاحم) والإخبار عنها يعتبر إنباء عن الغيب، وقد تطلق الملاحم أحياناً على

ص: 68


1- صحیح مسلم : ج 4 / ح 2404 ، سنن الترمذي: ج 5 ص 304( كتاب المناقب) ح 3813، سنن ابن ماجة (المقدمة)، ص 42 - 43 ح 115 .
2- سنن الترمذي: ج 5 ص 296 ، (كتاب المناقب): ح 3796، مسند أحمد: ج 1 ص 331
3- نفس المصدر : ح 3815، مسند أحمد: ج 1 / ص 331 وج 2 / ص 26.
4- ذكرت كتب التفسير هذا الخبر ضمن عدة أحاديث في ذيل تفسير آية التطهير، وإليك نص هذه الأحاديث كما في تفسير الدر المنثور ج 5 ص 199 وفي الميزان ج 16 ص 337 «وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: شهدنا رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) تسعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب (علیه السلام) عند وقت كل صلاة فيقول: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت، ««إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا » ، الصلاة رحمكم الله ».

هذه الأخبار بذاتها .

ونكتفي الآن بذكر نموذجين من بين الملاحم الكثيرة التي أخبر بها رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).

1 - الحرب والقتال في أحجار الزيت :

1 - الحرب والقتال في أحجار الزيت :

يذكر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ضمن حديث طويل والذي ذكرته كتب الحديث السنيّة، عدة حوادث هامة للصحابي الجليل أبي ذر الغفاري، ويبتدأ كلامه في كل خبر يرويه بعبارة: «يا أبا ذر كيف أنت ، ومن هذه الحوادث قوله: «كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت قد غرقت بالدم»(1).

هذا الحديث الشريف من الملاحم التي أنبأ بها رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عن قيام أحد أبنائه المسمّى بمحمّد الملقب بالنفس الزكية (2) واستشهاده سنة 145 في منطقة أحجار الزيت في المدينة، حيث يرسم هذا القيام المقدس جرائم أحد أشهر طغاة بني العباس ، أبي جعفر المنصور .

ص: 69


1- سنن أبي داود: (كتاب الفتن والملاحم) ص 101، مسند أحمد بن حنبل: ج 5 ص 163، سنن ابن ماجة : ج 2 ص 1308 كتاب الفتن ح 3958 ، مستدرك الصحيحين: ج 3 ص 158 .
2- محمد بن عبد الله بن الحسن بن الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) ، المعروف بالنفس الزكية، قام في المدينة في رجب سنة 145 وبايعه الناس في المدينة ومكة واليمن فأرسل إليه المنصور ولي عهده وابن أخيه عيسى بن موسى في ستة آلاف فاغتسل محمد وأصحابه ولبسوا الأكفان وتعطروا واشتبكوا مع جيش عيسى في معركة شديدة امتدت حتى منطقة أحجار الزيت حيث استشهد ذو النفس الزكية مع أصحابه بعد مقاومة شديدة، وأرسلوا رأسه إلى المنصور وأخذت اخته زينب وابنته فاطمة جسده فدفنتاه في البقيع . يقال: إنّ شدة الجروح على جسمه كانت بحيث كلما رفعوا عضواً منه انفصل عن سائر جسده . كانت شهادته في الرابع عشر من رمضان سنة 145 - تاريخ الطبري - الكامل لابن الأثير - تاريخ ابن كثير، حوادث سنة 145 - مقاتل الطالبيين ص 161 - تذكرة الخواص ص 92 - تتمة المنتهى ص 193 .
2 - المعركة الدموية في صحراء فخّ

2 - المعركة الدموية في صحراء فخّ(1):

بناء على ما رواه أبو الفرج الأصفهاني، عندما وصل رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) صحراء «فخّ» في طريقه إلى مكة نزل من مركبه وصلى ركعتين هناك وبكى في صلاته بكاءً شديداً أحزن أصحابه الذين كانوا حوله، فسألوه عن سبب بكائه وحزنه فقال: «نزل عليّ جبرئيل فقال: يا محمد إنّ رجلاً من ولدكَ يُقْتَلُ في هذا المكان وأجر الشهيد معه أجر شهيدين» (2).

أنّ نزول رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في هذه الأرض القاحلة «فخّ » وإقامته الصلاة هناك قبل أن ينزل عليه جبرئيل بالنبأ ، يُنبى عملياً عن ملحمة أخرى حدثت يوم التروية سنة 169 في هذه الصحراء التي قتل فيها الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن ابن علي بن أبي طالب (علیهم السلام) عندما قام ضد الهادي العباسي .

ومن الملاحم حضور الرسول عند بيت عقيل:

تدل أحاديث الملاحم التي ذكرنا نموذجين منها أنّ الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لم يغفل عن القضايا التي تتعلق عن قرب أو بعد بآل بيته وأبنائه، فكان يُنبئ عنها إما

ص: 70


1- «فخّ» اسم صحراء على بعد ستة أميال من مكة على طريق المدينة، وقد أصبح هذا المكان اليوم جزءاً من مكة المكرمة والذي يعرف بشارع الشهداء وقد وقع مستشفى الشهداء في هذا الشارع وقد زرت قبور شهداء فخ كراراً في هذا المكان. وقد جرت معركة «فخ» عند قيام الحسين بن علي من أبناء الإمام المجتبى (علیه السلام) في المدينة ضد الخليفة العباسي الهادي، وبايعه عدد من الناس ضد الخليفة فسار إلى مكة وقابل قوات الخليفة في «فخّ» حيث استشهد هناك، فأرسلت رؤوس الشهداء إلى الهادي وظّلت أجسادهم ثلاثة أيام في الصحراء تأكل منها الأسباع، وقد قيل في «فخّ» أنها كانت أعظم حادثة بعد واقعة كربلاء. تاريخ الطبري، كامل ابن الأثير وتاريخ ابن كثير، حوادث سنة 169 ، معجم البلدان ج 4 ص 238، تذكرة الخواص ص 206، تتمة المنتهى ص 225 .
2- مقاتل الطالبيين: ص 285 .

بالحديث أو بعمل على وقوع تلك الحوادث . هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ أي عمل من الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يمكن أن يكون سدى، وبلا هدف معين ومقصود، ولذا يمكن الاستنباط بأنّ حضور الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بصورة مستمرة عند باب بيت عقيل بن أبي طالب إنما هو من الملاحم والنبوءات التي أبرزها النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عملياً ليبين أهمية هذا البيت الذي سيكون في المستقبل مدفن أربعة من أئمة الدين من أبناء الرسول وأهل بيته .

نعم، إنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) باختياره باب بیت عقیل «موقفاً» له إنما أراد أن يفهمنا أنّ هذا البيت المتواضع وإن يكون اليوم منزل عقيل بن أبي طالب إلّا أنه سيكون في المستقبل من البيوت التي «أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ » (1)، وأنّ هذه الحيطان المتعلقة بشخص معين اليوم إنما ستكون غداً محل تسبيح رجال «لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ...»(2) ، وإذا كان هذا البيت اليوم لا يلفت نظر عابر ولا يطمع فيه أحد، فستحوله الأيام إلى مهبط الملائكة ومنزل الرحمة والبركة الإلهية . أو ليس الأمر كان هكذا بالنسبة لمسجد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وتربته الطاهرة المقدّسة ؟

كيف يمكن أن يتحدث الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عن واقعة ستقع في إحدى نواحي المدينة بعد مائة وخمسين عاماً ويشير إلى أهميتها ويلفت انتباه الصحابة والمسلمين إلى شخصية النفس الزكية وكيف ستغرق أحجار الزيت بالدماء، فيرسم كل هذه الوقائع في أذهان الناس قبل حدوثها، لكنه لا يتحدث عن مدفن أربعة من أئمة أهل البيت وهم العلة المبقية للإسلام وحفظة أسرار الله والرحمة

ص: 71


1- سورة النور: 36 .
2- سورة النور: 37 .

الموصولة والآية المخزونة؟! كيف يمكن أن ينزل الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من مركبه ليصلي ركعتين في صحراء فخّ ليعلن عن استشهاد أحد أبنائه هناك بعد مائة وستين سنة ويخلد بذلك ذكرى هذه الواقعة واسم تلك الصحراء، لكنّه ينسى مدفن الأئمة المعصومين الذين هم أبواب الإيمان وأمناء الرحمن ؟!

يرى المؤلف أنّ النماذج والشواهد المذكورة تدل على أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الذي كان يعرّف الأئمة بأقواله معلناً: «من ولدي إثنا عشر نقيباً نجباء محدثون»(1).و«يكون اثني عشر أميراً كلّهم من قريش »(2)، إنما اختار إزاء بيت عقيل مقاماً للعبادة ليعرفه للمسلمين ويلفت انتباههم إلى أهمية هذا المكان الشريف ويعلن إلى الأمة الإسلامية أنّ هذا الموقع سيكون في المستقبل واحداً من أهم مراكز التوحيد والمعرفة، وسيبقى إلى يوم القيامة قمةً متلألئة من قمم النور والبرهان والحكمة والعرفان .

وعليه يتضح سبب استحباب الدعاء واستجابته عند بيت عقيل فليس هذا الاستحباب والاستجابة فقط لوجود قبري عقيل وعبد الله بن جعفر في إحدى زوايا البيت وليس فقط لوقوف رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في هذا المكان، بل يجب أن نتحرّى حقيقةً أخرى كامنةً فيه ونكتشف ما هو أهم من ذلك، مما دعا رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يختار هذا المكان لدعائه ومناجاته حتى يوضح تلك الحقيقة، فضاعف دعاؤه فضيلة هذا المقام .

ولو استطاع ابن زبالة والسمهودي ومن على شاكلتهم أن يتجاوزوا ظاهر هذا

ص: 72


1- أصول الكافي ج 1 ص 534 .
2- صحيح البخاري: ج 9 / كتاب الفتن باب الاستخلاف وكتاب الأحكام، صحيح مسلم: ج 6 / كتاب الإمارة .

البيت ويخترقوا ،باطنه وبدلاً من «البيت» يتعرفوا على أهل البيت ، لأدركوا أنّ وجود القبور الطاهرة لأربعة من أهل البيت في هذا المنزل هو الذي بارك في الموضع، فأصبح الدعاء مستحباً عند قبورهم، فهم المطهرون بعناية الله تعالى .

ولعلموا أيضاً أنّ الله يستجيب الدعاء لمن آمن بولايتهم واستقر قلبه في حرمهم الآمن، بل للذين لم يصلوا إلى تلك الدرجة وإنما اقتربوا منهم ووقفوا خارج بيوتهم لما أيأسهم الله من فضله ورحمته ببر كة تلك القبور الطاهرة، ولشملهم الوعد الإلهي «...ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ...».

هل تحدث الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عن مستقبل بيت عقيل ؟

بناء على ما ذكر، يعتقد المؤلف بأنّه لو سُئل رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ذلك اليوم عن سبب حضوره في ذلك المكان لأجاب بصراحة ووضوح أنّ هذا المكان سيكون مدفن أربعة من أبنائه المعصومين، أربعة نجوم من النجوم الإثني عشر التي تتلألأ في سماء الولاية والإمامة، وسيقتل أولئك بيد أعداء الإسلام، مثلما قال في وقعة «فخّ» «نزل عليّ جبرئيل فقال: يا محمد إنّ رجلاً من ولدك يقتل في هذا المكان ...» .

وفوق ذلك، فهناك شواهد تاريخية تشير إلى صريح كلامه في هذا الأمر، والقرائن تؤيد وجود مقال منه في بيان تلك الحقيقة إذ نلاحظ في ترجمة بعض الناس من ذوي الشهرة ممن كانوا يتمتعون بشخصية اجتماعية مميزة أنّهم كانوا يحاولون في أواخر حياتهم وعندما يرون الموت قريباً منهم أن يتم دفنهم داخل بيت عقيل في تلك المقبرة الخصوصية بدلاً من أن يدفنوا في «روحاء البقيع »وإلى جانب قبر عثمان بن مظعون وقبر إبراهيم نجل الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وإذا لم يوافهم الحظ بذلك فليدفنوا إلى جنب هذا البيت وفي أقرب نقطة منه حتى ينالوا بذلك فخراً وتمييزاً.

ص: 73

ومثل هذا التصرف يدل على أنّ هؤلاء قد سمعوا شيئاً من رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في مستقبل بيت عقيل، فكانوا يعلمون ما يخفى علينا اليوم وقد انكشف لهم سر ذلك البيت، إلّا أنّ الظروف السياسية استوجبت كتمان ذلك السرعن الآخرين وبقائه مستوراً في غياهب التاريخ .

وقد لاحظنا مثل هذا الكتمان في جانب آخر، إذ أنّه مع وجود قبور الأئمة المعصومين أبناء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) داخل بيت عقيل ووجود قبر فاطمة الزهراء (علیها السلام) فيه بناءً على رواية جمع من مؤرخي أهل السنة، نجد أنّ ابن زبالة يتغاضى عن هذا الأمر ويرى استجابة الدعاء فيه بسبب ما يتصوره من وجود عبد الله بن جعفر أو قبرعقيل فيه، أما السمهودي فقد تناسى أصل الموضوع ببراعته وسجل ما بدا له من فروع ذلك.

وعلى أي حال، فإنّ الشواهد والقرائن تدلّ على مثل هذا الواقع، وعلى وجود بیان صريح عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عن مستقبل بيت عقيل باعتباره ملجأً معنوياً للمسلمين ومركزاً لعبادة الباري تعالى ونكتفي بذكر نموذجين تاريخيين فحسب:

1 - وصية سعد بن أبي وقاص:

يذكر المؤرخون وأصحاب التراجم خبراً في مدفن سعد بن أبي وقاص (1) وهو: أنّ سعداً وفي أواخر عمره أخذ أحد أصحابه إلى الزاوية الشرقية من بيت عقيل قرب البقيع وطلب منه أن يزيح التراب عن الأرض، ثم غرس عدة أوتاد كانت معه كعلامات.

وأوصى أن يدفن هناك، وبعد مدة من الزمن مات سعد في قصره بوادي العقيق خارج المدينة، فنقلوا جثمانه إلى ذاك المكان المعلّم حسب وصيته

ص: 74


1- توفي سعد بن أبي وقاص سنة 56 .

(فوجدوا الأوتاد فحفروا له هناك ودفنوه)(1).

2 - دفن أبي سفيان بن الحارث خارج بيت عقيل:

يذكر المؤرخون أيضاً في أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (2)، أنّ عقيل بن أبي طالب رأى أبا سفيان يوماً - وقد اشتدّ به المرض- ، يمشي وسط المقابر (الخاصة) فسأله عن ذلك فأجاب أنّه يبحث عن مكان ليدفن فيه، فأرشده عقيل إلى بيته، وعيّن له مكاناً خارج البيت، ( وأمر بقبر فحفر في قاعتها (3) ودفن فيها)(4).

يتبين من طلب هذين الرجلين في دفنهما خارج البقيع، أنّهما كانا يعطيان أهمية الدفن في مكان بيت عقيل، الأهمية التي عُرفت من أقوال رسول الله وإخباره (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

ص: 75


1- أسد الغابة ج 2 ص 293 تاريخ المدينة: ج 1 / ص 116، عمدة الأخبار: ص 152 ، وفاء الوفا ج 3 ص 899 . /
2- أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأخيه من الرضاع، يُعدُّ من علماء الصحابة . إشترك في فتح مكة ومعركة حنين وتوفي سنة عشرين - أنظر: أسد الغابة .
3- أقرب الموارد: المنطقة الواقعة وسط البيت دون بناء فيها أو سقف عليها تسمى «قاعة».
4- الإصابة : ج 3/ ص 90 تاريخ المدينة، ابن شبة ج 1/ ص 127، وفاء الوفا: ج 3 / ص 911، عمدة الأخبار: ص 156 .

ص: 76

المرحلة الثانية من تاريخ حرم أئمة البقيع (علیهم السلام)

إشارة

ذكر في المرحلة الأولى من تاريخ حرم أئمة البقيع (علیهم السلام) ما يلي:

1 - كان الحرم المطهر قبل دفن الأئمة (علیهم السلام) خارج حدود البقيع وكان سكناً خاصاً لعقيل بن أبي طالب، وانضم الحرم الشريف بالبقيع بعد توسعته .

2 - كان رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يتردد على هذا البيت كراراً للدعاء والمناجاة مما يدلّ على عظمة المكان وقداسته ومعنويته إذ سيكون بعد أمد ليس ببعيد مدفن نجوم زاهرة تتلألأ في سماء الولاية، أربعة من أوصياء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

3 - اهتمام الصحابة وبعض الخواص والأجلاء بالمكان وتأكيدهم على أن يدفنوا في أقرب مكان ممكن من هذا البيت قرينة وشاهد على أنّهم سمعوا من رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كلاماً صريحاً عن مستقبل البيت - إضافة على تعريفه العمليّ له - إلّا أنّ ذلك الكلام الشريف لم يصل إلينا .

أما المرحلة الثانية من تاريخ الحرم الشريف فهي كيفية تبدل منزل عقيل إلى مزار عامّ والذي مما أطلق عليه اسم الحرم .

لا يمكن تعيين زمن تبدل ذلك السكن الشخصي إلى مزار عام بدقة، إلّا أنّ أول وأقدم مؤرخ للمدينة، أعني عبد العزيز بن زبالة - والذي كان حيّاً سنة 199 - يذكر شيئاً عن هذا الحرم الشريف وعن حرم حمزة (علیه السلام) وينبؤنا عن زمن تبدل كلا الحرمين تقريباً .

هكذا يروي ابن شبة كلام ابن زبالة في الحرمين المذكورين:

ص: 77

1 - قال عبد العزيز: « دفن العباس بن عبد المطلب عند قبر فاطمة بنت أسد بن هاشم في أول مقابر بني هاشم التي في دار عقيل، ويقال إنّ ذلك المسجد بني قبالة قبره ...»(1).

2 - قال عبد العزيز « والغالب عندنا أنّ مصعب بن عمير وعبد الله بن جحش دفنا تحت المسجد الذي بني على قبر حمزة، وإنّه ليس مع حمزة أحد في القبر»(2).

وإليك نتيجتان نستنتجهما من الجملتين السابقتين لابن زبالة:

ألف - في القرون الإسلامية الأولى كان يطلق على المراقد والأبنية التي تبنى على قبور الشخصيات الدينية (اسم المسجد)، أما ألفاظ (الحرم) و (المزار) و (المشهد) فهي ظهرت في القرنين الخامس والسادس، ولذا نجد أنّ أحمد المقدسي من علماء القرن الرابع وهو رحالة إسلامي ومتضلّع في علم الجغرافيا أطلق اسم (المسجد) على حرم حمزة - كما فعله ابن زبالة - فقال أحمد:

«أحد جبل على بعد ثلاثة أميال من المدينة، ويقع قبر حمزة داخل مسجد على سفح الجبل وأمامه بئر » (3).

والظاهر أنّ هذا التعبير مقتبس من القرآن الكريم، إذ أطلق القرآن اسم المسجد على بناء بني على قبور أصحاب الكهف(4).

ب - أراد ابن زبالة بيان تاريخ بناء هذين الحرمين الشريفين بشكل إجمالي، وكان ذلك البناء موجوداً في أيام حياته، أي في أواخر القرن الثاني، فلم يكن حرم أئمة البقيع في تلك الأيام على صورة بيت، بل كان حرماً ومزاراً عاماً يؤمه الناس، إلّا أنّ القرائن والشواهد التاريخية الأخرى تدلّ على أنّ هذا التحوّل قد تمّ في

ص: 78


1- تاريخ المدينة : ج 1 / ص 127 .
2- نفس المصدر: ج 1 / ص 126 .
3- أحسن التقاسيم - ترجمة علي النقي المنزوي: ج 1 / ص 118 .
4- «قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا» سورة الكهف: 21 .

العقد الرابع من القرن الثاني للهجرة، أي في خلافة أبي العباس السفاح (132 - 136) ، أو على الأكثر في أول خلافة أبي جعفر المنصور (137 - 149) .

بيان هذه القرينة التاريخية :

هناك داعيان على بناء أو ترميم قبور الشخصيات الدينية أو الخواص: إمّا العامل السياسي والرمزي أو الدافع المعنوي والديني أو كلاهما معاً، ولعلّ وجود قبر العباس - جد الخلفاء العباسيين - كان سبباً لجمع العاملين في تلك الأيام معاً، وفي نفس الوقت كان يرتبط بسياسة الأمويين أيضاً في نفس المجال .

الإستغلال السياسي للقبور في عهد الأمويين :

كان أئمة أهل البيت (علیهم السلام) وشيعتهم يواجهون أشد الاضطهاد في عهد ملوك بني أمية، ولم يكتف بنو أمية بهذه الضغوط لتوطيد حكمهم، بل كانوا يقومون أيضاً بتخريب بعض القبور أو بناء غيرها .

ومن أمثال هذه السياسة الفاسدة ما يلي:

1 - أمر معاوية بن أبي سفيان بضم مدفن عثمان بن عفان إلى مقبرة البقيع (1).

2 - أمر معاوية بحفر قناة داخل قبور شهداء أحد خصوصاً مقبرة حمزة بن عبد المطلب، حتى تجري المياه فتزيل آثار هؤلاء الشهداء (2).

3 - أمر مروان بن الحكم برفع قطعة حجر كان الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد وضعها بيده

ص: 79


1- تاريخ الطبري، طبعة دار القلم - بيروت ج 3 ص 143 ، كامل ابن الأثير، طبعة دار الكتاب - بيروت ج 3/ ص 91 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد بتحقيق محمد إبراهيم أبو الفضل ج 10 / ص 91.
2- مسند أحمد بن حنبل : ج 3 ص 397 - 398 ، تاريخ المدينة لابن شبة: ج1 / ص 132، دلائل النبوة للبيهقي، نقلاً عن وفاء الوفا : ج 3 /ص 939، أسد الغابة: ج 2 / ص 50.

المباركة على قبر عثمان بن مظعون ونقلها إلى قبر عثمان بن عفان (1).

ويشهد التاريخ أمثلة عديدة أخرى من استغلال الأمويين مدفن الشخصيات الشهيرة، عن طريق هدمها أو إعادة بنائها، وكانت تمشي هذه السياسة جنباً إلى جنب سياسة اختلاق الأحاديث في مدح الأشخاص أو ذمهم، وفي اصطناع الفضائل أو الرذائل لمختلف الأشخاص (2) .

تحدي بني العباس سياسة الأمويين:

مع سقوط الدولة الأموية وانتقال الخلافة إلى بني العباس ابتداءً من السفاح (132- 136) وبناءً للظروف السياسية الحرجة، قام العباسيون بدفع سياسة بني أمية، لترسيخ أسس دولتهم عن طريق اختلاق الأحاديث، فانتشرت أحاديث كثيرة مختلقة وطّدت سلطان العباسيين.

فاصطنعوا الأحاديث في كل واحد من الخلفاء وأيضاً في العباس بن عبدالمطلب جدهم الأكبر، ومن الطبيعي أن يوسعوا مدفنه أيضاً، كما فعل ذلك بنو أمية رغم

ص: 80


1- تاريخ المدينة لابن زبالة نقلاً عن وفاء الوفاج 3 /ص 894 و 914، تاريخ المدينة لابن شبة ج 1 / ص102 عمدة الأخبار: ص 152 أسد الغابة: ج 3 / ص 387 هكذا نقل فيه « وأعلم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قبره بحجر وكان يزوره ».
2- إليك نماذج من الأحاديث المختلفة عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : ألف - «يخرج عند انقطاع من الزمان وظهور من الفتن رجل يقال له السفاح فيكون إعطائه المال حثياً» . - مسند أحمد ج 3 /ص 80 تاريخ الخلفاء ص / 238. ب- «منّا السفاح ومنّا المنصور ومنا المهدي » تاريخ الخلفاء: ص 242، تاریخ بغداد: ج 1 / ص 63. ج - «أوصاني الله بذي القربى وأمرني أن أبدأ بالعباس» ، مستدرك الصحيحين ج 3 / ص 334 . تدلّ هذه النماذج من الأحاديث المختلقة الموضوعة أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أيّد ثلاثةً من خلفاء بني العباس، ورفع العباس فوق جميع أهل البيت .

مخالفة الرأي العام، ولِمَ لا يستفيد السفاح والمنصور من هذه السياسة خصوصاً أنّ الرأي العام كان لصالح سياستهم تلك، إذ كان قبر العباس وبيت عقيل آنذاك مدفن فاطمة (علیها السلام) وثلاثة من أبناء الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فلِمَ لا يحولونه إلى مسجد ومزار عام فيربطوا بذلك أسرتهم برسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهو أهم عامل لانتصارهم على بني أمية ؟ ولِمَ لا يتظاهرون باحترام أهل البيت، إذ لم يقدروا على إخضاع بني أمية إلّا برفع شعار الدفاع عن أهل البيت ؟

فإذا كان الأمويون - دون اكتراث بالرأي العام - يحاولون بضمهم قبرعثمان إلى مقبرة المسلمين ونقل الحجر من قبر ابن مظعون إلى قبر ابن عفان أن يفرضوا سياستهم، فلِمَ لا يستغل العباسيون هذه السياسة بتوسيع قبر العباس عم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الذي تم دفنه في البقيع وفي المقبرة الخاصة لأهل البيت احتراماً لقرابته من رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؟

أراد معاوية في محاولته هدم قبر حمزة عم النبي وسائر شهداء أحد أن يمحو آثار جريمته وجرائم أسرته من وجه التاريخ حتى ينسى الناس شنيعتهم النكراء في بقر صدر سيدنا حمزة عم رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) واقتلاع كبده وقضمه بواسطة هند، وإذا كان الأمر كذلك فلمَ لا يحدث بني العباس بناء على هذا القبر المطهر مستغلين بذلك قرابتهم مع ذلك المجاهد العظيم كعمل إعلامي لصالحهم وضد بني أمية ؟

أما الجانب الديني لهذا التغيير:

عندما استولى العباسيون على الحكم، حصلت الشيعة وخصوصاً بنو الحسن (علیه السلام) حريتهم في المدينة مع ما كان لهم من وجاهة واحترام بين الناس بعد الاضطهاد الشديد الذي واجهوه أيام الأمويين والمراونيين، واستطاعوا أن يظهروا عقائدهم

ص: 81

علانية، واستمر هذا الوضع إلى برهة من حكم المنصور، وفي نفس الوقت كان هناك بعض من بني الحسن أمثال عبد الله بن الحسن المحض وابنه محمد المعروف بالنفس الزكية حاولوا الوثوب على السلطة منذ عهد الأمويين حتى يعيدوا إلى أهل البيت سلطانهم ويفوضوا الخلافة إلى أبناء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ولم یكن العباسيون غافلين عن نشاطاتهم، ومع ذلك كان السفاح يحاول أن يستميل الشيعة إليه ويفرّق بين بني الحسن وبين عبد الله والنفس الزكية، فكان يجود عليهم بالعطايا ويحترمهم كل الإحترام، فعلى سبيل المثال اعترف السفاح بولاية أمير المؤمنین (علیه السلام) في أول خطبة له خطبها بعد توليه السلطة (1). كما أعاد فدك وسلمها لبني الحسن (2).

ومن الطبيعي في هذه الظروف - حيث أزيلت كل العراقيل - أن يقوم شيعة أهل البيت وخصوصاً السادات من بني الحسن ببناء وتوسعة مقبرة أئمة البقيع واستبدال منزل عقيل إلى مزار، إذ يعتبرون ذلك واجباً دينياً لهم، فينفذوا بذلك مفهوم الآية القرآنية في إعداد ذلك البيت الرفيع ليعبد فيه الله تعالى:

«فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ »

ص: 82


1- ما استطاع السفاح أن يكمل خطبته فقام داود بن علي وجلس على الدرج الثاني من المنبر وأكمل الخطبة، فكان مما قال: «ما وقف هذا الموقف بعد رسول الله أحد أولى به من على بن أبي طالب وهذا القائم خلفي » تاريخ اليعقوبي: ج 2 / ص 331 .
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 16 / ص 216، معجم البلدان: ج البلدان: ج 4 / ص 239 .

دفن الجثمان الطاهر للإمام الصادق (علیه السلام) داخل الحرم .

نستنتج من هذا التحليل التاريخي أمرين:

1 - تمّ إحداث مرقد أئمة البقيع (علیهم السلام) وتبديل بيت عقيل إلى حرم يزوره العموم في عهد السفاح (132- 136) أو فى أوائل عهد المنصور (137- 158) (1)، وعلى يد أحد هذين الخليفتين أو بواسطة بني الحسن وشيعة المدينة أو بالتنسيق بين الطرفين مع اختلاف أهدافهما .

2 - أشرنا إلى أنّ الأجساد الطاهرة لثلاثة من أئمة الهدى وهم الإمام الحسن المجتبى، والإمام السجاد زين العابدين، والإمام محمد الباقر (علیهم السلام) قد تم دفنها داخل بيت عقيل حيث توفوا في السنوات 50 و 95 و 114 ، أما جثمان الإمام الصادق (علیه السلام) وقد استشهد سنة 148 إنما دُفن في بيت مسقف أي داخل الحرم بعد استبدال بيت عقيل إلى «مسجد» ومزار عام وقد دُفن (علیه السلام) إلى جوار الأئمة الثلاثة، وكانت هذه هی المرحلة الثانية من تاريخ حرم أئمة البقيع (علیهم السلام).

أما بالنسبة للتغييرات التي طرأت على هذا الحرم الشريف منذ ذلك التاريخ حتى القرن الخامس فليس بين أيدينا مستند تاريخي واضح عنها، إلّا أنّ الأبحاث التي ذكرناها تدلّ على أنّ العباسيين وشيعة أهل البيت (علیهم السلام) لم ينسوا هذا الحرم خلال القرون الثلاثة المذكورة ولم يتوانوا عن أي جهد في ترميمه أو تجديد بنائه، كما أنّ بعض الشواهد التاريخية تؤيد هذا الأمر .

منها ما كتبه المرحوم الجزائري الذي زار المدينة سنة 1095 هجرية :

ص: 83


1- لأنّ الخلاف بين المنصور والعلويين حتى سنة 145 عند قيام محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن، حتى قال فيه المؤرخون: كان المنصور أول من أوقع الفتنة بين العباسيين والعلويين وكانوا قبل شيئاً واحداً » تاريخ الخلفاء ص 243 .

قال له أحد الشيعة الساكنين في المدينة: قام علماء المدينة في السنة الماضية بتفتيش الكتب الموجودة في خزائن البقيع، فعثروا على نسخة من كتاب «المزار» للشيخ المفيد وقد أساء فيه إلى بعض الصحابة، فأتوا بالكتاب إلى القاضي واستأذنوا منه في تخريب قبة الأئمة فأجاب بأنّ هارون الرشيد قد بنى هذه القبة من أجل جده، فلا يمكن أن أفتي بهدم هذه القبة التاريخية (1) .

كما سنلاحظ في المرحلة الثالثة لتاريخ حرم أئمة البقيع (علیهم السلام)، إنّ القبة المذكورة التي نسب قاضي المدينة بناءها إلى هارون الرشيد هي نفس القبة التي بُنيت في القرن الخامس بأمر من مجد الملك لا هارون الرشيد، إلّا أنّ قول القاضي يدلّ على أنّ هارون أيضاً قد اهتم أيام خلافته (170 - 193) بهذا الحرم الشريف وساهم في ترميمه بحيث أنّ القبة التي بُنيت بعده وبعد قرابة ثلاثة قرون على يد وزير إيراني إنما تنتسب إليه .

وكذلك فإنّ ترميم وتعمير هذا الحرم الشريف على يد المسترشد بالله في سنة 519 ه- وأيضاً على يد الخليفة العباسي المستنصر في سنة 640 ه- - والذي نتحدث عنه في الصفحات الآتية - دليل على اهتمام وتوجّه الخلفاء العباسيين بهذا الحرم الشريف .

ص: 84


1- مجلة الميقات العدد ،4 مقالة الحجاج الشيعة في عهد الصفويين، ص 124 - 125 .

المرحلة الثالثة من تاريخ حرم أئمة البقيع (علیهم السلام)

إشارة

تبدأ المرحلة الثالثة من تاريخ حرم أئمة البقيع من القرن الخامس عندما تم بناء قبة على القبور .

ولكي يطّلع القارئ العزيز على هذه البرهة من تاريخ الحرم الشريف وأن يسهل للراغبين العلم بما حصل طوال ثمانية قرون، ننقل بعض أقوال المؤرخين والرحالين في هذا المجال :

بناء على المستندات التاريخية المسلّمة الموثقة، تم بناء القبة والحرم المطهر لأئمة البقيع بأمر من مجد الملك أبي الفضل أسعد بن محمد بن موسى البراوستاني القمي وزير الملك السلجوقي بركيارق(1).

وكانت هذه القبة الشريفة تفوق سائر الأبنية الموجودة في البقيع صلابةً وزينةً وبهاءاً، وقد استجلبت أنظار المؤرخين والرحالين طوال ثمانمائة عام .

يذكر المؤرخ الشهير ابن الأثير المتوفى سنة 630 هجرية في كتابه (الكامل) ضمن حوادث سنة 495 هجرية في هذا المجال ما يلي: (توفي في هذه السنة منظور بن عمارة الحسيني وقد قتل بناءً من أهالي قم أرسله مجد الملك البلاساني (2) لبناء قبة الحسن بن علي والعباس عم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في المدينة).

ص: 85


1- بركيارق بن ملك شاه السلجوقي الملقب بركن الدين والمكنى بأبي المظفر من أشهر ملوك السلاجقة ويعتبر الملك الرابع بينهم (486 - 498 هجرية)، انظر: قاموس دهخدا .
2- الصحيح فيه (البراوستاني) . يقول ياقوت الحموي براوستان من القرى التابعة لقم، ومنها مجد الملك وزير بركيارق الذي قتل سنة 472 .

ثم يضيف ابن الأثير : ( تم هذا القتل بعد مقتل نفس مجد الملك في إيران حيث هرب البنّاء إلى مكة فأرسل إليه الأمير يؤمنه على حياته) (1).

يقول المرحوم عبد الجليل القزويني الذي كان حياً سنة 556، في كتابه «النقض» : (أما قبة الحسن بن علي (علیهما السلام) حيث مدفن العباس بن عبد المطلب أبي الخلفاء فقد كانت بأمر مجد الملك ) (2).

يقول المرحوم القاضي نور الله التستري :

ومن آثار مجد الملك قبة الحسن بن علي (علیهما السلام) في البقيع حيث يرقد علي زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق (علیهم السلام) وعباس بن عبد المطلب .

ويضيف: «... كما بنى الأقواس الأربعة لقبر عثمان بن مظعون ... وبنى أيضاً مشهد الإمام موسى الكاظم والإمام محمد التقي في مقابر قريش ببغداد وكذلك مشهد عبد العظيم الحسني بالري (3) وغيره من قبور مشاهير السادات العلويين والأشراف الفاطميين (علیهم السلام) (4).

يقول المرحوم المحدث القمي براوستان قرية من القرى التابعة لقم ومنها أبو الفضل أسعد بن محمد بن موسى مجد الملك الوزير الشيعي لبركيارق وقد كانت له آثار حسنة مثل قبة أئمة البقيع (علیهم السلام)، ومشهد الإمام موسى والإمام

ص: 86


1- الكامل، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت ج 8 ص 214 ، يذكر المرحوم القاضي نور الله التستري ما يدل على اتهام مجد الملك بقتل أحد أهل السنة، ثم يتشكك في هذا الأمر . وعلى أي فالظاهر أنّ مقتل البناء يرتبط بذلك القتل وكان ذا أهمية بحيث ذكر في التاريخ .
2- النقض: ص 58 كان القزويني من كبار العلماء والمتكلمين في القرن السادس، من آثاره كتاب «النقض» المعروف ب- «بعض مثالب النواصب» ، وقد تم طبعه لأول مرة باهتمام المرحوم المحدث الأرموي سنة 1331 في سبعمائة صفحة .
3- أصل هذه القبة من آثار مجد الملك أما الساحات المحيطة فمن آثار ملوك الصفوية .
4- مجالس المؤمنين : ج 2 /ص 458 .

محمد التقي (علیه السلام) و مشهد عبد العظيم وغيره (1).

تاريخ بناء قبة أئمة البقيع (علیهم السلام) :

لم يعين أحد من المؤرخين تاريخاً دقيقاً لبناء الحرم والقبة بأمر مجد الملك إلّا أنّ تزامن مقتل بنّاء هذا الحرم المطهر مع مقتل مجد الملك سنة 495 يدل على أنّ بناء قبة حرم أئمة البقيع كان في تلك الأيام أي في أواخر القرن الخامس.

كيفية القبة والحرم المطهر لأئمة البقيع (علیهم السلام):

ولنتأمل الآن أقوال غيرهم من المؤرخين الرحالين الذين رووا في تأليفاتهم عن أسفارهم ومشاهداتهم كيفية مبنى الحرم الشريف طوال ثمانمائة سنة والتغييرات الزمنية الطارئة عليه حتى زمان هدمه .

في القرن السابع يقول الرحالة المعروف ابن جبير (المتوفى سنة 614 هجرية) عن قبة أئمة البقيع:

«هي قبة مرتفعة في الهواء على مقربة من باب البقيع »(2).

2 - ويقول مؤرخ المدينة الشهير ابن النجار (المتوفى سنة 643):

«وهي كبيرة عالية قديمة البناء وعليها بابان يفتح أحدهما كل يوم »(3).

3-في القرن الثامن يروي خالد بن عيسى البلوي المغربي الذي سافر إلى المدينة سنة 740 هجرية :

ص: 87


1- هدية الأحباب ص 119 .
2- رحلة ابن جبير - طبعة دار صادر، بیروت، ص 174 .
3- أخبار مدينة الرسول: ص 153 - ذكر السمهودي أقوال ابن النجار في «وفاء الوفا» : ج 3 / ص 916.

«وهي قبة كبيرة مرتفعة في الهواء»(1).

4- وذكر الرحالة الشهير ابن بطوطة (المتوفى سنة 779 هجرية) مثل ذلك :

«وهي قبة ذاهبة في الهواء بديعة الإحكام »(2).

5- في القرن العاشر : يقول السمهودي (المتوفى سنة 911 ):

«وعليهم قبة شامخة في الهواء»(3).

6- في القرن الثالث عشر : السر ريتشارد بورتون (SIR RICHARD BURTON ) الرحالة الغربي الذي سافر سنة 1276 هجرية إلى المدينة يصف في تاريخ سفره قبة أئمة البقيع قائلاً:

«وهذه القبة أكبر وأجمل جميع القبب الأخرى وتقع على يمين الداخل من باب المقبرة »(4).

7 - في القرن الرابع عشر ألّف علي بن موسى من الكتاب الساكنين في المدينة كتاباً أسماه «وصف المدينة المنورة » وتم تأليفه سنة 1303 هجرية، وقد ذكر البقيع ومقابره وقببه، فيقول في قبة أئمة البقيع:

«وقبة آل البيت العظام وهي أكبر القباب»(5).

8 - وأخيراً يذكر إبراهيم رفعت باشا الذي حج سنة 1325 هجرية أي 19 سنة قبل هدم حرم أئمة البقيع:

ص: 88


1- تاج المفرق في تحلية علماء المشرق، مطبعة فضالة المغرب، ج 1 / ص 288.
2- رحلة ابن بطوطة - طبعة مؤسسة الرسالة، بيروت ص 143.
3- وفاء الوفا: ج 3 / ص 916 .
4- موسوعة العتبات المقدسة : ج 3 /ص 283 .
5- وصف المدينة المنورة: ص 10 ، هذا الكتاب جزء من مجموعة كبيرة تحت عنوان «رسائل في تاريخ المدينة »التي تم نشرها سنة 1392 هجرية بواسطة منشورات دار اليمامة في الرياض .

« والعباس والحسن بن علي ومن ذكرناه معه تجمعهم قبة واحدة هي أعلى القباب التي هنالك كقبة إبراهيم ...»(1).

ترميمات وخصائص حرم أئمة البقيع

ذكرنا في الصفحات السابقة، كيفية بناء حرم البقيع والتطورات التاريخية التي طرأت على هذا البناء المقدس، كما ذكرنا تاريخ القبة والحرم ومؤسسها وبناءها، والآن يلزم التطرق إلى موضوعين آخرين في هذا المجال وهما:

1 - الترميمات والاصلاحات التي تمّت طوال عدة قرون للحرم الشريف .

2 - الخصائص العامة المشتركة بين هذا الحرم وسائر المراقد وكذلك الخصائص التي تخصّ الحرم الشريف دون غيره .

بناءً على المستندات الموجودة، تمت ترميمات وإصلاحات كثيرة للحرم والقبة على مرّ الأيام وخلال المقاطع الزمنية المختلفة، وعلى يد بعض الخلفاء والملوك أو الأشخاص، وهي:

1 - ترميم حرم البقيع بواسطة المسترشد بالله :

تم أول ترميم لحرم أئمة البقيع (علیهم السلام) سنة 519 أي بعد مرور أربع وعشرين سنة على بنائه، وكان بأمر الخليفة العباسي المسترشد بالله .

يقول السمهودي: «وعلى ساح قبر العباس أنّ الآمر بعمله المسترشد بالله سنة تسع عشرة وخمسمائة »(2).

ص: 89


1- مرآة الحرمين: ج 1 / ص 426 .
2- وفاء الوفا: ج 3 / ص 916 .

ويضيف إني أرى أنّ أصل بناء الحرم كان قبل هذا التاريخ، أي أنّ إصدار هذا الأمر إنما كان لمجرد الترميم والإصلاح وليس لأصل البناء) .

والجدير بالذكر أنّ المسترشد بالله هو الخليفة العباسي التاسع والعشرون، وقد تولى الخلافة سنة 512 هجرية بعد أبيه المستظهر بالله ، وقتل سنة 529 هجرية .

2 - ترميم حرم البقيع على يد المستنصر:

تم الترميم الثاني لحرم البقيع بين سنة 623 إلى سنة 640 هجرية بواسطة خليفة عباسي آخر هو المستنصر بالله .

يقول السمهودي في ذلك أيضاً: وعلى محراب حرم البقيع يبدو نقش مكتوب: «أمر بعمله المنصور المستنصر بالله »(1).

ثمّ يقول: ولم يظهر في هذا النقش تاريخ صدور الأمر، ولا ما يدل على أمر المستنصر .

وجدير بالذكر أنّ المستنصر بالله اسمه منصور وكنيته أبو جعفر، وهو ابن الظاهر بالله ويعتبر الخليفة العباسي الثالث والثلاثون، وقد تولى الخلافة بناءً على قول السيوطي سنة 623 وتوفي سنة 640(2).

وعليه يتبين تاريخ هذا الإصلاح والترميم بصورة تقريبية، فقد تم في النصف الأول من القرن السابع وفي خلافة المستنصر العباسي سنة 623 إلى 640 .

والجدير بالذكر أنه بناء على ما أشار إليه السمهودي وما تدل عليه الدلائل والشواهد المختلفة فإن ما أحدثه المسترشد والمستنصر إنما يتعلق بترميم الحرم الشريف وإصلاحه لا بأصل البناء، والنقوش التي يشير إليها السمهودي إنما تشير

ص: 90


1- وفاء الوفا: ج 3 / ص 916 .
2- تاریخ الخلفاء: ص 460 .

إلى تاريخ عملية الترميم والتي تمت بعد نصف قرن من بناء الحرم وتجددت ثانية بعد مرور قرن كامل على الترميم الأول، والدليل على ذلك:

ألف - لا شك أنّ أصل البناء إنما تم بأمر مجد الملك البراوستاني في أواخر القرن الخامس وله تاريخ واضح ، واتفق المؤرخون على ذلك ؛ ومن يبن مثل هذا البناء العظيم ،مع ما له من أهمية وقداسة إنما يلاحظ دوام هذا البناء الشامخ طيلة قرون متمادية، كما هو الحال في بناء حرم الكاظمين (علیهما السلام)، وحرم عبد العظيم الحسني (1)، تلك الأبنية التي لا تزال بعد مرور عشرة قرون قائمة وشامخة بين مختلف الآثار الدينية القديمة .

إذن فمثل هذا البناء الراسخ لن يحتاج بعد خمسين أو مائة وخمسين سنة إلى إعادة بناء، إضافةً إلى أنّ بقاء النقوش المكتوبة المختلفة خير دليل على هذه الحقيقة ، فلو كان أحد الخليفتين المذكورين قد أعاد البناء من جديد لما كان داعياً للاحتفاظ بالنقشين المكتوبين معاً .

ب- الدليل الثاني على عدم تجديد البناء على يد الخليفتين هو قول ابن النجار (المتوفى سنة 643 ) حيث يصف قبة حرم البقيع قائلاً: «والقبران في قبة كبيرة عالية قديمة البناء »(2)، وذكر خالد بن عيسى البلوي الذي زار البقيع سنة 740 وصفاً مشابهاً لذلك (3).

مثل هذا الوصف يدل على قدم الحرم الشريف، ولا ينطبق على تجديد البناء في زمن معاصر لابن النجار أو لخالد البلوي .

ج - هناك نقطة تلفت النظر وهي أنّ السمهودي بعدما يذكر رأيه في كون بناء

ص: 91


1- أشرنا سابقاً أنّ مؤسس هذه المراقد الثلاثة هو مجد الملك البراوستاني .
2- أخبار المدينة، من منشورات مكتبة الثقافة، مكة المكرمة: ص 153 .
3- تاج المفرق في تحلية علماء المشرق (مطبعة فضالة بالمغرب): ج 1 / ص 288 و 289 .

الحرم قبل المسترشد ، وبعد أن يروي كلام ابن النجار في عظمة وقدم حرم البقيع ، يقول: «وقد قال ابن النجار: إنّ هذه القبة قديمة البناء، ووصفها بما هي عليه اليوم »(1) ، أي أنّه لم يحدث أي تغيير أساسي في الحرم قبل ابن النجار ولا بعده حتى تلك الأيام أي أوائل القرن العاشر الهجري حيث عاش السمهودي .

د - وأخيراً، يجب أن نضيف أنّه خلافاً لما يراه المؤرخون في مؤسس القبر والحرم لأئمة البقيع (مجد الملك)، لا يوجد أيّ مستند تاريخي يؤيد ويدل على دور أي من الخلفاء أو الملوك في أصل البناء وتأسيس القبة والحرم، وعليه يمكننا أن نؤكد دون شك أنّ النقوش المكتوبة التي ذكرها السمهودي تتعلّق بترميم حرم البقيع كما يؤكده بنفسه

3 - ترميم حرم أئمة البقيع بأمر السلطان محمود:

أما الترميم الثالث للحرم الشريف فقد كان في أوائل القرن الثالث عشر الهجري بأمر السلطان محمود العثماني .

يذكر« فرهاد ميرزا » الذي حج سنة 1292 هجرية :

تم ترميم البقعة المباركة في البقيع بأمر السلطان محمود خان (2)سنة ألف ومائتين وأربع وثلاثين للهجرة على يد محمد علي باشا المصري (3).

أما «نائب الصدر الشيرازي » فيقول : قصيدة تركية كتبت على مدخل البقيع محفورةً بالجدار، ذكر في آخر مصراع منها أنّ الترميم تم على يد محمود خان بتاريخ 1233ه- .

ص: 92


1- وفاء الوفا: ج 3 / ص 916 .
2- هو السلطان محمود الثاني، السلطان العثماني الثلاثين الذي تولى الحكم عام 1223 وهو ابن 24 سنة، وتوفي سنة 1255 هجرية، انظر : قاموس الأعلام التركي: ج 6 / ص 4225 .
3- رحلة فرهاد ميرزا طبعة مطبوعاتي العلمي 1366 شمسيّة (1987ميلادية ) طهران ص 141 .

هذه ثلاثة موارد لترميمات حرم البقيع حصلنا عليها بتواريخ واضحة مع ذكر العاملين بها، ولكن بالتأكيد لا تقتصرعمليات الترميم والإصلاح في حرم البقيع بالموارد المذكورة، بل لابد من حدوث ترميمات عديدة حسب ما اقتضتها الظروف دون أن تذكر تواريخها في المراجع ، ولذلك يقول فرهاد ميرزا بعد بيان الترميم الثالث الذي تم بواسطة السلطان محمود : وقد قاموا هذه السنة أيضاً بالترميمات اللازمة (1).

ويقول نائب الصدر: واستطاع الحاج عبد الحسين أمين التجار أن يقوم بالترميم في هذا الوقت (2).

وعلى أي، فإنّ هذه الترميمات إضافةً إلى أصل بناء القبة والحرم لقبور أئمة البقيع (علیهم السلام) إنما تدل على الاهتمام الكامل من قبل المسلمين بهذا الحرم الشريف على مرّالتاريخ، مما أدى بالطبع إلى انجذاب الخلفاء والملوك إلى هذا المكان المقدس الذي كان ولا يزال منبع النور والهداية .

خصائص الحرم الشريف

إشارة:

كانت لحرم أئمة البقيع الخصائص نذكر منها ستاً:

1 - كان حرم البقيع مثمّنا:

كما لاحظتم إنّ أكثر المؤلفين الذين كتبوا عن حرم وقبة مراقد أئمة البقيع (علیهم السلام) في كتبهم التاريخية وقصة رحلاتهم، كانوا يسلطون الضوء على عظمة البناء وارتفاعه وقدمه واستحكامه، إلّا أنّ المرحوم الميرزا محمد حسين

ص: 93


1- المصدر السابق.
2- تحفة الحرمين: ص 227 .

الفراهاني (1) الذي زار الحرم الشريف سنة 1302 هجرية يشير إلى جانب آخر أيضاً، فيذكر أنّ الحرم كان ذا ثمانية أضلاع ويشرح الألوان داخل وخارج القبة الشريفة، أما عن القبور الشهيرة في البقيع فيقول: «أربعة من الأئمة الإثني عشر صلوات الله عليهم أجمعين مدفونون في بقعة كبيرة ذات ثمانية أضلاع وقبتها وجدرانها مبيضة»(2).

2 - أبواب حرم البقيع :

بناء على ما قاله ابن النجار مؤرخ المدينة الشهير (المتوفى سنة 647 ) كان لحرم أئمة البقيع بابان، حيث كان أحدهما مفتوحاً للزائرين طوال اليوم.

يقول ابن النجار خلال بيانه عظمة المبنى وارتفاعه وقدمه: « وعليها بابان يفتح أحدهما في كل يوم للزيارة» (3) .

3- محراب حرم البقيع

ومن خصائص الحرم الشريف وجود المحراب في داخل الحرم يقول السمهودي « ورأيت في أعلى محراب هذا المشهد أمر بعمله المنصور المستنصر بالله» (4).

ص: 94


1- ولد الميرزا محمد حسين الفراهاني سنة 1264 هجرية في قرية« آهنگران »من توابع فراهان أبوه الميرزا مهدي المعروف بملك الكتّاب كان من الشعراء والخطاطين في عهد فتح علي شاه .
2- رحلة الفراهاني (ص 228من هذا الكتاب) بتحقيق مسعود گلزاري، طبعت سنة 1362 شمسية (1982 ميلادية)
3- أخبار مدينة الرسول، طبعة مكتبة دار الثقافة مكة المكرمة ص 153 ؛ هذا الموضوع مذكور في وفاء الوفا أيضاً ج 3 / ص 916 .
4- وفاء الوفا: ج 3 / ص 916 .
4- كان للحرم مجموعة من الخدم

تدل الشواهد التاريخية أنّ حرم البقيع أيضاً كسائر المراقد كان له خدم ومسؤولون عن الأحذية، ومزورون، نذكر في هذا المجال أقوال ثلاثة من المؤلفين وقد نقل كل منهم جانباً هاماً في هذا الصدد:

يقول نائب الصدر الشيرازي:

ذهبت إلى زيارة الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) في البقيع يوم الثلاثاء الثامن عشر من محرم سنة 1406 هجرية، ورغم مضي ثلاث ساعات على طلوع الشمس لم يأت خدام ذلك الحرم الشريف، فجلست ساعةً خارج الحرم المطهر إذ سمعت امرأتين سودانيتين من مسؤولي الأحذية تتحدثان عن خدام الحرم وتذكران أساميهم كالتالي:

السيد عبد الكريم السيد جعفر، السيد زين العابدين والسيد أحمد من بني الحسن .

ثم يضيف: فسألتهما :« كم ريال يوصل إليهم من طرف الحاج ؟ قالتا: لا تقل ريال، بل ليرات وجنيهات (1) وألوف ومئات» . وبعد ساعة أتوا وفتحوا باب الروضة المباركة فتمكنت من الزيارة، وكان معي خاتم من الفيروزج فطلبوه مني فأعطيتهم إياه»(2).

يذكر أمين الدولة (3)في مذكرات أسفاره:

ص: 95


1- الجنيه : وحدة النقد في مصر .
2- تحفة الحرمين: ص 257 .
3- أمين الدولة، الميرزا علي خان تولى رئاسة الوزراء في إيران سنة 1315 هجرية في بداية عهد الملك مظفرالدين شاه ، وتم عزله سنة 1316 وتوفي سنة 1322 هجرية . يعتبر امين الدولة من مبدعي الخط الفارسي الجديد المشهور ب( شکسته نستعليق) وكذلك من المبرزين في اسلوب الكتابة السهلة (ساده نویسی )أُنظر معجم دهخدا ويعتبر كتابه أي مذكرات سفره نموذجاً من خطه والذي يوجد في المكتبة العامة لآية الله العظمى المرعشي بقم برقم 253337 .

قمت فجر الأحد الحادي عشر من محرم سنة 1316 لأزور ذلك المقام المحمود فأديت الصلاة هناك بكل خشوع، حتى إذا أسفر الصباح توجهت لزيارة أئمة الهدى في البقيع فلم أجد هناك أحداً سوى الحاج صادق اليزدي وامرأة من مسؤولي الأحذية ورجلاً يسقي الماء .

ولم يحضر حامل المفاتيح ولا المتولي أو المزور . فكانت أبواب البقعة المباركة مقفلةً دون أن يُعلم السبب، فأسندت رأسي إلى حائط الحرم وقرأت الزيارة وأديت صلاة الزيارة، ثم عدت وأخبرت عدداً من الحجاج الإيرانيين ممن صاحبوني في السفر، فرأوا أنّ إغلاق أبواب الحرم أمر متعمد ؛ إلى أن جاء الشيخ جزّاء والحاج صادق فكانت نتيجة تحقيقهم بأنّ حضرة الشريف قد كتب إلى شيخ الحرم وأوصاه في الزائرين الكرام من أهالي إيران الأجلاء النبلاء، حتى لا يصدر أي تصرف غير لائق من قبل الخدام وحملة المفاتيح والمتولين ولا يطلبون مطالب لا داعي لها من زوار المدينة الطيبة .

وبناءً على كتاب الشريف، فقد منع شيخ الحرم أن يطلب أحد من الزائرين شيئاً، خلافاً للعرف السائد بأخذ عدة قروش من كل زائر ولذلك فإنّ السيد عبد الكريم البرزنجي حامل مفاتيح البقعة المباركة اعترض على حكم شيخ الحرم، فجلس في بيته ولم يحضر البقيع ليفتحها على الزوار .

كنا نناقش هذا الأمر إذ حضر السيد حسن أيضاً وأكد أنّ القضية هي على ما ذكرت . فقلت: يا له من شيخ حرم الذي لا رأي له أمام السيد عبد الكريم ؟!

فشرح بالتفصيل لقاءه مع شيخ الحرم ومناقشته معه بهذا الصدد والتي انتهت إلى فتح أبواب حرم البقيع ؛ يقول:

ص: 96

قلت : اذهبوا وافتحوا باب الحرم، حتى أعطيكم ... (1) ، فذهب وفتح ... (2) الباب، ولم يراع الزوار الإنصاف فلم يدفعوا لمسؤولة الأحذية ولا لحامل المفاتيح قرشاً واحداً، إلّا أنّ الحاج ميرزا آقا إمام جمعة تبريز أبدى اقترح أن يعين مكاناً في تبريز بحيث يجلب سنوياً ألف تومان لخدام هذا الحرم المطهر (3).

يكتب إبراهيم رفعت باشا الذي حج بيت الله الحرام لآخر مرة سنة 1325 هجرية والذي كان أميراً للحجاج المصريين يزور أهل المدينة البقيع كل خميس، ويضعون باقات الزهور والرياحين على القبور ولا يدخل شيعي إلى حرم أهل البيت إلّا أن يدفع خمسة قروش (للخدام).

كما أنّه لا يسمح لأي أحد بدخول الكعبة أو الحجرة النبوية إلّا أن يدفع ريالاً واحداً، كل هذا للأشخاص العاديين، أما الأثرياء فتؤخذ منهم أكثر من ذلك(4).

وجدير بالذكر أنه إذا قارنا أقوال ابن النجار مع أقوال الكتاب الثلاث السابقين وجدنا تحولاً كبيراً في حرم البقيع طوال عدة قرون، حيث كانت أبواب هذا الحرم كسائر العتبات المقدسة مفتوحة للزوار طوال اليوم إلّا أنّ حاملي المفاتيح ومتولي الحرم في القرن الأخير كانوا يضيقون على الزوار حتى يكتسبوا أموالاً أكثر، وكانوا يسلبونهم الحرية أثناء الزيارة .

5- زخرفة حرم البقيع :

كان لحرم أئمة البقيع كسائر المراقد المطهرة، ضريح وغطاء وثريا (5)

ص: 97


1- كلمة غير قابلة للقراءة .
2- كلمة غير قابلة للقراءة.
3- مذكرات السفر لأمين الدولة - صفحات هذه المذكرات ليست مرقمة .
4- مرآة الحرمين: ج 1 / ص 427، تم طبع هذا الكتاب في مصر سنة 1343 هجرية .
5- ثريا : منارة عديدة الأنوار تعلّق في البيوت . المنجد: كلمة «ثرا».

وشمعدان (1)، وكانت الأرض مفروشة بالسجاد .

6 - لم يكن لحرم البقيع صحن :

نجد في مراقد سائر الأئمة وأبنائهم (علیهم السلام) أنّ الحرم المطهر يقع وسط فناء كبير يسمى الصحن ولبعض هذه المراقد أكثر من صحن واحد ، أما حرم البقيع فلم يكن له.

والدليل على ذلك أنّنا لم نجد في كلام أي من المؤرّخين والسيّاح ما يدلّ على وجود صحن لهذا الحرم الشريف، بل يبدو بوضوح في كلام بعضهم أنّ الحرم لم يكن له أي صحن فقد جاء في رحلة سيف الدولة الذي حج سنة 1279 هجرية: «أمّا البقیع فتقع خارج سور المدينة شرقاً، ولمرقد أئمة البقيع حرم بلا صحن»(2).

يقول نائب الصدر الشيرازي: أراد حضرة الوزير الأعظم أمين السلطان - أدام الله إقباله - قبل سنوات أن يسوّر البقعة المباركة للإمام المجتبى (علیه السلام) بصحن، إلّا أنّ الوكلاء أشاروا بغير ذلك واعتذروا عن أدائه بأقبح الأعذار (3).

ثم يضيف: ندعو الله تعالى أن يوفق البعض لبناء صحن هناك (4).

كان هذا القسم الثاني من هذا البحث وما يحتويه من خصائص الحرم الشريف في البقيع .

تاريخ أضرحة أئمة البقيع (علیهم السلام)

بعد التحقيق في تاريخ حرم أئمة البقيع نصل إلى الموضوع الثاني وهو

ص: 98


1- الشمعدان جمع شماعد وشمعدانات المنارة يركز عليها السراج . المنجد: كلمة «شمع».
2- رحلة سيف الدولة . بتصحيح على أكبر خداپرست . طبعة 1364 ه- ش ( 1985 م ): ص 143.
3- المقصود من « الوكلاء » هنا أمراء المدينة وكبار رجالها الذين يعينهم السلطان العثماني .
4- تحفة الحرمين: ص 212 .

دراسة تاريخ أضرحتهم (علیهم السلام):

يدلّنا التاريخ على أنّ قبور أئمة البقيع ومعهم العباس كانت لها أضرحة منذ قديم الأيام أي وقبل القرن السابع، فكانت قبور الأئمة الأربعة (علیهم السلام) في ضريح واحد لقرب بعضها من بعض، أما قبر العباس فله ضريح خاص لبعده عنهم، وفي القرون الأخيرة بنوا ضريحاً مشبكاً من الخشب احتوى الضريحين والقبور الخمسة معاً

الصندوق القديم:

لهذين الصندوقين «الضريحين » كما أشرنا - تاريخ طويل وخصوصاً ضريح أئمة البقيع والذي كان محكم البناء، بديع المنظر ، حتى كتب فيه المؤلفون والمؤرخون ما كتبوا، فبينوا للأجيال التالية ما رأوه من دقة وجمال في صنع هذا الضريح.

ونذكر في هذه العجالة بعض تلك الأقوال:

1 - نستنتج من التاريخ أنّ أوّل من ذكر ضريح أئمة البقيع ووصف الدقة والجمال في صنعه إنّما هو الرحالة المعروف بابن جبير ( المتوفى سنة 614ه-)، حيث يقول:

« ... قبراهما (يعني الحسن والعباس (علیهما السلام) مرتفعان عن الأرض، متسعان مغشيان بألواح ملصقة أبدع إلصاق، مرصعة بصفائح الصفر، ومكوكبة بمساميرعلى أبدع صفة وأجمل منظر . وعلى هذا الشكل قبر إبراهيم بن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) »(1)

2- خالد بن عيسى البلوي الذي زار الضريح الشريف سنة 740 للهجرة حيث يقول: «والقبران [ قبر العباس والأئمة الأربعة ] مرتفعان عن الأرض متسعان

ص: 99


1- رحلة ابن جبير ص 174 ، طبعة دار صادر، بیروت .

مُغَشَّيان بألواح ملصقة أبدع إلصاق، ومرصّعة بصفائح الصفر ومكوكبة بمسامير على أبدع صفة وأجمل منظر (1).

3- الرحالة الشهير ابن بطوطة : «ورأس الحسن إلى رجلي العباس وقبراهما مرتفعان عن الأرض، متسعان مغشيان بألواح بديعة الإلصاق، مرصّعة بصفائح الصفر البديعة العمل »(2).

-4 مؤرخ المدينة الشهير السمهودي: ( المتوفى 911ه- ): «وقبر العباس وقبر الحسن مرتفعان من الأرض متسعان مغشيان بألواح ملصقة أبدع إلصاق مصفحة بصفائح الصفر مكوكبة بمسامير على أبدع صفة وأجمل منظر »(3).

نلفت النظر إلى نقطتين :

كانت هذه ملاحظات عدد من الكتاب والمؤرخين عن ضريح أئمة البقيع (علیهم السلام) طوال سبعة قرون من أوائل القرن السابع إلى أوائل القرن الرابع عشر للهجرة، ويلزم أن نشير إلى نقطتين هامتين في هذا الموضوع :

الأولى كما لاحظتم، إنه رغم الوصف المذكور عن ضريح أئمة البقيع في مختلف المراجع لم يذكر أي منهم تاريخاً محدداً لبنائه ولا لمن تولى البناء، إلّا أنّ قدَمَ بناء الضريح من جهة واهتمام مجد الملك البرادستاني لبناء مراقد وقباب أئمة الهدى ومرقدي إبراهيم وعثمان بن مظعون في البقيع وبناء حرم الكاظمين (علیهما السلام) وحرم عبد العظيم الحسني وسائر العتبات من جهة أخرى وكذلك التشابه بين ضريح إبراهيم وضريح أئمة البقيع ، كل ذلك يدل، وباحتمال يقارب

ص: 100


1- تاج المفرق في تحلية علماء المشرق - مطبعة فضالة في المغرب - ج 1 ص 288 - 289 .
2- رحلة ابن بطوطة: ص 119 . كتب ابن بطوطة كتابه هذا سنة 757 .
3- وفاء الوفا: ج 3 ص 916 .

اليقين، أنّ الأضرحة الثلاثة في البقيع أيضاً قد بنيت بأمر منه، إذ يستبعد أنّ شخصاً مثل مجد الملك مع حبّه الشديد لهذا العمل وتوافر الإمكانات اللازمة بين يديه يقوم ببناء مبنى بذلك الشموخ ثمّ يغفل عن بناء ضريح للقبور .

فإذا صدق هذا الإحتمال، لاتضح باني ضريح الأئمة في البقيع والتاريخ التقريبي لبنائه، أي أنه قد تم متزامناً مع بناء الحرم في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري وذلك بأمر من مجد الملك .

الثانية :

يتبين من القرائن المختلفة في كيفيّة قبور أئمة هدى (علیهم السلام)، خصوصاً من القرائن التي سنراها في كلام « فرهاد ميرزا » أنّ هذه القبور وقبل هدمها على يد الوهابيين كانت متصلة بعضها ببعض وكانت في ضريح واحدٍ .

وقد أشار « محيي اللاري» (المتوفى سنة 933) في رحلته المنظومة إلى هذا الأمر، قائلاً:

چون به میان فاصله شان*** مرقد این چار تو گویی یکی است

مشهد عباس عليه السلام*** دور ز ایشان است قدر دو گام (1)

(أي: أنّ القبور الأربعة لائمة البقيع (علیهم السلام) بعضها بجانب البعض بحيث أنّها تعتبر قبراً واحداً وأن مشهد العباس بعيد عنها بُعد القدمين».

كان هذا أول ضريح لأئمة البقيع (علیهم السلام) مع قدمه التاريخي

أما الضريح الثاني:

يقول السيد إسماعيل المرندي في كتابه: توصيف المدينة « الذي ألفه سنة 1250 ه- .

ص: 101


1- فتوح الحرمين: ص 87.

« تقع القبور الخمسة المطهرة تحت ضريح واحد مصنوع من خشب مشبّك ويقع قبر العباس منفرداً فوق رأس قبور الأئمة الأربعة، وفي داخل الضريح يوجد ستار على قبور الأئمة الأربعة ، وفوق الضريح قبة كبيرة »(1).

يقول المرحوم فرهاد ميرزا :« يقع صندوق قبور الأئمة الأربعة داخل ضريح ضخم يضمّ قبر العباس عم رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أيضاً .

وقد فتح لي متولي البقعة باب الضريح فدخلت وطفت حول القبور، وتصعب الحركة داخل الضريح لأنّ الفاصل بين صندوق القبر وبين الضريح أقلّ من نصف ذراع، حتى أنّ الشخص السمين يصعب عليه المشي تماماً»(2).

وكتب الميرزا محمد حسين الفراهاني: «يوجد ضريح ضخم مصنوع من الخشب البري الجيّد وسط هذه البقعة المباركة، وداخل هذا الضريح صندوقان خشبيان يضمّان خمسة أشخاص أحدهم الإمام الممتحن الحسن السبط (علیه السلام)و...»(3).

كانت هذه مشاهدات البعض عن الضريح الثاني لقبور أئمة البقيع والمبني على صندوقين منفصلين أحدهما للأئمة الأربعة (علیهم السلام) والثاني للعباس .

ولكن ومع الأسف لم نحصل من هذه المراجع على تاريخ بناء هذا الضريح والذي كان بالتأكيد بعد القرن العاشر وكذلك لم نعثر على اسم بانيه أبداً .

الضريح الثالث:

منع أهل المدينة السلطان «قايتباي » عن توسيع حرم الأئمة في البقيع، ويكتب فی ذلك السيد محسن الأمين (4) (1282 - 1371 ه- ): « قد حصل مثل ذلك في

ص: 102


1- توصيف المدينة ، مجلة ميقات الحج - العدد 5 ص 118 .
2- رحلة فرهاد ميرزا، الطبعة العلمية: ص 140 .
3- رحلة الفراهاني ص 228 .
4- هو السيد محسن العاملي الملقب بالأمين ولد في قرية الشقراء بجبل عامل ودرس في الحوزة العلمية في النجف الأشرف ثم أقام في «دمشق» ، كان من كبار علماء الإمامية ومن مفاخر الشيعة الأثني عشرية في القرن الرابع عشر ألّف عشرات الكتب القيّمة في مختلف العلوم، منها كتاب «أعيان الشيعة» والذي طبع سابقاً في أكثر من خمسين مجلد، ثم طبع أخيراً في عشرة مجلدات ضخمة في لبنان، والكتاب - كما هو واضح من اسمه - كتاب قيم جداً ويعتبر من محاسن المكتبة الشيعية في العصر الحاضر، وله أيضاً كتاب «كشف الارتياب » في الرد على الوهابية وهو أحسن ما كتب في هذا المضمار . دفع الله في الخلد مقامه .

زماننا أيضاً، عندما صنعوا ضريحاً فولاذياًّ جميلاً لأئمة البقيع وزيّنوه بكتابة الأسماء الحسنى في أعلى الضريح بخط حسن ومطلّي بالذهب، وبعد أخذ الموافقة من الدولة العثمانية بواسطة حكومة إيران قاموا بنقل الضريح إلى جدة، إلّا أنّ كبار رجال المدينة منعوا إحضار الضريح إلى البلد، فبقي في جدة ثلاث سنين فاضطر الإيرانيون إلى دفع مبالغ باهضة إلى المخالفين لجلب رضاهم في نقل الضريح إلى المدينة، ومع ذلك لم يرض أهل المدينة باستبداله بالضريح القديم بحجة أنّ الضريح السابق يعتبر وقفاً لا يجوز رفعه، واتفقوا في النهاية على وضع الضريح الجديد على الضريح السابق، لكنّ الضريح الجديد لم يراعى فيه مثل هذا التغيير وما كان متناسقاً مع الصندوق القديم فاضطروا إلى توسيعه مما استوجب بعض النقص في أطرافه فرمّموه بقطع خشبية من نفس اللون وأضافوها إلى الضريح».

ويضيف السيد الأمين: حججت سنة 1321 ه- وبعد الفراغ من أعمال الحج زرت المدينة المنورة وشاهدت القطع المضافة إلى الضريح والتي كانت تقلل من جماله وأناقته، ورأيت الضريح بنفس الهيئة مرةً أخرى سنة 1330 ه- عندما سافرت من دمشق إلى المدينة مباشرةً، وبقي الضريح على هيئته تلك إلى أن أباده الوهابيون أثناء هدمهم القبة والحرم »(1).

ص: 103


1- كشف الإرتياب: ص 324 .

يكتب البتنوني المصري الذي حج سنة 1327 ه- عن هذا الضريح : «ومقصورة سيدنا الحسن فهي فخمة جداً وهي من النحاس المنقوش بالكتابة الفارسية وأظنّ أنها من عمل الشيعة الأعاجم »(1).

الصورة

ضريح أربعة أئمة من المعصومين (علیهم السلام) في مقبرة البقيع قبل الهدم

كيفية القبر والضريح المنسوب إلى فاطمة (علیها السلام)

أشار المؤرخون إلى قبة أئمة البقيع وضريحهم وشرحوا أحياناً أجزاءها، إلّا أنّ أكثرهم ومع الأسف لم يتطرقوا إلى كيفية القبر المنسوب إلى فاطمة (علیها السلام)، وذكر قليل منهم شيئاً عن هذا القبر.

والذي له أهمية تاريخية تبين لنا غوامض الأمور بعد مرور سبعين عاماً على هدم الحرم وسائر الآثار في البقيع وخارجها

وبناء على ما ذكره الكتاب - وقد كانوا شهود عيان على تلك الآثار- يتبين أنّ

ص: 104


1- رحلة البتنوني ص 237، يعتبر هذا الكتاب رحلة حج الكاتب سنة 1327 ه- وقد طبع في مصر سنة 1329 ه- .

القبر المنسوب إلى فاطمة الزهراء (علیها السلام) أو فاطمة بنت أسد كان واقعاً داخل حرم الأئمة ولكن لم يكن في الوسط بل في الناحية الجنوبية منه وكان يحيط به إطار على شكل محراب، وكان القبر مرتفعاً عن الأرض قليلاً يزوره الزائرون ويقرؤون زيارة فاطمة الزهراء (علیها السلام) عنده، لكنّه لم يكن له ضريح كضريح العباس والأئمة الأربعة (علیهم السلام) وإنما كان يغطى القبر بستار ثمين وذلك في أيام الحج فقط حيث يزداد الزوار.

أما في القرون الأخيرة فقد صنعوا حاجزاً فولاذياً مشبكاً أمام القبر ليفصله عن أطرافه وسمّي هذا الحائل بضريح فاطمة (علیها السلام).

كما أنّ المحراب أيضاً اشتهر بمحراب فاطمة (علیها السلام) وكان لهذا الجزء من الحرم زخرفة قليلة كالشمعدان والثريا .

وإليك أقوال الكتّاب:

يقول الميرزا حسين الفراهاني: «يوجد قبر في وسط هذه البقعة المباركة فی الباكية الغربية (الجنوبية)، ويفصله ضريح حديدي، ويقال إنه قبر فاطمة الزهراء (علیها السلام). ولا توجد في هذه البقعة المباركة زخارف أخرى سوى مصباحين صغيرين من الثريا وعدد من الشمعدان الصّفر، والبقعة مفروشة بالحصير» (1).

يقول نائب الصدر الشيرازي: وفي تلك البقعة آثار مقابل الأئمة وعند الجدار ، لها ضريح وستار، ويقال أنّ الصديقة الطاهرة (علیها السلام) مدفونة هناك» (2).

يقول السيد إسماعيل المرندي: ويزورون محراب قبر فاطمة (علیها السلام) ولكنه في الواقع قبر فاطمة بنت أسد وله ستار».

ص: 105


1- رحلة ميرزا حسين الفراهاني ص 228 .
2- تحفة الحرمين: ص 227 .

ويقول عن فرش الحرم :«ولأنّ قبرها بين أيدي أهل السنة، تجده لا زينة له وقد فرش بسجاد قديم، حتى أنّ بائع سجاد من يزد أتى بسجاد جيّد هذا العام فاختزنوه ولم يفرشوا به الأرض» (1).

يكتب فرهاد ميرزا:« يقع المرقد المطهر للصديقة الطاهرة (علیها السلام) في حرم البقيع مقابل ضريح الأئمة الأربعة (علیهم السلام) و عباس بن عبد المطلب عم الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وعلى القبر ستار كتب عليه : «السلطان أحمد بن ... سنة إحدى وثلاثين ومائة بعد الألف (1131)».

وخلال هذه الفترة أي ما تزيد على مائة وستين عاماً لا يزال الستار صالحاً للاستعمال ولم يخلق والظاهر أنهم يضعونه أيام الحج ثم يرفعونه بعد ذلك» (2).

وكتب سيف الدولة: « وتوجد في هذه البقعة علامة عن الصديقة الطاهرة (علیها السلام) أيضاً» (3) .

البقية الباقية الفريدة من حرم البقيع :

كان هذا كل ما نقلته المراجع ووصل إلينا عن القبر والضريح المنسوبين إلى فاطمة (علیها السلام)، لكن يجب أن نلفت النظر إلى التالي:

أولاً: لا يوجد ومع الأسف أي دليل أو شاهد تاريخي يرشدنا إلى باني الضريح (الشبك ) (4) .

ص: 106


1- توصيف المدينة - مجلة ميقات الحج الفصلية، العدد الخامس: ص 118 .
2- رحلة فرهاد ميرزا ص 156 .
3- رحلة سيف الدولة : ص 143 .
4- ما كتبه «مخبر السلطنة » بأنّ أمين السلطنة قد بنى هذا الضريح مخدوش . أنظر رحلة مخبر السلطنة ص 270.

ثانياً: قول الفراهاني بأنّ هذا الضريح (الشبك) مصنوع من الحديد إنما يقصد أنه فلزي، لأنه في الواقع كان مصنوعاً من الفولاذ الصلب، وهذا الشبك هو الأثر الوحيد الباقي من حرم أئمة البقيع (علیهم السلام) ولأنّ الوهابيين بعد هدمهم الحرم الشريف شوال سنة 1344 للهجرة قسموا هذا الشبك إلى سبعة أجزاء فنصبوا ستة أجزاء منها على الطرفين الأيمن والأيسر للجدار المحيط بالباب المنتهي إلى حرم حمزة، ونصبوا القطعة السابعة عند قبور شهداء أحد، وإنّ عدم تأثر أجزاء هذا الضريح بعد مرور سبعين عاماً من العوامل الجوية ورطوبة المدينة، يدلّ على صلابة وجودة فولاذ هذا الضريح .

مشاهدات أحد الرحالين هدم البقيع :

كما لاحظنا في الصفحات السابقة، فإنّ حرم أئمة البقيع (علیهم السلام) له وجهان :معنوي روحاني وظاهري يرتبط بأناقة البناء وعظمته، وقد كان طوال التاريخ منذ أيام الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلى يومنا هذا مزاراً يؤمّه المسلمون ويكتب عنه الكتاب والمؤرخون، فهو أحد أعظم أماكن العبادة لله تعالى ومن أبرز البقاع التي «أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ».

إنّه مهبط الملائكة ومحل نزول رحمة الله وبركات السماء . إنّه مكان التضرع إلى الله تعالى وطلب الحاجات من قاضي الحاجات، وموضع استجابة الدعاء ببرکة مدفن أربعة من المعصومين، أوصياء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأبناء أمير المؤمنين (علیه السلام) وفاطمة الزهراء (علیها السلام).

ولذا فإنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لقد بيّن عظمة هذا المكان وأهميته عندما كان يدعو لأهل البقيع، فيقف إلى جانب هذا الحرم الذي كان يعتبر آنذاك بيت عقيل، فيطلب الرحمة والغفران من الله تعالى.

ص: 107

ومن بعده ومع دفن الأئمة الأطهار(علیهم السلام) و زاد اهتمام المسلمين بهذه البقعة فكان كل زائر يزور قبر رسول الله ومسجده يأتي إلى هذا الحرم ليزور هذه القبور الشريفة، فكانت أبواب الحرم مفتوحة للزائرين طوال اليوم كله.

وأما من ناحية المظهر الخارجي فقد كان الحرم الشريف شامخاً مرتفعاً ذا قبة عالية وضريح أنيق بديع الصنع، يتلألأ طوال التاريخ بين ساير البقاع المتبركة ، وكان يلهم سائر المقابر الموجودة في المدينة والتي تخصّ أصحاب النبي وأقاربه ضياء ونورا.

أما اليوم فقد هدمته يد الجهالة والعصبية، يد الظلم والطغيان فلم تبق أثراً لتلك القبة الرفيعة والحرم الشامخ وأصبح لا يزور المكان إلّا النزر اليسير .

وقد شاهد رحالة غربي يدعى مستر رايتر RITER البقيع بعد مدة قليلة من هدم الحرم وسائر المقابر فيها، وقد كتب في ذلك:

«عندما دخلت البقيع رأيتها مثل مدينة أصيبت بزلزال شديد فتحولت إلى ركام ، فما كان فيها سوى حجارة متناثرة أو تراب وزبالة متراكمة بعضها على بعض أو أعمدة خشبية قديمة وزجاج مكسور وقطع الآجر المبعثرة، وكانت بين أكوام الزبالة ممرات ضيقة فتحوها للعابرين .

وقد رأيت عند الحائط الغربي للبقيع ركاماً من أعمدة قديمة وقطع خشبية أو حديدية عتيقة وبعض الحجارة، كان كل ذلك من بقايا الأبنية المهدمة، والمهم أنّ كل هذا الخراب لم يكن نتيجة زلزلة أو حادثة طبيعية أصابت المكان، بل تم ذلك بقرار وعزيمة من الناس الذين أبادوا كل تلك الأبنية الضخمة الجميلة التي كانت تدل على قبور أبناء رسول الإسلام وأصحابه ».

ثم يضيف مستر رايتر: « كنت أسير وسط الحجارة والأتربة لأشاهد ما بقيت من تلك الآثار التي كانت تشير إلى قبور المسلمين الأوائل الذين بنوا التاريخ، فسمعت

ص: 108

الدليل يتمتم بألم وبصوت منخفض: «استغفر الله استغفر الله، لا حول ولا قوة إلّا بالله»»(1).

مدارس آيات خلت من تلاوة ...

وكأن دعبل الخزاعي قد صوّر في قصيدته ذلك المنظر المؤلم الذي رسمه رایتر RITER . وكأنّ دعبل قد أنشد قصيدته على لسان الشيعة ومحبي أهل البيت الاطهار في عصرنا هذا وبخصوص حرم أئمة البقيع، وقد حصل دعبل على جائزة من الإمام الرضا (علیه السلام) لإنشاء تلك القصيدة . يقول دعبل في قصيدته:

مدارس آیات خلت من تلاوة*** ومنزل وحي مقفر العرصات

منازل قوم يهتدى بهداهم*** فتؤمن منهم زلة العثرات

منازل جبريل الأمين يحلها ***من الله بالتسليم والبركات

منازل وحي الله معدن علمه ***سبيل رشاد واضح الطرقات

منازل كانت للصلاة ***وللتقى وللصوم والتطهير والحسنات

دیار عفاها جور كل منابذ *** ولم تعف للأيام والسنوات (2)

أي أنّ يد الجهالة هي التي هدمت تلك البيوت، لا مرور الأيام والسنوات ولا العوامل الطبيعية كالزلزال .

قبر فاطمة الزهرا (علیها السلام)أم فاطمة بنت أسد ؟

بعد دراسة تاريخ حرم الأئمة في البقيع وتاريخ ضريحهم - في الصفحات

ص: 109


1- موسوعة العتبات المقدسة : ج 3 ص 329 .
2- شرح تائية دعبل الخزاعي للعلامة المجلسي (رضی الله عنه) .

السابقة - نصل إلى هذا التساؤل:

«أن القبر المنسوب إلى فاطمة داخل الحرم المطهر لأئمة البقيع هل هو قبر فاطمة الزهراء (علیها السلام) أم قبر فاطمة بنت أسد ؟ »

يعتبر هذا الموضوع من أهم الجوانب التي تختص بتاريخ حرم أئمة البقيع ولذلك فشرحه يحتاج إلى مناقشة عدة أمور نذكرها الآن:

أين مدفن الزهراء (علیها السلام) ؟

لاشك بأنّ قبر الزهراء (علیها السلام) غير معلوم ولم ينسب بصورة مؤكدة قطعية أيّ قبر إليها، فلم يذكر التاريخ أين دفن جثمانها الطاهر ولا يزال هذا الأمر محل نقاش وخلاف

سبب الإخفاء :

إشارة

يقول السمهودي: سبب إخفاء قبر فاطمة وبعض الشخصيات الكبار من المسلمين هو عدم بناء المباني القوية المتماسكة بالجص والطابوق على القبور في صدر الإسلام، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ إخفاء قبور أهل البيت بصورة خاصة يرجع أيضاً إلى عداء الحكام لهم منذ تلك الأيام وحتى يومنا هذا، حتى أنّ المسعودي يروي بأنّ المتوكل أمر سنة ست وثلاثين ومائتين بهدم قبر الحسين بن علي (علیهما السلام) ومحو آثاره تماماً، ومعاقبة المجاورين لقبره أشد العقاب، ودفع المتوكل مبالغ باهضة لتنفيذ أمره وكافأ القائمين بالأمر مكافأة قيمة» (1).

المؤلف: الجزء الثاني من كلام السمهودي ينطبق تماماً مع الحوادث التاريخية التي نفذتها الحكومات تجاه أهل بيت الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وأوضح دليل على

ص: 110


1- وفاء الوفا:ج 3 ص 906 .

صحة قوله، ما قام به بنو أمية بهدم بيت فاطمة الزهراء (علیها السلام) وذلك في القرن الأول أي قبل المتوكل الذي عاش في أواسط القرن الثالث . أما الجزء الأول من كلام السمهودي في قبر البقية الوحيدة لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من بعده فيعتبر تحريفاً للتاريخ ونقضاً لحقائقه، لأنه تناسى الدافع الأساسي لإخفاء قبر الزهراء (علیها السلام).

تمسك السمهودي بعدم وجود العادة على بناء المباني لقبور الشخصيات الكبار، مع أنّ قبور عدد من صحابة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) و أقربائه في مكة والمدينة داخل البقيع وخارجها بقيت معلومة إلى اليوم، إذن فيجب التماس سبب آخر لإخفاء قبر فاطمة الزهراء (علیها السلام) والدافع الحقيقي لذلك وهو ما أشار إليه كتب الحديث والتاريخ عند الشيعة وأهل السنة أي وصيتها وتأكيدها على أن يدفن جثمانها الطاهر ليلاً ويبقى قبرها مخفياً عن الناس .

جاء في صحيح البخاري وصحيح مسلم في ما جرى من خلاف بين الزهراء (علیها السلام) وأبي بكر بخصوص فدك وميراث رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عن عائشة أنها قالت: «فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته ، فلم تكلّمه حتى توفيت.

وعاشت بعد النبي ستة أشهر ، فلمّا توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر وصلّى عليها »(1).

وكان سبب خلافها مع أبي بكر أنّه صادر فدك منها .

يقول ابن عبد البر: «وكانت أشارت على زوجها أن يدفنها ليلاً»(2).

وقد ذكر كثير من أهل السنة أنّ فاطمة أشارت إلى زوجها أن يدفنها ليلاً، أما الشيعة فقد رووا ذلك بصراحة أكثر :

ص: 111


1- صحيح البخاري كتاب المغازي، باب غزوة خيبرح 3998، صحیح مسلم: كتاب الجهاد والسير :ج 3، ص 1380 ، ح 1759 .
2- الإستيعاب المطبوع في حاشية الإصابة: ج 4 ص 379 .

یروی أنّه :عندما اشتد المرض بفاطمة وقاربت الوفاة، أشار العباس عم النبي إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) في تشييع فاطمة ودفنها فأجابه: «وأنا أسألك يا عم أن تسمح لي ترك ما أشرت به، فإنها وصتني بستر أمرها »(1).

يروي الشيخ المفيد عن الإمام الحسين بن علي (علیهما السلام) أنه قال: «فلما حضرتها الوفاة وصّت أمير المؤمنين أن يتولى أمرها ويدفنها ليلاً ويعفي قبرها، فتولّى ذلك أمير المؤمنين ودفنها وعفى موضع قبرها » (2).

وفي بعض الروايات أنّ أمير المؤمنين صبّ الماء على أربعين قبر في البقيع وصنع سبعة قبور حتى لا يعلم أحد قبر الزهراء أبدا . (3)

وهكذا فإنّ وصيتها وكيفية دفنها جعلتا قبر الزهراء (علیها السلام) غير معلوم للناس، فاختلف المحدثون، والمؤرخون في مكان دفنها، فمنهم من يقول إنّ قبرها في البقيع ويرى الآخرون أنّه في بيتها ويحتمل غيرهم أن تكون مدفونة في مسجد النبي بين بيت رسول الله ومنبره، وسترى أنّ الذين يعتقدون بدفنها في البقيع لا يتفقون على مكان واحد هناك .

مدفن الزهراء (علیها السلام)كما في الروايات:

هناك روايات عديدة مسندة وموثوقة عند الشيعة، مرويةٌ عن ستة من الأئمة المعصومين (علیهم السلام) في محل دفن الزهراء (علیها السلام) ، وتذكر هذه الروايات أنّها دفنت في بيتها بجوار المسجد وقرب بيت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ذلك البيت الذي تمّ هدمه

ص: 112


1- بحارالأنوار: ج 43 ص 210 .
2- أمالي المفيد: ص 146 .
3- بحار الأنوار: ج 43 ص 183 .

وإلحاقه بالمسجد على يد بعض خلفاء بني أمية (1). نرى في هذه الروايات أمرين:

-1- كثرة هذه الروايات، بحيث لا نجد إلّا في قليل من الموضوعات روايات عن ستة من الأئمة المعصومين (علیهم السلام) .

-2 نفي دفن فاطمة الزهراء (علیها السلام) في البقيع في هذه الروايات .

ونكتفي في هذا الصدد بذكر عدد من تلك الروايات:

1- الإمام الرضا (علیه السلام)

يروي المرحوم الصدوق عن أبي نصر البزنطي أنّه سأل الإمام أبا الحسن علي ابن موسى الرضا (علیهما السلام) عن محل دفن فاطمة (علیها السلام) فقال:

«دفنت في بيتها، فلما زادت بنو أمية في المسجد صارت في المسجد »(2).

يروي هذه الرواية أيضاً المرحوم الكليني (3) وابن شهر آشوب (4) والعلامة المجلسي (5).

2- الإمام الصادق (علیه السلام) عن البزنطي أيضا أنه قال:

سألت الإمام الرضا (علیه السلام) عن فاطمة بنت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أي مكان دفنت ؟ فقال (علیه السلام): سأل رجل جعفر بن محمد الصادق (علیهما السلام) عن هذه المسألة وعيسى بن

ص: 113


1- سنذكر أنّ هذا البيت قد تم فصله عن المسجد في القرن السادس، وذلك بوضع سياج حوله، كما نشاهد اليوم.
2- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) : ص 311.
3- أصول الكافي: ج 1 ص 461 .
4- المناقب: ج 3 ص 365 .
5- بحار الأنوار: ج 100 ص 191 .

موسى (1) حاضر فقال له عيسى: دفنت في البقيع، فقال الرجل: ما تقول؟ فقال (علیه السلام): قد قال لك، فقال له: أصلحك الله ما أنا وعيسى بن موسى ؟ أخبرني عن آبائك، فقال (علیه السلام): دفنت في بيتها (2).

3- الإمام الهادي (علیه السلام)

يروي السيد ابن طاووس (رحمه الله ) عن كتاب «المسائل وأجوبتها من الأئمة » ، سؤالاً من بين الأسئلة المكتوبة عن الإمام علي الهادي (علیه السلام) : يقول محمد الهمداني: كتبت له: «أخبرني - إن أمكن - عن مدفن جدتكم فاطمة، أهو في المدينة أم في البقيع كما يقول الناس ؟ فأجاب (علیه السلام): «هي مع جدي صلوات الله عليه »(3). يقول السيد ابن طاووس (رحمه الله ) بعد نقل هذه الرواية: «وهذا النص كاف في

أنها (علیها السلام) مع النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ».

4 و 5 - الإمام الباقر والإمام المجتبی (علیهما السلام):

تؤيد هذه الرواية رواية أخرى يرويها الكليني (رحمه الله ) عن الإمام الباقر (علیه السلام)، أنه عندما حضرت الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) الوفاة أوصى أخاه الإمام الحسين بن علي (علیهما السلام):

« إذا متّ فجهزني وخذني إلى قبر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لأجدّد العهد معه، ثم اصرفني إلى أُمّي ثم ردَني فادفنّي بالبقيع ».

ص: 114


1- يعتبر عيسى بن موسى من محدثي أهل السنة وعلمائهم المعاصرين للإمام الصادق (علیه السلام)، أنظر: تهذيب التهذيب .
2- قرب الإسناد، نقلاً عن بحار الأنوار: ج 100 ص 192 .
3- إقبال الأعمال : ص 623.

وفي رواية أخرى: «ثم ردّني إلى قبر جدتي فاطمة فادفنّي هناك » (1).

ينقل الشيخ الكليني (رحمه الله ) وصيّة الإمام الحسن المجتبى في مكان آخر من كتابه هكذا: «يا أخي إني أوصيك بوصية فاحفظها، إذا أنا متُّ فهيئني ثمّ وجّهني إلى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لأحدث به عهداً ثم اصرفني إلى أمي (علیها السلام)ثم ردني فادفنّي بالبقيع »(2).

6- أمير المؤمنين (علیه السلام):

نرى في سلام الإمام امير المؤمنين (علیه السلام) دليلاً آخر على دفن الصديقة الطاهرة (علیها السلام) في بيتها ؛ حيث يقول الإمام (علیه السلام) عند دفنها مخاطباً لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) :«السلام عليك يا رسول الله عنّي وعن ابنتك النازلة في جوارك والسريعة اللحاق بك » . (3) وفي الختام قال (علیه السلام): «السلام عليكما سلام مودّع ...».

فيتحقق مفهوم عبارة: «النازلة في جوارك » بدفنها في بيتها وهو الأقرب إلى بیت رسول الله وقبره الشريف .

وفوق ذلك فقد روى المرحوم الكليني (4) والشيخ المفيد (5) والشيخ الطوسي (6) العبارة السابقة على هذا النحو: «السلام عليك يا رسول الله، عني وعن ابنتك النازلة في بقعتك والسريعة اللحاق بك » ، فيذكر (البقعة) بدلاً من (الجوار)،

ص: 115


1- روضة الكافي، نقلاً عن وسائل الشيعة : ج 1 كتاب الطهارة ب 13 من أبواب الدفن، ح 6 و 10 .
2- أصول الكافي ج 1، ص 300 ح 1 و ص 302، ح 3 .
3- نهج البلاغة : الكلام 202 .
4- أصول الكافي: ج 1، ص 458 - 459، ح3 .
5- الأمالي : ص 33 .
6- الأمالي: ج 1، ص 108 .

فيتجلّى الأمر بوضوح أكثر . وجملته الأخيرة: «السلام عليكما سلام مودّع ... تاكيد على القرب والجوار وأنّها دفنت إلى جنب أبيها رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كما يقول الإمام الهادي (علیه السلام) : «هي مع جدي صلوات الله عليه ».

مدفن الزهراء (علیها السلام) حسب رأي علماء الشيعة:

إشارة

ذكرنا نماذج من الروايات الواردة في مدفن الزهراء (علیها السلام)، وإليك الآن آراء عدد من كبار علماء الشيعة ومحدّثيهم في ذلك:

1- رأي الشيخ الصدوق وكيفية زيارته:

يقول المرحوم الشيخ الصدوق (المتوفى سنة 381 ه- ) بعد نقل الآراء المختلفة في مدفن الزهراء (علیها السلام):

« روى بعض المحدثين روايات ورضوا بمضامينها التي تدل على أنّها دفنت داخل بيتها الذي انضم إلى المسجد بعد توسيعه على يد بني أمية » ، ثم يقول: « وهذا هو الصحيح عندي ».

ثم يذكر كيفية زيارته فيقول: «وفقني الله تعالى أن أزور المدينة بعد العودة من حج بيت الله الحرام فزرت قبر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بعد أن اغتسلت غسل الزيارة ثم توجهت إلى بيت فاطمة وحدود هذا البيت من الاسطوانة التي أمام باب جبرائيل إلى قبر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فوقفت قرب المكان بحيث كان قبر الرسول إلى يساري والقبلة خلفي وبيت فاطمة أمامي، ثم تلوت هذه الزيارة « السلام عليك يا بنت نبي الله ، السلام عليك يا بنت حبيب الله، ... » (1).

ثم يقول: «لم ألق في الأخبار والأحاديث زيارة خاصة لفاطمة (علیها السلام)، ولذا

ص: 116


1- هذه هي الزيارة المشهورة التي نقلتها كتب الأدعية والزيارات مع الصلوات المخصوصة على كل من المعصومين (علیهم السلام).

فالأفضل أن يتلو من يقرأ كتابي نفس الزيارة التي تلوتها »(1) .

ويقول في معاني الأخبار: « أرى أنّ القول الصحيح في قبر فاطمة (علیها السلام) هو مضمون الرواية التي نقلها والدي عن محمد بن عطار، عن الإمام الرضا (علیه السلام) بأنّ فاطمة الزهراء (علیها السلام) دفنت داخل بيتها، وأنّ بني أمية ضمّوا البيت إلى المسجد عند توسیعه »(2).

2- رأي الشيخ المفيد (رحمه الله ) :

يقول الشيخ المفيد (المتوفى سنة 413 ه- ): «ثم قف بالروضة وزر فاطمة (علیها السلام) فإنها هناك مقبورة »(3).

3 - رأي الشيخ الطوسي :(رحمه الله )

يقول الشيخ الطوسي ( المتوفى سنة 460 ه- ) : «الأصوب أنها مدفونة في دارها أو في الروضة» (4).

4- رأي الشيخ الطبرسي (رحمه الله ) :

يشير المرحوم الطبرسي من أعلام القرن السادس إلى الخلاف في مدفنها ثم يقول: «والقول الأول بعيد والقولان الآخران أشبه »(5).

والمقصود من القول الأول أنها دفنت في البقيع، أما القولان الآخران فهما أنها دفنت في بيتها أو في الروضة .

ص: 117


1- من لا يحضره الفقيه بتصحيح علي أكبر الغفاري: ج 2 ص 572 -574 . أما الزيارة المشهورة: «يا ممتحنة امتحنك الله الذي خلقك...» والتي يرويها العلامة المجلسي في مزار البحار عن محمد العريضي عن الإمام الباقر (علیه السلام)، فالظاهر أنها لم تصل بيد الشيخ الصدوق أو أنه يناقش في سندها.
2- معاني الأخبار: ص 268 .
3- المقنعة، طبعة إدارة مؤتمر الشيخ المفيد ص 459 .
4- مناقب ابن شهر آشوب: ج 3 ص 365 .
5- أعلام الورى: ص 159 .
5- رأي السيد ابن طاووس (رحمه الله ) :

يقول السيد ابن طاووس ( المتوفى سنة 673 ه- ): «والظاهر أنّ ضريحها المقدس في بيتها المكلّل بالآيات والمعجزات »(1).

وبعد ذكر رواية (2) مكتوبة عن الإمام الهادي (علیه السلام) يقول: «يكفي هذا القول الصريح الواضح عن الإمام الهادي (علیه السلام) في أنّ فاطمة (علیها السلام) دفنت بجوار مدفن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لا في مكان آخر»(3).

6 - رأي العلامة المجلسي (رحمه الله ) وكلامه في الروضة:

يقول العلامة المجلسي ( المتوفى سنة 1110 ه- ): «كما ذكرنا في كتاب المزار فإنّ أصح الأقوال هو أنها دفنت في بيتها» (4).

ويقول في كتاب المزار: «الأظهر أنها (علیها السلام) مدفونة في بيتها وقد قدمنا الأخبار في ذلك »(5) .

يذكر المرحوم المجلسي بالنسبة للروضة وأن يكون مدفنها بها كما أشارت الأحاديث النبوية والروايات وأقوال العلماء إلى ذلك والتي تحدّد الروضة ما بين منبر وبيت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) - أنّ للروضة التي ذكرت في رواية ابن أبي عمير مفهوماً واسعاً، بحيث يشمل بيت فاطمة الزهراء (علیها السلام)أيضاً، وأنّ المقصود من الروضة هي بيتها (علیها السلام) .

7- رأي شيخ الشيعة في المدينة المنورة:

ص: 118


1- الإقبال: ص 224 .
2- الرواية الثالثة من الروايات التي نقلناها .
3- الإقبال :ص 623 .
4- بحار الأنوار: ج 43 ص 188 .
5- نفس المصدر : ج 100 ص 193 .

قال الشيخ محمد علي العمري شيخ شيعة الحجاز والذي التقيت معه في المدينة المنورة، سنة 1326 شمسيّة، قال في ضمن كلام مفيد حول قبر الزهرا (علیها السلام) : «إنّ قبرها في داخل بيتها بلا شك، وكنت أراه في أيام طفولتي وكان ارتفاع القبر متراً واحداً كارتفاع العصا التي في يدكم ».

المؤلف: سنناقش هذا الموضوع في الصفحات الآتية إن شاء الله .

القرائن الاخرى:

إشارة

هذه كانت روايات أئمة أهل البيت (علیهم السلام) عن محل دفن الزهراء (علیها السلام) وكذلك آراء جمع من علماء الشيعة ومحدثيهم فيه، ونشير الآن إلى قرائن أخرى تؤكد دفنها داخل بيتها الشريف :

الاعتبار العقلي

قبل الاستناد إلى النقل نودّ الإشارة إلى اعتبار عقلي في هذا الصدد : لا شك أنّ دفن أي مسلم بجوار قبر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يعتبر أكبر مفخرة له في الدنيا ويعطيه أعلى مقام معنوي، وعلى هذا الأساس استطاع الخليفتان الأول والثاني أن يستفيدا من الظروف المتاحة لهما ليدفنا إلى جنب الرسول دون أن يؤذن لهما

وعلى هذا الأساس أيضاً أوصى الإمام المجتبى (علیه السلام) أن يدفن إلى جنب جده الكريم ولكن منع جبراً عن الدفن في بيته إثر الضوضاء التي أقاموها والتي سجّلت في التاريخ .

أما الزهراء (علیها السلام) فإضافةً إلى ما ذكر، كانت ترتبط برسول الله بعاطفة معنوية روحانية ومودة متبادلة لا توصف، ولم تكن الظروف عند وفاتها مثل الظروف عند وفاة الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) فلم يمنع شيء من دفنها داخل بيتها وخصوصاً أنها دفنت سراً وفي جوف الليل، فلا معنى أن تحرم إذن من الدفن في

ص: 119

بيتها وإلى جوار أبيها وتنتقل إلى مكان آخر ، فالحب العميق الذي بينها وبين أبيها كان يمنعها من أن ترضى بدفنها في غير بيتها وبعيدة عن والدها .

كشف الحقيقة بعلم الجفر

يكتب آية الله حسن زادة الآملي «أبقاه الله » وهو من العرفاء: استطاع بعض العرفاء بطريقة خاصة من علم الجفر الحصول على جواب هذا السؤال: «يا عليم أخبرني أين موقع قبر فاطمة الزهراء (علیها السلام) في المدينة ؟ » بأنه «مكان القبر، بيت شفيع جميع الأمة »(1).

قبر الزهراء حسب آراء علماء أهل السنة :

إشارة

ذكرنا نماذج من الروايات عن ستة من المعصومين (علیهم السلام) وأقوال أشهر علماء الشيعة في مدفن الزهراء (علیها السلام)، كما ذكرنا القرائن الدالة أو المؤكدة على مضمون الروايات السابقة وآراء العلماء، وإليك الآن آراء علماء أهل السنة .

هناك ثلاثة آراء فى محل دفن الزهراء (علیها السلام) عند علماء السنة:

1- في بيتها:

إضافةً إلى ما روته الشيعة عن دفن الزهراء (علیها السلام) داخل بيتها، فقد روى أهل السنة أيضاً مثل ذلك عن الإمام الباقر و الإمام الصادق (علیهما السلام). كما صرح بذلك بعض علمائهم وأكدوا دفنها في بيتها، منهم ابن شبة الذي يروي عن أقدم مؤرخ للمدينة المنورة عبد العزيز (2) أنه قال: «إنّها دفنت في بيتها وصنع بها ما صنع

ص: 120


1- يوجد هذا السؤال والجواب في المجلد الثالث من كتاب «ألف كلمة وكلمة » : ص 447 .
2- هو أول مؤرخ للمدينة وألف الذي كتاباً في هذا الموضوع، وكان حيّاً سنة 199 .

برسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إنها دفنت في موضع فراشها »(1).

ويشير الديار بكري إلى مختلف الأقوال، فيقول: «وذكروا أنّ قبرها داخل بيتها وهو في محراب يقع خلف الحجرة المقدسة » ، ثم يؤيد هذا الرأي قائلاً: «وهذا أظهر الأقوال »(2).

2- في البقيع :

يقول جمع آخر من علماء أهل السنة: «إنّها دفنت في البقيع ولكن خارج حرم الأئمة (علیهم السلام)».

ولهؤلاء آراء متباينة، فيرى بعضهم أنّ قبرها في الزاوية الخارجية من بيت عقيل حيث تنتهي البقيع إليه .

ويرى غيرهم أنّها دفنت أمام الزقاق المسمّى ب- «نُبَيه » ، ويقول آخرون إنّها في بيت الأحزان المسمّى بمسجد فاطمة ؛ وهناك أقوال أخرى، تصل إلى ستّة (3).

3-داخل حرم أئمة البقيع (علیهم السلام) :

ويعتبر هذا القول هو المشهور عند علماء أهل السنّة .

يذكر السمهودي الآراء المختلفة في مدفن الزهراء ، ثم يقول: «يبدو مما قلنا أنّ قبرها في البقيع قرب قبر الحسن بن علي(علیهما السلام)»(4).

ويروي مؤرخ المدينة الشهير ابن النجار ( المتوفى سنة 643 ه- ) وصية الإمام

ص: 121


1- تاريخ المدينة: ج 1 ص 108 .
2- تاريخ الخميس: ج 2 ص 176 .
3- هذه الأقوال ذكرها ابن شبة في تاريخ المدينة : ج 1 ص 105 و 106، والسمهودي في وفاء الوفا: ج 3 ص 901 .
4- وفاء الوفا : ج3 ص 901 .

الحسن المجتبى (علیه السلام) أنه قال: «ادفنوني إلى جنب أمي فاطمة بالمقبرة » ، ثم يستنتج بأنّ قبر فاطمة عند قبر ابنها الحسن تحت هذه القبة نفسها (1).

يقول العبّاسي مؤلف «عمدة الأخبار » : «من القبور الواقعة في البقيع، قبر فاطمة بنت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وقبرها داخل قبة العباس قرب قبر إبنها الحسن (علیه السلام) لأنّ الحسن بن علي أوصى عند وفاته أن يدفن عند قبر أمه فاطمة»(2).

وكرر أكثر الكتّاب المعاصرين (3) نفس الكلام ورأوا أنّ قبرها داخل حرم أئمة البقيع (علیهم السلام).

دليل هذا الرأي:

لو لم يذكر أصحاب هذا الرأي دليلهم عليه لكان من الممكن قبول رأيهم كمؤرخين، إلّا أنّنا نلاحظ أنّهم خالفوا الرأي الأول والذي تؤيده الروايات وأقوال بعض المتقدمين من مؤرخي المدينة، واستندوا في ذلك إلى وصيّة الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) حيث قال:« ادفنوني عند قبر أمّي فاطمة » ، وذلك إذا منعوا عن دفنه قرب قبر جده، حيث لاحظنا هذا الدليل بوضوح في أقوال ابن النجار والعباسي، ونقل سائر المؤرخين هذه الوصيّة إلى جنب آرائهم الخاصة، ليستندوا إليها أيضاً، باعتبار أنّ المقصود من أمّي فاطمة في الوصيّة أُمّه فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

الرد الصريح على هذا الرأي:

رغم أنّ وصيّة الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) مقبولة تاريخياً، إلّا أننا نعتقد بعدم

ص: 122


1- أخبار المدينة ص 154 .
2- عمدة الأخبار: ص 154 .
3- مثل علي حافظ في كتابه «فصول من تاريخ المدينة » : ص 168 .

صحة الوجه الثالث، فالمقصود من «أمي فاطمة » في الوصية جدته فاطمة بنت أسد لا أُمّه فاطمة الزهراء (علیها السلام) .

وبيان ذلك: أنّ هذا الرأي (أي دفن الزهراء (علیها السلام) في البقيع ) يخالف سيرة الأئمة من أهل البيت (علیهم السلام) في إخفاء قبر فاطمة الزهراء (علیها السلام)، ولا يتفق أيضاً مع الروايات المنقولة عن أهل البيت (علیهم السلام) عن طريق الشيعة والسنة ويختلف مع آراء العلماء في دفنها داخل بيتها وإطلاق كلمة الأم على الجدة أمر متداول شائع، وقد ناقض هؤلاء المؤرخون أنفسهم في أماكن أخرى حيث أكدوا أنّ السيّدة المدفونة في البقيع هي فاطمة بنت أسد وليست فاطمة الزهراء (علیها السلام).

فمن هذا القبيل قولهم في مكان دفن العباس عم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حيث يروي ابن شبة والسمهودي عن أقدم مؤرخ للمدينة عبد العزيز أنه قال: «دفن العباس بن عبد المطلب عند قبر فاطمة بنت أسد بن هاشم في أول مقابر بني هاشم التي في دار عقیل »(1).

كما يروي العبّاسي هذا القول السابق ثم يضيف كلام ابن حبان (2) الذي قال في تشييع وتجهيز الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) : «... دفن في البقيع عند جدته فاطمة بنت أسد بن هاشم »(3).

نلاحظ أنّ هاتين الجملتين من أقدم المؤرخين والمحدثين تصرحان بأنّ السيدة المدفونة في حرم البقيع حيث دفن العباس عم النبي والإمام المجتبى (علیه السلام) إلى جوارها إنما هي جدة الحسن بن علي أي فاطمة بنت أسد وليست فاطمة

ص: 123


1- تاريخ المدينة : ج 1 ص 127 ، وفاء الوفا: ج 3 ص 910 .
2- ابن حبان، أحد أكبر علماء أهل السنة ومحدّثيهم في القرن الرابع والمتوفى سنة 354، ويعتبر كتابه من أحسن كتب الحديث .
3- عمدة الأخبار: ص 153 .

الزهراء (علیها السلام)بنت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

كما أنّ رواية الإمام الباقر (علیه السلام) التى تقول إنّ الإمام الحسن (علیه السلام) قال في وصيّته إلى الإمام الحسين (علیه السلام) : « ثم ردّني إلى قبر جدتي فاطمة فادفني بها » ، تشير إلى هذا المعنى (أي أنّ المدفونة في البقيع هي فاطمة بنت أسد وليست فاطمة الزهراء).

قبر فاطمة بنت أسد في بيت ابنها عقيل :

ذكرنا عن حرم أئمة البقيع أنه كان بيتاً لعقيل بن أبي طالب، وبعد دفن فاطمة والعباس وثلاثة من الأئمة الأربعة (علیهم السلام) تحول إلى مزار ومحل للعبادة، وأشرنا إلى الشواهد التاريخية التي تدل على أنّ دفن الأشخاص داخل بيوتهم وخصوصاً الشخصيات المتميزة كان أمراً طبيعياً عند المسلمين الأوائل .

وبناء على ذلك كلّه، فإنّ دفن أم أمير المؤمنين (علیه السلام) داخل هذا البيت يعتبر أمراً مألوفاً لا غبار عليه، فقد توفيت في السنة الرابعة أو السادسة للهجرة، وقام أبناؤها ومعهم رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بنفسه بتجهيزها ودفنها بكل احترام واهتمام داخل بيت ابنها عقيل وبعد مدة قليلة، أي في السنة الثلاثين للهجرة دفنوا العباس عم النبي بنفس الطريقة، وهكذا أيضاً دفنوا الأئمة الأربعة هناك .

التمويه السياسي

ذكرنا خلاصة من الروايات وأقوال أشهر العلماء والمحدثين الشيعة في دفن فاطمة الزهراء (علیها السلام)، كما ذكرنا روايات أهل السنة وآراء عدد من علمائهم في هذا الصدد، وكذلك أقوال بعض مؤرّخي المدينة المنورة في مدفن فاطمة بنت أسد، كما بيّنا وصية الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) وما يمكن استنتاجه منها تاريخيّاً.

ص: 124

ويحصل من مجموع الأقوال ظنّ يقارب اليقين في أنّ قبر الزهراء (علیها السلام) إنما هو في بيتها بجوار مسجد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وأنّ قبر فاطمة بنت أسد في حرم أئمة البقيع، ولكن ومع ذلك لا ينبغي أن نغفل عن حقيقة هامة، وهي التحريف الحاصل على أيدي الكتاب والحكومات على مرّ التاريخ في سبيل إقناع الناس بأنّ قبر الزهراء (علیها السلام) إنما يقع داخل حرم أئمة البقيع، إضافةً إلى إيجاد صورة قبر منسوب إلى بنت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في غير المكان السابق له، وهذا ما فعلته الحكومة السعودية بعد هدم الحرم، كل ذلك من أجل تهدئة الضغط السياسي والهجوم الفكري والعقائدي وإخفاء النقد الذريع الذي طرحه أنصار مذهب أهل البيت (علیهم السلام) طوال التاريخ ضد الفكر المناقض لأهل البيت والمدعوم من قبل الحكومات، ومحتوى هذا النقد هو السر الكامن في إخفاء قبر وحيدة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

وهذا النقد أجبر الحكومات على اختلاق قبر لفاطمة بنت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأية ذريعة ممكنة، وتطبيق وصيّة الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) على فاطمة الزهراء (علیها السلام) باعتباره حلاً لهذا اللغز، ودعموا دعواهم بشواهد اصطنعوها بأيديهم، وكان لزاماً عليهم أن يختلقوا أيضاً لفاطمة بنت أسد قبراً غير قبرها الذي دفنت فيه، فابتدعوا لذلك أيضاً حلاً آخر .

أما بالنسبة للشواهد على وجود قبر الزهراء (علیها السلام) داخل حرم البقيع، نجد في مقطع تاريخي معين ظهور قطعة حجر من الرخام على قبور أئمة البقيع فيها أنّ فاطمة بنت رسول الله مدفونة هناك

يقول المسعودي في قطعة الرخام هذه:

«وعلى قبورهم في هذا الموضع من البقيع رخامة عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله مبيد الأمم ومحي الرمم ، هذا قبر فاطمة بنت رسول

ص: 125

الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) سيدة نساء العالمين وقبر الحسن بن علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ومحمد بن علي وجعفر بن محمد (رضی الله عنهم) (1).

وبعد برهة أخرى وقرون متمادية توضع مثل هذه القعطة على باب حرم أئمة البقيع. يقول السيد إسماعيل المرندي عن قطعة الحجر هذه في كتابه المؤلف سنة :1255: « وتوجد قطعة رخام فوق الباب مكتوب عليها : هذا قبر فاطمة بنت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) و قبر حسن بن علي وقبر محمد بن علي و ...»(2).

ومع الأسف نرى أنّ هذه السياسة والتحريف قد أثرت أثرها في التاريخ وبالرغم من وجود الروايات العديدة عن ستة من ائمة أهل البيت (علیهم السلام) وآراء العلماء الكبار في دفن الصديقة الطاهرة (علیها السلام) في بيتها ونفي دفنها في البقيع، نرى أنّ بعض مؤرخي الشيعة مالوا إلى هذا التحريف وأيّدوا رأى علماء أهل السنة . فمثلاً نرى أنّ المرحوم الشيخ «الأربلي » يقول في كتابه: «قلت: الظاهر المشهور ممّا نقله النّاس وأرباب التواريخ والسير أنها (علیها السلام) دفنت بالبقيع كما تقدم »(3).

ولكن نحن نقول :«أهل البيت أدرى بمن في البيت».

أصل هذا القبر

يروي محب الدين الطبري (المتوفى سنة 696 ه- ) عن ابن عبد البر (المتوفى سنة 463 ه- ) أنه قال: «قبر الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) معروف وواضح المعالم ولا يوجد بجانبه أي قبر ينسب إلى فاطمة ».

ص: 126


1- مروج الذهب: ج 3 ص 297 . يقول السمهودي في وفاء الوفا ج 3 ص 905: قول المسعودي هذا يتعلق بسنة ( 332 ه- ) .
2- توصيف المدينة، نقلاً عن المجلة الفصلية «ميقات الحج » العدد 5 ص 117 .
3- كشف الغمة: ج 2، ص 127 .

ثم يضيف الطبري: «ذكر لي أحد الإخوان المؤمنين الصالحين أنّ أبا العباس المرسي عند زيارته للبقيع، كان يقف أمام القبلة داخل قبة العباس (حرم البقيع ) ويسلّم على فاطمة وقد ظهرت له مكاشفة تدل على أنّ قبر فاطمة موجود داخل هذا الحرم وفي تلك الزاوية بالذات ».

ثم يقول الطبري: « ولثقتي بذلك الشخص الصالح المؤمن، كنت أزور قبر فاطمة هناك ... » (1).

يبدو من كلام هذين المؤرخين ابن عبد البر والطبري (2) وهما شخصيتان مشهورتان أن آثار قبر فاطمة قد انمحت داخل الحرم ولم تكن هناك علامة واضحة للقبر الذي كان ينتسب إلى فاطمة داخل حرم البقيع في القرن الخامس أو السابع خلافاً بالنسبة لقبور الأئمة وقبر العباس .

إذن فهناك حالة شك وريبة تحوم حول ما ذكرناه سابقاً أنّ في الركن الجنوبي من حرم البقيع تحت القوس وعند المحراب قبر منسوب إلى فاطمة، و تفصله عن الحرم شبكة حديدية، فكيف ظهر هذا القبر وقطعة الرخام والمكتوب عليها، ومتى ظهر كل ذلك وبأمر أية دولة، وعلى يد من؟

وتُطرح نفس الأسئلة عن القبر الموجود حالياً عند قبور أئمة البقيع والمنسو إلى فاطمة ؛ فعلى فرض صحة القبر الأول فإنّ القبر الحالي لا يطابقه في المكان، لأنّ القبر الحالي - كغيره من القبور - يقع في وسط الحرم لا في أحد أركانه !

ص: 127


1- ذخائر العقبى: ص 54 .
2- يعتبر محمد بن عبد البر القرطبي المالكي (المتوفى سنة 463 ه- ) من رجال العلم المشهورين وله تأليف عديدة أشهرها «الاستيعاب في أسماء الأصحاب » والذي طبع في مصر في حاشية كتاب «الإصابة »... أما محب الدين الطبري المكي الشافعي فكان محدثاً ومفتي حرم مكة وألّف كتاب «الأحكام » و « كتاب ذخائر العقبى » وتوفي سنة 674 أو 694 .

وأما مدفن فاطمة بنت أسد:

ذكرنا أنّ فاطمة بنت أسد دفنت في بيت ابنها عقيل وقبرها واقع في حرم أئمة البقيع (علیهم السلام) ولكنهم عرفوا هذا القبر باعتباره قبر فاطمة الزهراء (علیها السلام)وأكدوا كلامهم بذكر شواهد عليه، ونتيجة ذلك أنهم اضطروا إلى إيجاد مدفن آخر لفاطمة بنت أسد التي دفنها الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بنفسه وبشكل خاص، فتم الأمر بتعيين أكثر من موضع لقبرها .

فنلاحظ اختلاف آراء المؤرخين وتشتت أقوالهم في هذا الصدد فيقولون حيناً: «دفنت فاطمة بنت أسد في مسجد فاطمة (علیها السلام) بيت الأحزان»(1).

وحيناً آخر: «دفنت في الروحاء عند قبر إبراهيم وعثمان بن مظعون»(2).

والمشهور بين بعض المؤرخين وعند عامة الناس أنّ قبرها خارج البقيع شمال قبر عثمان بن عفان وعلى بعد 50 متراً منه وبقربه قبر آخر(3).

يذكر السمهودي أقوال بعض المؤرخين بأنّ قبر فاطمة بنت أسد في «الروحاء » ويروي عن ابن شبة عن عبد العزيز أنّ الإمام الحسن المجتبى مدفون بجانب قبر فاطمة بنت أسد بن هاشم وفي مقدمة مقابر بني هاشم . ثم يضيف السمهودي وكل هذا يناقض بصراحة ما هو مشهور أنّ قبرها قرب قبر عثمان خارج البقيع، وأول من ذكر ذلك ابن النجار وتبعه آخرون ولم أجد دليلاً لقوله، فالرأي السليم عندي أنها مدفونة عند قبر الإمام المجتبى إذ يستبعد كثيراً أن

ص: 128


1- تاريخ المدينة : ج 1 ص 123 .
2- وفاء الوفا: ج 3 ص 895 .
3- أخبار مدينة الرسول ص 156 ، كان هذان القبران خارج البقيع ولهما قبة قديمة خاصة بهما، وبعد هدم القبب وإيجاد جدار حولهما أصبحا متعينين ويزورهما الزائرون، ولكن بعد توسيع البقيع في السنوات الأخيرة وقع القبران داخل البقيع ولا أثر لهما اليوم .

يترك رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) البقيع ويدفن فاطمة بنت أسد في ذلك المكان النائي في نهاية زقاق بأقصى نقطة بالبقيع » . ويضيف السمهودي: «ولا يعلم أساساً هل كان هذا المكان جزءاً من البقيع أم لا ؟ وسنذكر أنّ مدفن عثمان لا يعتبر من البقيع إذن فالأولى أنّ هذا المكان الواقع في نهاية زقاق شمال قبر عثمان لا يكون في البقيع»(1).

ويذكر أحمد العباسي في عمدة الأخبار مثل هذا القول، ثم يشير إلى كيفية استشهاد سعد بن معاذ ودفنه ويقول: «الأصح أنّ القبر المنسوب لفاطمة بنت أسد خارج البقيع إنما هو لسعد بن معاذ لا لفاطمة نفسها » (2).

خلاصة الكلام

السبب الرئيسي - كما ذكرنا سابقاً - لوضع تلك النقوش واختلاق هذه القبور على مرّ التاريخ وحتى في عهد آل سعود إنّما هو السياسة الدفاعية التي استوجبت الإدعاء بأنّ قبر فاطمة الزهراء (علیها السلام) واقع في حرم البقيع وأنّ قبر فاطمة بنت أسد في غير المكان الذي هو فيه، وقد لاحظتم أنّه مضافاً إلى الأدلة الموجودة في كتب الحديث والتاريخ عند الشيعة فإنّ عدداً من مؤرّخي المدينة أيضاً رفضوا كل هذا الإدّعاء ورأوا أنّ قبر فاطمة بنت أسد واقع داخل حرم أئمة البقيع دون قبر فاطمة الزهراء (علیها السلام).

هل دفنت فاطمة الزهراء (علیها السلام) في الروضة ؟

استنتجنا من البحث السابق أنّ احتمال وجود قبر الزهراء (علیها السلام) داخل البقيع -

ص: 129


1- وفاء الوفا: ج 3 ص 893 .
2- عمدة الأخبار: ص 153 وص 157 .

كما هو وارد في كتب التاريخ - ضعيف جداً ونابع من أقوال وكتب بعض مؤرخي أهل السنة وعلمائهم، ولا نجد دليلاً واضحاً صريحاً يؤيد هذا الاحتمال في روايات الشيعة وآراء كبار علمائنا، لأنّ روايات أهل البيت (علیهم السلام) وأقوال محدّثينا وعلمائنا السابقين كلها تؤكد على أنّ مرقد الصديقة الطاهرة واقع داخل بيتها الشريف .

وعلينا الآن أن نناقش أمرين:

أولاً: هناك احتمال ثالث بأنّها دفنت في الروضة المطهرة، فما قوة هذا الإحتمال ؟

ثانياً: ما المقصود من الروضة وما هي حدودها ؟

وجدير بالذكر أنّ بيان ضعف احتمال وجود قبرها الشريف في مكان، لا يدلّ أبداً على نفي ثواب زيارتها في ذلك المكان واستحباب احترامها وتوقيرها، لأن استحباب زيارة المعصومين (علیهم السلام) في أي مكان كان من المسلمات الثابتة، خصوصاً إذا كانت تلك الزيارة في الروضة المطهرة وعند قبر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أو في البقيع وعند قبور ائمة الهدى (علیهم السلام) ، وأقل فائدة تترتب على تعيين قبرها في مكان معيّن - إضافة على أهميته العلمية والتاريخيّة والدينية - هي حصول الإطمئنان لزوّار تلك السيّدة الجليلة، لأنّ الإعتماد والظنّ القوي على وجود قبرها الشريف في مكان معيّن يعطي الزوّار حضور القلب والتوجه الباطني عند زیارتهم في ذلك المكان.

الروضة المطهرة وفضيلتها

ما يعرف باسم «الروضة » إنما هو ذلك الجزء من مسجد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الواقع بین منبره وبين بيته أو بيوته .

ص: 130

أمّا مصطلح «الروضة » الذي أطلق على هذا المكان المقدس، فهو نابع من کلام رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أي من نصوص الأحاديث المروية عنه .

وقد وردت في كتب الحديث عند السنّة والشيعة أحاديث عديدة عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في فضيلة الروضة المطهرة كما أكد الأئمة (علیهم السلام) والعلماء (1) أيضاً على أهميّة العبادة والدعاء في هذا الموضع من المسجد . قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في حديث: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي »(2).

وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في حديث آخر: «ومنبري على ترعة من ترع الجنّة»(3).

وفي رواية أنّ الإمام الصادق (علیه السلام) قال لمعاوية بن عمار: «قم عند المنبر فاحمد الله واثن عليه وسل حاجتك فإن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) :قال : ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنّة وإنّ منبري على ترعة من ترع الجنّة»(4).

ذكر علماؤنا وجوهاً عدة في مفهوم هذا الحديث الشريف ووجه تشبيه هذا المكان المقدس بروضة من رياض الجنة، ولا حاجة لنا بذكر تلك الوجوه، ولكن نستفيد من هذا الحديث أنّ نزول الرحمة الإلهية واستجابة دعاء المؤمنين ونيل العباد السعادة المعنوية الأبدية إنما يحصل في هذه الروضة الطاهرة كروضة من رياض الجنّة، إذن يمتاز هذا المكان المقدس بفضيلة عظيمة لا تنالها عقولنا وأفكارنا، فنحن عاجزون قاصرون عن معرفة حقيقتها، إذ لو قارنا هذا الحديث الشريف بحديث آخر في شأن المسجد النبوي حيث يقول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «صلاة في

ص: 131


1- للسيد بن طاووس في « مصباح الزائر » : ص 24 و 25، بيان رائع في هذا المجال
2-
3- فروع الكافي: ج 4 ص 556 ، صحيح البخاري، أبواب فضائل المدينة: ح 1789 وأبواب التطوّع ح 1137 و 1138 ، صحیح مسلم ح 1390 و ح 1391، مسند أحمد: ج 2 ص 236، وص 297 وص 438 ، وص 466 .
4- کامل الزيارات: ص 16 .

مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلّا المسجد الحرام»(1) ، أو قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «صلاة في مسجدي هذا تعدل بعشرة آلاف صلاة»(2) لأدركنا المقام الشامخ الذي تمتاز به الروضة المطهرة ولعرفنا أهمية العبادة وفضيلتها في هذا المكان الشريف وما للدعاء والإنابة في هذا الموضع من المسجد من أجر وثواب، فالصلاة في أي جزء من مسجد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) تفوق ألف صلاة في سائر المساجد حتى المسجد الأقصى، ما عدا المسجد الحرام وإقامة صلاة واحدة في مسجد النبي تعدل عشرة آلاف صلاة تقام في موضع آخر، فإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لجميع المسجد فالصلاة إذن في الروضة التي عرّفها رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بنفسه تفوق ذلك بمراتب عديدة، وكل هذا الأجر والثواب إنما هو قطرة من محيط لا يتناهى من رحمة الله الواسعة وبه ينال الإنسان جنة النعيم ويرتقي إلى أعلى مراتب غفران الله ورضوانه «وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ »(3) ، فكل هذه المواهب والمكرمات إنما تنبع من الروضة المطهرة .

حدود الروضة

تروى في الروضة المطهرة أحاديث عديدة بعبارات ونصوص مختلفة والظاهر أنّها جميعاً متحدة في مضامينها دون تناقض بينها، وعليه فإنّ صدور هذه الأحاديث في أزمنة مختلفة يعتبر معياراً يبين بعض أبعاد الروضة، فهناك آراء متباينة في حدود الروضة بين محدثي أهل السنة ومؤرّخي المدينة منذ القرون الأولى، وأمام تلك الآراء ذكر الأئمة (علیهم السلام) أيضاً حدود الروضة وبينوها لأتباعهم،

ص: 132


1- فروع الكافي: ج 4 ص 556 ، كنز العمال: ج 12 ص 257 و 258 .
2- فروع الكافي: ج 4 ص 556 .
3- سورة التوبة: 72 .

ولذلك فعلى العكس من علماء أهل السنة الذين اختلفوا في حدود الروضة فإنّ علماء الشيعة لم يختلفوا فيها لأنّ (أهل البيت أدرى بمن فيه).

نظرة إلى النصوص:

إشارة

1- «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة ومنبري على حوضي »(1).

2- «ما بين حجرتي ومنبري روضةً من رياض الجنّة» (2).

3- « ما بين منبري إلى حجرتي روضة من رياض الجنّة»(3).

4 - «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة» (4).

5 ما بين مصلاي وبيتي روضة من رياض الجنّة» (5).

6 - « ما بین هذه البيوت إلى منبري روضة من رياض الجنة »(6).

روى أهل السنّة كلّ هذه الأحاديث، أما الشيعة فلم ترو إلّا الحديث الأول والسادس .

اختلفوا في الحديث الخامس هل كان المقصود من المصلّى هو محراب رسول الله داخل المسجد أو مصلى العيد الرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الواقع خارج المسجد وفي الجانب الغربي منه حيث كانت ساحةً وسيعةً يقيم النبي صلاة العيد فيها. ويرى أكثر العلماء أنّ المقصود من المصلّى هو المعنى الثاني أي مصلى العيد.

ص: 133


1- ذکرنا آنفاً مراجع هذا الحديث .
2- مسند أحمد: ج 2 ص 334 .
3- مسند أحمد : ج 3 ص 389 کنز العمال: ج 12 ص 260 .
4- مسند أحمد: ج 3 ص 64 ، كنز العمال: ج 12 ص 261 .
5- كنز العمال: ج 12 ص 260 .
6- وفاء الوفا : ج 1 ص 435 .

وعلى كل حال، فبناءً على مضامين الأحاديث المذكورة ذكر أهل السنة ثلاثة وجوه في «تعيين حدود الروضة » وهي كالتالي:

النظرية الأولى:

تقع الروضة شرق المسجد وتبدأ من بيت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وتنتهي إلى المنبر، فضلعها المحاذي للبيت أكبر وكلما امتدت إلى المنبر ضاقت إلى أن تصل المنبر نفسه، فعلى هذا الوجه تكون الروضة على شكل مثلث، رأسه المنبر وقاعدته البيت . قوبل هذا الوجه في البداية بقبول البعض ولكنه فقد أهميته بالتدريج عند الجميع ما عدا مجموعة خاصة .

النظرية الثانية:

تشمل الروضة المسجد النبوي كله بالحدود التي كان عليها أيام الرسول، والدليل على ذلك الحديث الخامس والسادس وذكر كلمتي «البيوت »و «المصلّى» فيهما، فمعظم مساحة المسجد تقع بين البيوت والمنبر وكل المسجد واقع بين البيت والمصلى، وقد ألّف «الخطيب » وهو من علماء أهل السنة كتاباً يثبت فيه هذا الوجه سمّاه «دلالات المسترشد على أنّ الروضة هي المسجد » ، وألّف أحد العلماء يدعى الشيخ صفي الدين المدني كتاباً في الرد على الخطيب وكتابه، وجاء بعدهما مؤرخ المدينة ومحققها السمهودي (المتوفى سنة 911 ه- ) فألّف كتاباً سمّاه «رفع التعرض والإنكار لبسط روضة المختار » وحسب قوله فقد لخّص الكتابين المذكورين وحاول الجمع بين رأييهما (1).

ص: 134


1- وفاء الوفا: ج 1 ص 435 .

وكما يبدو من اسم الكتاب، فقد اختار في النهاية رأي الخطيب بأنّ الروضة تشمل المسجد كلّه .

النظرية الثالثة:

يرى هذا الوجه أنّ الروضة ليست المسجد كله ولا المثلث المذكور، إنما تحدّها من الشرق حجرة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وتمتد فيها إلى محاذاة المنبر، ومن الجنوب والشمال تبدأ من جدار محراب النبي وإلى العمود الثالث شمالاً .

وعلى هذا الوجه فالروضة على شكل مربع يحتوي على اثني عشر عموداً، أربعة أعمدة على امتداد واحد من الشرق إلى الغرب، وثلاثة أعمدة من القبلة إلى الشمال . والمقصود من هذه الأعمدة، تلك التي تقع داخل المسجد لا الأعمدة الموجودة في حائط القبلة والمحراب أو في جدار الحجرة، وأضلاع هذه المساحة من الشرق إلى الغرب حوالي اثنين وعشرين متراً ومن القبلة إلى الشمال خمسة عشر متراً لتكون المساحة الكلية حوالي ثلاثة وثلاثين متراً مربعاً .

هذا القول الأخير أشهر عند علماء أهل السنة من القولين السابقين ولذلك فقد أمر السلطان سليم ( المتوفى سنة 926 ه- ) بوضع رخام أبيض يمتد إلى وسط كل عمود من الأعمدة الاثني عشر ليميزها عن غيرها، وفي عهد السلطان عبد المجيد (المتوفى سنة 1277 ه- ) وسّعوا جانباً من شمال المسجد وجدّدوا العلائم الخاصة بتلك الأعمدة، كما تم تجديد بنائها وتزيينها مرةً ثالثة سنة 1404 ه- (1).

وعلى هذا الأساس نجد ازدحام الحجاج والزوار في هذا الموضع أكثر من سائر أمكنة المسجد، واهتمامهم بالصلاة والدعاء والزيارة فيه .

ص: 135


1- تاریخ المسجد النبوي ص 116 ، طبعة المدينة .
رأي الشيعة في حدود الروضة:

يختلف رأي الشيعة عن أقوال أهل السنة في حدود الروضة طولاً وعرضاً، فالروايات المنقولة عن أئمة الهدى (علیهم السلام) لا ترى أنّ الروضة تشمل المسجد كله ولا ما ذكره أهل السنة في القولين السابقين، بل تبدأ الروضة جنوباً من جدار المحراب الذي يتعين اليوم بسياج من حديد، وتنتهي شمالاً إلى العمود الرابع أي تزيد على قول أهل السنة بعمود واحد، وتبدأ شرقاً من داخل بيت النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) و بیت فاطمة الزهراء (علیها السلام) إلى محاذاة المنبر الشريف غرباً .

دليل الحد الأول ( من الجنوب إلى الشمال) هو روايات عن الأئمة (علیهم السلام) منها ما رواه الكليني (رحمه الله ) عن مرازم عن الإمام الصادق (علیه السلام) :

«قال: سألت أبا عبد الله عما يقول الناس فى الروضة فقال: قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) :فيما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة ومنبري على ترعة من ترع الجنّة، فقلت: جعلت فداك فما حد الروضة ؟ فقال : بعد أربع أساطين من المنبر إلى الظلال . فقلت: جعلت فداك من الصحن فيها شيء ؟ قال: لا »(1).

بناءاً على مضمون هذه الرواية الشريفة وأمثالها يذكر ابن شهر آشوب رأي علماء الشيعة هكذا: «وقالوا حد الروضة ما بين القبر والمنبر إلى الأساطين التي تلي صحن المسجد »(2).

يستفاد من مضمون هذه الرواية وغيرها ومن أقوال مؤرّخي المدينة أنّ جزءاً من المسجد (خارج المسجد الأصلي ) شمالاً وقريباً من الصحن كان له مظلة، وبقيت هذه المظلة أو «الظلال » مدة طويلة وحتى أيام الأئمة (علیهم السلام).

ص: 136


1- فروع الكافي: ج 4 ص 554، 555، ح 5 .
2- المناقب: ج 3 ص 365 .

كان هذا حدود الروضة من الجنوب إلى الشمال

وأمّا شرق المسجد فذكرنا أنّ حد الروضة داخل بيت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وكذلك داخل بيت فاطمة الزهراء (علیها السلام)، وأما حدها الغربي فمن محاذاة هذه البيوت إلى ما يوازي المنبر الشريف .

ونقلت في هذا المجال أيضاً روايات عديدة في كتب الحديث نذكر بعضها:

1- روى الكليني بالإسناد عن جميل بن دراج أنه قال:

« سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول : قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ما بين منبري وبيوتي روضة من رياض الجنة ومنبري على ترعة من ترع الجنّة وصلاة في مسجدي تعدل ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلّا المسجد الحرام . قال جميل: قلت له: بيوت النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبيت علي منها ؟ قال: نعم وأفضل»(1).

نلاحظ في هذه الرواية - كما في الحديث السادس المنقول عن كتب أهل السنّة - ذكر كلمة «البيوت » بصيغة الجمع بدلاً من «البيت » ، ويرى في هذه الرواية أنّ الروضة تشمل جميع بيوت النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بما فيها بيت أمير المؤمنين (علیه السلام) أيضاً .

2- يروي جميل بن دراج أيضاً:

«قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) : الصلاة في بيت فاطمة (علیها السلام) مثل الصلاة في الروضة ؟ قال: وأفضل »(2).

3- عن يونس بن يعقوب :

قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) الصلاة في بيت فاطمة (علیها السلام) أفضل أو في الروضة ؟ قال : فى بيت فاطمة (علیها السلام)»(3).

ص: 137


1- فروع الكافي: ج 4 ص 556 ، ح 10 .
2- نفس المصدر: ح 14 .
3- نفس المصدر : ح 13 .

نذكر أنّ في سنة ثمان وثمانين للهجرية أمر الوليد بن عبد الملك بهدم بيت فاطمة الزهراء (علیها السلام) وبعده بقليل سائر بيوت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) المجاورة للمسجد وضمها للمسجد حيث باشر عمر بن عبد العزيز تنفيذ هذا الأمر، وبقي الوضع على هذا الحال من أيام الإمام الصادق (علیه السلام) وحتى سنة 668 فكانوا يصلون فيها مثل سائر أجزاء المسجد، وفي هذه السنة أمر الملك الظاهر بيبرس البندقداري سلطان مصر بوضع سياج حول بيتي النبي وفاطمة الزهراء وفصلوهما عن المسجد ثانية ؛ فالأسئلة التي تطرح عن إقامة الصلاة داخل بيت النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبيت فاطمة (علیها السلام) إنما تشير إلى ذلك الزمان .

هل أنّ قبر فاطمة (علیها السلام) في داخل الروضة ؟

اتّضح لنا رأي أئمة الهدى بأنّ الروضة أوسع مما قيل فهي تشمل بيت النبي وبيت فاطمة أيضاً ».

ويذكرنا ذلك بالاحتمالات الواردة في مكان قبر الزهراء ، ومنها ما ذكره بعض العلماء بأنّ قبرها داخل الروضة، فإنّ هذا الاحتمال وما يدل عليه إنّما هو مكمل للروايات التي تصرّح بأنّها دفنت داخل بيتها ونعيد الآن ذكر بعض الروايات التي نقلناها في هذا المجال ونتطرّق بعده إلى احتمال دفنها في الروضة وسبب ظهور هذا الاحتمال :

1- يروي أبو نصر البزنطي أنه سأل الإمام الرضا (علیه السلام) عن مكان دفن فاطمة (علیها السلام) فقال: «دفنت في بيتها، فلما زادت بنو أمية في المسجد صارت في المسجد »(1) .

2- عن البزنطي أيضاً أنّه قال: سألت الرضا (علیه السلام) عن فاطمة بنت رسول

ص: 138


1- عيون أخبار الرضا : ج 1 ص 311 .

الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أي مكان دفنت ؟ فقال: سأل رجل جعفراً عن هذه المسألة وعيسى بن موسی حاضر فقال له عیسی دفنت في البقيع ، فقال الرجل: ما تقول ؟ فقال: قد قال لك . فقال أصلحك الله ما أنا وعيسى بن موسى ؟ أخبرني عن ؟ أخبرني عن آبائك، فقال: دفنت في بيتها بيتها (1).

3- يروي السيد ابن طاووس أنّه سُئل الإمام الهادي (علیه السلام) : إن رأيت أن تخبرني عن بيت أمك فاطمة (علیها السلام) أهى في طيبة، أو كما يقول الناس في البقيع ؟ فكتب: «هي مع جدي صلوات الله عليه وآله »(2).

ورغم أن كبار علماء الشيعة ومحدّثيهم يقبلون مضمون هذه الروايات الصريحة والصحيحة والتي تؤكد دفنها داخل بيتها، إلّا أنّهم ذكروا دفنها في «الروضة » أو بين البيت والمنبر على شكل احتمال . نذكر نماذج من أقوالهم:

1 - يقول المحدث الكبير الشيخ الصدوق (رحمه الله ) (المتوفى سنة 381ه- ): «اختلفت الأقوال في محل قبر فاطمة (علیها السلام)، فقال بعض المؤرخين إنها مدفونة في البقيع ويرى الآخرون أنها بين القبر و المنبر لأنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة » ، ويقول غيرهم إنّها دفنت في بيتها، وأرى أنّ الصحيح هو القول الأخير» (3).

2- يقول الشيخ الطوسي (المتوفى سنة 460 ه- ): ( الأصوب أنّها مدفونة في دارها أو في الروضة»(4).

3- يقول الشيخ الطبرسي من أعلام القرن السادس: إختلفوا في موضع قبرها،

ص: 139


1- قرب الإسناد: ص 293 طبع سنة 1417ه- مؤسسة كوشانپور .
2- إقبال الأعمال: ص 623 .
3- من لا يحضره الفقيه، بتصحيح المرحوم الغفاري: ج 2 ص 572.
4- نقلاً عن المناقب: ج 3 ص 365 .

إذ يقول بعض العلماء: إنّها دفنت في البقيع ويستبعد هذا القول، ويقول آخرون: إنّها في البيت ويرى غيرهم أنّها دفنت بين القبر والمنبر . ثم يقول: وقول رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «بين قبري ومنبري روضةً من رياض الجنّة » إشارة إلى ذلك (1).

4- يقول السيد ابن طاووس (المتوفى 693ه-) : «والظاهر أنّ ضريحها المقدّس في بيتها المكلّل بالآيات والمعجزات » . ثم يقول: لأنّها أوصت أن تدفن ليلاً ولا يحضر الصلاة عليها من سخطت عليهم قبل وفاتها، فإذا حملوا جثمانها إلى البقيع أو دفنوها داخل المسجد وبين البيت والمنبر لدلّت آثار الحفر من سعى إلى کشف قبرها، ولذا فاختفاء قبرها الشريف يدلّ على أنّ جثمانها الطاهر لم يُنقل إلى خارج بيتها أو خارج حجرة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (2).

ما الدليل على دفنها في الروضة ؟

كيف نشأ هذا الاحتمال وما الدليل عليه ؟ هل هناك دليل تاريخي موثوق يؤيد هذا القول أو أنّ هناك رواية صحيحة عن الأئمة المعصومين (علیهم السلام) في هذا الصدد ؟

أم أنّه - حسب قول الشيخ الطوسي (رحمه الله ) فی التهذیب - مجرد خلاف في الرأي العلماء دون وجود دليل متفق عليه و«نسبت هذا الإختلاف إلى الأصحاب» (3).

والجواب على هذا السؤال هو أنّه كما أشار المرحوم الشيخ الطوسي، يبدو من أقوال العلماء والمحدثين أنّ هذا القول لا يؤيده مستند تاريخي ولا رواية موثوقة، بل وردت روايات صريحة وصحيحة في دفنها داخل بيتها الشريف إذن فهذا القول إنما هو استظهار ضعيف واحتمال مقتبس من الحديث الشريف :

ص: 140


1- إعلام الورى ص 159 .
2- إقبال الأعمال: ص 624 .
3- نقلاً عن الوافي: ج 8 ص 1370 .

«ما بين بيتي وقبري روضةً من رياض الجنة » ، إذ فسّر العلماء والمؤرخون هذا الحديث الشريف عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في الروضة المباركة بأنّ فضيلة الروضة وشرافتها إنما هي من دفن بنت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فيها، مما أعطاها كرامةً وقدساً وفضلها على سائر أمكنة المسجد .

وما ذكرناه قبل قليل عن الشيخ الصدوق والطبرسي إنما يؤيد هذا المعنى أيضاً، والشاهد الثالث قول ابن شهر آشوب بعد نقله قول الشيخ الطوسي: «والأصوب أنها مدفونة في دارها أو في الروضة» ، يقول: «ويؤيد قوله قول النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة »(1).

والشاهد الآخر قول الشيخ أبي الفتوح الرازي في رسالته «الحسنية » عن التي قالت أمام هارون الرشيد ... ودفنوها بين القبر والمنبر كما في الحديث: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة» (2).

وهناك نماذج أخرى من أقوال العلماء لا نذكرها توخّياً للإختصار.

ونتيجة هذه الأقوال أنّ احتمال دفن الزهراء (علیها السلام) في الروضة ليس له أي دليل واضح ما عدا هذا الإقتباس الضعيف من الحديث . وكما سنشير إنّ في المسجد الذي وُقف للعبارة ليس له مجوّز شرعي .

الروضة والبيت شيء واحد:

إنّ مضامين الروايات السابقة تدل على أنّ أئمة الهدى (علیهم السلام) أطلقوا كلمة الروضة مفهوماً أو حكماً على بيوت النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبيت فاطمة الزهراء (علیها السلام) ، بل جعلوا تلك البيوت هي المصداق الأبرز للروضة وأفضل منها أيضاً. وعلى هذا

ص: 141


1- المناقب: ج 3 ص 365 .
2- الرسالة الحسنية، طبعة قديمة .

الأساس لا إشكال على القول بأنّ الزهراء (علیها السلام) دفنت في الروضة ولا ينافي هذا القول مضامين الروايات الصريحة الدالة على دفنها في بيتها .

والظاهر أن العلامة (رحمه الله ) كان يقصد ذلك أيضاً لأنه وبعد أن نقل الوجوه الثلاثة في مدفنها، يروي عن الشيخ الطوسي :« والروايتان الأوليتان متقاربتان ومن قال أنها دفنت في البقيع فبعيد عن الصواب»(1).

أي أنّ «الروضة» و «البيت» لهما مفهوم واحد أو متقاربان في المعنى ويمكن الجمع بينهما، وليسا مختلفين في المفهوم بحيث يدلان على مكانين منفصلين .

وكان المرحوم العلامة المجلسي أيضاً يرى هذا الرأي نفسه، كما ستلاحظون.

سبب فضيلة الروضة وأفضلية بيت فاطمة (علیها السلام) :

كان سائداً بين العلماء وعلى مرّ التاريخ أنّ من المحتمل أن تكون الزهراء (علیها السلام) قد دفنت في الروضة ويستدل دائماً بالحديث الشريف: «بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة» ، ويطرح التساؤل التالي نفسه في هذا الموضع .

السؤال: لو شككنا في هذا الأمر وضعّفنا هذا الاحتمال فما سر تفضيل الروضة على لسان رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) و ما الذي يميز الروضة عن سائر أمكنة المسجد إن لم تكن الزهراء قد دفنت فيها؟

الجواب: لا شك أنّ هذا الموضع من المسجد يقابل بيوت النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبيت فاطمة (علیها السلام) وكان يحضر رسول الله فيه دائماً وهو محل نزول الوحي عليه وموضع عبادته وصلاته واعتكافه وفيه منبر النبي ومحرابه، فهو مركز إبلاغه الرسالة وإرشاد الأمة إلى يوم القيامة، وكل ذلك يميزه ويفضله عن سائر أنحاء المسجد .

ص: 142


1- التحرير، فصل الزيارات: ص 131، طبعة ایران 1314 .

وتوضيحاً لما ذكرنا، يجدر بنا أن نشير إلى أهمية قبر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وفضيلته، وبعد ذلك فضيلة الروضة وبيت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبيت فاطمة (علیها السلام).

كان العلماء والمحدثون منذ القرون الإسلاميّة الأولى يناقشون أخبار وأحاديث فضيلة مكة والمدينة ورجحانهم على سائر البلاد أو أفضلية إحداهما على الأخرى، والمقارنة بين مسجد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والمسجد الحرام من حيث الفضيلة والأهمية، وكذلك تفضيلهما على المسجد الأقصى، ومقارنة الكعبة بقبر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، بناءً على قول السمهودي أنّ علماء أهل السنة والجماعة مجمعين على رأي واحد وهو أنه:

«قد انعقد الإجماع على تفضيل ما ضمن الأعضاء الشريفة حتى على الكعبة المنيفة ... وقال التاج الفاكهي قالوا: لا خلاف أنّ البقعة التي ضمّت الأعضاء الشريفة أفضل بقاع الأرض على الإطلاق حتى موضع الكعبة، ثم قال: وأقول أنا: أفضل بقاع السماوات أيضاً »(1).

فالتصاق الجثمان الطاهر بهذا المكان والجوار الدائم بين التربة الطيبة والجسم المبارك منح الأرض فضيلة وشرافة لاتضاهى فسمت على العرش الأعلى حتى فاقت الكعبة الشريفة أيضاً.

هذه فضيلة مسلّمة لا ينكرها أحدٌ للأرض الطاهرة بسبب جوارها للجثمان الطاهر، ومع قبول هذه الحقيقة، فكيف يكون الأمر في دار وروضة ضمت مشعل الهداية والمصباح المنير جسماً وروحاً، ضمته وهو حي بين ظهرانيها يضيء الآفاق بنور المعنوية ويهدي الإنسانية جمعاء إلى سبيل الرشاد، فهذا الموضع إذن هو أفضل جزء من المسجد ويفوق سائر المواضع شرفاً وقداسة .

ص: 143


1- وفاء الوفا: ج 1 ص 28. (

والآن علينا أن نقول: إنّ بيت فاطمة (علیها السلام) أفضل وأشرف من سائر البيوت، لأنّه يعتبر من جهة واحداً من بيوت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فيشارك سائر البيوت كل فضائلها، ومن جهة أخرى إنّ هذا البيت يمتاز عن غيره بأنه بيت أناس خاطبهم القرآن «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»(1).

فليس البيت بيت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فحسب، بل هو بيت أمير المؤمنين (علیه السلام) أيضاً الذي هو بمنزلة نفس رسول الله والبيت بيت فاطمة بضعة رسول الله، ومكان ولادة الحسنين سبطي رسول الله، إنّه البيت الذي حدث فيه حادث معنوي من أهم حوادث التاريخ وهو نزول آية التطهير على رسول الله(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

فلو سمعنا فضيلة الروضة من حديث رسول الله الذي «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى»، فإنّ فضيلة هذا البيت وأهله مذكورة على لسان الوحي مباشرة وهو كلام الله تعالى ، وإن كان النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد دل الناس إلى الروضة بكلامه الشريف، فقد روى محدّثوا الشيعة وأهل السنة فضيلة البيت وأهله عن الرسول قولاً وفعلاً، فقد أعلن فضيلتهم إلى أهل العالم كل يوم خمس مرات طيلة تسعة أشهر (2) ، يا لها من فضيلة لا تعلوها فضيلة، ويتضح هنا معنى كلام الإمام الصادق (علیه السلام) في جواب جميل بن دراج الذي سأله عن بيت النبي وأمير المؤمنين، أهما من الروضة ؟ فقال الله: «نعم وأفضل».

ص: 144


1- سورة الأحزاب : 33.
2- عن ابن عباس (رضی الله عنه) قال: شهدنا رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) تسعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب (علیه السلام) عند وقت كل صلاة فيقول: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»الصلاة الصلاة . كل يوم خمس مرات» تفسير الدر المنثور: ج 5 ص 199 .

مناقشة رواية مطعونة

نلخص ما سبق فيما يلي:

1 - فضيلة الروضة المطهرة أمر مسلّم لا غبار عليه حسب حديث رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، أما حدودها فمحل نقاش وجدل .

-2- إتضح أيضاً أن بيت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبيت فاطمة (علیها السلام) ليسا مثل الروضة بل أفضل منها وأجر العبادة فيهما أجزل .

3- عرفنا أنّ الدليل على دفن الزهراء (علیها السلام) في الروضة باعتبارها المكان الفاصل بين القبر والمنبر إنما هو دليل ضعيف لا يعتد به، ولكن إذا عرفنا الروضة بمعناها الأوسع الذي يشمل بيت الزهراء أيضاً فدفنها في الروضة أمر سليم تؤيده الروايات الصحيحة التي تقول: «دفنت في بيتها » .

ونكمل البحث بمناقشة الرواية الوحيدة التي نقلها الصدوق (رحمه الله ) في «معاني الأخبار » ويبدو منها أنّ الزهراء (علیها السلام) دفنت بين القبر والمنبر . إذن نوضّح الطعن في نصّ الرواية وسندها، وإليك أولاً نصها:

حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل (رحمه الله ) قال: حدثنا علي بن الحسين السعد آبادي، عن أحمد بن عبد الله البرقي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال : قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على ترعة من ترع الجنة، لأنّ قبر فاطمة -صلوات الله عليها - بين قبره ومنبره وقبرها روضة من رياض الجنة وإليه ترعة من ترع الجنة »(1).

ظاهر الرواية، حسب ما في ذيلها« .... لأنّ قبر فاطمة ... »، يدل على أنّها

ص: 145


1- معاني الأخبار ، تصحيح المرحوم الغفاري : ص 267 .

دفنت بين القبر الشريف والمنبر المنيف، إلّا أنّ نظرة بسيطة إليها ترشدنا إلى ضعف السند و تزلزل النص في آن واحد فالرواية اذن مطعون فيها من جهتين :

أمّا في سندها فهي مرسلة لأنّ ابن أبي عمير يرويها عن بعض الأصحاب ولا يعلم من هم ولا حجة في رواية مرسلة .

أمّا في نصها: فهي مدرّجة، وتعرف الرواية المدرّجة في علم الحديث كالتالي:

أن يقول الراوي كلاماً يريد أن يستدلّ عليه بالحديث فيأتي به بلا فصل فيتوهم أنّ الكل حديث »(1).

ومثل هذه الرواية يعتبرها علماء الحديث مخدوشة فيرفضوها، وهذه الرواية أيضاً من النوع المدرج لأنّ التعليل الوارد في ذيلها ليس من كلام الإمام بل يعتبر من الإضافات التي أوردها الرواة أو دخلت عند كتابة الرواية.

والدليل على قولنا هو أنّ حديث «بين قبري ومنبري » من الأحاديث العامة -كما أشرنا سابقاً - التي ذكرها أهل السنة فقط وبشكل ضعيف فهو مذكور في مسند أحمد دون أن ينقله الكتب المعتبرة مثل الصحاح .

والواقع التاريخي أيضاً يؤيد تدرّج هذه الرواية وينفي مضمون حديث «بين قبري ومنبري » ، لأنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لم يعين لقبره مكاناً خاصاً، كما أنه لم يبين كيفية الصلاة على جثمانه الطاهر .

ولذلك اختلف الصحابة بعد وفاته في كلتا المسألتين، أي كيف يصلون عليه؟ وأين يدفنونه؟ ، إلى أن قال أمير المؤمنين (علیه السلام) : إنّ رسول الله إمامنا حياً وميتاً ... فيصلّون عليه بلا إمام، وإنّ الله لم يقبض نبياً في مكان إلّا وقد ارتضاه لِرَمسه فيه، وإنّي لدافنه في حجرته التي قبض فيها فسلم القوم لذلك ورضوا به»(2).

ص: 146


1- مقباس الهداية، للمامقاني : ج 1 ص 221 .
2- إرشاد المفيد، طبعة بصيرتي ص 100.

ولضعف الرواية نصاً وسنداً، فإنّ الصدوق (رحمه الله ) علّق عليها بعد نقلها:

«قال مصنف هذا الكتاب (رضی الله عنه) رُوي هذا الحديث هكذا وأوردته لما فيه من ذكر المعنى، والصحيح عندي في موضع قبر فاطمة (علیها السلام) ما حدثنا به أبي (رحمه الله ) قال: حدثني ... عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي قال: قال: سألت أبا الحسن علي بن موسى الرضا (علیهما السلام) عن قبر فاطمة (علیها السلام) فقال : دفنت في بيتها فلما زادت بنوا أُمية فی المسجد صارت في المسجد »(1).

ولنتأمل كلام الصدوق هذا، لأنه شاك في النقل والنص، ولذا يقول: «روي الحديث هكذا ، إذ يحتمل التدرّج به ويحتاج إلى ما يبرر نصه، ولذلك استبدله برواية أخرى يراها أصحّ من ذلك حيث تؤكد هذه الرواية أنها: «دفنت في بيتها».

وأيضاً فضعف الرواية نصاً وسنداً، جعل العلامة المجلسي يرفضها بعد أن نقلها عن معاني الأخبار، وأيّد دفن فاطمة (علیها السلام) في بيتها، ثم يحاول تبرير الرواية بعدم تحديد الروضة بما تحدها الرواية بل يعتبرها تشمل بيت فاطمة (علیها السلام) كذلك، وهو ما استفدناه من الروايات ؛ يقول العلامة المجلسي بعد نقل الرواية:

«الأظهر أنّها (علیها السلام) مدفونة في بيتها وقد قدمنا الأخبار في ذلك ، ولعل خبر ابن أبي عمير محمول على توسعة الروضة بحيث تشمل على بيتها »(2).

ملاحظة: ناقشنا روايةً مدرّجة، وعرفنا رأي محدث الشيعة الكبير الصدوق (رحمه الله ) فيها ونقده لها ثم إعراضه عنها في النهاية .

كما عرفنا أيضاً رأي المرحوم العلامة المجلسي في تأويل هذه الرواية والتوسيع المذكور في مفهوم «الروضة »، ولكن يجب أن نلاحظ بأنّ جميع العلماء الذين حكموا بوجود قبر الزهراء (علیها السلام) داخل الروضة باعتبارها الفاصل بين

ص: 147


1- معاني الأخبار: ص 268 .
2- بحار الأنوار: ج 100 ص 193.

البيت والمنبر قد استندوا إلى الحديث النبوي الشريف: «بين قبري ومنبري روضةً من رياض الجنّة ».

كما أشرنا في السابق - مضافاً على أنّه لا دليل على دفن فاطمة الزهراء (علیها السلام) في الروضة الشريفة - إن دفنها في الروضة يشكّل مشكلة فقهيّة وهي أنّه لا يجوز لأحد أن يدفن في المسجد الذي وقف لعبادة المسلمين ؛ ونحن نعلم أنّ أئمة الهدى هم أولى برعاية الأحكام الإلهية، فكيف يدفن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) الصديقة الطاهرة (علیها السلام) في الروضة الشريفة التي تعتبر المكان الرئيسي في المسجد النبوي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؟

البيت الثاني لأمير المؤمنين (علیه السلام) وتاريخ هدم بيت فاطمة (علیها السلام):

يجب في ختام هذا البحث أن نشير إلى أمرين أحدهما يتعلق ببيت فاطمة (علیها السلام) والآخر بيت أمير المؤمنين (علیه السلام).

جاء في روايات عديدة وفي أقوال العلماء وكتب التاريخ أنّ بعض حكام بني أميّة هدموا بيت فاطمة (علیها السلام) وألحقوه بالمسجد النبوي.

ولنا نظرة إلى تاريخ الهدم باعتباره حدثاً تاريخياً هاماً، وكذلك التغييرات الطارئة على هذا البيت طوال القرون المتمادية وإلى يومنا هذا .

يعتبر بيت فاطمة الزهراء (علیها السلام) واحداً من البيوت العديدة التي أمر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ببنائها عند مسجده .

يقول المؤرخون كانت هذه البيوت والحجرات في الجوانب الشرقية والشمالية والجنوبية للمسجد (1)، وكانت تسكن كل منها واحدة من نساء

ص: 148


1- الدرة الثمينة في أخبار المدينة ص 73 .

النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كما أنّ فاطمة (علیها السلام) أيضاً كانت تسكن في أحدها . ويقع بيت فاطمة شرق المسجد، أمّا حجرة عائشة التي دفن فيها رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فتقع شمال المسجد، وحجرة حفصة كانت جنوب حجرة عائشة، وإنّ حجرتي عائشة و حفصة كان يفصل بينهما ممرّ أما حجرتي فاطمة وعائشة فما كان يفصلهما إلّا حائط، حتى أنّ بعض مؤرّخي أهل السنة يقول: إنّه كانت فتحة صغيرة بين هذين البيتين، فإذا كان الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في بيت عائشة تحدث من هذه الفتحة مع أهل البيت ويستفسر عن فاطمة والحسنين (علیهم السلام) ، ولكن بعد مدة ولأسباب خاصة طلبت فاطمة فسدّت هذه الفتحة (1).

ويدعى هذا البيت في الروايات وفي التاريخ « بيت فاطمة » وأحياناً «بيت علي (علیه السلام) » وكان له بابان كسائر بيوت رسول الله وبعض الصحابة وأقرباء الرسول ، يفتح أحد البابين داخل المسجد والثاني إلى الشرق بجهة البقيع وكان له فى هذه الجهة فناء صغير مثل سائر البيوت . فأمر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كل من كان يسكن هذه البيوت حول المسجد أن يغلقوا الباب المؤدي إلى المسجد ما عدا باب بيت علي (وسد الأبواب إلّا بابه).

وقد حدثت تغييرات عديدة في تلك البيوت وفي مرقد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ومسجده طوال التاريخ وذلك لتوسيع مساحة المسجد أو لأسباب أخرى، لكن هدفنا الآن أن نذكر التغييرات الحاصلة في بيت فاطمة (علیها السلام) بالذات .

لما حج الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي (2) سنة 88 ه- فدخل المدينة وخطب في مسجد النبي، فارتفع الستار لحظةً عن بيت فاطمة (علیها السلام) وهو يخطب،

ص: 149


1- وفاء الوفا: ج 2 ص 466 .
2- حكم الوليد عشر سنين من 86 إلى 96 ه- .

ورأى الحسن بن الحسن بن علي (علیه السلام) (1) جالساً في البيت ماسكاً المرآة في إحدى يديه وهو يمشط لحيته بالأخرى، فأمر الوليد فوراً بهدم البيت وإلحاقه بالمسجد . فخالف الحسن بن الحسن وزوجته فاطمة بنت الحسين (علیه السلام) هذا الأمر وامتنع عن ترك البيت فأرسل إليه الوليد أنّه سيهدم البيت عليهم إن لم يتركوه، فما اعتنى بوعيده فأمر الوليد بهدم البيت عليه وعلى أطفاله، ودخلت شرطة الوليد البيت وسحبوا البساط من تحت الحسن وزوجته فاطمة فاضطروا إلى ترك البيت والانتقال إلى بيت آخر لأمير المؤمنين (علیه السلام) (2).

يقول بعض المؤرخين لم يحدث ارتفاع الستار عن البيت أثناء خطبة الوليد بنفسه، بل حدث ذلك لأحد عماله الذي كان يختلف إلى المدينة بين فترة وأخرى ليراقب أمور البلد، فاعتبر ذلك أمراً يخالف شؤون الخلافة وسعى عند الوليد ، فأمر الوليد بهدم البيت .

وفي شهر ربيع الأول سنة 88 ه- كتب الوليد إلى واليه على المدينة عمر بن عبد العزيز يأمره بهدم جميع البيوت المحيطة بالمسجد - وهي لنساء النبي وأقربائه وصحابته - وإلحاقها بالمسجد وأكد في كتابه أن يشترى كل بيت يرضى صاحبه ببيعه ويدفع له الثمن، وأما من يرفض البيع فيدفع له ثمن البيت ويهدم دون إذنه .

ص: 150


1- يذكر الذهبي في تاريخ الإسلام تراجم الشخصيات البارزة الذين توفوا سنة مائة للهجرة، فيقول: كان الحسن وصي أبيه الإمام المجتبى (علیه السلام) وكان يتولى موقوفات أمير المؤمنين (علیه السلام) يظهر من كلام الذهبي منزلة الحسن وسبب سكناه في بيت فاطمة (علیها السلام) وانتقاله إلى بيت أمير المؤمنين . كما يروي الذهبي أيضاً أنّ الوليد كتب أن يُضرب الحسن بن الحسن مائة جلدة ويعرضوه على عامة الناس يوماً كاملاً وجاء في كتابه «والله أنا قاتله » ، فأرسل الإمام السجاد (علیه السلام) إلى الحسن يعلمه كلمات الفرج لينقذه مما هو فيه .
2- وفاء الوفا: ج 2 ص 466 .

وأخبر عمر بن عبد العزيز رجال المدينة وعلماءها عن مضمون كتاب الوليد فخالفوه جميعاً وقالوا: لو أراد الوليد توسيع المسجد حقاً فيمكن توسيعه من الجهات الأخرى دون هذه الحجرات التي تتعلق برسول الله وتخلد ذكراه وتبين بساطة عيشة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بحيطانها المصنوعة من الطين وسقوفها المنخفضة والمغطاة بسعف النخيل، هذه البيوت تلفت انتباه الزائرين دوماً إلى يوم القيامة وتعطيهم روحاً معنوية سامية وترشد المسلمين إلى الزهد وعدم الانحراف إلى زخارف الدنيا وسيعلم المسلمون طوال القرون القادمة بمشاهدة هذه البساطة أنّ البيوت الشامخة الفارهة ومظاهر الرفاهية والدنيوية لم تستطع أن تجرّ الأنبياء إليها وسيتأسى الناس بالرسول وطريقته في الحياة .

فكتب عمر بن عبد العزيز إلى الوليد بما قاله رجال المدينة، فأعاد أوامره ثانية بضرورة توسيع المسجد من جميع الجوانب وهدم هذه البيوت .

كتب المؤرخون أنّ أهل المدينة بكوا بكاءاً شديداً عند هدم تلك البيوت وكأنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد توفي في ذلك اليوم، فبعد وفاة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لم يشهد أهل المدينة يوماً أكثر حزناً وكآبة مثل ذلك اليوم .

قال خبيب بن عبد الله لعمر بن عبد العزيزعند هدم تلك البيوت : بربك لا تفعلوا شيئاً تمحوا به آية «إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ » . فأمر عمر أن يأخذوا خبيباً في يوم بارد ويصبوا ماء بارداً على جسمه ويضربوه مائة جلدة، وقد استشهد خبيب من جراء ذلك، فكان عمر بن عبد العزيز يظهر الندامة بعدئذ لقتله خبيباً .

وهكذا وسع الوليد المسجد بهدمه البيوت واستعان بملك الروم لإعادة بنائه وتزيينه فجاء أربعون بناء وعامل نصراني إلى المسجد وبدأوا العمل فيه وقد تم توسیعه وتزيينه سنة 91 ه- (1).

ص: 151


1- ذكرت خلاصة هذه الواقعة التاريخية في تاريخ الطبري والكامل لابن الأثير وتاريخ اليعقوبي وسائر كتب التاريخ، وذكرت بالتفصيل في البداية والنهاية في حوادث سنة 88 ه- .

ذكر المؤرخون أنّ هدم بيوت نساء النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان سنة 88 ه- لكنهم لم يذكروا تاریخ هدم بيت فاطمة قبل ذلك، إلّا أنّ توالي هاتين الحادثتين - حسب قول بعضهم - يدل على أنّ هدم بيت فاطمة وضمه إلى المسجد في حين كانت سائر البيوت كلها على ما هي عليه أثار انتباه الجميع وتساءلهم، مما أحدث تأثيراً اجتماعياً سيئاً في البلد، فاضطر الوليد - إرضاءً للرأي العام - أن يأخذ مثل ذلك القرار فأمر بهدم جميع تلك البيوت بحجة توسيع المسجد ليبرّر بذلك عمله وأن يغفل الناس عن هدم بيت فاطمة وهكذا هدم عمر بن عبد العزيز تلك البيوت حسب أوامر الوليد وألحقها بالمسجد وحتى الجدران المحيطة بمرقد رسول الله تم هدمها، ولتشخيص القبر الطاهر وضعت حوله حجارة سوداء مصقولة كالجدار تشبه أحجار الكعبة (1) ولا يزال الحال كما هو عليه إلى يومنا هذا، ويستر القبر الشريف بستار يحيط بذلك الجوار .

ولكي لا يشبه قبر الرسول الكعبة، رفعوا الجزء الشمالي منه عن سطح المسجد وجعلوه على شكل مثلث، وهو الجزء الذي كان يخص بيتي عائشة وفاطمة.

وضع السياج حول المرقد الشريف وحجرة فاطمة (علیها السلام) :

بقي المرقد الشريف وبيت فاطمة على ما هو عليه طوال ستة قرون، عدا بعض التغييرات البسيطة فكان الناس يزورون قبر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من خلف الجدار وعلى بعد متر ونصف المتر من القبر الشريف، وكانوا يصلون حول المرقد المطهر وبيت فاطمة (علیها السلام) وساير البيوت، وقد أشار أئمة الهدى (علیهم السلام)(2) وكذلك

ص: 152


1- كان ارتفاع هذا الجدار حوالي ستة امتار ونصف المتر وعرضه ستّون سنتيمتراً .
2- ذكرنا سابقاً ما رواه البزنطي عن الإمام علي بن موسى الرضا (علیهما السلام) أنّه قال: «دفنت في بيتها، فلما زاد بنو أمية في المسجد صارت في المسجد ».

المحدثون والمؤرخون عبر التاريخ إلى هذا التغيير الحاصل وإلى هدم بيت فاطمة وإلحاقه بالمسجد بأمر الوليد، إلّا أنه في سنة 668 ه- أمر الظاهر بيبرس البندقداري ملك مصر (1) بوضع مشبك خشبي بارتفاع مترين تقريباً بين الأعمدة الموجودة في الأركان الأربعة المحيطة بالمرقد المطهر، وبذلك انفصل هذا

المكان مرةً أخرى عن المسجد، فكان المشبك يحوي المرقد الطاهر وبيتي عائشة وفاطمة (علیها السلام) ، لهذا المشبك ثلاثة أبواب ينفتح أحدها جهة القبلة والثاني إلى الشرق والثالث نحو الغرب وكان واقعاً داخل المسجد .

يقول المؤرخون إنّ الملك الظاهر أشرف بنفسه على عملية تحديد الموضع الذي يوضع المشبك فيه حيث قد زار الملك المدينة سنة 667 ه في موسم الحج، وقد تم العمل فيه سنة 668 ه- .

وبعد وضع المشبك زاد البعد بين الزوار والقبر الشريف، ومنع الناس من إقامة الصلاة في الأجزاء التي ألحقت بالمسجد، واعترض البعض على الملك الظاهر عمله هذا واعتبر بعض العلماء آنذاك أنّ منع الناس من إقامة الصلاة وفي بعض أنحاء المسجد أمر غير مشروع، وجاء الجواب من أنصار الملك أنه أراد المحافظة على قداسة البيت الشريف وحرمة الروضة المطهرة كما هو وارد في الشرع المقدس، فمنع الناس أن يجعلوا هذا المكان ممراً لهم(2).

ومنذ القرن السابع إلى اليوم حدثت تغييرات مختلفة في المشبك من حيث

ص: 153


1- الملك الظاهر بيبرس من ملوك مصر الأقوياء وكان يهتم بالأمور الدينية الأساسية، ولذلك استطاع في سنة 665 ضمن خطة أن يحصر جميع مذاهب أهل السنة في أربعة مذاهب . انظر خطط المقريزي: ج 2 ص 344 .
2- ذكر في وفاء الوفا: ج 2 ص 604، وفي فصول من تاريخ المدينة ص 126، قضية وضع المشبك بواسطة الملك الظاهر .

الارتفاع وتبديله إلى سياج حديدي وغير ذلك، إلّا أنّ حدود المشبك لا تزال هي نفسها التي عينها الملك الظاهر ، ولا يزال بيت فاطمة (علیها السلام) واقعاً داخل المشبك شمال مرقد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

المحراب والضريح في بيت فاطمة (علیها السلام) :

يروي ابن النجار ( المتوفى سنة 643 ه- ) عن محمد بن إبراهيم من أحفاد الإمام الصادق (علیه السلام) أنّ قبر فاطمة في بيتها، ثم يضيف ابن النجار: «قلت وبيتها اليوم حوله مقصورة وفيه محراب وهو خلف حجرة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) »(1).

الظاهر أنّ ابن النجار كان يعني بالمقصورة - والتي كانت قبل وضع المشبك حول بيت فاطمة (علیها السلام) - المثلث المرتفع عن سطح المسجد والذي بناه عمر بن عبد العزيز شمال مرقد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وقد أزيل بعد وضع المشبك .

ينقل السمهودي كلام ابن النجار ثم يضيف: «يذكر ابن النجار محراباً يقع خلف حجرة عائشة، وأمامه موضع يُعرف بقبر فاطمة (علیها السلام) ويحترمه الناس كثيراً ويمتنعون عن المشي عليه »(2).

يشير السمهودي إلى موضع خاص في بيت فاطمة باعتباره قبراً لها، ويبدو من كلام العلامة المجلسي (رحمه الله ) أنّه قبل عدة قرون أي في زمن العلامة نفسه كان هناك ما يشبه القبر وكانوا يعتبرونه قبر فاطمة (3)، كما نشاهد اليوم أيضاً ضريحاً داخل بيت فاطمة منسوباً إليها، وأبعاده حوالي متر ونصف المتر في متر ونصف المتر ، والظاهر أنّ الضريح موضوع في نفس الموضع الذي كان يسمّى بقبر

ص: 154


1- أخبار مدينة الرسول ص 76 .
2- وفاء الوفا: ج 2 ص 469 .
3- بحار الأنوار: ج 100 ص 193 .

فاطمة، وتنطبق عليه علامة القبر التي ذكرها العلامة المجلسي، ومع ذلك لا نعلم كيفية ظهور هذا القبر وتاريخ وضع الضريح كما لا نعلم تاريخ إيجاد المحراب القديم الذي أشار إليه ابن النجار .

البيت الثاني الأمير المؤمنين (علیه السلام):

كان الكلام عن بيت فاطمة وأمير المؤمنين (علیهما السلام) و تاريخ هذا البيت، وينبغي الآن أن نشير إلى بحث تاريخي آخر يقترن بالبحث السابق بصلة، وهو وجود بيت ثان لأمير المؤمنين (علیه السلام) في المدينة .

قبل أن ندخل في صلب الموضوع نتطرق إلى نقطة هامة وهي أنّ الشواهد التاريخية تدلّ على أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عندما هاجر إلى المدينة أخذ أرضاً واسعة النطاق تقع غربي البقيع وقسمها إلى أجزاء ثم وزعها بين المهاجرين ليبنوا لأنفسهم بيوتاً، فحصل عبد الرحمن بن عوف على قطعة منها وكان أول من بنى هناك، وكان بيته كبيراً واسعاً ولذا سمي ب- «الدارالكبرى» ، وأصبح مضيفاً يسكنه ضيوف رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبهذه المناسبة سمي ب- «دار الضيفان».

وبنى عثمان بن عفان عفان بيتين متصلين، وكان أحدهما أكبر من الآخر فسمي ب-«الدار الكبرى» وسمي الآخر ب- «الدار الصغرى » وقد حوصر وقتل عثمان في الدار الكبرى هذه .

وكان لأبي بكر بيتاً يواجه« الدار الصغرى » لعثمان وقد توفي أبو بكر في هذا البيت(1)، كما بنى سائر الصحابة بيوتاً هناك، وقد أشرنا سابقاً أنّ أئمة البقيع دفنوا في بيت عقيل، كما سنذكر أنّ صفيّة عمة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) دفنت في مكان يتصل

ص: 155


1- فيما يتعلق بهذه البيوت راجع تاريخ ابن شبة : ج 1 ص 235 و 242، وفاء الوفا: ج 2 ص

ببيت المغيرة بن شعبة، واشتهرت هذه الجملة بين مؤرخي المدينة عن البقيع أنّ «شرقيّها نخل وغربيّها بيوت » (1)ولعلّها تشير إلى هذه البيوت .

وبناءً على الشواهد التاريخية، كان أحد هذه المنازل لأمير المؤمنين (علیه السلام) ويدل على هذا الأمر نصوص تاريخية نذكر بعضها:

1- يقول ابن شبة أقدم مؤرخ للمدينة: «واتخذ علي بن أبي طالب بالمدينة دارين، أحديهما دخلت في مسجد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهي منزل فاطمة بنت رسول الله التي تسكن فيها ... والأخرى دار علي التي بالبقيع وهي بأيدي ولد علي على حوز الصدقة (2).

2 - يروي ابن النجار ( المتوفى سنة 643 ه- ) عن سعيد بن جبير أنه قال: رأيت قبر الحسن بن علي بن أبي طالب في فم الزقاق الذي بين دار بنيه وبين دار علي ابن أبي طالب »(3).

3- جاء في هدم بيت فاطمة (علیها السلام) أنّ الحسن بن الحسن وزوجته فاطمة بنت الحسين اضطرا إلى ترك بيت فاطمة: «فخرجوا منه حتى أتوا دار علىّ نهارا »(4).

4- يقول السهيلي ( المتوفى سنة 581 ه- ) في عبيد الله بن عدي (5): «وله دار

ص: 156


1- تاريخ ابن النجار: ص 152 عمدة الأخبار: ص 151، وفاء الوفا: ج 3 ص 889 .
2- نقلاً عن السمهودي في وفاء الوفا: ج 2 ص 469 - 470 ، ذكر معظم المؤرخين دقة السمهودي وصدقه وامانته، ومع ذلك لم نجد هذه العبارة التي نقلها عن ابن شبة في تاريخه الذي بين أيدينا بأجزائه الأربعة. والدليل على ذلك أنّ مصحح الكتاب أشار فى الصفحات الأولى منه أنّ النسخة الموجودة عنده فيها عبارات غير مقروءة وقد سقط الكثير من كلامه وصفحاته .
3- أخبار المدينة : ج 1 ص 54 .
4- وفاء الوفا: ج 2 ص 466 .
5- هو ابن اخت عثمان بن عفان ولد في آخر حياة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وتوفي سنة 90 ه- .

بالمدينة عند دار علي بن أبي طالب»(1).

ونعلم أنه لم يجاور بيت علي (علیه السلام) الذي عند المسجد لأنّ جيران هذا البيت كان رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ونساؤه فقط .

5- يذكر السمهودي آراء مؤرخي المدينة في بيت الأحزان ثم يقول: «وأظنه في موضع دار علي بن أبي طالب الذي اتخذه بالبقيع»(2).

المؤلف: أرى أنّ السمهودي قد أخطأ في تعيين مكان بيت الأحزان، فكما سنذكر كان بيت الأحزان بناءاً مستقلاً ولم يكن بيت أمير المؤمنين (علیه السلام)، ولكن نستفيد من مجموع هذه الأقوال وغيرها التي نقلتها كتب التاريخ أنه كان لأمير المؤمنين (علیه السلام) بيت آخر غير بيته المجاور للمسجد، وكان بيته ذاك قرب البقيع إلى جنب بيوت المهاجرين، أي أنه كان يسكن في حي المهاجرين بالمدينة وأصبح البيت جزءاً من موقوفاته مثل آباره وحقوله التي صنعها بيده (3).

ما جرى في هذا البيت من قضايا:

يرى المؤلف أنّ الحوادث التاريخية الهامة التي وقعت بعد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) واحدة تلو الأخرى كانت كلها في هذا البيت لا في بيت علي (علیه السلام) المجاور للمسجد .

اجتماع عدد من المهاجرين لمناهضة خلافة أبي بكر ، الهجوم على بيت أمير المؤمنين (علیه السلام) وأخذه إلى المسجد عنوةً، انطلاق الزهراء (علیها السلام) إلى المسجد، وقضاؤها

ص: 157


1- الروض الأنف: ج 3 ص 162 .
2- وفاء الوفا: ج 3 ص 918 .
3- جاء في موقوفته: «وإنه يقوم على ذلك حسن بن علي ... وإن حدث بحسن حدث وحسين حيّ فإنّه إلى حسين بن علي وإنّ حسين بن علي يفعل مثل الذي أمرت به حسناً ...».

أيام نقاهتها، واللقاءات والقضايا التي حدثت في تلك الأيام، وكذلك تجهيز الزهراء وتشييعها، كل هذه الوقائع جرت في هذا البيت بالذات ويدل على ذلك اعتبار عقلي وشواهد تاريخية مختلفة ويؤكد ذلك أيضاً كيفية وقوع الحوادث .

وإليك الآن القرائن والشواهد التي تدلّ على هذا المدّعى:

القرينة الأولى:

الشاهد الأوّل والقرنية الأولى على هذا المدعى هي عبارات المؤرخين في عدة من المهاجرين كانوا يخالفون السقيفة وقد سكنوا واجتمعوا في بيت أمير المؤمنين (علیه السلام) ؛ يقول الطبري:

«أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين »(1).

ويقول ابن قتيبة:

«إنّ أبا بكر تفقد قوماً تخلّفوا عن بيعة أبي بكر عند علي كرم الله وجهه »(2).

يقول العلامة الحلي (رحمه الله ) :

«طلب عمر إحراق بيت أمير المؤمنين وفيه أمير المؤمنين وفاطمة وابناهما وجماعة من بني هاشم »(3).

ويقول اليعقوبي:

«وبلغ أبا بكر وعمر أنّ جملةً من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي ابن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) »(4).

ويقول ابن أبى الحديد :

ص: 158


1- تاريخ الطبري: ج 2، ص 68 .
2- الإمامة والسياسة: ج 1، ص 12 .
3- نهج الحق ص 271.
4- تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 127 .

«إنّ قيس بن شماس كان مع الجماعة اللذين دخلوا بيت فاطمة ... وكان في البيت ناس كثير »(1).

إنّ هذه التعابير ك «رجال من المهاجرين » و «تفقد قوماً » و «جماعة من بني هاشم » و «جملة من المهاجرين والأنصار » و «ناس كثير » تدلّ على أنّهم كانوا في مكان أوسع من حجرة فاطمة (علیها السلام) ، المكان الذي كانت الزهراء والحسنين (علیهما السلام) فيه .

القرينة الثانية

القرينة الثانية هي العبارات التي تعبّر عن جذب أمير المؤمنين (علیه السلام) بحمائل سيفه إلى المسجد كعبارة ابن أبي الحديد الذي يقول:

«واجتمع الناس ينظرون إليه وامتلأت شوارع المدينة بالرجال» (2).

القرينة الثالثة:

العبارات التي تدل على أنّ الزهراء (علیها السلام) ذهبت إلى المسجد، ومنها:

«لمّا بلغ فاطمة إجماع أبي بكر على منعها من فدك لاثت خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها »(3).

وجاء في تعبير آخر:

«واجتمع معها نساء كثير من الهاشميات وغيرهنّ»(4).

ونرى في تعبير آخر :

ص: 159


1- شرح نهج البلاغة: ج 6، ص 48 .
2- نفس المصدر : ص 49 .
3- شرح نهج البلاغة: ج 16 ، ص 211 ، الإحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 131، بلاغات النساء: ص 12 .
4- شرح نهج البلاغة ج 6 ، ص 49 .

«ولم تبق من بني هاشم أمرأة إلّا خرجت معها»(1).

إنّ هذه الحركة من فاطمة الزهراء (علیها السلام) مع عدة من النساء الهاشميات وغيرهنّ التي كانت تعتبر حركة سياسية، لا يمكن تصورها إلّا مع وجود مسافة بين بيت فاطمة ومسجد الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

القرينة الرابعة

نرى أنّه بعد أن استشهدت الزهراء (علیها السلام)، دخل الحسن والحسين البيت وعلما أنّ أمهما قد ماتت فقالت أسماء بنت عميس لهما: انطلقا وأخبرا أباكما بموت أمّكما ، فخرجا إلى المسجد مسرعين ودخلا المسجد باكيين وأخبرا أباهما أمير المؤمنين (علیه السلام) بموت أمهما وقالا : «أو ليس قد ماتت أمنا فاطمة (علیها السلام) ، فوقع عليّ على وجهه »(2).

نستنتج من هذه العبارة أن فاطمة الزهراء (علیها السلام) قد توفيت في البيت الثاني لأمير المؤمنين (علیه السلام) ، حيث لو أنّها توفيت في البيت الذي بقرب المسجد، أي حجرتها في المسجد لما يحتاج الحسن والحسين إلى الخروج من البيت وإنّ بكاء هما كان كاف لإخبار أمير المؤمنين (علیه السلام).

القرينة الخامسة

القرينة الخامسة هي تشییع السيّدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) ؛ هناك موضوعان يلفتان النظر:

1 - أرادت فاطمة (علیها السلام) أن توضع بعد وفاتها في نعش مستور كالهودج لنقل جثمانها من مكان إلى مكان آخر .

ص: 160


1- مأساة الزهراء: ج 2، ص 177 .
2- كشف الغمة : ج 2، ص 127 - بحار الأنوار: ج 43، ص 187 .

2- كما رأينا في الصفحات السابقة، هناك روايات عن سنّة من أئمة الهدى (علیهم السلام) وأقوال عن كبار علماء الشيعة التي تشير إلى أنها قد دفنت بجوار قبر أبيها (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

هذان الموضوعان يرشداننا إلى القول بأنّها (علیها السلام) قد توفيت في بيت بعيد عن المسجد، حيث لو أنّها توفيت في بيتها الأوّل أي بيتها المعروف والمشهور و دفنت في نفس البيت، إذن ما السبب من إرادتها وطلبها نعشاً مستوراً كالهودج ؟! إذن فوفاتها قد وقعت في البيت الثاني لأمير المؤمنين (علیه السلام).

الرد على الشبهات:

إشارة

يرى المؤلف أنّ وجود هذا البيت ووقوع تلك الحوادث فيه صحيح لا غبار عليه كما أنّ الهجوم أيضاً من المسلمات في تاريخ الشيعة ويقبله بعض مؤرخي أهل السنة، ويلزم أن نشير إلى أنّ رأى المؤلف قبولاً أو ردّاً وإثباتاً أو نفياً إنما هو بحث تاريخي يمكن دراسته فإذا قوي هذا الاحتمال فهو يؤيد أصل الحادثة من جهة ويرد على كثير من الشبهات المطروحة والأسئلة المفروضة في هذا المجال من جهة أخرى .

شبهة ابن روزبهان والرد عليها:

شبهة ابن روزبهان(1) والرد عليها:

على سبيل المثال، حاول الفضل بن روزبهان أن ينكر الحوادث التي تلت وفاة

ص: 161


1- الفضل بن روزبهان من كبار علماء الشافعية في عصره ، حكيم عارف ومحدث شاعر وأديب، له تأليفات عديدة أشهرها الرد على« نهج الحق» للعلامة الحلي المسمّى ب-«ابطال نهج الباطل » الذي ألّفه سنة 909، وقد ألف المرحوم القاضي نور الله التستري «الشهيد سنة 1019 » كتاب «إحقاق الحق في الرد على ابن روزبهان »وجاء الرد الثاني عليه من المرحوم آية الله الشيخ محمد حسن المظفر فى «القرن الأخير وأسماه دلائل الصدق » في ثلاثة مجلدات .

رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أو يبرّرها، فحمل على بعض مؤرخي أهل السنة الذين رووا حادثة الهجوم على الدار وإحراقها، وندّد بالشيعة بشدّة متسائلاً بأنّ كيف يمكننا أن نقول بأن عمر بن الخطاب أمر بإحراق بيت ابنة رسول الله ، مستدلاً بأنّ هذا البيت متصل بمسجد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وقبره وبيوت نسائه، وكانت أسقف تلك البيوت من الأغصان اليابسة التي تشتعل بسرعة، فإحراق واحد منها بمثابة إحراقها جميعاً فإحراق بيت فاطمة يعني إحراق مسجد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وقبره، وليس من المعقول أن يتّخذ عمر بن الخطاب مثل هذا القرار فيعترض عليه عامة الناس وينكرون عمله وهذا ما لا يتفق مع فطنة عمر و سیاسته (1).

ولكن إذا نظر ابن روزبهان إلى هذه الحقيقة التاريخية على النحو الذي ذكرناه، وأنّ تلك الحوادث إنما قد وقعت في البيت الثاني لأمير المؤمنين (علیه السلام) لا في البيت المجاور للمسجد، لما استمسك بحجته تلك، ولم يكن بالطبع أي حاجة إلى الجواب الذي طرحه العلامة المتكلم الشيخ محمد حسن المظفر (رحمه الله ) .

ص: 162


1- دلائل الصدق: ج 3 ص 46 .

الفصل الثاني : بيت الأحزان

اشارة

ص: 163

ص: 164

بيت الأحزان حقيقة لا تنسى

يدخل الزائر الشيعي المدينة المنورة، ويبدأ بزيارة قبر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ويقيم الصلاة في المسجد، ثم يزور قبور أئمة البقيع وسائر القبور التي تخص أقرباء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وعشيرته، وبعده يزور بيت الأحزان ولعله يزورها هناك لأنه لا يعرف لفاطمة (علیها السلام) قبراً ينتسب إليها ليزورها عنده فيضع خده علی تراب قبر فريدة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ويغسل ضريحها المقدس بدموعه . إذن لا سبيل له إلّا أن يلجأ إلى مكان قضت فيه الصديقة الطاهرة آخر أيامها بعد وفاة أبيها العظيم إذ كانت تجلس هناك كل يوم ساعات طويلة تعبد الله وتبكي وتنوح، فيتأسى الزائر بها ويصلّي حيث صلت ويذرف الدموع حيث ذرفت ولكن وا أسفاً على يومنا هذا إذ لا أثر لذلك المكان اليوم ولا خبر عن بيت الأحزان في البقيع .

ولنتساءل أولاً، هل كان هناك في الواقع شيء يسمى بيت الأحزان أم أنّه مجرد خيال توهمه بعض الخطباء فجرى على ألسنتهم ؟!

نريد في هذا الفصل من الكتاب أن نضع بين يدي القارئ العزيز ما يمكن اقتباسه من كتب الحديث والتاريخ وأقوال من زار بيت الأحزان وشاهد بنائه منذ القرن الأوّل الهجري إلى زمن الهدم، لنعرف ما ذكروه عن مكان بيت الأحزان وتاريخ بنائه، ونعلم أنه حقيقة لا يمكن إنكارها ولا نسيانها، حتى وإن هدم بناؤه ولم يبق في البقيع أثرٌ من قبة بيت الأحزان، ولكنّ الكتب الموثوقة في الحديث والتاريخ والتي ألفها المحدثون والمؤرخون من الشيعة والسنة، قد ذكرت بيت

ص: 165

الأحزان طوال التاريخ وأكدته حقيقةً تاريخية لا تنكر، وإليك الآن نماذج من روايات المؤرخين وغيرهم .

بيت الأحزان في كتب الحديث

يعتبر كتاب الخصال للشيخ الصدوق (رحمه الله ) من كتب الحديث التي ذكرت سبب إيجاد بيت الأحزان، حيث يروي هذا المحدث الكبير رواية مسندة عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّه قال:

«وأمّا فاطمة فبكت على رسول الله حتى تأذى منها أهل المدينة فقالوا لها: آذيتنا بكثرة بكائك، فكانت تخرج إلى المقابر ...»(1).

وأوضح من رواية الصدوق وأكثر صراحة منها قول فضة خادمة الزهراء (علیها السلام) حيث يروي العلامة المجلسي (رحمه الله ) قضية استشهاد الزهراء بالتفصيل عن فضة، وهي تقول في النهاية: ثم بنى لها بيتاً في البقيع نازحاً عن المدينة »(2).

أي أنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) أقام لها خيمةً في البقيع خارج المدينة فكانت تأتي إليها مع الحسنين فتبكي بكاءً طويلاً ثم تعود إلى بيتها .

بيان ذلك: «البيت » في اللغة بمعنى المسكن سواءً كان خيمة أو منزلاً من التراب والطين(3)، وسنذكر أنّ أول بيت أقيم للزهراء (علیها السلام) في البقيع كان مجرد خيمة .

رأي العلماء والمؤرخين في بيت الأحزان

إشارة

إنّ بعض العلماء الكبار والشخصيات الدينية الذين كتبوا في تاريخ المدينة أو

ص: 166


1- الخصال: ص 273 أبواب الخمسة، وسائل الشيعة ج 2 ص 922 ب 87 من أبواب الدفن .
2- بحار الأنوار: ج 43 ص 177 .
3- البيت : المسكن سواء كان من الشعر أو المدر - أقرب الموارد .

في زيارة البقيع قد ذكروا بيت الأحزان أيضاً وأثبتوا وجوده والآن نذكر آراء بعضهم حسب تاريخ حياتهم

1- ابن شبة النميري ( 173 - 262ه-):

يعتبر كتاب«تاريخ المدينة » تأليف أبي زيد عمر بن شبة النميري (1) ، أقدم (2) كتاب بين أيدينا اليوم عن تاريخ المدينة المنورة، ويعتبر ابن شبة واحداً من العلماء الفقهاء والمحدثين والمؤرخين الموثوقين لدى أهل السنة، يذكر ابن شبة في كتابه الآثار والقبور الموجودة بالبقيع في أيامه فيقول: «وأخبرني مخبر ثقة قال: يقال : إنّ المسجد الذي يصلى جنبه شرقياً على جنائز الصبيان كان خيمة لإمرأة سوداء يقال لها «رقية » (3) كان جعلها هناك حسين بن علي (علیهما السلام) تبصر قبر فاطمة (علیها السلام) و وكان لا يعرف قبر فاطمة (علیها السلام) (4).

ص: 167


1- هو ابو زيد عمر بن شبة النميري، فقية ومحدث ومؤرخ مشهور، ولد سنة 173 وتوفي سنة 262 . ذكروا في ترجمته أنّه كان أديباً، فقيهاً، مؤرخاً، صادق القول، دقيق النظر، عالماً بالآثار، ناقلاً للأخبار، وله تأليفات عديدة ... ذكر منها ابن النديم 18 كتاباً، راجع ترجمته في الفهرست لابن النديم وفيات الأعيان تاريخ بغداد، تهذيب الأسماء واللغات تذكرة الحفاظ ولسان الميزان . طبع تاریخ ابن شبة لأول مرة سنة 1399 ه- في السعودية بتحقيق فهيم محمد شلتوت في أربعة مجلدات و 1396 صفحة، وأعيد طبعه أخيراً في قم . وقد خُصّص معظم المجلدين الثالث والرابع من الكتاب بالتراجم والحوادث الواقعة في عهد عثمان، مما يدل على أنّه من محبّي عثمان والمدافعين عنه بقوة .
2- أقدم من هذا الكتاب هو كتاب «تاريخ المدينة » لابن زبالة الذي عاش سنة 199 وقد نقلت عنه الكتب التي تعني بتاريخ المدينة حتى القرن العاشر منها «وفاء الوفا» الذي روى عن ابن زبالة كثيراً إلّا أن كتاب ابن زبالة مفقود اليوم .
3- يستند ابن حجر العسقلاني في الإصابة ج 3 ص 305 على هذا الموضوع ليعتبر «رقية » هذه من صحابة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .
4- تاريخ المدينة المنورة ج 1 ص 106 .

نستنتج من كلام ابن شبة الذي نقل ما سمعه وما شهده من بيت الأحزان أمرين:

1- كان بيت الأحزان خيمة معلومة المكان أيام حياة الزهراء (علیها السلام) وبقيت كذلك حتى أيام الحسين بن علي (علیهما السلام) أي إلى سنة 61 ه- حيث كان الحسين (علیه السلام) يهتم بها ويعتني بالمحافظ عليها حتى أنه أمر سيدةً من محبّي الزهراء (علیها السلام) أن تقيم فيها وتحرسها باعتبارها ذكرى لأمّه الجليلة، ولعل بعض أفراد أهل البيت قد تبعوا سيرة الحسين (علیه السلام) واستبدلوا الخيمة ببناء قائم .

2- كان بيت الأحزان بعد ذلك وفي آواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث على شكل مبنى قائم بذاته، والذي دفع ابن شبة أن يسأل أهل الخبرة عن كيفية بنائه، حيث أطلعه واحد ممن يثق بهم على المعلومات التي عنده وقد ذكر له أنّ هذا المبنى كان في السابق خيمة، إلّا أنه لا نعلم اليوم متى وعلى يد من تحولت الخيمة إلى مبنى .

تفسير متناقض

أما قول ابن شبة أنّ تلك السيدة كانت تقيم في بيت الأحزان لتحرس قبر فاطمة الزهراء (علیها السلام) فهذا تفسير متناقض استنبطه من رأيه الخاص، والدليل على بطلانه:

أولاً: يذكر ابن شبة في هذا الكتاب - مثل غيره من المؤرخين - أنّ علي بن أبي طالب (علیه السلام) دفن الزهراء (علیها السلام) ليلا داخل بيتها فلا معنى إذن لحراسة قبرها في البقيع .

ثانياً: لو كان قبرها في البقيع ولا يعلم بذلك إلّا «رقية » هذه، فحراسة قبر مجهول أمر باطل لا معنى له .

وكيفما كان، فلا يستبعد أنّ الظروف الصعبة التي تخصّ تلك الأيام جرت المؤرخ إلى تفسير الحراسة عن بيت الأحزان وإقامة إمرأة فيه .

2- فتوى الإمام الغزالي على استحباب إقامة الصلاة في بيت الأحزان :

يقول الإمام أبو حامد الغزالي ( 450 - 505 ه- ) وهو من أشهر علماء أهل

ص: 168

السنة، في بيان أعمال الزائر للمدينة المنورة وللبقيع خاصة: «ويستحب أن يخرج كل يوم إلى البقيع بعد السلام على رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فيزور أئمة الدين والصحابة المدفونين هناك ويصلي في مسجد فاطمة (رضی الله عنها) (1).

3-ابن جبير، الرحالة والعالم الشهير ( 540 - 614 ه-):

الشخص الثالث الذي زار بيت الأحزان وكتب عنه هو الرحالة الشهير أبو الحسين أحمد بن جبير الأندلسي (2).

دخل ابن جبير المدينة في محرم سنة 580 ه- وزار البقيع . يقول: «ويلي هذه القبة العباسية بيت ينسب لفاطمة بنت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يقال إنه الذي آوَت إليه والتزمت فيه الحزن على موت أبيها المصطفى (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) »(3).

4 - السمهودى (844 - 911 ه- ):

السمهودى (4)(844 - 911 ه- ):

هو الشخصية والمورّخ الرابع الذي يثبت وجود بيت الأحزان، وهو قدوة المؤرخين وسيدهم نورالدين علي بن أحمد السمهودي المصري، لم يؤلف بعده

ص: 169


1- إحياء علوم الدين: ج 1 ص 260 .
2- كان ابن جبير من علماء الأندلس وأبرز علماء زمانه في الفقه والشعر والتأليف ومن أشهر رحالة العالم الإسلامي، وقد سمّى كتاب رحلته: «تذكرة بالاخبار عن اتفاقات الاسفار » ، وقد طبع هذا الكتاب في لندن وبعده في بيروت . راجع ترجمة ابن جبير في دائرة المعارف الإسلامية: ج 3 ص 204 - 207 ، وفي مقدمة كتاب رحلته، طبعة لبنان - وفي الكنى والألقاب: ج 1 ص 232 .
3- رحلة ابن جبير - طبعة ليدن: ص 196 ، وطبعة دار الكتب اللبنانية: ص 144
4- هكذا يترجم العلماء للسمهودي: الشيخ نور الدين علي بن أحمد السمهودي المصري الشافعي عالم المدينة ومفتيها مدرّسها ومؤرخها وسيد المؤرخين وقدوتهم، ينتهي نسبه إلى الحسن المثنى بن الإمام المجتبى (علیه السلام) . ولد سنة 844 في سمهود بمصر وبعد أن أكمل دراسته وحفظ القرآن الكريم وارتقى مدارج العلوم والفنون المختلفة سافر إلى المدينة سنة 873 واستوطن فيها وأصبح من أكبر علماء الحرم النبوي الشريف الأول السمهودي ثلاثة كتب في تاريخ المدينة المنورة، أحدها كتاب مبسوط جامع للأطراف اسماه «اقتفاء الوفا بأخبار دار المصطفى » والذي فقد فى حريق المسجد النبوي برمضان سنة 886 ه- . والثاني «وفاء الوفا باخبار دارالمصطفى » يقول السمهودي عن كتابه هذا أنه ألفه بناءاً على طلب «من طاعته غنم ومخالفته غرم » ملخصاً فيه كتابه الأول، ورغم التلخيص فهو يشتمل على أوسع الأخبار وأدقها في تاريخ المدينة مما لا يمكن الحصول عليه في أي كتاب آخر، طبع هذا الكتاب في مجلدين و 1435 صفحة ؛ والثالث خلاصة الوفا حيث لخّص «وفاء الوفا» فيه وهو مطبوع أيضاً . وللسمهودي تأليفات أخرى عديدة . وقد توفي سنة 911 ه- بالمدينة، راجع ترجمته في شذرات الذهب، والأعلام للزركلي، والكنى والألقاب . .

أيّ مؤرخ أو كاتب في المدينة كتاباً ولم يقل أي خطيب في تاريخها مقالاً إلّا واستند إلى أقوال السمهودي وروى من كتابه «وفاء الوفا » . يقول السمهودي:

«والمشهور ببيت الحزن، إنّما هو الموضع المعروف بمسجد فاطمة في قبلة مشهد الحسن والعباس ».

ويضيف: «وأظنه في موضع بيت علي بن أبي طالب الذي كان اتخذه بالبقيع وفيه اليوم هيئة قبور »(1).

5 - السر ريتشارد بورتون [ SIR RICHARD BURTON ] 1853م الموافق 1276 ه-:

من الرحالة الغربيين الذين سافروا إلى مكة والمدينة (2) وكتب في مذكرات

ص: 170


1- وفاء الوفا: ج 3 ص 918 .
2- زار مكة والمدينة على مرّ التاريخ عدد وافر من الرحالة الغربيين وقد تلبسوا بزي الحجاج وكتب كثير منهم مذكرات رحلاته، فألفوا بذلك كتباً ذكروا فيها مشاهداتهم وانطباعهم مما رأوه. ورغم ما تحتويه بعض هذه المؤلفات من مزاعم باطلة والتي تنم عن عصبية كاتبها، ولكن يمكننا أن نستقي من بينها معلومات قيمة بالغة الأهمية و من هؤلاء الرحالة الانجليزي« ريتشارد بورتون» الذي سافر سنة 1853 ميلادية إلى مكة والمدينة على هيئة مسلم افغاني وسمى نفسه «عبد الله» وشارك في جميع مناسك الحج وزار جميع العتبات المقدسة وتطرق في كتابه إلى كل صغيرة وكبيرة ونشر رحلته في مجلدين كبيرين . موسوعة العتبات المقدسة : ج 3 ص 260 .

رحلته عن آثار الحجاز ومبانيها وعن أخلاق المسلمين ورسومهم في موسم الحج وعن حياة أهل الحجاز وطبائعهم، وذكر في كتابه مراقد البقيع وقببه وصورها بقلمه . شاهد « سر ريتشارد بورتون » البقيع سنة 1853 ميلادية - قبل حوالي 139 سنة - وقال عن بيت الأحزان وفي البقيع مسجد صغير يقع جنوب قبة عباس بن عبد المطلب، ويدعى أيضاً بيت الأحزان، لأنّ فاطمة الزهراء(علیها السلام) قضت آخر أيام عمرها في هذا المكان تبكي على أبيها العزيز »(1).

أقوال السربورتون دليل واضح على وجود مبنى لبيت الأحزان في زمنه ودليل على شهرة وجه تسمية بيت الأحزان بهذا الإسم بحيث أنّ رحالةً إنجليزياً غير مسلم استطاع في مدة قليلة بارتباط ومع احتكاك بسيط بالمسلمين أن يكشف كل تلك المعلومات كما هي في أوثق كتب التاريخ والحديث عندنا ويأتي بها في مذكرات رحلته .

6 - فرهاد ميرزا ( 1292 ه- ):

فرهاد ميرزا (2) ( 1292 ه- ):

زار فرهاد میرزا معتمد السلطنة البقيع في 18 ذي القعدة سنة 1292 ه- وكتب عن كيفية زيارة حرم أئمة البقيع وتلاوة الفاتحة على قبور العلماء المدفونين بجانب الحرم المطهر .

ص: 171


1- موسوعة العتبات المقدسة: : ج 3 ص 285 .
2- فرهاد ميرزا معتمد السلطنة المتوفى سنة 1305 ه- من أمراء القاجارية له شخصية علمية متميزة، وقد ألف ستة كتب في مختلف الفنون، منها «قمقام ذخار في المقتل » و «هداية السبيل » وهو رحلة حجه، ويعتبر الكتابان من أنفس ما كتب في موضوعيهما بين الكتب الفارسية .

ثم قال: «ثم ذهبت إلى بيت الأحزان ومنه إلى زيارة حليمة السعدية...»(1).

بيت الأحزان على شرف الهدم :

إشارة

درسنا حتى الآن تاريخ بيت الأحزان منذ بداية نشأته حتى أواخر القرن الثالث عشر أي سنة 1292 ه- والآن ندرس تاريخه في القرن الرابع عشر الهجري حيث أنّ بيت الأحزان كان على شرف الهدم والذي تم سنة 1344 ه- . ففي هذه الفترة القصيرة التي لا تتجاوز نصف القرن، نجد من بين ملايين الزوار لبيت الأحزان عدداً من العلماء والكتاب البارزين الذين ذكروا بيت الأحزان في كتبهم وتحدثوا عن هذا البناء التاريخي الذي لا يقبل النسيان، ومنهم:

1- إبراهيم رفعت باشا :

1- إبراهيم رفعت باشا (2) :

كان أميراً على حجاج مصر ، وكاتباً، زار البقيع لآخر مرة سنة 1325 ه- ، وكتب مشاهداته عن بيت الأحزان كالتالي:

«وهناك قبة تسمى قبة الحزن يقال إنها في البيت الذي آوت إليه فاطمة بنت النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والتزمت الحزن فيه بعد وفاة أبيها رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وكان في البقيع قباب كثيرة هدمها الوهابيون»(3).

2- الحاج السيد أحمد الهدايتي:

هو من السادة المكرمين المنتسبين إلى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وممن زار بيت

ص: 172


1- هداية السبيل، طبعة «مطبوعات علمي » في طهران، ص 141 .
2- إبراهيم رفعت باشا، تعين سنة 1318 ه- قائداً لحرس المحمل المصري، كما عينه خديو مصر أميراً للحاج في السنة 1320 و 1321 و 1325 فسافر إلى الحج وكتب مذكراته في كتاب سمّاه «مرآة الحرمين »، وهو كتاب قيم طبع بمصر في مجلدين ، وأعيد طبعه في قم بعد انتصار الثورة الإسلامية.
3- مرآة الحرمين: ج 1 ص 426 .

الأحزان قبیل هدمه ، حيث شاهده قبل ذلك الحادث المؤسف بخمس سنوات و ذكره في مذكرات سفره التي سمّاها «خاطرات مكة » ، حيث عد في كتابه المواضع المختلفة التي زارها على أمل أن تكون الزهراء (علیها السلام) مدفونة فيها، فيقول: «الخامس بيت الأحزان الواقع في مقبرة البقيع»(1).

3- السيد شرف الدين (قُدِّسَ سِرُّهُ) ( 1290 - 1377 ه- ):

المرحوم العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين(2) ، هو الشخص الثالث الذي زار بيت الأحزان قبل هدمه بخمس سنوات، وقد أشار إلى ذلك في خلال بحث في كتابه «النص والاجتهاد » ، ونختم بكلامه هذا البحث ليكون ختامه مسكاً:

«... بنى لها عليّ بيتاً في البقيع كانت تأوي إليه للنياحة يدعى بيت الأحزان وكان هذا البيت يزار في كل خلف من هذه الأمة كما تزار المشاهد المقدسة حتى هدم في هذه الأيام بأمر الملك عبد العزيز بن سعود النجدي لما استولى على الحجاز وهدم المقدسات في البقيع عملاً لما يقتضيه مذهبه الوهابي وذلك سنة 1344 للهجرة.

وقد تشرفنا بزيارة هذا البيت (بيت الأحزان ) سنة 1399، حيث منّ الله علينا في تلك السنة بحج بيته الحرام وزيارة نبيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ومشاهد أهل بيته الطيبين الطاهرين في البقيع عليهم الصلاة والسلام»(3).

ص: 173


1- خاطرات مكة، المطبعة الحيدرية في طهران ص 129.
2- العلامة الكبير المجاهد، محيي الشيعة في الشام ولبنان المرحوم السيد شرف الدين، علمٌ لا يحتاج إلى تعريف ويفوق كل مديح ،خدماته الجليلة ضد الاستعمار وآثاره العلمية القيمة خير دليل على روحه الجهادية السامية وعظمة شأنه وسمو مقامه العلمي وسعة اطلاعه، نذكر من كتبه «النص والاجتهاد » و «المراجعات » ومؤلفات أخرى .
3- النص والاجتهاد، بتحقيق أبي مجتبى ص 302.

4 - سماحة الشيخ العمروي

هو أكبر علماء الشيعة وشيخهم في المدينة المنورة، وقد شاهد بيت الأحزان قبل هدمه وأنا التقيت به مراراً وكراراً طوال ثلاثين سنة في زياراتي للحرمين الشريفين وأخيراً التقيت به في الليلة الأولى والخامسة من شهر رمضان المبارك سنة 1426 هجرية بعد صلاة العشاء في بيته وقد بلغ عمره إلى 97 سنة ؛ تحدّث الشيخ العمري في ذلك المجلس حول بيت الأحزان وقال في خلال كلامه كنت في الثامنة أو التاسعة من عمري وكنت أزور مع والدتي البقيع وبيت الأحزان كراراً، وكان لبيت الأحزان قبة وسجّاد وكانت مساحته ما بين ثمانية أو تسعة أمتار وكان بناءً مدائرياً واقعاً في جنوب غرب حرم ائمة البقيع(علیهم السلام)».

خلاصة الكلام

ذكرنا خلاصة عن تاريخ بيت الأحزان، ولكن إذا تفرغ البعض للتحقيق في هذا المجال واستطاع الحصول على مراجع أكثر لأمكنه بالطبع أن يحصل على نتائج أدق وأحسن.

والآن نلخص النتائج التي حصلنا عليها في النقاط التالية:

1- كان بيت الأحزان منذ أيام حياة الزهراء (علیها السلام) حتى سنة 1344 للهجرة مكاناً معلوماً معيناً، وقد اهتم به الشيعة على مر التاريخ اهتماماً بالغاً تأسياً بالحسين بن علي (علیهما السلام) فكانوا يزورونه مثل سائر المشاهد والمراقد ويجعلونه مكان صلاة وعبادة حتى أنّ الإمام الغزالي الذي هو من أئمة أهل السنة قد أوصى وحثّ على إقامة الصلاة فيه .

2- كان بيت الأحزان أيام الحسين بن العلي (علیه السلام) مجرد خيمة ثم تحول إلى مبنى وكانت له قبة وبقي كذلك إلى زمن الهدم .

ص: 174

3- سمي بيت الأحزان في لسان عامة الناس ب- «مسجد فاطمة » كما كان يسمى أحياناً «قبة الحزن » ، وقد ذكر الكتاب الأسماء الثلاثة بالطبع، ولكن مما لا شك فيه أنّ بيت الأحزان لم يعتبر مسجداً أبداً، ووجود عدة قبور فيه - كما يقول السمهودي - دليل على ذلك، والدليل الآخر هو أنّ مؤرخي المدينة عندما كتبوا عنها في تأليفاتهم مثل أخبار المدينة لابن النجار (المتوفى 643 ه- ) و «وفاء الوفا » للسمهودي (المتوفى 911 ه- ) و «عمدة الأخبار» لأحمد بن عبد الحميد العباسي (المتوفى في القرن العاشر الهجري) قد عدّوا جميع مساجد المدينة داخل البلد أو خارجها ولكنهم لم يذكروا مسجداً في داخل البقيع يدعى مسجد فاطمة .

4 - والأهم من كل ذلك هو أنّ الروايات تشير إلى أنّ بيت الأحزان كان في البقيع وقد صرّح جميع المؤرخين دون استثناء على ذلك وعينوا مكانه جنوباً إلى جنب حرم أئمة أهل البيت (علیهم السلام) . وبناءً عليه فالمكان الذي اشتهر في السنوات الأخيرة خارج البقيع باعتباره بيت الأحزان لا أساس له من الصحة ولا تؤيده كتب الحديث والتاريخ . وكما أشرنا سابقاً قد التقيت كراراً بالشيخ العمروي شیخ علماء الشيعة في الحجاز منذ سنة 1971 ميلادية في المدينة المنورة فكان يؤيد هذا الرأي ولا يرى للموقع الحالي لبيت الأحزان الذي يقع خارج البقيع أساساً من الصحة أو الصواب .

ص: 175

ص: 176

الفصل الثالث : حرم إبراهيم ابن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وعثمان بن مظعون

اشارة

ص: 177

ص: 178

حرم إبراهيم

كان حرم إبراهيم بن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) واحداً من البقاع والمراقد المباركة داخل البقيع التي هدمها الوهابيون.

ويقع قبر إبراهيم إلى جانب قبر الصحابي الجليل عثمان بن مظعون ولذلك فإنّ حرم إبراهيم يسمى أحياناً حرم عثمان بن مظعون .

كيفية حرم إبراهيم وضريحه

ذكرت كتب التاريخ وخاصّة كتب تاريخ المدينة حرم إبراهيم منذ أوائل القرن السابع وتكرر الكلام عنه في مراحل تاريخية مختلفة، ولكن هل كان لقبر إبراهيم بناء قبل القرن السابع أم لا ؟

لا يمكن الإجابة على هذا السؤال لعدم توفر المعلومات الكافية في ذلك إلّا أنّ اهتمام رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لابقاء هذين القبرين جعل المسلمين يحترمونهما ويزورونهما طوال التاريخ وكانوا يعتبرون زيارتهما سنة مستحبة مثل زيارة سائر الشخصيات الدينية الكبيرة، وعليه فلا بد أنّ المسلمين قد اعتنوا بالقبرين وأوجدوا لهما سقفاً وظلالاً .

يقول ابن جبير (المتوفى سنة 614 ه- ) في هذه البقعة: «وأمامه - أي أمام قبر مالك بن أنس - قبر السلالة الطاهرة إبراهيم بن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وعليه قبة بيضاء »(1).

ص: 179


1- رحلة ابن جبير: ص 144 .

ويذكر الرحالة الشهير ابن بطوطة (المتوفى سنة 756ه- ) مثل ذلك (1).

يصف ابن جبير ضريح الأئمة في البقيع قائلاً: أصل هذا الضريح من الخشب

إلّا أنه أجمل وأبدع نموذج للفن والزخرفة، عليه نقوش من النحاس المنقط فی أحلى ما يمكن أن يظهر مما اعطاه إناقةً وبهاءً لا يوصف ». ثم يضيف ابن جبير« وعلى هذا الشكل قبر إبراهيم ابن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) »(2).

وبعد ابن جبير، يأتي مؤرخ المدينة ابن النجار (المتوفى سنة 643 ه- ) فيصف ضريح إبراهيم كالتالي: «وقبر إبراهيم ابن النبي وعليه قبة وملبن ساج »(3).

يقول محمد بن أحمد المطري (المتوفى سنة 741 ه- ) في كيفية بناء هذه البقعة المباركة: وعليه قبة فيها شباك من جهة القبلة وهو مدفون عند جنب عثمان بن مظعون(رضی الله عنه)»(4).

ويبدو من كلام السمهودي (المتوفى سنة 911 ه- ) أنّ هذه البقعة وهذا الضريح كانا موجودين في زمنه أيضاً على نفس الشكل الذي ذكره المطري وسائر مؤرخي المدينة، حيث يقول السمهودي: «وقبره على نعت قبر الحسن والعباس وهو ملصق إلى جدار المشهد القبلي وفي هذا الجدار شباك»(5).

يذكر السيد إسماعيل المرندي هذه البقعة في كتابه بعد أن زار المدينة سنة 1255 ه- ويوجد أيضاً قبة إبراهيم بن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وله ضريح »(6).

ص: 180


1- رحلة ابن بطوطة: ص 119 .
2- رحلة ابن جبير: ص 144 .
3- أخبار المدينة ص 155 .
4- التعريف بما أنسته الهجرة من معالم دار الهجرة، طبعة القاهرة: ص 46.
5- وفاء الوفا: ج 3 ص 918 .
6- توصيف المدينة، نقلاً عن مجلة «ميقات الحج » الفصلية، العدد: 5 ص 118 .

كما يذكره نائب الصدر الشيرازي الذي حجّ سنة 1305 ه- ضمن سائر مراقد البقيع فيقول: «وعلى مدخل حرم إبراهيم بن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أبيات شعرية باللغة التركية، وفيها مصراع فارسي بهذا المعنى الأمير إبراهيم ابن سيد الرسل»(1).

يذكر إبراهيم رفعت باشا هذه البقعة بعد آخر زيارة له للبقيع سنة 1325 أي قبل هدم الآثار المقدسة في الحجاز بعشرين سنة تقريباً، يقول إبراهيم باشا:

«قبة عباس والحسن بن علي (علیهما السلام) وبقعتهما أكبر وأرفع القبب والبقاع التي في البقيع، كقبة ابراهيم وغيره»(2).

وبالنتيجة نستفيد من أقوال المؤرخين والكتاب منذ القرن السابع حتى القرن الرابع عشر الهجري أنّ القبر المطهر لإبراهيم بن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وقبر عثمان بن مظعون أحد أوفى أصحاب رسول الله كان لهما بناء وقبة مثل سائل قبور أقرباء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

وكان لقبر إبراهيم ضريح من أجمل الأضرحة وجودة كما كان هو الحال في ضريح أئمة البقيع (علیهم السلام)، و كان قبره في الناحية الجنوبية من البقعة ملتصقاً بالجدار وله حاجز مشبّك كان يشاهد الزوار من خلاله داخل الحرم.

وعموماً ، كان زوار المدينة المنورة طوال التاريخ وهم يأتونها من كل صوب ومكان، كانوا يزورون هذه البقعة المباركة والقبر الشريف، فإذا لم يتمكنوا من الدخول فيه لكثرة ازدحام الزائرين داخل الحرم اتجهوا إلى الشبك ليزوروا قبر ابن رسول الله من خلاله وليدعوا الله ويتضرّعوا إليه .

والآن تجدر الإشارة إلى نقطتين هامتين في هذا الصدد:

ص: 181


1- رحلة نائب الصدر الشيرازي: ص 230 .
2- مرآة الحرمين: ج 1 ص 426 .

إحداها: التعرف على سائر المدفونين في هذا المكان.

والثانية: بيان تاريخ بناء هذه البقعة الطاهرة

سائر المدفونين في حرم إبراهيم

1- مارية أم إبراهيم:

«توفّيت مارية القبطية في سنة ست عشرة وذلك في المحرم منها فيما ذكره الواقدي وابن جرير وغير واحد، وصلّى عليها عمر بن الخطاب، وكان يجمع الناس لشهود جنازتها، ودفنت بالبقيع (رضی الله عنها) وأرضاها»(1).

2- عبد الرحمن بن عوف :

لاحظنا من أقوال المؤرخين عن المدينة المنورة - كما سنشير إليه بعدئذ أيضاً . أنّ قبر إبراهيم يجاور قبر عثمان بن مظعون وكانا تحت قبة واحدة، إلّا أنّ بعض المؤرخين يشيرون إلى وجود قبور أخرى لبعض الصحابة في قبر المكان نفسه منهم قبرعبد الرحمن بن عوف .

يروي ابن النجار قائلاً: «أشارت عائشة إلى عبد الرحمن بن عوف أنه بإمكانه أن يوصي ليدفن داخل حرم رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فأجاب ابن عوف لا أريد أن أضيق بيت رسول الله ومنزل عائشة بدفني فيه، وقد عاهدت عثمان بن مظعون أنّ أياً منا يموت قبل الآخر، يوصي الثاني بأن يدفن إلى جواره » ، ثم يضيف ابن النجار: «وعليه، فإنّ قبر عبد الرحمن بن عوف أيضاً واقع عند قبر إبراهيم وفي نفس الحرم »(2).

ص: 182


1- البداية والنهاية : ج 7، ص 74 - الكامل في التاريخ: ج 2، ص 526 .
2- أخبار مدينة الرسول ص 156 .

3 -أسعد بن زرارة وغيره:

يذكر العباسي وهو من علماء القرن الحادي عشر حرم إبراهيم وعثمان بن مظعون ويقول:« يقال إنّ بعض الصحابة أيضاً مدفون في هذه البقعة إلى جانب إبراهيم وعثمان بن مظعون، ومن هؤلاء أسعد بن زرارة وسعد بن أبي وقاص الذي توفي في العقيق ونقلوا جثمانه إلى المدينة ودفنوه في هذا المكان، وكذلك قبور عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود و خنیس بن حذافة السهمي واقعة داخل حرم إبراهيم» (1).

يذكر علي الحافظ (2) من مؤلفي القرن الأخير هؤلاء الخمسة ثم يقول: «يرى بعض المؤرخين أنّ قبر فاطمة بنت أسد أيضاً موجود في حرم إبراهيم» (3).

يقول مؤرخ المدينة الشهير السمهودي والذي عاش قبل العباسي بقرن: «في الناحية الشمالية من قبر إبراهيم وفي داخل حرمه يبدو قبران جديدان لم يذكرهما ابن النجار ولا أي من مؤرخي المدينة من بعده ».

ويضيف السمهودي: «كما أشرنا سابقاً فإنّ المؤرخين يقولون: يقع قبر إبراهيم عند قبر عثمان بن مظعون، وقد دفن عبد الرحمن بن عوف أيضاً في نفس المكان بناءاً على وصيته، ولذا فيجدر زيارة هذين الصحابيين أيضاً مع إبراهيم»(4).

يبدو من كلام السمهودي أنه لا يعتقد بدفن صحابة آخرين غير ابن مظعون وابن عوف في حرم إبراهيم، أما سائر الصحابة الذين ذكر بعض المؤرخين بأنّهم

ص: 183


1- عمدة الأخبار في مدينة المختار: ص 152 .
2- فصول من تاريخ المدينة المنورة: ص 169 .
3- عندما درسنا تاريخ حرم أئمة البقيع ، بيّنا عدم صحة هذا الإحتمال فراجع .
4- وفاء الوفا: ج 3 ص 919 .

مدفونون عند قبر إبراهيم وداخل بقعته، فالظاهر أنّ قبورهم قريبة منه ولكن خارج البقعة وليس داخلها .

تاريخ بناء هذه البقعة :

أشرنا سابقاً أنّ خبر بناء حرم إبراهيم وضريحه يرجع إلى أوائل القرن السابع أي إلى ابن جبير الذي بين مشاهداته من الحرم والضريح، ولكن من بني تلك البقعة وذلك الضريح ومتى فعل ذلك ؟

هذا السؤال لم يجب عليه أيّ من الكتّاب والمؤرخين بصراحة، إلّا أنّ شواهد كلامهم من جهة، وتصريح بعض أعلام الشيعة من جهة أخرى يدلنا على تاريخ تقريبي للبناء وقد يرشدنا إلى الباني أيضاً .

يقول القاضي نور الله التستري (رضی الله عنه) بعد ذكر مجد الملك باعتباره بانٍ لحرم

الأئمة (علیهم السلام): «وهو الذي بني الأقواس الأربعة على قبر عثمان بن مظعون ...، کمت بنى مرقد الإمام موسى الكاظم والإمام محمد الجواد (علیهما السلام) في مقابر قريش ببغداد، وكذلك مرقد عبد العظيم الحسني بالري وما إلى ذلك من قبور مشاهير السادات العلويين والأشراف الفاطميين»(1).

ضريح إبراهيم:

كما لاحظتم إنّ الرحالة الشهير ابن جبير ومؤرخ المدينة الكبير السمهودي أكدا خلال وصفهما لضريحي أئمة البقيع وإبراهيم على التشابه والتناظر الواضح بينهما، وكما أنّ قول الكاتبين يدل على التشابه التام بين الضريحين من الناحية الفنية والمواد الاولية والمتانة والزخرفة والخطوط المنقوشة فإنّه يدل أيضاً على

ص: 184


1- مجالس المؤمنين: ج 2 ص 458 .

أنهما قد بُنيا في زمن واحد وعلى يد بان واحد وتحت إشراف مهندس واحد .

وفي النهاية، يمكن أن نشير إلى ثلاث نتائج عن بناء حرم إبراهيم وضريحه وهي كالتالي:

1- بناء القبة والضريح لإبراهيم كان على يد مجد الملك كما أشرنا سابقاً .

2 - يصرّح القاضي نور الله التستري أنّ بناء حرم إبراهيم أيضاً كان على يد مجد الملك

3- وجود تشابه واضح بين الضريحين .

ونستنتج من هذه النقاط الثلاثة أنّ ضريح إبراهيم وحرمه قد بناهما مجد الملك البراوستاني كما بنى حرم أئمة البقيع (علیهم السلام)، وضريحهم، وذلك في أواخر القرن الخامس الهجري .

سنة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في دفن ابن مظعون وإبراهيم:

ذكرنا للقارئ الكريم كل ما حصلنا عليه عن تاريخ حرم إبراهيم وعثمان بن مطعون، لكنّ الأهم من ذلك تاريخياً هو سنة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في كيفية تشييعهما ودفنهما، حتى نتعلم الأحكام الإسلامية باتباع سنته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في الدفن وما يتبع الدفن بالنسبة لعموم المسلمين وخصوصاً من يتمتع منهم بقداسة معنوية خاصة باعتباره من أقرباء رسول الله أو صحابته، أو ممن كانت لهم خدمات جليلة للدين الإسلامي والقرآن الكريم .

ومما لا شك فيه أنّ تشييع ودفن ابن مظعون وإبراهيم كان بأمر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وفعله شخصياً، فقد أدى هذه الطقوس والشعائر بنفسه ليعلمنا هذا الجانب من أحكام دينه الحنيف، وعلى المسلمين أن يتعلموا هذا الدرس كسائر ما يجب تعلمه من أمور دينهم، وأن يتّبعوا سنة نبيهم الكريم ويطيعوا أمره « وَمَا

ص: 185

آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(1).

وقبل أن نشرح هذه السنة الخالدة يلزم أن نلقي نظرة على حياة ابن مظعون وإبراهيم وكذلك كيفية تشييعهما ودفنهما كما ذكرته كتب الحديث والتاريخ .

عثمان بن مظعون في مكة:

الصحابي الجليل أبو سائب عثمان بن مظعون كان من السابقين إلى الإسلام ويعتبر الشخص الرابع عشر الذي لبّى نداء التوحيد لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأسلم على يديه وهو من المجاهدين في سبيل الله الذين دافعوا عن الإسلام وفدوا رسول الله بالغالي والنفيس .

يروي بعض المؤرخين أنّ عثمان بن مظعون كان أخاً رضاعياً لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهو ممن هاجر الهجرتين، إذ هاجر إلى الحبشة ليتخلص من أذى مشركي مكة، ثم هاجر مع سائر المسلمين إلى المدينة، ويرى بعض المؤرخين أنّ الرسول عيّنه مسؤولاً عن المهاجرين إلى الحبشة .

ابن مظعون يرفض اللجوء إلى المشركين

عندما عاد عثمان بن مظعون من الحبشة آواه الوليد بن المغيرة أحد أشراف المشركين في مكة فكان بذلك في أمان من أذى المشركين، إلّا أنه أراد أن يشارك المسلمين مآسيهم ويثبت شموخ الإسلام وعظمته ويحتقر الشرك وعبادة الأصنام ؛ ولذا أعلن استقلاله عن الوليد وارتضى لنفسه كل الآثار السلبية الناجمة عن ذلك، وخاطب الوليد قائلاً: «إني أخرج الآن من جوارك، لأنّي أريد أن أكون مثل النبي وسائر المسلمين الذين لا حامي لهم إلّا الله » .

وطلب من الوليد أن يعلن الأمر في مكة، فذهب مع الوليد إلى المسجد

ص: 186


1- سورة الحشر: 7 .

الحرام وأعلن لقريش انفصاله عن الوليد (1).

عثمان بن مظعون في المدينة:

وهاجر ابن مظعون إلى المدينة واشتهر بين أصحاب الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بالزهد والعبادة، وكان واحداً من الصحابة المعدودين الذين يعرفون الأحكام الشرعية بدقة أكثر .

ووصل ابن مظعون في الزهد والابتعاد عن لذائذ الحياة إلى درجة أنّه كان يمتنع حتى من بعض المباحات، فامتنع عن معاشرة زوجته أيضاً فاشتكت إلى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فمنعه من ذلك وحثّه على أداء واجباته تجاه زوجته وأولاده .

كان ابن مظعون ممن لم يذق الخمر حتى في الجاهلية وهو القائل: «لا يعمل العاقل ما يوجب فقدان عقله واستهزاء الناس به ».

وهو من الصحابة الذين قرروا اخصاء أنفسهم ابتعاداً من الآثام والمعاصي، فأرادوا القضاء على غريزتهم الجنسية كاملةً ، فمنعهم رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «يا ابن مظعون عليك بالصوم فإنها مجفرة » .

وهو من البدريين الثلاثمائة والثلاثة عشر وهذه مفخرة أخرى تضاف إلى مفاخره العديدة .

وعلى كل حال، فهو نموذج للفضيلة والزهد والتقوى والتضحية، وقد وردت في زيارة الناحية المقدسة: السلام على عثمان بن أمير المؤمنين، سمي عثمان ابن مظعون »(2).

ص: 187


1- طبقات ابن سعد: ق 3، ج 1 ص 286، الإصابة: ج 2 ص 464، الاستيعاب : ج 3 ص 85 تاريخ الإسلام للذهبي: أحداث السنة الثانية للهجرة .
2- تلخيص من اسد الغابة : ج 3 ص 386 ، الاصابة : ج 2 ص 464، الاستيعاب: ج 3 ص 87 تنقيح المقال : ج 2 ص 249 فروع الكافي: ج 2 ص 56 و 57 .

بكاء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لموت عثمان بن مظعون:

توفي عثمان بن مظعون في ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة بعد أن شارك في معركة بدر، وكان أول مهاجر دفن في البقيع (1).

يروي المؤرخون واصحاب التراجم مثل ابن عبد البر (المتوفى سنة 463) وابن الأثير (المتوفى سنة 630) عن ابن عباس أنّ رسول الله جلس عند فراش عثمان بن مظعون عندما حضرته الوفاة، ووضع خده على خده، فلما رفع رأسه ترقرقت عيناه بالدموع، ثم وضع خده ثانيةً على خده، فلما رفع رأسه شاهد الحاضرون دموعه وعلائم الحزن على وجهه الكريم، وفي المرة الثالثة ارتفع صوته بالبكاء فبكى الحاضرون معه بصوت عال(2).

رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يقبّل جبين ابن مظعون:

تروي الشيعة عن الإمام الصادق (علیه السلام) (3)ويروي أهل السنة عن عائشة (4) أنه «لمّا غسل وكفن ابن مظعون قبّله رسول الله بين عينيه ورأيت الدموع تسيل (5)». و فی مسند أحمد بن حنبل والطبقات أنّ عائشة قالت: «إنّ رسول الله قبّل عثمان بن مظعون وهو ميت، قال: فرأيت دموع النبي تسيل على خد عثمان بن مظعون »(6).

ص: 188


1- وكان أول من دفن من الأنصار في البقيع أسعد بن زرارة .
2- الإستيعاب: ج 3 ص 87 أسد الغابة : ج 3 ص 383 .
3- من لا يحضره الفقيه، ج 1، أحكام الأموات ؛ فروع الكافي، ج 1، ص 72 و 73 ؛ تنقیح المقال، ج 2 ص 249 .
4- سنن الترمذي، كتاب الجنائز، ح 994 ؛ الإستيعاب : ج 3، ص 85 .
5- سنن أبي داود: ج 2، ص 179 ؛ تاريخ المدينة لابن شبّة : ج 1، ص 100 ؛ أسد الغابة: ج 3، ص 387 ، الإستيعاب: ج 3، ص 85 ؛ تنقيح المقال : ج 2 ص 249 .
6- مسند أحمد بن حنبل : ج 6 ص 55 و 56 و 206 ، الطبقات ج 3، ق 1 ص 288 .

ويبدو بوضوح من كلام المحدثين والمؤرخين أنّ الرسول كان يؤكد بقوله وفعله على إبقاء قبر ابن مظعون كأثر يذكرنا بهذا الصحابي الجليل، وكان يزور قبره ويحيي ذكره ويطلب من الله الرحمة له وعلو المقام .

نماذج من أقوال وأفعال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في هذا المجال:

قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عند موت ابن مظعون:« ادفنوا عثمان بن مظعون بالبقيع يكن لنا سلفاً فنعم السلف سلفنا عثمان بن مظعون »(1).

وأعاد هذه الجملة عند دفنه: «نعم السلف الصالح عثمان بن مظعون»(2).

وقال عند موت ابنه إبراهيم: «الحقوه بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون»(3).

استخدام كلمة «السلف الصالح » وتكرارها خصوصاً عند دفن إبراهيم وبعد مضي ثماني سنوات على وفاة ابن مظعون إنما يؤكّد أنّ ذكرى ابن مظعون يجب أن تبقى خالدة لا تنمحي باعتباره سلفاً صالحاً وصحابياً جليلاً وأنموذجاً للتضحية والفداء .

وضع الحجر على قبر ابن مظعون :

بعد دفن عثمان بن مظعون، أخذ رسول الله قطعة حجر ووضعها علامةً لقبره وهكذا أكد بفعله هذا أقواله في لزوم تخليد ذكرى ابن مظعون والمحافظة على آثار قبره دوما .

ص: 189


1- تاريخ المدينة : ج ص 100 ، الاستيعاب : ج 3 ص 85 أسد الغابة: ج 3 ص 387، تنقیح المقال : ج 2 ص 249 .
2- نفس المصدر.
3- نفس المصدر

يقول ابن عبد البر: «وأعلم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قبره بحجر وكان يزوره»(1). ويروي أيضاً عن عبد الله بن رافع أنه قال: «فوضع رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حجراً عند رأسه وقال هذا فرطنا »(2).وروى ابن سعد أيضاً هذه الجملة في طبقاته(3).

وفي «دعائم الإسلام » عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال: «إنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لمّا دفن عثمان بن مظعون دعا بحجر فوضعه عند رأس قبره وقال يكون علماً ليدفن إليه قرابتي »(4).

ويروي ابن الأثير في تاريخه الكامل: وجعل رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على رأس قبره حجراً علامةً لقبره »(5).

يروي السمهودي هذا وأنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) جعل قطعة من الحجر على قبر ابن مظعون، ثم يوضح كيفية هذا الحجر وأنّه لم يكن ذلك الحجر كغيره من الحجارة، فيقول: «فجعل رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أسفل مهراس علامة على قبره » وكان ذلك المهراس مكسوراً لا يستفاد منه، ثم تلا رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : « وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا»(6) .

مصير حجر قبرعثمان بن مظعون :

قرأنا أقوال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في عثمان بن مظعون وعرفنا ما فعله عند دفنه وأنّه وضع حجراً كعلامة على قبره حتى لا تنساه الأجيال القادمة فتحترمه وتحيي

ص: 190


1- الإستيعاب: ج 3 ص 85 .
2- نفس المصدر .
3- الطبقات ج 3، ق 1 ص 289 . (
4- بحار الأنوار: ج 82 ص 22 .
5- الكامل : ج 2 ص 97 و 98 .
6- وفاء الوفا: ج 3 ص 914 .

ذكراه، وأن يدفن الشخصيات الإسلامية وأهل بيت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في جوار قبر عثمان بن مظعون .

وبقيت قطعة الحجر على القبر حتى خلافة معاوية بن أبي سفيان فكان الصحابة وسائر المسلمين يستدلون بها على قبر ابن مظعون ليزورونه كما فعل رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فلمّا تولّى معاوية الخلافة وولّى مروان بن الحكم إمارة المدينة أمر مروان بنقل هذا الحجر ووضعه على قبر عثمان بن عفان، وكان مروان يقول: «والله لا يكون على قبر عثمان بن مظعون حجر يعرف به ».

وانتقده عامة الناس على فعلته هذه، حتّى أن كبار بني أمية أيضاً خالفوه في ذلك وقالوا له: «لم نقلت حجراً وضعه رسول الله بيده ؟» ، وما اعتنى مروان بهذه الأقوال وأجاب: «ما الفرق بينهما؟ ذاك عثمان وهذا عثمان، أم والله إذ رميت فلا یرد »(1).

إبراهيم من الولادة إلى الوفاة :

إشارة

ذكرنا مجملاً عن حياة عثمان بن مظعون والنقاط البارزة من زهده وعبادته ونضاله واستقامته أمام قوى الكفر والشرك، وكذلك كيفية وفاته ودفنه واحترام النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) له وبكائه لفقد هذا الصحابي الجليل .

وإليك الآن مجملاً عن حياة إبراهيم بن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وما ذكر عن ولادته وحب الرسول له وكيفية وفاته ودفنه وبكاء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على ابنه هذا الذي لم يعش أكثر من ستة عشر شهراً .

ص: 191


1- أسد الغابة: ج 3 ص 387 تاريخ المدينة لابن زبالة نقلاً عن وفاء الوفا: ج 3 ص 894 و 914، تاريخ المدينة لابن شبة: ج 1 ص 102، عمدة الأخبار: ص 152 .

ولادته

بعدما عاد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من الحديبية في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة أرسل كتاباً إلى المقوقس ملك الاسكندرية، أرسلها بيد أحد صحابته يدعى حاطب بن أبي بلتعة، ودعا في كتابه المقوقس إلى التوحيد والدخول في الإسلام.

ومع أنّ المقوقس لم يسلم إلّا أنه قابل كتاب رسول الله وحامل الكتاب بكل أدب واحترام وقال إنّه يشم رائحة الخير من هذا الكتاب وأمر بحفظه في صندوق عاجي وأجاب الكتاب وأرسل مع الجواب جاريتين تدعيان مارية وسيرين، وكانتا أختين جميلتين، بالإضافة إلى هدايا قيمة لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فدعا رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الأختين إلى الإسلام فأسلمتا ويذكرهما التاريخ بالإيمان والفضيلة، فأخذ رسول الله مارية لنفسه وأهدى سيرين إلى حسان بن ثابت شاعره الشهير، ورزق حسان من سيرين ابناً سماه عبد الرحمن ، أي أنّ عبد الرحمن هذا هو ابن خالة إبراهيم بن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (1).

نقل مارية إلى خارج المدينة :

منذ الأيام الأولى لدخول مارية إلى بيت رسول الله ،(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حسدتها بعض نساء النبي وضقن بها ذرعاً، فلما حملت زاد الحسد عليها، فأراد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يحفظ التوازن بين نسائه فأمر بنقل مارية إلى خارج المدينة مع شدة حبه لها حتى تكون بعيدة عن سائر أزواجه، فأسكنوها في حديقة كانت لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قرب مسجد قبا وسط قبيلة بني مازن وقد سمي هذا المكان بعد ذلك بمشربة أم

ص: 192


1- الطبقات لابن سعد: ج 1 ، ق 1، ص 86 أسد الغابة : ج 1 ص 38، البداية والنهاية : ج 5 ص 307.

إبراهيم (1)، حيث ولد إبراهيم هناك بعد أشهر .

وذكر المؤرخون نقل مارية إلى خارج المدينة بقولهم: «وغار نساء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) واشتد عليهنّ حين رزق منها الولد »(2).

يقول ابن سعد في طبقاته: «إنّ رسول الله حجب مارية، وقد ثقلت على نساء النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وغرن عليها ولا مثل عائشة »(3).

وذكر أيضاً في الطبقات وسائر كتب التاريخ عن عائشة نفسها «أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أتى ذات يوم بإبراهيم عندي فقال: انظري إلى شبهه بی فقلت ما أرى شبهاً، فقال: ألا ترين إلى بياضه ولحمه ؟ قلت من سقي ألبان الضأن سمن وابيضّ»(4).

وهكذا ولد إبراهيم في قبيلة بني مازن بالمشربة وتولت أمر ولادته سلمى زوجة أبي رافع، ولذلك كان أبو رافع أول من هنّأ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بولادة إبراهيم فأهداه الرسول عبداً كان له . وعقّ عنه رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في اليوم السابع بشاة وأمر شخصاً يدعى أبوهند أن يقصّ شعره ويتصدق بوزنه فضةً، ثم يدفن الشعر تحت التراب، وسماه الرسول في هذا اليوم إبراهيم وقال: إنّ جبرئيل نزل عليّ وقال:

ص: 193


1- تقع مشربة أم إبراهيم في شرق مسجد قبا على بعد كيلومترين منه وقد تحول هذا المكان مسجداً لأن الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) صلی به ويعتبره المؤرخون من المساجد المحيطة بالمدينة، وقد هدم المسجد بعد ذلك وتحول إلى مقبرة لأهل المنطقة، وللمقبرة اليوم حيطان مرتفعة وباب حديدي له قفل كبير حتى لا يدخله زائر وقد شاهد المؤلف ذلك في ذي القعدة سنة 1413 ه- .
2- الطبقات ج 1 ق 1 ص 68 ، البداية والنهاية: ج 5 ص 304 ، تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 87 الكامل لابن الأثير : ج 2 ص 186.
3- طبقات ابن سعد: ج 1 ق 1 ص 86 .
4- الطبقات ج 1 ق 1 ص 86 البداية والنهاية: ج 5 ص 305 تاريخ اليقعوبي: ج 2 ص 87 .

«السلام عليك يا أبا إبراهيم » ، وقد اخترت له اسم جدي إبراهيم (1).

بعد ولادة إبراهيم طلبت نساء الأنصار أن تتولي أحداهنّ رعاية إبراهيم ورضاعه، وكنّ يتسابقن في ذلك، فاستقرّ الأمر إلى امرأة تدعى أم بردة زوجة أبي سيف ، كان أبوسيف حداداً يسكن في قبيلة بني مازن قرب مشربة أم إبراهيم، وكانت أم بردة تأخذ إبراهيم إلى مارية في المشربة أو إلى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في المدينة ثم تعود إلى بيتها، وكان الرسول يأتي بنفسه أحياناً إلى بيت أم بردة ليزور ابنه

حب الرسول لإبراهيم:

يقول أنس بن مالك خادم رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «لم أجد أباً أبرّ إلى ابنه من رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) اذ كان يزور إبراهيم في بيت أم بردة رغم بعد المسافة، ويحتضن ابنه ويقبّله، ثم يسلمه إلى مرضعته.

وفي أحد الأيام أراد الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يزور بيت أم بردة فذهبت معه، وإذ وصلنا إلى بيت أبي يوسف رأيت الدخان يتصاعد من بيته، فدخلت البيت مسرعاً وأخبرته بمجيء رسول الله، فترك عمله مسرعاً وأوقف معمل الحدادة حتى لا يتأذى الرسول من دخانه، إلّا أن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) دخل بنفس الحالة واحتضن ابنه ووضعه على صدره »(2).

بكاء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ومارية عند فراق إبراهيم:

مرض إبراهيم في بيت أم بردة، ومات يوم الثلاثاء الحادي عشر من ربيع الأول

ص: 194


1- الطبقات ج 1 ق 1 ص 87 .
2- الإستيعاب : ج 1، ص 55، أسد الغابة : ج 1، ص 38 - 39 .

في السنة العاشرة من الهجرة وله يومئذ ثمانية عشر شهراً وقيل ستة عشر شهراً .

وروي في كتب الحديث المتعددة: أنّ رسول الله كان جالساً إلى جانبه في آخر لحظات عمره وهو يحتضر فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والدموع تنهمر من عينيه: «تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلّا ما يرضى به الرب وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون »(1).

وفي حديث آخر أنّ الرسول بعد أن قال: «تدمع العين... » ، أضاف: «ولولا أنه وعد صادق ووعد جامع وأنّ الآخر لاحق بالأوّل لوجدنا عليك يا إبراهيم أشدّ من وجدنا وانا بك لمحزونون »(2).

وفي حديث آخر رواه أبو داود: « ففاضت عينا رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فقال له سعد: ما هذا ؟ قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : إنها رحمة وضعها الله في قلوب من يشاء وإنما يرحم الله من عباده الرحماء »(3).

يروي عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أمه سيرين أنّها كانت مع أختها مارية إلى جانب إبراهيم، وكانتا تبكيان بصوت عال دون أن يمنعهما رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : « كلما صحت أنا وأختي ما ينهانا، فلما مات نهانا عن الصياح »(4).

نقل جثمان إبراهيم

مات إبراهيم في حي بني مازن خارج المدينة، فسألوا رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «أين

ص: 195


1- يوجد هذا الحديث في كتب الحديث صحيح البخاري: ج 1 كتاب الجنائز ح1241، صحيح :مسلم ج 2 کتاب الفضائل ح2315 ، سنن ابن ماجة ج 1 كتاب الجنائز ح1589، سنن أبي داود: : ج 2 ، كتاب الجنائز باب البكاء على الميت، مسند أحمد: ج 3 ص 194 . كما في كتب التاريخ والرجال الاستيعاب ج 1 ص 44 أسد الغابة: ج 1ص 39، وروى ابن سعد في طبقاته: ج 1 ق 1 ص 88 و 89 في عشر روايات وبمضامين مختلفة.
2- طبقات ابن سعد ج 1 ق 1 ص 92 أسد الغابة : ج 1 ص 39، الاستيعاب: ج 1 ص 24 .
3- سنن أبي داود، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت .
4- طبقات ابن سعد: ج 1 ق ا ص 92، اسد الغابة : ج 1 ص 39، الاستيعاب : ج 1 ص 24 .

ندفنه؟» فقال: «ألحقوه بسلفنا عثمان بن مظعون » (1)، فنقلوا جثمان هذا الطفل الذي لم يتجاوز الستة عشر شهراً إلى المدينة ليدفن في البقيع .

ويذكر ابن سعد في الطبقات كيفية نقل جسد إبراهيم: «وحمل من بيت أم بردة على سرير صغير »(2).

ويروي صاحب الإستيعاب مثل ذلك :«وحمل على سرير صغير وصلّى عليه رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) »(3)، ويزيد على ذلك المفسر والمؤرخ الشهير ابن كثير:« لمّا توفّي إبراهيم ابن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بعث علي بن أبي طالب إلى أمه مارية القبطية في وهي مشربة فحمله علي في سفط وحمله بين يديه على الفرس ثم جاء به إلى رسول الله »(4).

إذن فقد نقل جسد إبراهيم داخل تابوت صغير بيد أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو راكب على الفرس .

غسل إبراهيم:

يروي ابن عبد البر أنّ أم بردة مرضعة إبراهيم هي التي غسلته، ولكنّ المشهور أنّ الفضل بن عباس تولّى غسله: «غسله الفضل بن عباس ورسول الله والعباس جالسان» (5).

ص: 196


1- تاريخ المدينة المنورة لابن شبة: ص 100، الاستيعاب : ج 3 ص 85 ، أسد الغابة : ج 3 ص 387 تنقيح المقال : ج 2 ص 249 .
2- الطبقات : ج 1 ق 1 ص 92 .
3- الاستيعاب: ج 1 ص 43 .
4- البداية والنهاية: ج 5 ص 311 .
5- الطبقات ج 1 ق 1 ص 92، أسد الغابة : ج 1 ص 40 .

بكاء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عند تكفين إبراهيم :

يروي ابن ماجة في سننه عن انس بن مالك أنّه عند تكفين إبراهيم، قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «لا تدرجوه في أكفانه حتى أنظر إليه » ، فأتاه فأنكبّ عليه وبكى (1).

ويروي ابن كثير في تاريخه بكاء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بصورة أوضح حيث يضيف: «فبكى حتى اضطرب الحياه و جنباه »(2).

تشييع جنازة إبراهيم:

يشير ابن كثير إلى تشييع جنازة إبراهيم بجملة واحدة، فيقول: «فغسله وكفنه وخرج به وخرج معه الناس»(3) ، تدلّ هذه الجملة على أنّه وبعد غسل إبراهيم وتكفينه شارك الناس في تشييع جثمانه إلى البقيع، حيث خرج النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وخرج الناس خلفه .

صلاة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على إبراهيم:

يروي أبو داود في سننه عن عائشة أنّها قالت: «مات إبراهيم بن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهو ابن ثمانية عشر شهراً فلم يصل عليه رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) »(4) إلّا أنّ هناك أحاديث أخرى رواها أبو داود بنفسه وغيره من المحدثين والمؤرخين وذكرتها كتب الحديث والتاريخ تشير إلى أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد صلّى على جثمان ابنه الصغير إبراهيم كما كان يصلي على الكبار، ثم أودعه التراب (5).

ص: 197


1- سنن ابن ماجة، كتاب الجنائز: ج 1، ص 473، ح 1475.
2- البداية والنهاية : ج 5 ص 310 .
3- نفس المصدر : ج 5 ص 311.
4- سنن أبي داود: ج 2، ص 76 ، ح 3187، باب الصلاة على الطفل .
5- نفس المصدر ج 1 ص 484، كتاب الجنائز باب «ما جاء في الصلاة على ابن رسول الله » ، ح 1511، سنن أبي داود ج 2، ص 76 ، ح 3188، کتاب الجنائز، باب في الصلاة على الطفل، المصنف لعبد الرزاق: ج 3 ص 532 ح 6605، طبقات ابن سعد: ج 1 ق 1 ص 90، الاستيعاب: ج 1 ص45، أسد الغابة: ج 1 ص 40 .

ففي سنن ابن ماجة: «لما مات إبراهيم بن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) صلی علیه رسول الله وقال: إنّ له مرضعاً في الجنة ».

وفي سنن أبي داود حديث يذكر فيه مكان صلاة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عليه: «لمّا مات إبراهيم بن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) صلى عليه رسول الله في المقاعد »(1).

يروي ابن كثيرعن مسند أبي علي عن ابن أبي أوفى أنّه قال: «صلّى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على ابنه وصليت خلفه وكبّر عليه أربعاً »(2).

كيفية الدفن

يروي ابن كثير دفن إبراهيم هكذا: « فدخل عليّ في قبره حتى سوى عليه و دفنه» (3).

ولكن روي في الطبقات والاستيعاب هكذا : « قيل إنّ الفضل بن عباس غسل إبراهيم ودخل في قبره هو وأسامة بن زيد»(4).

والظاهر صحة القولين بأنّ الفضل بن عباس نزل أولاً وعاونه أسامة بن زيد، ثم جاء أمير المؤمنين فجهز القبر ودفن إبراهيم .

ويؤيد كلام ابن كثير ما ذكره بعض كتب الشيعة بأنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أمر أمير المؤمنين (علیه السلام) أن يضع وجه إبراهيم على التراب .

ص: 198


1- يبدو من كلام ياقوت الحموي في معجم البلدان أنّ في المدينة عدة أماكن تسمى بالمقاعد وهي أماكن عامة يجلس فيها عموم الناس وأشهرها مقاعد كانت أمام حوانيت قرب منزل عثمان بن عفان.
2- البداية والنهاية: ج 5 ص 310 .
3- نفس المصدر: ص 311 .
4- الطبقات ج 1 ق 1 ص 92 ، الاستيعاب: ج 1 ص 46 .

بكاء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والمسلمين عند القبر :

يذكر ابن كثير في تاريخه وضمن بيان دفن إبراهيم، بكاء ثالثاً لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والذي أثار بكاء الصحابة أيضاً بحيث بكوا جميعاً بصوت عال ؛ يقول ابن كثير: « بكى رسول الله وبكى المسلمون حوله حتى ارتفع الصوت ثم قال: تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يغضب الربّ، وإنّا عليك يا إبراهيم لمحزونون»(1).

يروي عبد الرحمن بن حسان بن ثابت أنّ أمه سيرين ( أخت مارية ) كانت عند القبر أثناء دفن إبراهيم وكانت تقول في ذلك: «وأنا أبكي عند قبره ولا ينهاني أحد» (2).

وضع الحجر ورشّ الماء على قبر إبراهيم:

أثناء دفن إبراهيم شاهد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بين الأحجار التي كانت توضع في القبر فجوة فأعطى بيده قطعة مَدَر للحفّار ليضعها في تلك الفجوة، ثم قال: «إنّها لا تضرّ ولا تنفع ولكنها تقرّ عين الحي » . وبعد إعادة التراب إلى القبر رأى قطعة حجر على تراب القبر فرفعها وسوى تراب القبر وقال: «إذا عمل أحدكم عملاً فليتقنه فإنّه مما يسلّي نفس المصاب».

يقول ابن سعد في الطبقات «أمر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بحجر فوضع عند قبره ورش

على قبره الماء »(3).

وفي موضع آخر يذكر ابن سعد صب الماء عند دفن إبراهيم فيقول:

ص: 199


1- البداية والنهاية ج 5 ص 311.
2- الطبقات ج 1 ق 1 ص 92 .
3- نفس المصدر: ص 91 .

قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : هل من أحد يأتي بقربة ماء ؟ فأتى رجل من الأنصار بقربة ماء فقال : رشّها على قبر إبراهيم »(1).

ونقل فى الاستيعاب وأسد الغابة عن زبير بن بكار أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) «رشّ على قبره ماءً وعلّم على قبره بعلامة وهو أول قبر رُشَّ عليه الماء »(2).

الصورة

مرقد سيدنا إبراهيم بن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في مقبرة البقيع

الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يعارض الخرافات الفكرية العقائدية :

انكسفت الشمس في نفس اليوم الذي توفّي فيه إبراهيم، ففسر بعض الجهلاء حدوث الكسوف في ذلك اليوم بهذه الوفاة، وأنّ الشمس قد انكسفت للمصاب الأليم الذي ألمّ بالرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والمسلمين جرّاء وفاة إبراهيم . لمّا سمع رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هذا القول، قام خطيباً في المسجد بعد

ص: 200


1- الطبقات الكبرى: ج 1 ق 1 ص 91 .
2- الاستيعاب : ج 1 ص 46، أسد الغابة : ج 1 ص 40 .

إقامة صلاة الآيات فأنكر هذا الرأي الباطل والخرافة الزائفة ليمنع عن نفوذ الانحرافات الفكرية بين المسلمين، فأكد أنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله ويتم الكسوف والخسوف فيهما طبق موازين معينة ونظام دقيق ولا يرتبط بموت أحد أو حياته حتى لو كان عظيماً، فلا ينبغي أن يظنّ المسلمين هذا الظنّ الباطل ولو كان في إبراهيم ابن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والمحبوب إليه .

وقد ذكرت كتب الحديث والتاريخ هذا الكلام الهادي إلى الحق من الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بمضامين و اسناد مختلفة، ومن ذلك كسفت الشمس على عهد رسول الله يوم مات إبراهيم، فقال الناس كسفت الشمس لموت إبراهيم . فقال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : إنّ الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله فإذا رأيتموها فصلّوا »(1).

وفي رواية أخرى أشير إلى خطبة رسول الله في هذا الموضوع: «قام (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فخطب الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموها فافزعوا للصلاة »(2).

مسألتان عاطفيتان واجتماعيتان في سنة رسول الله(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) :

«البکاء والمحافظة علی آثار رجال الدین»

ذكرنا في القسم الأول من هذه الدراسة مجملاً عن حياة عثمان بن مظعون

ص: 201


1- صحيح البخاري: ج 1 ، ح 995 و 996، صحیح مسلم: ج 2 ح 911 و 914 و 915، سنن ابن ماجة: ج 1 ص 400 ح 1261 ، الطبقات ج 1 ق 1 ص 92 .
2- صحیح مسلم: ج 2 ح 901، موطأ مالك ج 1 ص 150، أسد الغابة: ج 1 ص 39، الاستيعاب: ج 1 ص 35، البداية والنهاية: ج 5 ص 311.

وإبراهيم بن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، و تلاؤم بين حرميهما وضريحيهما مع سنة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وما صنعه الرسول في موت كل منهما إذ تم تشييعهما ودفنهما بأمر مباشر منه، وعرفنا هذه الأمور:

1 - بكى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بشدة مرتين في موت عثمان بن مظعون: إحداهما عند وفاته والثانية أثناء تكفينه، بحيث أنّ ارتفاع صوته في البكاء تسبب في بكاء أصحابه أيضاً بصوت عالٍ .

2- أراد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حفظ قبر ابن مظعون وإبقاؤه فجعل قطعة حجرعلى قبره، وكان يداوم الحضور عند القبر ويتلفظ بعبارات تدل على اهتمامه بالمحافظة على قبر ابن مظعون .

3- بكى رسول الله ثلاث مرات عند وفاة ابنه الحبيب إبراهيم (كما فعل لعثمان ابن مظعون )،مرة عند الوفاة وأخرى عند التكفين وثالثة عند الدفن، كما بكي الصحابة أيضاً رجالاً ونساءً عندما شاهدوا بكاء الرسول وحزنه .

4- أمر رسول الله أن يُنقل جثمان إبراهيم بمراسيم خاصة إلى المدينة ليشيعه الصحابة وأن يدفن في البقيع عند قبر عثمان بن مظعون .

5- وضع رسول الله قطعة حجر على قبر إبراهيم - كما فعل هذا بقبر عثمان بن مظعون - ولكن اضافة على هذا الأمر، ولإحكام قبر إبراهيم، أمر برشّ الماء على قبره ليتحول التراب طيناً .

6- إضافةً إلى هذه السنة المحمودة التي أجراها الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فقد قام خطيباً في الناس ليمنع من تسرب الأفكار الخاطئة والمنحرفة في أذهان المسلمين وليعلمهم التوحيد الصحيح ومعرفة الله سبحانه

ص: 202

وإليك تتمة البحث

هكذا صنع الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في موت إبراهيم وعثمان بن مظعون وهذه كانت سنته قولاً وفعلاً في دفنهما والحرص على إبقاء قبريهما والمحافظة على آثارهما ووضع الحجر على قبريهما ورشّ الماء عليهما لإحكامهما

وكما لاحظتم إنّ سنة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كانت واحدة بالنسبة لابنه إبراهيم وعثمان ابن مظعون فقد عمل عملاً واحداً من أول وفاة أي منهما وحتى نهاية عملية الدفن.

ويمكن أن نلخص جميع ما فعله الرسول في جانبين اثنين على النحو التالي:

الجانب الأول : بكاء رسول الله والمسلمين عند وفاتهما :

إنّ إبراز الأسى والحزن والبكاء عند افتقاد الأحبة والأعزاء إنما هو من مستلزمات العاطفة البشرية والرأفة الإنسانية، كما يقول رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «إنّها رحمةٌ وضعها الله في قلوب من يشاء وإنما يرحم الله من عباده الرحماء » (1).

وبالطبع كلما تزيد العاطفة تزداد آثارها وكلما تتعمق الرحمة والرأفة القلبية يشتدّ بكاء صاحبها في النائبات .

وعلى هذا كان تأثير وفاة إبراهيم وعثمان بن مظعون في رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أكثر مما في غيره، فاشتد بكاء النبي حتى أبكى من حوله أشد البكاء .

بكى رسول الله في وفاة ابن مظعون مرتين مرة عند الموت والأخرى عند التكفين، إذ كان النبي يقبل ابن مظعون أثناء تكفينه ودموعه جارية على خديه .

وبكى رسول الله على ابنه إبراهيم ثلاث مرات :

ألف - بكى مع مارية القبطية وسيرين (أم إبراهيم وخالته) إذ كان إبراهيم

ص: 203


1- ذكرنا مراجع هذا الحديث في الفصل السابق .

محتضراً ورسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يقول: إنّ القلب ليحزن وانّ العين لتدمع ولا نقول ما لا يرضى به الرب وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون ».

ب - عند تكفين إبراهيم وهو ابن ستة عشر شهراً، إذ أمر النبي: «لا تدرجوه في أكفانه حتى أنظر إليه » ، ثم جلس إلى جانب جسد ابنه وانحنى عليه وهو يبكي، وبدت آثار البكاء على وجهه ومنكبيه (1).

ج - عند دفن إبراهيم، إذ كرر الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) نفس الجملة: «إن القلب ليحزن ...» عند قبر إبراهيم، وبكى النبي حتى أبكى الصحابة حوله رجالاً ونساءً ولم يمنع النساء من البكاء أحدٌ .

بعبارة أخرى إنّ رسول الله ما بكى ولم تدمع عيناه في فراق إبراهيم وابن مظعون فحسب، بل بدل الموقف عند فراش موتهما وعند قبرهما إلى مجلس عزاء ومأتم، وشارك في هذه المآتم الأربعة صحابة رسول الله وأقرباؤه من الرجال والنساء، وقد صرح التاريخ بإسمي مارية وسيرين من بين تلك النساء .

البكاء حسب الفقه الشيعي :

ناقشنا حتى الآن بكاء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والصحابة من وجهة نظر التاريخ والحديث، ويجدر بنا بعد ذلك أن نشير إلى الحكم الفقهي في هذه المسألة وآراء فقهاء الشيعة والسنة فيها .

بكى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عند وفاة إبراهيم وعثمان بن مظعون، وبجانب قبر إحدى بناته (2)، وبكى لوفاة عدد من أصحابه، وكذلك في استشهاد ابن عمه

ص: 204


1- البداية والنهاية : ج 5 ص 310 .
2- صحيح البخاري: ج 1 كتاب الجنائز، ب 70 باب من يدخل قبرالمرأة ، ح 1277 .

جعفر بن أبي طالب (1) وعمه حمزة (2)، وأمر ودعا نساء المدينة ليبكين على حمزة (3) وسار على سنته أهل بيته الطاهرين، فبكت الزهراء (علیها السلام) لوفاة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (4) وعندما ماتت أختها رقية (5) ، وبكى علي بن الحسين (علیهما السلام) في استشهاد والده العظيم بكاءاً مستمراً طيلة حياته . هذه نماذج من بكاء الرسول وأهل بيته كما ورد في كتب الشيعة والسنة مراراً وتكراراً حتى وصل إلى التواتر، وبناءً على هذه السنة القولية والفعليّة أفتى فقهاء الشيعة على جواز البكاء على الميت ولو بصوت عال كما قالوا باستحباب البكاء في موارد خاصة مثل البكاء على النبي وأهل بيته، ويشترط في ذلك ألّا يختلط بقول أو فعل محرّم مثل النوح بالباطل أو على مرأى ومسمع غير المحارم .

ويرى المؤلف أنّ كلام ( سيرين) أيضاً - والذي نقلناه في الصفحات السابقة - ينطبق تماماً على هذه الشروط، فهي تقول: «كلما صحت أنا وأختي ما ينهانا فلما مات نهانا عن الصياح ».

فلم يمنع النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مارية وسيرين من الصياح في موت إبراهيم ما دام المجلس خالياً من الأجانب ولم يطلع بعد أحدٌ على موته، فلما مات وحضر الآخرون نهاهنّ عن الصياح فقط لا عن عن البكاء .

ص: 205


1- الاستيعاب: ج 1 ص 275 .
2- السيرة الحلبية: ج 2 ص 323 .
3- وسائل الشيعة ج 2 ب 70 وب 87 من أبواب الدفن.
4- سير في الصحيحين: ج 2 ص 401 - 402 .
5- جواهر الكلام: ج 4 ص 394 .

البكاء في فقه أهل السنة:

إتفق الأئمة الأربعة لأهل السنة مع فقهاء الشيعة في جواز البكاء على الميت وإن اختلفوا معهم في كيفيته وبعض جزئياته كما هو الحال في الفروع الفقهية الأخرى .

يقول الجزري: «يحرم البكاء على الميت برفع الصوت والصياح عند المالكية والحنفية وقال الشافعية والحنابلة مباح، أمّا هطل الدموع بدون صياح فإنه مباح باتفاق»(1).

الخلاف في الفعل

رأينا أنّ البكاء عند افتقاد الأعزاء أمرعاطفي وهو مباح بناء على التاريخ والحديث والسنة النبوية الشريفة، وقد اتفق الفقهاء سنة وشيعةً على إباحته، إلّا أنّ هذه السنة تواجه اختلافاً في الآراء في العمل، فهناك نظرتان متناقضتان بين المسلمين، فشيعة أهل البيت (علیهم السلام) واتباع السنة الحقيقية يجوزون البكاء في العمل أيضاً، بناء على الفكر الديني والسيرة النبوية الشريفة وفتاوى الفقهاء، بل يرون البكاء أمراً مستحباً في فراق الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والأئمة الأطهار (علیهم السلام) وما جرى عليهم من الظلم، فكان البكاء من شعائر الشيعة على مر التاريخ ومن مميزاتهم وأصبح حقيقة تاريخية خالدة وواقعاً عينياً ملموساً لا يقبل الشك .

إلّا أنّ أكثر أهل السنة يمنعون عن هذا الأمر ويعتبرون البكاء عملاً قبيحاً ويتهمون الشيعة في ذلك بارتكاب منكر لا يغتفر ، ويعتبرون بكاء الشيعة في عاشوراء الحسين (علیه السلام) أو عند قبر النبي وقبور أولياء الله الصالحين عملاً محراماً وبدعةً منكرة، وكم سمعنا جملة «يا حاج حرام » من الشرطة السعودية وكم

ص: 206


1- الفقه على المذاهب الأربعة: ج 1 ص 533 .

لاحظنا نظراتهم الحانقة عندما يبكي الحجاج بجوار حرم الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أو أئمة البقيع (علیهم السلام)، و رغم أنّ أهل الحجاز على المذهب الحنبلي والبكاء على فقههم جائز ولو كان بالصياح والعويل .

الخليفة الثاني يمنع البكاء:

ذكرنا أنّ أكثر أهل السنّة وبالرغم من جواز البكاء حسب السنة والحديث ووفق آراء الأئمة الأربعة لأهل السنة يحرمون البكاء ويمنعون عنه، ولعل السبب في ذلك منع الخليفة الثاني منه، فهو لم يخالف البكاء فحسب بل كان يصرّ على ذلك ويمنع الناس منه الناس منه عملياً، حتى ولو كان بالضرب وإلقاء الحجارة على الباكين أو إلقاء التراب على وجوههم ورؤوسهم، وقد عمل برأيه هذا طوال سنوات خلافته بل حتى في أيام الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وإليك نماذج من ذلك مروية من كتب أهل السنة:

1- يروي البخاري في صحيحه حديثاً عن بكاء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والصحابة عندما مرض سعد بن عبادة، ثم يقول : وكان عمره يضرب فيه بالعصا ويرمي بالحجارة ويحثي بالتراب »(1).

2- يروي أحمد بن حنبل وآخرون عن ابن عباس أنّ النساء كن يبكين عند موت رقية ابنة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وكان عمر يضربهنّ بالسوط، فقال له رسول الله: «دعهنّ يبكين» ، فقال عمر: «ابكين وإياكنّ ونعيق الشيطان» أي ولا تخلطن بكاء كنّ بالحرام .

وفي رواية الواقدي والذهبي أنّ عمر كان يضربهن فأخذ النبي(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بیده

ص: 207


1- صحيح البخاري: كتاب الجنائز، باب البكاء عند المريض، ذيل الحديث 1242 .

فقال: «مهلاً يا عمر دعهن يبكين»(1).

3- يروي أحمد بن حنبل أيضاً أنّ بعض النساء كنّ يبكين في جنازةٍ وعمر يمنعهنّ، فقال رسول الله: «دعهنّ، فإنّ النفس مصابة والعين دامعة والعهد حديث »(2).

يشير البخاري في صحيحه إلى ما فعله الخليفة الثانى عندما اجتمعت النساء في موت أبي بكر، فيقول: «وقد أخرج عمر أخت أبي بكر حين ناحت » (3) .

يذكر الطبري هذه الواقعة بالتفصيل ويقول: «لمّا توفي أبو بكر أقامت عليه عائشة النوح فأقبل عمر بن الخطاب حتى قام ببابها فنهاهنّ عن البكاء على أبي بكر، فأبين أن ينتهين، فقال عمر لهشام بن الوليد ادخل فاخرج إلي إبنة أبي قحافة أخت أبي بكر، فقالت عائشة لهشام حين سمعت ذلك من عمر: إنّي أحرّج عليك بيتي، فقال عمر لهشام: ادخل فقد أذنت لك، فدخل هشام فأخرج أم فروة أخت أبي بكر إلى عمر فعلاها الدرّة فضربها ضربات فتفرق النوح حين سمعوا ذلك»(4).

يقول ابن أبي الحديد: «أول من ضربه عمر بالسوط في خلافته «أم فروة »بنت أبي قحافة، لأنه عندما مات أبو بكر ناحت النساء عليه فنهاهنّ عمر عدة مرّات فلم ينتهين، فأخرج أم فروة من بينهن وضربها بالسوط، فتفرقت النساء عندما رأين ذلك (5).

كانت هذه نماذج من منع الخليفة الثاني عن بكاء المسلمين في موت أعزائهم

ص: 208


1- مسند أحمد بن حنبل : ج 1 ص 335، الطبقات ج 8 ص 73، سير أعلام النبلاء: ج 2 ص 252، وفاء الوفا: ج 3 ص 894 .
2- مسند أحمد بن حنبل: ج 2 ص 333 .
3- صحيح البخاري: ج 3 ص 243 كتاب الخصومات، باب إخراج أهل المعاصي .
4- تاريخ الطبري: ج 2، ص 614 ، حوادث ما بعد موت أبي بكر (السنة الثالثة عشر ) .
5- شرح نهج البلاغة : ج 1 ص 181 .

وفقد أقربائهم .

نستنتج من هذا البحث القصير أمرين:

1- إن تصلّب الخليفة في موضوع عاطفي عام الذي يشمل عموم ا وانعكاسه في كتب الحديث والتاريخ التي تداولها أهل السنة طوال القرون السالفة، تسبب بالثقافة التي نشاهدها اليوم (ثقافة المنع عن البكاء وتحريمه).

إذن من الطبيعي أن يعتبر جماعة من المسلمين البكاء على الميت عملاً قبيحاً منكراً ويتهموا الباكين بأنهم مذنبون آثمون، فهذه العقلية المتصلبة مستمدة من تلك الحقيقة التاريخية المؤسفة .

2 - يتضح من تلك الحقيقة التاريخية وتصلّب الخليفة، سبب إيجاد بيت الأحزان إلى جانب البقيع، واختيار ذلك المكان النائي لبكاء الزهراء (علیها السلام) أباها، فمن البديهي أنّ مَنْ يضرب أخت أبي بكر عند موته ويضرب النساء أمام رسول الله ليمنعهنّ من البكاء، لن يسمح لامرأة أن تبكي الرسول في فراقه وتقول: «يا أبتاه، إلى جبرئيل ننعاه يا أبتاه، جنة الفردوس مأواه»(1).

ماذا على مَنْ شمّ تربة أحمد ***ألا يشم مدى الزمان غواليا

صبّت عليّ مصائب لو أنها ***صبت على الأيام صرن لياليا(2)

ب - اهتمام رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بإخلاد ذكراهما وحفظ قبريهما:

النتيجة الثانية التي نستفيدها من سيرة رسول الله وسنته في دفن إبراهيم وعثمان بن مظعون هي الاهتمام بآثار وقبور الشخصيات الدينية السامية وأقرباء

ص: 209


1- صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب آخر ما تكلم به النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، سنن النسائي: ج 4 ص 13 باب البكاء على الميت .
2- سير أعلام النبلاء: ج 2 ص 134 .

رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، واعتبار ذلك واجباً على المسلمين كافة، وقد أظهر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) اهتمامه بهذا الموضوع قولاً وعملاً في وفاة إبراهيم وعثمان بن مظعون، فهو القائل: «ادفنوا عثمان بن مظعون بالبقيع يكن لنا سلفاً » ، وقد كرر كلامه بعد ثماني سنوات في موت إبراهيم: «الحقوه بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون » ، وهو الذي وضع حجراً على قبر ابن مظعون وقال: «يكون علماً ليدفن إليه قرابتي » وقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) «لأجعلنّک للمتقين إماماً » . هذه نماذج من اهتمامه بإخلاد ذكرى ابن مظعون باعتباره «سلفاً صالحاً » وأنموذجاً من أصحابه الأوفياء ممن يجب أن يقتدي بهم كل الناس عبر القرون المتمادية باعتبارهم قدوة للزهد والتقوى والتضحية والاستقامة كما يجب إخلاد قبره بعلامة مشخصة باعتباره مثالاً يحكي عن تلك الحقائق .

وكذلك فإنّ انتقال جثمان إبراهيم من حي بني مازن إلى المدينة بمراسم خاصة على يد أمير المؤمنين (علیه السلام) وبأمر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وإجراء الغسل والتكفين ثم التشييع والدفن تحت إشرافه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ووضع الحجر ورشّ الماء على القبر، كل ذلك يدل على اهتمام رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بإبقاء قبر إبراهيم وجلب انتباه المسلمين إليه.

أمر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بنقل جسد هذا الطفل الذي كان عمره ستة عشر شهراً إلى البقيع، مع أنّ الصحابة كانوا يظنون أنّ الرسول سيدفنه في المقبرة العامة لبني مازن خارج البلد، أو أنّه يتبع الرسوم المتداولة في تلك الأيام بالنسبة لأطفال في سن إبراهيم، فيدفنه في زاوية حديقة أو تحت نخلة، ولكنّ الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال: «لحقوه بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون » . نعم، يجب أن يدفن إبراهيم في البقيع، أي في المقبرة الرسمية للمدينة والتي ستحوي في المستقبل مراقد آلاف من الصحابة ورجال العلم والحديث وقراء القرآن

ص: 210

والشخصيات، حتى يبقى ذكره خالداً في الأذهان وقبره علماً على مرأى المسلمين .

هذه هي سيرة رسول الله الله وسنته في ابنه إبراهيم الذي لم يتجاوز ستة عشر شهراً وكذلك في أحد صحابته ابن مظعون .

تأسي المسلمين برسول الله

واتّبع المسلمون سنة نبيهم الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فاهتمّوا بقبور كبار رجال الدين منذ القرون الإسلامية الأولى وخلّدوا بذلك ذكراهم وآثارهم، وكانوا في ذلك على بصيرة من أمرهم إذ رأوا كيف قاوم رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الأفكار المنحرفة التي فسرت كسوف الشمس بوفاة إبراهيم ابن النبي ، فقام (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) خطيباً فدفع تلك الآراء الفاسدة

والخرافات الباطلة ولكنه أرشد المسلمين إلى إبقاء القبور والمحافظة على الآثار .

واستلهم المسلمون في سيرة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في حفظ قبور كباررجال الدين وذرية رسول الله وشهداء الإسلام فبنوا عليها مباني تحفظها للأجيال القادمة من صروف الأيام وتطاول الزمان، وكما أشرنا في تاريخ حرم أئمة البقيع فقد تم دفن الأئمة الأربعة تحت بناء داخل بيت عقيل كما هو الحال في مدفن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فكانت هذه القبور منذ أواسط القرن الثاني للهجرة داخل حرمٍ ومزارٍ عامٍ وكذلك الأمر بالنسبة لقبر حمزة، والتاريخ يشهد على ذلك كله .

واتّبع المسلمون هذا الرأي نفسه في سائر الشخصيات الدينية مثل الأئمة الأربعة لأهل السنة، واستمرت هذه السنة طوال التاريخ ولم يواجه هذا الرأي الصائب والفكر السديد أية مخالفة أو اعتراض إلى أن ظهر شخص في أواخر القرن السابع الهجري« يدعى أحمد بن تيمية» (1) ذو عقائد منحرفة في أصول الدين وفروعه،

ص: 211


1- ألّف ابن تيمية كتباً لإثبات عقائده الباطلة، فردّ عليه علماء زمانه كتابةً ومناظرةً، وأصدروا فتاوى في انحرافه . وقد خالفه علماء الإسلام في كل من مصر والحجاز والعراق والشام، ودخل ابن تيمية السجن عدة مرات إلى أن هلك في سجن دمشق سنة 728 .

فكان منحرفاً في أصل التوحيد إذ يعتقد بالتجسم، أما بالنسبة لاحترام القبور المتعلقة بكبار رجال الدين، وإقامة البناء والقبة عليها وإحداث المسجد بجوارها فلم يحرّم كل ذلك فحسب بل يعتبره كفراً وإلحاداً وإذا فعل المسلم مثل ذلك فهو كافر خارج عن ربقة الإسلام، فإذا لم يتب وجب قتله، وحكم ابن تيمية بوجوب محو آثار القبور والقبب والأبنية المقامة عليها وحتى المساجد المبنية إلى جنبها .

إندثرت عقائد ابن تيمية وتلميذة « ابن قيم » بموتهما، العقائد الباطلة المنحرفة التي واجهت الردود من قبل العلماء، والتي كانت مغايرة للمعتقدات الصحيحة وأصبح ذكره بغيضاً مكروهاً واعتبرت أفكاره باطلة مخالفة للدين ومناقضة للأصول الثابتة في الإسلام، إلّا أنّه وبعد مرور ستة قرون أحيى أفكاره رجل في «نجد» يدعى «محمد بن عبد الوهاب » ، فخالفه علماء زمانه وطردوه مثل «ابن تيمية » وألفوا كتباً في الرّد عليه حتى إنّ أخاه «سليمان بن عبد الوهاب » ألف كتاباً(1) ونشره في الردّ عليه غير أنّ محمد بن عبد الوهاب اتّحد مع رؤساء بعض القبائل العربية وساندته بعض الدول الغربية التي تحاول إحداث الفرقة بين المسلمين، فاستطاعت جماعته أن تتسلط على الحكم في منطقة الحجاز، فكان في مقدمة أعمالهم هدم الآثار والقبب التي بناها المسلمون طوال قرون، حتى الآثار التي كانت تتعلق برسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأهل بيته الطاهرين، فأبادوا القبب المبنية على قبور ذرية رسول الله وأقربائه وعشيرته وأصحابه في البقيع والمعلّى

ص: 212


1- إسم كتابه «الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية » وهو من أحسن الردود على عقائد الوهابيين، طبع هذا الكتاب سنة 1306 ه- لأول مرة في 64 صفحة، وأعيد طبعه سنة 1396 ه- في اسطنبول (أفسيت) . توجد نسخة منه في المكتبة العامة لآية الله العظمى المرعشي النجفي في قم ضمن مجموعة من الكتب والرسائل المؤلفة في الرد على الوهابيين .

وفي الطائف، أبادوها جميعاً عن آخرها ولو لم يخشوا غضب المسلمين في أنحاء العالم لما استثنوا قبة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وقبره الشريف أيضاً .

فلو أنّ مروان بن الحكم ضاق ذرعاً من قطعة حجر وضعها رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بيديه على قبر عثمان بن مظعون فنقلها إلى قبر عثمان بن عفان، فإنّ اتباع مروان لم يمكنهم أن يصبروا أبداً على وجود كل هذه الآثار والأضرحة والقبور لذرية الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وأقربائه ، فلم ينقلوها - مثل مروان - إلى مكان آخر يرضيهم، ولم يحتفظوا بها في المتاحف باعتبارها آثاراً دينية تاريخية قيمة ومن أقدم آثار الفن الإسلامي، بل أحرقوها أو قطعوها قطعاً حتى لم يبق منها اليوم أي أثر يذكر .

إشكال وجواب :

ربما يتمسك اتباع ابن تيمية بالمسألة التالية ليبرروا أعمالهم وعقائدهم، وهو:

رغم أنّ فعل رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في المحافظة على قبر ابن مظعون وإبراهيم أمر مسلم وثابت من وجهة نظر الحديث والتاريخ ولا يمكن إنكاره، غير أنّ عمله هذا ليس إلّا أمراً بسيطاً لا أهمية له، فقد وضع قطعة حجر على تراب القبر وسوّى القبر برشّ الماء عليه، لكنه لم يأت بطابوق أو جص، ولم يبن قبةً ولا بناءً، ولم يشعل شمعةً أو مصباحاً، فلا يقاس الوضع الموجود في المراقد والمزارات اليوم بما فعله رسول الله أو بالقبور الموجودة في زمنه .

الجواب:

إنّ فعل رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يثبت مشروعية المحافظة على القبور وإبقاء آثار الشخصيات الدينية البارزة، بل واستحباب ذلك تأسياً برسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ويؤيد ذلك الحديث والتاريخ . أما كيفية العمل فتتبع ظروف الزمان والمكان، فالوضع

ص: 213

الاقتصادي القاسي أيام الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لم يكن ليسمح بأكثر مما فعله رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فنرى في معركة أحد أنه اضطر المسلمون بأن يكفنوا كل شهيدين في كفن واحد، يروي جابر بن عبد الله: «أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد»(1).

ويروى أنه: «كفن حمزة في نمرة إذا تركت على رأسه بدت رجلاه وإذا غطي بها رجلاه بدا رأسه، فجعلت على رأسه وجعل على رجليه شيء من الإذخر»(2).

وعندما يأتى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ضيف وتقول زوجاته كلهنّ أنه لا يوجد في بيوتهنّ غير الماء، ثم يستضيف أحد الصحابة هذا الضيف ويقدم له طعاماً قليلاً كانوا قد أعدّوه لأطفالهم ، ولكي يخفوا على الضيف هذا السر يطفئون مصباح البيت وينام أفراد الأسرة كلهم تلك الليلة جائعين، فنزلت الآية الكريمة:

« وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ»(3) في شأنهم . و ... (4)

إذن ففي تلك الظروف الاقتصادية القاسية التي عاشها أهل المدينة في عهد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لم يمكن أن يزيد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على فعله شيئاً، كما أنّ مسجد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وقبره الشريف أيضاً مع أهميتهما البالغة كانا في أبسط صورة ممكنة .

ص: 214


1- صحيح البخاري: كتاب المغازي، الحديث 3851 .
2- اُسد الغابة : ج 2 ص 49، والإذخر : نبات بري.
3- سورة الحشر : 9 .
4- صحيح البخاري: كتاب فضائل الصحابة، الحديث 3587 .

نظرة إلى كيفية بناء مسجد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وقبره الشريف:

ولتوضيح ما ذكرناه نلقي نظرة عابرة إلى كيفية بناء مسجد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبساطته منذ ذلك الزمان حتى العهد العثماني، وكذلك كيفية قبره الشريف بعد وفاته:

نستفيد من دلالة التاريخ والحديث على كيفية بناء مسجد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّ هذا البناء كان في أول وهلة عبارة عن حائط قصير من اللبنة والآجر ودون أن يكون له سقف وبعد معركة خيبر وازدياد عدد المسلمين أعيد بناء المسجد وتم توسيعه، وفي هذه المرحلة بنيت الحيطان وارتفعت بلبنتين بدلاً من لبنة واحدة وكانت أرضه مفروشة بالرمل الناعم بدلاً من الحصير.

ويستفاد من أحاديث عديدة أنه خلال بعض فصول السنة كان المصلّون يتألمون كثيراً من أشعة الشمس الحارقة حتى أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان يأذن بتأخير الصلاة ليمتد الظل ويلطف الجو فيقول له : « إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة» (1).

إلّا أنّ الحر الشديد جعل الصحابة يطلبون صنع سقف للمسجد، ووافق النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأمر بذلك ، ففي الحديث: «ثم اشتد عليهم الحرّ فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فظلل ، قال : نعم » . فوضعوا عدة أعمدة من النخيل على أرض المسجد وغطّوها بسعف النخل والحشيش البرّي، ولم يمنع هذا السقف من نزول المطر في المسجد فطلب الصحابة ثانية من الرسول: «لو أمرت بالمسجد فطيّن » ، فأجاب رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : « لا ، عريش كعريش موسى»(2).

ص: 215


1- صحيح البخاري: البخاري: ج 1 ب 8 من مواقيت الصلاة والحديث مذكور هناك ضمن أربعة أحاديث وأيضاً في سنن الترمذي: ج 1 ص 105 و 106 .
2- وفاء الوفا: ج 1 ص 336 .

يروى أنّ الرياح كانت تلقي أوراق الشجر والحشيش من سقف المسجد فاضطروا إلى وضع الطين في بعض أنحاء السقف، فكان هذا الطين ينزل مع المطر داخل المسجد، وكان يصلي النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وسط الماء العكر وكان يُشاهد الطين على وجهه

وضح الحصى على أرض المسجد

رُوي في سنن أبي داود عن أبي الوليد أنه سأل عبد الله بن عمر عن الحصى الذي في المسجد، فقال: مُطرنا ذات ليلة فأصبحت الأرض مبتلّة، فجعل الرجل يأتي بالحصى في ثوبه فيبسطه تحته، فلما قضى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الصلاة قال: «ما أحسن هذا » (1) ، ففعل سائر الصحابة مثل ذلك فغطّوا أرض المسجد كلها بالحصى.

وبقي المسجد على حاله إلى وفاة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فكانت الحيطان من اللبن والسقف من سعف النخل والأعشاب البرية، وتدل الروايات على أنّ في عهدي أبي بكر وعمر ظل المسجد على ما هو عليه مع تغيير بسيط في سقفه، أما في خلافة عثمان فقد اتسعت رقعة المسجد وتجدد بناؤه وسقفه .

روي ذلك في صحيح البخاري وسنن أبي داود عن عبد الله بن عمر أنّ أن مسجد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان مبنياً فى عهده من اللبن وكان سقفه من سعف النخل وفي خلافة أبي بكر استهلك بعض أجزائه فرمّموه على حاله، وصنع عمر أيضاً مثله ولم يغير في المسجد شيئاً، أما عثمان فقد وسّع المسجد فبنى حيطانه من الحجارة وسقفه من الألواح الصلبة (2).

ص: 216


1- سنن أبي داود: ج 1 ص 108 باب في حصى المسجد .
2- صحيح البخاري: ج 1، كتاب المساجد ح 435، سنن أبي داود: ج 1 ص 106 باب في بناء المسجد .

إنارة مسجد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) :

روي في سنن ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري أنه قال: «أول من أسرج في المساجد تميم الداري » (1) . يبدو من هذه الرواية أنّ المسجد لم تكن فيه إنارة ومصابيح في عهد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ويؤيد ذلك الشواهد التاريخية والروائية الأخرى، إذ لم نجد خلال بحثنا شيئاً سوى ما ذكر في تميم الداري، ومن الواضح أنّ الظروف السائدة وكيفية بناء المسجد أيضاً كانت تستوجب ذلك

مواصفات قبر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)

روي في سنن أبي داود عن عمرو بن عثمان عن قاسم(2) أنه أتى عائشة فاستأذن منها ليرى قبور رسول الله وصاحبيه عن قرب، يقول: «فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء »(3).

هكذا كان بناء مسجد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حتى عهد الخليفة الثالث، وهكذا كان قبره الشريف وقد طرأ عليهما التغيير حسب ظروف كل زمان، فاتسع المسجد وأحكم بناؤه وأبدعوا في زخرفته حتى وصل المسجد والحرم النبوي الشريف إلى ما هو عليه اليوم، فيعتبر الآن في مقدمة مساجد العالم اتساعاً وجمالاً وزينةً

ص: 217


1- سنن ابن ماجة ج 1 ، ص 250 ، كتاب المساجد: ح 760، الإصابة : ج 1 ص 184 . كان تميم بن أوس الداري من نصارى فلسطين دخل المدينة في السنة التاسعة للهجرة وأسلم . وكان من القصّاصين فيروي القصص للناس في عهد عمر، وزادت قصصه في عهد عثمان ومن بعده انتقل إلى الشام وتوفي في السنة الأربعين، الإصابة: ج 1 . ص 182 ، الإستيعاب : ج 1 ص 184 سیر أعلام النبلاء: ج 2 ص 0448
2- هو قاسم بن محمد بن أبي بكر، ابن أخي عائشة .
3- سنن أبي داود : ج 2، کتاب الجنائز ص 192 .

وقوةً في البناء، فهو الأول في العالم أو الثاني في عظمته وشموخه بمآذنه المرتفعة في السماء وقبته الخضراء التي تبهر الأعين وتجذب القلوب .

وخلاصة الجواب أنه: إذا كانت بساطة القبور في عهد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) دليلاً على عدم جواز الوضع المألوف اليوم في مراقد الشخصيات الإسلامية، فيجب أن يكون الأمر كذلك في مسجد النبي وسائر المساجد أيضاً، وعلينا إذن نرفض التغييرات التي أجريت على هذا المسجد طوال أربعة عشر قرناً وعلى أيدي كبار الشخصيات الإسلامية وتحت إشراف علماء الإسلام، وإذن يجب أن نهدم كل هذا البناء وهذه الزخارف ونعيد المسجد إلى صورته الأولى .

هل يقبل اتباع ابن تيمية هذا الرأي ويتبعون هذه الطريقة ؟!

الصورة

منظر من مقبرة البقيع والحرم النبوي الشريف

ص: 218

الفصل الرابع : حرم نساء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبناته

اشارة

ص: 219

ص: 220

حرم نساء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)

إشارة

كان لنساء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حرم في البقيع وقد هدمه الوهابيون كسائر المراقد والقبب التي كانت فيها ، وليس لدينا تفاصيل كثيرة عن كيفية هذا الحرم، إلّا أنّ تاريخ بنائه معلوم تماماً ؛ إذ يروي السمهودي (المتوفى سنة 911ه-) أنّ هذا الحرم لم يكن مبنياً في زمن من يروي عنه وهو المطري (المتوفى سنة 741ه- ) بل كان حظيراً مبنياً بالحجارة كما ذكره المطري فابتنى عليه قبة الأمير برديبك المعمار سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة»(1).

إذن فإنّ حرم نساء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان له بناء وقبة منذ سنة 853 وبناءً على نقل بعض الكتاب أنه كان للحرم ضريح أيضاً .

يقول المرحوم فرهاد ميرزا:

«... ثم ذهبت لزيارة زوجات رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وهنّ ثمانية أشخاص في ضريح واحد وقد كتب اسم كل منهنّ فوق قبرها على خشبة »(2).

عدد المدفونات في هذا الحرم

يروي الدياربكري (المتوفى سنة 982 ه-) عن مناسك الكرماني (المتوفى سنة 786 ه-) (3) أنّ فيها قبور أربع من أزواج النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) »(4).

ص: 221


1- وفاء الوفا : ج 3 ص 917 .
2- رحلة فرهاد ميرزا ص 156 .
3- شمس الدين محمد بن يوسف الكرماني فقيه أصولي، محدث ومفسر ومتكلم . له تأليفات عديدة منها شرح صحيح البخاري والتعليقة على تفسير البيضاوي وكتاب مناسك الحج (نقلاً معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة).
4- تاريخ الخميس: ج 2 ص 176 .

يقول ابن النجار (المتوفى سنة 643 ه- ) - وهو من أوثق مؤرخي المدينة - في قبور ازواج النبي(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) :

وقبور أزواج النبي وهنّ أربعة قبور ظاهرة ولا يعلم تحقيق ما فيها منهنّ»(1).

قول ابن النجار واضح وصريح في أنّ في زمانه أي في أوائل القرن السابع لم يكن فى ذلك المكان سوى أربعة قبور .

ولكن يبدو من كلام السمهودي أنّ في زمانه أي في أوائل القرن العاشر كان هناك حرمٌ مسقّف وقبةٌ، ويعرف المكان بأنّه مدفن أزواج النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ولكن دون وجود أثر لتلك القبور الأربعة التي ذكرها ابن النجار، حيث يقول السمهودي بعد نقله كلام ابن النجار الذي ذكرناه: «قلت: باطن هذا المشهد كلّه أرض مستوية ليس فيها علامة قبور »(2).

الصورة

قبور أزواج النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في مقبرة البقيع

ص: 222


1- أخبار المدينة ابن النجار: ص 154.
2- وفاء الوفا: ج 3 ص 917 .

قول ابن شبة أقدم مؤرخي المدينة:

يذكر ابن شبة (المتوفى سنة 262ه-) في قبر زوجتي النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أم سلمة وأم حسبة خبراً يدل على انفصال قبريهما عن بعض وكذلك عدم دفنهما في المكان المشهور بمدفن زوجات النبي وهذا ما يؤيد قول ابن النجار بأنّ الحرم المنسوب بزوجات النبي لا يشملهن جميعاً فلم تدفن كل زوجات النبي تحت القبة المعروفة بقبة الزوجات ».

يروي ابن شبة في قبر أم سلمة رواية عن محمد بن يحيى أنّ محمد بن زيد ابن علي أراد أن يجهز لنفسه قبراً بجنب موضع فاطمة (بيت الأحزان) فظهرت من تحت الأرض قطعة حجر مكسورة كُتب عليها «أم سلمة زوج النبي » فعلموا أنّه قبر أم سلمة ولذا أوصى بدفنه في مكان آخر .

أما قبر أم حبيبة فقد روى ابن شبة عن يزيد بن سائب عن جده أنّ عقيل بن أبي طالب حفر في بيته بئراً فظهرت قطعة حجر كتب عليها: «قبر أم حبيبة بنت صخر بن حرب » ، فلما رأى عقيل ذلك أمر بالبئر فملئت وبنوا عليها سقفاً باعتبارها « مدفن أم حبيبة » . يقول يزيد بن سائب: « فدخلت ذلك البيت فرأيت فيه ذلك القبر »(1).

يعتمد رأي المتأخرين على الاشتهار العرفي :

يبدو من مجموع ما رويناه في حرم نساء النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عن المراجع الرئيسية الموثوقة بها أنّ الحرم المشهور ب- «قبة الزوجات» يقع داخل البقيع وله قِدَمٌ

ص: 223


1- تاريخ المدينة لابن شبة : ج 1 ص 120، وقد ذكر هذان الأمران باختلاف بسيط في وفاء الوفا: ج3 ص 93 ، وفي تاريخ المدينة لابن النجار ص 155.

تاريخي، فكان في القرون الأولى مجرد حائط يفصل تلك القبور عن سائر ما في البقيع، وعند توسع فن العمارة في النصف الثاني من القرن التاسع بني له بناء وعليه قبة، ولا نعلم حصراً عدد النساء المدفونات فيه، فيرى بعض المؤرخين والمحدثين القدماء مثل الكرماني وابن النجار انّهنّ أربعة وأنّه لم يكن هناك أكثر من أربعة قبور.

أمّا الكتاب في القرون الأخيرة فقد اعتبروا ذلك الحرم مدفناً لجميع نساء النبي الثمان اللائي عشن معه في المدينة ولم تكن هنا علائم في الحرم تدل على هذا العدد من القبور فلم تأت آراء المتأخرين إلّا من الاشتهار العرفي ونقل الأقاويل، لأنّ أمثال هذه الحقائق التي يهتمّ عامة الناس بها لما لها من اعتبارات معنوية ومقدسة، إنما تتكوّن بمرور الأيام وتطاول السنين وكان الاعتبار في هذا الرأي أنّ رسول الله عاش في المدينة مع ثمان زوجات فإذن قد دُفنّ في مكان واحد وتحت هذه القبة .

وإليك نماذج من تلك الآراء :

1- لاحظنا في كلام فرهاد ميرزا أنه قال:

قبور زوجات النبي الثماني كلها في ضريح واحد وقد وضع اسم كل واحدة منهنّ على الضريح ».

2 - يقول الكاتب الإيراني نائب الصدر الشيرازي في مذكرات رحلته:

«إنّ زوجات النبي اللائي توفين في المدينة مدفونات في بقعة واحدة »(1).

3- علي حافظ ( والذي كان حيّاً سنة 1405 هجرية) ألف كتابه في السنوات الأخيرة وبعد هدم آثار البقيع، وهو من أهالي المدينة المنورة والمُتوقَّع منه أن

ص: 224


1- رحلة نائب الصدر: ص 229 ، وقد سافر إلى الحرمين الشريفين سنة 1305 .

يعرف دقائق الأمور في المدينة أكثر من غيره من الرّحالة والكتاب، لكنه يكتب في كتابه على نفس الاشتهار العرفي المذكور:

وتقع قبور زوجات النبي على بعد خمسة أمتار جنوب قبر عقيل وعلى الجانب الأيسر من الممرّ، وهنّ : 1- السيدة عائشة -2 - السيدة سودة 3- السيدة حفصة -4 السيدة زينب -5- السيدة أم سلمة 6 - السيدة جويرية 7 - السيدة أم حبيبة 8 - السيدة صفية » . ثم يقول: «أما السيدة خديجة بنت خويلد فهي في مكة والسيدة ميمونة في سَرِف(1)»(2).

كانت هذه أقوال بعض الكتاب في عدد زوجات النبي المدفونات في تلك البقعة، ولكن وكما لاحظتم إنّ الشواهد التاريخية تنفي هذا الرأي أو على الأقل تشكك فيه .

حرم بنات النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)

إشارة

ومن المراقد المهدومة، القبة والحرم المنسوبين إلى بنات رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهنّ زينب ورقية وأم كلثوم .

تقول المراجع الرئيسية إنّ قبور البنات الثلاثة لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) دون فاطمة الزهراء (علیها السلام) واقعة في البقيع، لأنّ وبعد أن أعلن الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) رسمياً أن تكون الواقعة البقيع هي المقبرة العامة للمدينة، دُفن جميع أقربائه الذين توفوا أيام حياته في البقيع، وتدلّ النصوص والروايات التاريخية على ذلك أيضاً، خصوصاً بالنسبة

ص: 225


1- يقول ياقوت الحموي في معجم البلدان سَرف (بفتح الاول وكسر الثاني) تقع على بعد ستة أميال أو على اثني عشر ميلاً أو تسعة عشر ميلاً من مكة، حيث توفيت ميمونة زوجة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هناك ودفنت فيها .
2- فصول من تاريخ المدينة: ص 168 .

لبنات النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

يقول البيهقي عندما توفيت إحدى بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحقي بفرطنا عثمان بن مظعون»(1).

يروي ابن شبة هذا الحديث في حق رقية بنت النبي ويقول: «لمّا ماتت رقية بنت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : الحقي بسلفنا الخير عثمان بن مظعون »(2).

يبدو من أقوال المتأخرين أنّ بنات رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الثلاثة مدفونات في البقيع وفي مكان واحد، أي تحت سقف واحد وقبة واحدة ويضم قبورهن ضريح واحد داخل حرم يخصهنّ .

يقول السيد إسماعيل المرندي الذي زار الحرمين الشريفين سنة 1255 الهجرية، في المراقد الموجودة في ذلك التاريخ: «... ومنها قبة بنات رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وهنّ في ضريح واحد وعلى حد قول أهل السنة هنّ رقية وأم كلثوم وزينب »(3).

ويكتب فرهاد میرزا

«وأخيراً زرت في رجعتي بنات رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) رقية وأم كلثوم وزينب وكلهنّ في مكان واحد » (4).

يعرض إبراهيم رفعت باشا صورةً للبقيع كما كانت في زمنه قبل الهدم، وتبدو عدة قبب في الصورة فيعرفها كالتالي:

«القبّة الواقعة على يمين الناظر لحرم إبراهيم والثانية هي قبة عقيل والثالثة

ص: 226


1- سنن البيهقي: ج 4 ص 76 .
2- تاريخ المدينة المنوّرة: ج 1 ص 102 .
3- توصيف المدينة، نقلاً عن المجلة الفصلية «ميقات الحج » العدد: 5 ص 118 .
4- رحلة فرهاد میرزا ص 156 .

لزوجات النبي والرابعة لبناته رقية وأم كلثوم وزينب »(1).

يذكر علي حافظ والذي هو من الكتّاب المتأخرين مكان حرم وقبور بنات الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هكذا:

«على بعد عشرة أمتار غرباً نشاهد قبور نساء النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وإلى جانب طريق إسمنتي ضيق نشاهد قبور بنات رسول الله وهنّ أم كلثوم ورقية وزينب »(2).

الصورة

قبور بنات النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في مقبرة البقيع

تاريخ بناء الحرم :

نستنتج مما سبق أنّ بنات رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الثلاثة مدفونات في البقيع وفي مكان واحد ولهنّ قبة واحدة وضريح واحد . ولكن متى بنيت هذه القبة ومن بني الحرم والضريح؟

لم نجد حتى اليوم جواباً لهذا السؤال ولم تذكر كتب التاريخ التي بين أيدينا

ص: 227


1- مرآة الحرمين: ج 1 ص 426 .
2- فصول من تاريخ المدينة: ص 168 .

شيئاً في هذا الصدد، ولعله مثل كثير من المسائل التاريخية على مر القرون المتمادية، لم ير أحدٌ له أهميةً فظلّ في حوزة النسيان .

ترجمة بنات رسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)

يجدر بنا بعد الحديث عن حرم بنات رسول الله أن نشير إلى تاريخ حياتهن، لأنّ كلّ من يهتم بتاريخ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) و تسره القراءة عن كل لحظة من حياته الكريمة، يهتم بحياة ذريته أيضاً، خصوصاً إذا حج أو اعتمر فزار الحرمين الشريفين .

ولد جميع أولاد رسول الله ذكوراً وإناثاً ما عدا إبراهيم من خديجة (علیها السلام)، وللنبي أربع بنات هنّ من الكبرى إلى الصغرى -1- زينب -2 - رقية 3 - أم كلثوم -4 - فاطمة (علیها السلام)(1).

ومع أنّ فاطمة كانت أصغر بنات رسول الله سنّاً، ولكنّها أفضلهنّ وأعلاهنّ درجة، فقد استمرّت ذرية رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) باقية على وجه الأرض من ولد فاطمة ، كما نزلت فيها آيات عديدة من القرآن ورويت عن النبي في فضائلها ومكارمها أحاديث كثيرة دون غيرها من بنات الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مع ما لهنّ من مقام شامخ لانتسابهنّ إليه وما أولاهنّ النبي من ودٍ وعطفٍ.

ويكفي في هذا المجال أن يلقي القارئ نظرة سريعة على كتب التفسير والحديث من الشيعة والسنة، ليطلع على البحر الخضم من فضائل فريدة لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وعظمته وكرامته .

ص: 228


1- أسد الغابة : ج 5 ، ص 456 ؛ الإصابة : ج 4، ص 304 .

نظرة سريعة وعابرة على سائر بنات رسول الله

1- زينب:
إشارة

هي أكبر أولاد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أو أكبرهم بعد أخيها القاسم . يروي المؤرخون ولادتها بعد خمس سنوات من زواج رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من خديجة إذ كان الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في الثلاثين من عمره (1).

روي حديث عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يبين مقام هذه السيدة الجليلة: «معاشر الناس، ألا أخبركم بخير الناس خالاً وخالة ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الحسن والحسين خالهما القاسم وخالتهما زينب بنت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) . (2)

زواج زينب

زوّج رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) زينب من أبي العاص بن ربيع . كان اسمه «لقيطاً» وأمه «هالة » أخت خديجة الكبرى . كان أبو العاص من التجار والأثرياء المعدودين الذين يثق بهم أهل مكة(3).

وبعد أن بعث رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بالنبوة، لم يسلم أبو العاص وأسلمت زينب كأمّها خديجة . وبقى أبو العاص على شركه ولكن ومع هذا كان وفيّاً لزينب . واقترحت عليه قريش أن يطلقها، ولكنه لم يعتن باقتراح قريش واستمرت حياته معها . ومع أنّ الإسلام قد فصل بينهما، إلّا أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لم يكن بإمكانه في تلك الظروف الصعبة، تنفيذ ذلك الحكم. إذن فإسلام زينب لم يفصل بينها

ص: 229


1- أسد الغابة: ج 5 ص 467، الإصابة: ج 4 ص 299 .
2- تنقيح المقال : ج 3، باب الكنى والألقاب ص 79.
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج 14 ص 189 .

230

وبين أبي العاص

اسارة أبي العاص وتحرير زينب :

بعد هجرة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلى المدينة، شارك أبو العاص مع مشركي مكة في معركة بدر وتم أسره على أيدي المسلمين مع جمع من جيش مكة ذكر عددهم سبعين رجلاً، وجيء بالأسرى إلى المدينة، وخرج وفدٌ من مكة لمفاوضة المسلمين في أسرى الحرب وأرسلت زينب معهم بعض حليّها إلى رسول الله وطلبت منه أن يطلق سراح زوجها مقابل تلك الحليّ، وكان بينها قلادة لخديجة ، فلمّا رآها رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) تذكر خديجة فدعا لها وبان الحزن على وجهه الكريم . ثم استشار أصحابه أن يطلق سراح زوج ابنته زينب ويعيد معه إليها ما أرسلت من الأموال فرضي الصحابة بهذا الاقتراح وفرحوا به، فنجي أبو العاص بعد حين من الأسر بأيدي المسلمين وعاد إلى مكة وأعاد قلادة خديجة إلى زينب . ولكنّ الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) اشترط على أبي العاص عند إطلاق سراحه أن يسمح لزينب بالهجرة إلى المدينة إن أرادت ذلك، فوعد بذلك ووفي بوعده عند وصوله إلى مكة حيث أرسل زينب مع أخيه كنانة بن ربيع إلى المدينة .

هجوم المشركين على هودج زينب :

بناءً على طلب أخيه أبي العاص، وضع كنانة بن ربيع زينب في هودج وحملها إلى المدينة، فعلم بعض القرشيين بذلك فتبعوه إلى خارج مكة ولحقوا به في موضع يسمى «ذي طوى » ، وهاجموا هودج زينب وكان ممن هجم على زينب وفي طليعتهم «هبّار بن الأسود » و «نافع بن عبد القيس الفهري » . فطعن هبار هودج زينب بالرمح فسقطت من فوق الجمل على صخرة وكانت حامل فأسقطت جنينها مما أصابها من أذى ورعب، وابتليت بنزيف حتى آخر حياتها .

ص: 230

يقول ابن إسحاق: إنّ جريمة هبار وقساوته هذه جعلت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يأذن للمسلمين بقتله عند فتح مكة (1).

يقول ابن أبي الحديد:« وشارك عمرو بن العاص أيضاً في الهجوم على هودج زينب ومنعها من السفر إلى المدينة، فلما وصل الخبر إلى رسول الله حزن حزناً شديداً ولعن هؤلاء الأشخاص ودعا عليهم » . (2)

يقول الواقدي: «عندما شاهد كنانة هجومهم على زينب استعد للرماية دفاعاً عنها، فعاد القرشيون إلى مكة »(3).

ويضيف الواقدي: وكان أبو سفيان ممن شاركوا في الهجوم، فخاطب كنانة قائلا:

«إنّك لم تحسن ولم تُصب، خرجت بالمرأة على رؤوس الناس علانية جهاراً، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا، وما دخل علينا من محمد أبيها، فيظنّ الناس إذا أنت خرجت بابنته إليه جهاراً أنّ ذلك عن ذلّ أصابنا، وأنّ ذلك منا وَهَن، ولعمري مالنا في حبسها عن أبيها من حاجة، وما فيها من ثأر، ولكن ارجع بالمرأة حتى إذا هدأت الأصوات وتحدث النّاس بردّها سُلّها خفيّاً، فألحقها بأبيها ».

فردّها كنانة بن الربيع إلى مكة، فأقامت بها ليالي حتى إذا هدأ الصوت عنها حملها على بعيرها وخرج بها ليلاً حتى سلّمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه، فقدما بها على رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

وهكذا أعاد كنانة زينب إلى مكة وبعد برهة سار بها ثانيةً إلى المدينة في

ص: 231


1- إبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة : ج 14 ص 192 .
2- نفس المصدر : ج 6 ص 282 .
3- نفس المصدر: ج 14 ص 193 .

جوف الليل والتحق برسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (1).

يقول البلاذري:

«هرب هبّار بن الأسود يوم الفتح، ثم قدم على رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بالمدينة . - ويقال: أتاه بالجعرانة - حين فرغ من أمر حنين، فمثل بين يديه وهو يقول: أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله، فقبل إسلامه وأمر ألّا يعرض له، وخرجت سَلمى مولاة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فقالت : لا أنعم الله بك عيناً ! فقال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) :«مهلاً، فقد محا الإسلام ما قبله »(2).

أبو العاص يدخل المدينة ليلاً

سار أبو العاص في أوائل السنة الثامنة للهجرة وقبل فتح مكة، مع عدد من تجار مكة إلى الشام حاملين معهم بضائعهم التجارية وبضائع قريش . وعند العودة وبالقرب من المدينة قابلت هذه القافلة التجارية جمعاً من المسلمين، فخافوا على أنفسهم وتركوا أموالهم هاربين إلّا أنّ أبا العاص دخل المدينة ليلاً ليسترد أمواله، فذهب إلى زينب وطلب منها أن تؤويه ليكون في أمان من المسلمين، فآوته زينب وجاءت به في اليوم الثاني إلى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهو يؤدي صلاة الفجر مع المسلمين فنادتهم من بين صفوف النساء: «أيها الناس إنّي زينب بنت رسول الله آجرت أبا العاص ابن ربيع » .

فلمّا فرغ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من صلاته قال : يا أيها الناس، أسمعتم ما سمعته من زينب ؟ فقالوا: نعم، قال: والله ما علمت بمجيء أبي العاص، حتى سمعت ذلك من زينب كما سمعتم ، ثم قال: «إنّه يجير على المسلمين أدناهم » وعلى

ص: 232


1- شرح نهج البلاغة: ج 14 ص 193 .
2- نفس المصدر : ص 194 .

المسلمين جميعاً أن يراعوا ذلك(1).

ثم ذهب إلى بيت زينب وأوصاها أن تكرم أبا العاص ولكن لا تخلو معه لأنّه مشرك وحرام عليها، ثم أمر المسلمين أن يعيدوا له كل أمواله وإلا فقد خانوا العهد.

إسلام أبي العاص:

عاد أبو العاص إلى مكة فسلم أموال الناس وأماناتهم، ثم أسلم وعاد إلى المدينة ثانية، فأمر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) زينب أن ترجع إلى بيت أبي العاص وتكون له - كالسابق - زوجةً وفيّة، وهكذا وبعد فراق دام ست سنوات عاد الزوجان إلى الحياة الزوجية المشتركة والتحقوا بصفوف المهاجرين .

تاريخ وفاة زينب وسبب وفاتها:

حسب المشهور مادامت الحياة المشتركة لزينب وأبي العاص في المدينة أكثر من عدة أشهر، إذ توفيت زينب في أواخر السنة الثامنة للهجرة وحضر جنازتها رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ودفنت في البقيع . وتوفي أبو العاص في السنة الثانية عشرة للهجرة أي بعد وفاة زوجته بأربع سنين . يرى المؤرخون أنّ زينب توفيت إثر النزيف الذي حصل لها عند خروجها من مكة وهجوم المشركين عليها كما أشرنا سابقاً، حيث سقطت على صخرة وأسقطت جنينها وأرعبت بشدة فابتليت بنزيف دام معها إلى آخر حياتها .

أبناء زينب

أنجبت زينب من أبي العاص ولدين أحدهما ذكر وكان يدعى «علي » وقد توفى فى أوائل شبابه، والأخرى بنت كانت تسمّى «أمامة » ، وقد أوصت فاطمة

ص: 233


1- أسد الغابة : ج 5 ص 237، شرح نهج البلاغة: ج 14 ص 195.

الزهراء (علیها السلام) أمير المؤمنين بها فتزوجها من بعدها (1).

2- رقية:

هي الثانية من بنات رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) سناً . تزوجت رقية في مكة من عتبة بن أبي لهب، كما أنّ أختها أم كلثوم تزوجت من أخيه عتيبة بن أبي لهب، فلما نزلت سورة: «تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» في ذم أبي لهب، أجبر أبو لهب ابنيه أن يطلقا بنتي رسول الله، ظناً منه أنه قد انتقم من النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إزاء ذم القرآن له (2). وبعد الطلاق تزوجت رقية من عثمان، وعندما اضطرّ جمع من المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة فراراً من أذى المشركين في مكة هاجرت رقیة أيضاً مع عثمان إلى الحبشة، وبعد العودة إلى مكة هاجرت ثانية مع سائر المهاجرين إلى المدينة.

تروي بعض الكتب أنّ رقية أنجبت لعثمان ولداً سمّوه عبد الله وقد مات في جمادي الأولى من السنة الرابعة للهجرة وهو ابن ستة سنين، وكانت وفاته نتيجة مرض أصاب عينيه . ومنهم من يقول أنه مات رضيعاً، أما قتادة فينكر الأمر كله قائلاً كما أنّ أم كلثوم لم تنجب لعثمان ، فإنّ رقية أيضاً لم تلد له ولداً (3).

وكيف ما كان، وكما أشرنا هاجرت رقية مع عثمان إلى المدينة بعد عودتها من الحبشة، وبناءً على قول محب الدين الطبري عن ابن قتيبة أنّ رقية أصيبت بالحصبة وتوفيت بعد ورود رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلى المدينة بسنة وعشرة أشهر وعشرين يوماً، ودفنت رقية أيضاً في البقيع .

ص: 234


1- أسد الغابة: ج 5 ص 467 .
2- أسد الغابة : ج 5 ص 456 و 612 ، الإصابة: ج 4 ص 304، الاستيعاب : ج 4 ص 299 .
3- أسد الغابة : ج 5 ص 456 و ج 4 ص 300 ، الإصابة : ج 4 ص 304 .
أم كلثوم
إشارة

هی ثالثة بنات رسول الله وقد اشتهرت بكنيتها هذه ولم يذكر المؤرخون اسماً لها .

قصة أسد الزرقاء:

ذكرنا في ترجمة رقية أنّ ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم هاتين تزوجتا مع ابني أبي لهب عتبة وعتيبة ولكن بعد ذم القرآن لأبي لهب وامرأته أمر ابنيه أن يطلّقا بنتي رسول الله فأطاعا أمره وطلّقا بنتي الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

ولكن يروي المؤرخون والمحدثون في شأن عتيبة حادثةً يمكن اعتبارها من معجزات رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) و وهي أنّ عتيبة لم يكتف بطلاق أم كلثوم ولم يرتو غليله تجاه رسول الله فأراد أن يشفي صدره من النبي بطريقة أخرى، فلما عزم على السفر إلى الشام للتجارة جاء إلى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وخاطبه قائلاً: «كفرتُ بدينك وفارقت ابنتك، لا تحبني ولا أحبك » ، وتجرأعلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فمسك بثيابه فجره إليه بشدة حتى تمزق طوق قميصه، فأجابه النبي قائلاً: «أما إنّى أسأل الله أن يسلّط عليك كلبة ».

وترك بعدها عتيبة مكة إلى الشام، ووصل ذات ليلة إلى «الزرقاء » وهي أرض من صحراء الشام، فاستراح هناك فهاجمه أسد وقطعه بمخالبه إرباً فاستجيب بذلك دعاء رسول الله فيه(1).

وفاة ام كلثوم :

توفيت أم كلثوم في السنة التاسعة من الهجرة بالمدينة، وشارك رسول

ص: 235


1- ذخائر العقبى: ص 164 .

الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في جنازتها وصلى عليها .

تروي كتب التاريخ والحديث لأهل السنة أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال عند دفن اُم كلثوم: «أفيكم أحدٌ لم يقارف الليلة ؟ »(1) أو «من لم يقارف الليلة فليدخل » (2).

فأجابه من بين الحضار ثلاثة ودخلوا القبر وهم أمير المؤمنين (علیه السلام) والفضل ابن عباس وأسامة بن زيد، وهكذا تم دفن أم كلثوم دون أن يشارك فيه زوجها عثمان ! روي ذلك في كتب الحديث لأهل السنة ضمن أحاديث عديدة ومع فروق بسيطة في نصوصها .

وقد جاء في بعض تلك الأحاديث اسم رقية بدلاً من أم كلثوم وفي بعضها لم يذكر الإسم وإنما ذكر مجرد «ابنة لرسول الله »(3).

ولكن نعلم أنّ رقية قد توفيت أيام معركة بدر ودفنت قبل رجوع رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وهذا يؤيد صحة رأي علماء التراجم بأنّ هذه القضية حدثت عند دفن أم كلثوم .

بنات رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أم ربائبه ؟:

ذكرنا للقارئ العزيز مجملاً من تراجم بنات رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الثلاث كما وردت في الكتب الموثوقة، ولكن هناك أقوال كثيرة في هذا المجال خارجة عن نطاق الموضوع إذ تحتاج إلى دراسة علمية وتاريخية عميقة فنتركها لمكانها

ص: 236


1- الإستيعاب: ج 4 ص 487، الإصابة : ج 4 ص 489، أسد الغابة: ج 5 ص ، تنقيح المقال: ج 3 فصل النساء ،البداية والنهاية : ج 5 ص 307 .
2- كما في بعض الأحاديث: «من لم يقارف الليلة أهله فيدخل » ، يقارف: أي يجامع .
3- راجع نصوص الأحاديث في صحيح البخاري كتاب الجنائز، باب من يدخل قبر المرأة: ح 1277، مسند أحمد مسند أحمد بن حنبل: ج 3 ص 126 و 127 و 270 .

المناسب، ومن هذه الأقوال رأي أبي القاسم العلوي الكوفي (1) الذي يقول: « تزوجت زينب ورقية قبل الإسلام مع أبي العاص وعثمان بن عفان، وهاتان ليستا ابنتي رسول الله بل هما ربيبتاه ».

واستدل أبو القاسم على رأيه بدلائل معينة (2). كما أنّ أحد العلماء المعاصرين (3) ألف كتاباً في هذا الأمر وأيد قول أبي القاسم العلوي واستند عليه، كما أضاف إليه الكثير، ولكنّ المرحوم المامقاني (رحمه الله ) أنكر هذا الرأي وذكر أدلّةً في الرد عليه (4)، والكلام ذو شجون .

ص: 237


1- هو السيد أبو القاسم علي بن أحمد بن موسى بن الإمام محمد بن علي بن موسى بن جعفر (علیهما السلام) المتوفى في جمادي الأول سنة 352 في مدينة فسا من محافظة فارس في إيران، وله تأليفات عديدة منها «الاستغاثة » الذي طبع في جزئين مندمجين في مجلد واحد .
2- الاستغاثة : ج 1 ص 64 - 76 .
3- هو الكاتب المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي وكتابه« بنات النبي أم ربائبه » وكتابه هذا مثل سائر تأليفاته يلقي الضوء على النقاط المظلمة من التاريخ .
4- تنقيح المقال : ج 3، فصل النساء، ص 79 .

ص: 238

الفصل الخامس : مرقد عقيل بن أبي طالب (علیهما السلام)

اشارة

ص: 239

ص: 240

بقعة عقيل بن أبي طالب وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:

إشارة

من القبور الواقعة في البقيع التي كانت له قبة وحرم، قبر عقيل بن أبي طالب والذي كان يجلب الزوار دائماً .

إنّ لمدفن عقيل شهرة متميّزة بين المؤرّخين - بحيث وبعد مضيّ قرن على انهدام هذا الأثر التاريخي والديني وعدم وجود أي علامة على القبور المنهدمة ، فنرى أنّ قبره ولا يزال مشار إليه بالبنان بين القبور المعدودة في البقيع ؛ وقد كتب الكتّاب السعوديين ومؤرّخيهم - وعلى رغم سعيهم لنسيان هذه المسائل - عن قبر عقيل وعرّفوه وذكروه .

كما سنرى أنّ قبر أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب واقع بجنب قبر عقيل وفي بيته وفي محل واحد وتحت قبة واحدة .

ولتوضيح الأمر ، علينا أن نعرف ثلاث مسائل:

1- رأي المؤرخين في مرقد عقيل وأبي سفيان بن الحارث .

2- قبر أبي سفيان وعقيل في بيت عقيل .

3- ترجمة أبي سفيان وعقيل .

رأي المؤرخين في مرقد عقيل وأبي سفيان بن الحارث:

تحكي المصادر التي بين أيدينا اليوم أنّ المؤرخين والمهتمين بتاريخ المدينة قد ذكروا في كتبهم مدفن عقيل بن أبي طالب وبقعته والمبنى الخاص به منذ أوائل القرن السابع .

ولكن متى تم بناء مرقد عقيل ؟ ومن أنشأه ؟ وكم مضى عليه من القرون حتى

ص: 241

ذكره المؤلفون ؟ وكيف كان هذا المرقد الشريف قبل إيجاد المبنى عليه؟ وغير ذلك من الأسئلة التي لا جواب لها في المصادر الموجودة لدينا .

وإليك الآن أقوال بعض الكتّاب ومؤرخي المدينة والرحالين منذ أوائل القرن السابع وحتى يومنا هذا:

1 - يذكر ابن جبير الرحالة المعروف (المتوفى سنة 614 هجرية ) قبرعقيل فيقول: «ويقع أمام قبر عبد الرحمن بن عمر، قبرا عقيل بن أبي طالب وعبد الله ابن جعفر الطيار» (1).

2 - يقول ابن النجار مؤرخ المدينة الشهير (المتوفى سنة 642 هجرية) عن المراقد المبنية المعروفة في زمنه بالبقيع: «وقبر عقيل بن أبي طالب أخي علي (علیه السلام) في قبة في أول البقيع أيضاً» (2).

كما نجد في مؤلفات القرن العاشر والحادي عشر أنّ بعض العلماء والمؤلفين ومؤرخي المدينة، أكدوا هذا الأمر وذكروا قبر عقيل باعتباره واحداً من القبور المعروفة في البقيع، منهم:

-1- السمهودي (المتوفى سنة 911 هجرية) يذكر مدفن أبي سفيان بن الحارث ثم يقول: «والظاهر أنه بالمشهد المنسوب اليوم العقيل »(3).

2- محي الدين اللاري (المتوفى سنة 933 هجرية) يصف بعض قبور البقيع في المذكرات المنظومة عن رحلته قائلاً:

يقع في جانب منه ظل عقيل الوارف وفي الجانب الآخر الإمام مالك الجليل (4).

ص: 242


1- رحلة ابن جبير، طبعة لندن ص 144 .
2- الدرة الثمينة في أخبار المدينة، طبعة مكة: ص 154 .
3- وفاء الوفا: ج 3 ص 911 .
4- يك طرفش ظل ظليل عقیل **** وزطرفی مالك امام جليل مجلة «ميقات الحج » الفصلية، العدد 8 ص 164 .

3- الدياربكري (المتوفى سنة 982 هجرية)، يقول: «وفي البقيع مرقد آخر يقال أنه قبر عقيل بن أبي طالب وابن أخيه عبد الله بن جعفر، ولكن الصحيح أنّ قبر عقيل واقع في بيته » (1).

4- عبد الحق الدهلوي (المتوفى سنة 1052 هجرية)، يقول: ومنها مرقد عقيل بن أبي طالب الذي وردت روايات في استجابة الدعاء عنده »(2).

5- العباسي من مؤرخي المدينة في القرن الحادي عشر الهجري أشار إلى قبر عقيل بن أبي طالب مرتين، مرّة في أنّ قبور نساء النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) تقع جهة القبلة من قبر عقيل ومرّة في أنّ قبور بنات رسول الله تقع إلى جانب قبرعقيل ، يقول العباسي: «ومنها روضة بقرب مشهد عقيل يقال إن فيها ثلاثة من أولاد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) »(3).

-6 - السيد إسماعيل المرندي (المتوفى سنة 1255 هجرية)، كتب: «ومنها قبة عقيل بن أبي طالب أخي أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو مدفون مع عبد الله بن جعفر في قبر واحد» (4)

7- نائب الصدر الشيرازي (المتوفى سنة 1305 هجرية)، يقول: «ولعقيل أيضاً

ص: 243


1- تاريخ الخميس: ج 2 ص 176 .
2- جذب القلوب إلى ديار المحبوب ص183 ، عبد الحق بن سيف الدين الدهلوي (المتوفى سنة 1052 هجرية)، فقيه حنفي، من أهالي دلهي في الهند كان يعتبر من أكبر المحدثين في زمانه، جاور الحرمين أربع سنوات. يقال إنّ تأليفاته تبلغ المائة، منها «جذب القلوب » في تاريخ المدينة، و«فتح المنان » وكتب أخرى . ألف كتابه «جذب القلوب » سنة 988 ه- .انظر:«معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة، و «الأعلام » للزركلى
3- عمدة الأخبار في مدينة المختار: ص 154 .
4- مجلة «ميقات الحج » الفصلية، العدد 5 ص 118 ..

مرقد، وعلى بابه أبيات باللغة التركية»(1).

8- رفعت باشا: يعرض في كتاب «مرآة الحرمين » صورة تتعلق بسنة 1325 هجرية، ويقول: «وترى في (الرسم 170) جملة قباب ،فالتي على يمين الناظر قبة إبراهيم والثانية لعقيل والثالثة لزوجات الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ...»(2).

كان هذا جانباً من شهادة المؤلفين والمؤرخين حتى سنة 1325 هجرية أي قبل هدم آثار البقيع بعشرين سنة.

قبر عقيل بعد هدم البقيع:

قبل عشرين سنة من هدم مرقد عقيل كتب المؤرخون فيه ما كتبوا والتقطوا منه صوراً لتبقى ذكرى للأجيال القادمة، والمهم هو أنّ قبر عقيل وبعد هدمه لا يزال معلوماً يعرفه المطلعون على آثار المدينة المنورة وقبور البقيع الشريف، وقد شخّصه الكتّاب المتأخرون في تأليفاتهم من بين عدة قبور في البقيع، على سبيل المثال:

1 - أحمد آل ياسين (المتوفى سنة 1380 هجرية )هو من علماء المدينة المنورة وكتّابها، رسم في كتابه «تاريخ معالم المدينة» الخريطة الحالية للبقيع وعين عليها القبور بالترقيم، فاختصّ الرقم السادس بقبري عقيل بن أبي طالب وأبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب (3).

2 - علي حافظ (والذي كان حيّاً سنة 1405 ه- ): يذكر قبري عقيل وأبي سفيان

ص: 244


1- تحفة الحرمين: ص 230 ، ومما كتب على باب المرقد بالتركية:« قبة حضرت عقیلی گورن صاحب عقل ودها ».
2- مرآة الحرمين: ج 1 ص 426 .
3- تاريخ معالم المدينة : ص 244 و 245 .

ابن الحارث في كتابه «فصول من تاريخ المدينة المنورة » ويقول: «عندما تسير فی ممر سمنتيّ تجد على بعد أربعين متراً من الباب الجنوبي الغربي ثلاثة قبور هي قبور عقيل وأبي سفيان وعبد الله بن جعفر كريم العرب»(1).

ترجمة أبي سفيان وعقيل

أبوسفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأخوه من الرضاعة، صحابي جليل، ذكر بعض المؤرخين أنه يدعى المغيرة ولكن الغالبية ترى أنّ اسمه هو كنيته(2).

جاء في التاريخ أنّ أبا سفيان كان شبيهاً برسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وجهاً، وكان الرسول يحبه حباً جماً وقد بشره بالجنة وقال له: «أرجو أن تكون خلفاً من حمزة »(3).

أسلم أبو سفيان قبل فتح مكة وشارك في فتحها وكان في معركة حنين جندياً مخلصاً أفدى نفسه لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، حتى أنّه في إحدى المعارك الشديدة البأس وبعد أن أدبر المسلمون وتراجعوا بقي هو مع أمير المؤمنين (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يدافعان لوحدهما عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) . توفي أبو سفيان سنة عشرين للهجرة ودفن في القبر الذي جهزه لنفسه في بيت عقيل . روي أنّ أبا سفيان أوصى أن لا يبكى عليه بعد موته لأنه لم يرتكب إثماً منذ دخوله في الإسلام (4).

رُوي أنّه أثناء حلق رأسه في الحج جرح الموسى غدة كانت في رأسه فمرض إثر ذلك وكان هذا سبب وفاته

ص: 245


1- فصول من تاريخ المدينة المنورة .
2- جاء في كتب المتأخرة «سفيان بن الحارث » بدلاً من «أبي سفيان » ويعتبر سهواً من الكاتب .
3- أسد الغابة : ج 5 ص 213 ، الإصابة : ج 4 ص 90 .
4- أسد الغابة ج 6 ص 146، سير أعلام النبلاء: ج 1 ص 203-204.

قبر أبي سفيان:

كما نقلنا عن المؤرخين أنّ أبا سفيان دفن عند عقيل ، وقد ذكر المؤرخون أيضاً كيفية ذلك . منهم ابن شبة (المتوفى سنة 262 هجرية) إذ يروي عن عبدالعزيز وهو أقدم مؤرخ للمدينة، فيقول: «إن عقيل بن أبي طالب رأى أبوسفيان بن الحارث (رضی الله عنه) يجول بين المقابر، فقال له: يا بن عمّ ! مالي أراك هاهنا ؟ :قال أطلب موضع قبر . فأدخله داره، وأمر بقبر فحفر في قاعتها، فقعد عليه أبوسفيان ساعة ثم انصرف فلم يلبث إلّا يومين حتى تُوفّي فدفن فيه»(1).

وجاء في بعض الكتب أنّ أبا سفيان حفر قبره بيده ومات بعد يومين .

من هو عبد الله بن جعفر ؟

هو ابن جعفر الطيار ذي الجناحين، وأمّه أسماء بنت عميس وعمه أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وعبد الله صهر أمير المؤمنين حيث تزوج بزينب بنت علي (علیه السلام).

ولادته: كان عبد الله بن جعفر أول مولود ولد في الحبشة بعد هجرة المسلمين إليها وولد بعده أخواه محمد وعون ثم هاجر ثلاثتهم مع والديهم إلى المدينة(2).

وفاته : توفي عبد الله بن جعفر سنة ثمانين وقيل خمس وثمانين للهجرة وله من العمر يومئذ تسعون سنة، ودفن في البقيع .

سموّ شأن عبد الله:

يقول الذهبي: بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب في سرية مؤتة، تكفل رسول

ص: 246


1- تاريخ المدينة لابن شبة : ج 1 ص 127 ، وفاء الوفا : ج 3 ص 911 عمدة الأخبار: ص 156 .
2- أسد الغابة : ج 3 ص 200.

الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عبد الله بنفسه ورباه في حجره حجره (1).

يقول ابن حجر: رغم أنّ عبد الله لم يتجاوز العاشرة من عمره عند وفاة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلّا أنّه قد رويت أحاديث عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في عبد الله تدل على مدى حب رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) له وعظمة شأنه وسمو مقامه (2).

يقول ابن عبد البر: «لم يكن في الإسلام أسخى منه»(3).

كما يروي ابن حجر عن ابن حبان أنّ عبد الله سمّى «قطب السخاء » لكثرة جوده (4).

روايته الحديث

روى عبد الله الحديث عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مباشرة أو بواسطة أمير المؤمنين (علیه السلام)وبعض الصحابة (5) ولذلك يعتبر من المحدثين .

صحبته

يقول المامقاني (رحمه الله ) : إنّ الشيخ الطوسي عدّ عبد الله بن جعفر من صحابة أمير المؤمنين (علیه السلام) والإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) .

ثم يضيف: «ولم أفهم وجه ترك عده من أصحاب الحسين (علیه السلام) أيضاً، فإنّه مما لا شبهة فيه وقد واساه بولده عون و محمد وعبد الله، قتلوا معه بالطّف لمّا كان هو معذوراً في الخروج معه »(6).

ص: 247


1- سير أعلام النبلاء: ج 3 ص 456 .
2- الإصابة: ج 2 ص 2 ص 389 .
3- أسد الغابة : ج 3 ص 200 .
4- الإصابة : ج 2 289 .
5- تهذيب التهذيب : ج 5 ص 170 .
6- تنقيح المقال : ج 2 ص 173 .

رأي المؤلف:

نسأل المرحوم المامقاني مثلما سأل، وهو أنّه لم لم يعتبر عبد الله بن جعفر من أصحاب الإمام السجاد (علیه السلام)مع أنّه صاحب الإمام السجاد (علیه السلام) عشرين أو خمس وعشرين سنة فيعدّ اذن من أنصاره وأصحابه، وعليه فإنّ عبد الله يعتبر من صحابة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأميرالمؤمنين (علیه السلام) وثلاثة أئمة من بعده

كما يبقى هذا التساؤل وارداً في كلام المرحوم المامقاني وهو أنّه أشار إلى إعفاء عبد الله بن جعفر بعذر عن السفر مع الحسين بن علي (علیه السلام) إلى كربلاء إلّا أنه لم يذكر عذره رغم أهمية الموضوع.

ولكن كيف ما كان الأمر فإن كبر شأن عبد الله وولائه الخالص لأئمة الدين (علیهم السلام) ورحلة زوجته وأبناءه مع الحسين (علیه السلام) إلى العراق وكل هذا يدلنا أنّ عذره كان مقبولاً وإن لم تتضح جزئياته لنا .

في المعارك

كان عبد الله بن جعفر من أنصار أمير المؤمنين (علیه السلام) في حروبه الثلاث بعد توليه الخلافة، كما كان من قواد الجيش في صفين .

أبو الشهداء:

ومن فضائل عبد الله بن جعفر أنّه والد ثلاثة شهداء وهم محمد وعون وعبدالله وقد استشهدوا جميعاً يوم عاشوراء مع من استشهد وفازوا فوزاً عظيماً وكانت أمهم زينب الكبرى (علیها السلام) تنظر إليهم

دفاعه عن الحق:

يروي ابن أبي الحديد عن المدائني موقفاً رائعاً لعبد الله بن جعفر يدلّ على

ص: 248

إيمانه الخالص بولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) وتعظيمه لمقام الإمام المجتبى والإمام الحسين بن علي (علیهما السلام) ، وإليك القصة بالإجمال:

«بينا معاوية يوماً جالساً وعنده عمرو بن العاص جاء عبد الله بن جعفر بن أبی طالب ... فمال عمرو إلى بعض جلساء معاوية فنال من عليّ (علیه السلام) جهاراً غير ساتر له، وثلبه ثلباً قبيحاً .

فالتمع لون عبد الله بن جعفر ... ثم نزل عن السرير كالفنيق ... ثمّ حسر عن ذراعيه، وقال: يا معاوية، حتّامَ نتجرع غيظَك ؟ وإلى كم الصبر على مكروه قولك وسيّئ أدبك وذميم أخلاقك ... فلا يدعونّك تصويب ما فرط من خطئك في سفك دماء المسلمين ومحاربة أمير المؤمنين إلى التمادي فيما قد وضح لك الصواب في خلافه . فاقصد لمنهج الحقّ، ... فإن أبيت ألّا تتابعنا في قبح اختيارك لنفسك، فأعفنا من سوء القالة فينا إذا ضمّنا وإياك النّدى، وشأنك وما تريد إذا خلوت ؛ والله حسيبك ... .

فقال معاوية: يا أبا جعفر ! أقسمت عليك لتجلسنّ، لعن الله من أخرج ضَبَّ صدرك من وجاره ؛ محمول لك ما قلت، ولك عندنا ما أملت فلو لم يكن مَحْمدك ومنصبك لكان خُلُقك وخلقك شافعين لك إلينا، وأنت ابن ذي الجناحين وسيد بني هاشم .

فقال عبد الله: كلا، بل سيّد بني هاشم حسن و حسين، لا ينازعهما في ذلك أحد.

... ثم التفت معاوية إلى عمرو، فقال: أبا عبد الله ما تراه منعه من الكلام معك ؟ قال: ما لا خفاء به عنك، قال: ... لأنّه ازدارك واستحقرك ولم يرك للكلام أهلاً ... »(1).

ص: 249


1- تجد تفصيل هذه القضية في شرح نهج البلاغة ج 6 ص 295 .

ذكرنا سابقاً أنّ عبد الله بن جعفر توفي في المدينة سنة 90 هجرية ودفن إلى جانب عمّه عقيل بن أبي طالب.

يذكر ابن الأثير (المتوفى سنة 630 هجرية) بيتين من الشعر كانا مكتوبين على قبر عبد الله، وهما:

مقيمٌ إلى أن يبعث الله خلقَهُ ***لقائُك لا يُرجى وأنت قريبٌ

تزيد بلى في كل يوم وليلة ***وتُنسى كما تبلى وأنت حبيبٌ

ونستنتج من كل ما ذكرناه أنّ القبرين الواقعين في باب الصغير بدمشق والمنسوبين إلى عقيل بن أبي طالب وعبد الله بن جعفر لا أساس لهما من الصحة ولا يؤيدهما أي مستند تاريخي

من هو عقيل؟

عقيل بن أبي طالب وأمه فاطمة بنت أسد ؛ ابن عمّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأخو أمير المؤمنين (علیه السلام).

كان لأبي طالب أربعة أبناء هم طالب عقيل، جعفر وعلي (علیه السلام)، وكان كل منهم أصغر من أخيه بعشر سنين أي أنّ علياً (علیه السلام) كان أصغر من عقيل بعشرين سنة ومن جعفر بعشر سنين . كان يكنى عقيل بأبي يزيد. شارك مع العباس عمّ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مع المشركين في معركة بدر جبراً وأسرهما المسلمون فدفعا الفدية لينجوا من الأسر (1).

هاجر عقيل إلى المدينة قبل صلح الحديبية، ولم يكن من أهل بيت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأمير المؤمنين (علیه السلام) فحسب، بل كان من أنصارهما وأصحابهما . توفي عقيل بالمدينة سنة خمسين للهجرة ودفن داخل بيته قرب البقيع .

ص: 250


1- الطبقات ج 4 ق 1 ص 29 تاريخ الإسلام للذهبي وفيات سنة 50 ، ذخائر العقبى ص 222.

الوجه الحقيقي لعقيل خلف محاق الضغائن :

كان عقيل بن أبي طالب من أسرة النبوة، وكان يحترمه رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فهو من صحابة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأمير المؤمنين (علیه السلام) ، وقد شارك في حنين ومؤتة -كما ذكرنا - واستقام بهما كثيراً، فيعتبر عقيل من المهاجرين والمجاهدين في سبيل الله .

نری فضائل عقيل في الحديث النبوي الشريف وعلى لسان عقیل ، كما نشاهد إخلاصه في الولاء لأمير المؤمنين (علیه السلام) ودفاعه عنه في أصعب الظروف وفي مواجهة ألد الأعداء، ونلاحظ ثقته (علیه السلام) به ثقةً خاصةً خالصةً، وكذلك استشهاد اثني عشر من أبنائه وأحفاده وغير ذلك من خصائصه وفضائله التي لو امتاز أي واحد من صحابة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ببعض تلك الخصال لاهتم به المؤرخون وعلماء الرجال ولكانت له مكانته المرموقة في كتب الرجال والتاريخ ؛ إلّا أنّ الأمر يختلف تماماً في عقيل بن أبي طالب، فلا يشعر القارئ عندما يقرأ عنه أنّ أمامه رجلٌ بتلك الخصال الحميدة ولا كأنه من أقرب الأقرباء إلى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأنّ النبي وأمير المؤمنين كانا راضيين عنه، ولا كأنه ذو عقل سليم وإيمان راسخ، بل نجدهم يرسمون في الأذهان صورة مشوهة له تنبئ عن احقاد الكتاب وتحريفهم الكلم عن مواضعه .

ولنتساءل الآن ما مصدر هذا التحريف وما الداعي إليه؟

السبب الأول:

يعلّل الرجالي والمؤرخ السني ابن الأثير هذه التحريفات كالتالي: كان عقيل علماً فى الفصاحة والبلاغة وقوة البيان وصراحة اللهجة وسداد الرأي، واشتهر بنسّابة العرب لاضطلاعه بأنساب القبائل المختلفة خصوصاً أنساب قريش وبني أمية وكان

ص: 251

يعلم معايب القوم ومساويهم ولا يمتنع عن ذكرها أينما نزل وحيثما حل .

فكان كلامه أشد على مناوئيه من سهم مسموم ولسانه أصرم من سيف مسلول، فعاداه بنو أمية واختلقوا فيه الأباطيل وأخفوا فضائله وحميد خصاله ونشروا عنه أكاذيب عديدة لينقصوا من شأنه وينالوا من شامخ مقامه، وقد بالغوا في الخصومة حتى اتهموا عقيل بني هاشم بالبلاهة وسوء التدبير (1).

السبب الثاني:

إلى جانب السبب الأول، هناك دافع آخر أدق من الأول وأعقد منه، وهو نفس الدافع الذي جعلهم ينالون من كفيل رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأكبر حماته سيد الأباطح أبي طالب، ويعرّفونه رجلاً مشركاً لا يوحد الله (عزَّ و جلَّ) ؛ تلك الدوافع التي انتهت في نهاية الأمر إلى استشهاد أمير المؤمنين (علیه السلام) وأبنائه الطاهرين حتى

وصل الأمر إلى لعن وصي رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأبنائه في صلواتهم ودعائهم .

نعم، كل هذه العوامل والدوافع جعلت عقيل يقع مع أبيه أبي طالب وأخيه علي أمير المؤمنين (علیه السلام) في عداد مَنْ ظلمهم التاريخ ولم ينصفهم.

فلم يتناسى فضائله الخصماء فحسب بل تسربت العدوى في محبيه فبدأوا ينشغلون عن فضائله بتلك الأباطيل، وأصبح من غير المستطاع التعرف على حقيقة أمره من الطرق الصحيحة فقد خلقوا حوله هالةً من الإبهام والريبة.

وقد هوجم عقيل بني هاشم من جوانب عديدة أهمها ثلاث جهات أساءوا بها إلى مكانته الذاتية ومواقفه الفكرية والدينية، وهي كالتالي:

1-تاريخ الإسلام وهجرة عقيل .

2- حضوره في الحروب .

ص: 252


1- أسد الغابة : ج 3 ص 423 .

3- لقاؤه بمعاوية

حاول خصوم عقيل بن أبي طالب وخصوصاً بنو أمية أن يتّهموا ويحتقروا عقيل بتحريف الحقائق في جميع المواقف الثلاثة المذكورة ليشفوا غليل صدورهم من الأحقاد العميقة ضد عقيل وأخيه أمير المؤمنين (علیه السلام) .

ولهذا السبب يدّعون أنّه أسلم في السنة الثامنة للهجرة مع أنّه قد أسلم وهاجر إلى المدينة في السنة الثانية أي بعد غزوة بدر . ومع أنّ عقيل كان مع رسول الله في فتح مكة وفي غزوة حنين، ثم أعفي عن القتال لفقدانه البصر، ولكن اتهموه بالتخاذل والتخلف عن الحرب أيام رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وفي عهد أمير المؤمنين (علیه السلام)، وزادوا على ذلك بأنّه قد حضر في صفين والتحق بجيش معاوية وحارب ضد أمير المؤمنين (علیه السلام) .

وبالنسبة للاقائه مع معاوية والتي كانت بعد استشهاد امير المؤمنين (علیه السلام) وبهدف الدفاع عنه، نرى أيضاً تحريفاً واسعاً، بأنّ هذا اللقاء قد تمّ في حياة أمير المؤمنين (علیه السلام) وكان الهدف منه هدفاً مادياً ولأجل اللجوء إلى سلطان معاوية.

ولا نريد الآن أن نتعمق في هذا الموضوع لأنّه خارج عن نطاق بحثنا، ونحيل القارئ العزيز إلى مؤلَّف آخر يدعى «عقيل بن أبي طالب » والذي سيتم نشره قريباً، ونكتفي هنا بذكر بعض فضائله .

شخصية عقيل المعنوية:

مهما أسدلوا الستار على فضائله وحاولوا إخفاء خصاله ونشر الأكاذيب في حقه، ولكن ولا تزال هناك أحاديث شريفة عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في فضيلة عقيل ابن أبي طالب وفي حبّه له، ومضافاً إلى ذلك إنّ كلام عقيل في وداع أبي ذر إلى الربذة وكتابه إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) و جواب الإمام له، والحقائق التي أعلنها

ص: 253

عقيل في مجلس معاوية دفاعاً عن أمير المؤمنين (علیه السلام) وبحضور ألدّ أعداء الإمام حيث بيّن بكل صراحة وغير مكترث بمعاوية فضائل وصي رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وزهده وتقواه ؛ كل هذه الأمور تدل على عظمة مقام عقيل وعلو منزلته لدى رسول الله(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وإخلاصه وولائه لأمير المؤمنين (علیه السلام)وكذلك شهامة عقيل في الإفصاح عن الحق أمام السلطان الجائر وهذه من أكبر فضائله .

عقيل في حديث رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) :

توجد أحاديث شريفة في فضيلة عقيل وحب رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وقد وردت معظمها في مصادر أهل السنة (1)، نذكر منها ما يلي:

1-« يا أبا يزيد، إنّي أحبك حبّين: حباً لقرابتك مني وحباً لما كنت أعلم من حب عمي أبي طالب إياك»(2).

ومن الواضح أنّ شدة حبّ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لأحد لا يمكن أن تكون من هوى النفس أو لدوافع مادية وقبلية .

وكذلك فحبّ أبي طالب تجاه عقيل لم يقتصر على علاقة الأبوة والبنوة، - لأنّه لم يكن الولد الوحيد لأبي طالب وما كان أشجعهم، لأن أمير المؤمنين (علیه السلام) وأبا المساكين جعفر الطيّار وكذلك ابنه الأكبر طالب كانوا موجودين - بل كان ناشئاً من فضائله الأخلاقية والمعنوية التي ورثها واكتسبها .

يقول ابن أبي الحديد:

وكان أبو طالب يحبّ عقيلاً أكثر من حبّه لسائر بنيه، فلذلك قال للنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وللعباس حين أتياه ليقتسما بَنيه عام المَحْل فيخفّفا عنه ثقلهم: «دعوا لي عقيلاً

ص: 254


1- يقول الذهبي في تاريخ الإسلام في ترجمة عقيل: «وله من النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أحاديث»
2- الطبقات ج 4 ص 30، أسد الغابة : ج 3 ص 422 .

وخذوا مَنْ شئتم » ، فأخذ العباس جعفراً وأخذ محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) علياً (علیه السلام)»(1).

2- يروي الشيخ الصدوق عن ابن عباس أنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) قال لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : « يا رسول الله ! إنّك لتحبّ عقيلاً ؟ قال : أي والله إني لأحبه حبّين: حبّاً له وحباً لحب أبي طالب له وإنّ ولده لمقتول في محبة ولدك »(2).

3- قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لأمير المؤمنين (علیه السلام) : «كأني بك (يا علي) وأنت على حوضي تذود عنه الناس وإنّ عليه لأباريق مثل عدد نجوم السماء وإنّي وأنت والحسن والحسين وفاطمة وعقيل وجعفر في الجنة إخواناً على سرر متقابلين»(3).

4- يروي أمير المؤمنين (علیه السلام)عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال: «أُعطي لكل نبي سبعة رفقاء نجباء وأعطيت أنا أربعة عشر فذكر منهم عقيلاً »(4).

عقيل ينادي بفضائل أمير المؤمنين (علیه السلام) :

إهتم المؤرخون بسفر عقيل إلى الشام ولقائه بمعاوية بعد استشهاد أمير المؤمنين (علیه السلام)، وقد حرّفوا تاريخ حدوثه فادّعوا أنّه كان في حياة الإمام (علیه السلام) .

كان الهدف من هذا السفر واللقاء بمعاوية الدفاع عن أمير المؤمنين وبيان فضائله ولكن شوّهوا الهدف وجعلوه أمراً مادياً دنيوياً . ورووا ما جرى من الحديث بين عقيل ومعاوية فحذفوا منه وأضافوا إليه ما شاؤا وقد ذكر أنصار الحكومات الطاغية تلك المحادثات في كتبهم التاريخية . ولكن وعلى رغم كل

ص: 255


1- شرح نهج البلاغة: ج 11 ص 250 .
2- الأمالي: ص 27، تنقیح المقال: ج 2 ص 255معجم رجال الحديث ج 11 ص 159 ، الذهبي في تاريخ الإسلام ص 222 في ترجمة عقيل .
3- الطبراني، ومجمع الزوائد: ج 9 ص173، نقلاً عن الغدير: ج 2 ص 322 .
4- الذهبي في تاريخ الإسلام، ترجمة عقيل .

ذلك، لا نشاهد في جميع أقوال عقيل التي وصلت بأيدينا اليوم من تلك المحادثات إلّا الدفاع عن أمير المؤمنين (علیه السلام) وبيان فضائله ومناقبه، والحديث عن زهده وتقواه والدفاع عن أصحابه وذم معاوية .

وقد حاول معاوية في نقاشه مع عقيل وطرح الأسئلة الكثيرة أن يستخرج من عقيل مجرد كلمة واحدة فيها مدح له أو ذمّ لأمير المؤمنين (علیه السلام)ولكن ما استطاع على ذلك، ونحن لم نعثر في أقوال عقيل مورداً واحداً أو جملة واحدة يسيء فيها إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) أو ينتقد أعماله أو ينوّه إلى أي نوع من المدح لمعاوية . فليس في أيدي خصوم عقيل ما يتخذونه ذريعةً عليه إذ لو عثروا على أدنى شيء من هذا القبيل لبادروا إلى روايته وإلقاء الضوء عليه، كما اتخذوا أصل سفر عقيل وسيلةٌ لاتهامه وقدحه .

نعم، لم يكتف عقيل في لقائه بمعاوية بالدفاع عن أمير المؤمنين (علیه السلام)وأصحابه بل ذكر بعض مناقبه التي لو لم ينطق بها عقيل لما اطلع عليها أحد ولأسدل عليها أستار النسيان كما هو الحال في كثير من فضائله (علیه السلام).

لقد ذكر عقيل فضائل علي (علیه السلام) في ظروف صعبة إذ كان محظوراً في العالم الإسلامي بأسره أن يذكر أحد مناقب أمير المؤمنين، ويعتبر مدحه جريمة لا تغتفر، بل كانوا يختلقون الأحاديث الكاذبة في قدح أمير المؤمنين (علیه السلام) وذمه ويلعنونه في خطب الجمعة على المنابر (1) .

لقد دافع عقيل في أصعب الظروف عن أمير المؤمنين وذكر فضائله في أخطر المجالس، حتى أنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) بنفسه قد مدح مثل هذا الدفاع ولو كان ممّن

ص: 256


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 11 ص 44 - 46 سيري در صحيحين ( بالفارسي ) للمؤلف: ج 1 ص 44 .

تركوه غاضبين وألحقوا بمعاوية، واعتبر أمير المؤمنين (علیه السلام) من يقتل في هذا المجال شهيداً في سبيل الله (1).

وإليك الآن نماذج من محادثات عقيل ومعاوية في أمير المؤمنين (علیه السلام) ليتضح أنّ ما قاله عقيل كان دفاعاً عنه وبياناً صريحاً لفضائله ومناقبه وذماً لمعاوية بن أبي سفیان :

-1- يروي الثقفي في الغارات:

جاء عقيل إلى الشام فوهب له معاوية مائة ألف درهم وسأله« يا أبا يزيد، أنا خيرٌ لك أم علي؟» ؛ فأجاب عقيل «وجدت علياً أنظر لنفسه منه لي ووجدتك أنظر لي منك لنفسك»(2).

2 - يروي البلاذري أنّ معاوية قال لعقيل في مجلسه:

«يا أبا يزيد أنا خير خير لك من أخيك علي » ؛ فأجاب عقيل: «إنّ أخي آثر دينه على دنياه وأنت آثرت دنياك على دينك، فأخي خير لنفسه منك لنفسك وأنت خير لي منه» (3).

وقال معاوية في مجلس آخر :

«لو لا علمه بأنّي خير له من أخيه لما أقام عندنا » . فأجاب عقيل: «أخي خيرٌ لي في ديني وأنت خير لي في دنياي، وقد آثرت دنياي وأسأل الله خاتمة الخير »(4).

ص: 257


1- أقام أمير المؤمنين حد شرب الخمر على شاعره المخصوص النجاشي، ففرّ مع أسرته ومعهم طارق ابن عبد الله النهدي إلى معاوية؛ وفي مجلسه حمل معاوية على أمير المؤمنين (علیه السلام) فقام طارق رغم تركه علياً وفراره منه فردّ على معاوية ودافع عن أمير المؤمنين (علیه السلام)، فانتقل الخبر إلى الإمام (علیه السلام) فقال: «لو قتل أخو بني نهد يومئذ لقتل شهيداً» . انظر: الغارات للثقفي: ج 2 ص 540 - 545 .
2- الغارات: ج 2 ص 551 - 550 .
3- أنساب الأشراف: ج 2 ص 73 .
4- أسد الغابة : ج 3 ص 423، الاستيعاب المطبوع في حاشية الإصابة : ج 3 ص 158 .

4- سأل معاوية عقيلاً يوماً وقال:

«يا أبا يزيد ! كيف تركت علياً وأصحابه؟» فقال عقيل: «كأنّهم أصحاب محمد إلّا أنّي لم أر رسول الله فيهم، وكأنك وأصحابك أبوسفيان وأصحابه إلّا أنّي لم أر أبا سفيان بينكم »(1).

ه - فضيلة الأمير المؤمنين (علیه السلام) لم نسمعها إلّا من عقيل:

إنّ اهتمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ببيت المال ومساواة الناس في التمتع به، أمر واضح كالشمس في رابعة النهار، بحيث أنّه (علیه السلام) كان يساوى حتى في الزمان، وقد نقلت حادثة في هذا الصدد من عقيل بن أبي طالب وفي مجلس معاوية والتي تعد فضيلة من فضائل الإمام (علیه السلام) ، والظاهر أنّ هذه القضية لم تنقل إلى أن نقلها عقيل وإن لم يحدث بها عقيل ما توصل إلينا من فضائل الإمام وأهل بيته الأئمة الأطهار (علیهم السلام) يروي ابن أبي الحديد هذه الحادثة التاريخية كالتالي:

سأل معاوية عقيلاً عن قصة الحديدة المحمّاة المذكورة (2) فبكى وقال أنا أحدثك يا معاوية عنه ثم أحدثك عما سألت . نزل بالحسين ابنه ضيف فاستسلف درهماً اشتری به خبزاً واحتاج إلى الإدام فطلب من قنبر خادمهم أن يفتح له زِقّاً من زقاق عسل جاءتهم من اليمن فأخذ منه رطلاً، فلما طلبها (علیه السلام) ليقسمها قال يا قنبر أظنّ أنّه حدث بهذا الزق حدث ! فأخبره فغضب (علیه السلام) وقال :عليَّ بحسين فرفع عليه الدّرة فقال : بحق عمي جعفر - وكان إذا سئل بحق جعفر سكن - فقال له ما حملك أن أخذت منه قبل القسمة؟

قال : إن لنا فيه حقاً فإذا أعطيناه رددناه.

قال: فداك أبوك ! وإن كان لك فيه حق فليس لك أن تنتفع بحقك قبل أن

ص: 258


1- أسد الغابة : ج 3 ص 423.
2- قصة الحديدة المحماة مذكورة في نهج البلاغة الخطبة 219 .

ينتفع المسلمون بحقوقهم . أما لولا أنّي رأيت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يقبل ثنيّتك لأوجعتك ضرباً، ثم دفع إلى قنبر درهماً كان مصروراً في ردائه وقال: اشتر به خير عسل تقدر عليه .

قال عقيل : والله لكأني أنظر إلى يَدَي علي وهي على فم الزق وقنبر يقلب

العسل فيه ثم شده وجعل يبكي ويقول: اللهم اغفر لحسين فإنّه لم يعلم (1).

فقال معاوية: ذكرت مَنْ لا ينكر فضله، رحم الله أبا حسن فلقد سبق من كان قبله وأعجز من يأتي بعده هلمّ حديث الحديدة .

قال: نعم ؛ أقويت وأصابتني مخمصة شديدة فسألته فلم تند صفاته فجمعت صبياني وجئته بهم والبؤس والضر ظاهران عليهم فقال: ائتني عشية لأدفع إليك شيئاً فجئته يقودني أحد ولدي فأمره بالتنحي ثم قال: ألا فدونك، فأهويت حريصاً - قد غلبني الجشع أظنها صرة - فوضعت يدي على حديدة تلتهب ناراً، فلما قبضتها نبذتها وخُرْتُ كما يخور الثور تحت يد جازره .

فقال لي: ثكلتك أمك هذا من حديدة أوقدت لها نار الدنيا فكيف بك وبي غداً إن سلكنا في سلاسل جهنم ؟ ثم قرأ «إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ »(2).

ثم قال : ليس لك عندي فوق حقك الذي فرضه الله لك إلّا ما ترى فانصرف إلى

ص: 259


1- هذه القصة تبين مدى احتياط أمير المؤمنين (علیه السلام) وشدته باعتباره إماماً للمسلمين وكذلك حرصه على بيت المال باعتباره قائداً للأمة، فلا يتساهل أبداً ولو في حق ابنه، وأما ما يتعلق بالحسين بن علي (علیهما السلام) باعتباره واحداً من المسلمين فلم يكن عمله باطلاً للظروف الخاصة به وحاجته المبرمة وكونه لم يأخذ إلّا من حقه الخاص به وتحت إشراف خازن بيت المال، إذ لو وقع ما يخالف الحق لما منع أمير المؤمنين (علیه السلام) أي مانع أو رادع عن تعزيره .
2- غافر :71 .

أهلك . فجعل معاوية يتعجب ويقول: هيهات هيهات عقمت النساء أن يلدن مثله(1).

6- دفاع عقيل عن أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) :

وجدنا في ما مرّ من حديث عقيل مع معاوية أنّه كان يدافع بكل قوة عن أمير المؤمنين (علیه السلام) سواء بجملة قصيرة أو بيان قصة كاملة، فكان يمدح أفعال أمير المؤمنين (علیه السلام) ويقدح بمعاوية وأعماله ، وكان يبين حق المطلب في كلامه .

ومن يطّلع على الكتب الروائية يشاهد أنّ دفاع عقيل لم يقتصر عن أمير المؤمنين (علیه السلام) فحسب، بل كان الحديث ينتهي أحياناً إلى النقاش حول أصحاب الإمام وأنصاره ، فيدافع عقيل عنهم بكل صراحة رغم كره معاوية من سماع فضائل هؤلاء ومناقبهم .

يذكر المسعودي حديثاً طويلاً بين عقيل ومعاوية نلخصه في ما يلي . يقول المسعودي:

«من ذلك أنّه وفد عليه عقيل بن أبي طالب منتجعاً وزائراً، فرحب به معاوية وسُرّ بوروده ... وأوسعه حلماً واحتمالاً، فقال له: يا أبا يزيد كيف تركت علياً؟ فقال: تركته على ما يحبّ الله ورسوله وألفيتك على ما يكره الله ورسوله.

فقال له معاوية: لولا أنّك زائر منتجع جنابنا لرددت عليك أبا يزيد جواباً تألم منه، ثم أحبّ معاوية أن يقطع كلامه مخافة أن يأتي بشيء يخفضه فوثب عن مجلسه .... فلمّا كان من غد جلس وأرسل إليه فأتاه فقال: يا أبا يزيد كيف تركت علياً أخاك ؟

قال: تركته خيراً لنفسه منك وأنت خير لي منه . فقال له معاوية ... محل المجد من بني هاشم منوط فيك يا أبا يزيد ما تغيرك الأيام والليالي.

ص: 260


1- شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد: ج 11 ص 253 - 254 .

فقال عقيل: ... ولكن أنت يا معاوية إذا افتخرت بنو أمية فبمن تفتخر ؟

فقال معاوية: عزمت عليك يا أبا يزيد لما أمسكت، فإنّي لم أجلس لهذا وإنما أردت أن أسألك عن أصحاب علي فإنّك ذو معرفة بهم، ...ميّز لي أصحاب علي وابدأ بآل صوحان فإنّهم مخاريق الكلام.

قال: أمّا صعصعة فعظيم الشأن، عضب اللسان، قائد فرسان، قاتل أقران، ... قليل النظير، وأمّا زيد وعبد الله فإنّهما نهران جاريان يصبّ فيهما الخلجان ويُغاث بهما البلدان رجلا جدّ لا لعب معه ...».

كتاب شكر من صعصعة بن صوحان لعقيل :

يقول المسعودي :

فاتصل كلام عقيل بصعصعة فكتب إليه: «بسم الله الرحمن الرحيم، ذكر الله أكبر وبه يستفتح المستفتحون وأنتم مفاتيح الدنيا والآخرة، أما بعد، فقد بلغ مولاك كلامك لعدوّ الله وعدوّ رسوله فحمدت الله على ذلك وسألته أن يفيء بك إلى الدرجة العليا...»(1).

عقيل بن أبي طالب أبو الشهداء:

ومن مفاخر عقيل بن أبي طالب والتي يتميز بها أنّ اثني عشر شخصاً من شهداء عاشوراء كانوا من أبناء أو أحفاد أبي الشهداء عقيل، ولم يحظ أحد بهذه المفخرة إلّا عقيل وأخوه أمير المؤمنين (علیه السلام)، وإليك التعريف بهؤلاء الشهداء:

الشهداء من وُلد عقيل :

يقول البلاذري قتل من أبناء عقيل مع الحسين بن علي (علیه السلام) ستة أشخاص .

ص: 261


1- تفصيل كلام عقيل وكتاب صعصعة، موجودان في مروج الذهب: ج 3 ص 46 - 47 .

يقول فيهم الشاعر :

يا عين جودي بعبرة وعويل ***واندبي إن ندبت آل الرسول

تسعة منهم لصلب عليّ ***قد أبيدوا وستةٌ لعقيل

ثم يقول: ويحتمل أن يكون أبناء عقيل الذين قتلوا في عاشوراء خمسة أشخاص كما أنّ البعض قرأ «خمسة» بدلاً من «ستة» في البيت الأخير، وهؤلاء الخمسة هم: 1 - مسلم، 2- جعفر الأكبر، 3- عبد الله الأكبر، 4- عبد الرحمن، 5 - محمد، وكلهم أبناء عقيل بن أبي طالب(1).

ويسمي أبو الفرج الأصفهاني أيضاً خمسة شهداء من أبناء عقيل، وهم:

1- مسلم بن عقيل .

2- عبد الله الأصغر بن عقيل وكانت أمه أم ولد حسب ما نقله المدائني .

3- عبد الله الأكبر بن عقيل وأمه أيضاً أم ولد حسب قول المدائني .

4- علي بن عقيل .

5- جعفر بن عقيل(2).

الشهداء من أحفاد عقيل

يقول أبو الفرج الأصفهاني في أحفاد عقيل بن أبي طالب الذين قتلوا في عاشوراء (3).

1- محمد بن مسلم بن عقيل وأمه أم ولد وقاتله شخص يدعى لقيط بن أناس الجهني .

2- عبد الله بن مسلم بن عقيل أمه رقية بنت أمير المؤمنين (علیه السلام)وقاتله حسب قول

ص: 262


1- أنساب الأشراف: ج 2 ص 70 .
2- مقاتل الطالبيين: ص 61 .
3- نفس المصدر : ص 62 .

المدائني رجل يدعى عمرو بن صبيح .

3- محمد بن أبي سعيد بن عقيل (أبو سعيد من أبناء عقيل وكان يلقب بالأحول وقد قتل ابنه محمد في كربلاء).

4- جعفر بن محمد بن عقيل، يقول ابن حمزة من أحفاد عقيل الذين قتلوا في كربلاء جعفر بن محمد بن عقيل الذي قتل مع محمد بن أبي سعيد بن عقيل (1).

5 و 6 - محمد وإبراهيم ابنا مسلم بن عقيل ويضاف هذان إلى أحفاد عقيل الأربعة الذين ذكرهم أبو الفرج الأصفهاني .

يروي الشيخ الصدوق (رحمه الله ) في أماليه رواية طويلة عن عاشوراء ويقول: إنّ ولدين المسلم بن عقيل هما محمد وإبراهيم قد أخذا أسيرين وبقيافی سجن الكوفة سنة، ثم قتلا قتلة شنيعة وألحقا بأبيهما وأخويهما الشهداء (2).

وبناء على ما ذكرناه فإنّ مجموع أولاد عقيل الذين استشهدوا في كربلاء كانوا اثني عشر شخصاً، ستة من أبنائه وستة من أحفاد أبي الشهداء عقيل.

الصورة

مرقد عقيل ابن أبي طالب وجعفر الطيار (علیهما السلام) في مقبرة البقيع

ص: 263


1- ولكنه يحتمل أن يكون استشهاده في واقعة «الحرة » التي وقعت بعد عاشوراء .
2- أمالي الصدوق، المجلس 19 .

ص: 264

الفصل السادس : مرقد حليمة السعدية مرضعة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)

اشارة

ص: 265

ص: 266

مرقد حليمة السعدية مرضعة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)

ومن القبور التي كان لها قبة وبناء، قبر حليمة السعدية مرضعة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) . يقع هذا القبر في آخر البقيع قرب قبر عثمان .

لم نعثر على شيء عن هذا القبر في كتب الرحلات أو كتب تاريخ المدينة المتقدمة، حتى أنّ ابن بطوطة ( 757 ) يذكر في رحلته قبراً في البصرة لحليمة السعدية وابنتها (1).

أما الكتّاب في القرون الأخيرة فقد ذكروا هذا القبر في البقيع .

يقول نائب الصدر الشيرازي ( 1306 ) في كتاب رحلته: «أمام قبة عثمان توجد قبة كتبت على بابها هذه الجملة: «هذه قبة حضرت حليمة السعدية (رضی الله عنها)» ، كما كتب هذان البيتان أيضاً (بالتركية):

یا پلدي مرضييه فخر عالمه قبه ***حليمة حضرتنه قيلدی پادشه حرمت

که ذاتی در شرف دودمان مقدسه (2)

وجود هذين البيتين بالتركية يبيّن أنّ مبنى هذا المرقد يرجع إلى أيام الدولة العثمانية، وأما قبل ذلك فلا نعلم من أمره شيئاً .

ويعدّ حسام السلطنة (1330) المراقد الموجودة في البقيع فيقول: «... التاسع مرقد حليمة السعدية»(3).

يقول الرحالة الغربي «ريتشارد بورتون» الذي زار البقيع سنة 1276

ص: 267


1- رحلة ابن بطوطة: ص 184 .
2- رحلة نائب الصدر الشيرازي ص 230.
3- رحلة حسام السلطنة ص 152.

هجرية الموافق لسنة 1853 ميلادية :والمكان الثالث الذي شاهدناه، قبة على قبر حليمة السعدية»(1).

ورغم مرور أكثر من سبعين عاماً على هدم تلك المراقد نرى من القبور التي لم تنمح آثارها قبر حليمة السعدية الواقع في نهاية البقيع، وهو مشهور يأتيه الزوار دوماً، وهو من القبور المعلومة والمميّزة في الخرائط الموجودة والمؤلفات الجديدة مثل « تاريخ معالم المدينة المنورة »(2).

الصورة

مرقد السيدة حليمة السعدية مرضعة (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)

قبر صفية عمة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) :

وفي البقيع قبر منسوب إلى صفية عمة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأم الزبير بن العوام، وهو من قبور البقيع التي عرفها مؤرخوا المدينة والرحالون منذ القرون الأولى للإسلام ويومنا هذا .

ص: 268


1- موسوعة العتبات المقدسة: ج 3 ص 282 .
2- ص: 245 .

قبر صفية كما رواه مؤرخوا المدينة

يروي مؤرخ المدينة الشهير ابن شبة (المتوفى سنة 262 هجرية )عن عبد العزيز مؤرخ المدينة وأول مؤلف في هذا الموضوع، فيقول:

«توفّيت صفّية فدفنت في آخر الزقاق الذي يخرج إلى البقيع عند باب الدار التي يقال لها دار المغيرة بن شعبة التي أقطعه عثمان بن عفان، لازقاً بجدار الدار . قال عبد العزيز فبلغني أنّ الزبير بن العوام أجاز المغيرة وهو يبني داره فقال: يا مغيرة ارفع مطمرك (1) عن قبر أمي . فأدخل المغيرة جداره، فالجدار اليوم منحرف فيما بين ذلك الموضع وبين باب الدار .

قال عبد العزيز: وقد سمعت من يذكر أنّ المغيرة بن شعبة أبى أن يفعل ذلك لمكانه من عثمان، فأخذ الزبير السيف ثمّ قام على البناء، فبلغ الخبر عثمان، فأرسل إلى المغيرة يأمره بالمصير إلى ما أمره به الزبير، ففعل»(2).

يقول ابن النجار (المتوفى سنة 643 هجرية ) : «وقبر صفية بنت عبد المطلب عمة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في تربة في أول البقيع »(3).

يقول السمهودي (المتوفى سنة 911 هجرية ):

«ومنها: مشهد صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، أم الزبير بن العوام، على يسارك عند ما تخرج من باب البقيع، وهو بناء من حجارة لا قبّة عليه، قال المطري وأرادوا عقد قبّة صغيرة عليه فلم يتفق ذلك»(4).

ص: 269


1- المطمر خيط البناء الذي يُقدّ به (محيط المحيط).
2- تاريخ المدينة المنورة : ج 1، ص 126 - 127 .
3- اخبار مدينة الرسول ص 154 .
4- وفاء الوفا: ج 3، 919 .

يقول مؤلف «عمدة الأخبار » من علماء القرن العاشر مثل ذلك: «وقبرها أوّل ما تلقى عن يسارك عند خروجك من باب البقيع (1)»(2).

ذكرنا أقوال أربعة من أشهر مؤرخي المدينة الذين انتشرت كتبهم وهي تعتبر مراجع موثوقة في فنّها

قبر صفية كما رواه الزوار والرحالون :

1- يقول ابن جبير (المتوفى سنة 614 هجرية) في كتاب رحلته: «وبقيع الغرقد شرقی المدينة، تخرج إليه على باب يعرف باب البقيع، وأوّل ما تلقى عن يسارك عند خروجك من الباب المذكور ، مشهد صفيّة عمة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، أم الزبير ابن العوام »(3).

2 - يقول ابن بطوطة (المتوفى سنة 779 هجرية) : « ... البقيع وتخرج علي على باب يعرف بباب البقيع، وأول ما يلقى الخارج إليه على يساره عند خروجه من الباب قبر صفية بنت عبد المطلب وهي عمة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) »(4).

3- يقول السيد إسماعيل المرندي في رحلته «توصيف المدينة» (سنة 1255 هجرية): «ومنها قبة صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله وأم الزبير »(5).

كانت هذه أقوال ثلاثة من مؤرخي المدينة من القرن الأول إلى القرن الحادي عشر للهجرة، وكذلك أقوال ثلاثة من الرحالة المسلمين الذين زاروا

ص: 270


1- المقصود من باب البقيع البوابة الشرقية للمدينة والمعروفة بباب البقيع
2- عمدة الأخبار في مدينة المختار: ص 156 .
3- رحلة ابن جبير: ص 144 .
4- رحلة ابن بطوطة: ص 119 .
5- مجلة ميقات الحج الفصلية، العدد 5 ص 118 ، يلاحظ وجود غلطين مطبعيتين في هذه الجملة المكتوبة بالمجلة: إحداهما فاطمة بدلاً من صفية، والأخرى برير بدلاً من الزبير .

مدينة الرسول في أوائل القرن السابع حتى أواسط القرن الثالث عشر الهجري .

خلاصة أقوال كتب التاريخ:

1- كان قبر صفية خارج البقيع سابقا:

ذكر المؤرخون في كتبهم أنّ ذلك الجزء من البقيع الذي يقع فيه قبر صفية كان في السابق خارج البقيع، وكان في زقاق بني فيه المغيرة بعدئذ بيتاً، إلى أن ضُمّ إلى البقيع أخيراً، وقيل أنه تم ذلك سنة 1373 هجرية .

يقول علي حافظ من الكتاب المتأخرين: «كان بقيع العمات خارج البقيع سابقاً ولم يكن يدفن فيه أحد، وكان بينه وبين البقيع زقاق يتصل بالحرة الشرقية، إلى أن قامت بلدية المدينة في سنة 1373 هجرية بإزالة الجدران فضمّت هذا الجزء ومعه الزقاق إلى البقيع وإنّ مساحة بقيع العمات بعد تكميله 3494 متراً مربعاً »(1).

2- كان لقبر صفية قبة بعد القرن العاشر :

لاحظنا من كلام السمهودي أنّه لم تكن لقبر صفية قبة حتى زمان السمهودي أي أوائل القرن العاشر ولكن يتبين من كلام السيد إسماعيل المرندي أنّ في زمانه أي أواسط القرن الثالث عشر كانت لهذا القبر قبة وإن لم نعلم تاريخ بنائها بالضبط، وسنذكر كلام رفعت باشا الذي يشير إلى بقاء القبة إلى حين زيارته لها ( سنة 1325 هجرية )أي بعد زيارة المرندي بمائة وخمس وسبعين سنة .

ص: 271


1- فصول من تاريخ المدينة ص 173.

3- «بقيع العمة» لا «بقيع العمات»:

الأمر الثالث هو أنّه قد دفنت في هذا المكان واحدة من عمات رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فحسب وهي صفية ورأينا أنّ الكتب المذكورة أيضاً لم تشر إلّا إلى قبر صفية، إذن فاصطلاح« بقيع العمات » الذي تداولته العامة بعد ذلك ليس بصحيح.

ولعل سببه دفن شخص آخر قرب قبر صفية مما أوحى إلى أنّ هذين القبرين لعمتي رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) صفية وعاتكة، لكنّنا لاحظنا أنّه وحتى أواسط القرن الثالث عشر لم يشر أحدٌ من الكتّاب لا إلى عاتكة ولا إلى مصطلح «بقيع العمات» ، مما يدل على أنّ القبر الثاني - أياً كان صاحبه - قد ظهر بعد ذلك التاريخ وشاع اسم «بقيع العمات » تدريجياً على ألسنة الناس، ومع مرور الأيام تسرب هذا الاسم في الكتب والرحلات التي دونت حديثاً، دون أن يكون له أي مرجع تاريخي أو أساس علمي صحيح . على سبيل المثال يعرف رفعت باشا (1325 هجرية) قبب البقيع وحواليها قائلاً: « والتي على يمين البرجين لعاتكة وصفية عمتي رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) »(1).

كما أنّ حسام السلطنة ذكر في رحلته قبل رفعت باشا سبع وعشرين سنة المرقد الواقع خارج البقيع باعتبار مرقد صفية وعاتكة (2).

ولا نتوقع غير ذلك منهما، لأنّ الأوّل كان من كبار ضباط مصر الذي سافر إلى الحجاز باعتباره قائداً لحرس المحمل من قبل ملك مصر، وأما الثاني فكان من وزراء ملوك القاجار في إيران، حيث كتبا ما سمعاه وشاهداه (3).

وممّا يؤيد رأينا، قول علي حافظ وهو كاتب متأخر من أهالي المدينة: «يوجد

ص: 272


1- مرآة الحرمين: ج 1 ص 426 .
2- رحلة مكة ص 152 .
3- بالنسبة للكتب الحديثة التي تخبر عن وجود قبر عاتكة عند قبر صفية يمكننا الإشارة إلى« التاريخ الإسلامي لمكة المكرمة والمدينة المنورة »وكذلك «الآثار الإسلامية لمكة والمدينة » و«الكنوز المهدومة »: ( گنجینه های ویران) .

في هذا المكان قبران أحدهما لصفية والآخر قد اشتهر بين أهل المدينة أنّه لعاتكة فسموا المكان بذلك( بقيع العمات )».

ثم يقول: «ولكن لم يشهد التاريخ هجرة عاتكة إلى المدينة وحتى إسلامها محل خلاف»(1).

يقول المؤلف تأكيداً لذلك: لو راجعنا كتب التراجم والرجال لوجدنا أنّ صفية هي عمة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الوحيدة من بين عماته الخمس التي هاجرت إلى المدينة، أما الأخريات فإما متن قبل الإسلام أو لم يهاجرن إلى المدينة ولعل أزواجهنّ منعهنّ من الهجرة .

يقول ابن قتيبة (المتوفى سنة 276 هجرية): «ولم تسلم من عماته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلّا صفية »(2).

يقول عز الدين الجزري: (المتوفى سنة 630 هجرية): «وأسلمت عمته صفية إجماعاً واختلفوا في أروى وعائكة»(3).

ويقول ابن عبد البر (المتوفى سنة 463 هجرية): «أختلف في إسلام عاتكة والأكثر يأبون ذلك»(4).

ويشير ابن حجر العسقلاني إلى الخلاف في إسلام عاتكة، ثم يقول: «وأمّا ابن اسحاق فذكر أنّه لم يسلم من عماته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلا صفية .

وذكرها ابن فتحون في ذيل الإستيعاب واستدلّ على إسلامها بشعر لها تمدح

ص: 273


1- فصول من تاريخ المدينة: ص 170 .
2- المعارف: ص 57 .
3- أسد الغابة طبعة بيروت: ج 1 ص 40 .
4- الاستيعاب المطبوع بحاشية الإصابة : ج 4 ص 368 .

فيه النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وتصفه بالنبوة »(1).

نستنتج من ذلك كله أنّه:

أولاً : لم يشهد التاريخ بوضوح على إسلام عاتكة بل يبدو عدم إسلامها .

ثانياً: ليس هناك دليل على هجرتها إلى المدينة، بل عدم هجرتها من المسلمات .

ثالثاً: لو فرضنا صحة إسلامها أو هجرتها، فبأي مستند تاريخي يمكننا الإدعاء بأنّها دفنت عند قبر أختها صفية خارج البقيع حيث انضمّ ذلك المكان إلى البقيع بعد ثلاثة عشر قرناً، فلعلها دفنت في مكان آخر داخل البقيع .

4-أين قبر ام البنين ؟

ذكرنا إلى الآن عدم صحة القول بدفن عاتكة قرب البقيع ورفض تسمية «بقيع العمات» لعدم وجود أي دليل تاريخي لذلك، وعرفنا كيفية تسرب هذا القول في بعض الرحلات والكتب وأنّ هذه المكتوبات هي التي يستند عليها عامة الناس .

وأغرب من قبر عاتكة وأبعد منه عن الحقيقة ما ذكر أخيراً عن قبر «أم البنين» حيث نجد أنّ بعض الزوار الإيرانيين إذا زاروا قبر صفية، التفتوا بعده إلى قبر آخر بقربه وأقاموا العزاء باعتباره قبر أم البنين زوجة أمير المؤمنين(علیه السلام)، فيبكون، مع أنّ التاريخ لم يشهد بذلك أبداً، لا في الكتب الأصيلة ولا حتى في الرحلات المكتوبة في القرنين الأخيرين باللغة الفارسية أو غير الفارسية.

ولعل ظهوره لا يزيد عن ربع القرن، إلّا أنه قد انتشر بسرعة بين الناس سماعاً كما هو الحال في قبر عاتكة وبيت الأحزان في خارج البقيع وقد تسرب في بعض الكتب أيضاً (2).

ص: 274


1- الإصابة : ج 4 ص 357 .
2- مثل «التاريخ والآثار الإسلامية لمكة والمدينة المنورة» .

فلا دليل إذن لهذا الموضوع سوى أقوال المداحين ومراثي المعزين عند قبر صفية ونداؤهم: «لا تدعوني ويك أم البنين ! ».

سؤال وجواب :

عندما يجري يجري الكلام عن عدم صحة وجود قبر أم البنين عند قبر صفية، يتساءل البعض ببساطة: «إذا لم يكن قبر أم البنين هناك، فأين قبرها داخل البقيع ؟ ».

وتتضح الإجابة على هذا السؤال مما ذكرناه من انضمام قبر صفية إلى البقيع قبل أقل من قرن واحد وبقائه خارجها طوال ثلاثة عشر قرناً .

وفوق ذلك، نقول في الجواب إنّ قبر أم البنين لن يكون إلّا بجوار قبور سائر زوجات أمير المؤمنين (علیه السلام) وقبور أبنائه ذكوراً وإناثاً وفي أي موضع كان من البقيع.

لأنّنا نعلم أنّ البقيع تضمّ قبور العديد من قربى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأصحابه وأبناء الأئمة وزوجاتهم وغيرهم من كبار رجال الإسلام إلا أنّ قبور معظم هؤلاء غير معلومة ما عدا النفر القليل، ولا يستثنى قبر أم البنين من ذلك الجم الوفير، فعلى سبيل المثال:

يقول المؤرخون إنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) كان له سبعة وعشرون ولداً وقيل ستة وثلاثون ، من الذكور ثمانية عشر ومن الإناث مثلهم .

ولنتساءل الآن :أين قبور أولاد أمير المؤمنين (علیه السلام) الذين دفنوا في البقيع؟ وأين قبر محمد بن الحنفية الذي كان له أهمية خاصة بعد الحسن والحسين، بين أبناء أمير المؤمنين (علیه السلام) والذي يقال أنه مدفون بالبقيع ؟ (1)

إذن نقول: قد تزوج أمير المؤمنين (علیه السلام) طوال حياته بعد الزهراء (علیها السلام) تسع

ص: 275


1- في مكان وفاة محمد بن الحنفية ودفنه قولان في الطائف أو في المدينة .

مرات(1)، ولا شك أنّ معظم زوجاته قد توفين في المدينة ودفن في البقيع، فأينما كان قبورهنّ، كان قبر أم البنين أيضاً عندها .

الصورة

قبرا عاتكة وصفية عمتا النبي الله وقبر أم البنين (رضوان الله عليهن)

ص: 276


1- زوجات أمير المؤمنين (علیه السلام) هنّ: 1- أمامة ، 2 - الخوصاء، 3 - خولة الحنفية، 4- أم حبيب بنت ربيعة، 5- أم البنين، 6- ليلى بنت مسعود 7 - أسماء بنت عميس، 8 - أم سعيد بنت عروة بن مسعود، 9- أم شعيب المخزومية .

الفصل السابع : مراقد أئمة أهل السنة في البقيع

اشارة

ص: 277

ص: 278

مراقد أئمة أهل السنة في البقيع

كتبنا عن عدد من الآثار والمراقد المعروفة في البقيع والتي تخص شخصيات إسلامية مشتركة بين جميع الفرق الإسلامية، وكيفيّة هدم الوهابيين كل تلك المراقد والآن نذكر ثلاث قبب أخرى بنيت على قبور ثلاثة من أئمة أهل السنة والتي تم هدمها على أيدي الوهابيين كسائر المراقد .

يختص هذا الجزء من دراستنا بكيفية بناء هذه المراقد الثلاثة طوال القرون المختلفة وتاريخ هدمها، وكذلك نورد بحثاً كلامياً فقهياً عن بناء المباني على قبور رجال الدين وكبار العلماء وأنّ جميع المسلمين شيعة وسنةً كانوا متفقين على جواز ذلك، ما عدا الفرقة الوهابية التي ظهرت بعد قرون طويلة فجادلت عموم المسلمين ونازعتهم في مختلف المسائل العقائدية ومنها هذه المسألة . فلا يظنّ البعض أنّ الآثار التي كانت موجودة في البقيع إنّما بناها الشيعة طوال التاريخ لأنّها كانت تتعلق بشخصيات إسلامية يهتم بهم الشيعة بالأخص دون سائر المسلمين .

نعم، إنّ إقامة الأبنية على قبور الشخصيات الدينية الكبيرة، عقيدة مشتركة وسنّة مستحبّة بين جميع فقهاء الشيعة وأهل السنّة، فنجد مراقد مبنية في كثير من بلاد المسلمين مثل حرم أمير المؤمنين والإمام الحسين (علیهما السلام) في النجف وكربلاء، وحرم أبي حنيفة وأحمد بن حنبل في بغداد وحرم الإمام الشافعي وضريحه في مصر، كما نجد في البقيع أيضاً مراقد مبنية لأئمة أهل السنة إلى جانب مراقد أئمة الشيعة.

وإليك الآن تاريخ هذه المراقد:

ص: 279

1- مرقد عثمان بن عفان:

تذكر كتب التاريخ أنّه لم يؤذن بعد مقتل عثمان بن عفان بدفنه داخل البقيع، فدفن خارج البقيع في الناحية الشرقية منها بمكان يسمى «حش كوكب » ، فلما تولى مروان بن الحكم ولاية المدينة في عهد معاوية، أزال الجدار الحائل بين البقيع وحش كوكب ليضم قبرعثمان إلى البقيع ورفع قطعة حجر التي وضعها رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بیده علی قبر عثمان بن مظعون، فوضعها على قبر عثمان بن عفان وقال: «والله لا يكون على قبر عثمان بن مظعون حجر يعرف به ! »(1).

فكان قبر عثمان من أقدم القبور التي بنيت عليها مباني ووضعت عليها قباب وإن لم نعلم تاريخ بناء أول مرقد لعثمان ولا من تولى بناءه، إلّا أنّه كان من بين مؤلفي أوائل القرن السابع الهجري مَن ذكروا وجود هذا المرقد في أيامهم، وعلينا أن نضيف إلى هذا الخبر التاريخي أنّه من الطبيعي وجود فارق زمني طويل بين «إيجاد البناء » وبين «ذكره وتوصيفه في مرجع تاريخي » ، فالمبنى الذي شوهد في القرن السابع قد يكون مبنياً منذ القرن الرابع أو الخامس أو غيرهما .

يقول ابن جبير (المتوفى سنة 614 هجرية) في رحلته: «وفي آخر البقيع قبر عثمان وعليه قبة صغيرة مختصرة»(2).

ويقول ابن النجار (المتوفى سنة 643 هجرية): «وقبر عثمان ، وعليه قبة عالية»(3).

يبدو من كلام هذين الرجلين أحدهما رحالة والآخر من مؤرّخي المدينة، ایجاد تغيير في بناء مرقد عثمان أثناء تلك الفترة أي خلال ثلاثين سنة، فقد تجدد

ص: 280


1- أسد الغابة: ج 3 ص 387 تاريخ المدينة لابن زبالة، نقلاً عن وفاء الوفا: ج 3 ص 894 و 914 .
2- رحلة ابن جبير: ص 144 .
3- الدرة الثمينة في أخبار المدينة : ص 156 .

البناء إذ تحولت القبة الصغيرة إلى قبة عالية .

وقد استمر البناء على مرقد عثمان طوال التاريخ إلى أن تم هدمه مع سائر آثار البقيع سنة 1344 على أيدي الوهابيين .

وقد ذكر السمهودي (المتوفى سنة 911 هجرية ) قبة عثمان عن المطري فقال: «وعليه قبة عالية ابتناها أسامة بن سنان الصالحي أحد أمراء السلطان السعيد صلاح الدين يوسف بن أيوب في سنة إحدى وستمائة » (1)، كما يذكر مثل ذلك مؤلف كتاب «عمدة الأخبار في مدينة المختار » الذي عاش بعد السمهودي بما يقارب القرن (2).

ويبدو أيضاً من كلام نائب الصدر الشيرازي (3) ورفعت باشا (4) والذين حجا في العقود الأخيرة قبل هدم البقيع ، أنّ مرقد عثمان كان قائماً بنفس المميزات المذكورة قبل ذلك .

2و3- مرقدي الإمام مالك ونافع :

عندما نراجع كتب تاريخ المدينة وكتب الرحلات لنطلع على تاريخ وكيفية بناء مرقد الإمام مالك وقبته وهو أحد الأئمة الأربعة لأهل السنة، وكذلك قبة نافع مولى ابن عمر، أو نافع أحد القراء السبعة المعروفين . نستنتج من مجموع أقوال هؤلاء الكتّاب أنّ تاريخ بناء مرقد الإمام مالك يرجع إلى ما قبل القرن السابع ولا يعلم كيفيته قبل هذا التاريخ، أما مبنى قبر نافع فقد تم بناؤه في القرن التاسع

ص: 281


1- وفاء الوفا: ج 3 ص 919.
2- ص 159 .
3- الرحلة ص 230.
4- مرآة الحرمين : ج 1 ص 426 .

الهجري، ولم يذكر أحدٌ مرقداً مبنياً لنافع قبل هذا التاريخ .

يقول ابن جبير (المتوفى سنة 614 هجرية): «قبر مالك بن أنس الإمام المدني (رضی الله عنه) وعليه قبة صغيرة مختصرة البناء»(1).

يذكر السمهودي (المتوفى سنة 911 هجرية ) المرقدين معاً قائلاً: «ومنها مشهد الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس الأصبحي ... عليه قبة صغيرة وإلى جانبه في المشرق والشام قبة لطيفة أيضاً لم يتعرض لذكرها المطري ومن بعده، فيحتمل أن تكون حادثة، ويقال أنّ بها نافعاً مولى ابن عمر»(2).

ويأتي مؤلف عمدة الأخبار بعد السمهودي بقرن فيذكر المرقدين كما ذكرهما السمهودي»(3).

يقول إبراهيم رفعت باشا في مرآة الحرمين« وقبة الإمام أبي عبد الله مالك ابن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة وقبة نافع شيخ القراء»(4).

يقول نائب الصدر الشيرازي: « توجد قبتان متصلتان إحداهما لمالك بن أنس إمام المذهب المالكي والثانية لنافع وهو من القراء المشهورين »(5).

نجد في الخرائط التي في أيدينا والتي لا نرى فيها أثراً كثيراً للقبور أنّ القبرين وقعا مجاورين ويعرفان معاً، فعلى سبيل المثال رسم السيد أحمد آل ياسين خريطة البقيع الحالية في كتابه وقال: «قبر الإمام مالك بن أنس ... وقبر نافع مولى عبد الله بن عمر بن عمر شيخ القراء»(6).

ص: 282


1- رحلة ابن جبير ص 144 .
2- وفاء الوفا: ج 3 ص 920 .
3- عمدة الأخبار: ص 156 .
4- مرآة الحرمين: ج 1 ص 426 .
5- رحلة نائب الصدر الشيرازي: ص 230 .
6- تاريخ معالم المدينة المنورة ص 245 .

أي نافع هذا ؟

على أنّ عثمان بن عفان غني عن التعريف، إذن نكتفي بتعريف مالك بن أنس ونافع، ونبدأ بنافع لنصحح الخطأ الحاصل من تشابه اسم شخصين يسميان نافع .

لاحظتم في ذكر نافع وقبره في البقيع والقبة التي عليه أنهم يعرفونه بتعابير متباينة، فمنهم من يقول: «نافع مولى ابن عمر » أو «نافع شيخ القراء » أو «نافع مولى عبد الله بن عمر شيخ القراء » ، ونشاهد هذا الاختلاف في الكتب الأخرى أيضاً خصوصاً في الكتب الحديثة .

هذه التعابير المختلفة تأتي من عدم التمييز السليم وعدم المعرفة الصحيحة لشخصية نافع ، لأنّ نافع مولى ابن عمر ونافع شيخ القراء شخصين مختلفين توفيا بفاصل خمسين سنة، فكان نافع الأول محدثاً فقيهاً، ونافع الثاني مشهوراً بالقراءة .

وإليك الآن التعريف بهما:

1 نافع مولى ابن عمر الملقب بالفقيه والمكنى بأبي عبد الله كان من أسرى الحرب وأصبح مولى لعبد الله بن عمر بن الخطاب ولذا اشتهر بنافع مولى ابن عمر، واستطاع بذكائه أن يتعلم الفقه والحديث، فاعتبر من محدثي التابعين .

رحل إلى مصر في عهد عمر بن عبد العزيز (99- 101) ليعلّم أهلها أحكام الدين، وتوفي عام مائة وسبعة أو تسعة عشر أو عشرين ودفن في البقيع (1).

2- نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني المكنى بأبي رويم، كان أجداده من أصفهان، يقول فيه ابن الجزري: نافع أحد القراء السبعة ومن علماء القراءة . رجل ثقة صالح، أصله من أصفهان . علّم القراءة جمعاً من التابعين في المدينة .

كان مالك بن أنس يقول: قراءة أهل المدينة على سنة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) . فسألوا

ص: 283


1- تهذيب التهذيب: ج 10 ص 413 - 414 .

أتقصد قراءة نافع ؟ قال: نعم .

توفي نافع شيخ القراء سنة 169 هجرية في المدينة ودفن بالبقيع (1).

نستنتج مما سبق أنّ كليهما كانا في الحقيقية نافعين مفيدين، أحدهما في الحديث والفقه والآخر في علم القراءة ، وكانا معاصرين تقريباً وتوفيا بالمدينة ودفنا بالبقيع . ولكن بعد مضي ثلاثة عشر قرناً لا يمكننا أن نحكم في القبر المعروف بقبر نافع والذي كانت عليه بقعة في البقيع، أهو نافع مولى ابن عمر . أم نافع شيخ القراء ؟ وقد اشتبه الأمر لدى الكتّاب حتى جعل بعضهم يكتب: «نافع مولی ابن عمر شيخ القراء »!.

الإمام مالك :

هو مالك بن أنس الأصبحي المعروف ب- «إمام دار الهجرة » والمكنى بأبي عبد الله أحد الأئمة الأربعة لأهل السنة والذي ينتسب إليه المذهب المالكي الذي يتبعه جمع من أهل السنة .

ولد سنة 93 ، وقيل في ترجمته إنّ مدة حمله طالت ثلاث سنين .

أخذ الإمام مالك الحديث من أشخاص كثيرين منهم الإمام جعفر بن محمد الصادق (علیهما السلام)، وكتابه «الموطأ » يعتبر أول مدوّن حديثي عند أهل السنة حيث جمع فيه أكثر من خمسمائة حديث مسند .

إحترام مالك لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)

ذكروا في احترام مالك لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) واهتمامه بالحديث أنّه ومع كبر سنّه وشدة ضعفه كان يمتنع عن الركوب في المدينة، بل يمشي دائماً على رجليه

ص: 284


1- طبقات القراء: ج 2 ص 330 ، تهذيب التهذيب: ج 10 ص 407 .

ويقول: «لا أركب في مدينة دفنت جثة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فيها».

وإذا أراد أن يروي حديثاً كان يتوضأ ويمشّط لحيته ويجلس في المجلس بوقار وأدب، فسألوه عن تمسكه بهذا الوقار فقال: «أريد أن أعظّم حديث رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) »و

نقاش مالك مع المنصور في التوسل برسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) :

يقول السمهودي:

«وقال القاضي عياض في الشفاء بسند جيّد عن ابن حميد أحد الرواة عن مالك فيما يظهر قال: ناظر أبو جعفر المنصور مالكاً في مسجد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فقال مالك يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإنّ الله تعالى أدّب قوماً فقال: « لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ» الآية، وذم قوماً فقال: «إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ» وإنّ حرمته ميتاً كحرمته حيّاً . فاستكان لها أبو جعفر ، فقال : يا أبا عبد الله استقبل القبلة وادعو أم أستقبل رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؟ فقال : لم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم (علیه السلام) إلى الله يوم القيامة ؟ بل استقبله واستشفع به، فيشفعك الله تعالى، قال الله تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا»(1).

توفي الإمام مالك بالمدينة في الرابع عشر من ربيع الأول سنة مائة وتسع وسبعين وله يومئذ خمس وثمانون سنة وقيل تسعون سنة ودفن بالبقيع (2).

ص: 285


1- وفاء الوفا: ج 4 ص 1376 .
2- راجع ترجمة الإمام مالك في تهذيب التهذيب : ج 10 ص 5 - 10، و «تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك » ، و« كوثر المعاني في كشف خبايا صحيح البخاري ».

ص: 286

الفصل الثامن : مرقد إسماعيل بن الإمام الصادق (علیهما السلام)

اشارة

ص: 287

ص: 288

مرقد إسماعيل بن الإمام الصادق (علیه السلام)

ذكرنا تواريخ القباب والمراقد المبنية في البقيع والتي تم هدمها على أيدي الوهابيين ولندرس الآن تاريخ ثلاثة مراقد أخرى كانت خارج البقيع وقد اشتهرت واهتم الناس بها ، ونبدأ حديثنا بمرقد إسماعيل بن الإمام الصادق (علیه السلام) وهو أقربهم إلى البقيع .

مرقد إسماعيل كما رأيناه:

قبل أن نبدأ الموضوع، نودّ الإشارة إلى أنّ الوهابيين عندما هدموا القبور داخل البقيع لم يبقوا لمبانيها أي أثر وهدموا حتى الحيطان المحيطة بها، أما القبور الواقعة في خارج البقيع فقد هدموها أيضاً ولكن أحاطوها بحائط ليس له باب ولا شباك، حيث كانت تلك القبور واقعة في الشارع العام .

ومن هذه القبور قبر ينسب إلى فاطمة بنت أسد وقبر سعد بن معاذ، وكانا واقعين شمال قبر عثمان ابن عفان خارج الركن الشمالي الشرقي للبقيع، فلما تم ضم هذا الضلع إلى البقيع في السنوات الأخيرة أزالوا الجدار المحيط بالقبور .و من تلك القبور قبر إسماعيل بن الإمام الصادق (علیه السلام).

حججت في سنة 1394 هجرية ( 1974 - 1975 ميلادية) وزرت المدينة فكان مرقد إسماعيل خارج البقيع وفي الجهة الغربية منها، على امتداد قبور الأئمة (علیهم السلام) وبعيداً عن البقيع بخمسة عشر متراً، وكان يحيط به جدار يرتفع مترين ونصف المتر وكانت أبعاد الأرض ثلاثة أمتار طولاً في ثلاثة أمتار عرضاً،

ص: 289

وكان نصف ذلك المربع في الشارع والنصف الآخر في الرصيف.

وأما اليوم فقد أضيف الشارع إلى الساحة الوسيعة المحيطة بمسجد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأما الرصيف فأصبح مكاناً مرتفعاً بجانب البقيع يمر به الزوار .

ولم يكن لمرقد إسماعيل أي باب أو شباك في جداره ولذلك لم نكن نعرف ما فيه ولا موضع القبر وما كان خلف الجدار، فكان الزوار يؤدون الزيارة ويدعون خلف الحائط وعلى الرصيف، وإذا ازدحموا كثيراً منعتهم الشرطة من الوقوف .

شاهدت في تلك الأيام هدم جزء من سطح الشارع ووجود أجهزة التعبيد والحفر، فعرفنا أنّهم يريدون توسيع الشارع وتعديله ولكن العمليات كانت متوقفة موقتاً لأيام الحج وازدحام الناس .

سرنا في تلك السنة إلى مكة في أول ليلة من ذي الحجة .

إنتشار خبر كشف جسد إسماعيل:

بعد موسم الحج ( سنة 1394 هجرية ) وبعد الرجوع إلى إيران سمعنا خبراً هاماً من الحجاج الذين زاروا المدينة بعد أعمال الحج وانتشر الخبر في الحوزة العلمية بقم وتداوله العلماء كثيراً وهو أنّه عندما أمرت الحكومة السعودية بترميم الشارع الغربي للبقيع اكتشفوا جسد إسماعيل بن الإمام الصادق (علیه السلام) صحيحاً سالماً بعد مضي قرون متمادية على دفنه وتم دفنه داخل البقيع .

ولم أجد شخصاً أكثر اطلاعاً من المرحوم آية الله الحاج الشيخ محمد الفقيهي الرشتي (1) لأسأله عن الموضوع، فزرته ببيته في إحدى ليالي محرم، بعد

ص: 290


1- المرحوم المغفور له الحاج الشيخ عبد الحسين النجفي الرشتي المعروف ب- «الفقيهي » ؛ كان من علماء الأعلام والشخصيات البارزة فى الحوزة العلمية بقم المشرفة ؛ كان (رحمه الله ) عالماً كاملاً وفقيهاً من بيت الفضل والكمال وصاحب الشرح على كتاب «المكاسب » في الفقه وكتاب «الكفاية ». في الأصول . كان (رحمه الله ) مندوب آية الله العظمى السيد البروجردى (رحمه الله ) في موسم الحج خلال سنوات متمادية للإجابة على المسائل الشرعية ومراجعات الحجاج، وبعد ارتحال السيد البروجردى أيضاً كان على هذا العمل إلى نهاية عمره الشريف .

صلاة المغرب والعشاء، وكان قد أقام ليلته مجلس عزاء للشهيد المظلوم أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) وحضر المجلس عدداً من كبار العلماء، فسألته عن الخبر .

لا يسعني أن أتذكر بعد مضي أكثر من عشرين سنة جزئيات كلامه عن تلك الحادثة العجيبة، ولكن أتذكر أنّه كان يؤيد الخبر وطمأنني وطمأن سائر الحاضرين على صحة الخبر حتى لم يبق أدنى شك في صحته بعد أن أيده العلامة الثقة .

تأييد آخر للخبر :

وفقني الله في السنة التالية أيضاً ( سنة 1395 هجرية) إلى الحج، فكان مما يشغل بالي كثيراً في المدينة المنورة موضوع نقل جسد إسماعيل إلى داخل البقيع ودفنه مرة أخرى فيها

لأنّه ما بقي خارج البقيع وبجانب الشارع أي أثر من مرقد إسماعيل، والذي كان موجوداً حتى سنة 1394 هجرية، وهذا ما كان يراه الزوّار ويسألون عن قبره.

أين دفن إسماعيل ؟

وفي تلك الأيام كنت واقفاً ذات یوم عند قبور شهداء واقعة الحرة بالبقيع وقد اشتهروا بين الناس بشهداء أحد، فكنت أدعو وأقرأ الزيارة هناك، إذ شاهدت أحد المزورين من أهل البلد واقفاً عند أحد القبور وحوله بعض الزوار الأفريقيين، وكان يقرأ بصوت عال: السلام عليك يا إسماعيل بن الإمام جعفر الصادق ...»،

ص: 291

فذهبت إليه مسرعاً ومسكت بيده وقلت كنا نزور قبر إسماعيل في السنة الماضية خارج البقيع ، فكيف تعرف هذا الموضع باعتباره قبر إسماعيل؟» . فأجاب: نعم! كان قبره قبل ذلك هناك ولكن عند توسيع الشارع عثروا على جسده سالماً فنقلوه إلى هذا المكان ودفنوه .

كانت هناك أحجار كبيرة قد نصبت حول قبر إسماعيل الجديد والتي تميّز قبره عن سائر القبور وكان مكانه بالضبط في الجهة الشرقية لقبور الشهداء على جهة قبر حليمة السعدية وبعيداً عنه بعشرة أمتار، وأصبح القبر في السنوات التالية موضع زيارة ودعاء لمن يعرفه.

ولكن قاموا أخيراً برفع تلك الحجارة وإحداث ممر بين هذا القبر وقبور الشهداء فانمحت تلك العلائم، ويُخشى عليه أن ينساه الناس مثل غيره من كبار الشخصيات الذين انمحت آثارهم هناك .

على العموم، فوجود هذا القبر دليل بين على صحة الخبر وأنّه قد تم كشف جسد إسماعيل سالماً، فلو لم يكن كذلك لكان من غير الممكن أن يوافق علماء الوهابية على إيجاد مثل هذا القبر مع ما لهم من رأي خاص في تجديد القبور وبنائه، إذ ذلك من أكبر المحرمات .

مرقد إسماعيل من أكبر وأقدم المراقد:

ذكرنا تاريخ نقل جسد إسماعيل إلى داخل البقيع وعلينا الآن أن نتطرق إلى تاریخ وكيفية بناء حرم إسماعيل بن الإمام الصادق (علیه السلام).

تذكر المراجع التاريخية وكتب تاريخ المدينة أنّ هذا المرقد الشريف كان له میزتان هامتان تميزانه عن أكثر القبور والمراقد الموجودة في البقيع، وهما:

1 - قدَمَهُ التاريخي .

ص: 292

2- وسعة الحرم الشريف .

يروي السمهودي (المتوفى سنة 911 هجرية) في قدَمِ هذا المبنى عن المطري وهو من مؤرخي المدينة في القرن السابع، فيقول: «بناه بعض العبيديين من ملوك مصر » (1). والعبيديون هم ملوك الدولة الفاطمية بمصر .

ويذكر الشيخ أحمد العباسي من مؤرخي المدينة في القرن الحادي عشر نفس الجملة دون أن ينسبها إلى المطري (2).

والجدير بالذكر أنّ الدولة الفاطمية في مصر بدأت سنة 297 واستمرت حتى سنة 568(3) ولأنّ مؤسس الدولة الفاطمية كان يسمى «عبيد الله» ، فيسمون بالعبيديين أيضاً (4).

ترميم حرم إسماعيل سنة خمسمائة وست وأربعين:

يكمل السمهودي كلامه السابق قائلاً:

«قلت: على باب المشهد الأوسط - الذي أمامه الرحبة التي بها البئر التي يتبرك بها، حجر مكتوب عليه أنّ حسين بن أبي الهيجاء عمره سنة ست وأربعين وخمسمائة ، ولعل المطري نسب ذلك لبعض العبيديين، لأنّ ابن أبي الهيجاء كان من ورائهم »(5).

فالسمهودي قد شاهد بنفسه ذلك الحجر الذي يبيّن تاريخ ترميم هذا الحرم ،

ص: 293


1- وفاء الوفا: ج 3 ص 920 .
2- عمدة الأخبار: ص 158 .
3- دائرة المعارف، وجدي: ج 7 ص 314 - 325 .
4- نفس المصدر .
5- وفاء الوفا: ج 3، ص 920 .

إذن فكلام السمهودي ونقله رأي المطري يدلنا على قدَمِ البناء الأول لهذا الحرم، فلو فرضنا أنّ تاريخ ترميم الحرم كان بعد إحداثه بخمسين سنة على الأقل، فإنّ بناء الحرم يرجع إلى القرن الخامس، فيعتبر هذا المبني كالحرم الشريف لأئمة البقيع (علیهم السلام) من أقدم المباني الدينية التي تم هدمها على أيدي الوهابيين بعد مضي تسعة قرون .

كبر مساحة هذا المرقد الشريف

نعود إلى السمهودي وما شاهده ونقله حيث يعرف هذا الحرم بالكیر(1) ويذكر له ثلاثة أبواب:

1 - في الجنوب الشرقي، يقول السمهودي: «... وهو كبير ... وهو ركن سور المدينة اليوم من القبلة والمشرق، بُنِيَ قبل السور فاتصل السور به فصار بابه من داخل المدينة ».

2- الباب الأوسط الذي ينفتح على الساحة خارج سور المدينة، يقول السمهودي: وعلى باب المشهد الأوسط الذي أمامه الرحبة التي بها البئر التي يتبرك بها، حجر فيه : أنّ حسين بن أبي الهيجاء عمّره سنة ست وأربعين وخمسمائة ».

3-الباب الأخير، يقول السمهودي: على يمين الداخل إلى المشهد بين الباب الأوسط والأخير حجر منقوش فيه، وقف الحديقة التي بجانب المشهد في المغرب على المشهد: وَقَفَها ابن أبي الهيجاء ...»(2).

ص: 294


1- كما جاء في «رسائل في تاريخ المدينة » ص 102 : «وفي الجهة الشرقية، قبة كبيرة فيها مرقد سيدنا إسماعيل ...».
2- وفاء الوفا: ج 3 ص 920 .

يتضح من هذه العبارات الثلاث أنّ الحرم كان له ثلاثة أبواب على الأقل، باب داخل السور، وباب في الوسط وباب في النهاية .

بيت الإمام السجاد (علیه السلام) :

يروي السمهودي عن المطري أنّ ساحة هذا الحرم وما يجاوره شمالاً إنما كان بيت الإمام زين العابدين (علیه السلام)، وفي غرب الحرم مسجدٌ متروكٌ (1) كان يدعى «مسجد الإمام زين العابدين ».

يقول السمهودي: «قلت: على يمين الداخل إلى المشهد بين الباب الأوسط والأخير حجر منقوش فيه وقف الحديقة التي بجانب المشهد في المغرب على المشهد : وقَفَها ابن أبي الهيجاء، ونسبة المسجد الذي بطرف الحديقة بجانب لزين العابدين وأنّ عرصة المشهد داره ، وأنّ بئره تلك يُتداوى بها .

ويقال: إنّ ابنه ... الباقر سقط بها وهو صغير وزين العابدين يصلّى، فلم يقطع صلاته .

وفي كلام ابن شبة ما يصلح أن يكون مستنداً في نسبة تلك العرصة لزين العابدين لذكره داراً تقرب من وصفها ونَسَبها لولده ...»(2).

سبب وسعة حرم إسماعيل :

قد يتساءل البعض أنّه لماذا كان حرم إسماعيل أوسع وأضخم من سائر

ص: 295


1- يقول السمهودي: إنّ هذا المسجد أعيد بناؤه سنة 884 .
2- وفاء الوفا: ج 3 ص 920 - 921 ( يروي السمهودي نص كلام ابن شبة في سبعة أسطر، إلّا أنّ النسخة الموجودة من كتابه «تاريخ المدينة » لا تحتوي على تلك العبارة، وهذا النقل يؤيد قول مصحح الكتاب بأنّ النسخة الموجودة مطبوعة من نسخة خطّيّة سقطت منها أشياء وفيها خلط كثير).

المقابر والمراقد الموجودة في البقيع والمنتسبة إلى أهل بيت الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؟

تتضح الإجابة على هذا التساؤل إذا تأملنا في ما ذكرناه إلى الآن وما سنقوله عن عقائد الفرقة الإسماعيلية، لأنه:

أولاً: كانت البقيع مقبرة عامة ذات مساحة ضيقة نسبياً وكانت القبور تزدحم فيها، أما مرقد إسماعيل فكان في ساحة وسيعة تحيطها بيوت سكنية، ومنها بيت الإمام السجاد (علیه السلام) والذي تحول جزء منه بمرور الأيام إلى حديقة ونخيل ثم ألحق بالمرقد وقفاً له .

ثانياً: يجب أن لا ننسى دور الملوك الفاطميين الذين حكموا الشام وشمال أفريقيا ومصر طيلة أربعة قرون والذين كانوا يعتقدون بإمامة إسماعيل .

وكان من الطبيعي أن يبنوا بجانب حرم أئمة البقيع وسائر أئمة الشيعة والسنة، حرماً أعظم وأضخم لإمامهم وقائدهم إسماعيل .

شخصية إسماعيل المعنوية:

يقول الشيخ المفيد (رحمه الله ) : « كان إسماعيل أكبر الأخوة وكان أبو عبد الله (علیه السلام) شديد المحبة له والبر به والإشفاق عليه وكان قوم من الشيعة يظنّون أنّه القائم بعد أبيه والخليفة له من بعده إذ كان أكبر إخوته سناً ولميل أبيه إليه وإكرامه له فمات في حياة أبيه (علیه السلام) بالعُريض (1)وحمل على رقاب الرجال إلى أبيه بالمدينة

ص: 296


1- العُريض بضم الأول، قرية بها حدائق كثيرة، تقع بين المدينة وأحد على يمين الشارع وقريبةً من أحد فيها قبر عليّ العُريضي أحد أبناء الإمام الصادق (علیه السلام) ومن رواة الحديث وقبره مشهور . وكان للإمام الصادق (علیه السلام) ولأبنائه في هذه القرية حدائق ونخيل . وقد ذهبنا سنة 1991 ميلادية 1991 مع بعض الزملاء إلى تلك القرية لزيارة علي العريضي وتوقفنا ساعةً هناك . أكثر سكان تلك القرية من الشيعة .

حتى دفن بالبقيع ».

يضيف الشيخ المفيد: « وروي أنّ أبا عبد الله (علیه السلام) جزع عليه جزعاً شديداً وحزن عليه حزناً عظيماً وتقدم سريره بغير حذاء ولا رداء، وأمر بوضع سريره على الأرض قبل دفنه مراراً كثيرة.

وكان يكشف عن وجهه وينظر إليه يريد بذلك تحقيق أمر وفاته عند الظانين خلافته له من بعده وإزالة الشبهة عنهم فی حياته .

ولمّا مات إسماعيل (رحمه الله ) انصرف عن القول بإمامته بعد أبيه من كان يظن ذلك فيعتقده من أصحاب أبيه وأقام على حياته شرذمة لم تكن من خاصة أبيه ولا من الرواة عنه وكانوا من الأباعد والأطراف ».

ظهور مذهب الإسماعيلية:

يقول الشيخ المفيد: «فلما مات الصادق (علیه السلام) انتقل فريق منهم إلى القول بإمامة موسى بن جعفر (علیهما السلام) وافترق الباقون فريقين فريق منهم رجعوا عن حياة إسماعيل وقالوا بإمامة ابنه محمد بن إسماعيل لظنّهم أنّ الإمامة كانت في أبيه وأنّ الإبن أحقّ بمقام الإمامة من الأخ .

وفريق ثبتوا على حياة إسماعيل وهم اليوم ثلة قليلة لا يعرف منهم أحد يومى إليه وهذان الفريقان يسميان بالإسماعيلية والمعروف منهم الآن من يزعم أنّ الإمامة بعد إسماعيل في ولده وولد ولده إلى آخر الزمان »(1) .

نقل المرحوم الطبرسي في «إعلام الورى »(2) كل أقوال الشيخ المفيد حرفاً بحرف دون ذكر المرجع ، ليبين عقائد الاسماعيليين وتاريخهم .

ص: 297


1- إرشاد المفيد: ص 285 ، طبعة مكتبة بصيرتي، قم .
2- إعلام الورى ص 28، طبعة المطبعة الإسلامية، طهران .

والجدير بالذكر أنّ الشيخ المفيد توفي سنة 413 هجرية وكذلك الشيخ الطبرسي كان في القرن السادس، أي إنّهما كانا يعيشان بعد مرور قرن وقرنين ونصف القرن من تأسيس الدولة الفاطمية في أفريقيا ومصر وكان الفاطميون على المذهب الإسماعيلي وقد ارتفع صيتهم في جميع البلاد الإسلامية من حیث القوة والسلطان وتنفيذ الأحكام الإسلامية .

فكيف إذن يأتي كلام الشيخين المفيد والطبرسي بأنّ الإسماعيلية في زمانهما كانوا شرذمة لا تذكر؟

هذا إبهام يستلزم الدراسة والتحقيق بأنّه هل كان الفاطميون غير معروفين آنذاك بأنّهم اسماعيليون ؟

وأنّ نسبتهم إلى الإسماعيلية جاءت بعد ذلك أم أنّ هناك أمر آخر لأنّنا لا نستطيع أن نستهين بكلام عالم فذّ تحرير مثل الشيخ المفيد .

وكيف ما كان، فالإسماعيلية أيضاً مثل غيره من المذاهب قد مر طوال التاريخ بمراحل متفاوتة صعوداً ونزولاً، وله اليوم أتباع في بعض البلاد وخصوصاً في الهند حيث تعيش فرقة تسمى بالإسماعيلية .

ص: 298

الفصل التاسع : مرقد عبد الله (علیه السلام) والد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)

اشارة

ص: 299

ص: 300

المرقد الشريف لعبد الله والد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)

كان مرقد عبد الله بن عبد المطلب والد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من الآثار المعروفة في المدينة المنورة الواقع خارج البقيع وكان مزاراً وكان عليه مبنى يزوره الناس حتى سنة 1976 ميلادية، حيث تمّ في هذا التاريخ هدمه على أيدي الوهابيين بذريعة توسيع مسجد النبي والساحات المحيطة به، وليس اليوم لذلك المرقد أي أثر يذكر .

دراسة قصيرة في إيمان والدي رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) :

يجدر بنا قبل الدخول في موضوع هذا المبنى وكيفيته على مر التاريخ أن نتطرق إلى بحث كلامي .

يعتقد علماء الشيعة ومتكلميهم جميعاً وكذلك جمعٌ من علماء أهل السنة أنّ والدي رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وجميع أجداده كانوا موحدين ومؤمنين بالله ولم يشرك منهم أحد، ويستعين العلماء في إثبات ذلك بدلائل من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة المروية من طرق السنة والشيعة، فقد انتقل نور رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ونطفته الطاهرة من الأصلاب الشامخة إلى الأرحام المطهرة حتى وصلت إلى صلب عبد الله الموحد لله ومنه إلى رحم آمنة المؤمنة بالله ولا يقتصر هذا الأمر بنبينا فحسب، بل تميز جميع الأنبياء بهذه الميزة أي بطهارة المولد مثل رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

ص: 301

آراء علماء أهل السنة

بحث جلال الدين السيوطي صاحب تفسير «الدّرّ المنثور » والكتب الأخرى والذي هو من أكبر علماء أهل السنة في هذا المجال وناقش هذه القضية ونحن نورد خلاصة ما أورده .

يقول السيوطي: «إنهما أي عبد الله وآمنة لم يثبت عنهما شرك، بل كانا على الحنيفية دين جدهما إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام كما كان على ذلك طائفة من العرب كزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وغيرهما ».

ثم يقول: «وهذا المسلك ذهبت إليه طائفة منهم الإمام فخر الدين الرازي فقال في كتابه «أسرار التنزيل » ما نصه: إنّ آباء الأنبياء ما كانوا كفاراً ويدل عليه وجوه، منها:

1- قوله تعالى: «الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ *وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ»(1) قيل: معناه أنّه كان ينقل نوره من ساجد إلى ساجد، وبهذا التقدير الآية دالة على أنّ جميع آباء محمد كانوا مسلمين . وحينئذ يجب القطع بأنّ والد إبراهيم ما كان من الكافرين، إنما ذاك عمّة .

2- ومما يدل على أنّ آباء محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ما كانوا مشركين قوله :« لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات »، وقال تعالى: « إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ » فوجب أن لا يكون أحد من أجداده مشركاً».

وبعد نقل سائر دلائل الفخر الرازي، يقول السيوطي: « هذا كلام فخر الدين الرازي بحروفه، وناهيك به إمامة وجلالة، فإنّه إمام أهل السنة في زمانه، والقائم بالرد على الفرق المبتدعة في وقته ».

ص: 302


1- الشعراء: 218 و 219 .

ثم يؤكد السيوطي رأي الفخر الرازي ببيان عدة أدلة عقلية ونقلية أخرى، ويروي أحاديث عن البخاري والبيهقي وأبي نعيم وسائر المحدثين، ثم يذكر دلائل الشهرستاني والماوردي في هذا الموضوع (1).

كتب أهل السنة في هذا الموضوع:

ولعلماء أهل السنة تأليفات عديدة في إيمان أجداد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ووالديه، ومنهم السيوطي الذي ألف بوحده أربع كتب في هذا الموضوع وهي كالتالي:

-1- الدرج الرفيعة في الآباء الشريفة .

2- المقاصد السندسية في النسبة المصطفوية .

-- التعظيم والمنة بأنّ أبوي رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في الجنة .

-4 السبل الجلية فى الآباء العليّة (2).

آراء علماء الشيعة

ذكرنا أنّ إيمان والدي رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وطهارة مولد جميع الأنبياء وقداستهم أمر مسلّم لا يقبل الشك بل يعتبر من أبرز العقائد عند الشيعة .

يقول الفخر الرازي: «قالت الشيعة إنّ أحداً من آباء الرسول وأجداده ما كان كافراً ... »(3).

يتبين من كلام الفخر الرازي أنّ رأي الشيعة واتفاق علمائهم في هذا الموضوع أمر معلوم حتى لدى أهل السنة وهم أيضاً يرونه من المسلمات .

ص: 303


1- مسالك الحنفاء ص 17، نقلاً عن حاشية بحار الأنوار: ج 15 ص 118 - 122 .
2- المصدر السابق .
3- بحار الأنوار: ج 15 ص 117 .

يقول المجلسي (رحمه الله ) :

« إتفقت الإمامية رضوان الله عليهم على أنّ والدي الرسول وكل أجداده إلى آدم (علیه السلام) كانوا مسلمين، بل كانوا من الصديقين، إما أنبياء مرسلين أو أوصياء معصومين ولعل بعضهم لم يظهر الإسلام لتقية أو مصلحة دينية »(1).

أدلة علماء الشيعة

إشارة

ذكرت كتب التفسير والكلام عند الشيعة أدلّة عديدة من الكتاب والسنة في إيمان أجداد رسول الله، ولكننا نراعي الاختصار ونكتفي بذكر آية واحدة وعدة روايات:

الدليل القرآني

نكتفي بالآية الشريفة السابقة الذكر والتي استدل بها الفخر الرازي أيضاً . يخاطب الله تعالى رسوله الكريم في هذه الآية قائلاً: «الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ *وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» . وقد ذكرنا توضيح الآية على لسان الفخر الرازي ولا داعي إلى التكرار .

الأدلة الروائية:

ألف - جاء في الحديث النبوي الشريف خطاباً لأمير المؤمنين علي (علیه السلام): «يا علي، إنّ عبد المطلب كان لا يستقسم بالأزلام ولا يعبد الأصنام ولا يأكل ما ذبح على النصب ويقول أنا على دين إبراهيم»(2).

ب - يروي الأصبغ بن نباتة عن علي أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال: «والله ما عبد

ص: 304


1- المصدر السابق.
2- الخصال الشيخ الصدوق، نقلاً عن بحار الأنوار: ج 15 ص 127 ، «و من لا يحضره الفقيه » باب النوادر.

أبي ولا جدي عبد المطلب ولا هاشم ولا عبد مناف صنماً قط . قيل : فما كانوا يعبدون ؟

قال: كانوا يصلّون إلى البيت على دين إبراهيم (علیه السلام) متمسكين به »(1).

لماذا يُتّهم أجداد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؟

كما نعلم أنّ أناساً قد وصلوا في القرن الأول للإسلام إلى الحكم وقبضوا زمام أمور المسلمين في أيديهم، مع أنّ آبائهم وإخوانهم وأقرب الأقرباء إليهم ماتوا مشركين عبدة الأصنام، أو قتلوا على أيدي المسلمين في الحروب دفاعاً منهم عن الشرك وعبادة الأوثان وصداً لكلمة التوحيد، وكانت هذه وصمة عار بقيت على جبينهم والتي لا تزول أبداً .

فقد حاولوا أن يعرفوا والدي رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأجداده الكرام وبعض قرابته مشركين وثنيّين.

لأن بعض قرابة الرسول وأجداده كانوا من أقربائهم وأجدادهم المشتركة.

وبهذه الطريقة سعوا في حل مشكلتهم الإجتماعية العظيمة

و ها هم رووا كذباً وزوراً عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «إنّ رجلاً قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: في النار، فلما قفّى دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار»(2).

قصة حضور رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عند قبر امه (علیها السلام) وتحريفها:

زار رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عند رجوعه من فتح مكة قبر أمه «آمنة» في «الأبواء»

ص: 305


1- كمال الدين، نقلاً عن بحار الأنوار: ج 15 ص 144 .
2- صحيح مسلم: ج 1، كتاب الإيمان، باب بيان أنّ من مات على الكفر فهو في النار، سنن ابن ماجة : ج 1 ص 501 ح 1573، سنن أبي داود: ج 2 ص 532 .

وجلس إلى جانب القبر فتذكر حنانها وتعبها، فبكى بكاء شديداً بحيث أبكي أصحابه .

لقد شاهد صحابة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في ذلك اليوم تكريم رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أمه واحترامه لها .

ونحن نعلم أنّ بكاء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على أمه بتلك الكيفية وأمام آلاف من صحابته، ما كان أمراً بسيطاً يُنسى، وما كان أمراً يمكن إنكار أصله ؛ إذن تصرّفوا في حقيقة الأمر وحرّفوا ذلك الواقع التاريخي واستعملوا نفس الطريقة التي استعملوها في قضية «الغدير» إذ حرّفوا لفظ «المولى» وقالوا: لا شك أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) زار قبر أمه وبكى وأبكى أصحابه هناك، لكن عمله هذا لا يدلّ على إيمان أمه وتوحيدها، لأنّ الرسول أثبت شركها وكفرها في حديثه التالي:

«عن أبي هريرة قال: زار النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لى واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت ».

جاء هذا الحديث المروي عن أبي هريرة في صحيح مسلم (1) وسنن النسائي (2) وسنن ابن ماجة (3) وسنن أبي داود (4) وتاريخ المدينة لابن شبّة (5).

وقد استدل في السنن الثلاث المذكورة على مضمون الحديث بجواز زيارة قبور المشركين، وخصصوا له باباً باسم «جواز زيارة قبر المشرك».

ص: 306


1- ج 1 كتاب الإيمان، باب «من مات على الكفر فهو في النار »
2- ج 4 ص 90 كتاب الجنائز، باب «زيارة قبر المشرك ».
3- ج 1 ص 501 ، كتاب الجنائز، باب « ما جاء في زيارة قبور المشركين ».
4- ج 2 ص 195 كتاب الجنائز، باب «في زيارة القبور ».
5- ج 1 ص 118.

هذا الحديث يخالف مفهوم القرآن الكريم :

لسنا الآن بصدد ردّ هذا الحديث الموضوع وبيان التحريف فيه، ولكن علينا أن نشير إلى النقاط الثلاث التالية:

1- هذا الحديث يخالف مفهوم هذه الآية الكريمة: «وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ»(1).

لقد نهت الآية الكريمة عن الدعاء للمنافق والصلاة عليه، وكذلك الوقوف عند قبره وتعليل هذا النهي هو كفرهم القلبي بالله ورسوله، فإذا كانت هذه العلة في المنافقين من جانب واحد فقط وهو العقيدة القلبية لهم، فإنّها ذات جانبين في الكفار والمشركين.

لأنّ هؤلاء إنّما كفروا بالله ورسوله ظاهراً وباطناً، أي بقلبهم ولسانهم، فمن الطبيعي أن يكون النهي في الكفار أشد وأولى، وليس من المعقول أن تنهى الآية الشريفة عن الدعاء للمنافقين والصلاة عليهم والوقوف عند قبورهم ولا تنهى عن الوقوف عند قبور الكفار والمشركين.

2- إذا جاء في حديث أبي هريرة أنّه لم يستجب دعاء الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) واستغفاره لأمه وأنّ هذا يدلّ على عدم ايمان آمنة أمّ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ولكن نرى في المقابل أنّه جاء في حديث عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «كنا نمشي مع النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ذات يوم إذ مرّ بقبر فقال: أتدرون قبر من هذا ؟

قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: قبر آمنة دلّني عليه جبريل (علیه السلام)»(2).

يبين مضمون هذا الحديث قداسة آمنة وعظمتها إذ أنّ جبريل دلّ رسول

ص: 307


1- التوبة: 84 .
2- تاريخ المدينة، ابن شبة: ج 1 ص 117 .

الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على قبرها .

3- أضف إلى ما سبق أنّ عدداً من محققي أهل السنة وعلمائهم أيضاً يرفضون مضمون حديث أبي هريرة.

وقد ذكرنا أن الفخر الرازي والسيوطي وغيرهما لم يلتفتوا إلى أمثال هذا الحديث وقالوا كما قالت الشيعة بأنّ والدي رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كانا موحدين وألفوا في ذلك كتباً عديدة .

مسجد دار النابغة أو مدفن والد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) :

لقد أوضحنا التحريف الذي حصل في قضيّة زيارة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قبر أمه آمنة والداعى عليه وكيفيته، والآن نشاهد تحريفاً آخراً بالنسبة لقبر عبد الله ابن عبد المطلب والد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ووقوف رسول الله عند قبره وصلاته عليه ؛ ويتّضح هذا الأمر عندما نعرف تاريخ «دار النابغة» (مدفن والد رسول الله ) و ما جرى عليها على مر التاريخ!

خلاصة تاريخ دار النابغة

كانت «دار النابغة » بيتاً من بيوت بني النجار في المدينة، لرجل كان يدعى النابغة من القبيلة نفسها وكانت هذه البيوت واقعة غربي مسجد النبي .

دخل عبد الله أبو النبي المدينة عند رجوعه من سفر الشام التجاري ونزل على قبيلة بني النجار لقرابة لهم بزوجته آمنة بنت وهب ؛ مرض عبد الله هناك ومات ودُفن حسب عادتهم آنذاك عندهم في « دار النابغة».

سافر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في السادسة من عمره مع أمه إلى المدينة لزيارة الأقرباء ونزلوا على قبيلة بني النجار ، وأقام في «دار النابغة » شهراً كاملاً. وكان رسول

ص: 308

الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بعد هجرته إلى المدينة يحكي ذكريات سفره أيام الطفولة قائلاً: «أبي عبد الله مدفون في هذه الدار ».

ولأنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بعد هجرته كان يصلي أحياناً في تلك الدار بجوار قبر عبد الله سميت الدار« بمسجد دار النابغة ».

وقد عرّف مؤرخو المدينة حتى القرن الثالث دار النابغة بالاعتبارين المذكورين ، فكان يقال حيناً « مدفن عبد الله » وحيناً آخر «مسجد دار النابغة» لفترة طويلة من الزمن إلّا إنّه انقلب الأمر لصالح تلك المكيدة السياسية المذكورة في تحريف زيارة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قبر أمه، إذ بدأ الكتاب يتناسون أنّ دار النابغة هي مدفن عبد الله، حتى أنّ البعض لم يذكر أنّ عبد الله دفن في المدينة، وأصبحت دار النابغة مجرد مسجد من مساجد المدينة .

واستمرّ الأمر كما كان إلى القرن العاشر حيث تمّ تجديد بناء دار النابغة ووضع ضريح على القبر وإيجاد محراب بجواره فأصبحت دار النابغة مدفناً من جهة ومسجداً من جهة أخرى .

إلّا أنّ معظم الناس لم ينتبهوا إلى كون الدار مسجداً وذلك لقلة اطلاعهم على التاريخ فيعتبرونها مدفناً لوالد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فحسب . ولمّا تسلط السعوديون على الحكم وهدموا أبنية جميع المراقد في المدينة وسائر مدن الحجاز استثنوا دار النابغة هذه من الهدم وأبقوها سبعين سنة أي إلى سنة 1976 ميلادية، والظاهر أنّهم لاحظوا فيها كونها مسجداً لا قبراً لوالد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لأنّهم يعتبرونه من الكفار والمشركين .

وإليك التفاصيل عن دار النابغة .

دار النابغة مدفن عبد الله:

يذكر الواقدي (المتوفى سنة 230 هجرية ) وفاة عبد الله بن عبد المطلب في

ص: 309

المدينة قائلاً: «ودفن في دار النابغة وهو رجل من بني عدي بن نجار ...»(1).

يقول ابن شبة (المتوفى سنة 262 هجرية): « قبر عبد الله بن عبد المطلب في دار النابغة »(2).

كما يروي ابن شبة أيضاً عن كتاب تاريخ المدينة لعبد العزيز (الذي كان حيّاً سنة 95 هجرية )أنّه وُصف له مكان قبر عبد الله بدقة، فهو في مدخل دار النابغة على يسار الداخل فيها (3).

يقول الطبري (المتوفى سنة 310 هجرية ):«ودفن في دار النابغة في الدار الصغرى إذا دخلت الدار عن يسارك، ليس بين أصحابنا في ذلك اختلاف »(4).

وهناك أقوال كثيرة من المؤرخين ومن مؤرخي المدينة بالذات ولا نريد الإطالة بذكرها جميعاً .

إهتمام رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بدار النابغة :

يقول الواقدي: «كان رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مع أمّه آمنة بنت وهب، فلمّا بلغ ستّ سنين خرجت به إلى أخواله بني عدي بن النجار بالمدينة تزورهم به و معه أمّ أيمن تحضنه وهم على بعيرين، فنزلت به في دار النابغة فأقامت به عندهم شهراً، فكان رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يذكر أموراً كانت في مقامه ذلك لمّا نظر إلى أطم بني عدي بن النجار ... فقال: هاهنا نزلت بي أمّي وفي هذه الدار قبر أبي عبد الله بن عبد المطلب ... ثمّ رجعت به أمه إلى مكّة، فلمّا كانوا بالأبواء توفيت آمنة بنت

ص: 310


1- الطبقات ج 1 ق 1 ص 61 .
2- تاريخ المدينة ، ابن شبة : ج 1 ص 116 .
3- نفس المصدر، ص 117 .
4- تاريخ الطبري ، طبعة ليدن: ج 2 ص 76 .

وهب، فقبرها هناك»(1).

كان هذا بعض أقوال مؤرخي المدينة عن دار النابغة وأنّها كانت مدفن والد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

مسجد دار النابغة :

يروي ابن شبة أحاديث عديدة يذكر فيها أنّ رسول الله قد صلّى في« دار النابغة»(2).

تدل كثرة هذه الروايات على أنّ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان يصلي كراراً في هذه الدار، ويبدو من ظاهر الروايات أنّ كل راو قد روى ما شاهده ويُسْتَبْعَدُ أن تكون كلها عن يوم واحد أي أن تكون جميع تلك الروايات تخبر عن صلاة واحدة صلاها الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هناك ثم أخبروا عنها بصور متعددة .

ويعتبر السمهودي - من علماء القرن العاشر - «دار النابغة »في عداد مساجد المدينة، فيكرر قول ابن شبة ويضيف عليه نقطتين:

ألف - دار النابغة التي تعد مسجداً، هي نفس الدار التي روى ابن شبة بأنّ والد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مدفون فيها .

ب - تقع دار النابغة غرب مسجد النبي، بجوار دور بني جديلة (3).

كما أنّ مؤلف كتاب عمدة الأخبار المعاصر للسمهودي تقريباً، تبع السمهودي في ذكر مسجد« دار النابغة »، ثم نقل رواية ابن شبة بأن «دار النابغة »

ص: 311


1- الطبقات ج 1 ق 1 ص 73 .
2- تاريخ المدينة : ج 1 ص 64 - 65 .
3- وفاء الوفا: ج 3 ص 867 .

هی نفس الدار التي دفن فيها عبد الله (1).

ولكن ومع هذا لم يذكر مؤرّخوا المدينة والكتّاب طوال القرون المتمادية قبر عبد الله مستقلاً عن ذكر مسجد دار النابغة وبصورة خاصة وإنّما نستنتج من مجموع الروايات والأقوال العديدة أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بعد هجرته إلى المدينة ومع كثرة انشغاله هناك لم ينس «دار النابغة » باعتبارها قبر أبيه، بل كان يذكر هذا القبر وما جرى في تلك الدار بين حين وآخر، وكان يصلي أحياناً عند ذلك القبر، وهذا ما شهد به المؤرخون في القرون الأولى من الإسلام، ولكن انصرف اهتمامهم تدريجياً إلى اعتبار «دار النابغة » كمسجد فقط وتناوسوا كونها مرقداً أيضاً، وهذا نوع من تحريف التاريخ عالمين به أو جاهلين .

مبنى مرقد عبد الله وقصة هدمه:

لا نعلم شيئاً عن كيفية مبنى دار النابغة قبل القرن العاشر مسجداً كانت أم مرقداً إلّا أنّ بعض الملوك العثمانيين بنوا لقبر عبد الله حرماً رفيع البناء متسع الرقعة ووضعوا ضريحاً على القبر، كما أوجدوا محراباً بجانب الضريح حتى يتّضح أنّ هذا المكان مسجد ومدفن في نفس الوقت، وأصبح مزاراً في المدينة يذكره الكتّاب ويشرحون أحياناً تفاصيله، وبقي الأمر كذلك حتى وصل الوهابيون إلى الحكم .

ورغم هدم الوهابيين جميع المراقد داخل البقيع وخارجها، ظلّ مبنى مرقد عبد الله على حاله حتى سنة 1976 ميلادية، لكنهم بنوا جداراً أمام بابه حتى لا يدخله أحد .

ص: 312


1- عمدة الأخبار في مدينة المختار: ص 194 .

وفي سنة 1975 ميلادية سافرتُ إلى الديار المقدسة وزرت هذا المرقد من الخارج كباقي الزوّار كان المرقد واقعاً في زقاق ضيقة، وشاهدت على بابه قطعة حجر مكتوب عليها باللغة التركية بيتين من الشعر يبينان تاريخ ترميم البناء ومن باشر الترميم، وإليك البيتان:

قبر پاك والد شاه رسلدر بومقام *** فضل حق سلطان محمودن بو خير

وصف اعمارنده پرتو جوهری*** قبر پاکیزه مقام والد پیغمبری 1245

وقد ذكر نائب الصدر الشيرازي هذا الحجر المنقوش في كتابه «تحفة الحرمين ».

وبعد أشهر سافرت ثانية لأداء العمرة فرأيت هدم المرقد والسوق والبيوت المجاورة له من أجل توسيع رقعة المسجد والساحات المحيطة به، فانضم هذا البيت إلى الساحة الكبيرة الواقعة غربي المسجد، وهكذا زالت «دار النابغة » عن الوجود بعد أربعة عشر قرن وما بقي أثر لا لمرقد عبد الله ولا للمسجد .

مرقد عبد الله قبل الهدم:

ذكرنا أنّ الكتّاب ومؤرخي المدينة في القرون الأخيرة كمؤرّخي المدينة في القرون الأولى قد تطرقوا إلى مرقد عبد الله تفصيلاً أو إجمالاً، ومن هؤلاء «علي حافظ » وهو كاتب من أهالي المدينة، حيث يذكر في كتابه تحت عنوان «قبر والد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) » : « ودفن في المدينة المنورة وقبره معروف لدى أهل المدينة بزقاق الطّوال»(1).

يقول الكاتب المصري إبراهيم رفعت باشا: «من الأضرحة التي في خارج

ص: 313


1- فصول من تاريخ المدينة، الطبعة الثانية ص 171.

البقيع، ضريح لعبد الله بن عبد المطلب والد النبي وهو بداخل المدينة» (1).

ومن الكتّاب الفُرْس يذكر كلُّ من فرهاد ميرزا نائب الصدر الشيرازي والسيد إسماعيل المرندي، وغيرهم من الرحالة مرقد عبد الله باعتباره أحد المراقد المشهورة في المدينة .

يقول حسام السلطنة الذي زار مكة سنة 1297 هجرية:

«يوم الإثنين، العاشر من المحرم، خرجت من منزلي لزيارة قبر عبد الله والد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وزيارة أئمة البقيع (علیهم السلام) ، يقع مرقد عبد الله في سوق الطوال على يسار الزقاق وله فناء صغير وتواجهه شرفة، يقع باب المرقد إلى يسار الشرفة، وكان مغلقاً آنذاك فصبرنا ساعة حتى أحضروا المتولي ليفتح الباب، فدخلنا وبدأنا بقراءة الزيارة، كان له ضريح خشبي، وعليه ستار وردي مطرز قد خاطته والدة السلطان عبد المجيد في عهد السلطان عبد العزيز صلينا ركعتين في محرابه، وكانت على يسار المحراب نافذة تنفتح على حديقة، فخرجنا وذهبنا إلى البقيع»(2).

كانت هذه دراسة مختصرة عن تاريخ «دارالنابغة » ناقشناها من جهتين مختلفتين واستنتجنا أنّ الجهة الثانية فيها أي إقامة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الصلاة هناك لها صلة وثيقة بالجهة الأولى وهي وجود قبر أبيه فيها، فكما أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) زار قبر أمه أثناء السفر وبكى عنده بكاء شديداً حتى أبكى أصحابه، فإنّه زار قبر والده أيضاً وهو أقرب إليه لأنّه كان واقعاً داخل المدينة، فصلّى ورفع يديه بالدعاء والإنابة حتى اشتهر المكان باسم «مسجد دار النابغة».

ص: 314


1- مرآة الحرمين: ج 1 ص 427 .
2- رحلة مكة (سفرنامه مكه ) لحسام السلطنة : ص 148.

الفصل العاشر : حرم حمزة (علیه السلام)

اشارة

ص: 315

ص: 316

سيد الشهداء حمزة (علیه السلام) وحرمه الشريف

إشارة

حمزة بن عبد المطلب أحد أعظم رجال التاريخ الإسلامي الذي نذر نفسه فداءً للإسلام وآثر بالغالي والنفيس في سبيل إعلاء كلمة الحق، وسارع ملبّياً نداء النبي في تلك الظروف العصيبة التي كان رسول الله يطلب أصحاباً أوفياء وحماة مخلصين ليقفوا معه صفاً كالبنيان المرصوص في معركة التوحيد والشرك والنضال لعبادة الله أمام عبادة الأصنام. فرفع حمزة مثل أمير المؤمنين علي (علیه السلام) لواء التوحيد وأثبت ولاءه للحق في أهوال المعارك الطاحنة عندما ضعف الكثيرون حتى من الصحابة المقربين للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فلجأوا إلى قلل الجبال أو سحيق الوديان ثبت حمزة كالجبل الراسخ ودافع عن رسول الله بسيفين، وضرب بهما يميناً وشمالاً ، صانعاً من نفسه درعاً حصيناً كان يدفع به هجمات العدو التي تطلب رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بالذات، واستمر كذلك حتى وافته الشهادة بأروع صورها والمنية بأفضع أشكالها ليسجل بذلك اسمه في تاريخ القادة العظام البواسل والمجاهدين الأبطال وليصبح أسوةً للجهاد وأنموذجاً للتضحية .

لقد نال حمزة أجل التكريم من كتاب الله المجيد وأحاديث نبيه الكريم، وبلغ ذروة الفخر والاعتزاز عندما لقبه الرسول «بسيد الشهداء » و «أسد الله وأسد رسوله ».

واحتجّ به أئمة الهدى (علیهم السلام) أمام مناوئيهم وافتخروا به أمام أنصارهم، وكان قبر حمزة مزاراً يشد المسلمون الرحال إليه لما سمعوا من نبيهم الكريم في فضيلة زيارته فالتزموا بزيارته التزامهم بزيارة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبنوا مرقده كبناء مرقد

ص: 317

النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ومراقد الأئمة (علیهم السلام)، فكان لقبره الشريف حرم وأروقة وقبة شامخة، ويرجع تاريخ بناء مرقده إلى القرون الأولى من الإسلام، ولكنّ الوهابيين تطاولوا على حرم حمزة كما فعلوا بسائر مراقد المدينة فأفنوه عن آخره ولم يبق منه اليوم سوى قبر بسيط تحيط به الأتربة .

بعد هذه المقدمة، علينا في هذه العجالة أن ندرس أربعة موضوعات مرتبةً كالتالي:

1- حمزة في القرآن .

2- حمزة في كلام رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأئمة الهدى(علیهم السلام) .

3 - حمزة في الحروب.

4 - حرم حمزة في أحضان التاريخ.

نظرة سريعة إلى حياة حمزة (علیه السلام) :

حمزة بن عبد المطلب، الملقب ب- «سيد الشهداء » و «أسد الله» و «أسد الرسول »، والمكنى بأبي عمارة وأبي يعلى . أمّه هالة بنت وهيب ابنة عم آمنة بنت وهب والدة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

حمزة عمّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأخاه من الرضاعة فقد أرضعتهما مرضعة واحدة تُدعى ثويبة، وكان أكبر من رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بسنتين بناءً على المشهور، أمّا إسلامه فاشتهر بين المؤرخين بأنه أسلم في السنة الثانية للبعثة .

يروي ابن الأثير وجمع من المؤرخين أنّه لمّا أعلن سيد الشهداء حمزة إسلامه خشي عتاة قريش من رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لأنّه نال حامياً قوياً مثل حمزة، فتخلت قريش عن كثير من مكائدها لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بعد إسلام حمزة .

هاجر حمزة إلى المدينة في بداية الهجرة فكان من المهاجرين الأوائل، وكان

ص: 318

أول قائد لجيش الإسلام حيث أرسله رسول الله على رأس جماعة من المسلمين لیرد هجمةً للمشركين في موضع يدعى «سيف البحر ».

غزى مع الرسول في معارك عديدة مثل بدر وأحد فأبلى في بدر بلاء حسناً وقتل بعض زعماء قريش مثل شيبة بن ربيعة وطعيمة بن عدي وشارك مع أمير المؤمنين (علیه السلام) في قتل أحد عظماء قريش وهو «عتبة بن ربيعة».

وشهد العدو لحمزة شجاعته في الحروب كما شهد له الصديق، إذ كان يحارب في بدر وأحد بسيفين اثنين وكان يضع ريش نعامة على صدره في الحروب لتشخّصه عن سائر القواد والأبطال، ولذلك لمّا أسر أحد زعماء العدو في بدر أشار إلى حمزة وسأل: «مَنْ هذا ؟ » فقالوا: «حمزة بن عبد المطلب» ، فقال مندهشاً: «ذلك فعل بنا الأفاعيل ».

ونال حمزة الشهادة في السنة الثالثة للهجرة في غزوة أحد بعد أن قتل واحداً وثلاثين رجلاً من الأعداء .

حمزة في القرآن:

عندما نتلوا آيات من الكتاب المجيد مثل الآية التي يقول تعالى فيها: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» (1) يتجسد في أذهاننا حمزة بن عبد المطلب فهو الذي آمن في أعسر الظروف وأصعبها، وحمى رسول الله ودفع عنه الأعداء في وقت كان المشركون قد حشدوا جميعاً ضده. وإذا نتلوا هذه الآية: « لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ...»(2) نشاهد حمزة في مقدمة المؤمنين قبل الفتح، فقد استمات

ص: 319


1- الأنفال: 74 .
2- الحديد: 10 .

في سبيل الحق وجاهد أعداء الإسلام بشجاعة نادرة فكان من أوائل الشهداء بل وسيدهم، وقد مثّل به الحاقدون وقطعوه إربا إرباً فأصبحت أعشاب الصحراء كفناً لجسمه المضرج .

أضف إلى تلك الآيات العامة آيات خاصةً بحمزة سيد الشهداء حسب آراء المفسرين والمحدثين وروايات أئمة الهدى (علیهم السلام)، وقد أيّد الله تعالى في هذه الآيات البينات صدق إيمان حمزة واستقامته في الدفاع عن راية الإسلام ونيله الشهادة في سبيل الله . ونكتفي هنا بذكر ثلاث آيات:

1- «هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ »(1).

جاء في صحيح البخاري (2) وصحيح مسلم(3) وسنن الترمذي (4) وسنن ابن ماجة (5) وغيرها من كتب السنة والشيعة أنّ أبا ذر كان يقسم قسماً أنّ هذه الآية نزلت في الثلاثة (6) والثلاثة (7) الذين تبارزوا يوم بدر وهم حمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث (8) وعلي بن أبي طالب(علیه السلام)، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة.

رُوي في تفسير فرات الكوفي عن السدي أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال بعد نزول

ص: 320


1- الحج: 19 .
2- ج 4 تفسير سورة الحج .
3- « راجع الدر المنثور » و «الميزان » ، تفسير سورة الحج .
4- المصدر السابق .
5- المصدر السابق .
6- من أعظم حماة الإسلام .
7- من ألد أعداء الإسلام .
8- عبيدة بن حارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله ، كان من أبطال العرب والمدافعين عن الإسلام، استشهد يوم بدر .

تلك الآية: «هؤلاء الثلاثة يوم القيامة كواسطة القلادة في المؤمنين وهؤلاء الثلاثة كواسطة القلادة في الكفار»(1).

2- «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا» (2).

رُوي في تفسير القمي عن ابن أبي الجارود عن الإمام الباقر (علیه السلام) أنّ هذه الآية نزلت في حمزة وجعفر وعلي (علیهم السلام) وأنّ « من قضى نحبه » حمزة وجعفر و« من ينتظر »علي بن أبي طالب (3).

يروي ابن حجر المكي أنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) كان على المنبر في الكوفة فسئل عن هذه الآية فقال: «اللهم غفراً، هذه الآية نزلت فيّ وفي عمي حمزة وابن عمي عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب، وقتل عبيدة في بدر وحمزة في أحد، أمّا أنا فأنتظر أشقى هذه الأمة أن يخضب لحيتي بدم رأسي، عهدٌ عهده إليّ حبيبي أبو القاسم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) »(4).

3- «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ»(5).

روي في تفسير فرات الكوفي عن ابن عباس: «أنّ هذه الآية نزلت في ثلاثة من المؤمنين المتقين الذين عملوا عملاً صالحاً وهم علي بن أبي طالب (علیه السلام) وحمزة وعبيدة وثلاثة من المشركين المفسدين وهم عتبة وشيبة والوليد بن عتبة، وهم الذين

ص: 321


1- تفسیر فرات الكوفي ص 271 .
2- الأحزاب : 23 .
3- تفسير القمي: ج 2 ص 188 .
4- الصواعق المحرقة : ص 80 .
5- ص: 28

تبارزوا يوم بدر فقتل علي (علیه السلام) الوليد وقتل حمزة عتبة وقتل عبيدة شيبة»(1).

حمزة في الحديث النبوي الشريف:

إشارة

ذكرنا بعض الآيات الكريمة في فضل حمزة والآن نتطرق إلى فضائل له ذكرت على لسان سيد المرسلين (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والأئمة الطاهرين (علیهم السلام) ومواقف أخرى جليلة له ننقلها في الصفحات التالية:

1-حمزة سيد جميع الشهداء عدا الأنبياء والأوصياء :

يروي شيخ المحدثين الصدوق في حديث طويل مسند عن سلمان الفارسي (رحمه الله ) أنه قال: « كنت جالساً بين يدي رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في مرضته التي قبض فيها فدخلت فاطمة (علیها السلام) فلمّا رأت ما بأبيها من الضعف بكت حتى جرت دموعها الله على خديها » فأراد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يسليها ويهدي لوعتها فذكر بعض بركات الله وفضله على أهل البيت وعدّ جانباً من نعم الله عليهم ثم قال: «يا بنية، إنّا أهل بيت أعطانا الله (عزَّ و جلَّ) ست خصال لم يعطها أحداً من الأولين كان قبلنا، ولم يعطها أحداً من الآخرين غيرنا، نبينا سيد الأنبياء والمرسلين وهو أبوك، ووصينا سيد الأوصياء وهو بعلك وشهيدنا سيد الشهداء وهو حمزة بن عبد المطلب عم أبيك . قالت: يا رسول الله هو سيد الشهداء الذين قتلوا معه؟ قال: بل سيد شهداء الأولين والآخرين ما خلا الأنبياء والأوصياء ...»(2).

يُعلم من هذا الحديث أنّ كلاً من حمزة وحسين بن علي (علیهما السلام) يعتبران «سيد الشهداء » وهذا لقب كليهما دائماً وأبداً مع فارق وهو أنّ الحسين بن علي يعتبر سيد حمزة أيضاً، أمّا حمزة فسيد سائر الشهداء .

ص: 322


1- تفسير فرات الكوفي : ص 359 طبعة سنة 1410 الهجرية، طهران .
2- راجع تفصيل هذا الحديث في كمال الدين: ج 1 ص 263 - 264، ح 10، طبعة دار الكتب الإسلامية.
2-حمزة من سادة أهل الجنة :

يروي الشيخ الصدوق عن أنس بن مالك أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال: «نحن بنو عبد المطلب سادة أهل الجنة: رسول الله وحمزة سيد الشهداء وجعفر ذو الجناحين وعلي وفاطمة والحسن والحسين والمهدي (علیهم السلام)»(1).

3 - حمزة أحب أعمام رسول الله إليه:

يروي الصدوق (رحمه الله ) عن الإمام الصادق (علیه السلام) عن جده رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنه قال: « أحبّ إخواني إليّ علي بن أبي طالب وأحبّ أعمامي إليّ حمزة»(2).

4 - حمزة أحب الأسماء لدى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) :

يروي الكليني (رحمه الله ) عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّه قال: «جاء رجل إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فقال: يا رسول الله ولد لي غلام فماذا أسميه؟ قال: سمّه بأحب الأسماء إلىّ حمزة»(3).

5- حمزة أحد الركبان الأربعة يوم القيامة:

يروي الصدوق (رحمه الله ) عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنه قال:

« ما في يوم القيامة راكبٌ غيرنا ونحن أربعة فقام إليه العباس بن عبد المطلب فقال: من هم يا رسول الله ؟ فقال: أمّا أنا فعلى البراق ... وعمّي حمزة ابن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله سيد الشهداء على ناقتي العضباء ... وأخي عليّ على ناقة من نوق الجنة ... »(4).

ص: 323


1- أمالي الصدوق: ص 562 ح 757/ 15، المجلس الثاني والسبعون، طبعة مؤسسة البعثة، قم .
2- أمالي الصدوق ص 647، المجلس الثاني والثمانون، العمدة لابن عقدة: ص 281 .
3- الكافي: كتاب العقيقة باب الأسماء والكني: ج 6، ص 19، ح 9 .
4- الخصال: باب الأربعة: ج 1، ص 203، ح 19 (الركبان يوم القيامة أربعة) .

حمزة في كلام الأئمة(علیهم السلام):

إشارة

نتطرق الآن إلى نقل أقوال أئمة الهدى (علیهم السلام) في هذا الصدد، فهم أيضاً مثل جدهم رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد اعتبروا حمزة من مفاخر أهل بيت النبوة وجعلوه في عداد رسول الله وأمير المؤمنين والحسنين والمهدي (علیهم السلام)، وإليك أقوالهم:

1- حمزة في أقوال أمير المؤمنين (علیه السلام) :

روى الحميري (1) في قرب الإسناد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال: «منّا سبعة خلقهم الله و لم يخلق في الأرض مثلهم منّا رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) سيد الأولين ما والآخرين وخاتم النبيين ووصيه خير الوصيين وسبطاه خير الأسباط، حسناً وحسيناً وسيد الشهداء حمزة عمه ومن قد كان مع الملائكة جعفر والقائم (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)»(2).

حمزة فی احتجاج امیر المؤمنین (علیه السلام)

عندما حضرت عمر بن الخطاب الوفاة جعل الخلافة في شورى من ستة أشخاص هم أمير المؤمنين (علیه السلام)،عثمان بن عفان طلحة، الزبير، عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، وأمر أن يجتمع هؤلاء الستة بعد موته ليعينوا خليفة من بينهم فيبايعوه، بحيث أنّه لو بايع أربعة منهم مع أحدهم وامتنع الخامس ضربوا عنقه، وإذا امتنع اثنان ضربوا عنقهما، ورسم الخطة بحيث تمت البيعة لعثمان بن عفان . وفي ذلك الاجتماع خطب أمير المؤمنين (علیه السلام) فأتم الحجة على

ص: 324


1- الحميري من أصحاب الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) وكتابه «قرب الإسناد » من مراجع الحديث لدى الشيعة .
2- قرب الإسناد، طبعة كوشانفر :ص 39.

الحاضرين بذكر مناقب أهل البيت إلى أن قال :« نشدتكم بالله هل فيكم أحدٌ عمّه سيد الشهداء غيري ؟ قالوا: لا ...»(1).

2- حمزة في احتجاج الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام):

يروي الشيخ الطوسي (رحمه الله ) عن الإمام الصادق عن أبيه الإمام الباقر عن الإمام السجاد (علیهم السلام) أنّه قال:

«... قال الحسن بن علي فيما احتج على معاوية وكان ممّن استجاب الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عمّه حمزة وابن عمّه جعفر فقتلا شهيدين (رضی الله عنهما)في قتلى كثيرة معهما من أصحاب رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فجعل الله تعالى حمزة سيد الشهداء من بينهم وجعل لجعفر جناحين يطير بهما مع الملائكة كيف يشاء من بينهم، وذلك لمكانهما من رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ومنزلتهما وقرابتهما عند رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وصلّى على حمزة سبعين صلاة من بين الشهداء الذين استشهدوا معه »(2).

3- حمزة في احتجاج الحسين بن علي (علیهما السلام):

خطب الإمام الحسين بن علي (علیهما السلام)جيش عمر بن سعد في صبيحة عاشوراء وقال في ضمن كلام طويل، أتمّ الحجة عليهم به: «أيها الناس أنسبوني من أنا ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم وابن وصيّه وابن عمّه وأول المؤمنين بالله والمصدق لرسوله بما جاء من عند ربه؟ أو ليس حمزة سيد الشهداء عمّ أبي، أو ليس جعفر الطيار عمّي ،أو لم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة ... »(3).

ص: 325


1- أنظر نص هذه الخطبة كاملة في احتجاج الطبرسي: ج 1 ص 188 - 210 .
2- أمالي (مجالس) الطوسي، نقلاً عن بحار الأنوار: ج 22 ص 283 .
3- رويت هذه الخطبة باختلاف يسير في تاريخ الطبري: ج 7 ص 328، الكامل لابن الأثير: ج3 ص 287 ، الإرشاد للمفيد ص 234 ، مقتل الخوارزمي: ج 1 ص 253 .
4- حمزة في احتجاج علي بن الحسين(علیهما السلام):

يروي الصدوق (رحمه الله ) عن ثابت بن أبي صفية أنه قال: «نظر علي بن الحسين سيد العابدين (علیه السلام) إلى عبيد الله بن عباس بن علي بن أبي طالب (علیه السلام) فاستعبر ثم قال ما من يوم أشد على رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من يوم أحد، قتل فيه عمه حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب، ثم قال: ولا يوم كيوم الحسين (علیه السلام) إذ زحف إليه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنهم من هذه الأمة، كلّ يتقرب إلى (عزَّ و جلَّ) بدمه ...»(1).

سيد الشهداء حمزة في غزوة بدر :

«وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ»(2)

أهمية غزوة بدر

لقد أبادت الحربان العالميتان والحروب الكبيرة الأخرى الملايين من البشر وجلبت دماراً شاملاً عظيماً ، فإذا قارنا هذه الحروب الطاحنة بمعركة صغيرة مثل بدر والتي قتل فيها وأسر عدد يسير جداً لما أعارها أكثر القراء أية اهتمام بل اعتبروها معركة قبلية بسيطة، ولكن إذا تأملنا أهداف هذه المعركة ونتائجها لأدركنا أهميتها البالغة، وأبعاد تأثيرها العميق، الشيء الذي لم نجده في الحروب العديدة طوال تاريخ الإسلام، فقد كانت وبلا شك معركة مصيرية للإسلام فانتصار المسلمين فيها هو النصر الأبدي للإسلام، وهزيمتهم كانت لا محالة نصراً حاسماً

ص: 326


1- أمالي الصدوق: ص 277(المجلس السبعون)، مطبعة الحكمة بقم، بحار الأنوار: ج 22 ص 274، و ج 44 ص 298 .
2- آل عمران: 123 .

للجاهلية وعبادة الأصنام، ولذا يذكر القرآن الكريم ذلك اليوم باعتباره «...يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ...»(1)، أي يوم ظهر فيه الحق والباطل، والتوحيد والشرك، يومٌ التقى فيه جمع مؤمن بالله بجمع كافر مشرك بالله.

يقول الله تعالى في آية أخرى واصفاً فيها تلك المعركة: «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ *وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ »(2).

وكان رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يرفع يديه كراراً في هذه الغزوة فيدعو ويتضرع إلى الله، وكان يضع جبينه على التراب ساجداً لله يطلب النصر منه، وكان مما دعا به: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تُعبد بعد »(3).

دور حمزة في النصر بغزوة بدر :

إنّ النصر الذي حققه جيش التوحيد في معركة بدر كان له عوامل كأيّة معركة أخرى . ومن أهم تلك العوامل فضل الله وعونه لهم إثر استغاثة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والمسلمين ربهم واستجابته لهم وإمداده إياهم بألف من الملائكة مردفين حتى يستبشروا بذلك وتطمئن قلوبهم . فكل جندي مسلم في تلك الغزوة استطاع أن يستمد بالبشرى الإلهية والإطمئنان القلبي من الله تعالى بقدر ما يكنّ في صدره من الإيمان واليقين بالله .

وعلينا الآن أن نرى أياً من المقاتلين المسلمين أشرق قلبه بالبشرى الإلهية استمد أكثر من غيره ، ومن منهم من تلك الطمأنينة السماوية فأبلى بلاءً أعظم، وأوقع بالمشركين هزيمة أنكر من سائر المسلمين .

ص: 327


1- الأنفال: 41 .
2- الأنفال :9 و 10 .
3- مناقب ابن شهر آشوب: ج 1، ص 188 ، المطبعة العلمية .

عدد قتلى المشركين:

وليتضح الأمر، يجب أن نعرف عدد قتلى المشركين في بدر وأنّهم بأيدي من قُتِلُوا، حتى يعلم القارئ العزيز من كان له الفضل الأكبر في نصر المسلمين وخذلان المشركين إنّ التاريخ لم يذكر عدداً معيناً لقتلى بدر ولم يعرفهم فرداً فرداً، وما جاء في كتب التاريخ يقتصر على تسمية القتلى من زعماء المشركين فحسب، ومن جهة أخرى لا يذكر التاريخ جهد كل فرد مسلم في تلك الغزوة أي لا نعلم عدد القتلى لكل جندي مسلم، ومع كل ذلك فإنّ الأخبار القليلة التي ذكرت عن رحى المعركة تبين لنا بعض مخابئها ودور الأشخاص فيها إلى حدٍ ما .

يذكر ابن أبي الحديد اثنين وخمسين قتيلاً من المشركين، لكنّه يروي عن الواقدي ما يدل على عدم العلم بعددهم بدقة، فيقول: «وقد كثرت الرواية أنّ المقتولين ببدر كانوا سبعين، ولكن الذين عرفوا وحفظت أسماؤهم من ذكرناه »(1).

يجب أن نضيف إلى كلام ابن أبي الحديد ما ذكرناه في ترجمة عقيل وسنذكره فيما بعد وأنّه يجب أن لا ننسى دور الحكام في التعتيم على حقائق التاريخ خصوصاً على ما يتعلق بأمير المؤمنين وحمزة (علیهما السلام) وما تم من تحريف في بطولاتهم وحسن بلائهم التي كانت لها أثر سلبي على حكام بني أمية .

بطلا غزوة بدر علي أمير المؤمنين وسيد الشهداء حمزة (علیهما السلام):

قتل أكثر قتلى المشركين في بدر على أيدي المهاجرين خصوصاً أقرباء الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وعلى رأسهم أمير المؤمنين وسيد الشهداء حمزة (علیهما السلام).

جاء في التاريخ أنّ المشركين قد لقبوا أمير المؤمنين في بدر ب- «الموت الأحمر» إذ قتل بوحده أكثر من نصف ممن قتل وشارك مع غيره في قتل جمع آخر منهم ،

ص: 328


1- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ج 14 ص 212 .

وقد سمّى الشيخ المفيد ستة وثلاثين رجلاً قتلهم أمير المؤمنين (علیه السلام) بوحده (1).

يقول ابن إسحاق المؤرخ السني الشهير: «أكثر قتلى المشركين يوم بدر كان لعلي (علیه السلام)»(2).

إلّا أنّ بعض المؤرخين عدّوا قتلى علي سبعة وعشرين (3)أو اثنين وعشرين(4).

عدد قتلى سيد الشهداء حمزة (علیه السلام) :

ذكرت كتب أهل السنة أنّ قتلى سيد الشهداء حمزة كانوا تسعة، منهم من قتله حمزة لوحده ومنهم من شاركه علي أمير المؤمنين (علیه السلام) في قتله، وذكر أنّ سعد بن أبي وقاص ساعده في قتل واحد فقط .

والجدير بالذكر قبل بيان عدد هؤلاء القتلى وأسمائهم أنّ الدلائل التاريخية تشير إلى أنّ قتلى حمزة أكثر مما ذكر ، فالخلاف في عدد القتلى بيد حمزة أو عدم ذكر جميعهم يشابه الخلاف الظاهر في قتلى أمير المؤمنين (علیه السلام) فهناك من يقول: أنّه قتل معظم مَنْ قُتِلَ، وَمَنْ يقول: أنّ قتلاه لم يتراوحوا الإثنين والعشرين، وليس هذا هو المهم تاريخياً فلو كان يذكر جميع القتلى فرداً فرداً لتغيرت آراء المؤرخين، وكيفما كان فبرغم الخلاف في عدد القتلى لكل منهما يثبت التاريخ لهما الدور الأساسي في انتصار المسلمين ببدر ، فهزيمة المشركين كانت أولاً على يد أمير المؤمنين (علیه السلام) ثم حمزة ثم سائر المسلمين، ولم يشتركوا كلهم في تحقيق النصر للإسلام لأنّ الآية الشريفة تدل بوضوح على أنّ بعضهم كانوا غير راضين من خروج رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من المدينة وكانوا خائفين من الخوض في

ص: 329


1- الإرشاد: ص 39 .
2- نقلاً عن بحار الأنوار: ج 19 ص 291 .
3- تفسير القمي: ج 1 ص 269، بحار الأنوار: ج 19 ص 240 .
4- نور الأبصار للشبلنجي: ص 86 .

غمار هذه المعركة (1) ويشهد التاريخ أيضاً بذلك بأنّ بعض الصحابة لم يكن لهم أي دور في القتال أو كان دورهم ضئيل لا يذكر .

تحليل ابن أبي الحديد عن كيفية انتصار المسلمين ببدر:

نشير الآن إلى تحليل ذكره ابن أبي الحديد عن كيفية النصر في غزوة بدر وعن شجاعة أمير المؤمنين وحمزة (علیهما السلام) ودورهما الفعال في تحقيق هذا النصر، وإليك خلاصة قوله:

إنّه يشرح كيفية انتصار المسلمين رغم كثرة المشركين وقوتهم وضعف المسلمين وقلة عددهم، فيقول: «وإنما لقوا الأوس والخزرج وهم أشجع العرب وفيهم علي بن أبي طالب (علیه السلام) وحمزة بن عبد المطلب وهما أشجع البشر وجماعة من المهاجرين أنجاد أبطال ورئيسهم محمد بن عبد الله رسول الله الداعي إلى الحق والعدل والتوحيد، المؤيّد بالقوة الإلهية»(2).

أحد زعماء المشركين يشهد بشجاعة حمزة (علیه السلام) :

بعد انتهاء القتال بدأوا بنقل الأسرى وكان أمية بن خلف بينهم وهو من زعماء المشركين، فلمّا رآى حمزة قال لعبد الرحمن بن عوف «مَنْ هذا المعلَّم؟» قال: «حمزة بن عبد المطلب ». فقال أمية وهو يتحسر على هزيمة جيشه: «ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل »(3) . يقال إنّ حمزة كان يضع ريش نعامة على عمامته ليتميز عن الآخرين ولذلك عبّر عنه أمية بالمعلَّم .

ص: 330


1- الأنفال: 5 «كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ».
2- شرح نهج البلاغة: ج 14 ص 107.
3- شرح نهج البلاغة : ج 14 ص 49 الروض الأنف: ج 2 ص 41 ، تاريخ الخميس: ج 1 ص 382 .

حمزة في غزوة أحد:

المشهور عند المؤرخين أنّ شهداء أحد كانوا سبعين شخصاً وهناك أقوال غير مشهورة تعدّهم أكثر من ذلك أو أقل . أربعة من هؤلاء كانوا من المهاجرين وهم حمزة بن عبد المطلب وعبد الله بن جحش ومصعب بن عمير وشماس المخزومي والباقى كانوا جميعاً من الأنصار .

إنّ شهداء أحد وأقربائهم كانوا ولا يزالون أسوة حقيقية في الصبر والإستقامة في طريق الحق والإخلاص والوفاء، يستلهم منهم المسلمون في أنحاء البسيطة دروس الشهامة والبسالة وإليك نماذج من تلك الدروس :

1- بعد انتهاء القتال قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «مَنْ رجلٌ ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع (1) أفي الأحياء هو أم في الأموات؟» ، فقال أبي بن كعب أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل .

قال: فنظرت فوجدته جريحاً في القتلى به رمق فقلت له: إنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أمرني أن أنظر له أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟

قال: أنا في الأموات، أبلغ رسول الله عني السلام وقل له إنّ سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته وأبلغ عني قومك السلام وقل لهم: إنّ سعد بن الربيع يقول لكم إنّه لا عذر لكم عند الله إن خُلص إلى نبيكم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وفيكم عينٌ تطرِفٌ. ثم لم أبرح حتى مات فجئت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فأخبرته خبره فقال: «رحم الله سعداً نصرنا حياً وأوصى بنا ميتاً »(2).

2- ومن شهداء أحد أيضاً «أنس بن النضر» ، لمّا رآى بعض الصحابة يفرون

ص: 331


1- سعد أخو بني الحارث بن الخزرج من الأنصار .
2- سيرة ابن هشام ج 3 ص 39 الكامل لابن الأثير: ج 2 ص 112 تاريخ الطبري: ج 2 ص 388 ،تاريخ الخميس: ج 1 ص 440، تاريخ ابن كثير : ج 3 ص 39 ، أسد الغابة : ج 2 ص 277 .

قال: «اللهم إني اعتذر إليك مما صنع هؤلاء ( يعني المسلمين) وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء (يعني المشركين» . ثم قاتل حتى قتل، وذكر أنهم وجدوا به بعضاً وثمانين ما بين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ووجدوه قد قتل ومثل به المشركون فما عرفته أخته الربيع بنت النضر إلا ببنانه(1).

3- عند العودة من أحد، جاءت نساء المدينة يستقبلن رسول الله وأصحابه، فمرّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأحد ، فلما نُعوا لها قالت : فما فعل رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؟ قالوا : خيراً يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين قالت أرونيه أنظر إليه، فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت كل مصيبة بعدك جلل (2) . وهكذا صبرت على فراق أعز الناس إليها

سيد الشهداء حمزة :

ذكرنا أمثلة من شهداء أحد من صحابة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الأوفياء المخلصين الذين بذلوا مهجهم في سبيل الإيمان والعقيدة فدافعوا عن كلمة التوحيد وجاهدوا الشرك والجاهلية، فكانوا بذلك أروع مثال يقتدى به في البسالة والتضحية .

ويمكننا القول بأنّه لو وضع كل هؤلاء الشهداء الكرام وجميع الشهداء من الأولين والآخرين في كفة ميزان ووضع سيد الشهداء حمزة في الكفة الأخرى لرجحت كفته عليهم دون الأنبياء والأوصياء لما قاله الرسول الأكرم(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فيه: «سید شهداء الأولين والآخرين ما خلا الأنبياء والأوصياء »(3).

لقد انفرد حمزة بألقاب «أفضل الشهداء» و «أسد الله وأسد رسوله» و «سيد الشهداء» :

ص: 332


1- الكامل لابن الأثير: ج 2 ص 109، أسد الغابة: ج 1 ص 131 - 132 .
2- سيرة ابن هشام ج 2 ص 43 تاريخ الطبري: ج 2 ص 392 .
3- كمال الدين للشيخ الصدوق: ج 1 ص 264 .

«و على قائمة العرش مكتوب: حمزة أسد الله وأسد رسوله وسيد الشهداء»(1).

حمزة (علیه السلام) قبيل المعركة:

عند خروج رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلى أحد كان أصحابه يظهرون الولاء له بأقوال كانت تدل على ثباتهم واستقامتهم معه وكان يشجع بعضهم بعضاً، ومن لم يدرك منهم بدراً فيقول: يا رسول الله، نحن كنا ننتظر هذا اليوم لنعوض ما فاتنا في بدر .

ويقول آخرون إذا لم نقاوم المشركين اليوم، فمتى إذن نثبت وفاءنا واستقامتنا .

وهكذا مشوا إلى أحد، ولكن - كما ذكرنا - لم يثبت بعضهم على ما ادّعوه، فتركوا القتال في أصعب ساعاته، وأمام ذلك ثبت آخرون ثبات الأبطال وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه شهيداً في سبيل الله ومنهم من بقي ينتظر على كثرة ما ألمّ من الجراح . ومن بين هؤلاء الشهداء الأبرار نجد سيدهم حمزة، وهو القائل في بداية المسير :« يا رسول الله، والذي أنزل عليك الكتاب لنجادلنّهم »(2).

إستشهاد حمزة ورؤيا رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) :

عندما خرج رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلى أحد قال لأصحابه: «رأيت بقراً لي تذبح ورأيت في ذباب سيفي ثلماً ... فأما البقر فهي أناس من أصحابي يقتلون، وأما الثلم الذي رأيته في ذباب سيفي فهو رجل من أهل بيتي يُقتل»(3).

وجاء في بعض الروايات: رجل من عترتي بدلاً من: «رجل من أهل بيتي».

ص: 333


1- بصائر الدرجات: ص 34، بحار الأنوار: ج 27 ص 7 .
2- تاریخ ابن كثير: ج 4 ص 12 .
3- الروض الأنف: ج 3 ص 149 تاريخ ابن كثير: ج 4 ص 12، سيرة ابن هشام: ج 3 ص 16 .

الإستشهاد صائماً:

يقول الواقدي: «ويقال كان حمزة يوم الجمعة صائماً ويوم السبت صائماً فلاقاهم وهو صائم »(1).

كيفية استشهاد حمزة (علیه السلام) :

قُتل حمزة بيد عبد شقي يدعى وحشي الحبشي، ولكن شجّعه على ارتكاب جريمته تلك شخصان، بل كان لهما الدور الأساسي في قتله وهما:

1 - جبير بن مطعم

يقول ابن أبي الحديد عن يوم أحد: «وكان حمزة بن عبد المطلب مغامراً غشمشماً (2) لا يبصُر أمامه، قال جبير بن مطعم لعبده وحشي يوم أحد: ويلك إن علياً قتل عمي طعيمة ... فإن قتلته اليوم فأنت حُرّ، وإن قتلت محمداً فأنت حرّ وإن قتلت حمزة فأنت حرّ، فلا أحد يعدل عمي إلا هؤلاء الثلاثة، فقال: أما محمد فإنّ أصحابه دونه، ولن يسلموه ولا أراني أصل إليه، وأما علي فرجل مرس كثير الإلتفات في الحرب لا أستطيع قتله، ولكن سأقتل لك حمزة فإنّه رجل لا يبصر أمامه في الحرب »(3) . ووفى جبير بن مطعم بوعده، فأعتق وحشياً بعد عودته إلى مكة .

2- هند زوجة أبي سفيان:

هي أيضاً شجعت وحشياً على قتل حمزة وكان لها دور أساسي في تلك

ص: 334


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 1 ص 243 وج 14 ص 223، بحار الأنوار: ج 20 ص 125
2- الرجل الغشمشم غير المذر في الحرب، لا يبصر أمامه .
3- شرح نهج البلاغة: ج 1 ص 243، تاريخ ابن كثير : ج 4 ص 11، الروض الأنف: ج 3 ص 148، بحار الأنوار: ج 2 ص 83 .

الجريمة . كانت هند مشهورة بجمالها وحسن حديثها (1)، وكانت تعلم شدّة ضراوة وحشي وتهوره . إطلعت هند على ما اتفق عليه وحشي مع جبير، فالتفتت إلى وحشي وشجعته على ما هو مقدم عليه ووعدته بجائزة كبيرة إن استطاع أن يقتل أحد الثلاثة الذين سمّاهم جبير، فأجابها وحشي بما أجاب به جبيراً وطمأنها على قتل حمزة ولذلك كلما مرت هند بوحشي في المسير خاطبته بالجملة التالية تشجيعاً له: «ويهاً يا أبا دسمة، اشف واشتف »(2).

ولنسمع القصة من وحشي :

يروي المؤرخون أنّ وحشياً قال: أقبلت مع المشركين إلى أحد وكنت أتربص الفرص لأنال حريتي وأحصل على وعود هند وجوائزها .

وكان وحشي من أحذق الناس في رمي الحربة، وقلّما يخطأ فيها . يقول: وعندما اشتد القتال دخلت المعركة أبحث عن حمزة وكنت أنتظر الفرصة المناسبة، وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو مني، حتى بدا لي حمزة، وكان لا يقاتل أحداً إلا يفرّ من أمامه أو يضربه فيصرعه ، وكان لحمزة علامتان تشخصانه، إحداهما أنّه يحارب بسيفين والثانية ريش نعامة يضعها على عمامته .

يقول وحشي وقاتل حمزة حتى مر به سباع بن عبد العزى الغبشاني فقال له حمزة: «هلم إليّ يا ابن مقطعة البظور » وكانت أمه أمّ نمار ختانةً بمكة، فلمّا التقيا ضربه حمزة فقتله .

يقول وحشي: إنّي والله لأنظر إلى حمزة وهو يهدّ الناس بسيفيه هدّاً، ما يلقى شيئاً يمرّ به إلّا قتله ... فهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت في

ص: 335


1- مجالس المؤمنين: ج 1 ص 178 .
2- تاريخ الطبري: ج 2 ص 368، الكامل لابن الأثير : ج 2 ص 104، البداية والنهاية لابن كثير: ج 4 ص 11.

ثنته (1) حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فغلب وتركته وإيَّاها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي ثم رجعت إلى العسكر وقعدت فيه ولم يكن لي بغيره حاجة، إنما قتلته لأعتق (2).

روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) : أنّ حربة وحشي أصابت حنجرة حمزة فوقع على الأرض وحمل عليه الأعداء من كل صوب فقطعوه بسيوفهم فقتل صبراً، وشق وحشي صدر حمزة وأخرج كبده وأخذه إلى هند ليأخذ جائزتها، فوضعت هند الكبد في فيها وأرادت أن تقضمه وتبلعه فتحول الكبد إلى عظم فلفظته »(3).

جثة حمزة بعد الشهادة :

إشارة

بعد استشهاد حمزة وقبل أن يدفن حدثت لجثته الطاهرة عدة حوادث نتطرق لها:

1 - هند وجثة حمزة (علیه السلام) :

الحادثة الأولى بعد استشهاد حمزة هي التمثيل بجثته على يد هند .

يقول الطبري: «وقد وقفت هند بنت عتبة والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يجدعن الآذان والأنوف حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنوفهم خَدَماً وقلائد وأعطت خدمها وقلائدها وقرطيها وحشياً غلام جبير بن مطعم وبقرت عن كبد حمزة ولاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها»(4).

وجاء في تفسير القمي:« فجاءت إليه هند وقطعت مذاكيره ! وقطعت أذنيه

ص: 336


1- جاء في بعض الكتب: «فأصابت ليّته » وفي غيرها «ثنته » ، والأولى بمعنى الحلق والثانية بمعنى أسفل البطن .
2- تاريخ ابن كثير : ج 4 ص 18 - 19 ، الكامل لابن الأثير: ج 2 ص 108 .
3- إرشاد المفيد ص 92 .
4- تاريخ الطبري : ج 2 ص 385 ، الكامل : ج 2 ص 111 سيرة ابن هشام ج 3 ص 36 .

وقطعت يديه ورجليه»(1).

يقول الطبري: «ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها بما قالت من الشعر حين ظفروا بما أصابوا من أصحاب رسول الله».

وإليك أبيات هند التي نقلها أكثر المؤرخين:

نحن جزیناكم بيوم بدر ***والحرب بعد الحرب ذات سعر

أكان عن عتبة لي من صبر*** ولا أخي وعمه وبكري

شَفَيت نفسي وقضيت نذري*** شفيت وحشي غليل صدري

فشكر وحشي عليّ عمري ***حتى ترم أعظمي في قبري (2)

يقول ابن إسحاق : وممّا أنشدتها هند بعد التمثيل بحمزة هذه الأبيات:

شفيت من حمزة نفسي بأحد ***حتى بقرت بطنه عن الكبد

أذهب عني ذاك ما كنت أجد ***من لذعة الحزن الشديد المعتمد

والحرب تعلو كم بشؤبوب برد*** تقدم إقداماً عليكم كالأسد(3)

2 - أبو سفيان وجثة حمزة (علیه السلام) :

يقول ابن إسحاق بعد التمثيل بحمزة ، شاهد «الحليس بن زبان » أبا سفيان يغرز رأس حربته في خد حمزة ويقول: «ذق يا عقق » (4) أي ذق ما أنت فيه بعد أن عاقتك الأصنام .

فقال الحليس يا للخزي، أتزعم أنّك سيد قومك وبهذه الخشونة تعامل ابن عمك ولم يبق منه إلا قطعة لحم . فأجاب أبو سفيان: «ويحك اكتمها عني فإنها

ص: 337


1- تفسير القمي: ج 1 ص 17 .
2- الروض الأنف: ج 3 ص 169 .
3- نفس المصدر: ج 3 ص 170 .
4- العُقَق بضم الأول وفتح الثاني مأخوذة من عقّ وهي صيغة المبالغة مثل الفُسَق .

كانت زلّة» (1).

3-رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وجثة حمزة (علیه السلام):

يروي بعض المؤرخين أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان مصاباً بجروح كثيرة مؤلمة ومع ذلك قام يبحث عن جثة حمزة .

يقول ابن إسحاق: «وخرج رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في ما بلغني يلتمس حمزة بن عبد المطلب فوجده ببطن الوادي قد بُقِر بطنُهُ عن كبده ومثل به فجدع أنفه وأذناه »(2).

وجاء في تفسير القمي أنّه بعد انتهاء المعركة قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لأصحابه: هل فيكم أحد يخبرني عن عمي حمزة ؟

فقال الحرث بن سميّة: أنا أعرف موضعه، وذهب إلى حيث كانت جثة حمزة الل(علیه السلام) فرآه على تلك الحال فلم يستطع أن يخبر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فتأخر عن النبي، فأمر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أمير المؤمنين (علیه السلام) قائلاً: «يا على اطلب عمّك ، فجاء علي ورأى حمزة (علیه السلام)على ما هو عليه فأبت نفسه عليه أن يخبر رسول الله بما رآى فمشى إليه رسول الله بنفسه مع عدد من الأصحاب فرأوا جثة حمزة مقطعة الأوصال ممثلاً بها، فبكى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وقال:« لن أصاب بمثلك أبداً » . وقال أيضاً: «والله ما وقفت موقفاً قطّ أغيظ عليَّ من هذا المكان»(3).

ثم قال : «جاء إليّ جبريل فأخبرني أن حمزة مكتوب في السماوات السبع حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله»(4).

وفي رواية أخرى عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه لمّا رأى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)

ص: 338


1- سيرة ابن هشام ج 3 ص 37، الروض الأنف: ج 3 ص 170 .
2- البداية والنهاية : ج 4 ص 39 تاريخ الطبري: ج 2 ص 388 .
3- تفسير القمي: ج 1 ص 123 ، الكامل لابن الأثير: ج 2 ص 112 تاريخ الخميس: ج 1 ص 441، البداية والنهاية : ج 4، ص 40 .
4- تاریخ ابن كثير: ج 4 ص 40 .

جثة عمه بكى فلما رآه قد مُثِّل به شهق (1).

وروي أيضاً أنّه لمّا رأى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) جثة حمزة (علیه السلام) قال: «رحمك الله يا عم فقد كنت وصولاً للرحم فعولاً للخيرات»(2).

4 - صفية وجثة حمزة (علیه السلام) :

قال ابن إسحاق: وقد أقبلت - فيما بلغني - صفية بنت عبد المطلب لتنظر إليه وكان أخاها لأبيها وأمها، فقال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لابنها الزبير بن العوام: ألقها فأرجعها لا ترى ما بأخيها، فقال لها يا أمّه إنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم ؟ وقد بلغني أن قد مُثِّل بأخي، وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك ! لأحتسبنّ ولأصبرنّ إن شاء الله . فلمّا جاء الزبير إلى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فأخبره بذلك، قال: خلّ سبيلها، فأتته، فنظرت إليه، فصلّت عليه، واسترجعت واستغفرت له (3).

يروي ابن أبي الحديد عن الواقدي: أنّ صفيّة لمّا جاءت حالت الأنصار بينها وبين رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فقال: دعوها، فجلست عنده، فجعلت إذا بكت يبكي رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وإذا نشجت ينشج رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وجعلت فاطمة (علیها السلام) تبكي، فلما بكت بكى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ثم قال : لن أصاب بمثل حمزة أبداً، ثم قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لصفيّة وفاطمة: أبشرا، أتاني جبرائيل (علیه السلام) فأخبرني أنّ حمزة مكتوب في أهل السموات السبع :حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله (4).

ص: 339


1- أسد الغابة: ج 2 ص 48 .
2- نفس المصدر .
3- الروض الأنف: ج 3 ص 172، سيرة ابن هشام ج 3 ص 41، الكامل لابن الأثير : ج 2 ص 112.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 15 ص 17 .
5 - شدة بكاء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عند الصلاة على حمزة (علیه السلام) :

جاء في ذخائر العقبي : ثم وقف على جنازته وانتحب حتّى نشغ (1) من البكاء يقول: «يا حمزة يا عم رسول الله وأسد الله وأسد رسوله، يا حمزة يا فاعل الخيرات يا حمزة يا كاشف الكربات، يا حمزة يا ذاب عن وجه رسول الله». وطال بكاؤه (2) .

6- سبعون صلاة على جثمان حمزة (علیه السلام) :

روى أكثر المؤرخين والمحدثين عن عبد الله بن عباس أنّه كان يصلى على كل شهيد من المسلمين مرة واحدة لكنّه صلى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على عمه حمزة سبعين أو اثنتين وسبيعن صلاة، إذ ألبس جثمان عمه قماشاً أبيض وصلى عليه بسبع تكبيرات، وبعده كل ما أتوا بشهيد وضعه إلى جنب حمزة وصلى عليهما، وهكذا صلى على حمزة اثنتين وسبعين مرة . (3)

7 - دفن حمزة بالكفن :

لا شك أنّ أجساد الشهداء الذين قتلوا في ساحة المعركة لا حاجة إلى غسلهم أو تكفينهم، بل يدفنون بأجسامهم وملابسهم الملطخة بالدماء، وهكذا صنع رسول الله في شهداء أحد أيضاً .

روي في كتب الحديث ومنها سنن أبي داود أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بعد معركة أحد أمر برفع الحديد والجلود عن أجساد الشهداء وأن يُدفنوا بدمائهم وثيابهم. (4)

يروي الكليني (رحمه الله ) عن الإمام الصادق (علیه السلام): أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) صلّى على

ص: 340


1- النشغ: الشهيق حتى يبلغ به الغَشْي .
2- ذخائر العقبى ص 181 .
3- سيرة ابن هشام: ج 3 ص 30، الروض الأنف: ج 3 ص 171، سنن أبي داود: ج 2 ص 174.
4- سنن أبي داود: ج 2 ص 174 .

حمزة وكفّنه لأنه كان قد جرِّد »(1).

دفن حمزة

عند دفن الشهداء، نقلوا أجساد بعض الشهداء إلى المدينة ليدفنوا فيها، فلما سمع رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ذلك منعهم وقال: «ادفنوهم حيث صرعوا » ، فوصل الخبر إلى المدينة وكان «شماس المخزومي » لم يدفن بعد فأعادوه إلى أحد ودفنوه هناك(2).

و كان رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كلّما رأى شهيداً ذكر شيئاً عن سموّ درجة الشهيد ومنها قوله:

«أنا شهيد على هؤلاء أنّه ما من جريح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة وجرحه يدمى اللون لون دم والريح ريح مسك ».

ثم قال: «أنظروا أكثر هؤلاء جمعاً للقرآن فاجعلوه أمام أصحابه في القبر»(3).

دفن حمزة منفرداً:

ورد في كتب الحديث أنّ الأنصار أتوا رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بعد معركة أحد فقالوا: یا رسول الله أجسامنا مجروحة ومنهكة، ويصعب علينا حفر القبور لكل منهم على حدة، فقال: «إحفروا وأوسعوا واجعلوا الرجلين في القبر الواحد . فسألوا: «أيّهم يقدّم؟ قال: «أكثر هم قرآناً ». وهكذا كانوا يدفنون رجلين أو ثلاثاً في قبر واحد (4).

ومن ذلك أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أمر بدفن خارجة بن زيد مع مع سعد بن ربيع

ص: 341


1- الفروع من الكافي: ج 3 ص 211 .
2- سيرة ابن هشام ج 3 ص 42 سنن أبي داود: ج 2 ص 180 .
3- مسند أحمد بن حنبل: ج 6 ص 431 .
4- سنن أبي داود: ج 2 ص 174 ، تاريخ ابن كثير : ج 4 ص 42، الكامل لإبن الأثير : ج 2 ص 163 .

ونعمان بن مالك مع عبدة في قبر واحد وكذلك عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام وكانا صديقين حميمين(1).

أمّا حمزة فقد دفن بوحده في قبر واحد واشترك في دفنه عدة أشخاص منهم أمير المؤمنين (علیه السلام) وأبو بكر وعمر والزبير حيث نزلوا داخل القبر ورسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) جالس عند القبر حزيناً وهو يشرف على دفنه (2).

إقامة مجلس العزاء

بعد دفن الشهداء دخل رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مع أصحابه المدينة فاستقبلته الأرامل والأيتام . وقد أشرنا إلى بعض الحوادث التي جرت عند عودتهم، ولكن لعل أروع تلك الحوادث وأهم تلك المواقف التي حدثت في المدينة هو إقامة مجلس العزاء لسيد الشهداء حمزة .

يروي ابن هشام عن ابن إسحاق أنّه مرّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بدار من دور الأنصار من بني عبد الأشهل وظفر فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم فذرفت عينا رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فبكى ثم قال: «لكن حمزة لا بواكي له »، فلمّا رجع سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير إلى دار بني عبد الأشهل أمرا نساءهم أن يتحزّمن ثم يذهبن فيبكين على عم رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (3).

يقول ابن إسحاق: عندما سمع رسول الله(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) نياح النساء عند المسجد قام من مقامه ودخل عليهنّ وقال:« ارجعن يرحمكنّ الله فقد آسيتنّ بأنفسكنّ» (4).

ص: 342


1- طبقات الواقدي: ج 2 ص 31 .
2- الكامل لابن الأثير: ج 2 ص 113.
3- سيرة ابن هشام ج 3 ص 42 - 43 تاريخ ابن كثير: ج 4 ص 47، تاريخ الخميس: ج 1 ص 444 تاريخ الطبري: ج 3 ص 392 .
4- تاريخ ابن كثير: ج 4، ص 47 .

كما يروي الواقدي (المتوفى سنة 207 هجرية )الحديث السابق ثم يقول عن رسوم نساء المدينة: «فهنّ إلى اليوم إذا مات الميت من الأنصار بدأ النساء فبكين على حمزة ثم بكين على ميّتهنّ»(1).

ما سبب حزن رسول الله(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؟

علمنا مما سبق أنّ رسول الله حزن حزناً شديداً لاستشهاد عمه وبكى بصوت

عال عندما رآى جثمانه وقال: «لن أصاب بمثلك أبداً » ، ثم بكى ثانية مع عمته صفية وابنته فاطمة، وكان يحبّ أن يبكينه النساء فيشكرهنّ على بكائهنّ ويدعو لهنّ، وعند إقامة الصلاة عليه بكى بكاء طويلاً مع النياح .

ولا شك أنّ كل هذا الحزن الشديد من رسول الله لم يكن إلّا لما أبداه حمزة من بسالة واستماتة في سبيل إعلاء كلمة الحق كما قال فيه رسول الله(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «كنت فعولاً بالخيرات » . فحزن رسول الله في الحقيقة حزنٌ على افتقاد مجاهد مخلص ومدافع شجاع عن الإسلام، لأنّ الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لا يحزن لمجرد عواطف شخصية نابعة عن قرابته بالميت ولا يحثّ أحداً على البكاء بهذه الدوافع، فحبه لله وبغضه أيضاً الله .

إذن فحزن رسول الله على حمزة يعود إلى ارتباط حمزة بالله وإنما يحزن رسول الله عليه لما ألمّ بالإسلام من خسارة إثر افتقاده وإلّا فكما أنّ حمزة كان عمه، فإنّ أبا لهب أيضاً كان عمه، ولكن ما عادى أحدٌ رسول الله كما عاداه أبو لهب ولم يؤذيه أحد مثلما آذاه، فكرهه رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وكان عدواً له، في المقابل نجد حب رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لسلمان الفارسي حتى أنّه نهى أن يقال له سلمان الفارسي بل أمر أن يقال سلمان المحمدي، حتى أنّه قال فيه: «سلمان منا أهل البيت ».

ص: 343


1- الطبقات للواقدي: ج 2 ص 31 .

يقول الشاعر:

كانت مودة سلمان له رحماً ***ولم يكن بين نوح وابنه رحم

ومما يؤكد على الدور الرئيسي لحمزة في إعلاء كلمة الحق ومحو الشرك والإلحاد، ما فعلته هند وفعله أبو سفيان بجثته الطاهرة وإهانة أبي سفيان تجاه قبره الشريف أيام خلافة عثمان ومحاولة معاوية على محو أثر قبره بعد مرور أربعين سنة من معركة أحد (1).

حرم حمزة (علیه السلام) على مرّ التاريخ:

حمزة ، بطل الإسلام العظيم وعم رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، مرّ قبره الشريف وحرمه المطهر بمراحل عديدة عبر التاريخ منذ استشهاده في السنة الثالثة للهجرة إلى سنة 1344 حيث هدم الوهابيون حرمه وقبته، فعلينا أن نتأمل الحوادث التي جرت عليه لما لها من فوائد فقهية ودينية من جهة وتاريخية من جهة أخرى، وسنشير في هذا الفصل إلى مواضيع في هذا الصدد مرتبة حسب توقيتها التاريخي:

رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وقبر حمزة (علیه السلام):

يروي المحدثون والمؤرخون أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان يزور قبور الشهداء كل

عام ويخاطبهم قائلاً: «السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار »(2).

ويروى أيضاً أن أبا بكر وعمر وعثمان كانوا يزورون قبر حمزة (علیه السلام) وشهداء أحد، كما أنّ معاوية زار شهداء أحد في حجته .

ص: 344


1- سنشير إلى هذين الأمرين في هذا الفصل .
2- ابن شبة تاريخ المدينة : ج 1 ص 132، السمهودي، وفاء الوفا: ج 3 ص 932، ابن أبي الحديد ،شرح نهج البلاغة : ج 15 ص 40 ، ابن كثير، التاريخ: ج 4 ص 45 .

وجاء أيضاً أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إذا شاهد القبور عن بعد نادى بصوت مرتفع :« السلام عليكم بما صبرتم ...».

من وصايا الإمام الصادق (علیه السلام) :

أوصى الإمام الصادق (علیه السلام) معاوية بن عمار بزيارة المساجد والمشاهد في المدينة المنورة وقال: لا تدع إتيان المشاهد ... وقبور الشهداء وبلغنا أنّ النبي كان إذا أتى قبور الشهداء قال: «السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار»(1).

فاطمة الزهراء (علیها السلام) تزور حمزة (علیه السلام):

يروي الكليني (رحمه الله ) عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّه قال: «عاشت فاطمة (علیها السلام)بعد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) خمسة وسبعين يوماً ولم تُرَ كاشرةً ولا ضاحكةً، تأتي قبور الشهداء في كل جمعة مرتين الإثنين والخميس فتقول: هاهنا كان رسول الله وهاهنا كان المشركون».

وقد ذكرت كتب الشيعة والسنة كثيراً عن زيارة الزهراء (علیها السلام) قبر حمزة (علیه السلام)، ومما رووا أنّ فاطمة (علیها السلام) كانت تزور قبور الشهداء بين اليومين والثلاثة وتدعو وتبكي حتى ماتت »(2).

ص: 345


1- الكليني، الكافي: ج 4 ص 561 .
2- الكليني، الكافي: ج 4 ص ،561 ، الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة ج 2 ص 879 الواقدي نقلاً عن ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج 15 ص 40، السمهودي، وفاء الوفا: ج 3 ص 932، المجلسي، بحار الأنوار: ج 36 ص 353 ، وج 43 ص 90 و ج 79 ص 169، وج 99 ص30 ،الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 114 .

زيارة حمزة (علیه السلام) من المستحبات المؤكدة :

بناءً على سيرة النبي(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والمعصومين (علیهم السلام) ، تعتبر زيارة قبر حمزة وسائر شهداء أحد سنّةً مستحبّةً بل عملاً مستحباً ومؤكداً للمسلمين، وقد اتفق فقهاء الشيعة وأهل السنة على ذلك واعتبروا أفضل يوم لزيارته الإثنين والخميس . (1)

أبو سفيان وقبر حمزة (علیه السلام)

يقول ابن أبي الحديد :مرّ أبو سفيان بقبر حمزة في أيام خلافة عثمان، فلمّا شاهد القبر ضربه برجله وخاطب حمزة قائلاً: «يا أبا عمارة إنّ الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمسى في يد غلماننا اليوم يتلعبون به» (2).

وأظهر أبو سفيان بذلك كفره ونفاقه وعداءه للإسلام ولسيد الشهداء مرةً أخرى .

كرامة شهداء أحد وفشل سياسة معاوية:

في سنة تسع وأربعين للهجرة أي بعد مضي ست وأربعين سنة على غزوة أحد، عندما كان معاوية بن أبي سفيان يحكم البلاد ولا ينازعه فيه أحد، أصدر أوامره بحفر قناة يجري فيها الماء إلى جانب قبور الشهداء أو وسط القبور، فلما تم الحفر نادى المنادي بالمدينة أنّ من لهم شهداء في أحد عليهم أن ينبشوا القبور ويستخرجوا أجساد الشهداء فيدفنونهم في مكان آخر حتى لا يجري الماء على أجسادهم ويدمر قبورهم ؛ وبناءً على هذه الأوامر بدأوا ينبشون قبور الشهداء، ومنها قبر حمزة (علیه السلام) وعمرو بن الجموح وعبد الله أبي جابر فتعجب عمال معاوية عندما شاهدوا أنّ تلك الأجساد باقية على طراوتها وكأنّهم قد دفنوا قبل يوم

ص: 346


1- العلامة الأميني، الغدير: ج 5 ص 160 .
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة : ج 16 ص 136 .

حتى ملابسهم والأعشاب التي تسترهم كانت على ما هي عليه دون أدنى تغيير فيها، بحيث أصاب مسحاة أحد العمال رجل حمزة فنزف منها الدم، ولما رفعوا يد أحد الشهداء من جبهته نزف الدم منها أيضاً، فلما شاهد عمال معاوية هذه الكرامة من الشهداء أعادوا القبور إلى ما كانت عليه وانصرفوا .

كان هذا ملخص ما نقلته كتب التاريخ ورواه مؤرخو المدينة بالتفصيل حيناً وبالإختصار حيناً آخر .

أحد رواة هذه القضية هو جابر بن عبد الله الأنصاري الصحابي الشهير، وكان أبوه عبد الله من شهداء أحد، يقول جابر: «استصرخنا على قتلانا يوم أحد يوم حفر معاوية العين فوجدناهم رطاباً يتثنّون فأصاب المسحاة رجل حمزة فطار منها الدم ». وجاء في بعض الروايات: «كأنّهم نُوَّم ».

وقيل في عبد الله أو عمرو بن الجموح وكانا مدفونين في قبر واحد: «فأميطت يده عن جرحه فانبعث الدم فردّت إلى مكانها فسكن الدّم »(1).

ص: 347


1- ابن شبة، تاريخ المدينة : ج 1 ص 133 ،الطبري، التاريخ: ج 2 ص 319 ابن كثير، التاريخ: ج 4 ص 43، الديار بكري، تاريخ الخميس: ج 1 ص 443، ابن النجار، اخبار مدينة الرسول: ص57، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة : ج 14 ص 264 ، السبكي، شفاء السقام: ص 162، ابن الأثير، أسد الغابة : ج 2 ص 55 السمهودي وفاء الوفا: ج 3 ص 938 .

الصورة

قبور شهداء أحد (رضی الله عنهم) في مقبرة البقيع

ما كان هدف معاوية من فعلته تلك ؟

ذكرنا أنّ معاوية أمر بحفر قناة إلى جانب قبور الشهداء أو في ما بينها، وكان معاوية يستهدف بذلك أن ينقل أجساد الشهداء إلى أماكن مختلفة فتنمحي آثارهم وقبورهم ليحلّ مشكلة سياسية اجتماعية كانت تنغص عليه حياته، إذ أنّ معاوية قد نشر أباطيل كثيرة في بلاد المسلمين لصالحه وضد أهل البيت (علیهم السلام) وخصوصاً ضد أمير المؤمنين علي (علیه السلام) ، إلّا أنّ حضور آلاف الزوار سنوياً إلى جانب قبر حمزة وقبور شهداء أحد كان يذكرهم بغزوة أحد وجرائم أبي سفيان وهند ومعاوية بنفسه في قتل هؤلاء الشهداء ثم التمثيل بأجسادهم وشق صدر حمزة وقضم كبده ، وبصورة عامة رفع راية الشرك ضد الإسلام والقرآن على أيدي أسرة معاوية.

فكان حضور الناس عند قبور شهداء أحد تذكاراً لتلك الجرائم النكرة وما كان يتحمل معاوية ذلك فقرّر على حدّ زعمه أن يفرق ما تبقى من العظام البائدة

ص: 348

لهؤلاء الشهداء بعد مرور أكثر من أربعين عام على استشهادهم، فيسلمها بأيدي أهاليهم لينقلوها إلى أماكن شتى فتنمحي الآثار وينسى المسلمون شيئاً فشيئاً نتائج غزوة أحد ومعالمها .

إذن فلهذه الغاية أمر معاوية بحفر القناة عند قبور الشهداء وقد استمرت خطته ناجحة حتى نبش القبور، إلّا أنّ كرامة الشهداء وبقاء أجسادهم دون أن تبلى أفشلت مكيدته واضطرّ إلى إعادة الأجساد إلى أماكنها حتى لا ينفضح أمره .

فاطمة الزهراء (علیها السلام) أول من أصلح قبر حمزة :

كان قبر حمزة - كما سنذكر - منذ القرن الثاني للهجرة تحت سقف وكان له مبنى، وقد روى المحدثون والمؤرخون عن الإمام الباقر (علیه السلام) أنّ فاطمة الزهراء (علیها السلام) كانت أول من أصلحت هذا القبر بعد مرور عدة سنوات خوفاً عليه من الإندثار، وقد روت كتب أهل السنة هذا الخبر أكثر من الشيعة . ونص الرواية كالتالي:

«حدثنا محمد بن بكار قال حدثنا حبان بن علي عن سعد بن طريف عن أبي جعفر (علیه السلام) أنّ فاطمة بنت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ما كانت تزور قبر حمزة (علیه السلام) ترُمُّهُ وتُصلحه وقد تعلّمته بحجر »(1).

حرم حمزة (علیه السلام) في القرن الثاني :

يروي السمهودي عن عبد العزيز( أقدم مؤرخ للمدينة ) أنّه قال: «إنّه كان على قبر حمزة قديماً مسجدٌ» . يقول السمهودي: «وذلك في المائة الثانية»(2).

ص: 349


1- ابن شبة تاريخ المدينة : ج 1 ص 132 ابن سعد، الطبقات ج 3 ق 1 ص11، السمهودي، وفاء الوفا: ج 3 ص 932 .
2- السمهودي، وفاء الوفا: ج 3 ص 922 . ( في القرون الأولى من الإسلام كانوا يطلقون اسم المسجد علی الأبنية التي تقام على القبور وهذا الإسم مقتبس من الآية الكريمة: « قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا»، اما مصطلحات الحرم والمزار والمشهد فقد ظهرت بعد ذلك).

بناءً على قول مؤرخي المدينة هذين كان قبر حمزة داخل حرم وكان عليه سقف منذ القرن الثاني، ولو أنّنا لا نعلم بانيه ولا تاريخ بنائه بدقة وسنلاحظ أنّ النقوش الموجودة عند قبور شهداء أحد كانت تدل على أنّ تلك القبور كان لها مبنى سنة 275 .

حرم حمزة (علیه السلام) في القرن السادس :

زار ابن جبير الرحالة الشهير (المتوفى سنة 614 ) الحرمين الشريفين سنة خمسمائة وتسع وسبعين يقول ابن جبير :«وعلى قبره مسجد مبنيّ والقبر برَحْبته جوفيّ المسجد»(1).

إحداث مبنى شامخ في القرن السابع :

يقول ابن النجار مؤرخ المدينة في القرن السابع (المتوفى سنة 643) والذي كتب كتابه بعد حوالي أربع وستين سنةً من زيارة ابن جبير لحرم حمزة، يقول: « في سنة خمسمائة وتسع وتسعين بَنَت أُمّ الخليفة العباسي الناصر لدين الله (2) حرماً ضخماً لحمزة، وجعلت على قبره ضریحاً مزركشاً من الخشب السّاج، وحوّطت حرمه بسور وجعلت للحرم باباً يُفتح على الزوار كل خميس»(3).

ص: 350


1- ابن جبير، الرحلة :ص 44 .
2- الناصر لدين الله الخليفة العباسي الرابع والثلاثين، ولد سنة 553 ه- وتوفي سنة 622 ه- وامتدت خلافته سبعة وأربعون سنة. قيل إنّه كان يتميل إلى التشيّع. عمّر حرم أئمة البقيع (علیهم السلام) وحرم العباس عمّ النبي(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) . كان اسم أمّه «زمرد » . السيوطي: تاريخ الخلفاء، ص 448، القمي: تتمة . . المنتهى .
3- ابن النجار، أخبار مدينة الرسول: ص 58 .

حرم حمزة في القرن العاشر

وقد شاهد السمهودي (المتوفى سنة 911 ) حرم حمزة بنفس الهيئة التي وصفها ابن النجار قبل ثلاثة قرون منه، يقول السمهودي: « وعليه قبة عالية حسنة متقنة وبابه مصفّح كله بالحديد، بنته أم الخليفة الناصر لدين الله كما قاله ابن النجار وذلك في سنة تسعين وخمسمائة، قال: وجعلت على القبر ملبناً من ساج وحوله حصباء وباب المشهد من حديد يفتح كل يوم خميس ... »(1).

يلاحظ إذن أنّ بناء حرم حمزة في القرن العاشر كان على النحو الذي وصفه ابن النجار أواسط القرن السابع بكيفية بنائه وإتقانه وبابه الحديدي والسور المحيط به (2).

يروي السمهودي بقية كلام ابن النجار في ضريح حمزة ويقول:

«... ووصفه القبر بأنّ عليه ملبن خشب، يعني أنّه كهيئة قبر سيدنا إبراهيم فإنّه عبّر فيه بذلك أيضاً، وقبر سيدنا إبراهيم على ذلك الوصف اليوم، وكذلك الحسن والعباس .

وأما قبر حمزة فإنّه مبنى مجصص بالقَصَّة لا خشب عليه ...» .

ويضيف السمهودي: «... كان على قبر حمزة قديماً مسجد وذلك في المائة الثانية، فكأنّ أمّ الخليفة وسّعته وجعلته على هذه الهيئة الموجودة اليوم»(3).

حرم حمزة في القرن الثالث عشر أي قبل هدمه بتسع وثمانين سنة :

يقول السيد إسماعيل المرندي والذي زار قبر حمزة والمدينة سنة ألف

ص: 351


1- السمهودي، وفاء الوفا: ج 3 ص 921 .
2- جاء في تاريخ ابن النجار: «وجعل حوله حصاراً » وفي وفاء الوفا: «وجعل حوله حصباء » والظاهر أنّ الأول صحيح والثاني غلط مطبعيٌّ .
3- السمهودي، وفاء الوفا: ج 4 ص 922 - 923 .

ومائتين وخمس وخمسين أي بعد السمهودي بثلاث قرون ونصف قرن، يقول: «يقع قبر حمزة عم رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هناك (أحد) ، وله قبة وصحن، كما له ضريح خشبي، ويوجد ستار على القبر المطهر »(1).

يبدو من كلام المرندي أنّه لم تحدث تغييرات أساسية في حرم حمزة طوال مدة ثلاث قرون ونصف قرن، ومن هذه التغييرات الضئيلة وضع ضريح خشبي بدل الضريح الآجري .

حرم حمزة في سنة 1325 :

يبدو من توصيف إبراهيم رفعت باشا المصري الذي زار حرم حمزة قبل هدمه بتسعة عشر عاماً أنّ مبنى الحرم كان كما وصفه السابقون وهو نفس المبنى الذي بني في القرن السادس.

ولكن ومع ذلك يبدو من كلامه أنّه قد تمّ توسيع الحرم شيئاً ما وأضيفت بعض الزخارف في داخله ، الشيء الذي لم يكن موجوداً من قبل أو لم يذكر المؤرخون السابقون شيئاً عنه، وتوجد في كلامه نقاط هامة يلزم أن نشير إليها . يقول ابراهيم رفعت باشا في حرم حمزة وضريحه :

«مسجد سيّدنا حمزة بن عبد المطلب عم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وشهيد أحد ؛ هو مسجد محكم البناء خال من الزخارف ،به قبة فوق مقصورة حمزة التي أسدل عليها ستر مقصب، هو في الأصل من ستارة باب الكعبة التي تصنعها مصر وقد كتب في هذا الستر من إحدى نواحيه: بسم الله الرحمن الرحيم «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا» ومن ناحية أخرى: بسم الله الرحمن الرحيم «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ

ص: 352


1- توصيف المدينة، نقلاً عن مجلة «ميقات الحج » الفصلية، العدد :5 ص 119 .

وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا » (1).

ثم يأتي بصورة من داخل الحرم تبين وجود شبكة حديدية كبيرة تقريباً على القبر الشريف.

ويبدو هو في الصورة جالساً مع أشخاص آخرين عند الضريح، ويعرّف هؤلاء الأشخاص فيقول إنّ الشخص الأول من اليمين هو متولّي الحرم .

توسيع رقعة الحرم :

يقول إبراهيم رفعت باشا: ممّن بنى مسجد حمزة أمّ الخليفة الناصر العباسي في سنة 590 ه- وزاد فيه الأشرف قايتباي (2)زيادة من جهته الغربية وكان من ضمنها بئر في غربي المسجد وأقام بيوت خلاء وحفر بئراً هناك يرتفق بها المارّة واتخذ لها درجاً وذلك كله في سنة 893 ه- على يد شاهين الجمالي »(3).

مصرع حمزة (علیه السلام) :

يذكر إبراهيم رفعت باشا أنّ أكثر الكتب التاريخية تخبر أنّ حمزة قد استشهد بجنب «جبل الرماة » ، ثم نقل رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) جثمانه إلى المكان المسطح الموجود فيه الآن ودفنه هناك، ثم يشرح إبراهيم رفعت «مصرع » حمزة ( مكان استشهاده ) قائلاً: في مبنى «المصرع » ضريح كتب على جوانبه خمسة أبيات من

ص: 353


1- مرآة الحرمين: ج 1، ص390.
2- الملك الأشرف قايتباي من ملوك الدولة الجركسية وقد تولى الحكم سنة 872 وتوفي سنة 901، وقد مدحوه بالتجليل والتعظيم، إذ كان مقداماً على أعمال الخير وبناء المدارس وأسوار المدن وخصوصاً في مكة والمدينة كما نسبت إليه عدة كتب، وكما أنّ القبة الخضراء لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من أعماله . أنظر : حشمت سامي، قاموس الأعلام - قاموس دهخدا.
3- مرآة الحرمين: ج 1، ص 292 .

الشعر مطلعها:

أعظم بمشهد ليث الله حمزة مَن *** بيوم أُحد لخير الخلق قد نصرا

ثم يروي قصيدةً أخرى مكتوبةً في لوح وموضوعة داخل مبنى المصرع ومنها (1):

مسجد حاز كل فخر وسؤدد ***وبدا نوره إلى العرش يصعد

مسجد منه روح خیر شهید ***رجعت بالرضا بفوز مؤبد

يقول إبراهيم رفعت :يوجد لوح آخر فوق ضريح المصرع كتب فيه هذان البيتان:

قف على أبوابنا في كل ضيق*** واطلب الحاجات وابشر بالمنی

فحمانا ملجأ للطالبين ***وبنا تجلى الكروب والعنا(2)

ثم يعرض صورة من جوانب حرم حمزة، ويشير فيها إلى بيت واقع خلف النخيل ويقول هنا يسكن خادم مصرع حمزة (علیه السلام)(3).

صهريجان داخل الصحن :

يشير إبراهيم رفعت في نفس الصورة إلى مسجد يقع خلف حرم حمزة ويقول: «المسجد على المسيرة وأمامه صهريجان (4) متقنا البناء لهما بابان من الحديد يملان من مياه الغدير الذي يبعد عن المدينة بنحو أربع ساعات ويصل الماء من الغدير إليهما في قناة مبنيّة تشبه مجرى عين زبيدة والذي بناهما «علي بك » كبير حجبة السلطان عبد الحميد »(5).

ص: 354


1- هذه القصيدة لها ثلاثة عشر بيتاً، وتبين أنّ تاريخ بناء المبنى هو 265 ، وباسم بانيه «سليم بك ».
2- مرآة الحرمين: ج 1، ص 390 - 392 .
3- نفس المصدر: ج 1، ص390.
4- الصهريج :حوض كبير يجتمع فيه الماء .
5- المصدر السابق .

قبة مصرع حمزة (علیه السلام) في كتاب بورتون:

يقول ريتشارد بورتون الرحالة الأنجليزي الذي زار أُحد سنة 1853 أي قبل حوالي مائة وخمسين سنة، يقول: «توجد قبة ومبنى شامخ في المكان الذي قتل فيه حمزة »(1).

التبرك بتراب قبر حمزة (علیه السلام):

يظهر من كلام السمهودي، مؤرخ المدينة الشهير، أنّ المسلمين كانوا يأخذون التراب المحيط بقبر حمزة تبركاً واستشفاء، ويحملونه إلى أوطانهم باعتباره هدية من المدينة المنورة وكانوا يوزعونه بين أقاربهم وأصحابهم، وقد اختلف فقهاء أهل السنة في جواز نقل تراب الحرم المدني فقال بعضهم بعدم جوازه مثل تراب الحرم المكي، ورغم ذلك فإنّ هؤلاء العلماء قد استثنوا تربة حمزة (علیه السلام) فاعتبروا حملها جائزاً بناءً على السيرة العملية عند المسلمين .

يقول السمهودي في ذلك: «وأن الزركشي (2) استثنى تربة حمزة (رضی الله عنه) لإطباق الناس على نقلها للتداوي بها من الصداع»(3).

يضيف السمهودي:« سأل أحمد بن يكوت عن تراب المقابر الذي كان الناس يحملونه للتبرك، هل يجوز ذلك؟

فقال: هو جائز ، وما زال الناس يتبركون بقبور العلماء والشهداء والصالحين وكان الناس يحملون تراب قبر سيدنا حمزة بن عبد المطلب في القديم من الزمان »(4).

ص: 355


1- موسوعة العتبات المقدسة : ج 3 ص 288 .
2- أبو عبد الله بدر الدين الزركشي المصري المنهاجي (المتوفى سنة 794) مؤلف كتاب «سلاسل الذهب » في علم الأصول وكتاب «زهر العريش في أحكام الحشيش » وغيرهما من الكتب .
3- السمهودي، وفاء الوفا: ج 1 ص 116 .
4- نفس المصدر .

يقول السمهودي أيضاً: «قال ابن فرحون عقبة : والناس اليوم يأخذون من تربة قريبة من مشهد سيدنا حمزة، ويعملون منها خرزاً يشبه السبح واستدل ابن فرحون بذلك على جواز نقل تراب المدينة، وقد علمت مما تقدم أنّ نقل تربة حمزة (علیه السلام) إنما هو للتداوي، ولهذا لا يأخذونها من نفس القبر، بل من المسيل الذي عنده المسجد »(1).

نستنتج إذن أنّ حمل تربة حمزة والاستشفاء بها كان مألوفاً بين المسلمين منذ القرون الأولى، بحيث أنّ علماء القرنين السادس والسابع اعتبروا عملهم من سيرة المسلمين في صدر الإسلام واستدلوا بها للإفتاء بجواز حمل هذه التربة .

في القرون الأخيرة

وقد استمرت سيرة المسلمين هذه في تربة حمزة والتبرك بها إلى أن سيطر السعوديون على الحكم وصار الأمر بيد الوهابيين . فنجد أنّ الرحالة الغربي «دونالدسون» قد زار المدينة قبل هدم آثارها بسنوات، وكتب مشاهداته في كتاب أسماه: «عقيدة الشيعة »، وذكر فيه أُحُد وحرم حمزة ثم قال: «وتحيط بقبور الشهداء تربة حمراء تنسب إلى حمزة (علیه السلام) ويتبرك الناس بها»(2).

الزيارة الرجبية عند حرم حمزة (علیه السلام) :

يقول إبراهيم رفعت:« ويقيمون مولداً لسيدنا حمزة عند مشهده كل سنة من أوّل رجب إلى منتصفه بحضرة أهل المدينة رجالاً ونساء، وأهل مكة والطائف وجدّة ورابغ وسكان البوادي الذين يزورون المدينة كل عام في رجب، ويحضر

ص: 356


1- نفس المصدر: ص 116 - 117 .
2- موسوعة العتبات المقدسة : ج 3 ص 219 .

أرباب الطرق وتذبح هنالك الذبائح ويطعم الطعام »(1).

کلام بوخارت:

زار بوخارت المسيحي سنة 1915 ميلادية الحجاز متلبساً بزي المسلمين وكان آنذاك أوائل حكم السعوديين على الحجاز .

كتب بوخارت كثيراً عن مشاهداته هناك، وله في كتابه بعض الاستنتاجات الخاطئة أيضاً.

ويشير إلى الزيارة الرجبية المذكورة قائلاً: «إنّ سكّان المدينة قد اعتادوا على الخروج مرّةً واحدة في السنة إلى جبل أحد خلال شهر تموز، وهناك يبقون ثلاثة أيام متتالية، يسرحون ويمرحون كأنّهم في عيد »(2).

ولكن عرفنا أنّ الهدف من هذا الاجتماع في رجب هو العبادة والزيارة لا السياحة والاحتفال كما ظنّه الرحالة الغربي بوخارت .

الخيام التي كانت تقام في هذه الزيارة :

حجّ لبيب بتنوني المصري قبل هدم آثار المدينة وعرض في مذكرات رحلته صورة من حرم حمزة وحوله خيام كثيرة وكتب تحت الصورة: «مسجد سيدنا حمزة وحوله زوّار المدينة »(3).

معتقد الوهابيين وعملهم :

ذكرنا جميع الحوادث التي جرت على مبنى حرم حمزة (علیه السلام) منذ القرن الأول

ص: 357


1- مرآة الحرمين: ج 1 ص 441 .
2- موسوعة العتبات المقدسة : ج 3 ص 255 .
3- رحلة بتنوني: ص 345 .

إلى القرن الرابع عشر الهجري وأشرنا إلى زيارة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قبر سيد الشهداء حمزة (علیه السلام) وكذلك زيارة المسلمين له تأسياً برسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

ولكن بعد ظهور الوهابيين وتسلط آل سعود على الحجاز هدم حرم حمزة كما هدم سائر المراقد لكبار رجال الإسلام وقام الوهابيون بمنع الزيارة وبث أفكارهم الضالة لزلزلة عقائد المسلمين وتحكيم آرائهم المستحدثة وكان مما منعوه هذه الزيارة الرجبية عند حرم حمزة .

ومن المؤسف أنّ الكتّاب والمؤلفين في الحجاز يفتخرون اليوم بأعمال هؤلاء المتشددين ويرونه من أكبر مناقبهم مع ما فيه من البعد عن سيرة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) تجاه الأجيال الإسلامية القادمة كما يتّهمون غيرهم من المسلمين بالشرك وعبادة الأصنام.

فمثلاً يشير الكاتب والمؤرخ المعاصر «أحمد السباعي المكي» إلى مثل هذه التجمعات والأدعية والزيارات التي تقرأ فيها، فيقول: ظهرت هذه البدع منذ عهد الفاطميين وذلك لحبهم وتشيعهم لأهل البيت واستمرت تلك البدع طوال التاريخ إلى أن دخل السعوديون مكة سنة 1343 فأبطلوا تلك الأعمال وألغوا هذه التجمعات(1).

وقد أصروا على عقائدهم حتى رأو أنّ السفر إلى المدينة إذا كان بقصد زيارة قبر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عملاً محرماً وعليه إثم كبير لا يغتفر .

ص: 358


1- أحمد السباعي، تاريخ مكة، الطبعة السادسة: ج 1 ص 216.

خارطة مقبرة البقيع

الصورة

ص: 359

ص: 360

فهرس المواضيع

الموضوع ......................الصفحة

مقدمة المترجم ...5

مقدمة المؤلف ...9

كيفية التأليف ...9

تمهيد [15]

الداعي من بناء العتبات المقدسة :...15

الهدف من هدم المراقد ...18

المعرفة الخاطئة للدين ...18

اهتمام الخوارج بالعبادة وتلاوة القرآن ...21

ابتعاد الخوارج من الإسلام ...22

تكفير المسلمين ...22

من أحمد بن تيمية إلى محمد بن عبد الوهاب ...23

ابن تيمية يتجرأ على الأعلام ...25

ابن تيمية لم يتزوج ...26

محمد بن عبد الوهاب مؤسس الوهابية ...27

عوامل نجاح محمد بن عبد الوهاب ...29

مجازر الوهابيين في الطائف ...31

هجوم الوهابيين على العتبات المقدسة ...31

ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب كما يراهما أبو زهرة ...33

نظرةً إلى عقائد الوهابيين وآرائهم ...34

العقيدة بتجسيم الله والإشارة إليه ...34

ص: 361

الدواعي ابن تيمية في تبنيه فكرة التجسم ...35

الجمود على ظواهر الألفاظ ...37

الاعتقاد برؤية الله ...39

إثبات سائر أعضاء الجسم لله تعالى ...40

التوحيد من وجهة نظر الوهابيين ...41

فتاوى الوهابيين الفقهية ...42

حرمة زيارة قبور الأنبياء ...42

فتاوى الوهابيين في رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) و غيره ...43

تخریب المشاهد والقبور ...44

مضاعفات الحادث ...46

الفصل الأول [49]

تاريخ حرم أئمة البقيع (علیهم السلام)

المرحلة الأولى من تاريخ حرم أئمة البقيع (علیهم السلام)...51

كلمة (البقيع) في اللغة ...51

كيفية إحداث مقبرة البقيع ...52

فضيلة البقيع ...53

نبذة عن تاريخ حرم الأئمة في البقيع ...54

1 - المقابر العائلية في البقيع ...55

2 - البقيع خلف بيوت المدينة :...57

بيت عقيل أو المقبرة العائلية ...59

بيان مسألة تاريخية ...59

قبر عم الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وفاطمة بنت أسد في بيت عقيل...60

قبر الإمام المجتبی(علیه السلام) في بيت عقيل ...61

ص: 362

قبور ثلاثة من أئمة أهل البيت إلى جنب قبر الإمام المجتبى (علیهم السلام)...61

ولماذا في البيت ؟...63

محل دعاء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في بيت عقيل ...64

استحباب الدعاء واستجابته في هذا الموضع ...65

جواب السمهودي وتبريره ...65

نقد الموضوع وتحليله ...66

تنبؤات الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وإخباره عن الحوادث الآتية !؟ ...67

1 - الحرب والقتال في أحجار الزيت ...69

2 - المعركة الدموية في صحراء الفخ ...70

ومن الملاحم حضور الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عند بيت عقیل ...70

هل تحدث الرسول عن مستقبل بيت عقيل ؟...73

1 - وصية سعد بن أبي وقاص ...74

2 - دفن أبي سفيان خارج بيت عقيل ...75

المرحلة الثانية من تاريخ حرم أئمة البقيع...77

بيان هذه القرينة التاريخية ...79

تسييس القبور في عهد الأمويين ...79

صدّ بني العباس لسياسة الأمويين ...80

أما الجانب الديني لهذا التغيير ...81

دفن الجثمان الطاهر للإمام الصادق (علیه السلام) داخل الحرم ...83

المرحلة الثالثة من تاريخ حرم أئمة البقيع ...85

تاريخ بناء قبة أئمة البقيع ...87

كيفية القبة والحرم المطهر لأئمة البقيع ...87

ترميمات وخصائص حرم أئمة البقيع...89

خصائص الحرم الشريف ...93

ص: 363

1 - كان حرم البقيع ثماني الأضلاع ...93

2 - أبواب حرم البقيع ...94

3 - محراب حرم البقيع ...94

4 - كان للحرم مجموعة من الخدم ...95

5- زخرفة حرم البقيع ...97

6- حرم البقيع لا صحن له ...98

تاريخ أضرحة الأئمة في البقيع ...98

الصندوق القديم ...99

نلفت النظر إلى نقطتين ...100

أما الضريح الثاني ...101

الضريح الثالث ...102

كيفية القبر والضريح المنسوب إلى فاطمة (علیها السلام)...104

وإليك أقوال الكتاب ...105

البقية الباقية من حرم البقيع ...106

مشاهدات أحد الرحالين لهدم البقيع...107

قبر فاطمة الزهراء (علیها السلام) أو فاطمة بنت أسد...109

أين دفنت الزهراء (علیها السلام) ؟ ...110

سبب الإخفاء ...110

مدفن الزهراء (علیها السلام) كما في الروايات ...112

مدفن الزهراء (علیها السلام) حسب رأي علماء الشيعة ...116

1- رأي الشيخ الصدوق وكيفية زيارته ...116

2- رأي الشيخ المفيد (رحمه الله ) ...117

3- رأي الشيخ الطوسی(رحمه الله ) ...117

4- رأي الشيخ الطبرسي ...117

ص: 364

1- رأي السيد ابن طاووس (رحمه الله ) ...118

6- رأي العلامة المجلسي (رحمه الله ) وكلامه في الروضة ...118

القرائن الأخرى ...119

1- الاعتبار العقلي ...119

قبر الزهراء حسب آراء علماء السنّة ...120

1- في بيتها بيتها ...120

2- في البقيع ...121

3- داخل حرم أئمة البقيع ...121

دليل هذا الرأي ...122

الرد على هذا الرأي ...122

قبر فاطمة بنت أسد في بيت ابنها عقيل ...124

التمويه السياسي ...126

أما عن عن القبر نفسه ...126

وأما مدفن فاطمة بنت أسد ...128

خلاصة الكلام ...129

هل دفنت فاطمة الزهراء (علیها السلام) في الروضة ...129

الروضة المطهرة وفضيلتها ...130

حدود الروضة...132

نظرة إلى النصوص ...133

الوجه الأول ...134

الوجه الثاني ...134

الوجه الثالث ...135

رأي الشيعة في حدود الروضة ...136

هل أنّ قبر فاطمة (علیها السلام) داخل الروضة ؟ ...138

ص: 365

ما الدليل على دفنها في الروضة ؟ ...140

الروضة والبيت شيءٌ واحد ...141

سبب فضيلة الروضة وأفضلية بيت فاطمة (علیها السلام)...142

مناقشة رواية مطعونة ...145

المنزل الثاني لأمير المؤمنين (علیه السلام) وتاريخ هدم بيت فاطمة (علیها السلام)...148

وضع السياج حول المرقد الشريف وحجرة فاطمة (علیها السلام)...152

المحراب والضريح في بيت فاطمة (علیها السلام)...154

ثاني بيت الأمير المؤمنين (علیه السلام)...155

ما جرى في هذا البيت من قضايا ...157

الرد على الشبهات ...161

شبهة ابن روزبهان والرد عليها ...161

الفصل الثاني [163]

بيت الأحزان

بيت الأحزان حقيقة لا تُنسى ...165

بيت الأحزان في كتب الحديث ...166

رأي العلماء والمؤرخين في بيت الأحزان ...166

1-ابن شبة النميري ( 173 – 262)...167

تفسیر متناقض ...168

2- فتوى الإمام الغزالي على استحباب إقامة الصلاة في بيت الأحزان ...168

3- ابن جبير الرحالة والعالم الشهير ( 540 - 614 ) ...169

4 - السمهودي ( 844 - 911) ...169

5 - سر رتیشارد بورتون [ SIR RECHARD BURTON] 1853 الموافق 1276ه- ...170

6 - فرهاد میرزا ( 1292ه- ) ...171

ص: 366

بيت الأحزان على شرف الهدم ...172

1- إبراهيم رفعت باشا...172

2 - الحاج السيد أحمد الهدايتي ...172

3- السيد شرف الدين (قُدِّسَ سِرُّهُ) ( 1290 - 1377 )...173

الفصل الثالث [177]

حرم إبراهيم ابن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وعثمان بن مظعون

حرم إبراهيم ...179

كيفية حرم إبراهيم وضريحه ...179

سائر المدفونين في حرم إبراهيم ...182

1- مارية أم إبراهيم ...182

2- عبد الرحمن بن عوف ...182

3- أسعد بن زرارة وغيره ...183

تاريخ بناء هذه البقعة ...184

ضريح إبراهيم ...184

سنة رسول الله(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في تدفين ابن مظعون وإبراهيم ...185

عثمان بن مظعون في مكة ...186

ابن مظعون يرفض اللجوء إلى المشركين ...186

عثمان بن مظعون في المدينة ...187

بكاء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لموت عثمان بن مظعون ...188

رسول الله يقبّل جبين ابن مظعون ...188

نماذج من أقوال وأفعال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في هذا المجال ...189

وضع الحجر على قبر ابن مظعون ...189

ص: 367

مصير حجر القبر هذا ...190

إبراهيم من الولادة إلى الوفاة ...191

ولادته ...192

نقل مارية إلى خارج المدينة ...192

حب الرسول(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لإبراهيم ...194

بكاء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ومارية عند فراش إبراهيم ...194

نقل جثمان إبراهيم ...195

غسل إبراهيم ...196

بكاء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عند تكفين إبراهيم ...197

تشييع جنازة إبراهيم ...197

صلاة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على إبراهيم ...197

كيفية الدفن ...198

بكاء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والمسلمين عند القبر ...199

وضع الحجر ورش الماء على قبر إبراهيم ...199

الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يتصدى للخرافات الفكرية العقائدية ...200

مسألتان عاطفيتان واجتماعيتان في سنة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ...201

وإليك تتمة البحث ...203

البكاء حسب الفقه الشيعي ...204

البكاء في فقه أهل السنة ...206

الخلاف في الفعل ...206

الخليفة الثاني يمنع البكاء ...207

تأسى المسلمين برسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ...211

اشکال وجواب ...213

الجواب ...213

ص: 368

نظرة إلى كيفية بناء مسجد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وقبر الشريف ...215

وضع الحصى على أرض المسجد ...216

إنارة مسجد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) :...217

كيفية قبر رسول الله ...217

الفصل الرابع [219]

حرم نساء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبناته

حرم نساء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ...221

عدد المدفونات في هذا الحرم ...221

قول ابن شبة أقدم مؤرخي المدينة ...223

يعتمد رأي المتأخرين على الاشتهار العرفي ...223

وإليك نماذج من تلك الآراء ...224

حرم بنات النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ...225

تاريخ بناء الحرم ...227

ترجمة بنات رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ...228

نظرة سريعة عابرة على سائر بنات رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ...229

1- زينب ...229

زواج زينب ...229

اسارة أبي العاص وتحرير زينب ...230

هجوم المشركين على هودج زينب ...230

أبو العاص يدخل المدينة ليلاً ...232

إسلام أبي العاص ...233

تاريخ وفاة زينب وسبب وفاتها ...233

أبناء زينب ...233

2- رقية ...234

ص: 369

3- أم كلثوم ...235

قصة أسد الزرقاء ...235

وفاة أم كلثوم ...235

بنات رسول الله وربائبه ...236

الفصل الخامس [239]

مرقد عقيل بن أبي طالب (علیهما السلام)

بقعة عقيل بن أبي طالب وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ...241

رأي المؤرخين في مرقد عقيل وأبي سفيان بن الحارث ...241

قبر عقيل بعد هدم البقيع ...244

ترجمة أبي سفيان وعقيل ...245

قبر أبي سفيان ...246

من هو عبد الله بن جعفر ...246

سموّ شأن عبد الله ...246

روايته للحديث ...247

صحبته ...247

رأي المؤلف ...248

في المعارك ...248

أبو الشهداء ...248

دفاعاً عن الحق ...248

من هو عقيل ؟ ...250

الوجه الحقيقي لعقيل خلف محاق الضغائن ...251

السبب الأول ...251

السبب الثاني ...252

علو منزلة عقيل ...253

ص: 370

عقيل في حديث رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ...254

6- دفاع عقيل عن أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام)...260

كتاب شكر من صعصعة بن صوحان لعقيل ...261

عقيل بن أبي طالب أبو الشهداء ...261

الشهداء من ولد عقيل ...261

الشهداء من أحفاد عقيل ...262

الفصل السادس [265]

مرقد حليمة السعدية

مرقد حليمة السعدية مرضعة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ...267

قبر صفية عمة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ...268

قبر صفية كما رواه مؤرخوا المدينة ...269

قبر صفية كما رواه الزوار والرحالون ...270

خلاصة أقوال كتب التاريخ ...271

1- كان قبر صفية خارج البقيع سابقاً ...271

2- كان لقبر صفية قبة بعد القرن العاشر ...271

3-« بقيع العمة » لا « بقيع العمات »...272

-4- أين قبر أم البنين ؟ ...274

سؤال وجواب ...275

الفصل السابع [277]

مراقد أئمة أهل السنة في البقيع

مراقد أئمة أهل السنة في البقيع ...279

-1 مرقد عثمان بن عفان ...280

2 و 3 - مرقدي الإمام مالك ونافع ...281

أي نافع هذا ؟ ...283

ص: 371

الإمام مالك ...284

احترام مالك لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ...284

نقاش مالك مالك مع المنصور في التوسل برسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ...285

الفصل الثامن [287]

مرقد إسماعيل بن الإمام الصادق (علیه السلام)

مرقد إسماعيل ابن الإمام الصادق (علیه السلام)...289

مرقد إسماعيل كما رأيناه ...289

انتشار خبر عن اكتشاف جسد إسماعيل ...290

تأكيد آخر الخبر ...291

أين دفن إسماعيل ...291

كان لمرقد إسماعيل أقدم بناء وأكبره ...292

ترمیم حرم إسماعيل سنة خمسمائة وست وأربعين ...293

كبر مساحة هذا المرقد الشريف ...294

بيت الإمام السجاد (علیه السلام)...295

سبب اتساع رقعة حرم إسماعيل ...295

الشخصية الروحية لإسماعيل ...296

ظهور مذهب الإسماعيلية ...297

الفصل التاسع [299]

مرقد عبد الله (علیه السلام) والد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)

المرقد الشريف لعبد الله والد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ...301

دراسة قصيرة في أيمان والدی رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ...301

آراء علماء أهل السنة ...302

كتب أهل السنة في هذا الموضوع ...303

ص: 372

آراء علماء الشيعة ...303

دلائل علماء الشيعة ...304

الدليل القرآني ...304

الأدلة الروائية ...304

لماذا يتهم أجداد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؟...305

قصة حضور رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عند قبر أمه (علیها السلام) وتحريفها ...305

هذا الحديث يخالف مفهوم القرآن الكريم ...307

مسجد دار النابغة ، مدفن والد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ...308

خلاصة تاريخ دار النابغة ...308

دار النابغة مدفن عبد الله ...309

اهتمام رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بدار النابغة ...310

مسجد دار النابغة ...311

مبنى مرقد عبد الله وقصة وهدمه ...312

مرقد عبد الله قبل الهدم ...313

الفصل العاشر [315]

حرم حمزة (علیه السلام)

حمزة سيد الشهداء وحرمه الشريف ...317

نظرة سريعة إلى حياة حمزة (علیه السلام)...318

حمزة في القرآن ...319

حمزة في الحديث النبوي الشريف ...322

1- حمزة سيد جميع الشهداء عدا الأنبياء والأوصياء ...322

2 - حمزة من سادة أهل الجنة ...323

3 - حمزة أحب أعمام رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إليه ...323

4 - حمزة أحب الأسماء لدى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ...323

ص: 373

5 - حمزة أحد الراكبين الأربعة يوم القيامة ...323

حمزة في كلام الأئمة (علیهم السلام) : ...324

حمزة في أقوال أمير المؤمنين (علیه السلام)...324

2- حمزة في احتجاج أمير المؤمنين (علیه السلام) في الشورى ...324

حمزة في احتجاج الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) ...325

حمزة في احتجاج الحسين بن علي (علیهما السلام)...325

حمزة في احتجاج علي بن الحسين (علیهما السلام)...326

حمزة سيد الشهداء في غزوة بدر ...326

أهمية غروة بدر ...326

دور حمزة في النصر بغزوة بدر ...327

عدد قتلى المشركين ...328

بطلا غزوة بدر علي أمير المؤمنين وحمزة سيد الشهداء (علیهما السلام)...328

عدد قتلى حمزة سيد الشهداء :...329

تحليل ابن أبي الحديد عن كيفية انتصار المسلمين ...330

أحد زعماء المشركين يشهد بشجاعة حمزة (علیه السلام)...330

حمزة في غزوة أحد ...331

حمزة سيد الشهداء ...332

حمزة (علیه السلام) قبيل المعركة ...333

استشهاد حمزة ورؤيا رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ...333

الاستشهاد صائماً ...334

كيفية استشهاد حمزة ...334

جثة حمزة بعد الشهادة ...336

1- هند وجثة حمزة ...336

2- أبو سفيان وجثة حمزة (علیه السلام)...337

ص: 374

3- رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وجثة حمزة...338

4 - صفية وجثة حمزة (علیه السلام)...339

-6- شدة بكاء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عند الصلاة على حمزة ...340

6 - سبعون صلاة على جثمان حمزة (علیه السلام)...340

7 - دفن حمزة بالكفن ...340

دفن حمزة ...341

دفن حمزة منفرداً في قبر واحد ...341

إقامة مجلس العزاء ...342

ما سبب حزن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؟...343

حرم حمزة (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على مرّ التاريخ ...344

رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وقبر حمزة (علیه السلام)...344

من وصايا الإمام الصادق (علیه السلام)...345

فاطمة الزهراء (علیها السلام) تزور حمزة (علیه السلام) ...345

زيارة حمزة (علیه السلام) من المستحبات المؤكدة ...346

أبو سفيان وقبر حمزة (علیه السلام)...346

كرامة شهداء أحد وفشل سياسة معاوية ...346

ما هدف معاوية من فعلته تلك ؟ ...348

فاطمة الزهراء (علیها السلام) أول من أصلح قبر حمزة ...349

حرم حمزة في القرن الثاني ...349

حرم حمزة في القرن السادس ...350

أحداث مبنى شامخ في القرن السابع ...350

حرم حمزة في القرن العاشر ...351

حرم حمزة في القرن الثالث عشر أي قبل هدمه بتسع وثمانين سنة ...351

حرم حمزة سنة 1325 ...352

تاريخ حرم أئمة البقيع الله

ص: 375

توسيع رقعة الحرم ...353

مصرع حمزة (علیه السلام)...353

بركتان داخل الصحن ...354

قبة مصرع حمزة (علیه السلام) في كتاب بورتون ...355

التبرك بتراب قبر حمزة (علیه السلام)...355

في القرون الأخيرة ...356

الزيارة الرجبية عند حرم حمزة ...356

الخيام التي كانت تقام في هذه الزيارة ...357

معتقد الوهابيين وعلمهم ...357

خارطة مقبرة البقيع ...359

فهرس المواضيع ...361

ص: 376

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.