القراءة الراشدة لکتاب «نهج البلاغة»

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: السبحاني تبریزي، جعفر، 1308 -

Sobhani Tabrizi, Jafar, 1929-

عنوان العقد: القراءه الراشده لکتاب نهج البلاغة. شرح

عنوان واسم المؤلف: القراءه الراشده ل" نهج البلاغه": ردا علی استنتاجات عبدالرحمن الجمیعان فی قراءته ل" نهج البلاغه"/ تالیف جعفر السبحاني.

تفاصيل المنشور: قم: موسسة الامام صادق(ع)، 1440ق.= 1398.

مواصفات المظهر: 208ص.

فروست : موسسة الامام صادق(ع)؛ 486.، 1033.

شابک : 978-964-357-637-0

وضعیت فهرست نویسی : فاپا

لسان : العربية.

ملحوظة: کتابنامه:ص.[197]-202

عنوان آخر:رد علی استنتاجات عبدالرحمن الجمیعان فی قراءته ل" نهج البلاغه".

موضوع : جمیعان، عبدالرحمن بن عبدالله . القراءه الراشده لکتاب نهج البلاغه -- النقد والتعليق

موضوع : علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل الهجرة - 40ق . نهج البلاغه -- النقد والتعليق

موضوع : Ali ibn Abi-talib, Imam I. Nahjol - Balaghah -- Criticism and interpretation

موضوع : علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل الهجرة - 40ق . نهج البلاغه -- الدفاعات والتفنيد

موضوع : Ali ibn Abi-talib, Imam I. Nahjol - Balaghah -- Apologetic works

المعرف المضاف: جمیعان، عبدالرحمن بن عبدالله . القراءه الراشده لکتاب نهج البلاغه. شرح

ترتيب الكونجرس: BP38/08

تصنيف ديوي: 297/9515

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 5868740

اطلاعات رکورد کتابشناسی : فاپا

اسم الكتاب:... القراءة الراشدة ل «نهج البلاغة»

المؤلّف:... جعفر السبحاني

الطبعة:... الأُولى

الناشر:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

المطبعة:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

تاريخ الطبع:... 1398 ه. ش/ 1441 ه. ق/ 2019 م

الكمية:... 1000 نسخة

القطع:... رقعي

التنضيد والإخراج:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

تسلسل النشر: 1033 تسلسل الطبعة الأُولى: 486

حقوق الطبع محفوظة للمؤسّسة

توزيع مكتبة التوحيد

ايران - قم؛ ساحة الشهداء

37745457؛ 09121519271

http://www.imamsadiq.org

http://www.Tohid.ir

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

القراءة الراشدة ل «نهج البلاغة»

ص: 3

ص: 4

القراءة الراشدة ل «نهج البلاغة»

ردّاً علىٰ استنتاجات عبد الرحمن الجميعان

في قراءته ل «نهج البلاغة»

تأليف: الفقيه المحقّق جعفر السبحاني

نشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص: 5

سبحاني تبريزي، جعفر، 1308 -

القراءة الراشدة ل «نهج البلاغة» / تأليف جعفر السبحاني. - قم: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، 1398.

208 ص.

فهرست نويسى بر اساس اطلاعات فيپا. 0-637-357-964-978: ISBN

كتابنامه: 197-202؛ و همچنين به صورت زيرنويس.

1. على بن ابى طالب عليه السلام، امام اوّل، 23 ق. ه 40 ه، نهج البلاغه -- نقد و تفسير.

2. على بن ابى طالب عليه السلام، امام اوّل، 23 ق. ه. 40 ه، مباحث خاص.

3. جميعان، عبدالرحمن بن عبداللّٰه، - قراءة راشدة لكتاب نهج البلاغة -- نقد و تفسير.

4. شيعه -- دفاعيه ها و رديه ها.

الف. مؤسسه امام صادق عليه السلام. ب. عنوان: رداً على استنتاجات عبدالرحمن الجميعان في قراءته ل «نهج البلاغة». ج. عنوان.

4 ق 2 س/ 38 / BP 297/9515

1398

اسم الكتاب:... القراءة الراشدة ل «نهج البلاغة»

المؤلّف:... جعفر السبحاني

الطبعة:... الأُولى

الناشر:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

المطبعة:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

تاريخ الطبع:... 1398 ه. ش/ 1441 ه. ق/ 2019 م

الكمية:... 1000 نسخة

القطع:... رقعي

التنضيد والإخراج:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

تسلسل النشر: 1033 تسلسل الطبعة الأُولى: 486

حقوق الطبع محفوظة للمؤسّسة

توزيع

مكتبة التوحيد

ايران - قم؛ ساحة الشهداء

37745457؛ 09121519271

http://www.imamsadiq.org

http://www.Tohid.ir

ص: 6

مقدمة المؤلف

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّٰه ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف رسله وخاتم أنبيائه محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين الذين أذهب اللّٰه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

أمّا بعد؛ فإنّ كتاب «نهج البلاغة» الذي جمعه العلّامة الحجّة محمد بن الحسين بن موسى البغدادي المعروف بالشريف الرضي (359-406 ه) من كلام الإمام الهمام علي عليه السلام كتاب تعلوه مسحة من الكلام الإلهي وعبقة من الكلام النبوي، وهو بحر ليس له ساحل، وكنز مشحون بأنواع الدرر والجواهر، يفوح من نفحاته المسك الأذفر والعنبر، ونعم ما قيل فيه:

نهج البلاغة نهج العلم والعمل *** فاسلكه يا صاح تبلُغ غاية الأملِ

كم فيه من حِكَمٍ بالحقّ مُحكمة *** تُحيي القلوب ومن حُكْمٍ ومن مَثَل

ص: 7

ألفاظه دُرر أغنت بحليتها *** أهل الفضائل عن حلي وعن حُلل

ومن معانيه أنوار الهدى سطعت *** فانجاب عنها ظلام الزيغ والزلل

وكيف لا وهو نهجٌ طاب منهجُهُ *** هدى إليه أميرُ المؤمنين علي(1)

مع أنّه بحر لا ساحل له، إلّاأنّه يمكن جمع أكثر مباحثه في العناوين التالية:

1. الإلهيات وما وراء الطبيعة.

2. العبادة والسلوك.

3. الحكومة والعدالة.

4. أهل البيت والخلافة.

5. المواعظ والحكم.

6. حبّ الدنيا وآثاره الموبقة.

7. الشجاعة والحماسة.

8. الملاحم والمغيّبات.

9. الدعاء والمناجاة.

10. الشكوى ممّن حوله من الناس.

11. الأُصول الاجتماعية.

12. الإسلام والقرآن.

13. الأخلاق وتهذيب النفس.

إلى غير ذلك من المباحث التي لا يقف عليها إلّامن نهل من منهله العذب وطالع خطبه وكتبه وقصار كلماته عليه السلام.

وقد حظي «نهج البلاغة» بالمرتبة التالية لكتاب اللّٰه العزيز، فكان

ص: 8


1- . منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 244/1.

العلماء قديماً وحديثاً يحفظونه ويتبرّكون بذلك، كما يحفظون آيات القرآن الكريم ويتبرّكون بها، وقد عُدّ من حفظته في قرب عهد المؤلّف القاضي جمال الدين محمد بن الحسين بن محمد القاساني فقد كان يكتب نهج البلاغة من حفظه.(1)

وقد اهتمّ علماء الأُمّة الإسلامية بهذا الكتاب قديماً وحديثاً فقاموا بشرحه والتعليق عليه وترجمته من عهد الشريف الرضي إلى زماننا هذا، وقد أحصىٰ العلّامة الأميني أكثر من ثمانين شرحاً لهذا الكتاب.(2)

لكن شيخنا المجيز آقا بزرگ الطهراني قدس سره أنهىٰ شروحه إلى 148 شرحاً.(3)

وجاء بعدهم الشيخ حسين جمعة (المعاصر) الذي أفرد كتاباً لدراسة هذه الشروح(4) بعنوان: «شروح نهج البلاغة» وأنهاها إلى 210 شرحاً.(5)

إنّ هؤلاء الأعاظم قرأوا كتاب نهج البلاغة قراءة تفهّم وتدبّر ليستضيئوا بأنواره وينهلوا من منهله الصافي لا بعقيدة مسبقة؛ بل

ص: 9


1- . لاحظ: فهرست منتجب الدين: 434.
2- . لاحظ: موسوعة الغدير: 256/4-265.
3- . لاحظ: الذريعة إلى تصانيف الشيعة: 111/14-181.
4- . وقد طبع في بيروت سنة 1413 ه في 172 ص.
5- . لاحظ: مجلة تراثنا: العدد 2 و 3، السنة 9، 1414 ه، ص 155.

تجرّدوا عن كلّ شيء حتى يعثروا على ضالّتهم في هذا الكتاب القيّم بعد كتاب اللّٰه سبحانه وسنّة رسوله الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم.

قراءة نهج البلاغة لأغراض خاصّة

أليس من العجيب - وما عشت أراك الدهر عجباً - أن نجد أنّ أحد المعاصرين يقرأ كتاب نهج البلاغة لا للاستضاءة من أنواره، أو الانتهال من منهله العذب؛ بل لغاية نقد عقائد بعض الفرق؟! فلم تقع عيونه الساهرة الّا على الخطب والكلم التي تصلح - حسب استنتاجه وفهمه - لأن تكون ردّاً على الفرقة الناجية (الشيعة الإمامية). وهذا المؤلف هو أحد أعضاء مبّرة الآل والأصحاب، يُدعىٰ ب «عبد الرحمن بن عبد اللّٰه الجميعان»، فقد ألّف رسالة باسم «قراءة راشدة لكتاب نهج البلاغة» ولم تكن قراءته كذلك، إذ لم تقُدْه إلى الرشد ومعرفة الحقّ، والشاهد على ذلك أنّ خطب الإمام عليه السلام ورسائله وكلماته القصار، مشحونة ببيان المعارف والحكم والمواعظ وأخصّ بالذكر كلامه حول توحيده سبحانه وتنّزيهه عن التجسيم والتشبيه والجهة ووصف أفعاله بالحكمة، إلّاأنّ الكاتب لم ينتفع من كلام الإمام عليه السلام في نهج البلاغة في مجال هذه المواضيع أصلاً، بل ركز على ما ورثه من عقائد ابن تيمية وتلميذ منهجه: ابن عبد الوهاب حتى أظهر ذلك بصراحة في المبحث السابع من رسالته(1)،

ص: 10


1- . لاحظ: قراءة راشدة لكتاب نهج البلاغة: 71.

ولذلك قلنا أنّ قراءته لم تكن قراءة راشدة. وها نحن نذكر شيئاً من مباحث التوحيد التي وردت في خطب الإمام عليه السلام كي يتّضح للقارئ الكريم الفرق الكبير بين ماعليه الإمام عليه السلام وما نطق به ابن تيمية، فقد وصف الإمام عليه السلام اللّٰه سبحانه - في أحد خطبه - بقوله: «الْحَمْدُ لِلّٰهِ الَّذِي لَاتُدْرِكُهُ الشَّوَاهِدُ، وَلَا تَحْوِيهِ الْمَشَاهِدُ، وَلَا تَرَاهُ النَّوَاظِرُ، وَلَا تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ».(1)

ويقول الإمام عليه السلام: «مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ، وَلَا حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ، وَلَا إِيَّاهُ عَنَىٰ مَنْ شَبَّهَهُ، وَلَا صَمَدَهُ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَتَوَهَّمَهُ».(2)

وفي موضع آخر قال: «الْحَمْدُ لِلّٰهِ الَّذِي انْحَسَرَتِ الْأَوْصَافُ عَنْ كُنْهِ مَعْرِفَتِهِ، وَرَدَعَتْ عَظَمَتُهُ الْعُقُولَ، فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغاً إِلَىٰ بُلُوغِ غَايَةِ مَلَكُوتِهِ! هُوَ اللّٰهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ، أَحَقُّ وَأَبْيَنُ مِمَّا تَرَىٰ الْعُيُونُ، لَمْ تَبْلُغْهُ الْعُقُولُ بِتَحْدِيدٍ فَيَكُونَ مُشَبَّهاً، وَلَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ الْأَوْهَامُ بِتَقْدِيرٍ فَيَكُونَ مُمَثَّلاً».(3)

هذا هو التوحيد الذي دعا إليه الإمام عليه السلام، ولنقارنه بنموذج من التوحيد الذي دعا إليه إمام مذهب المؤلّف - أعني: ابن تيمية - فقد قال في الرسالة التاسعة من مجموعة الرسائل الكبرى: تواتر عن رسوله صلى الله عليه و آله و سلم وأجمع عليه سلف الأُمّة من أنّه سبحانه فوق سماواته،

ص: 11


1- . نهج البلاغة: الخطبة 185.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 186.
3- . نهج البلاغة: الخطبة 151.

على عرشه، عليٌّ على خلقه.(1)

ومعنى العبارة أنّه سبحانه:

1. فوق السماوات.

2. مستقر على عرشه.

3. في مكان مرتفع عن السماوات والأرض.

وليس لهذه الجمل معنى سوى أنّه كمَلِك جالس على السرير في مكان مرتفع ينظر إلى العالم تحته.

نعم استند هو في كلامه هذا على ما نقلوه عن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «ويحك! إنّه لا يُستشفَع باللّٰه على أحد من خلقه، شأن اللّٰه أعظم من ذلك، ويحك! أتدري ما اللّٰه؟ إنّ عرشه على سماواته لهكذا» وقال بأصابعه مثل القبّة عليه، «وإنّه ليئطّ به أطيط الرَّحل بالراكب». وفي لفظ «إنّ اللّٰه فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته».(2)

ولا تعجب من كلامه هذا، فإنّه يقول بإمكان استقراره سبحانه على ظهر البعوضة، وفناء العذاب في الآخرة.(3)

ص: 12


1- . مجموعة الرسائل الكبرى: 401/1، العقيدة الواسطية، الرسالة التاسعة، طبعة محمد على صفح.
2- . سنن أبي داود: 884-885، برقم 4726.
3- . بيان تلبيس الجهمية: 568/1.

اقرأ واقض

مواصفات الآل والصحابة في القرآن الكريم

إنّ القرآن الكريم يرفع منزلة الآل في غير واحدة من الآيات، وكفى في ذلك قوله سبحانه: (إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (1).

ويقول سبحانه: (قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ) .(2)

وفي موضع ثالث يقول سبحانه: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اَللّٰهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهٰا بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصٰالِ * رِجٰالٌ) .(3)

قال السيوطي: أخرج ابن مردويه عن أنس وبُريدة، قالا: قرأ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم هذه الآية: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اَللّٰهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا...) فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول اللّٰه؟ قال: «بيوت الأنبياء»، فقام إليه أبو بكر، فقال: يا رسول اللّٰه هذا البيت منها؟ (مشيراً إلى بيت علي وفاطمة عليهما السلام)، فقال: نعم، من أفاضلها».(4)

وأمّا الصحابة فلا شكّ أنّ صحبة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم شرف وكرامة لمن

ص: 13


1- . الأحزاب: 33.
2- . الشورى: 23.
3- . النور: 36-37.
4- . الدر المنثور: 203/6.

يصاحبه ويتّبع هديه وهداه، ويستضيء بنوره، وقد مدح القرآن الكريم قسماً من أصحابه الذين آزروه ونصروه في مواقف كثيرة، ومع ذلك فليس كلّ الصحابة على نهج واحد، وكفى في إثبات ذلك ما ورد في سورة الجمعة، أعني قول اللّٰه سبحانه في حقّهم: (وَ إِذٰا رَأَوْا تِجٰارَةً أَوْ لَهْواً اِنْفَضُّوا إِلَيْهٰا وَ تَرَكُوكَ قٰائِماً قُلْ مٰا عِنْدَ اَللّٰهِ خَيْرٌ مِنَ اَللَّهْوِ وَ مِنَ اَلتِّجٰارَةِ وَ اَللّٰهُ خَيْرُ اَلرّٰازِقِينَ) .(1)

روى البخاري بإسناده عن جابر رضى الله عنه، قال: بينما نحن نصلّي مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إذ أقبلت من الشام عير تحمل طعاماً، فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلّااثنا عشر رجلاً، فنزلت: (وَ إِذٰا رَأَوْا تِجٰارَةً أَوْ لَهْواً اِنْفَضُّوا إِلَيْهٰا) .(2)

وقال السيوطي: أخرج البيهقي في «شعب الإيمان» عن مقاتل ابن حيّان قال: بينا رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم يخطب الناس في الجمعة أقبل شاءٌ وشيء من سمن، فجعل الناس يقومون إليه، حتى لم يبق إلّا قليل، فقال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «لو تتابعتم لتأجّج الوادي ناراً».(3)

وقال أيضاً: أخرج عبد بن حُميد عن قتادة قال: ذُكر لنا أنّ نبيّ اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم قام يوم الجمعة فخطبهم ووعظهم وذكّرهم، فقيل: جاءت

ص: 14


1- . الجمعة: 11.
2- . صحيح البخاري، كتاب البيوع، برقم 2058، وكتاب الحجة، برقم 836.
3- . الدر المنثور: 167/8.

عير، فجعلوا يقومون حتى بقيت عصابة منهم فقال: كم أنتم؟ فعدّوا أنفسكم، فإذا اثنا عشر رجلاً وامرأة، ثم قام الجمعة الثانية فخطبهم ووعظهم وذكّرهم، فقيل: جاءت عير فجعلوا يقومون حتى بقيت عصابة منهم، فقال: كم أنتم؟ فعدّوا أنفسكم، فإذا اثنا عشر رجلاً وامرأة، فقال: «والذي نفس محمد بيده لو اتبع آخركم أوّلكم، لالتهب الوادي عليكم ناراً». وأنزل اللّٰه فيها (وَ إِذٰا رَأَوْا تِجٰارَةً) .(1)

أصناف الصحابة في الذكر الحكيم

إنّ القرآن الكريم يذكر من بين الصحابة فئات عديدة ويصفهم بأنّهم:

1. المنافقون المعروفون. (لاحظ: سورة المنافقون، الآية 1).

2. المنافقون المختفون. (لاحظ: سورة التوبة، الآية 10).

3. مرضىٰ القلوب. (لاحظ: سورة الأحزاب، الآية 12).

4. السمّاعون. (لاحظ: سورة التوبة، الآية 47).

5. خلطوا العمل الصالح بغيره. (لاحظ: سورة التوبة، الآية 102).

6. المشرفون على الارتداد. (لاحظ: سورة الأعراف، الآية 154).

7. المؤلّفة قلوبهم. (لاحظ: سورة التوبة، الآية 60).

8. المولّون أمام الكفّار. (لاحظ: سورة الأنفال، الآيتين 15 و 16).

ص: 15


1- . الدر المنثور: 167/8.

9. الفاسقون. (لاحظ: سورة الحجرات، الآية 6).

10. الذين كانوا يختانون أنفسهم في ليالي شهر رمضان (لاحظ:

سورة البقرة: 187).

ومع هذا التقسيم والتصنيف كيف يمكن أن نصف عامّة الصحابة بالعدل والتقىٰ؟! وهذا لا يعني أنّ كلّهم - والعياذ باللّٰه - كانوا كذلك، بل نقول: إنّ حكمهم حكم التابعين، فالشيعة لا تفرّق بين الصحابي والتابعي، ولا تعدّ وصف أعمالهم، بما ثبت منها في التاريخ الصحيح، سبّاً لهم، ولا تغضّ النظر عن التاريخ الصحيح.

وبذلك يتّضح أنّ جعل الآل والصحابة في درجة واحدة، وتسمية المؤسّسة باسم «مبّرة الآل والأصحاب» على خلاف الإنصاف، والغاية من الإقران والمعيّة إيهام الشيعة بأنّ أصحاب المؤسسة وكتّابها هم من محبّي آل البيت، ولا يفرّقون، في هذا الحبّ، بينهم وبين الأصحاب.

إلى هنا تمّ ما أردنا من التقديم، ولنبدأ بدراسة ما فهمه المؤلّف - غفر اللّٰه له ولنا - من كلمات الإمام عليه السلام على خلاف ما عليه الشيعة الإمامية.

المؤلّف

جعفر السبحاني

رمضان المبارك عام 1440 ه

ص: 16

المبحث الأوّل: الإمامة

اشارة

خصّ مؤلّف الرسالة المبحث الأوّل، بموضوع الإمامة وقال:

الإمامة - قطعاً - من مهمّات الدين حماية لحوزة الإسلام ولسياسة الناس في دنياهم، لكنّها لا تبلغ منزلة التوحيد... ثمّ يقول: ولا شكّ أنّ الكتاب والسنّة يؤكّدان هذا الأمر كلّ التأكيد، فليست معرفة الإمام أو الإمامة أهم شيء في الدين.(1)

يلاحظ عليه بأمرين:

الأوّل: لا شكّ أنّ التوحيد هو الأصل الأساس في عامّة الشرائع السماوية، قال سبحانه: (وَ لَقَدْ بَعَثْنٰا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّٰاغُوتَ) (2). وليس من شك أنّه ليس كعترة النبيّ وأهل

ص: 17


1- . قراءة راشدة: 8.
2- . النحل: 36.

بيته من قال مثل قولهم في توحيد اللّٰه وتنزيهه عن الجسم والجسمانية والتشبيه بالممكنات ذاتاً وصفاتاً، لقوله سبحانه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ) .(1)

الثاني: لا أظن أنّ مسلماً واعياً ينزّل معرفة الإمامة منزلة التوحيد ويسوّي بينهما، فالبحث فيهما والتركيز على أنّ الثانية أهمّ كأنّه توضيح للواضحات.

***

ثمّ إنّ المؤلّف يبذل جهوداً بالغة لإنكار النصّ على الإمامة في نهج البلاغة، ونحن نذكر قبل نقد كلامه، النصوص الصحيحة التي يذكرها الإمام علي عليه السلام في خطبه ورسائله، والتي تدلّ على أنّ الإمام كان يستدلّ على المخالفين بالنصّ عليه من قبل النبيّ الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم، وإليك البيان.

الإمامة والنصّ

1. «ولهم خصائص حقّ الولاية»

قال عليه السلام في تعريف آل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: «لاٰيُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله و سلم مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ أَحَدٌ، وَلايُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْهِ أَبَداً. هُمْ

ص: 18


1- . الشورى: 11.

أَسَاسُ الدِّينِ، وَعِمادُ الْيَقِينِ. إلَيْهِمْ يَفِيءُ الْغَالِي، وَبِهِمْ يُلْحَقُ التَّالِي.

وَلَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلاٰيَةِ، وَفِيهِمُ الْوَصِيَّةُ وَالْوِرَاثَةُ».(1)

هذا المقطع - الذي أغمض الكاتب عنه عينيه - جزء من خطبة له بعد عودته من وقعة صفين، فهو يعرّف آل محمد صلى الله عليه و آله و سلم بأنّهم أساس الدين وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي.

ثمّ ذكر عليه السلام حقّ الولاية وقال: «وَلَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلاٰيَةِ» وهل الولاية إلّاالإمرة؟ وهذا يدلّ على أنّ الإمرة حقّ شرعيّ لهم، سواء انتخبهم الناس أم لا، ويؤيّد ذلك قوله: «وَفِيهِمُ الْوَصِيَّةُ وَالْوِرَاثَةُ»، والعبارة ظاهرة في اختصاص آل محمد (عليّ وأبنائه) بالوصاية وخلافة رسول اللّٰه، وأمّا الوراثة فالمراد ميراث المال، والمجموع أفضل دليل على أنّ إمامة عليّ عليه السلام كانت منصوصاً عليها من اللّٰه سبحانه، وأنّه أُقصِي عن حقّه يوم ارتحل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، كما قال عليه السلام:

«الْآنَ إذْ رَجَعَ الْحَقُّ إلَى أَهْلِهِ، وَنُقِلَ إلَى مُنْتَقَلِهِ!»(2) وهذا يُشير إلى أنّ الحقّ كان في غير أهله، وهو عليه السلام أهله، والآن رجع إليه.

ثمّ إنّ في صدر هذه الخطبة ما يدلّ على عظمة شأن آل محمّد، قال: «هُمْ مَوْضِعُ سِرِّهِ، وَلَجَأُ أَمْرِهِ، وَعَيْبَةُ عِلْمِهِ، وَمَوْئِلُ حُكْمِهِ، وَكُهُوفُ كُتُبِهِ، وَجِبَالُ دِينِهِ، بِهِمْ أَقَامَ انْحِنٰاءَ ظَهْرِهِ،

ص: 19


1- . نهج البلاغة: الخطبة 2.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 2.

وَأَذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرَائِصِهِ».(1)

2. «ما زلت مدفوعاً عن حقّي»

من كلام له عليه السلام بعد أن أُشير عليه بألّا يتبع طلحة والزبير ولا يُرصد لهما القتال، فقال: «وَاللّٰهِ لَاأَكُونُ كَالضَّبُعِ: تَنَامُ عَلى طُولِ اللَّدْمِ...» ثم قال: «فَوَاللّٰهِ مَا زِلْتُ مَدْفُوعاً عَنْ حَقِّي، مُسْتَأْثَراً عَلَيَّ، مُنْذُ قَبَضَ اللّٰهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه و آله و سلم حَتَّى يَوْمِ النَّاسِ هٰذا».(2)أقول: ماذا يُريد الإمام من هذا الحقّ المسلوب؟ هل أُريد الإمامة التي يمنحها الناس له؟ فالمفروض أنّه لم يمنحوه إيّاها، فلم تبق إلّا المنزلة والمكانة التي وضعه اللّٰه ورسوله فيها، وهذا دليل آخر على كونه كان صاحب حقّ بتنصيص من اللّٰه عزّ وجلّ ومن رسوله.

وإن شئت قلت: الظاهر من الحقّ هو الحقّ الموجود فعلاً لا شأناً، والحقّ الفعلي رهن أحد أمرين إمّا الانتخاب وإمّا التنصيص، فلمّا انتفى الأوّل تعيّن الثاني.

3. «طلبت حقاً لي»

قال عليه السلام من خطبة له: «وَقَدْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّكَ عَلَىٰ هٰذَا الْأَمْرِ يَا بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَحَرِيصٌ. فَقُلْتُ: بَلْ أَنْتُمْ وَاللّٰهِ لَأَحْرَصُ وَأَبْعَدُ، وَأَنَا أَخَصُّ

ص: 20


1- . نهج البلاغة: الخطبة 2.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 6.

وَأَقْرَبُ، وَإِنَّمَا طَلَبْتُ حَقّاً لِي وَأَنْتُمْ تَحُولُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَتَضْرِبُونَ وَجْهِي دُونَهُ».(1)

اختلف الرواة في تعيين من قال للإمام عليه السلام: إنّك على هذا الأمر لحريص، فقيل هو: سعد بن أبي وقاص، يوم الشورى بعد مقتل عمر، ولكنّه بعيد، لأنّه روى عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قوله في حقّ علي عليه السلام:

«أنت منّي بمنزلة هارون من موسى».

وقيل: إنّ القائل هو أبو عبيدة الجراح يوم السقيفة.

هذا وقد تواترت الأخبار عنه عليه السلام بمضمون هذا الكلام، فقد روى عنه عليه السلام ابن أبي الحديد في شرحه أمثال هذا الكلم:

1. قال عليه السلام: «ما زلت مظلوماً منذ قبض اللّٰه رسوله حتى يوم الناس هذا».

2. قال عليه السلام: «اللّهمّ أخز قريشاً فإنّها منعتني حقّي وغصبتني أمري».

3. وقال عليه السلام: «فجزى قريشاً عني الجوازي، فإنّهم ظلموني حقّي، واغتصبوني سلطان ابن أُمّي».

4. وحين سمع صارخاً ينادي: أنا مظلوم، فقال عليه السلام: «هلمّ فنصرخ معاً، فإنّي ما زلت مظلوماً».(2)

أقول: ماذا يقصد الإمام عليه السلام من قوله: «إنّما طلبت حقّاً لي وأنتم

ص: 21


1- . نهج البلاغة: الخطبة 172.
2- . شرح نهج البلاغة: 306/9-307.

تحولون بيني وبينه وتضربون وجهي دونه»؟ فإنّ الحقّ الذي أُريد به - الولاية والإمامة - له مصدران إمّا منحول من الأُمّة بالانتخاب والاختيار، أو منصوص من اللّٰه سبحانه الذي له حقّ الولاية مطلقاً على جميع الخلق، والأوّل لم يتحقّق، فلم يبق إلّاالآخر.

ثمّ انظر إلى قوله عليه السلام: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَىٰ قُرَيْشٍ وَمَنْ أَعَانَهُمْ».(1) فإنّ معناه أن تنتصف لي منهم، فإنّ الانتصاف دليل على أنّ قريشاً غصبوا حقّاً فعليّاً له، وليس هو إلّاالحقّ المنصوص.

ينقل ابن أبي الحديد في ذيل هذه الخطبة، عن يحيى بن سعيد ابن علي الحنبلي المعروف بابن عالية قال: كنت حاضراً الفخر إسماعيل بن علي الحنبلي... ونحن عنده نتحدّث إذ دخل شخص من الحنابلة، قد كان له دَين على بعض أهل الكوفة فانحدر إليه يطالبه به، واتّفق أن حضرت زيارة يوم الغدير، ثم سُئل هذا الشخص عن الأُمور التي رآها عند أهل الكوفة، فقال: يا سيدي لو شاهدت يوم الزيارة يوم الغدير، وما يجري عند قبر علي بن أبي طالب من الفضائح و الأقوال الشنيعة وسبّ الصحابة جِهاراً بأصوات مرتفعة من غير مراقبة ولا خيفة! فقال إسماعيل: أيّ ذنب لهم! واللّٰه ما جرّأهم على ذلك، ولا فتح لهم هذا الباب إلّاصاحب ذلك القبر.

فقال ذلك الشخص: ومَن صاحب القبر؟ قال: عليّ بن أبي

ص: 22


1- . نهج البلاغة: الخطبة 217.

طالب! قال: يا سيدي، هو الذي سنّ لهم ذلك وعلّمهم إيّاه وطرّقهم إليه! قال: نعم واللّٰه. قال: يا سيّدي فإن كان محقّاً فما لنا أن نتولّى فلاناً وفلاناً! وإن كان مبطلاً فمالنا نتولّاه؟! ينبغي أن نبرأ إمّا منه أو منهما.

قال ابن عالية: فقام إسماعيل مسرعاً، فلبس نعليه، وقال: لعن اللّٰه إسماعيل الفاعل إن كان يعرف جواب هذه المسألة، ودخل دار حرمه، وقمنا نحن وانصرفنا.(1)

وجه استدلال الإمام بالقرابة على إمامته

نعم ربما يستدلّ الإمام عليه السلام على صلاحيته ونفي صلاحية الآخرين بما له من الخصائص الكريمة والفضائل الواضحة، كالقرابة وأمثالها، وهذا واضح في جوابه عن سؤال أحد أصحابه وذلك حين كانت الحرب دائرة بينه وبين أصحاب معاوية، فقد سأله بقوله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحقّ به؟ فأجاب الإمام عليه السلام بعد الإشارة إلى أنّ هذا السؤال في غير موقعه بقوله: «أَمَّا الْإِسْتِبْدَادُ عَلَيْنَا بِهٰذَا الْمَقَامِ وَنَحْنُ الْأَعْلَوْنَ نَسَباً، وَالْأَشَدُّونَ بِرَسُولِ اللّٰهِ صلى الله عليه و آله و سلم نَوْطاً، فَإِنَّهَا كَانَتْ أَثَرَةً شَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ، وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ؛ وَالْحَكَمُ اللّٰهُ، وَالْمَعْوَدُ إِلَيْهِ الْقِيَامَةُ».(2)

ص: 23


1- . شرح نهج البلاغة: 307/9-308، وإسماعيل هو: فخر الدين إسماعيل بن عليّ بن الحسين الأزَجيّ (المتوفّى 610) الحنبليّ، الفقيه المعروف بغلام ابن المنّيّ.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 162.

وَدَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ فِي حَجَرَاتِهِ *** وَلٰكِنْ حَدِيثاً مَا حَدِيثُ الرَّوَاحِلِ

ترى أنّه صلوات اللّٰه عليه لا يستدلّ بالنص بل يستدلّ بالخصائص الموجودة فيه من قوله: «وَنَحْنُ الْأَعْلَوْنَ نَسَباً، وَالْأَشَدُّونَ بِرَسُولِ اللّٰهِ صلى الله عليه و آله و سلم نَوْطاً» وما هذا إلّالأنّ السائل لم يكن يتصوّر النص ولا يعتقده ولا يخطر بباله، ولذلك قال عليه السلام كلاماً موافقاً لسؤاله: كيف دفعكم قومكم عن هذا وأنتم أحقّ به؟ باعتبار الهاشمية والقربىٰ. فأجاب الإمام عليه السلام بجواب ينطبق على سؤال السائل وقال: إنّما فعلوا ذلك مع أنا أقرب إلى رسول اللّٰه من غيرنا لأنّهم استأثروا علينا.

ومثل هذا النوع من الاستدلال يوجد أيضاً في بعض خطبه وثنايا كلامه، وما هذا إلّالأجل تطابق الجواب مع السؤال.(1)

إلى هنا تمّ ذكرما استدلّ به الإمام عليه السلام على تعيّنه للخلافة والإمامة تنصيصاً.

نقد انطباعات الكاتب من كلام الإمام عليه السلام على عدم النص

استدلّ الكاتب على عدم وجود نصٍ على إمامة علي عليه السلام بكلمات الإمام في بعض خطبه وكتبه وحكمه القصار، وما زعمه دليلاً ليس إلّااستنباطات شخصية.

ص: 24


1- . لاحظ: شرح نهج البلاغة: 250/9-251.

الشبهة الأُولى:

اشارة

قال: ففي كلام لعلي رضى الله عنه لكميل بن زياد النخعي، يؤكّد أنّه: «لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلّهِ بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللّٰهِ وَبَيِّنَاتُهُ»، ثم يقول: «أُولٰئِكَ - وَاللّٰهِ - الْأَقَلُّونَ عَدَداً، وَالْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللّٰهِ قَدْراً. يَحْفَظُ اللّٰهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ، حَتَّىٰ يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ، وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ...» أفتدري من هؤلاء؟ إنّهم العلماء. ثم يكمل كلامه قائلاً: «أُولٰئِكَ خُلَفَاءُ اللّٰهِ فِي أَرْضِهِ، وَالدُّعَاةُ إِلَىٰ دِينِهِ. آهِ آهِ شَوْقاً إِلَىٰ رُؤْيَتِهِمْ!»(1)، فالعلماء هم الذين يثني عليهم هذا الصحابي الجليل، ويرفع من مكانتهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.(2)

الجواب: إنّ ما جزم به الكاتب من أنّ المراد بمن ذكرهم الإمام بقوله: «لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلّهِ بِحُجَّةٍ...» هم العلماء، ليس بصواب. ويتّضح هذا عند قراءه كلامه عليه السلام، الذي سبق الفقرات التي نقلها الكاتب، حيث يشير عليه السلام فيه إلى أصناف من العلماء الذين ليست لهم الصلاحية لحمل علمه، ثمّ استدرك وأشار إلى جماعة أُخرى لهم صلاحية ووصفهم بقوله: «اللَّهُمَّ بَلَىٰ! لَاتَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلّهِ بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللّٰهِ وَبَيِّنَاتُهُ».

ص: 25


1- . نهج البلاغة: قصار الحكم، برقم 147.
2- . قراءة راشدة: 8 و 9.

وإليك نصّ كلامه، الذي لم ينقله الكاتب، قال عليه السلام: «يَا كُمَيْلُ، هَلَكَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ:

أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، وَ أَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ. هَا إِنَّ هٰاهُنَا لَعِلْماً جَمّاً (وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَىٰ صَدْرِهِ) لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً! بَلَىٰ أَصَبْتُ لَقِناً غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ، مُسْتَعْمِلاً آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا، وَمُسْتَظْهِراً بِنِعَمِ اللّٰهِ عَلَىٰ عِبَادِهِ، وَبِحُجَجِهِ عَلَىٰ أَوْلِيَائِهِ؛ أَوْ مُنْقَاداً لِحَمَلَةِ الْحَقِّ، لَابَصِيرَةَ لَهُ فِي أَحْنَائِهِ، يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ لِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ. أَلَا لَاذَا وَلَا ذَاكَ! أَوْ مَنْهُوماً بِاللَّذَّةِ، سَلِسَ الْقِيَادِ لِلشَّهْوَةِ، أَوْ مُغْرَماً بِالْجَمْعِ وَالْإِدِّخَارِ، لَيْسَا مِنْ رُعَاةِ الدِّينِ فِي شَيْ ءٍ، أَقْرَبُ شَيْ ءٍ شَبَهاً بِهِمَا الْأَنْعَامُ السَّائِمَةُ! كَذٰلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيهِ.

ثمّ استدل عليه السلام، وقال:

اللَّهُمَّ بَلَىٰ! لَاتَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلّهِ بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللّٰهِ وَبَيِّنَاتُهُ.

وَكَمْ ذَا وَأَيْنَ أُولٰئِكَ؟ أُولٰئِكَ - وَاللّٰهِ - الْأَقَلُّونَ عَدَداً، وَالْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللّٰهِ قَدْراً. يَحْفَظُ اللّٰهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ، حَتَّىٰ يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ، وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ. هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَىٰ حَقِيقَةِ الْبَصِيرَةِ، وَبَاشَرُوا رُوحَ الْيَقِينِ، وَاسْتَلَانُوا مَا اسْتَعْوَرَهُ الْمُتْرَفُونَ، وَأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ. وَصَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَىٰ.

ص: 26

أُولٰئِكَ خُلَفَاءُ اللّٰهِ فِي أَرْضِهِ، وَالدُّعَاةُ إِلَىٰ دِينِهِ. آهِ آهِ شَوْقاً إِلَىٰ رُؤْيَتِهِمْ!

انْصَرِفْ يَا كُمَيْلُ إِذَا شِئْتَ».

حاصل كلام الإمام هو أنّه عليه السلام بعدما صرّح بأنّه يحمل علماً جمّاً، قال: «لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً» أي من الذين يطيق فهمه فضلاً عن حمله، لألقىٰ عليهم علمه. ثمّ إنّه قسّم الذين يصيبهم إلى خمسة أقسام:

1. أهل الرياء والسمعة الذين يُظهرون الدين والعلم ومقصودهم الدنيا.

2. قوم من أهل الخير والصلاح ليسوا بذوي بصيرة في الأُمور الإلهية الغامضة.

3. رجل صاحب لذات وطرب مشتهر بقضاء الشهوة.

4. رجل عُرف بجمع المال وادّخاره.

فهذه الأصناف الأربعة ليسوا من رجال هذا الباب.

ثمّ قال عليه السلام: «كَذٰلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيهِ» أي إذا ماتَ، مات العلم الذي في صدره، لأنّه لم يجد أحداً يدفعه إليه. فعندئذٍ استدرك كلامه هذا بالإشارة إلى صنف خامس يمتاز عن الأصناف السابقة بسمات تؤهّلهم لحمل علمه، وما هؤلاء إلّالأنّهم من حجج اللّٰه وبيّناته، وهم بين ظاهر مشهور وخائف مغمور. هذا هو كلامه عليه السلام.

وأمّا مَن هم هؤلاء (الصنف الخامس)، فإنّ مَن سبر «نهج

ص: 27

البلاغة» وقرأ كلماته عليه السلام في حقّ العترة الطاهرة يقف على أنّ مراده هنا هم الأئمة الأحد عشر من ولده. «فإنّهم حجج اللّٰه وبيّناته، بين ظاهر مشهور» وهم الأئمّة العشرة «وخائف مغمور» وهو الحجة المنتظر ثاني عشر الأئمة عليهم السلام، فهؤلاء ورثوا العلوم النبوية والعلوية.

والشاهد على ذلك أنّ الإمام وصفهم - وراء كونهم حجج اللّٰه وبيّناته - بقوله: «أُولٰئِكَ - وَاللّٰهِ - الْأَقَلُّونَ عَدَداً، وَالْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللّٰهِ قَدْراً.

يَحْفَظُ اللّٰهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ، حَتَّىٰ يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ» فكلّ إمام يحمل علماً من الإمام المتقدّم عليه ثم يودعه إلى مَن يقوم مقامه.

أوصاف الصنف الخامس يدلّ على أنّ المراد بهم الأئمّة

وصف الإمام عليه السلام الصنف الخامس بأوصاف أُخرى، وقال:

«هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَىٰ حَقِيقَةِ الْبَصِيرَةِ، وَبَاشَرُوا رُوحَ الْيَقِينِ»: أي انكشف لهم المستور المغطىٰ وباشروا روح اليقين... إلى أن قال: «أُولٰئِكَ خُلَفَاءُ اللّٰهِ فِي أَرْضِهِ، وَالدُّعَاةُ إِلَىٰ دِينِهِ». هذا هو تفسير موجز لبعض كلماته عليه السلام، ومَن قرأ هذا الكلام من أوّله إلى آخره يجد أنّ العترة الطاهرة هم المصاديق الواضحة لكلامه، فكلامه عليه السلام فيما تدعيه الإمامية أظهر، ولذلك نرى أنّ ابن أبي الحديد يقول: كلام الإمام عليه السلام يكاد يكون تصريحاً بمذهب الإمامية.(1)

ص: 28


1- . شرح نهج البلاغة: 351/18.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ الكاتب لم يقرأ نهج البلاغة، كما يدّعيه في صدر رسالته، حيث قال: فوقفت أتأمّل هذه الحياة طويلاً، وطفقت أعبّ من كتبهم عبّاً، وأقرأ ما بين السطور وأتوغّل في القراءة.(1)

ثمّ إنّه ذيّل استدلاله هذا بما روي عن الإمام عليه السلام أنّه قال: «مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ، وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ؛ وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالْإِجْلَالِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَ مُؤَدِّبِهِمْ».(2)

ثم قال: ماذا يعني بقوله: «من نصب نفسه إماماً»؟ وهل يُسمّى مغتصب الخلافة إماماً؟(3)

أقول: من الأُمور الواضحة أنّ صحّة الاستدلال تقتضي أن تكون بين المدّعىٰ والدليل صلة ورابطة واضحة، والموضوع الذي أثاره الكاتب هو مسألة الإمامة، وأنّه ليس ثمّة نصّ من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم علىٰ عليّ عليه السلام، فإذا كان هذا هو المدّعىٰ فأيّة صلة بينه وبين قول الإمام عليه السلام هذا، حيث يؤكّد على أنّ مرشد القوم ومؤدّبهم يجب أن يكون على سيرة محمودة حتى يؤثّر كلامه في مَن يؤدّبهم، ولا يكون من الذين يقولون ما لا يفعلون؟ ونسأل الكاتب: بيّن لنا وجه الصلة بين

ص: 29


1- . قراءة راشدة: 6.
2- . نهج البلاغة: قصار الحكم، برقم 73.
3- . قراءة راشدة: 9.

المدّعى والدليل...

ثمّ إنّ الكاتب خُيّل إليه أنّ المراد من الإمام هو الخليفة بعد رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم ولذلك صار يتشاغب فيقول: ماذا يعني بقوله: «من نصب نفسه إماماً» وهل يُسمّى مغتصب الخلافة إماماً؟ وكأنّه يريد بذلك الرّدّ على الشيعة الذين لا يعترفون بخلافة الثلاثة بعد رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم.

أقول: اشتبه عليه الأمر، فإنّ الإمام عليّاً عليه السلام بصدد إلقاء ضابطة كلّية لا تختصّ بمَن تسنّم منصب الخلافة بعد رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم بل تشمل كلّ مَن يقود الناس ويرشدهم من غير فرق بين كونه إماماً للناس جميعاً، أو رئيس قبيلة معيّنة، أو قائد جيش، أو خطيب قوم، أو معلّم تلاميذ.

وحاصل كلامه عليه السلام: إنّ مَن يتّخذ لنفسه موقع المعلّم والمربّي، يجب أن يكون تأديبه للناس بسيرته وسلوكه قبل تأديبه لهم بقوله ولسانه. وكلامه هذا ينطبق على إمام الناس جميعاً وأئمّة المساجد والوعاظ والخطباء وأساتذة الجامعات ومعلّمي المدارس. وأمّا أنّ كلّ مَن نصب نفسه إماماً، فهو إمام صالح ومستحقّ للإمامة فلا يدلّ عليه كلامه.

نعم إنّ اللائح من كلام الكاتب أنّ كلّ مَن نصب نفسه إماماً يكون إماماً صالحاً، ولذلك رتّب على هذا الزعم قوله: «وهل يُسمى

ص: 30

مغتصب الإمامة إماماً؟» مع أنّ الذكر الحكيم يصف بعض من نصب نفسه إماماً بكونهم من الدعاة إلى النار، قال تعالى: (وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنّٰارِ وَ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ لاٰ يُنْصَرُونَ) .(1)

الشبهة الثانية:

اشارة

قال الكاتب: وفي كتاب من كتبه المهمة جاء فيه: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللّٰهَ سُبْحٰانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى الله عليه و آله و سلم نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وَمُهَيْمِناً عَلَىٰ الْمُرْسَلِينَ. فَلَمَّا مَضَىٰ عليه السلام تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ. فَوَاللّٰهِ مَا كَانَ يُلْقَىٰ فِي رُوعِي، وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِي، أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هٰذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ صلى الله عليه و آله و سلم عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ! فَمَا رَاعَنِي إِلَّا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَىٰ فُلَانٍ يُبَايِعُونَهُ. فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّىٰ رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ، يَدْعُونَ إِلَىٰ مَحْقِ دِينِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله و سلم فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرَىٰ فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ، كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ، أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ؛ فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الْأَحْدَاثِ حَتَّىٰ زَاحَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ، وَاطْمَأَنَّ الدِّينُ وَتَنَهْنَهَ».(2)

ص: 31


1- . القصص: 41.
2- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 62.

ثمّ قال بعد ذلك: هذا كتاب الخليفة علي عليه السلام إلى أهل مصر، أرسله مع صاحبه مالك الأشتر لما ولاه إمرة مصر،... إلى أن قال:

المهم في الأمر ما في هذا الكتاب من معان: انظر إلى كلماته:

أ. «تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ...» ولم يقل: الكفّار أو الذين ارتدّوا بعد وفاته صلى الله عليه و آله و سلم أو الفسّاق، وإنّما سمّاهم «المسلمون».(1)

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره نوع شغب وتدليس، إذ لم يقل أحد من الشيعة والمسلمين بأنّ الناس في ذلك الوقت كانوا فسّاقاً أو كفّاراً، فإنّ الإسلام يقوم على أُصول ثلاثة: التوحيد والنبوة والمعاد، فمَن اعتقد بذلك فهو مسلم، فماذا يريد الكاتب بقوله: «لم يقل الكفّار أو الذين ارتدوا». نعم صحاح القوم ذكرت ارتداد جمع من الصحابة بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة أنّه كان يحدّث أنّ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض، فأقول: يا رب أصحابي، فيقول: إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى».(2)

وكم لهذا الحديث من نظائر، بل جاء مضمونه في روايات أُخرى، فلاحظ الباب. فإذا وصف صحيح الكتب - كما يدّعي القوم -

ص: 32


1- . قراءة راشدة: 10.
2- . صحيح البخاري: 208/7، باب في الحوض، برقم 6585، وفي رواية أُخرىٰ فيحلّؤون.

هؤلاء بالردّة، فلماذا يؤخذ البريء بجرم المذنب؟

ثمّ قال الكاتب: ثمّ انظر إلى قوله: «ولا يخطر ببالي... من بعده...» فماذا تلاحظ أيّها القارئ الكريم.

وهو يعني قول الإمام علي عليه السلام: «وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِي، أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هٰذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ صلى الله عليه و آله و سلم»، واستنتج من ذلك أنّه ليس هناك نصّ يستند عليه في قضيته (الخلافة والإمامة).(1)

أقول: كتب الإمام عليه السلام هذه الرسالة إلى أهل مصر، وبعثها مع مالك الأشتر نفسه، كما ذكر ذلك الشريف الرضي حيث قال: ومن كتاب له عليه السلام إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لمّا ولّاه إمارتها، ومن المعلوم أنّ لكلّ كلام مقاماً، ولكلّ مقام مقالاً، وموقف الإمام في هذه الرسالة ليس موقف الاستدلال على إمامته وخلافته عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وإلّا كان عليه أن يستدلّ بحديث الغدير وحديث المنزلة إلى غير ذلك من النصوص، بل كان الإمام عليه السلام في مقام بيان السبب الذي دعاه إلى الوقوف موقفاً إيجابياً مع جهاز الخلافة التي سبقته، وحاصل السبب يتّضح لمَن قرأ تاريخ المسلمين بعد رحلة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، وهو أنّ طليحة ادّعى النبوّة في حياة رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم فوجّه إلى حربه ضرار بن الأوس، فأفلت منه، ولكن ضعُف أمره...

ثمّ قوي بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم لكثرة المرتدّين، وعزم أن يغزو بهم

ص: 33


1- . قراءة راشدة: 10.

المدينة ويحتلها. قال ابن الأثير في حوادث سنة (11 ه): ارتدّت العرب، وتضرمت الأرض ناراً بعد وفاة رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم وارتدّت كلّ قبيلة عامّة أو خاصة إلّاقريشاً وثقيفاً، واستغلظ أمر مسيلمة وطليحة.

ولمّا علم المسلمون بغزو طليحة المدينة تماسكوا واتّفق الصحابة كلمة واحدة على حربه، وخرج الإمام عليه السلام من عزلته، ورابط بنفسه في مكان قريب من المدينة، واقتدىٰ به آخرون، وأغار طليحة على المدينة ليلاً، وكان المسلمون له بالمرصاد، فهزموه وفرّقوا جمعه وقتلوا العديد من عسكره، ولم يصب أحد من المسلمين، ثم لحقت جيوش الإسلام بطليحة الفار، فانصرف عنه أصحابه بعد إيقانهم بكذبه، وهرب هو إلى الشام، ونزل ببني كلب، وأظهر التوبة والإسلام ليسلم من القتل، ولمّا مات أبو بكر وبويع عمر أتاه وبايعه.(1)

وبكلمة قصيرة فالإمام عليه السلام لم يكن في مقام المناشدة والاحتجاج على صلاحيته لمنصب الإمامة وإنّما ذكر ذلك مقدّمة لما يأتي بعده، وأنّ قريشاً كانوا يعرفون ما له من الصلاحية، ولكنّهم عدلوا عنه، ومع ذلك فالإمام عليه السلام لم يجعل ذلك ذريعة لعدم التعاون مع الحكام آنذاك في المواقف الخطيرة، وأخطرها هو ارتداد قبائل العرب، ولذلك شمّر عن ساعديه للدفاع عن الإسلام.

ص: 34


1- . في ظلال نهج البلاغة: 150/4-151.

ما هو السبب لتعاون الإمام مع القوم؟

والذي يُعرب عن ذلك، أنّ للإمام مقامين:

1. مقام المناشدة والاحتجاج.

2. مقام بيان سبب تعاونه مع القوم.

وكلّ يختلف عن الآخر، ولذلك نرى الإمام عليه السلام في المقام الأوّل قد احتج بالنصّ في غير واحد من المواقف، وهانحن نذكر موقفاً واحداً ممّا احتج فيه بحديث الغدير.

روى أحمد في مسنده وقال: حدّثنا ابن نمير، حدّثنا عبد الملك، عن أبي عبد الرحيم الكندي، عن زاذان بن عمر، قال: سمعتُ عليّاً في الرحبة، وهو ينشد الناس من شهد رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم يوم غدير خُمّ وهو يقول ما قال. فقام ثلاثة عشر رجلاً، فشهدوا أنّهم سمعوا رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم وهو يقول: «من كنت مولاه فعليّ مولاه».(1)

وهذه المناشدة رواها غير واحد من حفاظ الحديث وأئمتهم.(2)

ثمّ إنّ الكاتب استدلّ بقول الإمام عليه السلام «فَمَا رَاعَنِي إِلَّا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَىٰ فُلَانٍ يُبَايِعُونَهُ...» أي إسراعهم وانصبابهم إلى بيعة أبي بكر.

أقول: إنّ هذه الفقرة تدلّ على عدم رضا الإمام بإسراع الناس إلى بيعة أبي بكر، فإنّ هذه الكلمة تستعمل فيما إذا فوجئ الإنسان بغتة -

ص: 35


1- . مسند أحمد: 84/1 (مسند عليّ)
2- . لاحظ: الغدير: 308/1.

بأمر لم يتوقعه - ومعنى الفقرة: أي ما أفزعني شيء بعد ذلك السكون الذي كان عندي، إلّاوقوع ما وقع من انثيال الناس. فأي كلمة أوضح من عدم رضا الإمام بهذا الانثيال؟

ثمّ إنّ الإمام لم يذكر اسم من انثال الناس عليه بل عبّر عنه بفلان، وهذا أيضاً شاهد آخر على عدم رضاه بذلك.

ثمّ إنّ انثيال الناس على بيعة أبي بكر، لم يكن أمراً طبيعياً، ولم يتمّ إلّابعد شجار ونزاع بين المهاجرين والأنصار، ثمّ بين الأوس والخزرج من الأنصار، فعلى القارئ الكريم أن يطّلع على ما جرى في سقيفة بني ساعدة في ذلك اليوم من كلمات ولطمات وضربات، فصارت نتيجة ذلك تغلُّب طائفة على أُخرى، فمَن أراد أن يقف على ما جرىٰ في السقيفة من الحوادث المرّة فعليه أن يقرأ ما روي منها في «تاريخ الطبري» و «السيرة النبوية لابن هشام»، ولا يسع المقام أن نذكر نصوص كلماتهما، وإنّما نشير إلى بعضها.

الحوادث المرّة في بيعة السقيفة

قال ابن هشام - ناقلاً عن عُمر -:... فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمّل، فقلت:

من هذا؟ قالوا: سعد بن عُبادة، فلما جلسنا تشهّد خطيبهم ثم قال:

أمّا بعد، فنحن أنصار اللّٰه وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا، وقد دفّت دافة من قومكم، يريدون أن يحتازونا من أصلنا

ص: 36

ويغصبونا الأمر... إلى أن قال: فلمّا سكت تكلّم أبو بكر وقال: أمّا ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم أهل له ولم تعرف العرب هذا الأمر إلّالهذا الحيّ من قريش، هم أوساط العرب نسباً وداراً وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين (عُمر، وأبو عبيدة الجراح) فبايعوا أيّهما شئتم.

إلى أن قال: قال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المُحكَّك وعُذيقها المُرجّب، منا أمير ومنكم أمير، يا معشر قريش، قال: فكثر اللغط وارتفعت الأصوات، إلى أن قال: فقال عمر لأبي بكر: ابسط يدك لأبايعك، فبسط يده فبايعته، ثم بايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار.

ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة، فقلت (عمر): قتل اللّٰه سعد بن عبادة.

هذا ما يذكره ابن هشام في السيرة النبوية(1)، وقد حذف كثيراً ممّا نقله الطبري في تاريخه!!

ثمّ إنّ قيس بن سعد لمّا رأى أنّ أباه قد وقع في ورطة الهون يُنزى عليه، أخذ بلحية عُمر قائلاً: واللّٰه لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة، أو: لو خفضت منه شعرة ما رجعت وفيك جارحة.(2)

ص: 37


1- . السيرة النبوية: 659/2-660.
2- . تاريخ الطبري: 222/3، حوادث سنة 11 ه.

ثمّ إنّ الحوادث المرّة لم تتوقّف عند هذا الحدّ، بل تلتها حوادث مخزية أُخرى، نشير إلى شيء منها إجمالاً وهي أنّ جمعاً من المهاجرين تحصّنوا في بيت علي عليه السلام لائذين بدار النبوة رافضين البيعة. وعندئذٍ بعث إليهم أبو بكر عمرَ بن الخطاب وقال له: إن أبَوا فقاتلهم، فأقبل عمر بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار، فلقيته فاطمة فقالت: «يابن الخطّاب أجئت لتحرق دارنا» قال: نعم، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأُمّة.(1)

وهذا هو الذي يصفه الكاتب بالانتخاب الحرّ!!!

وقد أدرج تلك القصة شاعر النيل في القصيدة العمرية تحت عنوان (عمر وعلي)، قال:

وقولة لعليٍّ قالها عُمرُ *** أكرم بسامعها أعظم بملقيها

حرّقتُ دارك لا أُبقي عليك بها *** إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها

ما كان غير أبي حفصٍ يفوهُ بها *** أمامَ فارس عدنان وحاميها(2)

أفيصح أن يوصف هذا النوع من البيعة بأنّه بيعة حُرّة وليس

ص: 38


1- . العقد الفريد: 250/2؛ تاريخ أبي الفداء: 156/1؛ بلاغات النساء: 1207/3.
2- . ديوان حافظ إبراهيم المصري: 82.

على رؤوس المسلمين سيف؟!

وبما أنّ دراسة ما وقع في السّقيفة وما بعدها من الحوادث يوجب إطالة الكلام، لذا نجعجع بالقلم عن الإفاضة.

***

الشبهة الثالثة

اشارة

قال الكاتب: وفي وصية من وصاياه يقول: «هٰذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللّٰهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَالِهِ، ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللّٰهِ، لِيُولِجَهُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَيُعْطِيَهُ بِهِ الْأَمَنَةَ (الأمنيّه). منها: فَإِنَّهُ يَقُومُ بِذٰلِكَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يَأْكُلُ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيُنْفِقُ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِنْ حَدَثَ بِحَسَنٍ حَدَثٌ وَحُسَيْنٌ حَيٌّ، قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ، وَأَصْدَرَهُ مَصْدَرَهُ.

وَإِنَّ لِابْنَيْ فَاطِمَةَ مِنْ صَدَقَةِ عَلِيٍّ مِثْلَ الَّذِي لِبَنِي عَلِيٍّ، وَ إِنِّي إِنَّمَا جَعَلْتُ الْقِيَامَ بِذٰلِكَ إِلَىٰ ابْنَيْ فَاطِمَةَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللّٰهِ، وَقُرْبَةً إِلَىٰ رَسُولِ اللّٰهِ صلى الله عليه و آله و سلم، وَتَكْرِيماً لِحُرْمَتِهِ، وَتَشْرِيفاً لِوُصْلَتِهِ. وَيَشْتَرِطُ عَلَىٰ الَّذِي...».(1)

ثم قال:

أ. لم يفرّق في قضية الصدقة بين بنيه كلّهم: لا الحسنين ولا

ص: 39


1- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 24.

غيرهم! هذا أوّلاً.

ب. أمّا الأمر الآخر المهم، فهو قوله: إنّه جعل القيام لابني فاطمة، لا لنص في الولاية والإمامة، كلا. بل ابتغاء وجه اللّٰه.(1)

والجواب: أمّا عن الأمر الأوّل: فإنّه وإن سوّى بين ابني فاطمة وغيرهما في الصدقة، ولكنّه جعل التولية لابني فاطمة وعلله بقوله: «ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللّٰهِ، وَقُرْبَةً إِلَىٰ رَسُولِ اللّٰهِ صلى الله عليه و آله و سلم، وَتَكْرِيماً لِحُرْمَتِهِ، وَتَشْرِيفاً لِوُصْلَتِهِ» وفي تعليله عليه السلام إشارة إلى امتيازهم عن سائر أبناء علي عليه السلام.

في كلام الإمام ازراء بمَن صرف الأمر عن أهل البيت

وفي كلامه عليه السلام إشارة رمز وإزراء بمن صرف الأمر عن أهل بيت رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم مع وجود من يصلح للأمر، أي كان الأليق بالمسلمين والأَولى أن يجعلوا الرياسة بعده لأهله قربة إلى رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم وتكريماً لحرمته وطاعة له. فالفقرة على خلاف المقصود أدلّ.

وعن الثاني أنّ لكلّ كلام مقاماً ولكلّ مقام مقالاً، فليس الإمام بصدد بيان إمرته وخلافته أو إمرة أولاده وخلافتهم حتى يستدلّ بالنص، بل بصدد بيان السبب الذي دعاه إلى جعل تولية الصدقة

ص: 40


1- . قراءة راشدة: 11.

لابني فاطمة، وعلّله بما ذكره، فليس المقام لبيان كونه منصوصاً للإمامة وكون ابنيه منصوبين لها حتى يعتمد عليه.

ثمّ إنّ في كلام الكاتب شيئاً، يقول: وهذه وصيّة، والوصية تكون آخر ما ينطق به الرجل لأهل بيته، ولا يجوز تأخير البيان.(1) لا أظن أنّ هذا الكلام يحتاج إلى الردّ فإنّ الوصية لا يشترط فيها أن يكون الموصي قد قرب من أجله، فقد ورد في السنّة الشريفة قوله صلى الله عليه و آله و سلم:

«ما حقّ امرئ مسلم أن يبيت ليلتين وله شيء يوصي فيه، إلّاووصيته مكتوبة عنده».(2)

***

الشبهة الرابعة

اشارة

قال الكاتب: قال الإمام علي رضى الله عنه: «ثُمَّ جَعَلَ - سُبْحٰانَهُ - مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَىٰ بَعْضٍ، فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأُ فِي وُجُوهِهَا، وَيُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً، وَلَا يُسْتَوْجَبُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ.

وَأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ - سُبْحٰانَهُ - مِنْ تِلكَ الْحُقُوقِ حَقُّ الْوَالِي عَلَىٰ الرَّعِيَّةِ، وَحَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَىٰ الْوَالِي، فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللّٰهُ - سُبْحٰانَهُ - لِكُلٍّ عَلَىٰ كُلٍّ، فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ، وَعِزّاً لِدِينِهِمْ. فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ

ص: 41


1- . قراءة راشدة: 12.
2- . مسند أحمد: 10/2؛ سنن ابن ماجة: 901/2.

إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلاَةِ، وَلَا تَصْلُحُ الْوُلاَةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ، فَإِذَا أَدَّتِ الرَّعِيَّةُ إِلَىٰ الْوَالِي حَقَّهُ، وَأَدَّىٰ الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ، وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ، وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ، وَجَرَتْ عَلَىٰ أَذْلاَلِهَا السُّنَنُ، فَصَلَحَ بِذٰلِكَ الزَّمَانُ، وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ، وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الْأَعْدَاءِ».(1)

ثم قال الكاتب: يُستفاد من كلام الإمام أنّ الوالي أو الخليفة أو المنصّب لحكم الناس إنّما هو إنسان ليس معصوماً لأنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام ربط صلاح الوالي بصلاح رعيته، فلو كان النصّ كانت العصمة، فلا يكون للكلام معنى حينئذٍ.(2)

الجواب: إنّ الكاتب تصوّر أنّ في صحيفة الوجود - على القول بالنص في أمر الولاية والخلافة - والياً واحداً معصوماً من كلّ ريب وشين، فرتّب على ذلك قوله: فإذا كان الوالي إنساناً معصوماً لا يكون لكلامه عليه السلام حينئذٍ معنى، ولكنّه غفل عن أنّ الإمام يتكلّم عن كلّ نظام خاضع للقانون سواء أكان على رأسه إمام معصوم أم غير معصوم، فهو لا يستقيم إلّاإذا كانت بين الوالي والناس حقوق متبادلة، كما يقول: «فَإِذَا أَدَّتِ الرَّعِيَّةُ إِلَىٰ الْوَالِي حَقَّهُ، وَأَدَّىٰ الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا عَزَّ

ص: 42


1- . نهج البلاغة: الخطبة 216.
2- . قراءة راشدة: 12-13.

الْحَقُّ بَيْنَهُمْ، وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ، وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ، وَجَرَتْ عَلَىٰ أَذْلَالِهَا السُّنَنُ، فَصَلَحَ بِذٰلِكَ الزَّمَانُ، وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ، وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الْأَعْدَاءِ».

كلام الإمام بيان رسميّ للدول كلّها

إنّ كلام الإمام عليه السلام بيان رسمي عالمي للدول كلّها من غير نظر إلى أن يكون على رأس الدولة إمام معصوم أو غير معصوم.

نفترض أنّ دولة على رأسها إمام معصوم ولكن هل يصلح المجتمع بوجود ذلك المعصوم، مع أنّ ولاة أمره على الأمصار والأقطار غير مطيعين له؟ ونحن نرى أنّه عليه السلام كان يشتكي من عدد من ولاته الذين نصبهم لولاية الأمر.

هذا كتابه لابن حنيف، قال: «أَمَّا بَعْدُ، يَابْنَ حُنَيْفٍ! فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلاً مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إِلَىٰ مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا تُسْتَطَابُ لَكَ الْأَلْوَانُ، وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ. وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلَىٰ طَعَامِ قَوْمٍ، عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ، وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ. فَانْظُرْ إِلَىٰ مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هٰذَا الْمَقْضَمِ، فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ، وَمَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ».(1)

وفي كتاب له إلى زياد بن أبيه - وهو خليفة عامله عبد اللّٰه بن

ص: 43


1- . نهج البلاغة: قسم الرسائل برقم 45.

عباس على البصرة - قال: «وَإِنِّي أُقْسِمُ بِاللّٰهِ قَسَماً صَادِقاً، لَئِنْ بَلَغَنِي أَنَّكَ خُنْتَ مِنْ فَيْ ءِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئاً صَغِيراً أَوْ كَبِيراً، لَأَشُدَّنَّ عَلَيْكَ شَدَّةً تَدَعُكَ قَلِيلَ الْوَفْرِ، ثَقِيلَ الظَّهْرِ، ضَئِيلَ الْأَمْرِ، وَالسَّلاٰم».(1)

ثمّ إنّ الكاتب استشهد على مرامه - عدم النص على الإمامة - بقول الإمام عليه السلام: «وَإِنَّهُ لَابُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ، وَيَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ،...»(2).

الجواب: إنّ الكاتب لم ينقل كلام الإمام على وجهه التام، فإنّ كلامه عليه السلام كان موجّهاً للخوارج لمّا سمع قولهم: «لا حكم إلّاللّٰه»، فعندئذٍ قال: «كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ! نَعَمْ إِنَّهُ لَاحُكْمَ إِلَّا لِلّٰهِ.

وَلٰكِنَّ هٰؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لَاإِمْرَةَ إِلَّا لِلّٰهِ. وَإِنَّهُ لَابُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ».

فإنّ الإمام عليه السلام بصدد نقد قول الخوارج، الذين يرفضون وجود أي حاكم منصوص أو مختار، برّ أو فاجر، فبيّن الإمام عليه السلام أنّ المجتمع بحاجة إلى حاكم، وأنّ وجود حاكم جائر أفضل للمجتمع من عدم وجوده، حيث ينجر الأمر إلى الفوضى، وليس الإمام في مقام بيان شروط الخلافة عن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم حتى يستدل بالنص.

ص: 44


1- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 20.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 40.

ولعمر الحقّ أني لفي عجب شديد من استدلال الكاتب بوجوه لا صلة لها بما يرتئيه!!

***

الشبهة الخامسة

اشارة

قال الكاتب: وفي كلام له وجّهه إلى طلحة والزبير، بعد بيعتهما له بالخلافة: «لَقَدْ نَقَمْتُمَا يَسِيراً، وَأَرْجَأْتُمَا كَثِيراً. أَلَا تُخْبِرَانِي، أَيُّ شَيْ ءٍ كَانَ لَكُمَا فِيهِ حَقٌّ دَفَعْتُكُمَا عَنْهُ؟ أَمْ أَيُّ قَسْمٍ اسْتَأْثَرْتُ عَلَيْكُمَا بِهِ؟ أَمْ أَيُّ حَقٍّ رَفَعَهُ إِلَيَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ضَعُفْتُ عَنْهُ، أَمْ جَهِلْتُهُ، أَمْ أَخْطَأْتُ بَابَهُ! وَاللّٰهِ مَا كَانَتْ لِي فِي الْخِلَافَةِ رَغْبَةٌ، وَلَا فِي الْوِلاَيَةِ إِرْبَةٌ، وَلٰكِنَّكُمْ دَعَوْتُمُونِي إِلَيْهَا، وَحَمَلْتُمُونِي عَلَيْهَا، فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَيَّ نَظَرْتُ إِلَىٰ كِتَابِ اللّٰهِ وَمَا وَضَعَ لَنَا، وَأَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِهِ فَاتَّبَعْتُهُ، وَمَا اسْتَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله و سلم فَاقْتَدَيْتُهُ، فَلَمْ أَحْتَجْ فِي ذٰلِكَ إِلَىٰ رَأْيِكُمَا، وَلَا رَأْيِ غَيْرِكُمَا، وَلَا وَقَعَ حُكْمٌ جَهِلْتُهُ، فَأَسْتَشِيرَكُمَا وَإِخْوَانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلَوْ كَانَ ذٰلِكَ لَمْ أَرْغَبْ عَنْكُمَا، وَلَا عَنْ غَيْرِكُمَا. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمَا مِنْ أَمْرِ الْأُسْوَةِ، فَإِنَّ ذٰلِكَ أَمْرٌ لَمْ أَحْكُمْ أَنَا فِيهِ بَرَأْيِي، وَلَا وَلِيتُهُ هَوًى مِنِّي، بَلْ وَجَدْتُ أَنَا وَأَنْتَُما مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللّٰهِ صلى الله عليه و آله و سلم قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَيْكُمَا فِيَما قَدْ فَرَغَ اللّٰهُ مِنْ قَسْمِهِ، وَأَمْضَىٰ فِيهِ حُكْمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمَا، وَاللّٰهِ، عِنْدِي وَلَا لِغَيْرِكُمَا فِي هٰذَا عُتْبَىٰ. أَخَذَ اللّٰهُ بِقُلُوبِنَا

ص: 45

وَقُلُوبِكُمْ إِلَىٰ الْحَقِّ، وَأَلْهَمَنَا وَإِيَّاكُمُ الصَّبْرَ».(1)

أقول: استنبط الكاتب من هذه الخطبة أُموراً تؤيد - حسب نظره - موقفه، وقال:

أ. هنا يقول الإمام لطلحة والزبير: «أَلَا تُخْبِرَانِي...» ولم يقل لهما:

إنّكما تعلمان أنّ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم أخبر بتوليتي، ولم يورد أيّ أثر حول الإمامة واستحقاقه لها نصّاً.(2)

عدم وقوف الكاتب على مقصود الإمام من الاجابة

الجواب: إنّ الكاتب غفل أو تغافل عن موقف الخطبة وعن اعتراض الزبير وطلحة، وجواب الإمام لهما، فقد اعترضا عليه عليه السلام بأنّه ساوى بينهما وغيرهما في العطاء من بيت المال، وكانا يقولان:

ولّ أحدنا البصرة، والآخر الكوفة. فصار الإمام في موضع الإجابة عن اعتراضهما فقال: «أَلَا تُخْبِرَانِي، أَيُّ شَيْ ءٍ كَانَ لَكُمَا فِيهِ حَقٌّ دَفَعْتُكُمَا عَنْهُ؟ أَمْ أَيُّ قَسْمٍ اسْتَأْثَرْتُ عَلَيْكُمَا بِهِ؟».

فالاعتراض والدفاع يكونان مركّزين على ادّعائهما أنّ الإمام منعهما من حقّهما، وكان جواب الإمام أنّه لم يمنعهما من حقّ ثابت لهما.

ص: 46


1- . نهج البلاغة: الخطبة 205.
2- . قراءة راشدة: 14.

وأمّا أنّ الإمام منصوص عليه بالإمامة من جانب اللّٰه أو من جانب الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، فلم يكن موضع البحث والنزاع حتى يستدلّ الإمام بوجود النصّ.

ب. ثمّ إذا كان هناك نصّ فكيف يتخلّف عنه الإمام؟ كان يجب أن يسارع في التصدّي لأمر الخلافة، لا أن يقول: «واللّٰه ما كانت لي في الخلافة... غيركما»، فلم يكن منه قبول الخلافة إلّابعد دعوة الناس له وحمله عليها.(1)

ما هو السبب لرفض الإمام بيعة الناس له؟

الجواب: إنّ الخلافة الواقعية المنصوص عليها من اللّٰه سبحانه كانت موضع رغبة للإمام عليه السلام وهو لم يرفضها عبر حياته، وإنّما رفض الحكومة الظاهرية التي يمنحها الناس له، فهذه هي التي يصفها الإمام بقوله: «وَاللّٰهِ مَا كَانَتْ لِي فِي الْخِلَافَةِ رَغْبَةٌ، وَلَا فِي الْوِلاَيَةِ إِرْبَةٌ، وَلٰكِنَّكُمْ دَعَوْتُمُونِي إِلَيْهَا، وَحَمَلْتُمُونِي عَلَيْهَا» فهذه هي التي لم تكن للإمام فيها رغبة ولا إربة، ولكنّه لما تمّت الحجّة على الإمام بأنّ الواجب الشرعي في هذه الفترة التي قتل فيها عثمان واجتمع الناس حوله، أن يجيب دعوة الناس لئلا ينثلم الأمر ويتوسّع الخلاف والشقاق في الأُمّة، قام بأمر الخلافة وقبلها.

ص: 47


1- . قراءة راشدة: 14.

ويشهد على ما ذكرنا أنّهم لمّا اجتمعوا حوله في بيته قال:

«دَعُونِي وَالَْتمِسُوا غَيْرِي؛ فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَأَلْوَانٌ؛ لَا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ» فهذا هو الذي أعرض عنه الإمام، لكن واجهه كلام القوم حيث قالوا له: ننشدك اللّٰه! ألاترى الفتنة! ألا ترىٰ إلى ما حدث في الإسلام! ألا تخاف اللّٰه!

فعند ذلك أجاب الإمام دعوتهم قائلاً: قد أجبتكم لما أرى منكم... - حتى أكّدوا على ذلك - وقالوا: ما نحن بمفارقيك حتى نبايعك.(1)

ج. ثمّ هنا يضع لنا حقيقة ناصعة، وهي: أنّ المسلم، والحاكم على وجه خاص، عليه النظر في الكتاب والسنّة.(2)

الجواب: ماذا يُريد من هذه الكلمة، فأي مسلم ينكر تلك الحقيقة الناصعة حتى يجعلها الكاتب في عداد الاعتراضات.

د. ثمّ هو عليه السلام يقول: «فَلَمْ أَحْتَجْ فِي ذٰلِكَ إِلَىٰ رَأْيِكُمَا، وَلَا رَأْيِ غَيْرِكُمَا، وَلَا وَقَعَ حُكْمٌ جَهِلْتُهُ، فَأَسْتَشِيرَكُمَا وَإِخْوَانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلَوْ كَانَ ذٰلِكَ لَمْ أَرْغَبْ عَنْكُمَا، وَلَا عَنْ غَيْرِكُمَا»، لم يحتج إلى آراء الصحابة، لأنّ عنده من نصوص الكتاب والسنّة ما أغناه عن آراء

ص: 48


1- . تاريخ الطبري: 152/5.
2- . قراءة راشدة: 14-15.

الرجال، ولو وقع حكم لم يعلمه لاستشار المسلمين، ممّا يدلّ على نفي العصمة والإمامة عنه.(1)

ما هو المراد من قول الإمام «لم أرغب عنكما»؟

الجواب: إنّ قوله عليه السلام: «فَلَمْ أَحْتَجْ فِي ذٰلِكَ إِلَىٰ رَأْيِكُمَا، وَلَا رَأْيِ غَيْرِكُمَا» إلى أن قال: «وَلَوْ كَانَ ذٰلِكَ لَمْ أَرْغَبْ عَنْكُمَا، وَلَا عَنْ غَيْرِكُمَا» كلام صادر عن الإمام عليه السلام لأجل تلطيف قلوبهما وردعهما عن الخروج عليه، والقضية الشرطية (ولو كان ذلك) لا تلازم تحقّق الشرط كقوله سبحانه: (لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا) .(2)

على أنّ موضع السؤال إنّما هو عن الموضوعات لا الأحكام، ولوكانت الاستشارة فيها دليلٌ على عدم العصمة فالنبي صلى الله عليه و آله و سلم أَولى أن يُتّهم به، لأنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يستشير أصحابه في غير مورد من الموارد امتثالاً لقوله سبحانه: (وَ شٰاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ...) .(3)

ه. ثم انظر إلى دعائه في ختام الكلمة تدرك أن الرجل غير معصوم.(4)

الجواب: إنّ دعاء الإمام عبارة عن قوله: «أَخَذَ اللّٰهُ بِقُلُوبِنَا

ص: 49


1- . قراءة راشدة: 15.
2- . الأنبياء: 22.
3- . آل عمران: 159.
4- . قراءة راشدة: 15.

وَقُلُوبِكُمْ إِلَىٰ الْحَقِّ، وَأَلْهَمَنَا وِإِيَّاكُمُ الصَّبْرَ!»، وهو لم يدعُ بهذا الدعاء إلّا لأجل تليين قلبي الشيخين وإنّما عطف نفسه عليهما تلطّفاً وعرفاناً.

على أنّه لو كان هذا الدعاء دليلاً على عدم العصمة، لشمل إبراهيم الخليل ويوسف الصدّيق عليهما السلام حيث إنّهما دعوا اللّٰه تعالى بأن يكونا من الصالحين، كما في قوله تعالى: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصّٰالِحِينَ) (1)، وقوله سبحانه: (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصّٰالِحِينَ) .(2)

كما أنّ المسلمين كافّة والنبي خاصّة يطلبون الهداية فيقولون: (اِهْدِنَا اَلصِّرٰاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ) . على أنّ الإنسان بحاجة إلى تسديد اللّٰه سبحانه عبر حياته من غير فرق بين المعصوم وغيره. ويكفي في الدلالة عليه أدعية الأنبياء الواردة في القرآن الكريم، قال النبي يوسف: (رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّٰا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلاّٰ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ) .(3)

إلى غير ذلك من الأدعية التي أُمر بها النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو المسلمون عامّة في كتاب اللّٰه العزيز.

***

ص: 50


1- . الشعراء: 83.
2- . يوسف: 101.
3- . يوسف: 33.

الشبهة السادسة

اشارة

«أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِهٰذَا الْأَمْرِ أَقْوَاهُمْ عَلَيْهِ، وَأَعْلَمُهُمْ بِأَمْرِ اللّٰهِ فِيهِ. فَإِنْ شَغَبَ شَاغِبٌ اسْتُعْتِبَ، فَإِنْ أَبَىٰ قُوتِلَ. وَلَعَمْرِي، لَئِنْ كَانَتِ الْإِمَامَةُ لاَ تَنْعَقِدُ حَتَّىٰ يَحْضُرَهَا عَامَّةُ النَّاسِ، فَمَا إِلَىٰ ذٰلِكَ سَبِيلٌ، وَلٰكِنْ أَهْلُهَا يَحْكُمُونَ عَلَىٰ مَنْ غَابَ عَنْهَا، ثُمَّ لَيْسَ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَرْجِعَ، وَلَا لِلْغَائِبِ أَنْ يَخْتَارَ. أَلَا وَإِنِّي أُقَاتِلُ رَجُلَيْنِ: رَجُلاً ادَّعَىٰ مَا لَيْسَ لَهُ، وَآخَرَ مَنَعَ الَّذِي عَلَيْهِ».(1)

وبعد أن أورد الكاتب هذا النص من الخطبة - بلا مقدّمة - قال: أُريد من القارئ أن ينعم النظر في هذا الكلام، ما معنى «أَحَقَّ النَّاسِ بِهٰذَا الْأَمْرِ أَقْوَاهُمْ عَلَيْهِ»؟ ويجب أن نعلم بأنّ الخطبة أمام حشود من الناس، (هذا الأمر) يعني أمر الخلافة والإمامة والحكم، لم يقل: من نصّ عليه، وهم الأئمة الأطهار آل بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم.(2)

احتجاج الإمام جدال بالأحسن

الجواب: لقد أمر اللّٰه تعالىٰ المسلمين بأن يحتجّوا بأحد أُمور ثلاثة، وقال: (اُدْعُ إِلىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ

ص: 51


1- . نهج البلاغة: الخطبة 173.
2- . قراءة راشدة: 15.

وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) .(1)

والجدال عبارة عن الاحتجاج بمسلّمات الخصم، وقد ورد أمير البيان عليه السلام من هذا الباب محتجّاً على جماعة من المسلمين بأنّ الإمامة لا تنعقد إلّابالبيعة والاختيار، ولكنّهم كانوا يعترضون على خلافة عليٍّ بعدم مشاركة سائر المسلمين في البيعة كمعاوية وعمرو ابن العاص وأتباعهما فصار الإمام عليه السلام يحتجّ عليهم بمسلّماتهم، ويقول:

أوّلاً: إنّ الحجر الأساس للخلافة أمران:

1. أقواهم عليه.

2. وأعلمهم بأمر اللّٰه عليه.

فلو كنتم مسلِّمين بذينك الأمرين فأنا (أمير البيان عليه السلام) على رأس هذين الأمرين، فقد شهد تاريخ الإسلام على أنّه الأقوىٰ على تحمّل المسؤولية، كما شهدت القضايا والحوادث على أعلميته في عصر الخلفاء الثلاثة.

ثمّ أجاب عليه السلام عن مغالطتهم بقوله: «وَلَعَمْرِي، لَئِنْ كَانَتِ الْإِمَامَةُ لاَ تَنْعَقِدُ حَتَّىٰ يَحْضُرَهَا عَامَّةُ النَّاسِ، فَمَا إِلَىٰ ذٰلِكَ سَبِيلٌ، وَلٰكِنْ أَهْلُهَا يَحْكُمُونَ عَلَىٰ مَنْ غَابَ عَنْهَا» أي أهل المدينة يحكمون على أهل الشام الذين غابوا.

ص: 52


1- . النحل: 125.

ثم احتجّ على المتمرّدين على خلافته بقوله: «ثُمَّ لَيْسَ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَرْجِعَ، وَلَا لِلْغَائِبِ أَنْ يَخْتَارَ».

أقسم عليك باللّٰه أيّها القارئ، هل هذا الموضع يناسب أن يحتجّ الإمام بالنصّ عليه، حتى يشغب الشاغب بالإنكار، أو يناسبه الاحتجاج بمسلّمات القوم وبما يُتفق عليه من قبل الطرفين؟

وبذلك يُعلم أنّ كلام الإمام: «وَلَعَمْرِي، لَئِنْ كَانَتِ الْإِمَامَةُ لَا تَنْعَقِدُ حَتَّىٰ يَحْضُرَهَا عَامَّةُ النَّاسِ» استدلال على أساس الجدل لا على أساس البرهان.

فخرجنا في هذا الأصل بأنّ ما استدل به الكاتب من كلمات الإمام علي عليه السلام على عدم النص في المبحث الأوّل استنباط شخصي نابع عن عقيدة مسبقة، وناشئ عن عدم التأمّل في مواضع عديدة من كلام الإمام عليه السلام.

هداه اللّٰه وإيّانا إلى الصراط المستقيم.

تمّ الكلام في المبحث الأوّل، ويليه المبحث الثاني في العصمة.

***

ص: 53

المبحث الثاني: العصمة

اشارة

ابتدأ الكاتب هذا المبحث بقوله: المبحث الثاني: العصمة.

ثم قال: من العقائد الإسلامية في الأنبياء «العصمة» بحيث إنّ من نفاها عنهم يكفر، كما أنّها لا تثبت لغيرهم، وهذا عليّ رضى الله عنه ينفيها عن نفسه.(1)

ثمّ إنّ الكاتب استدلّ على ما يرتئيه بعدد من كلمات الإمام، نأت بها تباعاً:

الشبهة الأُولى

اشارة

1. يقول في دعاء له (كان يردّده كثيراً): «الْحَمْدُ لِلّٰهِ الَّذِي لَمْ يُصْبِحْ بِي مَيِّتاً وَلَا سَقِيماً، وَلَا مَضْرُوباً عَلَىٰ عُرُوقِي بِسُوءٍ، وَلَا مَأْخُوذاً بِأَسْوَأ عَمَلِي، وَلَا مَقْطُوعاً دَابِرِي، وَلَا مُرْتَدّاً عَنْ دِينِي، وَلَا مُنْكِراً لِرَبِّي، وَلَا مُسْتَوْحِشاً مِنْ إِيمَانِي، وَلَا مُلْتَبِساً عَقْلِي، وَلَا مُعَذَّباً

ص: 54


1- . قراءة راشدة: 17.

بِعَذَابِ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِي. أَصْبَحْتُ عَبْداً مَمْلُوكاً ظَالِماً لِنَفْسِي. لَكَ الْحُجَّةُ عَلَيَّ وَلَا حُجَّةَ لِي، وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ إِلَّا مَا أَعْطَيْتَنِي، وَلَا أَتَّقِيَ إِلَّا مَا وَقَيْتَنِي.

اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَفْتَقِرَ فِي غِنَاكَ، أَوْ أَضِلَّ فِي هُدَاكَ، أَوْ أُضَامَ فِي سُلْطَانِكَ، أَوْ أُضْطَهَدَ وَالْأَمْرُ لَكَ!

اللَّهُمَّ اجْعَلْ نَفْسِي أَوَّلَ كَرِيمَةٍ تَنْتَزِعُهَا مِنْ كَرَائِمِي، وَأَوَّلَ وَدِيعَةٍ تَرْتَجِعُهَا مِنْ وَدَائِعِ نِعَمِكَ عِنْدِي!

اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَذْهَبَ عَنْ قَوْلِكَ، أَوْ أَنْ نُفْتَتَنَ عَنْ دِينِكَ، أَوْ تَتَابَعَ بِنَا أَهْوَاؤُنَا دُونَ الْهُدَىٰ الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِكَ!».(1)

توضيح دعائه عليه السلام

أقول: إنّه عليه السلام حمد اللّٰه تعالى باعتبار ضروب من النعم اعترف بها وعدّ منها عشرة وهي الحياة والصحّة والسلامة إلى آخر ما ذكره.

ثمّ عقّب ذلك الحمد بالإقرار على نفسه بصفات الخضوع والذلّة لغاية استنزال الرحمة، وعدّ منها خمسة، وهي كونه عبداً مملوكاً للّٰه تعالى، ثمّ كونه ظالماً لنفسه، ثمّ كونه معترفاً بحجة اللّٰه عليه، ثمّ كونه معترفاً بعدم استطاعته أن يأخذ إلّاما سبب اللّٰه له الوصول إليه، وأنّه لا يقدر أن يتّقي من المضار إلّاما وقاه اللّٰه إيّاها.

ص: 55


1- . نهج البلاغة: قصار الحكم، برقم 206.

ثمّ إنّه وعد نفسه بهذه الإقرارات بقبول الرحمة من اللّٰه.

هذا حاصل دعائه. ثم إنّ الكاتب استدل على أنّه عليه السلام غير معصوم، بالفقرات التالية: 1. «اسوأ عملي». 2. «وظالماً لنفسي». 3.

«أضلّ في هداك». 4. «نذهب عن قولك». 5. «نفتتن عن دينك». 6.

«تتابع بنا أهواؤنا».

فاستنتج الكاتب من هذه العبارات أنّها تدلّ على الخضوع وعدم العصمة وخوف الذنب.(1)

الجواب: رفع الشبهة رهن بيان أمرين:

الأوّل: إنّ الإمام عليه السلام بصدد تنزيل الرحمة، ومن كان في هذا المقام يعظّم اللّٰه تبارك وتعالى أفضل تعظيم ويحقّر نفسه ويُذلّها حتى يستنزل بذلك رحمته وكرمه.

فما في كلام الكاتب حيث يقول تدلّ على الخضوع، صحيح، لكنّه ليس هذا من خصائص الإمام علي عليه السلام فقط؛ بل أنّ جميع الأنبياء والأولياء في أدعيتهم ومناجاتهم يجلّلون اللّٰه تبارك وتعالى وفي الوقت نفسه يخضعون للّٰه غاية الخضوع.

فالأنبياء والأولياء وغيرهم من الموجودات الإمكانية مصونون من الذنب والخطأ بعون وتسديد من اللّٰه سبحانه وعناية منه، ولو انقطعت الصلة بينهما لزالت العصمة عنهم.

ص: 56


1- . لاحظ: قراءة راشدة: 17.

هذا هو النبي يوسف الصدّيق عليه السلام يقول: (رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّٰا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلاّٰ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ) .(1)

وهذا هو كليم اللّٰه موسى بن عمران عليه السلام يقول: (رَبِّ إِنِّي لِمٰا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (2).

الإمام في مقام استنزال الرحمة وتعليم الناس

الثاني: إنّ الألفاظ التي استدلّ بها الكاتب على عدم العصمة لا تدلّ على شيء، لأنّه غفل عن أنّ المقام مقام استنزال الرحمة، أوّلاً، وتعليم الناس الدعاء ثانياً.

أمّا قوله عليه السلام: «وَلَا مَأْخُوذاً بِأَسْوَأ عَمَلِي» ففيه: إنّه إن دلّ على عدم العصمة لعمّت البلية ولزم أن يكون أشرف الأنبياء - نعوذ باللّٰه - غير معصوم لأنّه كان من دعائه صلى الله عليه و آله و سلم الاعتراف بسوء الأعمال.

فقد ورد في مستهل خطبة رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم يوم عرفة، قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «الحمد للّٰه نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ باللّٰه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا».(3)

كما أنّ خطباء الجمعة والجماعة كلّهم يفتتحون خطبهم بهذه

ص: 57


1- . يوسف: 33.
2- . القصص: 24.
3- . المناقب لابن المغازلي: 16؛ العمدة لابن البطريق: 104.

العبارة وأمثالها، فهل لنا أن نتّهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم والخطباء عامّة بالأعمال المسيئة، كما اتّهم الكاتب عليّاً بذلك؟!

ولو كان الكاتب عارفاً بمقامات الأنبياء والأولياء، وأنّهم يعدّون أعمالهم المباحة أو المكروهة، من سيئات أعمالهم - حيث أُثر عنهم قولهم: «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين» - لما جعل ذلك وسيلة للاتّهام بعدم العصمة.

وأمّا قوله: «ظَالِماً لِنَفْسِي» فقد اقتدى علي عليه السلام بكليم اللّٰه موسى عليه السلام حيث قال: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ) .(1)

فكم فرق بين ظلم النفس والظلم المتوجّه إلى اللّٰه، فالثاني عمل الفسّاق والعصاة، وأمّا الأوّل فهو منطق الأولياء حيث يعدّون ما كان غير حرام ظلماً على النفس، وإنقاصاً لها، والظلم في الآية وكلام الإمام عليه السلام بمعنى النقص الذي هو المعنى الأصلي للفظ. وأمّا قوله: «نفتتن عن دينك» أو «تتابع بنا أهواؤنا» فكلّ ذلك التجاء إلى اللّٰه سبحانه، فالأنبياء والأولياء معتصمون بحبل اللّٰه سبحانه في حياتهم الفردية والاجتماعية، فهم غير مستغنين عن توفيقات اللّٰه ونعمه. وعلى هذا فالمراد الافتتان بسبب النفس الأمّارة والالتجاء إلى اللّٰه منها هو شيمة الأنبياء، يقول يوسف عليه السلام: (وَ مٰا أُبَرِّئُ

ص: 58


1- . القصص: 16.

نَفْسِي إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمّٰارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّٰ مٰا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) .(1) وكذلك قوله تعالى - حكاية دعاء يوسف عليه السلام -: (وَ إِلاّٰ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ) (2).

وهذا هو نوح عليه السلام فإنّه بعد أن سأل اللّٰه عن سبب هلاك ابنه قائلاً:

(رَبِّ إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ اَلْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ اَلْحٰاكِمِينَ) ،(3) ردّ عليه سبحانه قائلاً: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) وعندئذٍ استشعر نوح أنّه صدر منه عمل - وهو نبي معصوم - يحتاج به إلى الاستغفار من اللّٰه تعالى: (قٰالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مٰا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ إِلاّٰ تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ) .(4)

وأخيراً نقول: إنّ العارف إذا أدرك ما للّٰه سبحانه من العظمة والجبروت وأدرك نعمه وكرمه عليه واستشعر أنّ ما قام به من الأعمال العبادية دون شأنه سبحانه، اعترف بقصوره قائلاً: «ما عبدناك حقّ عبادتك ولا عرفناك حقّ معرفتك» ودعاء علي عليه السلام دعاء عارف باللّٰه سبحانه مستغرق في جماله وجلاله، فالاستدلال في هذا المقام بهذه الكلمات نابع عن الغفلة عن موقف الأولياء عند الدعاء..

***

ص: 59


1- . يوسف: 53.
2- . يوسف: 33.
3- . نوح: 45.
4- . نوح: 47.

الشبهة الثانية

اشارة

ومن كلام له عليه السلام: «أَنْتُمُ الْأَنْصَارُ عَلَىٰ الْحَقِّ، وَالْإِخْوَانُ فِي الدِّينِ، وَالْجُنَنُ يَوْمَ الْبَأْسِ، وَالْبِطَانَةُ دُونَ (يوم) النَّاسِ، بِكُمْ أَضْرِبُ الْمُدْبِرَ، وَأَرْجُو طَاعَةَ الْمُقْبِلِ. فَأَعِينُونِي بِمُنَاصَحَةٍ خَلِيَّةٍ (جليّة) مِنَ الْغِشِّ، سَلِيمَةٍ مِنَ الرَّيْبِ؛ فَوَاللّٰهِ إِنِّي لَأَوْلَىٰ النَّاسِ بِالنَّاسِ!».(1)

فاستنتج الكاتب من كلامه هذا عدم عصمته قائلاً: المعصوم لا يحتاج إلى رأي الناس مادام مسدّداً من اللّٰه تعالى، بل أنّ هناك من ينفي مسألة الشورى، فهذا علي رضى الله عنه يقول: «فَأَعِينُونِي بِمُنَاصَحَةٍ خَلِيَّةٍ مِنَ الْغِشِّ، سَلِيمَةٍ مِنَ الرَّيْبِ؛ فَوَاللّٰهِ إِنِّي لَأَوْلَىٰ النَّاسِ بِالنَّاسِ!» وهل يطلب المعصوم النصيحة؟ وفوق ذلك يطلب منهم أن لا يغشّوه في مناصحة، لأنّه بشر قد يخدع بمناصحة الآخرين والمتظاهرين بالخير.(2)

الغاية من استشارة المعصوم تكريم الأُمّة

الجواب: إنّ استشارة الإمام المعصوم ليس بمعنى جهله بما هو الأصوب، بل الغاية منها ومن الاستماع إلى آرائهم هو تكريمهم، حتى يحمّلهم المسؤولية ويجعلهم مشتركين في اتّخاذ القرار،

ص: 60


1- . نهج البلاغة: الخطبة 118.
2- . قراءة راشدة: 17.

والدليل على ذلك أنّه قد قال هذا الكلام بعد فراغه من حرب الجمل، فصار المقام مستحقّاً لأن يثني عليهم ويجعلهم كالوزراء أو المستشارين لدولته...

ولو كان مثل هذا دليلاً على عدم العصمة، فيلزم - نعوذ باللّٰه - اتّهام النبي بذلك، حيث إنّه استشار في غير واحدة من الغزوات، منها استشارته في غزوة بدر، والأحزاب.

قال ابن هشام: وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم (إليه)، ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش، ثمّ إنّه استشار الأنصار قال: أشيروا علي أيّها الناس.(1)

أضف إلى ذلك: أنّ أصحاب العصمة يتعاملون مع الناس بمقتضى الظواهر لا بمقتضى العلم بالغيب، فإنّما يصدرون عنه في مواقع خاصّة، ولذلك يقول رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعتُ له من مال أخيه شيئاً، فإنّما قطعتُ له به قطعة من النار».(2)

***

ص: 61


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 614/2-615.
2- . الوسائل: 18، الباب 2 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1؛ مسند أحمد: 307/6، بمضمونه، وكذا في مجمع الزوائد: 198/4.

الشبهة الثالثة

اشارة

قال الكاتب: ثمّ انظر إلى دعائه الفذّ رضى الله عنه، وهو يسأل اللّٰه بقوله:

«وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ غَيْرَ خَزَايَا، وَلَا نَادِمِينَ، وَلَا نَاكِبِينَ، وَلَا نَاكِثِينَ، وَلَا ضَالِّينَ، وَلَا مُضِلِّينَ، وَلَا مَفْتُونِينَ».

مع أنّه من العشرة المبشّرين بالجنة، إلّاأنّه لم يتّكل على هذا، بل كان دائم الخوف من اللّٰه تعالى، فهو لا يأمن على نفسه الفتنة، لهذا يسأل اللّٰه تعالى الثبات في الأمر في هذا الدعاء.(1)

دعاؤه للجميع لا لنفسه وحده

الجواب: إنّ الكاتب لم ينقل كلام الإمام بتمامه، فإنّ كلامه في ذكر النبي صلى الله عليه و آله و سلم، حيث يدعو للنبي صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: «اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَهُ مَقْسَماً مِنْ عَدْلِكَ، وَاجْزِهِ مُضَعَّفَاتِ الْخَيْرِ مِنْ فَضْلِكَ. اللَّهُمَّ أَعْلِ عَلَىٰ بِنَاءِ الْبَانِينَ بِنَاءَهُ! وَأَكْرِمْ لَدَيْكَ نُزُلَهُ، وَشَرِّفْ عِنْدَكَ مَنْزِلَهُ، وَآتِهِ الْوَسِيلَةَ، وَأَعْطِهِ السَّنَاءَ وَالْفَضِيلَةَ، وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ غَيْرَ خَزَايَا، وَلَا نَادِمِينَ، وَلَا نَاكِبِينَ، وَلَا نَاكِثِينَ، وَلَا ضَالِّينَ، وَلَا مُضِلِّينَ، وَلَا مَفْتُونِينَ».(2)

قوله عليه السلام: خزايا: جمع خزيان وهو الخجِل المستحيي، مثل:

ص: 62


1- . قراءة راشدة: 18.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 106.

سكران وسكارىٰ.

ناكبين: أي عادلين عن الطريق.

ناكثين: ناقضين للعهد.

أمّا الدعاء فيشتمل على ذكر النبي صلى الله عليه و آله و سلم وتعظيمه، فيدلّ على إجلال عظيم وتبجيل شديد منه لرسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم، ولم ينقل عن أحد من الصحابة ما نُقل عنه عليه السلام في تكريم النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فعلي عليه السلام بعد أن مدح النبي صلى الله عليه و آله و سلم في كلامه ودعا له بقوله: «وَشَرِّفْ عِنْدَكَ مَنْزِلَهُ، وَآتِهِ الْوَسِيلَةَ، وَأَعْطِهِ السَّنَاءَ وَالْفَضِيلَةَ»، انتقل إلى الدعاء لنفسه ولسائر المسلمين، قائلاً: «وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ غَيْرَ خَزَايَا، وَلَا نَادِمِينَ، وَلَا نَاكِبِينَ، وَلَا نَاكِثِينَ، وَلَا ضَالِّينَ، وَلَا مُضِلِّينَ، وَلَا مَفْتُونِينَ».

فلو كان الدعاء لنفسه خاصّة، لكان لتوهُّم الكاتب محلّ، ولكنّه عليه السلام كان يدعو للجميع، ومن المعلوم أنّ الجميع لم يكن معصوماً من الزلّة والضلال.

على أنّ في كلامه تلويحاً إلى بعض معاصريه ممّن يدّعون أنّهم من أتباع النبي صلى الله عليه و آله و سلم بأنّهم كانوا على غير هذه الأوصاف، فمَن نظر إلى كلامه ولم يتّخذ موقفاً مسبقاً لأدرك أنّ الخطبة على خلاف ما يرتئيه الكاتب، أدلّ.

***

ص: 63

الشبهة الرابعة

اشارة

قال الكاتب: ثم هو يقول لأصحابه: «فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ، أَوْ مَشْوَرَةٍ بِعَدْلٍ، فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ، وَلَا آمَنُ ذٰلِكَ مِنْ فِعْلِي، إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللّٰهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي، فَإِنَّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لَارَبَّ غَيْرُهُ؛ يَمْلِكُ مِنَّا مَالَا نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا، وَأَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَىٰ مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ، فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَىٰ، وَأَعْطَانَا الْبَصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَىٰ».(1)

ثمّ إنّ الكاتب استدل بالفقرات التالية على عدم عصمة الإمام عليه السلام، وقال:

1. طلب الإمام من أصحابه بأن لا يبخلوا عليه بالمشورة، لأنّه إنسان يخطئ ويصيب.

2. قوله: «فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ، وَلَا آمَنُ ذٰلِكَ مِنْ فِعْلِي» فهذا نصّ على عدم عصمته.

3. قوله: «فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَىٰ، وَأَعْطَانَا الْبَصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَىٰ».(2)

الغاية من المشورة استقطاب عواطف الحاضرين في صفين

الجواب: أمّا الفقرة الأُولى فإنّ الإمام عليه السلام ألقىٰ هذه الخطبة

ص: 64


1- . نهج البلاغة: الخطبة 216.
2- . قراءة راشدة: 18-19.

بصفِّين وهو يواجه القاسطين، الجائرين، العادلين عن الحقّ، فمثل ذلك الموقع يقتضي المشورة (لا لأنّه إنسان يخطئ ويصيب)، وإنّما لاستقطاب عواطف أصحابه، فلو كانت المشورة دليلاً على عدم العصمة، فلازم ذلك - نعوذ باللّٰه - أن نتّهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعدمها.

والعجب أنّ الكاتب يعلّل المشورة بأنّه إنسان يخطئ ويصيب، مع أنّها إحدى العلل، ولكن في المقام علّة أُخرى أشرنا إليها، وهي أنّ المدير الناجح الذي يسعىٰ لتحقيق أهدافه السامية مع جماعات يرون لأنفسهم منزلة ومكانة فيها، لا يستغني عن التشاور معهم، حتّى يتعرّف على آرائهم فيزنها مع ما يحمله من الأفكار، وبذلك يستقطب عواطفهم وميولهم، لذلك أمر اللّٰه سبحانه رسوله صلى الله عليه و آله و سلم بالمشورة في مهامّ الأُمور من الموضوعات لا في الأحكام، وقد اقتفى وصيُّ الرسول إثر رسول اللّٰه.

وأمّا الجواب عن الفقرة الثانية، أعني قوله: «فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ، وَلَا آمَنُ ذٰلِكَ مِنْ فِعْلِي»، فالكاتب قصر نظره على المستثنى منه، وغفل أو تغافل أنّه استثنى ذلك وقال: «فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ، وَلَا آمَنُ ذٰلِكَ مِنْ فِعْلِي، إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللّٰهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي»، فالفقرة ابتداء وانتهاء تشير إلى ضابطة كلامية، هي أنّ الإنسان - بما هو إنسان - ليس بفوق أن يخطئ.

وهذه هي طبيعة الإنسان، لكنّه إذا شملته العناية الإلهية لا

ص: 65

يرتكب الخطأ والزلل، وبما أنّ الإمام قيّد كلامه بقوله: «إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللّٰهُ...» فهو دليل على أنّ اللّٰه سبحانه يصونه عن الخطأ والضلال.

ونظير ذلك قوله سبحانه - على لسان يوسف عليه السلام -: (وَ مٰا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمّٰارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّٰ مٰا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (1).

ونظيره أيضاً، قوله سبحانه: (وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهٰا لَوْ لاٰ أَنْ رَأىٰ بُرْهٰانَ رَبِّهِ) .(2)

فتقدير الآية -: لولا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها، ولكنّه رأى ولم يهمّ.

ثمّ إنّ الإمام عليه السلام يشير إلى ما ذكرنا في بعض خطبه، قال: «وَإِنِّي لَعَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، وَمِنْهَاجٍ مِنْ نَبِيِّي، وَإِنِّي لَعَلَىٰ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ أَلْقُطُهُ لَقْطاً».(3)

فالإمام مصون من الخطأ بعصمة من اللّٰه سبحانه.

وأمّا الجواب عن الفقرة الثالثة، أعني قوله: «فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَىٰ، وَأَعْطَانَا الْبَصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَىٰ».

ترىٰ أنّ الكاتب بتر كلام الإمام عليه السلام، وإليك نصّ خطبته، قال: «فَإِنَّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لَارَبَّ غَيْرُهُ؛ يَمْلِكُ مِنَّا مَا لَا

ص: 66


1- . يوسف: 53.
2- . يوسف: 24.
3- . نهج البلاغة: الخطبة 97.

نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا، وَأَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَىٰ مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ، فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَىٰ، وَأَعْطَانَا الْبَصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَىٰ».

ثمّ يظهر من صدر الخطبة أنّ جماعة من أصحابه كانوا يتكلمون معه بما يتكلّم العبيد مع الجبابرة، فنهاهم الإمام عليه السلام بقوله: «فَلَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، وَلَا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ، وَلَا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ، وَلَا تَظُنُّوا بِيَ اسْتِثْقَالاً فِي حَقٍّ قِيلَ لِي، وَلَا الِْتمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي، فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ، كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ. فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ، أَوْ مَشْوَرَةٍ بِعَدْلٍ، فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ، وَلَا آمَنُ ذٰلِكَ مِنْ فِعْلِي،... الخ».

فصار ذلك سبباً ليعدل عن كلامه هذا بقوله إنّه ومن معه عبيد مملوكون لربّ لا ربّ غيره، فالتكلُّم بما تُخاطب به الجبابرة على خلاف هذا الأصل لأنّ الجميع مربوبون.

ثمّ شرح عليه السلام أنّ ما لنا من النِّعم فهو من اللّٰه سبحانه، حيث قال:

«فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَىٰ، وَأَعْطَانَا الْبَصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَىٰ»، فهذه الفقرة تعبير عن قوله سبحانه: (إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا) فما سوى اللّٰه - حسب الطبيعة - كانوا في ضلالة فهداهم اللّٰه، وكانوا في عمى فأعطاهم البصيرة، من غير فرق بين المعصوم وغيره.

ص: 67

ومثل هذا الكلام الناظر إلى طبيعة الإنسان ونعم اللّٰه سبحانه عليه، لا يتعارض مع العصمة، فكافّة البشر من غير فرق بين نبيّ ووليّ وغيرهما محكومون بما ورد في كلام الإمام عليه السلام حسب طبيعة البشر.

ثمّ إنّ الذين يؤمنون باللّٰه ورسوله يخرجون من حكم الطبيعة حسب استحكام إيمانهم وطاعاتهم، وربما تشمل العناية الإلهية جماعة تبلغ بهم أعلى مراتب الكمال فيوصفون بالعصمة والطاعة الخالصة من دون أيّ اختلاف بين الحكمين.

***

الشبهة الخامسة

اشارة

قال الكاتب - في معرض استدلاله على نفي العصمة -: وكتب عهداً إلى بعض أصحابه جاء في آخره: «وَأَنَا أَسْأَلُ اللّٰهَ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ عَلَىٰ إِعْطَاءِ كُلِّ رَغْبَةٍ، أَنْ يُوَفِّقَنِي وَإِيَّاكَ لِمَا فِيهِ رِضَاهُ مِنَ الْإِقَامَةِ عَلَىٰ الْعُذْرِ الْوَاضِحِ إِلَيْهِ وَإِلَىٰ خَلْقِهِ، مَعَ حُسْنِ الثَّنَاءِ فِي الْعِبَادِ، وَجَمِيلِ الْأَثَرِ فِي الْبِلَادِ، وَتَمَامِ النِّعْمَةِ، وَتَضْعِيفِ الْكَرَامَةِ، وَأَنْ يَخْتِمَ لِي وَلَكَ بِالسَّعَادَةِ وَالشَّهَادَةِ، «إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» (راغبون).

وَالسَّلَامُ عَلَىٰ رَسُولِ اللّٰهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ».(1)

ص: 68


1- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 53.

وعلّق الكاتب على هذا الدعاء، بقوله: «وأن يختم لي ولك...»، فهو يدعو اللّٰه دعوة راغب راهب، لا معصوم لا يخطئ....(1)

اعتراف الإمام في مقام الابتهال لا ينافي عصمته

الجواب أوّلاً: إنّ الكاتب لمّا خلت يده من إقامة الدليل على عدم عصمة الإمام عليه السلام تمسّك بدعائه للّٰه تعالىٰ.

ومن المعلوم أنّ الأنبياء والأولياء يبتهلون إلى اللّٰه بعبارات التذلّل والمسكنة ولوم النفس، ويصوّرون أنفسهم بأنّ ما يقومون به من العبادات والطاعات غير لائق بساحته عزّ وجلّ، فهذا النوع من التعبير موجود في عامّة الأدعية، فكيف يجعله الكاتب دليلاً على عدم العصمة؟!

وثانياً: إنّ الكاتب لم يستقم تعبيره عن موضع الفقرة حيث قال: «وكتب عهداً إلىٰ بعض أصحابه»، والحقّ أنّه كتبه للأشتر النخعي رحمه الله لمّا ولّاه على مصر وأعمالها حين اضطرب أمر محمد بن أبي بكر، وهو أطول عهد وأجمع كتبه للمحاسن، وقد قصّر الكاتب في بيان موقع العهد.

يقول ابن أبي الحديد: الكتاب الذي كان معاوية ينظر فيه ويتعجّب منه ويفتي به ويقضي بقضاياه وأحكامه هو عهد علي عليه السلام

ص: 69


1- . قراءة راشدة: 19.

إلى الأشتر فإنّه نسيج وحده ومنه تعلّم الناس الآداب والقضايا والأحكام والسياسة، وهذا العهد صار إلى معاوية لمّا سمّ الأشتر، ومات قبل وصوله إلى مصر، فكان ينظر فيه ويعجب منه، وحقيق من مثله أن يقتنىٰ في خزائن الملوك. ثم نقل عن صاحب الغارات:

أنّه لمّا بلغ عليّاً عليه السلام أنّ ذلك الكتاب صار إلى معاوية اشتدّ عليه حزناً.(1)

وكفى عظمة لهذا العهد أنّ جمعية حقوق البشر التابعة لمنظمة الأُمم المتحدة قد اتّخذت هذا العهد كسند ووثيقة سياسية لتجعلها منهاجاً في قضاياها وأحكامها.

ص: 70


1- . شرح نهج البلاغة: 72/6-73.

الشبهة السادسة

اشارة

قال الرضي رحمه الله: ومن كتاب له عليه السلام إلى المنذر بن الجارود العبدي و [قد] خان في بعض ما ولّاه من أعماله، قال عليه السلام: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ صَلَاحَ أَبِيكَ غَرَّنِي مِنْكَ، وَظَنَنْتُ أَنَّكَ تَتَّبِعُ هَدْيَهُ، وَتَسْلُكَ سَبِيلَهُ، فَإِذَا أَنْتَ فِيَما رُقِّيَ إِلَيَّ عَنْكَ لَاتَدَعُ لِهَوَاكَ انْقِيَاداً، وَلَا تُبْقِي لِآخِرَتِكَ عَتَاداً.

تَعْمُرُ دُنْيَاكَ بِخَرَابِ آخِرَتِكَ، وَتَصِلُ عَشِيرَتَكَ بِقَطِيعَةِ دِينِكَ. وَلَئِنْ كَانَ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ حَقّاً، لَجَمَلُ أَهْلِكَ وَشِسْعُ نَعْلِكَ خَيْرٌ مِنْكَ، وَمَنْ كَانَ بِصِفَتِكَ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُسَدَّ بِهِ ثَغْرٌ، أَوْ يُنْفَذَ بِهِ أَمْرٌ، أَوْ يُعْلَىٰ لَهُ قَدْرٌ، أَوْ يُشْرَكَ فِي أَمَانَةٍ، أَوْ يُؤْمَنَ عَلَىٰ جِبَايَةٍ (خيانة). فَأَقْبِلْ إِلَيَّ حِينَ يَصِلُ إِلَيْكَ كِتَابِي هٰذَا، إِنْ شَاءَ اللّٰهُ».(1)

أقول: قبل الردّ على الشبهة لنتعرّف على الجارود، وعلىٰ ابنه هذا.

أمّا الوالد فهو من قبيلة عبد القيس، وقد وفد على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم سنة تسع، وقيل في سنة عشر، وسكن البصرة، وقُتل بأرض فارس أو بنهاوند، وذلك في سنة إحدى وعشرين. ولمّا قُبض رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم وارتدّت العرب خطب الجارود قومه فقال: أيّها الناس، إن كان محمد قد مات فإنّ اللّٰه حيّ لا يموت، فاستمسكوا بدينكم، ومن ذهب له في هذه الفتنة دينارٌ أو درهم أو بقرة أو شاةٌ، فعَليّ مثلاه، فما

ص: 71


1- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 71.

خالفه من عبد القيس أحد.(1)

وأمّا الولد فيكفي في حقّه قول الإمام علي عليه السلام: «إنه لنظّارٌ في عِطفيه، مختال في بُرْدَيْه، تَفّالٌ في شِرَاكَيْهِ».(2)

أمّا قوله: «نظّار في عطفيه» أي جانبيه ينظر تارة هكذا وتارة هكذا، كما يفعل أرباب الزَّهو، ومن يدّعي لنفسه الحسن والملاحة.

قوله: «مختال في بُرْدَيْه» أي يمشي الخيلاء عجباً.

قوله: «تَفّالٌ في شِرَاكَيْهِ» التفل - بالسكون - مصدر تفل: أي بصق، يُريد يتفل في شراكيه ويمسحهما ليعودا كالجديدين.

وقال شيخنا التستري في شرحه على نهج البلاغة في حقّ الولد:

وأمّا الولد فقد ولد في عهد رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم وشهد مع علي عليه السلام واقعة الجمل وولّاه اصطخر ثم عزله عنها، فمات في آخر سنة 61 ه، وكان المنذر متّهماً في دينه...(3)

إذا وقفت على حال الوالد والولد، فلندرس الشبهة التي ذكرها الكاتب.

قال الكتاب: يدلّ هذا الكتاب دلالة لا وجه معها أنّ عليّاً أخطأت فراسته في هذا الرجل، وخُدع لما رأى من هيئة الصلاح

ص: 72


1- . شرح نهج البلاغة: 57/18.
2- . نهج البلاغة: ذيل الرسالة رقم 71.
3- . مصادر نهج البلاغة: 470/3.

والوقار، وما ظن أنّه لأبيه مشابه، ولاجتهاده تابع، فتخلفت فراسته، وخدعه عقله، وخُدع كما يخدع أيّ إنسان مخلوق في هذه الحياة.(1)

المعصومون يتعاملون مع الناس حسب الظواهر

الجواب: إنّ الأنبياء والأولياء يتعاملون في حياتهم حسب الأمارات وظواهر الأشخاص، ولو أُمروا بالتعامل حسب الغيب لاختلّت الأُمور. وممّا يدلّ على ذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أرسل خالداً في سرية، وقد ارتكب هناك ما لا يرضاه اللّٰه ورسوله من الأُمور المنكرة، فلما اطّلع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على عمله قال: اللّهم إنّي أبرأ إليك ممّا فعله خالد.(2)

فهل يصحّ للكاتب أن يصف النبيَّ المعصوم صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: قد أخطأت فراسته، وخُدع كما يُخدع أيّ إنسان مخلوق في هذه الحياة.

والكاتب يزعم أنّ الأنبياء والأولياء والمحدَّثين من الأُمّة يجب عليهم تطبيق أعمالهم وفق ما يعلمون من الغيب!! ولو كان الأمر كذلك لاختلّت الحياة.

ثمّ إنّه ذَيّل كلامه بما في دعاء عليّ عليه السلام إذا مدحه قوم في

ص: 73


1- . قراءة راشدة: 19-20.
2- . صحيح البخاري: 67/4؛ مسند أحمد: 151/2.

وجهه: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَعْلَمُ بِي مِنْ نَفْسِي، وَأَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْهُمْ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا خَيْراً مِمَّا يَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لَنَا مَا لَايَعْلَمُونَ».(1)

قال: ولنسأل: ما معنى «خَيْراً مِمَّا يَظُنُّونَ»؟ وما هو الذي يطلب الإمام من ربّه أن يغفر له.(2)

أقول: قد وردت روايات كثيرة في كراهية مدح الإنسان في وجهه، وممّا ورد في ذمّ المدّاحين قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «احثوا التراب في وجه المدّاحين».(3)

وقد ورد في الحديث المرفوع قوله: «إذا مدحت أخاك في وجهه فكأنّما أمررت على حلقه موسى رَمِيضاً»(4) فالإمام عليه السلام نهى المادح لأنّه على خلاف السنّة.

وأمّا قوله: «اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا خَيْراً مِمَّا يَظُنُّونَ» فليس فيه أي ثغرة في كلامه، حيث يدعو لنفسه أكثر ممّا في أذهان الناس من المحاسن والفضائل.

وأمّا قوله عليه السلام: «وَاغْفِرْ لَنَا مَا لَايَعْلَمُونَ» فلا يُفهم منه عدم عصمته، بدليل أنّ الأنبياء كلّهم يستغفرون اللّٰه تبارك وتعالى.

ص: 74


1- . نهج البلاغة: قصار الحكم، برقم 100.
2- . قراءة راشدة: 20.
3- . كنز العمال: 574/3.
4- . الفائق في غريب الحديث: 88 (وفيه: هو فعيل بمعنىٰ مفعول، من رَمَض السِّكين يَرْمِضُه: إذا دقّه بين حجرين ليرقّ، ولذلك أوقعه صفة للمؤنث).

هذا كليم اللّٰه يقول: (رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنٰا فِي رَحْمَتِكَ) (1)، وهذا إبراهيم الخليل يقول: (رَبَّنَا اِغْفِرْ لِي وَ لِوٰالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْحِسٰابُ) .(2) وهذا النبيّ سليمان يقول: (رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لاٰ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) .(3)

وجه الاستغفار مع كونهم معصومين هو أنّهم يستصغرون طاعتهم وأعمالهم في جنب اللّٰه تعالىٰ، وكأنّهم لم يقوموا بشيء يليق بساحته، ولذلك عادوا يستغفرون، استغفار مستصغر لعبادته لا استغفار عاصٍ وطاغٍ، وقد روى القوم عن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم قوله: «إنّه ليُغان على قلبي وإنّي لأستغفر اللّٰه في اليوم مئة مرّة».(4)

استدلال الكاتب بأدعية الإمام عليه السلام في مواقف مختلفة

ثمّ إنّ الكاتب أتى بأدعية الإمام عليه السلام في بعض المقامات، وقال:

ومثله هذا الدعاء العظيم: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ تُحَسِّنَ فِي لَامِعَةِ الْعُيُونِ عَلَانِيَتِي، وَتُقَبِّحَ فِيَما أُبْطِنُ لَكَ سَرِيرَتِي، مُحَافِظاً عَلَىٰ رِيَاءِ النَّاسِ مِنْ نَفْسِي بِجَمِيعِ مَا أَنْتَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ مِنِّي، فَأُبْدِيَ لِلنَّاسِ حُسْنَ ظَاهِرِي، وَأُفْضِيَ إِلَيْكَ بِسُوءِ عَمَلِي، تَقَرُّباً إِلَىٰ عِبَادِكَ، وَتَبَاعُداً

ص: 75


1- . الأعراف: 151.
2- . إبراهيم: 41.
3- . ص: 35.
4- . صحيح مسلم: 72/8، وانظر: مسند أحمد: 260/4.

مِنْ مَرْضَاتِكَ».(1)

قوله: «لَامِعَةِ الْعُيُونِ»، إضافة الصفة إلى الموصوف أي العيون اللامعة.

قال الكاتب بعد أن أورد الدعاء المذكور: أرجو من القارئ أن يتأمّل!(2)

ونحن تأمّلنا في كلام الإمام، فلم نر فيه شيئاً ينافي عصمته، وذلك لأنّه عليه السلام بصدد ذمّ الرياء وأن يُظهر الإنسان من العبادة والفعل الجميل ما يُبطن غيره، ويقصد بذلك السُّمعة والصِّيت لا لوجه اللّٰه تعالى، وقد جاء في الخبر المرفوع: «إنّ أَخوَف ما أخاف عليكم الشِّرك الأصغر. قالوا: ما الشِّرك الأصغر يا رسول اللّٰه؟ قال: الرياء»(3)، فالإمام في حديثه هذا يذمّ المرائين لكن لا بلسانهم بل بلسان نفسه لئلّا يثير عواطفهم ضدّه، وهذا هو الرسم الدارج بين الحكماء والمصلحين إذا أرادوا تطهير المجتمع وتهذيب الأنفس من الرذائل، إذ يخاطبون أنفسهم حتى يتّعظ الآخرون. حاشا الإمام من فعل المرائين وأن يظهر للناس خلاف ما يبطن. والكاتب لم يقف على مقصد الإمام في كلامه هذا.

ص: 76


1- . نهج البلاغة: قصار الحكم برقم 276.
2- . قراءة راشدة: 20.
3- . مسند أحمد: 429/5.

ثمّ إنّ الكاتب يستدلّ على دعاويه بدعاء آخر، ويقول: ومثله: «مَا أَهَمَّنِي ذَنْبٌ أُمْهِلْتُ بَعْدَهُ حَتَّىٰ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَأَسْأَلَ اللّٰهَ الْعَافِيَةَ».(1). ثمّ يقول بعد أن ذكر الدعاء: أرجوك أخي القارئ! أن تتأمّل هذا الكلام وتُنزله منزلته من فعل الإمام، فالإمام بشر كسائر البشر، يهتم ويغتم ولا يدري ما يدار في هذا الكون، لأنّه لا يعلم الغيب.(2)

الجواب: لا يخفى أنّ ما استنتجه الكاتب من كلام الإمام عليه السلام لا صلة له بما أراد، فإنّ الإمام بصدد الدعوة إلى التوبة واجتناب التسويف، وهذا ببيان أنّ الذنوب على قسمين:

1. ذنب تتبعه التوبة بسرعة، حيث يصلّي العبد بعده ركعتين.

وهذا ما يصفه الإمام بقوله بأنّه لم يحزن بسببه، لأنّ الصلاة تكفّر الذنب.

2. ذنب يرتكبه الإنسان دون أن يعقبه بالتوبة والنَّدم. وهذا هو الذنب الذي يوجب القلق لأنّه لا يعلم متى يعاجله الموت وهو غير تائب.

باللّٰه عليك أيّها القارئ إذا كان الواعظ يتكلّم بهذا الكلام عند الوعظ، فهل يوصف بأنّه كان يرتكب هذين القسمين من الذنوب؟

ص: 77


1- . نهج البلاغة: قصار الحكم برقم 299.
2- . قراءة راشدة: 20-21.

ثمّ ماذا يريد الكاتب بقوله: الإمام بشر كسائر البشر... إلى آخر ما ذكر؟!

وفي كلام الإمام إشارة إلى قوله سبحانه: (إِنَّ اَلْحَسَنٰاتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئٰاتِ) (1)، فالصلاة بعد السيِّئة تذهب السيئة، والإمام عليه السلام بصدد إعطاء ضابطة لكلّ من يقترف السيِّئة إذا كانت له مهلة بمقدار ركعتين، أن لا ينقطع رجاؤه، أمّا إذا كان أكثر فليتقّ اللّٰه تعالىٰ.

ثمّ إنّ الإمام، وهو النموذج الأمثل والمعلم الأكمل، إنّما هو بصدد تأديب الناس وتهذيبهم بأن يسرعوا إلى التوبة ولا يجعلوا بين الذنب والتوبة أزيد من فواق ناقة أو أكثر من وقت ركعتين من الصلاة، والواعظ أو المؤدّب عندما يتكلّم يجب أن يتكلّم عن نفسه لئلّا يثير استياء الآخرين وتذمّرهم. والمهمّ في موقف الكاتب أنّه زعم أنّ الإمام إنسان كبقية الناس يُريد أن يخبر عن نفسه، وغفل عن أنّه جالس في منصّة الخطابة والتعليم، وهناك لا يؤاخذ الخطيب والمؤدّب بظاهر كلامه.

ثمّ إنّ قوله عليه السلام في ذيل الكلام «وَأَسْأَلَ اللّٰهَ الْعَافِيَةَ» ليس في أكثر النسخ، نعم هو موجود في نسخة ابن أبي الحديد، ولا عبرة بالنسخ المأخوذة منه.

وأسوأ من ذلك أنّه استدلّ على عدم العصمة بقول

ص: 78


1- . هود: 114.

الإمام عليه السلام: «وَأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ فَالْوَفَاءُ بِالْبَيْعَةِ، والنَّصِيْحَةُ فِي الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ».(1)

ولا أدري كيف يستدلّ بذلك؟ فإنّ صحابة الرجل تارة يكونون في حضرته ومشهده، وأُخرى يكونون بعيدين غائبين عنه، والإمام عليه السلام يقول يجب عليهم أن يخلصوا في عملهم سواء أكانوا في محضري أو بعيدين عنّي.

إلى هنا تمّ ما توهَّم من الشُّبه على عدم عصمة الإمام عليه السلام ثم إنّه انتقل إلى أمر آخر، زاعماً أنّه وقف على أكبر الدلائل وأعظمها على عدم العصمة، وهي الوصية التي كتبها الإمام عليه السلام لولده الحسن عليه السلام.

***

الشبهة السابعة

اشارة

قال الكاتب تحت عنوان الوصية: وهذه وصية مهمة يوصي بها عليّ ابنه الحسن، ولأهمّيتها أرجأتها إلى آخر كلامي حول العصمة.(2)

قبل أن نذكر المقاطع التي اختارها المؤلّف من الوصية، نتكلّم حول الوصية وأهميتها، فنقول: تُعدّ هذه الوصية أطول كتاب كتبه الإمام بعد العهد الذي كتبه للأشتر النخعيّ. وكان الإمام عليه السلام قد كتب

ص: 79


1- . نهج البلاغة: الخطبة 34.
2- . قراءة راشدة: 21.

وصيّته هذه ب «حاضرين» عند انصرافه من صفِّين. وبينما يقول الشريف الرضي رحمه الله أنّه كتب هذه الوصية لابنه الحسن عليه السلام(1) يذكر الشيخ الصدوق أنّه كتبها لابنه محمد ابن الحنفية.(2) ثمّ إنّ هذه الوصية ليست وصية عادية - سواء أكان المخاطب ابنه الإمام الطاهر الحسن أو ابنه الآخر محمد ابن الحنفية رحمه الله - يكتبها الموصي ليعمل بها الوصيّ بعد وفاته، بل هي في الحقيقة نفحات من الكلم الطيّب في العلم والدين والحكم والآداب والأخلاق والمعارف ودرر الكلم ولآلئ الحكم، ففيها منية المريد وبغية المحدّث ومأرب الواعظ الناصح، ونجعة المتكلّم المصلح، فكلّ يصدر من عين معين، والغاية تهذيب المجتمع نفساً وأخلاقاً.

ثمّ إنّ من السنن الحميدة للمصلحين أن يتّخذوا من أحبّ الناس إليهم مخاطبين لنصائحهم ومواعظهم، لئلّا يثيروا حفيظة الآخرين، ولكن المخاطب الحقيقي هو أفراد المجتمع، وإن شمل المخاطب الظاهري - أيضاً - لفظاً ومعنى.

ثمّ إنّ شمولها لابنه الحسن لا ينافي كونه معصوماً بعيداً عن

ص: 80


1- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 31.
2- . انظر: من لا يحضره الفقيه: 384/4، برقم 5837، مؤسسة النشر الإسلامي - قم، 1414 ه. ويؤيّد هذا قول النجاشي في ترجمة الأصبغ بن نُباتة أنّه روىٰ عن عليّ عليه السلام عهد الأشتر، ووصيّته إلى محمد ابنه. رجال النجاشي: 69/1 برقم 4.

الرذائل، لأنّ شمولها بالإرادة الاستعمالية لا ينافي خروجه عن الإرادة الجدّية. وبيان ذلك: إنّ الإنسان بما هو إنسان، وحسب الطبع وحسب كونه موجوداً ممكناً، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، فيكون مظنّة للغيّ والضلال، ولكنّه عندما تشمله العناية الإلهية يخرج عن مقتضى الطبع بعصمة من اللّٰه سبحانه.

وهذا هو النبيّ الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم المعصوم الأوّل يخاطبه الوحي الإلهيّ بقوله: (وَ وَجَدَكَ ضٰالاًّ فَهَدىٰ) ،(1) فالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بما أنّه موجود ممكن، غير محكوم بشيء من أوصاف الكمال، ولمّا شملته العناية الإلهية خرج عن مقتضى الطبع الإمكاني، وصار مهديّاً، متخلّقاً بأعلى الأوصاف والفضائل، بعيداً عن الرذائل.

فالسبط الأكبر الحسن عليه السلام بالمقياس الأوّل من مصاديق ما جاء في الوصية من الصفات التي سنوردها، وبالمقياس الثاني خرج عن كونه من مصاديق هذه الصفات نهاية وحسب الإرادة الجدّية. وكيف لا يكون كذلك وهو معصوم بنصّ الكتاب (آية التطهير)، ومن قرناء الكتاب في قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّٰه وعترتي»؟

1. إنّ الإمام كتب هذه الوصية لابنه الحسن بعد أن قد ذرّف على الثلاثين وصار من رجالات المجتمع، وذا شخصية بارزة فيه، وقد شارك أباه في جهاد الناكثين والقاسطين في وقعتي الجمل وصفّين،

ص: 81


1- . الضحى: 7.

حتى أنّ أباه لمّا رآه يتسرّع إلى الحرب في وقعة صفِّين، قال: «امْلِكُوا عَنِّي هٰذَا الْغُلَامَ لَايَهُدَّنِي، فَإِنَّنِي أَنْفَسُ بِهٰذَيْنِ - يَعْنِي الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ عليهما السلام - عَلَىٰ الْمَوْتِ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ بِهِمَا نَسْلُ رَسُولِ اللّٰهِ صلى الله عليه و آله و سلم».(1)

فلو كان الغرض من كتابة الوصية تهذيب الحسن عليه السلام وتربيته والأخذ بيده إلى مكارم الأخلاق، فكان على أمير المؤمنين أن يكتبها قبل سنين حينما كان الحسن حدثاً يقبل كلّ شيء، كما صرّح به الإمام في أثناء الوصية، وقال: «وَإِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالْأَرْضِ الْخَالِيَةِ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْ ءٍ قَبِلَتْهُ».(2)

وكلّ ذلك شاهد على أنّ الإمام اتّخذه - إذا كانت الوصيّة له - مخاطباً في الظاهر، ولكن المخاطب حقيقة جميع أفراد المجتمع.

يقول ابن أبي الحديد في شرح قوله عليه السلام: «الْمُؤَمِّلِ مَالَا يُدْرَكُ»، قال: الأظهر أنّه لم يُرد ذلك، وإنّما أراد جنس البشر لا خصوص الحسن، وكذلك سائر الأوصاف التي تلي هذه اللفظة لا تخصّ الحسن عليه السلام بعينه، بل هي وإن كانت له في الظاهر بل هي للناس كلّهم في الحقيقة.(3)

ص: 82


1- . نهج البلاغة: الخطبة 207.
2- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 31، الفقرة 22.
3- . شرح نهج البلاغة: 53/16.

2. ما ذكرنا من أنّ من أُلقي إليه الخطاب قد يكون غير مقصود واقعاً، له نموذج واضح في القرآن الكريم، قال تعالى: (يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ اِتَّقِ اَللّٰهَ وَ لاٰ تُطِعِ اَلْكٰافِرِينَ وَ اَلْمُنٰافِقِينَ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً حَكِيماً) (1)، فهل يُتصوّر أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يطيع الكافرين والمنافقين حتى يتوجّه إليه النهي؟! كلّا وحاشا نبيّ العظمة صلى الله عليه و آله و سلم ذلك؛ بل أنّ الخطاب موجّه إليه في الظاهر، ولكنّ المقصود نهاية هم المؤمنون جميعاً.

وقال سبحانه: (وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ) .(2) وهل يسوَّغ لمفسّر أن يستنبط من الآية أنّه لا فرق بين الأنبياء وخاتمهم وبين سائر الأشخاص، في مظنّة الإشراك باللّٰه، فأين العصمة إذاً التي يدّعيها المسلمون؟

3. إنّ هذا العهد الطويل لا يقصد به ابنه الحسن أو محمد ابن الحنفية، فإنّ تأديب أحد الشخصين لا يتوقّف على كتابة هذا العهد الذي يشتمل فيه على أُصول الحكم والعظات والنصائح.

***

ثمّ إنّه عليه السلام ذكر لنفسه في ديباجة العهد أوصافاً سبعة، ولولده أربعة عشر وصفاً. أمّا أوصاف نفسه، فهي:

ص: 83


1- . الأحزاب: 1.
2- . الزمر: 65.

أوصاف الوالد

1. من الوالد الفان، حذفت الياء هاهنا للازدواج بين الفاني والزمان، ووصفه بالفان باعتبار غايته أو ما يؤول إليه.

2. المقرّ للزمان، أي المعترف بالعجز عن معالجة حوادث الزمان.

3. المدبر العمر، لأنّه عليه السلام كتبه وقد ذرّف على الستين.

4. المستسلم للدهر، وهو أبلغ من المقرّ للزمان.

5. الذامّ للدنيا، لأنّه عليه السلام كان نافراً عن الدنيا ومنفّراً بذكر معايبها.

6. الساكن مساكن الموتىٰ، أشار إلى أنّه سيموت، ولعلّه اقتباس من قوله تعالى: (وَ سَكَنْتُمْ فِي مَسٰاكِنِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) .(1)

7. الظاعن عنها غداً، وهو تذكير بالمفارقة «وغداً» كناية عن وقتها المعجّل.

إلى هنا تمّ بيان أوصاف الإمام لنفسه.

وأمّا أوصاف الولد فهي كما قلنا أربعة عشر وصفاً، وقد استنتج الكاتب من أوصافه عدم عصمة المكتوب إليه، وقد مرّ أنّ هذه الأوصاف وصف لعامّة الناس، وقد وجّه الخطاب لولده لئلّا يثير حفيظة الآخرين لما مرّ من أنّ كثيراً من الأوصاف بل جميعها من أوصاف عامّة الناس لا الحسن خاصّة ولا ابن الحنفية، على أنّه قد مرّ

ص: 84


1- . إبراهيم: 45.

أنّ شمولها للحسن عليه السلام لا ينافي كونه معصوماً، وأن يكون فوق هذه الأوصاف.

أوصاف الولد

1. «الْمُؤَمِّلِ مَالَا يُدْرَكُ»، وفيه تنفير عن طول الأمل، إذ أنّ طول الأمل ينسي الآخرة. وقد ورد عن سيد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «يشبّ ابن آدم وتشبّ فيه خصلتان: الحرص و الأمل».

2. «السَّالِكِ سَبِيلَ مَنْ قَدْ هَلَكَ»، يعني سفرهم من الدنيا إلى الآخرة.

3. «غَرَضِ الْأَسْقَامِ»، لأنّ الإنسان كالهدف لآفات الدنيا وأغراضها.

4. «وَرَهِينَةِ الْأَيَّامِ»، استعار لفظ الرهينة باعتبار أنّ وجوده مربوط بالأوقات كما يربط الرهن بيد مرتهنه.

5. «وَرَمِيَّةِ الْمَصَائِبِ»، وهو كقوله: «غَرَضِ الْأَسْقَامِ».

ثمّ إنّ هذه الأوصاف هل تختصّ بالحسن عليه السلام أو بابن الحنفية...

أو هي من خصائص جنس البشر؟ وقد مرّ أنّ ابن أبي الحديد قال:

إنّما أراد جنس البشر لا خصوص الحسن وكذلك سائر الأوصاف التي تلي هذه اللفظة لا تخصّ الحسن عليه السلام بعينه، بل هي وإن كانت له في الظاهر بل هي للناس كلّهم في الحقيقة، ألاترى إلى قوله

ص: 85

بعدها: «السَّالِكِ سَبِيلَ مَنْ قَدْ هَلَكَ» فإنّ كلّ واحد من الناس يؤمّل أُموراً لا يدركها، وكلّ واحد من الناس سالك سبيل من هلك قبله.(1)

وقس عليه ما سيوافيك من الأوصاف فإنّها من خصائص الناس، إنّما اتّخذ الإمام ولده البارّ موضعاً للخطاب لئلّا يثير تذمّر المستمعين الآخرين.

6. «وَعَبْدِ الدُّنْيَا»: أي طالب الدنيا منقاد بطبعه إليها.

7. «وَتَاجِرِ الْغُرُورِ»: أي تجارته لها غرور وغفلة عن المكاسب الحقيقية الباقية، ولعلّه إشارة إلى قوله تعالى: (يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تُلْهِكُمْ أَمْوٰالُكُمْ وَ لاٰ أَوْلاٰدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ) .(2) وقوله تعالى: (رِجٰالٌ لاٰ تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَ لاٰ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَ إِقٰامِ اَلصَّلاٰةِ وَ إِيتٰاءِ اَلزَّكٰاةِ يَخٰافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ اَلْقُلُوبُ وَ اَلْأَبْصٰارُ) .(3)

8. «وَغَرِيمِ الْمَنَايَا»، لفظ الغريم مستعار باعتبار طلب الموت له.

9. «وَأَسِيرِ الْمَوْتِ»، استعار له لفظ الأسير باعتبار انقياده للموت وعدم تمكينه للخلاص.

10. «وَحَلِيفِ الْهُمُومِ»، لأنّ الهموم لا تفارق الإنسان في حياته

ص: 86


1- . شرح نهج البلاغة: 53/16.
2- . المنافقون: 9.
3- . النور: 37.

إلّا من تجرّد عن حبّ الدنيا.

11. «وَقَرِينِ الْأَحْزَانِ»، فبما أنّ الهموم لا تنفكّ عن الأحزان، صار قريناً للأحزان.

12. «وَنُصُبِ الْآفَاتِ»، وهو نظير قوله: «وَرَمِيَّةِ الْمَصَائِبِ».

13. «وَصَرِيعِ الشَّهَوَاتِ»، فإنّ الإنسان غالباً مغلوب عند الشهوة، مقهور لها.

14. «وَخَلِيفَةِ الْأَمْوَاتِ»، فيه تنفير عن الدنيا بتذكير الموت، فإنّ خليفة الأموات في معرض اللَّحاق بهم.(1)

ثمّ إنّ الكاتب جعل ما ذكره الإمام في حقّ الولد دليلاً على عدم عصمته، قال:

أ. انظر أيّها القارئ الكريم وتمعّن في هذه الكلمات «إلى المولود المؤمّل... وخليفة الأموات»، وهل يكون معصوماً مَن يُسمّيه عليّ: «عبد الدنيا» و «تاجر الغرور»؟

ب. بل انظر إلى عباراته التي تنبئ عن رفض العصمة رفضاً قاطعاً، فهو يُسمّيه «صريع الشهوات».(2)

أقول: إنّ استنتاج الكاتب مبنيّ على أساس واه، وهو أنّ

ص: 87


1- . راجع في تفسير هذه الصفات شرحي نهج البلاغة لابن ميثم البحراني وابن أبي الحديد.
2- . قراءة راشدة: 21-22.

الإمام عليه السلام كتب هذه الوصية خاصّة لولده الحسن فاستنتج من ذلك ما استنتج غافلاً أو متغافلاً عن أنّ الإمام عليه السلام كواعظ مِصقَع يُريد إصلاح المجتمع عن طريق وصيّة من هذا الطراز، والغاية توجيه الخطاب إلى ابنه كتوجيه الخطاب في قوله سبحانه: (يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ اِتَّقِ اَللّٰهَ) (1)، أو كقوله سبحانه: (يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذٰا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسٰاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا اَلْعِدَّةَ...) (2)، فالمولىٰ جلّ شأنه يخاطب النبيّ أوّلاً ويقول: (يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ) ولكنّه ينتقل إلى خطاب المؤمنين ويقول: (إِذٰا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسٰاءَ) . ثمّ إنّ جميع ما استنتجه الكاتب من كلام الإمام عليّ عليه السلام على عدم عصمة الإمام الحسن، كلّها من هذا القبيل ولذلك لا نذكر كلّ ما ذكره عقب كلام الإمام في ذلك العهد، فإنّ جواب الجميع واحد.

ص: 88


1- . الأحزاب: 1.
2- . الطلاق: 1.

المبحث الثالث: الصحابة

اشارة

قال الكاتب: انطلاقاً من ثناء اللّٰه جلّ وتعالى على الصحابة وثناء رسوله صلى الله عليه و آله و سلم نجد عليّاً رضى الله عنه يثني على إخوانه مبيّناً ما يكنّه لهم من محبّة. وسنتكلم في هذا المبحث عن الصحابة، ونرجئ الكلام عن معاوية وأهل الشام إلى مبحث آخر.(1)

أقول: قبل أن ندرس ما استدلّ به الكاتب من كلام الإمام على ثنائه على الصحابة، يجب أن نبيّن موقف الشيعة من هذه المسألة، فإنّ المعاندين يعرّفون الشيعة بأنّهم يسبّون الصحابة، وهي تهمة مختلقة، والسبّ عمل النَّوكى، وهم لا يسبّون واحداً منهم، بل يصنّفونهم على أصناف تبعاً للذكر الحكيم، وستعرف أنّ موقف الشيعة هو عين موقف الإمام عليه السلام من الصحابة، لا يختلف عنه ذرة

ص: 89


1- . قراءة راشدة: 34.

واحدة.

لا شكّ أنّ حبّ الصحابة من مظاهر حبّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم وقد اشتهر:

أنّ من أحبّ شيئاً أحبَّ آثاره ولوازمه، فمَن أحبّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فقد أحبّ المتعلّمين على يديه، والمجاهدين دونه.

هذا ما لا غبار عليه ولا خلاف فيه، إنّما الكلام في أنّ مجرّد صحبة النبي صلى الله عليه و آله و سلم سواء أكانت قصيرة الأمد أم طويلة، هل تجعل الصحابي إنساناً مثالياً بعيداً عن المعاصي، صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها طول عمره؟! على حدّ يكون الجميع جازوا القنطرة، أو أنّ صحبة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم تؤثّر في سلوك الصحابيّ وأخلاقياته، وأنّ كلّ مَن صحبه يستضيء بنوره وبيانه حسب قابلياته واستعداداته؟! ولا يكون الجميع في صفّ واحد ودرجة واحدة من التقى والصلاح، ولأجل ذلك ظهر هنا اتّجاهان:

اتّجاهان في عدالة الصحابة

أحدهما: عدالة الصحابة برُمّتهم استغراقاً في حبّهم ونزولاً عند حكم العاطفة لصاحب الشريعة وأنصاره، وهو خيرة جمهور أهل السنّة.(1)

ثانيهما: أنّ صحبة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم تؤثّر في سلوك الصحابيّ

ص: 90


1- . راجع: مقالات الإسلاميين: 323/1؛ كتاب السنّة: 49.

وأخلاقياته حسب قابلياته، فمنهم من بلغ بالصحبة قمّة الكمال حتى أصبح يُستدرّ به الغمام، ومنهم من لم يبلغ هذا الشأن ولكن استضاء بنور النبي صلى الله عليه و آله و سلم وحسُنت صحبته وسلمت سريرته، ومنهم من لم ينل إلّاحظاً قليلاً، وما هذا إلّالتفريطه وتقصيره.

والنظرية الثانية هي خيرة الشيعة الإمامية ولفيف من غيرهم.

فما ذكره الكاتب من ثناء اللّٰه عزّ وجلّ على الصحابة وثناء الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، إن أراد به ثناء اللّٰه ورسوله على جميع الصحابة من أوّلهم إلى آخرهم، والذين يبلغ عددهم مئة ألف أو أكثر، فهو ادّعاء بلا دليل. وها نحن نذكر ثناء اللّٰه على الصحابة آية بعد أُخرى حتى يُعلم بأنّ الثناء إنّما هو بصورة القضية الجزئية، لا الكلّية، وقد تقدّم منّا إنّ عدالة قسم من الصحابة أمر متفق عليه لا يناقش فيه أحد من المسلمين، إنّما الكلام في دعوىٰ أنّ الجميع عدول لا تَمسّ كرامتهم وعدالتهم شائبة شكّ. وإليك دراسة الآيات:

الآيات الواردة في حق الصحابة

الآية الأُولى

اشارة

قال تعالى: (وَ اَلسّٰابِقُونَ اَلْأَوَّلُونَ مِنَ اَلْمُهٰاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصٰارِ وَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسٰانٍ رَضِيَ اَللّٰهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً ذٰلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ) .(1)

ص: 91


1- . التوبة: 100.
الترضّي عن عدد خاص من الصحابة

أقول: إنّ ثناء اللّٰه ورضاه سبحانه لا يعمّ كلّ صحابيّ ولا يشمل كلّ مهاجر وأنصاريّ، بل يختصّ بقسم السابقين من المهاجرين والأنصار في الهجرة والنصرة. ويشهد لما ذكرنا وجود «من» في قوله: (مِنَ اَلْمُهٰاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصٰارِ) فالمرضيّ عنهم قسم من المهاجرين والأنصار، السابقين في الهجرة والنصرة، لا عامّة المهاجرين والأنصار. ولعلّ المراد من السابقين من الأنصار هم الذين بايعوا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في البيعتين الأُولى والثانية، وقد بلغ عدد المبايعين من الأنصار في العقبة الأُولى اثني عشر رجلاً، وفي العقبة الثانية قرابة السبعين، فهؤلاء هم الذين بايعوا للنصرة والدفاع عنه صلى الله عليه و آله و سلم إذا نزل بأرضهم.

كما أنّ المراد من السابقين من المهاجرين الطبقة الأُولى منهم، وهم الذين هاجروا قبل غزوة بدر. وأين هؤلاء من ثناء اللّٰه على المئة ألف، أو الخمسة عشر ألفاً المثبتة أسماؤهم في كتب السِّيَر؟

ثمّ إنّه سبحانه عطف على السابقين من المهاجرين والأنصار قوله: (وَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسٰانٍ) والمراد من التبعيّة كون عملهم نظير عمل السابقين في الهجرة والنُّصرة، وأمّا لو تخلّف، فلا.

ص: 92

الترضّي مشروط بثباتهم على الحقّ

ثمّ إنّ هاهنا نكتة، وهي أنّه سبحانه أثنى على التابعين من الصنفين المذكورين، لكنّه ثناء مشروط بالتبعيّة بإحسان، فلو كان هذا شرطاً في التابع فالأَولى أن يكون شرطاً لثناء اللّٰه للمتبوع، والمراد بالإحسان هو الإيمان والعمل الصالح. هذا هو الذي يُفهم من دراسة الآية، وبهذا يُعلم أمران:

1. لو ثبت بالدليل القاطع تخلف عدّة من الأصناف الثلاثة عن هذا الشرط في مستقبل حياتهم فيخرج عن كونهم ممن ترضّىٰ عنهم الباري عزّ وجلّ، لتخلّف الشرط.

2. أنّه لا يُستدل بإطلاق الآية على عدالة كلّ صحابيّ أو مغفرة ذنوبه، سواء أطاع أم عصى، عمل سيئاً أو عمل صالحاً، بل على قسم من المهاجرين والأنصار بشرط ثباتهم على الحقّ وبقائهم على السيرة الحسنة إلى حين ارتحالهم عن هذه الدنيا.

الآية الثانية

اشارة

قال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّٰهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّٰاءُ عَلَى اَلْكُفّٰارِ رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ تَرٰاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّٰهِ وَ رِضْوٰاناً سِيمٰاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ ذٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوىٰ عَلىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ

ص: 93

اَلزُّرّٰاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ اَلْكُفّٰارَ وَعَدَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً) .(1)

في هذه الآية يصف سبحانه صحابة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بأوصاف خاصّة، هي:

1. (أَشِدّٰاءُ عَلَى اَلْكُفّٰارِ) . 2. (رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ) .

3. (تَرٰاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) .

4. (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّٰهِ وَ رِضْوٰاناً) .

5. (سِيمٰاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ) .

الآية ناظرة إلى الذين جُمعت فيهم الخصال الخمس

وهنا نسأل الكاتب: هل كان جميع صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم من أوّلهم إلى آخرهم على هذه الأوصاف؟ فهل كانوا رحماء بينهم وأشدّاء على الكفّار؟ فلو كان الجميع على هذا الوصف فلماذا أشعلوا فتيل الحرب في الوقائع الثلاث: الجمل وصفين والنهروان، التي راح ضحيّتها الآلاف من الرجال؟ وكان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد أخبر عن هذه الوقائع المرّة، حيث قال للإمام علي عليه السلام: «ستقاتل بعدي القاسطين والناكثين والمارقين».(2) وهذا الإخبار من دلائل نبوته صلى الله عليه و آله و سلم لأنّه

ص: 94


1- . الفتح: 29.
2- . لاحظ: مجمع الزوائد: 186/5، و ج 238/7؛ كنز العمال: 292/11.

إخبار صريح بالغيب.

هذا من جانب، ومن جانب آخر نحن نؤمن أنّ القرآن صادق مصدّق لا يخطأ في إخباره ولا يفارق الواقع رأس إبرة، فالجمع بينهما أنّ هذه الصفات المذكورة في سورة الفتح، صفات عدد منهم لا الصحابة قاطبة، الذين يبلغ عددهم مئة ألف أو أكثر.

ويشهد لقولنا ذيل الآية، حيث يقول تعالى: (وَعَدَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً) ، فحرف الجرّ في قوله: (مِنْهُمْ) للتبعيض لا للبيان، لعدم دخول «من» البيانية على الضمير.

الآية الثالثة

قال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اَللّٰهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبٰايِعُونَكَ تَحْتَ اَلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مٰا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثٰابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) .(1)

وقد استُدلّ بهذه الآية على عدالة الصحابة جميعاً مع أنّها لاتتحمّل ذلك، لأسباب:

1. إنّ رضا اللّٰه سبحانه في الآية تعلَّق بمجموعهم، ولا يشمل كلّ فرد من الأفراد المبايعين تحت الشجرة، بدليل أنّ جماعة من

ص: 95


1- . الفتح: 18.

المنافقين بايعوا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في ذلك الموضع، وفي مقدّمتهم عبد اللّٰه ابن أُبيّ وأذنابه.

ويشهد لذلك تغلغل المنافقين بين أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وإن كنت في شكّ فاقرأ ما يحكيه ابن هشام عن غزوة أُحد، قال: حتى إذا كانوا (النبي وأصحابه) بالشوط بين المدينة وأُحد، انخزل عنه عبد اللّٰه بن أُبيّ بن سلول بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني، ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيّها الناس؟ فرجع بمن اتّبعه من قومه من أهل النفاق والرَّيب».(1)

2. إنّ رضا اللّٰه سبحانه عن جماعة من الناس مشروط بأن تكون أعمالهم صالحة في البدء والختام وما بينهما، وأن لا يخرجوا عن الخط الرساليّ الذي خطّه رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم. ويدلّ على ما ذكرنا ما رواه البخاري بإسناده عن سهل بن سعد الساعدي عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «إنّ العبد ليعمل، فيما يرى الناس، عمل أهل الجنة وإنّه لمن أهل النار، ويعمل فيما يرى الناس، عمل أهل النار، وهو من أهل الجنّة، وإنّما الأعمال بخواتيمها».(2)، فلو دلّ دليل قاطع على اقتراف بعض الصحابة المعاصي وتنكّبه عن الطريق المهيع، فلا يخالف الآية.

ص: 96


1- . السيرة النبوية: 64/2. وقد قدّر عددهم بثلاثمائة نفر.
2- . صحيح البخاري: 207/4-208، برقم 6493.

3. إنّ رضاه سبحانه كان محدّداً بزمان البيعة، لتعلّق الظرف (إذ) في قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اَللّٰهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ) بالفعل (رضيَ)، فيكون المعنى: رضيَ اللّٰه عنهم في ذلك الحين.

ومن هنا لا يصحّ الاستدلال بالآية على عدالة هؤلاء في كلّ الأزمان وإلى آخر حياتهم، فوقوع الترضّي في ذلك الحين لا يمنع من مواقعة المعصية فيما بعد.

***

إلى هنا تمّ ذكر بعض الذرائع التي تمسّك بها القائلون بعدالة الصحابة جميعاً، وبقي الكلام فيما ادّعاه الكاتب من ثناء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على الصحابة.

أقول: سلّمنا أنّ النبيّ أثنى على الصحابة في موقف خاص، ولكنّه أخبر عن ارتداد جمع منهم بعد رحلته، وقد روىٰ ذلك الشيخان في صحيحيهما، ولهذه الروايات أسانيد متعدّدة، فمن أراد فليرجع إلى المصدرين المذكورين:

أخرج البخاري عن أبي حازم قال: سمعت سهل بن سعد يقول:

سمعت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «أنا فَرَطُكم على الحوض مَن وَرَده شرب منه، ومَن شرب منه لم يظمأ بعده أبداً، لَيرِد عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثمّ يُحال بيني وبينهم.

قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عيّاش وأنا أُحدّثهم هذا،

ص: 97

فقال: هكذا سمعت سهلاً؟ فقلت: نعم، قال: وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد فيه قال: إنّهم منّي، فيقال: إنّك لا تدري ما بدّلوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي».(1)

وقد بلغ عدد الروايات التي ذكرها الشيخان في هذا الشأن إلى عشر روايات. وها نحن نذكر الرواية العاشرة التي نقلها مسلم عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّي لعلى الحوض حتّى أنظر من يَرِدُ عليّ منكم، وسيؤخذ أُناس دوني، فأقول: يا ربّ منّي ومن أُمّتي، فيقال: أما شعرت ما عملوا بعدك، واللّٰه ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم. قال: فكان ابن أبي مُليكة يقول: اللّهمّ إنّا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا وأن نفتن عن ديننا».(2) إلى هنا تمّ ذكر موقف القرآن الكريم والسنّة النبوية من نظرية عدالة الصحابة، وقد مرّ أنّ القضية بصورة جزئية، مورد اتفاق، وأنّ الخلاف في كليّة القضية، وحان وقت دراسة ما استدلّ به الكاتب من كلام الإمام علي عليه السلام حول الصحابة.

يُذكر أنّ ما استدلّ به من كلام الإمام عليه السلام في مورد الصحابة أكثره، أو جميعه، خارج عن موضع النقاش، واليك بيان ما استدلّ به:

ص: 98


1- . صحيح البخاري: 355/4، برقم 7050 و 7051.
2- . شرح صحيح مسلم للنووي: 61/15، برقم 2293.

في شبهات الجميعان والرد عليها

الشبهة الأُولى:

اشارة

قال: قال الإمام علي عليه السلام واصفاً الرسول صلى الله عليه و آله و سلم مع أصحابه في القتال: «وَكَانَ رَسُولُ اللّٰهِ صلى الله عليه و آله و سلم إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ، وَأَحْجَمَ النَّاسُ، قَدَّمَ أَهْلَ بَيْتِهِ فَوَقَىٰ بِهِمْ أَصْحَابَهُ حَرَّ السُّيُوفِ وَالْأَسِنَّةِ».(1)

ثم قال الكاتب: فهل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم يقي أُناساً لا يستحقّون، بأعزّ ما لديه وهم أهل بيته؟

ثم أُحبّ أن تتدبّر هذه الكلمات القليلة التي قالها الإمام، وتتفكّر فيها، وتنظر لماذا قال الإمام هذا الكلام؟(2)

عند عزوف الصحابة عن المقابلة يقدم النبي أهل بيته

الجواب: إنّ قراءة الكاتب لكلام الإمام قراءة غير صحيحة، بل فيها نوع من التمويه على القارئ، كما أنّها تؤول إلىٰ معنى لا يقصده الإمام عليه السلام، فقد ارتأى الكاتب أن لا يقف عند قوله عليه السلام: «وَأَحْجَمَ النَّاسُ» الذي يدلّ على الخوف الذي كان يعتري الصحابة من مواجهة الأعداء عند اشتداد الحرب، والعزوف عن الإقدام علىٰ لقائهم ومنازلتهم. والغاية التي يريد الإمام أن تُستخلص من كلامه، هي الوقوف على المزايا الفريدة التي يتّسم بها أهل البيت وفي

ص: 99


1- . نهج البلاغة: الخطبة 10.
2- . قراءة راشدة: 34.

مقدّمتهم هو عليه السلام، والمكانة العظمىٰ لهم عند اللّٰه تعالى وعند رسوله، والتي لا يقاربهم فيها أحد من الصحابة، فهم (عصمة اللّائذين، وكهف المؤمنين).

ثمّ إنّنا نسأل الكاتب: ماذا يصنع النبي صلى الله عليه و آله و سلم - إذا لم يقدّم أهل بيته - وهو يشهد إحجام الصحابة عن لقاء الأعداء وقت احمرار البأس؟

هل يترك الأعداء يكرُّون على أصحابه، ويُمعنون فيهم طعناً وقتلاً وأسراً، وبين يديه أهل بيته، حماة الدين، وأصحاب النّجدة والشجاعة ورباطة الجأش، والجرأة في الإقدام على التضحية حبّاً بالشهادة ولقاء اللّٰه تعالى؟!

لا شكّ في أنّ تعرّض الصحابة لمقتلة عظيمة بسبب إحجامهم وجرأة العدوّ عليهم، يشكّل تهديداً لكيان الإسلام نفسه، إذ هم - في مجملهم وليس كلّ واحد منهم - المدافعون عنه في الحروب - إلّاما اشتدّ منها - التي يشعلها الأعداء، وهم الممكِّنون له في الأرض تحت قيادة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم. ومن أحرص من أهل البيت - ولا سيما سيّدهم عليّ - على حماية هذا الكيان، الذي يبقىٰ قائماً بهم أوّلاً، وبالصحابة الصادقين المخلصين ثانياً؟

وأين هذا ممّا يحاول الكاتب أن يسوّقه من ثناء الإمام عليّ عليه السلام

ص: 100

على الصحابة كلّ الصحابة، وممّا توحي به عبارته من أنّهم جميعاً يستحقّون الوقاية؟ مع قوله: «وَأَحْجَمَ النَّاسُ» دليل على قدحهم.

وأخيراً: إنّ كلّ ثناء لصنف من الصحابة رهن الثبات على ما كانوا عليه، فإنّ الأعمال مرهونة بخواتيمها، كما رواه البخاري.(1)

***

الشبهة الثانية:

اشارة

قال الكاتب: قال مرّة كلاماً هذا نصّه:

«إِنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ عَلَىٰ مَا بَايَعُوهُمْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ، وَلَا لِلغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ. وَإِنَّمَا الشُّورَىٰ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَىٰ رَجُلٍ وَسَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذٰلِكَ لِلّٰهِ رِضىً، فَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِهِمْ خَارِجٌ بِطَعْنٍ أَوْ بِدْعَةٍ رَدُّوهُ إِلَىٰ مَا خَرَجَ مِنْهُ، فَإِنْ أَبَىٰ قَاتَلُوهُ عَلَىٰ اتِّبَاعِهِ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَلَّاهُ اللّٰهُ مَا تَوَلَّىٰ».(2)

ثم قال: إنّه نصّ ثمين، ذو قيمة عالية في فهم الأُمور في قضية الشورى والبيعة، وإليك بعض الملاحظات المهمة في هذا الأمر:

ص: 101


1- . لاحظ: صحيح البخاري: 188/7، كتاب الرقاق.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 6.

أ. أُريد منك أن تقف طويلاً أمام (قوله) «بَايَعَنِي الْقَوْمُ...» وتتساءل لماذا قال الإمام: إنّ هؤلاء القوم الذين بايعوا الخلفاء السابقين هم مَن بايعني؟ ولماذا يحدّد هؤلاء الناس في البيعتين؟ أو ليس هناك أمر مهم جدّاً يريد الإمام توضيحه؟ فأُولئك المبايعون لم يخرج أحد منهم على الخلفاء بطعن أو بدعة، ولا شيء آخر؛ فهكذا أنا بويعت.(1)

الاحتجاج ببيعة الصحابة احتجاج بمسلّمات الخصم

الجواب: إنّ الكاتب لم ينقل كلام الإمام عليه السلام كما هو عليه، حيث قال: «قال مرّة كلاماً حول البيعة»، ولكن الموجود في نهج البلاغة:

«ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية» وإنّما حذفه لئلّا يُردّ عليه بأنّ الإمام عليه السلام إنّما يحتجّ على معاوية بعمل أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم من باب الجدل أخذاً بمسلّمات الخصم وردّاً عليه بها.

ويشهد لذلك أنّ الإمام عليه السلام بدأ رسالته إلى معاوية بقوله: «أمّا بعد: فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام، لأنّه بايعني القوم...

إلخ». وهذا ما حذفه الكاتب مع أنّه ينقل كتاب الإمام عليه السلام عن الشرح الحديدي وهذا الكلام موجود فيه.(2)

ص: 102


1- . قراءة راشدة: 34-35.
2- . لاحظ: شرح نهج البلاغة: 35/14.

ب. قال الكاتب بعد ذلك: «ثمّ لو افترضنا أنّ عليّاً رضى الله عنه إنّما يريد أن يلزم خصمه بالحجّة...»(1)

الجواب: في البدء نسأل الكاتب: أين الافتراض من الجزم بأنّ الإمام أراد أن يلزم خصمه بالحجّة؟

ثمّ إنّ الإمام بعث هذا الكتاب مع جرير بن عبد اللّٰه البجلي، والناظر في الكتاب من أوّله إلى آخره يقف على أسلوب الإمام في الاحتجاج، فإنّ له في المقام منهجين:

1. الاحتجاج بحديث الغدير وأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم نصّبه للخلافة في مشهد عظيم من الصحابة، وهذا ما يرفضه معاوية، ولذلك ترك الإمام عليه السلام الاحتجاج به.

2. الاحتجاج بما يتبنّاه معاوية ويسلّم به، فإنّه يدّعي صحّة الخلافة للمشايخ الثلاثة، باعتبار بيعة الأنصار والمهاجرين لهم ويصف نفسه بأنّه يمشي بسيرتهم وعلى نهجهم فعند ذلك خاطبه الإمام بقوله: «إِنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ عَلَىٰ مَا بَايَعُوهُمْ عَلَيْهِ» فلماذا تتخلّف عن بيعتي، «وَإِنَّمَا الشُّورَىٰ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَىٰ رَجُلٍ وَسَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذٰلِكَ لِلّٰهِ رِضىً»، فلو صحّ هذا الكلام عندك فهؤلاء - أي رجال الشورى - اجتمعوا حولي وبايعوني وسمّوني إماماً، فأيّ فرق بين

ص: 103


1- . قراءة راشدة: 35.

بيعتي وبيعة هؤلاء؟

وبذلك يُعلم أنّ الشارح الحديدي قد زلّت قدمه في ذلك حيث يقول: إنّ هذا الفصل دالّ بصريحه على كون الاختيار طريقاً إلى الإمامة، كما يذكره أصحابنا المتكلّمون لأنّه احتجّ على معاوية ببيعة أهل الحلّ والعقد له.(1)

فإنّ الشارح غفل عن موقف الإمام عليه السلام في كتابه هذا، وعن كيفية احتجاجه على معاوية، فلو كان الاحتجاج بغير طريق الجدل وكانت بيعة الأنصار والمهاجرين مورد رضا منه، فلماذا يعترض الإمام عليه السلام في غير واحدة من خطبه وكلماته على بيعة الأنصار والمهاجرين في السقيفة؟

قال الرضيّ رحمه الله: قالوا: لما انتهت إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنباء السقيفة بعد وفاة رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم، قال عليه السلام: ما قالت الأنصار؟ قالوا:

قالت: منّا أمير ومنكم أمير؛ قال عليه السلام: «فَهَلَّا احْتَجَجْتُمْ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ رَسُولَ اللّٰهِ صلى الله عليه و آله و سلم وَصَّىٰ بِأَنْ يُحْسَنَ إِلىٰ مُحْسِنِهِمْ، وَيُتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِهِمْ؟ قالوا: وما في هذا من الحجة عليهم؟، فقال عليه السلام: لَوْ كَانَتِ الإمارةُ فِيهِمْ لَمْ تَكُنْ الْوَصِيَّةُ بِهِمْ. ثم قال عليه السلام: فَمَاذَا قَالَتْ قُرَيْشٌ؟ قَالُوا: احتجّت بأَنّها شجرة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، فقال عليه السلام: احْتَجُّوا بِالشَّجَرَةِ، وَأَضَاعُوا الَّثمَرَةَ».(2)

ص: 104


1- . شرح نهج البلاغة: 36/14.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 67.

ولو كان كلامه هذا من صحيح عقيدته في أمر الخلافة، فلماذا اشتكى من تقمُّص ابن أبي قحافة الخلافة وقال: «أَمَا وَاللّٰهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلانٌ (ابن أبي قحافة) وَإنَّهُ لِيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَا».(1)

وبما ذكرنا يسقط ما ذيّل به الكاتب مقالته، حيث استدلّ بفقرات من هذه الرسالة على أنّ البيعة هي الطريق الصحيح في الخلافة(2)، وقد ذكرنا أنّ الهدف من الرسالة هو الاحتجاج على معاوية الذي يدّعي التمسّك بأهداب الشورى وبيعة الأنصار والمهاجرين، فالإمام عليه السلام يبني على هذه الفكرة المسلّمة عند معاوية، ويستدلّ بها على صحّة إمامته وخلافته.

***

الشبهة الثالثة

قال الكاتب: وفي كتاب له لمعاوية يقول فيه: «أَلَا تَرَىٰ؟ - غَيْرَ مُخْبِرٍ لَكَ، وَلٰكِنْ بِنِعْمَةِ اللّٰهِ أُحَدِّثُ - أَنَّ قَوْماً اسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ تَعَالىٰ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَلِكُلٍّ فَضْلٌ، حَتَّىٰ إِذَا اسْتُشْهِدَ شَهِيدُنَا قِيلَ: سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ، وَخَصَّهُ رَسُولُ اللّٰهِ صلى الله عليه و آله و سلم بِسَبْعِينَ تَكْبِيرَةً عِنْدَ صَلَاتِهِ عَلَيْهِ».(3)

ص: 105


1- . نهج البلاغة: الخطبة 3.
2- . لاحظ: قراءة راشدة: 35-36.
3- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 28.

يقول الكاتب: ماذا تجد في هذا الكتاب إنّه مدح وتعظيم لهؤلاء النفر من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «وَلِكُلٍّ فَضْلٌ».

وأضاف: رحمك اللّٰه أبا الحسن! كنت تنزل الناس منازلها. وفي كتاب آخر يقول فيه: «وَذَهَبَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ بِفَضْلِهِمْ...».(1)الجواب: إنّ ما اختاره الكاتب جزء من كتاب له عليه السلام إلى معاوية جواباً عن كتابه، قال الرضي رحمه الله عن هذه الرسالة: وهو من محاسن الكتب.

ثمّ إنّ الغاية من رسالة الإمام هذه هي إبطال مخطّط معاوية، وذلك لأنّه أذاع في الشام أنّه عليه السلام قتل عثمان ومالأ على قتله وأنّه قتل طلحة والزبير وأسّر عائشة وأراق دماء أهل البصرة، وبقيت خصلة واحدة وهي أن يثبت عندهم أنّه يتبرّأ من أبي بكر وعمر وينسبهما إلى الظلم ومخالفة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في أمر الخلافة، وأنّهما وثبا عليها غلبة، وغصباه إيّاها، فكانت هذه الطامّة الكبرى ليست مقتصرة على فساد أهل الشام عليه، بل وأهل العراق الذين هم جُندُه وبطانته وأنصاره، لأنّهم كانوا يعتقدون بإمامة الشيخين، إلّاالقليل من خواصّ الشيعة، فلمّا كتب معاوية ذلك الكتاب مع أبي مسلم الخولاني قصد أن يُغضب عليّاً ويُحرجه ويحوجَه إذا قرأ ذكر أبي بكر، وأنّه أفضل المسلمين، إلى أن يخلط خطّه في الجواب بكلمة

ص: 106


1- . نهج البلاغة: قسم الرسائل برقم 17؛ قراءة راشدة: 36.

تقتضي طعناً في أبي بكر، فلمّا وصل الكتاب إلى عليّ، كتب جواباً به إطفاء الفتنة التي أشعلها ابن أبي سفيان(1)، فمَن قرأ كتاب الإمام من أوّله إلى آخره يقف على أنّه في هذا الموقف...

أضف إلى ذلك: نحن إذا غضضنا النظر عن كلّ ما ذكرنا، فإنّ كلام الإمام عليه السلام في مدح المستشهدين من المهاجرين والأنصار، وأيّ خلاف في كرامة هؤلاء، لكي يستدلّ بكلام الإمام عليها.

***

الشبهة الرابعة

اشارة

قال الكاتب: وقال مرّة في وصف شدّة قتال أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «وَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللّٰهِ صلى الله عليه و آله و سلم؛ نَقْتُلُ آبَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا وَأَعْمَامَنَا: مَا يَزِيدُنَا ذٰلِكَ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً، وَمُضِيّاً عَلَىٰ اللَّقَمِ، وَصَبْراً عَلَىٰ مَضَضِ الْأَلَمِ، وَجِدّاً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا وَالْآخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا يَتَصَاوَلَانِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ، يَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا: أَيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَهُ كَأْسَ الْمَنُونِ، فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا، وَمَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنَّا. فَلَمَّا رَأَىٰ اللّٰهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ، حَتَّى اسْتَقَرَّ الْإِسْلَامُ مُلْقِياً جِرَانَهُ، وَمُتَبَوِّئاً (مبوّيا).

ص: 107


1- . لاحظ: شرح نهج البلاغة: 185/15-186.

أَوْطَانَهُ، وَلَعَمْرِي لَوْكُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ، مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ، وَلَا اخْضَرَّ لِلإِيمَانِ عُودٌ. وَايْمُ اللّٰهِ لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَماً، وَلَتُتْبِعُنَّهَا نَدَماً!».(1)

ثمّ قال الكاتب: مَن هؤلاء الذين كانوا يقاتلون مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ولم يسمّهم علي رضى الله عنه أو ليسوا هم معظم الصحابة الذين نصروا الإسلام وعزّزوا مكانته، ونصروا رسوله صلى الله عليه و آله و سلم؟

أين هذا من كلام الذين يتّهمون الصحابة بعدم نصرة الدين والنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم؟(2)

الجواب: اختلف شُرّاح نهج البلاغة في موضع كلام الإمام عليه السلام، يقول ابن أبي الحديد: وهذا الكلام قاله أمير المؤمنين عليه السلام في قصة ابن الحضرمي حيث قدِم البصرة من قبل معاوية واستنهض أمير المؤمنين عليه السلام أصحابه إلى البصرة فتقاعدوا.(3)

وقال الشارح البحراني: المنقول أنّ هذا الكلام صدر عنه يوم صفين حين أقرّ الناس بالصلح وأوّله: إنّ هؤلاء القوم لم يكونوا ليفيئوا إلى الحقّ ولا ليجيبوا إلى كلمة سواء... إلى آخر ما ذكره.(4)

وعلى كلّ تقدير، فالإمام بصدد تنبيه أصحابه على تقصيرهم

ص: 108


1- . نهج البلاغة: الخطبة 55.
2- . قراءة راشدة: 36-37.
3- . شرح نهج البلاغة: 34/4.
4- . شرح نهج البلاغة لميثم البحراني: 146/2.

والمعنى: لو قصّرنا يومئذٍ (عصر الرسالة) كتقصيركم الآن وتخاذلكم، لما حصل ما حصل من استقامة الدين، وكنّى بالعمود للدين عن قوّته، ومعظمه كناية بالمستعار، وكذلك باخضرار العود للإيماء إلى نضارته في النفوس، ولاحظ في الأُولى تشبيه الإسلام بالبيت ذي العمود، وفي الثانية تشبيهه الإيمان بالشجرة ذات الأغصان.(1)

ولا أدري من يُريد الكاتب بهؤلاء الذين يتّهمون الصحابة بعدم النُّصرة؟ وما دليله على هذا الاتّهام؟ فلا أظن أنّ أحداً على وجه البسيطة يتّهم أصحاب النبيّ بما ذكر. نعم لم يكونوا في درجة واحدة من الإيمان في عصر الرسالة كما هو صريح الآيات القرآنية، كما لم يكونوا في النصرة كذلك، فكثير من الذين شاركوا في الغزوات جاهد وأبدىٰ شجاعة في مواجهة الأعداء وقاتل وقتل، ولكن هناك قسم منهم لم يكن لهم دور يُذكر في القتال، بل كانوا يفرّون عند احتدام المعركة.

اختلاف أصحاب النبيّ في أمر القتال والنصرة

وتشهد لذلك الحوادث المرّة في غزوة أُحد وحُنين. وبما أنّ إفاضة الكلام في هذا الموضوع خروج عن وضع الرسالة، نكتفي

ص: 109


1- . شرح نهج البلاغة للبحراني: 148/2.

بهذا الخبر الذي ورد في «السيرة النبوية» لابن هشام في غزوة أُحد.

قال: انتهى أنس بن النضر، عمّ أنس بن مالك، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد اللّٰه، في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يُجلسكم؟ قالوا: قُتل رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم؛ فقال: فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ (قوموا) فموتوا على ما مات عليه رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم ثم استقبل القوم، فقاتل حتى قُتل، وبه سمّي أنس بن مالك.(1)

وفوق ذلك كلّه قوله سبحانه: (وَ مٰا مُحَمَّدٌ إِلاّٰ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ مٰاتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقٰابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اَللّٰهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اَللّٰهُ اَلشّٰاكِرِينَ) .(2)

وأمّا الحال في حُنين، فنقتصر على شيء يسير من أخبارها، يقول ابن هشام: لما حملت هوازن وشدّوا على المسلمين شدّة رجل واحد وانشمر الناس (انفضّوا وانهزموا) راجعين، لا يلوي أحد على أحد. وانحاز رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم ذات اليمين، ثم قال: أين أيها الناس؟ هلموا إليّ، أنا رسول اللّٰه، أنا محمد بن عبد اللّٰه. قال: فلا شيء، حملت الإبل بعضها على بعض، فانطلق الناس، إلّاأنّه قد بقي

ص: 110


1- . السيرة النبوية: 83/2، وانظر: تاريخ الطبري: 199/2، منشورات مؤسسة الأعلمي - بيروت.
2- . آل عمران: 144.

مع رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم نَفَر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته.

إلى أن قال: قال ابن إسحاق، فلمّا انهزم الناس، ورأى من كان مع رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم من جُفاة أهل مكّة الهزيمة، تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لمعه في كنانته.(1)

وحاصل الكلام: إنّهم كانوا على أصناف في النُّصرة والبذل والتضحية، كما أنّهم صاروا على أصناف في الثبات على الدين والتقوىٰ بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

الشبهة الخامسة

قال الكاتب: وفي كلام له يخاطب أصحابه الذين معه يقاتلون، قال موبّخاً لهم ومتذكّراً ما كان من السابقين من الصحابة:

«أَيْنَ الْقَوْمُ الَّذِينَ دُعُوا إِلَىٰ الْإِسْلَامِ فَقَبِلُوهُ، وَقَرَأُوا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ، وَهِيجُوا إِلىٰ الْجِهَادِ فَوَلِهُوا وَلَهَ اللِّقَاحِ إِلَىٰ أَوْلَادِهَا، وَسَلَبُوا السُّيُوفَ أَغْمَادَهَا، وَأَخَذُوا بِأَطْرَافِ الْأَرْضِ زَحْفاً زَحْفاً، وَصَفّاً صَفّاً. بَعْضٌ هَلَكَ، وَبَعْضٌ نَجَا. لَايُبَشَّرُونَ بِالْأَحْيَاءِ، وَلَا يُعَزَّوْنَ عَنِ الْمَوْتىٰ، مُرْهُ الْعُيُونِ مِنَ الْبُكَاءِ، خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الصِّيَامِ، ذُبُلُ الشِّفَاهِ مِنَ الدُّعَاءِ، صُفْرُ الْأَلْوَانِ مِنَ السَّهَرِ. عَلَىٰ

ص: 111


1- . السيرة النبوية: 443/2.

وُجُوهِهِمْ غَبَرَةُ الْخَاشِعِينَ. أُولٰئِكَ إِخْوَانِي الذَّاهِبُونَ. فَحَقَّ لَنَا أَنْ نَظْمَأَ إِلَيْهِمْ، وَنَعَضَّ الْأَيْدِيَ عَلَىٰ فِرَاقِهِمْ».(1)

ثم قال الكاتب: مَن هؤلاء القوم الذين عناهم عليّ رضى الله عنه؟ وهم جمع وكثرة لا تحصى ومنهم أموات ومنهم أحياء؟

إنّ المنصف المحبّ للإمام علي رضى الله عنه لا يمكن إلّاأن يقرّ بأنّ هؤلاء هم أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم.(2)الجواب: إنّ الكاتب يسأل مَنْ هؤلاء القوم الذين عناهم علي عليه السلام؟ وقد أجاب الشارح الحديدي عن هذا السؤال، حيث قال:

هم قوم كانوا في نَأْنأة الإسلام وفي زمان ضعفه وخموله أرباب زهد وعبادة وجهاد شديد في سبيل اللّٰه، كمصعب بن عمير من بني عبد الدّار، وكسعد بن معاذ من الأوس، وكجعفر بن أبي طالب، وعبد اللّٰه ابن رواحة، وغيرهم؛ ممّن استشهد من الصالحين أرباب الدين والعبادة والشجاعة في يوم أُحد، وفي غيره من الأيام في حياة رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم، وكعمّار، وأبي ذر، والمقداد، وسلمان، وخبّاب، وجماعة من أصحاب الصُّفّة وفقراء المسلمين أرباب العبادة، الذين قد جمعوا بين الزهد والشجاعة. وقد جاء في الأخبار الصحيحة أنّ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «إنّ الجنّة لتشتاق إلى أربعة: عليّ، وعمّار، وأبي

ص: 112


1- . نهج البلاغة: الخطبة 120.
2- . قراءة راشدة: 37-38.

ذر، والمقداد».(1)

وهذا الكلام كسابقه لا صلة له بما يريد أن يسوّقه الكاتب من ثناء الإمام على الصحابة جميعاً، لما قلنا من أنّ طائفة من صحابة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم - خصوصاً الذين معه في الغزوات وأخلصوا الطاعة للّٰه ولرسوله - كانوا رجالاً صالحين، ومع ذلك كانوا على أصناف حسب ما يذكره القرآن الكريم، ونحن نعطي كلّ صنف ما يستحقّه.

الشبهة السادسة

نقل الكاتب كلام الإمام عليه السلام للخوارج، وقال: سأذكره دون تعليق.(2)

لمّا كان الكاتب عاجزاً عن إيجاد مناسبة بين كلام الإمام ومرامه ذكره بلا تعليق، إذ أيّة صلة بين ذمّ الخوارج وبين عدالة الصحابة وقداستهم من أوّلهم إلى آخرهم؟! ونحن أيضاً نعرض عن نقله ونقده.

الشبهة السابعة

قال الكاتب: وجاء في الكتاب من خطبة له عليه السلام في شأن الحكمين وذمّ أهل الشام: «جُفَاةٌ طَغَامٌ، وَعَبِيدٌ أَقْزَامٌ، جُمِعُوا مِنْ كُلِّ

ص: 113


1- . شرح نهج البلاغة: 295/7-296.
2- . قراءة راشدة: 38.

أَوْبٍ، وَتُلُقِّطُوا مِنْ كُلِّ شَوْبٍ، مِمَّنْ يَنْبَغِي أَنْ يُفَقَّهَ وَيُؤَدَّبَ، وَيُعَلَّمَ وَيُدَرَّبَ، وَيُوَلَّىٰ عَلَيْهِ، وَيُؤْخَذَ عَلَىٰ يَدَيْهِ. لَيْسُوا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَلَا مِنَ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ».(1)

ثمّ قال: ينفي أن يكون هؤلاء من المهاجرين والأنصار الذين تبوءُوا الدار والإيمان، أو ليس هذا مدحاً للمهاجرين والأنصار الذين نفى أن يكون هؤلاء الجفاة الطغام منهم؟!(2)الجواب: بلىٰ، هذا مدح للمهاجرين والأنصار، ولكن ماذا في ذلك؟ وهل ثَمّة شبهة أو نزاع وشجار في أنّ معاوية وفئته الباغية الجفاة الطَّغام، ليسوا من هؤلاء الكرام؟!

وكيف لا يستحقّون المدح - باستثناء من أساء منهم - وقد آمنوا باللّٰه ورسوله وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّٰه؟

وكيف لا يستحقّون المدح والثناء، وقد نصر الحقّ جُلُّ مَن بقي منهم إلىٰ عهد الإمام؟ حيث جاهدوا بين يديه عليه السلام وقاتلوا المتمرّدين علىٰ خلافته الشرعية من الناكثين والقاسطين والمارقين. وممّا يشهد لذلك قول الإمام في كتاب له إلىٰ معاوية: «وَأَنَا مُرْقِلٌ نَحْوَكَ فِي جَحْفَلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ».(3)

ومن الواضح أنّ الإمام لم يقصد في مدحه كلّ المهاجرين

ص: 114


1- . نهج البلاغة: الخطبة 238.
2- . قراءة راشدة: 39.
3- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 28.

والأنصار، فرداً فرداً، بدليل تلك الكلمات التي أطلقها الإمام نفسه في حقّ عدد منهم. ومن ذلك قوله في عثمان بن عفّان: «اسْتَأْثَرَ فَأَسَاءَ الْأَثَرَةَ»(1)، وقوله فيه: «وَمَا كُنْتُ لِأَعْتَذِرَ مِنْ أَنِّي كُنْتُ أَنْقِمُ عَلَيْهِ أَحْدَاثاً»(2) وقوله في طلحة والزبير ومن معهم من الناكثين: «فَخَرَجُوا يَجُرُّونَ حُرْمَةَ رَسُولِ اللّٰهِ صلى الله عليه و آله و سلم كَمَا تُجَرُّ الْأَمَةُ عِنْدَ شِرَائِهَا، مُتَوَجِّهِينَ بِهَا إِلَىٰ الْبَصْرَةِ»، ثم قال مذكِّراً بما ارتكبوه من أعمال قبيحة: «فَقَدِمُوا عَلَىٰ عَامِلِي بِهَا وَخُزَّانِ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا، فَقَتَلُوا طَائِفَةً صَبْراً، وَطَائِفَةً غَدْراً»!!(3)

والكاتب لم يشأ أن يقرأ هذه الكلمات وأمثالها، لأنّها تفسد عليه قراءته الراشدة! وإن كانت ليست براشدة حتى فيما انتقاه من «نهج البلاغة».

الشبهة الثامنة

قال الكاتب: وقال مرّة: «وَذَهَبَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ بِفَضْلِهِمْ»(4)، قال هذا في كتاب له إلى معاوية بن أبي سفيان.(5)

ص: 115


1- . نهج البلاغة: الخطبة 30.
2- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 28.
3- . نهج البلاغة: الخطبة 172.
4- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 17.
5- . قراءة راشدة: 39.

الجواب: استدلّ الكاتب بفقرة من كتاب الإمام عليه السلام إلى معاوية جواباً عن كتاب منه إليه، وجاء في كتاب الإمام خطاباً لمعاوية: «وَفِي أَيْدِينَا بَعْدُ فَضْلُ النُّبُوَّةِ الَّتِي أَذْلَلْنَا بِهَا الْعَزِيزَ، وَنَعَشْنَا بِهَا الذَّلِيلَ.

وَلَمَّا أَدْخَلَ اللّٰهُ الْعَرَبَ فِي دِينِهِ أَفْوَاجاً، وَأَسْلَمَتْ لَهُ هٰذِهِ الْأُمَّةُ طَوْعاً وَكَرَهاً، كُنْتُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الدِّينِ: إِمَّا رَغْبَةً وَإِمَّا رَهْبَةً، عَلَىٰ حِينَ فَازَ (فات) أَهْلُ السَّبْقِ بِسَبْقِهِمْ، وَذَهَبَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ بِفَضْلِهِمْ، فَلَا تَجْعَلَنَّ لِلشَّيْطَانِ فِيكَ نَصِيباً، وَلَا عَلَىٰ نَفْسِكَ سَبِيلاً، وَالسَّلاٰم».(1) فقوله: «وَذَهَبَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ بِفَضْلِهِمْ» إشارة إلى قوله تعالى: (وَ اَلسّٰابِقُونَ اَلْأَوَّلُونَ مِنَ اَلْمُهٰاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصٰارِ) (2)، وقد بيّنّا - فيما سبق - مفاد الآية وأنّها بصدد بيان رضى اللّٰه سبحانه عن خصوص السابقين من المهاجرين والأنصار وليست بصدد تنزيه عامّة الصحابة وإثبات عدالتهم من أوّلهم إلى آخرهم. على أنّ رضاه سبحانه في فترة خاصة مشروط بخواتيم الأُمور.

الشبهة التاسعة

اشارة

قال الكاتب: وقال مرّة عن الصحابة: «إِنَّمَا اخْتَلَفْنَا عَنْهُ لَافِيهِ».(3)

ص: 116


1- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 17.
2- . التوبة: 100.
3- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 323.

ثمّ قال: إنّ هذا معناه تسويغ الخلاف بينه وبين إخوانه من الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فالاختلاف لم يكن في الرسول صلى الله عليه و آله و سلم إلى آخر ما ذكره.(1)

صلابة الإمام في حفظ كيان الإسلام

الجواب: إنّه لم يذكر الكاتب كلام الإمام عليه السلام بجميعه، قال الرضي رحمه الله: وقال لبعض اليهود حين قال له: ما دفنتم نبيّكم حتى اختلفتم فيه، فقال له: «إِنَّمَا اخْتَلَفْنَا عَنْهُ لَافِيهِ»، ولكنّكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيكم: (اِجْعَلْ لَنٰا إِلٰهاً كَمٰا لَهُمْ آلِهَةٌ قٰالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (2).

قال ابن أبي الحديد: وقد روي حديث اليهودي على وجه آخر؛ قيل: قال يهودي لعليّ عليه السلام: اختلفتم بعد نبيّكم ولم يجف ماؤه - يعني غُسله صلى الله عليه و آله و سلم -، فقال عليه السلام: «وأنتم قلتم: إجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ولما يجفّ ماؤكم».(3)

إنّ هذا الكلام يدلّ على صلابة الإمام عليه السلام في حفظ كيان الإسلام أمام الأعداء، حيث ردّ على اليهوديّ بوجود الفرق بين الاختلافين،

ص: 117


1- . قراءة راشدة: 39-40.
2- . الأعراف: 138.
3- . شرح نهج البلاغة: 225/19.

فأنتم أيّها اليهود اختلفتم في التوحيد الذي هو دعامة الدين الإلهي، وأمّا المسلمون فلم يختلفوا في التوحيد ولا في نبوة النبي ولا في المعاد، وإنّما اختلفوا فيما بينهم في أمر الخلافة، فالإمام وشيعته استندوا إلى أفعال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأقواله الدالّة على استحقاقه الإمامة (استحقاق اختصاص)، والقيام بالأمر بعد الرسول، بينما رأى آخرون غير ذلك. نعم اختلاف المسلمين في أمر الخلافة ليس كاختلاف بني إسرائيل في أمر التوحيد، والحديث يدلّ على وجود الاختلاف بين الإمام وشيعته وبين غيرهم من المسلمين.

الشبهة العاشرة

قال الكاتب: والآن سأورد خطبة أوردها شارح النهج. ثمّ ذكر الخطبة، وعلّق عليها بالقول: أيّ عاقل منصف أو قارئ محايد، لا يمكن إلّاأن يقرّ بأنّ علي بن أبي طالب رضى الله عنه إنّما يمدح هذين الخليفتين [يعني أبا بكر وعمر] بهذا الكلام.(1)

أقول: بما أنّ هذه الخطبة ليست من شرط كتيبه المعنون «قراءة راشدة لكتاب نهج البلاغة»، وإنّما أوردها شارح النهج، فلسنا معنيين بالتعليق على كلام الكاتب.

ص: 118


1- . قراءة راشدة: 40.

الشبهة الحادية عشرة

ادّعى الكاتب أنّه جاءت خطب كثيرة فيها مدح عمر تلميحاً، ثم ذكر كلاماً للإمام ادّعىٰ أنّه تصريح فيه، وهو: «لِلّٰهِ بَلَاءُ فُلَانٍ، فَلَقَدْ قَوَّمَ الْأَوَدَ، وَدَاوَىٰ الْعَمَدَ، وَأَقَامَ السُّنَّةَ، وَخَلَّفَ الْفِتْنَةَ! ذَهَبَ نَقِيَّ الثَّوْبِ، قَلِيلَ الْعَيْبِ، أَصَابَ خَيْرَهَا، وَسَبَقَ شَرَّهَا. أَدَّىٰ إِلَىٰ اللّٰهِ طَاعَتَهُ، وَاتَّقَاهُ بِحَقِّهِ. رَحَلَ وَتَرَكَهُمْ فِي طُرُقٍ مُتَشَعِّبَةٍ، لَايَهْتَدِي بِهَا الضَّالُّ، وَلَا يَسْتَيْقِنُ الْمُهْتَدِي».(1)

ثمّ قال الكاتب: تأمّل هذه الكلمات في حقّ هذا الخليفة الراشد الثاني: أقام السنّة، ذهب نقيّ الثوب، قليل العيب.(2)

الجواب: أوّلاً: إنّ الكاتب جزم بأنّ هذا الكلمات في حقّ عمر، مع أنّ الشريف الرضيّ لم يعيّن الشخص الممدوح بهذه الكلمات! فالأمانة العلمية تفرض على الكاتب أن يشير إلى ذلك، ولكنّه لم يفعل.

وأمّا ما ذكره ابن أبي الحديد في شرحه: «وقد وُجدت النسخة التي بخط الرضيّ أبي الحسن جامع «نهج البلاغة»، وتحت «فلان»، «عُمر» حدّثني بذلك فخار بن معدّ الموسويّ (3)»، فلا يعدّ دليلاً تامّاً،

ص: 119


1- . نهج البلاغة: الخطبة 228.
2- . قراءة راشدة: 41.
3- . شرح نهج البلاغة: 3/12-4.

لأنّه ليس هناك ما يُثبت أنّ ما كُتب تحت خطّ الرضيّ، هو بخطّه أيضاً، إذ من الممكن أن يكون بخطّ أحد متملّكي النسخة، خلال الفترة التي بلغت أكثر من قرنين، بين سنة كتابتها بخطّ الرضيّ (المتوفّى 406 ه)، وبين السنة التي حدّث فيها السيد فخار (المتوفّى 630 ه) ابن أبي الحديد بذلك.

وثانياً: إنّ الكاتب انتقىٰ هذا الكلام جازماً بأنّه في «عمر» مع أنّ الشريف الرضيّ - كما قلنا - لم يشر إلى الشخص المقصود به، ولكنّه (الكاتب) أعرض عن الكلام الذي يتعارض مع الكلام المنتقىٰ، ولا يشكّ أحد أنّه في «عمر» وأعني به ما ورد في الخطبة الشهيرة، المعروفة بالشِّقشِقيّة، قال عليه السلام وهو يتحدّث عن عهد أبي بكر بالخلافة إلىٰ عمر: «فَيَا عَجَباً!! بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا! فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا (كلامها)، وَيَخْشُنُ مَسُّهَا، وَيَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا، وَالْاِعْتِذَارُ مِنْهَا، فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ، وَإنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ. فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللّٰهِ بِخَبْطٍ وَشِمَاسٍ، وَتَلَوُّنٍ وَاعْتِرَاضٍ؛ فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ، وَشِدَّةِ الِْمحْنَةِ».(1)

ومن المعلوم أنّه يُقدَّم، في مقام التعارض، ما هو بيِّن ومقطوع به، على ما ورد علىٰ وجه الدعوى والاحتمال.

ص: 120


1- . نهج البلاغة: الخطبة 3.

وثالثاً: من الممكن أن يقصد الإمام بهذا الكلام أحد أصحابه الموالين له، كأن يكون حذيفة بن اليمان، فإنّ العبارات المذكورة تنطبق على الرجل وسيرته العطرة، فقد ولي المدائن لعمر بن الخطّاب، فأقام فيهم زاهداً ورعاً مصلحاً لبلادهم. وكان رضوان اللّٰه تعالى عليه من خيار الصحابة وفقهائهم، عالماً بالكتاب والسنّة. وكان قد أدرك بيعة الناس للإمام عليّ فسُرّ بها ودعا الناس إلىٰ نصره ومؤازرته، قائلاً: «فواللّٰه إنّه لعلى الحقّ آخراً وأوّلاً، وإنّه لخير مَن مضى بعد نبيّكم ومن بقي إلى يوم القيامة»، ثمّ أوصىٰ ابنيه: سعيد وصفوان بملازمة الإمام واتّباعه، وتوفّي بعد ذلك بمدة قليلة، قيل:

بعد أربعين يوماً، وقيل غير ذلك.(1)

الشبهة الثانية عشرة

قال الكاتب: ومن كلام له رضى الله عنه وقد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو الروم، قال عليه السلام: «وَقَدْ تَوَكَّلَ اللّٰهُ لِأَهْلِ هٰذَا الدِّينِ بِإِعْزَازِ الْحَوْزَةِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ. وَالَّذِي نَصَرَهُمْ، وَهُمْ قَلِيلٌ لَا يَنْتَصِرُونَ، وَمَنَعَهُمْ وَهُمْ قَلِيلٌ لَايَمْتَنِعُونَ، حَيٌّ لَايَمُوتُ. إِنَّكَ مَتَىٰ تَسِرْ إِلَىٰ هٰذَا الْعَدُوِّ بِنَفْسِكَ، فَتَلْقَهُمْ فَتُنْكَبْ، لَايَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ كَهْفٌ (2) دُونَ أَقْصَىٰ بِلَادِهِمْ. لَيْسَ بَعْدَكَ مَرْجِعٌ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، فَابْعَثْ

ص: 121


1- . انظر: سير أعلام النبلاء: 361/2، الترجمة 76؛ أعيان الشيعة: 599/4.
2- . ويروىٰ: كانفة.

إِلَيْهِمْ رَجُلاً مِحْرَباً، وَ احْفِزْ مَعَهُ أَهْلَ الْبَلَاءِ وَالنَّصِيحَةِ، فَإِنْ أَظْهَرَ اللّٰهُ فَذَاكَ مَا تُحِبُّ، وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى، كُنْتَ رِدْءاً لِلنَّاسِ وَ مَثَابَةً لِلْمُسْلِمِينَ».(1)

ثمّ قال الكاتب: هذا كلام عليّ لابن الخطاب، وأُريدك أن تتأمّل:

«لا يكن للمسلمين كهف»، «ليس بعدك مرجع»، «فإن أظهر اللّٰه...

ومثابة للمسلمين».(2)الجواب: إنّ كلام الإمام هذا، لهو أفضل دليل على أنّه عليه السلام قد عمل بوظيفته في المشورة، وقد ورد في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام: «اعلم أنّ ضارب عليّ بالسيف وقاتله لو ائتمنني واستنصحني واستشارني ثم قبلتُ ذلك منه لأدّيتُ الأمانة».(3)

وأمّا قول الإمام عليه السلام لابن الخطاب: «لَا يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ كَهْفٌ»، «لَيْسَ بَعْدَكَ مَرْجِعٌ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ» فناظر إلى الظروف التي صدر فيها الكلام، فقد مضت على رحيل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم سنين، واستتب الأمر للخلافة القائمة، وصار الحفاظ علىٰ كيان الدولة الإسلامية يقتضي الحفاظ علىٰ قوة الجيش وتماسكه. ولا شكّ في أنّ تعرّض الزعيم والقائد العام للجيش للقتل أثناء الحرب له تأثير سلبيّ علىٰ

ص: 122


1- . نهج البلاغة: الخطبة 134.
2- . قراءة راشدة: 41-42.
3- . تحف العقول: 374.

معنويات الجيش، وربّما يؤدّي إلىٰ انكساره، الأمر الذي ينعكس على كيان الدولة وسلامتها، باعتباره الدرع الواقي لها من كيد الأعداء، المتربّصين الشرّ بالإسلام وأهله.

فالإمام عليه السلام ينصح له بهذا الكلام من هذه الجهة. ويرشد إلىٰ ذلك قوله عليه السلام لعمر لمّا استشاره في الشخوص لقتال الفرس «إِنَّ الْأَعَاجِمَ إِنْ يَنْظُرُوا إِلَيْكَ غَداً يَقُولُوا: هٰذَا أَصْلُ الْعَرَبِ، فَإِذَا اقْتَطَعْتُمُوهُ اسْتَرَحْتُمْ، فَيَكُونَ ذٰلِكَ أَشَدَّ لِكَلَبِهِمْ عَلَيْكَ»(1)، وقوله عليه السلام في مناسبة أُخرى: «فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرَىٰ فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ».(2)

وقد استشهد الكاتب (مرّة أُخرى) بكلام الإمام عليه السلام لعمر في قضية استشارته له في الشخوص لقتال الفرس(3)، وجوابنا عن ذلك عين الجواب الآنف الذكر.

الشبهة الثالثة عشرة

قال الكاتب: وقال مرّة أُخرى: «وَوَلِيَهُمْ وَالٍ فَأَقَامَ وَاسْتَقَامَ، حَتَّىٰ

ص: 123


1- . نهج البلاغة: الخطبة: 146.
2- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 62.
3- . لاحظ: قراءة راشدة: 42.

ضَرَبَ الدِّينُ بِجِرَانِهِ».(1) ثم قال الكاتب: وهذا الوالي هو عمر بن الخطاب.(2)

الجواب: إنّ الكاتب يحتجّ بفقرة مبهمة، غير أنّ انحيازه إلىٰ مذهبه جعلت الفقرة ظاهرة عنده في أنّ الضمائر ترجع إلى عمر بن الخطاب، رغم أنّ الشيخ محمد عبده قال: الوالي يُريد به النبي صلى الله عليه و آله و سلم، ووليهم: أي تولّى أُمورهم وسياسة الشريعة فيهم، ثمّ قال: وقال قائل:

يُريد عمر بن الخطاب.(3)

والمعنىٰ - على ما ذكره - أنّ الإسلام تمكّن في الأرض وأظهره على الدين كلّه بفضل نبيّ الرحمة صلى الله عليه و آله و سلم.(4)

وعلى فرض أنّ عمر هو المراد بهذا الكلام، وصحّ أنّه جزء من الخطبة التي نقلها ابن أبي الحديد، فهو مدح نسبيّ قياساً إلى ثالث القوم مع أنّه لم يَخلُ من ذمّ إذ جاء بعده: «علىٰ عَسْفٍ وَعَجرفية كانا فيه». ويشهد علىٰ أنّه مدح نسبيّ أنّه يذكر في ثنايا الخطبة، قوله: ثمّ اختلفوا ثالثاً لم يكن يملك من أمر نفسه شيئاً، غَلَب عليه أهلُه فقادوه إلى أهوائهم كما تقود الوليدةُ البعير المخطوم، فلم يزل الأمرُ

ص: 124


1- . نهج البلاغة: قصار الحكم، برقم 467.
2- . قراءة راشدة: 43.
3- . نهج البلاغة: 264/3، شرح محمد عبده.
4- . في ظلال نهج البلاغة: 480/4.

بينه وبين الناس يَبعُد تارة ويقرب أُخرى حتى نَزَوا عليه فقتلوه، ثم جاءوا بي مَدَبّ الدَّبا، يريدون بيعتي.(1)

ثمّ إنّ هذا المدح النسبيّ (المشوب بالذمّ) مع افتراض أنّه لعمر، لا يُلغي القول بسخط الإمام، أشدّ السُّخط، علىٰ مَن استلب حقّه في الخلافة، وتظلُّمهِ من ذلك منذ رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم إلىٰ حين استشهاده، وممّا يأتي في هذا المجال، قوله عليه السلام: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَىٰ قُرَيْشٍ وَمَنْ أَعَانَهُمْ! فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي، وَصَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِي، وَأَجْمَعُوا عَلَىٰ مُنَازَعَتِي أَمْراً هُوَ لِي».(2)

الشبهة الرابعة عشرة

قال الكاتب: قال في كتاب أرسله إلى معاوية: «ثُمَّ ذَكَرْتَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِي وَأَمْرِ عُثْمَانَ، فَلَكَ أَنْ تُجَابَ عَنْ هٰذِهِ لِرَحِمِكَ مِنْهُ، فَأَيُّنَا كَانَ أَعْدَىٰ لَهُ، وَأَهْدَىٰ إِلَىٰ مَقَاتِلِهِ! أَمَنْ بَذَلَ لَهُ نُصْرَتَهُ فَاسْتَقْعَدَهُ وَاسْتَكَفَّهُ، أَمْ مَنِ اسْتَنْصَرَهُ فَتَرَاخَىٰ عَنْهُ وَبَثَّ الْمَنُونَ إِلَيْهِ، حَتَّىٰ أَتَىٰ قَدَرُهُ عَلَيْهِ. كَلَّا وَاللّٰهِ لَ (قَدْ يَعْلَمُ اَللّٰهُ اَلْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ اَلْقٰائِلِينَ لِإِخْوٰانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنٰا وَ لاٰ يَأْتُونَ اَلْبَأْسَ إِلاّٰ قَلِيلاً) (3)».(4)

ص: 125


1- . شرح نهج البلاغة: 218/20.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 172.
3- . الأحزاب: 18.
4- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 28.

ثمّ عقّب عليه بقوله: فإذا كان عثمان فاسقاً أو مغتصباً للخلافة، فكيف جاز للإمام أن يذود عن فاسق أو مغتصب للخلافة؟ إلى آخر ما ذكره.(1)الجواب: أوّلاً: إنّ الإمام هنا بصدد إبطال ما يتّهمه به معاوية من أنّه قد مالأ على قتل عثمان، وهي التهمة التي نجح هو وزمرته في تسويقها وإقناع أهل الشام بها، لتحريضهم على التمرّد على الإمام ومحاربته، وقد أفصح عليه السلام عن ذلك في كتاب له إلىٰ معاوية، قال فيه:

«فَطَلَبْتَنِي بِمَا لَمْ تَجْنِ يَدِي وَلَا لِسَانِي، وَعَصَيْتَهُ أَنْتَ وَأَهْلُ الشَّامِ بِي، وَأَلَّبَ عَالِمُكُمْ جَاهِلَكُمْ، وَقَائِمُكُمْ قَاعِدَكُمْ».

ثانياً: إنّ الكاتب تجاهل عن عمد سائر كلمات الإمام عليه السلام التي تكشف عن موقفه من عثمان وما جرىٰ عليه، وتوضّح معنى النصر الذي أراده الإمام بقوله: «أَمَنْ بَذَلَ لَهُ نُصْرَتَهُ»، وهو المعنى الذي يؤكّده سير الأحداث التاريخية.

قال عليه السلام من كلام له في معنى قتل عثمان: «لَوْ أَمَرْتُ بِهِ لَكُنْتُ قَاتِلاً، أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ لَكُنْتُ نَاصِراً، غَيْرَ أَنَّ مَنْ نَصَرَهُ لَايَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ: خَذَلَهُ مَنْ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، وَمَنْ خَذَلَهُ لَايَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ: نَصَرَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي».(2)

ص: 126


1- . لاحظ: قراءة راشدة: 43-44.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 30.

فالإمام عليه السلام لم يأمر بقتل عثمان، ولم يمنع عن قتله بأن يذبّ عنه بسيفه ويذود عنه بيده، وإنّما كان لا يرضىٰ بقتله ويحذّر منه، بالرغم من أنّه عليه السلام كان ينكر عليه استبداده وما أحدثه من بدع. ويدلّ علىٰ ذلك قوله فيه: «اسْتَأْثَرَ فَأَسَاءَ الْأَثَرَةَ»(1)، وقوله: «وَمَا كُنْتُ لِأَعْتَذِرَ مِنْ أَنِّي كُنْتُ أَنْقِمُ عَلَيْهِ أَحْدَاثاً».(2)

ولو كانت نصرة عثمان نصرة للحقّ، لما قال الإمام: «غَيْرَ أَنَّ مَنْ نَصَرَهُ لَايَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ: «خَذَلَهُ مَنْ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ...»، لأنّ هذا يعني أنّ خاذليه كانوا خيراً من ناصريه، وهذا حقّ لأنّ الذين خذلوه هم المهاجرون والأنصار.

ثالثاً: إنّ الإمام عليه السلام كان قد اتّخذ، في تلك الظروف الصعبة التي استفحلت فيها الأزمة بين الثائرين والخليفة، اتّخذ موقفاً في منتهى الحكمة والشعور بالمسؤولية، فمن جهة كان ينصح الخليفة بتلبية مطالب الثائرين المحقّة كردّ المظالم، وعزل الولاة الفاسدين المستبدّين، ومن جهة أُخرى كان يعمل على تهدئة الثائرين الغاضبين، ودعوتهم إلى الصبر والاعتدال.

ولكنّ مساعي الإمام تلك مع الخليفة لحلّ الأزمة وإصلاح الأوضاع، لم تنجح، فما إن يأخذ عليه الإمام العهود بتلبية تلك

ص: 127


1- . نفس المصدر.
2- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 28.

المطالب ويستعدّ الثائرون للعودة إلىٰ بلدانهم، حتى يتراجع عنها أو ينقضها مروان بن الحكم (الذي صار عثمان سيّقة له)(1) بسوء تصرّفه.(2)

وكان الإمام عليه السلام يستهدف من كلّ تلك المساعي التي عبّر عنها بقوله: «أَمَنْ بَذَلَ لَهُ نُصْرَتَهُ» المصلحة العليا للإسلام والمسلمين، وتجنيب الأُمّة النزاع والصراع المسلّح وسفك الدماء، ويتّضح هذا من قوله لعثمان: «وَإِنِّي أَنْشُدُكَ اللّٰهَ أَلَّا تَكُونَ إِمَامَ هٰذِهِ الْأُمَّةِ الْمَقْتُولَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُقَالُ: يُقْتَلُ فِي هٰذِهِ الْأُمَّةِ إِمَامٌ يَفْتَحُ عَلَيْهَا الْقَتْلَ وَالْقِتَالَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَ يَلْبِسُ أُمُورَهَا عَلَيْهَا، وَيَبُثُّ الْفِتَنَ فِيهَا...».(3)

رابعاً: دلّت غير واحدة من الروايات علىٰ أنّ عثمان استنصر معاوية وهو في الحصار، فالإمام عليه السلام يشير إلى أنّ معاوية أَولىٰ بالتهمة، كما يقول: «أَمْ مَنِ اسْتَنْصَرَهُ فَتَرَاخَىٰ عَنْهُ وَبَثَّ الْمَنُونَ إِلَيْهِ، حَتَّىٰ أَتَىٰ قَدَرُهُ عَلَيْهِ»: أي لم ينصره حتى أدركته المنيّة.

روي أنّ معاوية بعد أن تمّ له الأمر قال للصحابي أبي الطفيل عامر بن واثلة: ألست من قتلة عثمان؟ قال أبو الطفيل: لا، ولكنّي لم أنصره. قال معاوية: وما منعك من نصره؟ قال: لم ينصره المهاجرون

ص: 128


1- . قال الإمام مخاطباً عثمان: «فَلَا تَكُونَنَّ لِمَرْوَانَ سَيِّقَةً يَسُوقُكَ حَيْثُ شَاءَ بَعْدَجَلَالِ السِّنِّ وَتَقَضِّي الْعُمُرِ». نهج البلاغة: الخطبة 164.
2- . لاحظ: تاريخ الطبري: 398/3.
3- . نهج البلاغة: الخطبة 164.

والأنصار. قال معاوية: كان حقّاً واجباً عليهم أن ينصروه. قال له أبو الطفيل: وما منعك أن تنصره ومعك أهل الشام؟ قال معاوية: أما طلبي بدمه فنصرة له. فضحك أبو الطفيل وقال: أنت وعثمان كما قال الشاعر:

لا ألفينّك بعد الموت تندبني *** وفي حياتي ما زوّدتني زادا(1)

قال الشيخ الأميني بعد نقل كلام أبي الطفيل: أترى هذا الشيخ الكبير الصالح كيف يعترف بخذلانه عثمان؟ ويحكي مصافقته على ذلك عن المهاجرين والأنصار الصحابة العدول، غير متندّم على ما فرّط هنالك، ولو كان يتحرّج هو ومن نقل عنهم موافقتهم له لردعتهم الصحبة والعدالة عمّا ارتكبوه من القتل والخذلان، ولو كان لحقه وإيّاهم شيء من الندم لباح به وباحوا، لكنّهم اعتقدوا أمراً فمضوا على ضوئه، وإنّهم كانوا على بصيرة من أمرهم، وما اعتراهم الندم إلى آخر نفس لفظوه.(2)

الشبهة الخامسة عشرة

قال الكاتب: وقال مرّة لعثمان عندما ثار الناس عليه: «إِنَّ النَّاسَ وَرَائِي وَقَدِ اسْتَسْفَرُونِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، وَوَاللّٰهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ! مَا أَعْرِفُ شَيْئاً تَجْهَلُهُ، وَلَا أَدُلُّكَ عَلَىٰ أَمْرٍ لَاتَعْرِفُهُ. إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نَعْلَمُ.

ص: 129


1- . الإمامة والسياسة: 165/1؛ مروج الذهب: 25/3؛ مختصر تاريخ دمشق: 293/11.
2- . الغدير: 202/9.

مَا سَبَقْنَاكَ إِلَىٰ شَيْ ءٍ فَنُخْبِرَكَ عَنْهُ، وَلَا خَلَوْنَا بِشَيْ ءٍ فَنُبَلِّغَكَهُ. وَقَدْ رَأَيْتَ كَمَا رَأَيْنَا،... إلى آخر كلامه».(1) ثمّ عقب ذلك بقوله: ولنا أن نقف مع هذا الخطاب السياسي العظيم للإمام، الذي يخاطب به عثمان، انظر إلى هذه الكلمات الصادقة وتدبّرها، يقول: «مَا أَعْرِفُ شَيْئاً تَجْهَلُهُ، وَلَا أَدُلُّكَ عَلَىٰ أَمْرٍ لَا تَعْرِفُهُ» أي أنّ عثمان وعليّاً يشتركان في العلم والمعرفة، وليس أحدهما بأعلم من الآخر، فعليّ يخبر أنّه لا يعرف ولا يعلم شيئاً من أُمور الدين لم يعرفها عثمان.(2)

الجواب: إنّ الكاتب لم يذكر موضع كلام الإمام، قال ابن أبي الحديد: لما اجتمع الناس إلى أمير المؤمنين عليه السلام وشكوا إليه ما نقموه على عثمان وسألوه مخاطبته واستعتابه لهم، فدخل عليه السلام على عثمان، وقال: «إِنَّ النَّاسَ وَرَائِي وَقَدِ اسْتَسْفَرُونِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، وَوَاللّٰهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ! مَا أَعْرِفُ شَيْئاً تَجْهَلُهُ، وَلَا أَدُلُّكَ عَلَىٰ أَمْرٍ لَا تَعْرِفُهُ...».(3)

فإنّ كلام الإمام عليه السلام يرجع إلى الأحداث خاصّة، يقول ابن أبي الحديد: إنّه لا يعلم ماذا يقول له لأنّه لا يعرف أمراً يجهله من هذه

ص: 130


1- . نهج البلاغة: الخطبة 164؛ قراءة راشدة: 44-45.
2- . قراءة راشدة: 45.
3- . شرح نهج البلاغة: 261/9.

الأحداث خاصّة، وهذا حقّ لأنّ علياً عليه السلام لم يكن يعلم منها ما يجهله عثمان، بل كان أحداث الصبيان، فضلاً عن العقلاء المميّزين، يعلمون وجهَي الصواب والخطأ فيها.(1)

ثمّ إنّ قول الإمام عليه السلام: «وَمَا ابْنُ أبِي قُحَافَةَ وَلاَ ابْنُ اَلْخَطَّابِ بِأَوْلىٰ بِعَمَلِ الحَقِّ مِنْكَ...» فالإمام بصدد الملاطفة والقول الليّن ولذلك ذكر سيرة الشيخين ومن الواضح أنّ سيرتهما تختلف عن سيرة عثمان الذي أسّس حكومة (عائلية) أموية بحتة، وطرد أعاظم الصحابة، وأين ذلك من عمل الشيخين... وأمّا أنّ الشيخين كانا في منتهى الصواب - كما يتصوّر الكاتب - فلا يدلّ عليه شيء من عبارة الإمام.

وحصيلة الكلام: إنّ الإمام بصدد إسداء النصيحة لغاية نجاة الخليفة من الهلاك، لذا فهو يذكر أُموراً عسى أن يقنعه ليغيّر سيرته ويلبّي طلبات الثوار المحيطين به، ولذلك يقول في آخر كلامه: «وَإِنِّي أَنْشُدُكَ اللّٰهَ أَلَّا تَكُونَ إِمَامَ هٰذِهِ الْأُمَّةِ الْمَقْتُولَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُقَالُ: يُقْتَلُ فِي هٰذِهِ الْأُمَّةِ إِمَامٌ يَفْتَحُ عَلَيْهَا الْقَتْلَ وَالْقِتَالَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

ص: 131


1- . شرح نهج البلاغة: 262/9-263.

الشبهة السادسة عشرة

قال الكاتب: قال علي رضى الله عنه عن السيدة عائشة، في أصحاب الجمل: «فَخَرَجُوا يَجُرُّونَ حُرْمَةَ رَسُولِ اللّٰهِ صلى الله عليه و آله و سلم كَمَا تُجَرُّ الْأَمَةُ عِنْدَ شِرَائِهَا، مُتَوَجِّهِينَ بِهَا إِلَىٰ الْبَصْرَةِ، فَحَبَسَا نِسَاءَهُمَا فِي بُيُوتِهِمَا، وَأَبْرَزَا حَبِيسَ رَسُولِ اللّٰهِ صلى الله عليه و آله و سلم لَهُمَا وَلِغَيْرِهِمَا»(1)؟

ثم قال الكاتب: فسمّاها عليٌّ حرمة رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم... ونقول: إذا سمّاها الإمام حرمة، فهل يجوز استطالة اللسان فيها والتعرّض لها، ونبزها والتشفّي منها.(2)

ثم قال: وذكرها مرّة فقال: «فَمَنِ اسْتَطَاعَ عِنْدَ ذٰلِكَ أَنْ يَعْتَقِلَ نَفْسَهُ عَلَىٰ اللّٰهِ، عَزَّوَجَلَّ، فَلْيَفْعَلْ. فَإِنْ أَطَعْتُمُونِي فَإِنِّي حَامِلُكُمْ إِنْ شَاءَ اللّٰهُ عَلَىٰ سَبِيلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ ذَا مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ وَمَذَاقَةٍ مَرِيرَةٍ.

وَأَمَّا فُلَانَةُ فَأَدْرَكَهَا رَأْيُ النِّسَاءِ، وَضِغْنٌ غَلَا فِي صَدْرِهَا كَمِرْجَلِ الْقَيْنِ، وَلَوْ دُعِيَتْ لِتَنَالَ مِنْ غَيْرِي مَا أَتَتْ إِلَيَّ، لَمْ تَفْعَلْ. وَلَهَا بَعْدُ حُرْمَتُهَا الْأُولَىٰ، وَالْحِسَابُ عَلَىٰ اللّٰهِ تَعَالىٰ».(3)

ثمّ قال: ما معنى حرمتها الأُولى؟ تدبّر هذه الكلمة، لا أظنّ الإمام عنى إلّاأنّها زوج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأنّها أُمّ المؤمنين.(4)

ص: 132


1- . نهج البلاغة: الخطبة 172.
2- . قراءة راشدة: 46-47.
3- . نهج البلاغة: الخطبة 156.
4- . قراءة راشدة: 47.

الجواب: إنّ الكاتب بعد ما حاول تكريم الخلفاء الثلاثة فوق ما يستحقّون وذلك بإخضاع كلام الإمام أمير المؤمنين على ما يرتئيه، حاول في هذا المقام تكريم السيدة عائشة حسب ما يُريد.

أقول: لا شكّ أنّ زوجات النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بانتسابهن إليه صلى الله عليه و آله و سلم، محترمات، لا يشكّ في ذلك أحد من المسلمين، إلّاأنّ تكريمهنّ لأجل الانتساب إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لا يمنع البحث عن نقد أفعالهنّ ومواقفهنّ من المسائل الاجتماعية بل حتى الفردية، وهذا هو كتاب اللّٰه المجيد يصف بعض أزواج النبيّ بقوله: (إِنْ تَتُوبٰا إِلَى اَللّٰهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمٰا وَ إِنْ تَظٰاهَرٰا عَلَيْهِ فَإِنَّ اَللّٰهَ هُوَ مَوْلاٰهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صٰالِحُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ بَعْدَ ذٰلِكَ ظَهِيرٌ) (1).

روى مسلم بإسناده إلى ابن عباس أنّه سأل عمر بن الخطاب:

مَن المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه و آله و سلم اللّتان قال اللّٰه عزّ وجلّ لهما: (إِنْ تَتُوبٰا إِلَى اَللّٰهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمٰا) ؟ قال عمر: حفصة وعائشة.(2)

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى أنّ عملهما هذا كان ناتجاً عن ميل قلوبهما إلى الإثم، وعدولهما عن الحق إلى الباطل، فقد خرجتا عن أدب المعاشرة، بل عن أدب الإسلام، حيث إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أوصاهما

ص: 133


1- . التحريم: 4.
2- . صحيح مسلم، كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء، برقم 3586؛ وانظر: صحيح البخاري: 310/3، كتاب التفسير.

بالكتمان، وبما أنّهما خالفتا وصيّته، فأمامهما طريقان، وهما مخيرتان بينهما: 1. التوبة والندامة، كما يقول سبحانه: (إِنْ تَتُوبٰا إِلَى اَللّٰهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمٰا) .

2. الاستمرار في هذا العمل كما يقول سبحانه: (وَ إِنْ تَظٰاهَرٰا عَلَيْهِ فَإِنَّ اَللّٰهَ...) .

فلا عتب على الباحث إذا درس حياة السيد عائشة ووجد فيها ثغرة أو ثغرات لا تنسجم مع مقتضى كونها زوج الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، ولذلك كتب أمير المؤمنين عليه السلام - لمّا قارب البصرة - إلى طلحة والزبير وعائشة، قال: «وأنت يا عائشة فإنّك خرجت من بيتك عاصية للّٰه ولرسوله تطلبين أمراً كان عنك موضوعاً، ثمّ تزعمين أنّك تريدين الإصلاح بين المسلمين، فخبّريني ما للنساء وقود الجيوش والبروز للرجال، والوقوع بين أهل القبلة وسفك الدماء المحرّمة؟ ثمّ إنّك طلبت على زعمك دم عثمان، وما أنت وذلك؟

عثمان رجل من بني أُميّة وأنت من تيم، ثمّ بالأمس تقولين في ملأ من أصحاب رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: اقتلوا نعثلاً قتله اللّٰه فقد كفر، ثمّ تطلبين اليوم بدمه؟ فاتقي اللّٰه وارجعي إلى بيتك، واسبلي عليك سترك، والسلام»(1).

ص: 134


1- . تذكرة الخواص: 69.

قال ابن أبي الحديد: قال كلّ من صنّف في السير والأخبار: إنّ عائشة كانت من أشدّ الناس على عثمان حتى أنّها أخرجت ثوباً من ثياب رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم فنصبته في منزلها وكانت تقول للداخلين إليها: هذا ثوب رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم لم يبل وعثمان قد أبلى سنّته. قالوا:

أوّل مَن سمّى عثمان نعثلاً عائشة، وكانت تقول: اقتلوا نعثلاً، قتل اللّٰه نعثلاً.(1)

وعلى كلّ تقدير، فمَن قرأ تاريخ حرب الجمل يقف على أنّ عائشة كانت في الخط الأوّل من هذه الوقعة المؤلمة لمحاربة الإمام، المفترضة طاعته! إمّا بتنصيص من الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أو ببيعة وانتخاب المهاجرين والأنصار، وقد كان الجمل الذي يحمل عائشة في وسط الميدان، ومادام الجمل قائماً كانت نار الحرب بين الفريقين مستعرة، فلم يجد الإمام عليه السلام بدّاً من الأمر بعقر الجمل حتى يسقط على الأرض وتُكسر بعقره شوكة الناكثين...

قال الإمام علي عليه السلام: «ويلكم اعقروا الجمل فإنّه شيطان، اعقروه وإلّا فنيت العرب. لا يزال السيف قائماً وراكعاً حتى يهوي هذا البعير إلى الأرض».(2)

ومع ذلك كلّه فالإمام عليه السلام يطلق كلمته الأخيرة، حيث قال: ولها

ص: 135


1- . شرح نهج البلاغة: 215/6.
2- . شرح نهج البلاغة: 267/1.

حرمتها الأُولى، وكلامه حجّة على الكلّ، غير أنّك عرفت أنّ حفظ الحرمة لا يمنع من دراسة سيرة حياة أي إنسان محترم.

وننبّه إلىٰ أنّ الكاتب يذكر هنا هذه الخطبة لتأييد دعواه بأنّ الإمام يثني على عائشة، ولكنّه يُعرض عن فقرات فيها تنقض عليه دعواه بأنّ الإمام يثني على الصحابة (دون تخصيص)، وأعني قوله عليه السلام فيها: «فَخَرَجُوا يَجُرُّونَ حُرْمَةَ رَسُولِ اللّٰهِ صلى الله عليه و آله و سلم كَمَا تُجَرُّ الْأَمَةُ عِنْدَ شِرَائِهَا، مُتَوَجِّهِينَ بِهَا إِلَىٰ الْبَصْرَةِ»، فهل عملهم هذا من الثناء أو من الذمّ يا فضيلة الكاتب؟!

ص: 136

المبحث الرابع: أهل الشام

المبحث الرابع أهل الشام(1)

خصّ الكاتب هذا المبحث بأهل الشام، وقد بذل جهده في إثبات أنّهم لم يكفروا بمحاربتهم لإمام زمانهم علي عليه السلام، ثم استدلّ بفقرات من كلمات الإمام عليه السلام على ما يُريد.

أقول: إنّ الكاتب لم يفرّق بين الباغي والكافر، وأصحاب الجمل وأهل الشام الذين خرجوا من ديارهم وحاربوا الإمام كلّهم بغاة، وللكفّار أحكام، وللبغاة أحكام أُخرى، ولذلك قال أحمد بن حنبل بأنّه لولا أنّ عليّاً حارب هؤلاء لم نقف على أحكام البغاة.(2)

ثمّ إنّ الحكم بتكفير أهل بلد واحد أو بكونهم بغاة، جميعاً وبلا استثناء، بحاجة إلى دليل قاطع على الاستيعاب، وأنّى للفقيه ذلك

ص: 137


1- . لاحظ: قراءة راشدة: 48-51.
2- . لاحظ: تذكرة الخواص لابن الجوزي: 38-39.

الحكم، وإنّما الحكم على الغالب أو الأغلب...

ومع ذلك يمكن أن يوجد فيهم مَن لم يحارب عليّاً ولم يخرج من بيته، واللّٰه هو العالم بما في ضمائر وقلوب عباده.

ولذلك لا ندور حول هذا الموضوع كثيراً، وإنّما نورد بعض ما قاله الإمام في معاوية وفئته الباغية، ومنه تتّضح رؤيته لهم، وموقفه منهم.

قال عليه السلام من كتاب له إلىٰ معاوية، جواباً عن كتاب منه إليه: «وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّ الْحَرْبَ قَدْ أَكَلَتِ الْعَرَبَ إِلَّا حُشَاشَاتِ أَنْفُسٍ بَقِيَتْ، أَلَا وَمَنْ أَكَلَهُ الْحَقُّ فَإِلَىٰ الْجَنَّةِ، وَمَنْ أَكَلَهُ الْبَاطِلُ فَإِلَىٰ النَّارِ». ثمّ قال:

«وَلَيْسَ أَهْلُ الشَّامِ بِأَحْرَصَ عَلَىٰ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَىٰ الْآخِرَةِ».(1)

وقال عليه السلام من كتاب له إلى معاوية: «وَأَرْدَيْتَ جِيلاً مِنَ النَّاسِ كَثِيراً؛ خَدَعْتَهُمْ بِغَيِّكَ، وَأَلْقَيْتَهُمْ فِي مَوْجِ بَحْرِكَ، تَغْشَاهُمُ الظُّلُمَاتُ، وَتَتَلَاطَمُ بِهِمُ الشُّبُهَاتُ...».(2)

والعجب أنّ الكاتب لم يورد مثل هذه الأقوال، ولم يقف عند كلمات الإمام الواضحة، الدالّة على نكوص هؤلاء البغاة على الأعقاب وتماديهم في الضلال، بل أخذ يستدلّ بفقرات من كلام

ص: 138


1- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 17.
2- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 32.

الإمام عليه السلام على نزاهة أهل الشام، ناسياً ما نقله عن الإمام عليه السلام سابقاً في حقّهم!! حيث قال في شأن الحكمين وذمّ أهل الشام: «جُفَاةٌ طَغَامٌ، وَعَبِيدٌ أَقْزَامٌ، جُمِعُوا مِنْ كُلِّ أَوْبٍ، وَتُلُقِّطُوا مِنْ كُلِّ شَوْبٍ، مِمَّنْ يَنْبَغِي أَنْ يُفَقَّهَ وَيُؤَدَّبَ، وَيُعَلَّمَ وَيُدَرَّبَ، وَيُوَلَّىٰ عَلَيْهِ، وَيُؤْخَذَ عَلَىٰ يَدَيْهِ. لَيْسُوا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَلَا مِنَ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ».(1)

***

ص: 139


1- . نهج البلاغة: الخطبة 242.

المبحث الخامس: أصحاب عليّ عليه السلام

قال الكاتب: بعد أن استعرضنا مواقف علي عليه السلام من الصحابة وأهل الشام، ورأينا كيف مدح الخلفاء قبله، سنتعرّض إلى كلامه حول أصحابه، وكيف كان يذمّهم هو بنفسه، وكثيرون لا يرضون بذمّ أصحاب علي عليه السلام بل يمدحونهم ويرفعونهم، ولكنّهم في المقابل يرمون أصحاب خير الخلق محمد صلى الله عليه و آله و سلم، وتلك هي قسمة ضيزى!(1)

أقول: لا شكّ أنّ الكوفة كانت معقل الشيعة، وقد كان للإمام فيها صحابة وأنصار مخلصون ثبتوا على صلاحهم وتفانيهم في حب الإمام عليه السلام حتى ذاقوا كأس المنون ونالوا مرتبة الشهادة بعد شهادة الإمام عليه السلام أمثال: حُجر بن عَديّ وأصحابه الذين قتلهم ابن أبي سفيان

ص: 140


1- . قراءة راشدة: 52.

في مرج عذراء من نواحي الشام، وميثم التمّار الذي صُلب في الكوفة على جذع النخلة وكان ينشر فضائل الإمام علي عليه السلام وهو مصلوب، وغير هؤلاء من صالحي أنصار الإمام عليه السلام، كمالك الأشتر وصعصعة بن صوحان العبدي وغيرهم. ومع ذلك كان بين أهل الكوفة أُناس يذمّهم الإمام عليه السلام لتثبيطهم الناس عن الحرب، وليس هذا أمراً مكتوماً، فالبحث فيه إيضاح للواضحات. نعم للكاتب وراء مدح أهل الشام وذمّ أهل الكوفة غرض خاص لا يفوت القارئ الكريم عرفانه.

***

ص: 141

المبحث السادس: الكتاب والسنّة

قال الكاتب: ولنا أن نعرض كلام الإمام ونتفحّصه حول الكتاب والسنّة، لنرى كيف كان الإمام يتعامل مع هذين المصدرين.

ثمّ ذكر شيئاً من خطب الإمام حول الكتاب العزيز وقال: «وَإِنَّ الْقُرْآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ، لَاتَفْنَىٰ عَجَائِبُهُ، وَلَا تَنْقَضِي غَرَائِبُهُ، وَلَا تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إلَّابِهِ».(1)

ثم قال: وصف يدل على إيمانه التام به، وأنّه لا قرآن غيره، وأنّه هو الدائم الذي لا يبدَّل ولا يحول.(2)

ثمّ نقل فقرة أُخرى حول السنّة الشريفة، قال عليه السلام: «أَمَّا وَصِيَّتِي:

فَاللّٰهَ لَاتُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَمُحَمَّداً صلى الله عليه و آله و سلم، فَلَا تُضَيِّعُوا سُنَّتَهُ. أَقِيمُوا

ص: 142


1- . نهج البلاغة: الخطبة 18.
2- . قراءة راشدة: 63.

هٰذَيْنِ الْعَمُودَيْنِ، وَأَوْقِدُوا هٰذَيْنِ الْمِصْبَاحَيْنِ، وَخَلَاكُمْ ذَمٌّ مَا لَمْ تَشْرُدُوا».(1)

أقول: إنّ الكاتب بصدد التصيّد في الماء العكر، واتّهام الشيعة بالقول بتحريف القرآن وعدم العمل بسنّة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم فنقل كلام الإمام علي تعرّضاً لعمل الشيعة - حسب زعمه -.

وأنا باسم كلّ شيعي إمامي أشهد بأنّ الشيعة جميعاً يعملون بالكتاب والسنّة وهما من الأدلّة الأربعة عند فقهائهم، فالكتاب أوّلاً والسنّة ثانياً، والإجماع ثالثاً، والعقل رابعاً، وأنّ العقيدة المجمع عليها عبر القرون هو أنّ الكتاب العزيز لم يحرَّف، ولو وجد بين الشيعة مَن يقول بالتحريف فهو قول شاذ لا يُعتدّ به، كما أنّ القول بالتحريف موجود عند أبناء السنّة كذلك.

وأمّا ما يُروىٰ عن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم فهو الدليل الثاني، حتى أنّ حجّية أقوال الأئمّة: لأجل أنّها تحكي عن السنّة النبوية.

ولا أدري ما الذي حمل الكاتب على فتح هذا الباب.

أقول: وشهيدي اللّٰه أنّ كلّ فرد من الطائفتين (السنّة والشيعة) يحاول أن يتّهم الطائفة الأُخرى بالتحريف فهو لا يخدم - من حيث يعلم أو لا يعلم - إلّاالأعداء من التبشيريّين، الذين يستميتون لإثبات تحريف كتاب اللّٰه العزيز حتى يدفعوا بذلك العار اللاحق بهم بسبب

ص: 143


1- . نهج البلاغة: الخطبة 149.

تحريف الكتاب المقدّس، ويعلنوها صراحة بأنّ التحريف لا يختصّ بكتابنا، بل لحق حتى كتاب اللّٰه العزيز وأنّه مُنيَ بما مُنيَ به الكتاب المقدّس.

وفي هذا المقام أُخاطب الكاتب بأنّ محاولتك لاتّهام الشيعة بتحريف كتاب اللّٰه العزيز مع كونها تهمة تؤاخذ بها أنت، هي خدمة للأعداء. وإلى اللّٰه المشتكى.

ص: 144

المبحث السابع: الدعاء

اشارة

أمرنا اللّٰه سبحانه بالدعاء قائلاً: (اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (1).

وقال النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم: «الدعاء سلاح المؤمن».(2)

والإنسان بما أنّه موجود ممكن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، بل وجوده وكل ما له به صلة من نعم اللّٰه سبحانه وفيوضاته.

ثمّ إنّ الإنسان قد يتوسّل ويدعو اللّٰه تبارك وتعالى بلا توسيط دعاء نبيّ أو دعاء مؤمن أو توسيط كرامة إنسان، فباب اللّٰه تعالى مفتوح بوجه الإنسان.

وأُخرى قد يدعو اللّٰه تبارك وتعالى ويوسّط بين الدعاء والمدعو دعاء الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أو دعاء إنسان مؤمن أو غير ذلك من الوسائط،

ص: 145


1- . غافر: 60.
2- . كنز العمال: 62/2، برقم 3117.

فالجميع دعاء مشروع دلّ عليه الكتاب والسنّة. ومن قرأ تاريخ الأُمم والشرائع السابقة والآيات الكريمة والأحاديث النبوية لا يشكّ في أنّ الدعاء - على كلا الوجهين - أمر مشروع. غير أنّ الكاتب في هذا المبحث رفع النقاب عمّا يضمر، وذلك لأنّه كان في البحوث السابقة بصدد الردّ على الشيعة ولكنّه في هذا المبحث وما يأتي بعده صار بصدد الرد على أغلب المسلمين والجمع الكثير من أهل السنّة، وبذلك صار من دعاة التفرقة مكان أن يكون داعياً إلى الوحدة.

إنّ من بدع الوهابية التي أرسىٰ قواعدها وزرع بذرها أحمد بن تيمية وسقاها المتطفّل على مائدته محمد بن عبد الوهاب، هو عدم جواز التوسّل بالأولياء عند الدعاء، وهذا هو الذي يطرحه الكاتب في هذا المبحث، حيث إنّه عرّف الدعاء بقوله: الدعاء عبادة لا يجوز صرفها لغير اللّٰه تعالى، ولا يجوز التوسّل في الدعاء بغير المشروع.(1)

أقول: إنّ ما ذكره من الكبرى (لا يجوز التوسّل في الدعاء بغير المشروع) أمر مسلّم، إنّما الكلام في تمييز المشروع عن غيره.

ثمّ يبيّن - الكاتب - أنّ توسيط الأنبياء والأولياء في الدعاء أمر غير مشروع، فدعاء اللّٰه سبحانه بالنحو التالي: «اللّهمّ استجب دعائي بحقّ محمّد وآل محمد» دعاء غير مشروع، واستدلّ على ذلك من

ص: 146


1- . قراءة راشدة: 71.

كلمات الإمام عليه السلام بالفقرات التالية:

1. قال في وصيته لابنه الحسن رضى الله عنه: «وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ أَذِنَ لَكَ فِي الدُّعَاءِ، وَتَكَفَّلَ لَكَ بِالْإِجَابَةِ، وَأَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ لِيُعْطِيَكَ، وَتَسْتَرْحِمَهُ لِيَرْحَمَكَ، وَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مَنْ يَحْجُبُكَ عَنْهُ، وَلَمْ يُلْجِئْكَ إِلَىٰ مَنْ يَشْفَعُ لَكَ إِلَيْهِ».(1)

وأمّا وجه الدلالة، فيقول: انظر كلامه: «وَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مَنْ يَحْجُبُكَ عَنْهُ، وَلَمْ يُلْجِئْكَ إِلَىٰ مَنْ يَشْفَعُ لَكَ إِلَيْهِ» ما معنى هذا الكلام؟ أليس معناه طرح الواسطة بينك وبين اللّٰه في المسألة؟(2)

والجواب: إنّ الإمام عليه السلام بصدد بيان أنّه لا مانع ولا حجاب بين الداعي والمدعوّ، وأنّه سبحانه أقرب إلى الداعي من حبل الوريد، وأنّه ما من ثلاثة إلّاهو رابعهم، وما من خمسة إلّاهو سادسهم، وعلىٰ هذا فللداعي أن يدعو اللّٰه تعالى دون أن يتصوّر أنّ بينه وبين ربّه أيّ حجاب أو مانع.

وأمّا قوله: «وَلَمْ يُلْجِئْكَ إِلَىٰ مَنْ يَشْفَعُ لَكَ إِلَيْهِ» فهو بصدد بيان أنّ للدعاء طريقين:

أحدهما: أن يدعو اللّٰه تعالى بلا شفاعة أحد.

وثانيهما: أن يدعو اللّٰه تعالى مع الشفاعة.

ص: 147


1- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 3.
2- . قراءة راشدة: 73.

فاللّٰه سبحانه لم يحصر الدعاء بالنحو الثاني فقط، بل بابه سبحانه مفتوح بوجه الداعين بكلا النحوين. 2. خطبة الإمام في التوسّل، قال: «إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ الْمُتَوَسِّلُونَ إِلَىٰ اللّٰهِ سُبْحٰانَهُ وَتَعَالىٰ، الْإِيمَانُ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، فَإِنَّهُ ذِرْوَةُ الْإِسْلَامِ؛ وَكَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ فَإِنَّهَا الْفِطْرَةُ؛ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا الْمِلَّةُ؛ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ؛ وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنَ الْعِقَابِ؛ وَحَجُّ الْبَيْتِ وَاعْتَِمارُهُ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَيَرْحَضَانِ الذَّنْبَ. وَصِلَةُ الرَّحِمِ فَإِنَّهَا مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ، وَمَنْسَأَةٌ فِي الْأَجَلِ؛ وَصَدَقَةُ السِّرِّ فَإِنَّهَا تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ؛ وَصَدَقَةُ الْعَلَانِيَةِ فَإِنَّهَا تَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ؛ وَصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهَا تَقِي مَصَارِعَ الْهَوَانِ».(1)

والاستدلال بهذه الفقرة كالاستدلال بالأمرين المتقدّمين.(2)

والجواب: إنّ الإمام في هذا الكلام بصدد بيان أفضل الوسائل لكسب مرضاة اللّٰه وثوابه، وأنّ أفضل الوسائل هو أعمال الإنسان عقيدة وعملاً، فلذلك ذكر الأُمور التالية:

1. الإيمان باللّٰه سبحانه.

2. الإيمان برسوله.

3. الجهاد في سبيله.

ص: 148


1- . نهج البلاغة: الخطبة 110.
2- . قراءة راشدة: 74.

4. كلمة الإخلاص فإنّها الفطرة.

5. إقام الصلاة فإنّها الملّة.

6. إيتاء الزكاة فإنّها فريضة واجبة.

7. صوم شهر رمضان فإنّه جنة من العقاب.

8. حجّ البيت.

9. صلة الرحم فإنّها مثراة في المال.

10. صدقة السِّرّ فإنّها تكفّر الخطيئة.

11. صنائع المعروف فإنّها تقي مصارع الهوان.

ثمّ أفاض الإمام الكلام في ذكر اللّٰه وقراءة القرآن. ومَن تدبّر في الخطبة يقف على أنّ الإمام ردّ ما ربما يُتوهَّم من أنّ طهارة القلوب تكفي في التقرّب إلى اللّٰه تعالى وكسب رضاه، غير أنّ الإمام يركّز على العكس وأنّ الوسيلة لكسب رضا اللّٰه ومرضاته هي الأعمال.

باللّٰه عليك هل هذا الكلام في هذا الموقف بصدد الردّ على من توسّل بدعاء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أو بدعاء أخيه المؤمن، أو بذات الأنبياء، والأولياء؟ فإنّ استنتاج الثاني من الخطبة أمر غريب دالّ على ضعف الكاتب بموارد الكلام، ومعاني الفقرات.

3. وفي كلام له عليه السلام يقول عن ربّنا سبحانه: «فَاسْتَفْتِحُوهُ، وَاسْتَنْجِحُوهُ، وَاطْلُبُوا إِلَيْهِ وَاسْتَمْنِحُوهُ (واستميحوه)، فَمَا قَطَعَكُمْ

ص: 149

عَنْهُ حِجَابٌ، وَلَا أُغْلِقَ عَنْكُمْ دُونَهُ بَابٌ».(1)

ثم قال الكاتب بعد هذه الفقرة: هل نحتاج إلى تعليق.(2)

والجواب: إنّ الكاتب لم يتأمّل في كلام الإمام عليه السلام ونحن نذكر ما يوضح مراده عليه السلام. قوله: «فَاسْتَفْتِحُوهُ»: أي اطلبوا منه الفتح عليكم والنصر لكم.

«وَاسْتَنْجِحُوهُ»: أي اطلبوا منه النجاح والظفر.

«وَاطْلُبُوا إِلَيْهِ»: أي اسألوه، يقال: طلبت إلى زيد كذا وفي كذا.

«وَاسْتَمْنِحُوهُ»، بكسر النون: اطلبوا منه المنحة، وهي العطية.

ويروى «واستميحوه» بالياء، استمحت الرجل: طلبت عطاءه، ومحتُ بالرجل: أعطيته.

ثمّ ذكر عليه السلام أنّه لا حجاب يمنع عنه، ولا دونه باب يُغلق، وأنّه بكلّ مكان موجود، وفي كلّ حين وأوان، والمراد بوجوده في كلّ مكان إحاطته بالعوالم كلّها، قال تعالى: (مٰا يَكُونُ مِنْ نَجْوىٰ ثَلاٰثَةٍ إِلاّٰ هُوَ رٰابِعُهُمْ) (3)، وقال سبحانه: (وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ) .(4)

هذا هو مقصد الإمام ومرامه، فهو يركّز على حضوره سبحانه

ص: 150


1- . نهج البلاغة: الخطبة 195.
2- . قراءة راشدة: 74-75.
3- . المجادلة: 7.
4- . الحديد: 4.

في كلّ مكان ومقام وأنّه لا حاجب بينه وبين عباده.

وأمّا أنّه إذا دعا العبد المذنب ربه وتوسّل بدعاء النبيّ أو بدعاء أخيه أو أحد المقرَّبين، فليس الإمام بصدد إثبات جوازه أو الحكم ببطلانه.

والحق أنّ الكاتب اتّخذ موقفاً مسبقاً، خاصّاً به، حاول أن يجد على ما يتبنّاه دليلاً حسب زعمه.

إلى هنا تمّت مناقشة ما استدلّ به الكاتب على ما يرتئيه، وإليك بحثاً موجزاً حول التوسّل على ضوء الكتاب والسنّة.

الأدلّة الشرعية على التوسّل

اشارة

إنّ للتوسّل وجوهاً مختلفة دلّ على جوازها الكتاب العزيز والسنّة النبويّة، وإليك عدداً منها:

الأوّل: التوسّل بدعاء النبي صلى الله عليه و آله و سلم في حال حياته

دلّ الكتاب العزيز على توسيط دعاء النبي صلى الله عليه و آله و سلم لطلب المغفرة، قال سبحانه: (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جٰاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّٰهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ لَوَجَدُوا اَللّٰهَ تَوّٰاباً رَحِيماً) (1).

وفي آية أُخرى يحكي سبحانه عن طلب أبناء يعقوب من أبيهم

ص: 151


1- . النساء: 64.

أن يستغفر اللّٰه لهم، قال تعالى: (قٰالُوا يٰا أَبٰانَا اِسْتَغْفِرْ لَنٰا ذُنُوبَنٰا إِنّٰا كُنّٰا خٰاطِئِينَ * قٰالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ) .(1)

فلو كان قول الإمام عليه السلام: «وَلَمْ يُلْجِئْكَ إِلَىٰ مَنْ يَشْفَعُ لَكَ إِلَيْهِ» دليلاً على بطلان التوسّل - كما زعمه الكاتب - فكيف يجمع بين كلام الإمام المعصوم والقرآن المجيد؟ كلا إنّ كلام الإمام لا يشذّ عن القرآن قدر رأس إبرة، وإنّما الخطأ والشذوذ في استنباط الكاتب، وهو استنباط نابع عن موقف سلبيّ مسبق، قبل الرجوع إلى كلام الإمام عليه السلام.

الثاني: التوسّل بدعاء النبي بعد رحيله

إنّ سيرة المسلمين قاطبة منذ عصر الصحابة والتابعين إلى عصرنا الحاضر قائمة على التوسّل بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بعد رحيله ولحوقه بالرفيق الأعلى، وهناك شواهد كثيرة لا يسع المقامُ نقلَها، ولكن نذكر شيئاً قليلاً منها:

1. قال محيي الدين النووي (631-676 ه): ثمّ يأتي القبر الكريم فيستدبر القبلة ويستقبل جدار القبر... ثمّ يسلّم ولا يرفع صوته، بل يقصده فيقول: «السلام عليك يا رسول اللّٰه، السلام عليك يا نبي اللّٰه، السلام عليك يا خيرة خلق اللّٰه... ثمّ يقول: جزاك اللّٰه يا رسول اللّٰه عنّا

ص: 152


1- . يوسف: 97-98.

أفضل ما جزى نبيّاً ورسولاً عن أُمّته، وصلّى عليك كلّما ذكرك ذاكر وغفل عن ذكرك غافل... إلى أن يقول: اللّهم آته الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، وآته نهاية ما ينبغي أن يسأله السائلون».

ولا يتصوّر أحد أنّ القول بصحّة طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه و آله و سلم يختص بالنووي وبعض أساتذته، بل المحدّثون والفقهاء - إلّامن شذّ من الوهابية - متّفقون على ذلك، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابنا: «الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية».(1)

وأمّا القول بأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم ميّت ولا يسمع الدعاء، فهو على خلاف ما أجمع عليه المسلمون من الحياة البرزخية للأنبياء والصلحاء والنبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بشهادة أنّ المسلمين يسلّمون عليه كلّ يوم وليلة ويقولون السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة اللّٰه وبركاته.

حتى أنّ الجدد من الوهابيّين يجوّزون زيارة النبي صلى الله عليه و آله و سلم والتسليم عليه. ولنا رسالة مستقلة حول «الحياة البرزخية».

الثالث: التوسّل بذات الأنبياء والصالحين

هذا هو بيت القصيد في كلام الكاتب، والفرق بين هذا التوسّل وما قبله هو أنّ الإنسان يتوسّل إلى اللّٰه بدعائهم ويطلب منهم أن

ص: 153


1- . الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية: 298-300.

يدعون له بقضاء حاجته، وفي الحقيقة يجعل دعاءهم وسيلة للتقرّب إلى اللّٰه تعالى.

وأمّا المقام فيقوم على أساس التوسّل بذوات الأنبياء والصالحين وجعلهم وسيلة لاستجابة الدعاء، والاعتماد على ما لهم من المقام والمنزلة الرفيعة عند اللّٰه سبحانه.

وبعبارة أُخرى: إنّ المتوسّل يجعل تلك الذوات الطاهرة والنفوس الزكية والشخصيات المثالية واسطة بينه وبين ربّه ويتقرّب إلى اللّٰه بحرمتهم ومقامهم المعنوي، لأنّه يعلم أنّ لهم منزلة ومقاماً عند ربّهم، ثمّ يدعو اللّٰه سبحانه لعلّه يستجيب دعاءه بحرمة الذوات المقدّسة. ولهذا التوسّل صور، منها: اللّهمّ إنّي أتوسّل إليك بخاصّة أوليائك.

اللّهمّ إنّي أتوسّل إليك بمقام ومنزلة أوليائك.

اللّهمّ إنّي أتوسّل إليك بنبيّك الأكرم وأهل بيته الطاهرين.

ففي هذه التوسّلات يجعل المتوسّل الواسطة للتقرّب بينه وبين ربّه نفس النبي صلى الله عليه و آله و سلم والأولياء والصالحين، وهذا النوع من التوسّل بالإضافة إلى رواجه وشيوعه في الأوساط العلمية، تدلّ عليه رواية صحيحة تحت عنوان «حديث الضرير» رواها أتباع مدرسة الصحابة وأذعنوا بصحّتها.

ص: 154

توسّل الضرير بنبي الرحمة

اشارة

رُوي عن عثمان بن حُنيف أنّه قال: إنّ رجلاً ضريراً أتى النبيّ فقال: أُدع اللّٰه أن يعافيني، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «إن شئت دعوتُ وإن شئت صبرتَ وهو خير».

قال: فادعه، قال: فأمره أن يتوضّأ فيُحسن وضوءه ويصلّي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: «اللّٰهُمَّ إِنّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ محمّد نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يا مُحَمَّدٍ إنّي أتوّجهُ بِكَ إلى رَبّي في حاجَتي لتُقضى، اللّهمّ شفِّعه فيّ».

قال ابن حنيف: فواللّٰه ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا كأن لم يكن به ضرّ.(1)

إنّ الاستدلال بالرواية مبنيّ على صحّتها سنداً وتماميتها دلالة.

أمّا الأوّل: فلا يناقش في صحّتها إلّاالجاهل بعلم الرجال، حتّى أنّ ابن تيمية(2) اعترف بصحّة الحديث حيث قال: قد روى الترمذي حديثاً صحيحاً عن النبي أنّه علّم رجلاً أن يدعو فيقول: «اللّٰهُمَّ إِنّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبيّك».

وروى النسائي نحو هذا الدعاء.

ص: 155


1- . سنن الترمذي: 229/5، كتاب الدعوات، الباب 119، برقم 3659؛ سنن ابن ماجة: 441/1، برقم 1385؛ مسند أحمد: 138/4، إلى غير ذلك من المصادر.
2- . مجموعة الرسائل والمسائل: 13/1.

وقال الترمذي: هذا حديث حقّ حسن صحيح، وقال ابن ماجة:

هذا حديث صحيح.

وقال الرفاعي: لا شكّ أنّ هذا الحديث صحيح ومشهور.(1)

وبعد ذلك فلا يحقُّ لأحد التشكيك في صحّة سند الحديث، إنّما الكلام في دلالته، وإليك البيان:

إنّ الحديث يدلّ بوضوح على أنّ الأعمى توسّل بذات النبيّ بتعليم منه صلى الله عليه و آله و سلم، والأعمى وإن طلب الدعاء من النبي الأكرم في بدء الأمر، إلّاأنّ النبيّ علّمه دعاءً تضمّن التوسّل بذات النبي، وهذا هو المهم في تبيين معنى الحديث.

وبعبارة ثانية: إنّ الذي لا ينكر عند الإمعان في الحديث أمران:

الأوّل: أنّ الرجل طلب من النبي صلى الله عليه و آله و سلم الدعاء ولم يظهر منه التوسّل بذات النبيّ.

الثاني: أنّ الدعاء الذي علّمه النبي، تضمّن التوسّل بذات النبي بالصراحة التامّة، فيكون ذلك دليلاً على جواز التوسّل بالذات.

وإليك الجمل والعبارات التي هي صريحة في المقصود:

1. اَللّٰهُمَّ إِنّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ

إنّ كلمة «نبيّك» متعلّقة بفعلين، هما: «أسألك» و «أتوجّه إليك»،

ص: 156


1- . التوصّل إلى حقيقة التوسّل: 158.

والمراد من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم نفسه القدسية وشخصيته الكريمة لا دعاؤه.

وتقدير الوهابي كلمة «دعاء» قبل لفظ «بنبيّك» حتّى يكون المراد هو «أسألك بدعاء نبيّك، أو أتوجّه إليك بدعاء نبيّك» تحكّم وتقدير بلا دليل، وتأويل بدون مبرّر، ولو أنّ أحداً ارتكب مثله في غير هذا الحديث لرموه بالجهمية والقدريّة.

2. مُحمّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ

لكي يتّضح أنّ المقصود هو سؤال اللّٰه بواسطة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وشخصيته، فقد جاءت بعد كلمة «نبيّك» جملة «محمدٍ نبيّ الرّحمة» لكي يتّضح نوع التوسّل والمتوسّل به بأكثر ما يمكن.

3. يا محمّد إنّي أتوجّهُ بِكَ إلىٰ رَبّي

إنّ جملة «يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي» تدلّ على أنّ الرجل الضرير - حسب تعليم الرسول - اتّخذ النبيّ نفسه وسيلة في دعائه، أي أنّه توسّل بذات النبيّ لا بدعائه صلى الله عليه و آله و سلم.

إجابة عن سؤال

فإن قيل: إنّ الحديث يدلّ على جواز التوسّل بالنبيّ الأعظم حال حياته الدنيوية، وأمّا التوسّل به بعد رحيله، فلا يستفاد جوازه منه.

قيل: إنّ المتوسّل به، هو قربه ومكانته عند اللّٰه وقداسته وطهارته

ص: 157

الروحية وهي لا تفارقه بالموت، وهذه الكرامة التي ربما تمطر السماء بفضلها، قائمة بروحه من غير فرق بين الحياة الدنيوية أو الأُخروية. على أنّ الصحابيّ الجليل عثمان بن حنيف فهم من الحديث السابق أنّ التوسّل بذات النبيّ وشخصه يعمّ كلتا الحياتين، ولذلك أرشد بعض أصحاب الحاجة إلى الدعاء نفسه الذي علّمه الرسول الأكرم للضرير.

روى الحافظ سلمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني (المتوفّى 360 ه) عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف، عن عثمان بن حنيف: أنّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: إئت الميضأة فتوضّأ، ثمّ ائت المسجد فصلّ فيه ركعتين ثمّ قل: «اللّٰهُمَّ إِنّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ محمّد نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يا مُحَمَّدٍ إنّي أتوّجهُ بِكَ إلى رَبّي فتقضي لي حاجَتي» فتذكر حاجتك ورح إليّ حتى أروح معك.

فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثمّ أتى باب عثمان بن عفان فجاء البوّاب حتّى أخذ بيده، فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة، فقال: ما حاجتك؟ فذكر حاجته، فقضاها له ثمّ قال له: ما ذكرت حاجتك حتّى كانت الساعة، وقال: ما كانت لك من

ص: 158

حاجة فاذكرها.

ثمّ إنّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له:

جزاك اللّٰه خيراً ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتّى كلّمته فيّ، فقال عثمان بن حنيف: واللّٰه ما كلّمته، ولكنّي شهدت رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

فتصبر؟ فقال: يا رسول اللّٰه ليس لي قائد وقد شقّ عليّ، فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: إئت الميضأة فتوضّأ ثمّ صلّ ركعتين، ثمّ ادع بهذه الدعوات، قال ابن حنيف: فواللّٰه ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنّه لم يكن به ضرّ قطّ.(1)

إنّ دلالة الحديث على جواز التوسّل بذوات الصالحين، وأخصّ منهم الأنبياء أمر لا غبار عليه.

نعم، إنّ بعض مَن لا يروقه هذا النوع من التوسّل كابن تيمية والسائرين على منهجه حينما يواجهون تلك الروايات الصحيحة والصريحة، يحاولون الخدش في دلالتها ودلالة غيرها من الروايات الصريحة في التوسّل بذات الرسول صلى الله عليه و آله و سلم باعتماد تأويلات باردة، حيث يذهبون إلى وجود التقدير في الحديث، ويقولون: إنّ هناك كلمة مقدّرة وهي [الدعاء]، فيكون المقصود - حسب رأيهم - من

ص: 159


1- . المعجم الكبير للطبراني: 16/9-17، باب ما أُسند إلى عثمان بن حنيف، برقم 8310؛ والمعجم الصغير له أيضاً: 183/1-184.

جملة «أَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ» يعني «أتوجّه إليك بدعاء نبيّك».

ولا ريب أنّ هذه التأويلات نابعة من الأحكام المسبقة والاعتقادات الراسخة في أذهانهم، لأنّ هذا التقدير لا ينسجم مع جميع الفقرات والجمل الواردة في الحديث.

ثمّ لو كان الضرير قد توسّل حقيقة بدعاء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فلماذا يعلّمه الرسول الأكرم طريقة التوسّل بأن يقول: «محمّد نَبِيِّ الرَّحْمَةِ»، ويعلّمه أيضاً بأن يقول: «يا مُحَمَّدٍ إنّي أتوّجهُ إليك»؟!

أضف إلى ذلك: أنّ تقدير كلمة الدعاء يجعل الجملة ركيكة، وغير متّزنة أبداً. ثمّ إنّ السيد الآلوسي البغدادي (المتوفّى 1270 ه) قد أذعن أمام هذا الحديث، وسلّم بالحق، واعترف بأنّه لا مانع من التوسّل بمقام ومنزلة الأفراد الصالحين أعمّ من النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وغيره، بشرط إحراز كون الفرد المتوسّل به ذا مقام عند ربّه.(1)

ص: 160


1- . انظر: روح المعاني: 128/6.

سيرة الأُمم في توسّلهم بالذوات الطاهرة

اشارة

إنّ من يطالع التاريخ البشري يجد أنّه يشهد وبوضوح تامّ بأنّ التوسّل بالصالحين والمعصومين والمخلصين من عباد اللّٰه كان شائعاً في أوساط بني الإنسان قبل بزوغ شمس الإسلام، وكان الموحّدون يدركون بفطرتهم النقية أنّ التوسّل بالشخصيات الطاهرة والنفوس الزاكية أمرٌ مطلوب ومرغوب فيه، ولذلك تجدهم يقصدون هذه الوسيلة للتقرّب إلى اللّٰه وطلب إجابة الدعاء وإنجاح الطلبات، ونحن نشير إلى قسم من هذه التوسّلات ليكون القارئ على علم بأنّ الفطرة السليمة تدعو الإنسان إلى التوسّل بالموجودات الطاهرة لجلب رحمته تعالى.

1. استسقاء عبد المطلب بالنبيّ وهو رضيع

يحدّثنا التاريخ أنّ مكة المكرمة وأطرافها قد أصابها قحط وجفاف وجدب كاد يهلك الحرث والنسل ويقضي على كلّ شيء، فلم يجد عبد المطلب بُدّاً إلّاأن أمسك بيد حفيده المصطفى صلى الله عليه و آله و سلم - وهو يومذاك طفل رضيع - واستسقى به صلى الله عليه و آله و سلم طالباً من اللّٰه أن ينزل

ص: 161

عليهم الغيث ويخلّصهم من تلك الشدّة والعسر، حتّى قال ابن حجر: إنّ أبا طالب يشير بقوله:

وابيض يُستسقى الغمام بوجهه *** ثمالُ اليتامى عصْمةٌ للأراملِ

إلى ما وقع في زمن عبد المطلب، حيث استسقى لقريش والنبيّ معه غلام.(1)

2. استسقاء أبي طالب بالنبيّ وهو غلام

لقد تكرّرت الحالة في فترة زعامة أبي طالب رضى الله عنه حيث أُصيبت قريش مرّة أُخرى بقحط وجدب، فهرع القريشيون إلى أبي طالب طالبين منه الاستسقاء، فقرّر أن يتوسّل بابن أخيه محمد صلى الله عليه و آله و سلم - وكان حينذاك غلاماً - وقد نقل ابن عساكر تلك الحادثة عن أبي عرفة، قال:

قدمت مكة وهم في قحط فقالت قريش: يا أبا طالب أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهلمّ فاستسقِ، فخرج أبو طالب ومعه غلام - يعني النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم - كأنّه شمس دجى تجلّت عن سحابة قتماء، وحوله أُغيلمة، فأخذ النبيّ أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذَ إلى الغلام، وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا، وأغدق وأغدودق، وانفجر له الوادي، وأخصب

ص: 162


1- . فتح الباري: 398/2.

النادي والبادي.(1)

وفي ذلك يقول أبو طالب:

وابيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثمال اليتامىٰ عصمة للأرامل(2)

3. التوسّل بالأطفال والشيوخ في صلاة الاستسقاء

إنّ التوسّل بالأطفال في الاستسقاء أمرٌ ندب إليه الشارع، قال الدكتور عبد الملك السعدي: من السنّة أن نخرج معنا إلى الصحراء الشيوخ والصبيان والبهائم لعلّ اللّٰه يسقينا بسببهم.(3)

وهذا هو الإمام الشافعي يقول في آداب صلاة الاستسقاء:

«وأُحبّ أن يخرج الصبيان ويتنظّفوا للاستسقاء، وكبار النساء، ومن لا هيبة منهنّ، ولا أُحبّ خروج ذات الهيبة».(4)

وجاء في الموسوعة الكويتية: يستحبّ عند المذاهب الأربعة خروج الشيوخ والضعفاء والصبيان والعجزة وغير ذات الهيبة من النساء.(5)

ص: 163


1- . دلائل النبوة 126/2.
2- . فتح الباري: 494/2؛ السيرة الحلبية: 116/1.
3- . البدعة: 49.
4- . كتاب الأُمّ: 230/1.
5- . الموسوعة الفقهية الكويتية: 316/3، مادة الاستسقاء.

ولا ريب أنّ الهدف من إخراج الصبية المطهّرين من الذنوب والشيوخ الذين أنهكهم الدهر، والحيوانات العجماء، هو استنزال رحمته سبحانه لأجل هؤلاء وكأنّ المستسقين يخاطبون اللّٰه تعالى بقولهم:

«اللّهمّ إن كنّا - لذنوبنا وقسوتنا - غير جديرين بإنزال الرحمة، والغيث علينا، فارحمنا يا اللّٰه بهؤلاء.

أو يقولون: ربّنا وسيدنا!! الصغير معصوم من الذنب، والكبير الطاعن في السن أسيرك في أرضك، وهما أحقّ بالرحمة والمرحمة، فلأجلهم أنزل رحمتك علينا، حتّى تعمّنا في ظلّهم.

هذه الحوادث وغيرها تعرب عن كون التوسّل بالموجودات الصالحة أمراً فطرياً، وكان رائجاً قبل بزوغ فجر الإسلام، ولمّا بُعث الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أقرّ تلك الوسيلة، وأمضاها.

4. توسّل الخليفة بالعباس عمّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

روى البخاري في صحيحه قال: كان عمر بن الخطاب إذا قُحِطُوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضى الله عنه وقال: اللّهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا، قال:

فيسقون.(1)

ص: 164


1- . صحيح البخاري: 32/2، باب صلاة الاستسقاء.

والحديث صحيح السند، فما ظنك برواية رواها البخاري؟! لكن من لا يروق له التوسّل بالذوات الطاهرة أخذ يؤوّل الحديث بأنّ الخليفة توسّل بدعاء العباس لا بشخصه ومنزلته عند اللّٰه، وأضاف على ذلك: أنّه لو كان قصده ذات العباس لكانت ذات النبي صلى الله عليه و آله و سلم أفضل وأعظم وأقرب إلى اللّٰه من ذات العباس، بلا شكّ ولا ريب، فثبت أنّ القصد كان الدعاء.(1)

لا أظنّ أنّ أحداً يحمل شيئاً من الإنصاف، يسوّغ لنفسه أن يفسّر الحديث بما ذكره - أي التوسّل بالدعاء - لأنّ في الموضوع نصوصاً تردُّ ذلك، وإليك الإشارة إليها:

1. قول الخليفة عند الدعاء... قال: «اللّهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا، وإنّا نتوسل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا». وهذا ظاهر في أنّ الخليفة قام بالدعاء في مقام الاستسقاء، وتوسّل بعمّ الرسول في دعائه، ولو كان المقصود هو التوسّل بدعائه كان عليه أن يقول: يا عمّ رسول اللّٰه كنّا نطلب الدعاء من الرسول فيسقينا اللّٰه والآن نطلب منك الدعاء فادع لنا.

2. روى ابن الأثير كيفية الاستسقاء فقال: استسقى عمر بن الخطاب بالعباس عام الرمادة لمّا اشتدّ القحط فسقاهم اللّٰه تعالى به،

ص: 165


1- . التوصل إلى حقيقة التوسّل: 253.

وأخصبت الأرض، فقال عمر: هذا واللّٰه الوسيلة إلى اللّٰه والمكان منه.(1)

وأمّا ما ذكره من أنّه لو كان المقصود التوسّل بذات العبّاس لكان النبيّ بذلك أفضل، فيلاحظ عليه أنّ الهدف من إخراج عمّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى المصلّى وضمّه إلى الناس هو استنزال الرحمة فكأنّ المصلّين يقولون: ربنا إذا لم نكن مستحقّين لنزول الرحمة فإنّ عمّ النبيّ مستحقّ لها، ومن المعلوم أنّ هذا لا يتحقّق إلّابالتوسّل بإنسان حيّ يكون شريكاً للجميع في المصير وفي هناء العيش ورغده، لا مثل النبي الراحل الخارج عن الدنيا والنازل في الآخرة.

***

بقي في المقام شيء وهو أنّ الكاتب قال في صدر البحث: لا يجوز التوسّل في الدعاء بغير المشروع ولا الذهاب إلى القبور للدعاء عندها والتبرّك بها.(2)

فقد أراد بكلامه هذا الهمز واللمز إلى سيرتين شائعتين بين المسلمين من بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم إلى يومنا هذا، وهما:

1. الدعاء عند ضريح النبيّ الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم.

2. التبرّك بالضريح الطاهر.

ص: 166


1- . أُسد الغابة: 111/3؛ الكامل في التاريخ: 555/2.
2- . قراءة راشدة: 71.

والجواب

أمّا الأوّل: فلم يقل أحد بأنّ من شروط استجابة الدعاء هو الذهاب إلى القبور، فهذا التعبير تعبير غير جميل، نعم الدعاء عند الأماكن المتبرّكة يعجّل في استجابة الدعاء ويؤثّر فيها. فالمكان الذي احتضن جثمان النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم قد اكتسب مكانة مقدّسة عند اللّٰه سبحانه، ولذلك يكون الدعاء هناك أقرب للاستجابة. ولذلك نرى أنّه عندما اكتشف المؤمنون الموحِّدون المكانَ الذي اختفىٰ فيه الفتية (أصحاب الكهف) أخذوا يتداولون الأمر بينهم: ماذا نعمل؟ فكان إطباق الجميع واتّفاقهم على أن يبنوا على قبورهم مسجداً ليكون محلّاً للعبادة والتبرُّك بالعبادة إلى جنب تلك الأجساد الطاهرة، ولقد نقل القرآن الكريم هذه الحقيقة بقوله سبحانه: (قٰالَ اَلَّذِينَ غَلَبُوا عَلىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) .(1)

قال المفسّرون: إنّ الهدف من بناء المسجد هو إقامة الصلاة والتبرُّك بأجسادهم الطاهرة.

وقد ذكر غير واحد ممّن ألّف في زيارة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الدعاء عند رأسه بالنحو التالي: يقف عند رأسه الشريف ويقول: اللّهمّ إنّك قلت وقولك الحق: (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جٰاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّٰهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ لَوَجَدُوا اَللّٰهَ تَوّٰاباً رَحِيماً) وقد جئناك سامعين

ص: 167


1- . الكهف: 21.

قولك، طائعين أمرك، مستشفعين بنبيّك، (رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنٰا وَ لِإِخْوٰانِنَا اَلَّذِينَ سَبَقُونٰا بِالْإِيمٰانِ وَ لاٰ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنٰا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنٰا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) ، (رَبَّنٰا آتِنٰا فِي اَلدُّنْيٰا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنٰا عَذٰابَ اَلنّٰارِ) ، (سُبْحٰانَ رَبِّكَ رَبِّ اَلْعِزَّةِ عَمّٰا يَصِفُونَ * وَ سَلاٰمٌ عَلَى اَلْمُرْسَلِينَ * وَ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ) .(1)

ومن أراد التفصيل في هذا الموضوع فليرجع إلى كتابنا «الوهابية في الميزان».

وأمّا الأمر الثاني، أي التبرك بالضريح الطاهر، فليس أمراً بديعاً.

وتشهد عليه قصّة تابوت بني إسرائيل.

تابوت بني إسرائيل وإنزال السكينة

لقد وضع موسى عليه السلام وفي الأيام الأخيرة من عمره الشريف، الألواح المقدّسة التي تحتوي على شريعته عليه السلام، ودرعه وسلاحه وآثاره الأُخرى في صندوق، وجعل الصندوق عند وصيّه «يوشع بن نون»، ومن هنا اكتسب هذا الصندوق أهميّة كبرى لدى بني إسرائيل، فكانوا يحملونه معهم أثناء الحروب التي تقع بينهم وبين خصومهم متبرّكين به، ومستنزلين النصر من اللّٰه عن طريقه، وكانوا يعيشون

ص: 168


1- . لاحظ: مراقي الفلاح بإمداد الفتّاح للشيخ حسن بن عمّار الشرنبلالي الحنفي: 152، إحياء علوم الدين للغزالي: 232/1.

حياة عزيزة مادام ذلك الصندوق المبارك بين ظهرانيهم، ولكن لما دبّ فيهم الضعف الديني، وقلّ تأثير الوازع الأخلاقي في أوساطهم، تمكّن خصومهم من هزيمتهم والتغلّب عليهم، وتمكّنوا من نهب ذلك الصندوق المبارك.

ولمّا اختار اللّٰه سبحانه - بعد فترة من الزمن - طالوت ملكاً وقائداً لبني إسرائيل، قال لهم نبيّهم: إن علامة صدقه وكونه قائداً منصوباً من قبله سبحانه هو أن يأتيكم ذلك الصندوق، ولقد أشار الذكر الحكيم إلى تلك الحقيقة بقوله سبحانه: (وَ قٰالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلتّٰابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمّٰا تَرَكَ آلُ مُوسىٰ وَ آلُ هٰارُونَ تَحْمِلُهُ اَلْمَلاٰئِكَةُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) .(1)

والإمعان في الآية المباركة يكشف عن أنّ القرآن الكريم ينقل لنا على لسان نبيّه، تبرّك بني إسرائيل بذلك الصندوق ويؤكّد كذلك مدى قيمته وشرفه بحيث تحمله الملائكة.

وحينئذٍ نسأل الكاتب ومَن على عقيدته: لو كان هذا العمل مخالفاً لأُصول التوحيد ومتعارضاً معها، فكيف ياترى جاز لذلك النبيّ أن يلقي إليهم الخبر على نحو البُشرى؟!

نقول: إنّ ضريح النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الذي يحتضن جثمان أشرف المخلوقات وأعزّها عند اللّٰه لا يقصر عن التابوت الذي فيه ألبسة

ص: 169


1- . البقرة: 248.

موسى عليه السلام وعصاه، كيف وقد تواتر ذكر تبرُّك الصحابة بقبر النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في الكتب الحديثية.(1)

وقد بسطنا الكلام في التبرُّك بآثار النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في كتابنا: «الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية»، فراجع.

ص: 170


1- . لاحظ: مستدرك الحاكم: 560/4، برقم 8571؛ أُسد الغابة: 28/1، تبرّك بنت المصطفى بقبر أبيها.

المبحث الثامن: العبادات

قال الكاتب: ومن كتاب له رضى الله عنه إلى أُمراء البلاد في معنى الصلاة: «أَمَّا بَعْدُ، فَصَلُّوا بِالنَّاسِ الظُّهْرَ حَتَّىٰ تَفِيءَ الشَّمْسُ مِنْ مَرْبِضِ الْعَنْزِ، وَصَلُّوا بِهِمُ الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ حَيَّةٌ فِي عُضْوٍ مِنَ النَّهَارِ حِينَ يُسَارُ فِيهَا فَرْسَخَانِ. وَصَلُّوا بِهِمُ الْمَغْرِبَ حِينَ يُفْطِرُ الصَّائِمُ، وَيَدْفَعُ الْحَاجُّ إِلَىٰ مِنًى. وَصَلُّوا بِهِمُ الْعِشَاءَ حِينَ يَتَوَارَىٰ الشَّفَقُ إِلَىٰ ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَصَلُّوا بِهِمُ الْغَدَاةَ وَالرَّجُلُ يَعْرِفُ وَجْهَ صَاحِبِهِ، وَصَلُّوا بِهِمْ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ، وَلَا تَكُونُوا فَتَّانِينَ».(1)

أقول: إنّ الكاتب في هذا المبحث يريد الردّ على عمل الشيعة في الجمع بين الصلاتين في الحضر حيث يجمعون بين الظهر والعصر كما أنّهم يجمعون بين المغرب والعشاء كذلك، وربما

ص: 171


1- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 52؛ قراءة راشدة: 76.

يتصوّر غير العارف أنّ الجامع يصلي إحدى الصلاتين في غير وقتها، ولكنّه عزب عن باله أنّه يأتي بإحدى الصلاتين في غير وقت الفضيلة ولكنّه يأتي بها في وقت الإجزاء، ولا غرو أن يكون لكلّ صلاة أوقات ثلاثة:

أ. وقت الاختصاص، كما في أربع ركعات من أوّل الوقت وآخره، أو ثلاث ركعات بعد المغرب وأربع ركعات قبل نصف الليل.

ب. وقت الفضيلة، فوقت فضيلة الظهر من الزوال إلىٰ بلوغ ظلّ الشاخص الحادث بعد الانعدام أو بعد الانتهاء، مثله، ووقت فضيلة العصر من المثل إلى المثلين عند المشهور.

وبذلك يعلم وقت المغرب والعشاء، فإذا غربت الشمس دخل الوقتان إلى نصف الليل، ويختصّ المغرب بأوّله بمقدار أدائها، والعشاء بآخره كذلك، وما بينهما وقت مشترك، ومع ذلك فإنّ لكلٍّ من الصلاتين وقتَ فضيلة، فوقت فضيلة صلاة المغرب من المغرب إلى ذهاب الشَّفق وهو الحمرة المغربية، ووقت فضيلة العشاء من ذهاب الشَّفق إلى ثلث الليل.(1)

ج. وقت الإجزاء، وهو مطلق ما بين الحدّين إلّاما يختصّ بإحدى الصلاتين فيكون وقت الإجزاء أعمّ من وقت الفضيلة

ص: 172


1- . لاحظ: العروة الوثقى: 171، فصل في أوقات اليومية.

وخارجه.

وقد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام أنّه إذا زالت الشمس دخل الوقتان إلّاأنّ هذه قبل هذه.(1)

وعلى ما ذكرنا فما ذكره الإمام عليّ عليه السلام من التفصيل ناظر إلى أوقات الفضيلة، لا إلى أوقات الإجزاء، فمَن فرّق فقد أتىٰ بالصلاة في وقت الفضيلة، ومن جمع فقد أتىٰ بالصلاة في وقت الإجزاء وفاتته الفضيلة. ولكن رافقه التيسير وعدم الحرج المطلوب في الشريعة المقدّسة.

ويدلّ على أنّ الجمع بين الصلاتين ليس إلّاإتيان إحداهنّ في غير وقت الفضيلة، أنّه اتّفقت كلمة الفقهاء على رجحان الجمع بين الصلاتين في المزدلفة وعرفة من غير خلاف بينهم، قال القرطبي:

أجمعوا على أنّ الجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر بعرفة وبين المغرب و العشاء بالمزدلفة أيضاً، وإنّما اختلفوا في الجمع في غير هذين المكانين.(2)

كما أنّه ذهب جمع من الفقهاء إلى الجمع بين الصلاتين في السفر، قال الشوكاني: ذهب إلى جوازه (الجمع في السفر) مطلقاً تقديماً وتأخيراً كثير من الصحابة والتابعين، ومن الفقهاء: الثوري

ص: 173


1- . لاحظ: من لا يحضره الفقيه: 140/1.
2- . بداية المجتهد: 170/1، تحت عنوان الفصل الثاني في الجمع.

والشافعي وأحمد وإسحاق وأشهب.(1)

كما أنّ المشهور الجمع بين الصلاتين في الحضر لأجل العُذر، قال ابن رشد: أمّا الجمع في الحضر لعذر المطر فأجازه الشافعي...

إلى أن قال: وأمّا الجمع في الحضر للمريض فإنّ مالكاً أباحه له إذا خاف أن يُغمى عليه أو يكون به بطن، ومنع ذلك الشافعي.(2)

نعم، بقي الكلام حول الجمع بين الصلاتين في الحضر اختياراً.

أقول: قد تضافرت الروايات عن الصادق بالحق صلى الله عليه و آله و سلم على جواز الجمع بين الصلاتين في الحضر اختياراً، رواها أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد، ويبلغ عددها إلى ثلاثين حديثاً، وتنتهي الأسانيد إلى الأشخاص التالية أسماؤهم:

1. عبد اللّٰه بن عباس، حبر الأُمّة. 2. عبد اللّٰه بن عمر.

3. أبو أيّوب الأنصاري، مضيّف النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

4. أبو هريرة الدوسي.

5. جابر بن عبد اللّٰه الأنصاري.

6. عبد اللّٰه بن مسعود.

والروايات صريحة في أنّ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم جمع بالمدينة بين

ص: 174


1- . نيل الأوطار: 261/3.
2- . بداية المجتهد: 173/1.

الصلاتين من غير خوف ولا مطر ولا علّة، جمع لبيان جواز الجمع ومشروعيته لئلّا يتوهّم متوهّم بأنّ التفريق فريضة لما كان صلى الله عليه و آله و سلم يستمر على التوقيت والإتيان في وقت الفضيلة، ولكنّه بعمله أثبت أنّ الجمع جائز وإن كان التوقيت أي التفريق أفضل.

وللاطلاع على مصادر الروايات تُراجع المصادر التالية: شرح صحيح مسلم للنووي: 213/5-218؛ صحيح البخاري: 110/1-113؛ سنن الترمذي: 354/1؛ مسند أحمد: 221/1، 223، 251؛ موطّأ مالك:

144/1؛ سنن أبي داود: 6/2؛ سنن النسائي: 290/1؛ حلية الأولياء:

90/3؛ المعجم الكبير: 269/10.

ص: 175

الفصل الأخير متفرّقات وشوارد

اشارة

أورد الكاتب في هذا الفصل شوارد ومتفرّقات، وقال عنها:

شوارد ومتفرّقات لأنّها ليس فيها ناظم ينظمها.

انقطاع خبر السماء بموت النبيّ

وذكر تحت هذا العنوان قول الإمام علي عليه السلام: «بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللّٰهِ! لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْإِنْبَاءِ وَأَخْبَارِ السَّمَاءِ. خَصَّصْتَ حَتَّىٰ صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ، وَعَمَّمْتَ حَتَّىٰ صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَوَاءً. وَلَوْلَا أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ، وَنَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ، لَأَنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ الشُّؤُونِ، وَلَكَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلاً، وَالْكَمَدُ مُحَالِفاً، وَقَلَّا لَكَ! وَلٰكِنَّهُ مَا لَايُمْلَكُ رَدُّهُ، وَلَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ!

ص: 176

بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! اذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ بَالِكَ!».(1)

ثمّ إنّه رتّب على ما ذكر أمرين:

أ. إخبار عليّ بأنّ أخبار السماء والملائكة المرسلة انقطعت، فلا تنزل أبداً.

ب. والأمر الثاني هو الجزع على المصيبة، ولهذا مبحث قادم سنذكره لاحقاً.(2)

الجواب: مرّ عليك أنّ الكاتب ذكر في عنوان البحث أنّها شوارد ومتفرّقات لأنّها ليس فيها ناظم ينظمها، وهذا ما يدّعيه لفظاً ولكن الناظم الواقعي هو سعيه للعثور على شيء يصلح ظاهراً للردّ على الشيعة، وإلّا فالمتفرّقات والشوارد في نهج البلاغة أكثر وأكثر من ذلك، وربما تزيد على أربعمئة، في قسم الحكم.

وعلى أي تقدير، فالغرض الأقصى من نقل هذا الكلام هو نقد ما عليه الشيعة من أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام يعلمون الغيب بتعليم من اللّٰه سبحانه، فزعم الكاتب أنّ قول الإمام: «لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْإِنْبَاءِ وَأَخْبَارِ السَّمَاءِ» ردّ على هذا الأصل، ولكنّه غفل عن أنّ الفقرة بصدد بيان أنّ النبوّة ختمت برسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم وأنّه لا خبر بعده من السماء، وأمّا إخبار جماعة من صلحاء

ص: 177


1- . نهج البلاغة: قصار الحكم، برقم 235.
2- . قراءة راشدة: 80.

الأُمّة وأئمتهم عن الأُمور الغيبية بتعليم من اللّٰه فليست الفقرة ناظرة إلى ردّه، والشاهد على ذلك اتّفاق المسلمين على وجود المحدَّث بينهم.

ولأجل إيقاف القارئ على معنى «المحدَّث» في الإسلام ومفهومه نذكر شيئاً في توضيحه: المحدَّث: هو مَنْ تكلِّمه الملائكة بلا نبوّة ورؤية صورة، أو يُلهم ويُلقىٰ في رُوعه شيء من العلم على وجه الإلهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى، أو ينكت له في قلبه من حقائق تخفىٰ على غيره.

فالمحدّث بهذا المعنى متّفق عليه بين فرق المسلمين، بيد أنّ الخلاف في مصاديقه، فالشيعة ترى أنّ عليّاً أمير المؤمنين وأولاده أئمة أهل البيت من المحدَّثين، وأهل السنّة يرون أنّ منهم عمر بن الخطاب. أخرج البخاري في صحيحه في باب مناقب عمر عن أبي هريرة: قال: قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: «لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أُمّتي منهم أحد فعمر».(1)

وأمّا الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فقد تنبّأ - بما أنّه محدَّث - بملاحم وأحداث وفتن في حياته وبعد رحيله، وقد ورد قسم منها في نهج

ص: 178


1- . صحيح البخاري: ج 2، باب مناقب عمر بن الخطاب، برقم 3689.

البلاغة، نذكر شيئاً طفيفاً منها:

1. قام خطيباً في البصرة مخاطباً أهلها الناكثين عندما وضعت الحرب أوزارها وقال: «كَأَنِّي بِمَسْجِدِكُمْ كَجُؤْجُؤِ سَفِينَةٍ قَدْ بَعَثَ اللّٰهُ عَلَيْهَا الْعَذَابَ مِنْ فَوْقِهَا وَمِنْ تَحْتِها، وَغَرِقَ مَنْ فِي ضِمْنِهَا».(1)

2. لما أُخذ مروان أسيراً يوم الجمل قال: «أَمَا إِنَّ لَهُ إِمْرَةً كَلَعْقَةِ الْكَلْبِ أَنْفَهُ. وَهُوَ أَبُو الْأَكْبُشِ الْأَرْبَعَةِ، وَسَتَلْقَىٰ الْأُمَّةُ مِنْهُ وَ مِنْ وَلَدِهِ يَوْماً أَحْمَرَ!».(2)

وفسّروا الأكبش الأربعة بولد عبد الملك بن مروان وهم: الوليد وسليمان ويزيد وهشام، الذين سوّدوا تاريخ الخلافة بل تاريخ الإنسانية بجناياتهم الموبقة، وخزاياهم المهلكة.

هذا ومن أراد أن يقف على تنبؤات الإمام عليه السلام في نهج البلاغة، فليرجع إلى كتابنا «مفاهيم القرآن».(3)

ثمّ إنّ الكاتب استنتج من هذا الكلام مسألة الجزع على المصيبة وأيّده بكلام آخر للإمام يقول فيه: «يَنْزِلُ الصَّبْرُ عَلَىٰ قَدْرِ الْمُصِيبَةِ، وَمَنْ ضَرَبَ يَدَهُ عَلَىٰ فَخِذِهِ عِنْدَ مُصِيبَتِهِ حَبِطَ عَمَلُهُ (أَجره)».(4)

ص: 179


1- . نهج البلاغة: الخطبة 11.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 73.
3- . لاحظ: مفاهيم القرآن: 470/3-482.
4- . نهج البلاغة: قصار الحكم، برقم 144.

فرتّب على هذين الأمرين قوله: مَن يضرب على فخذه فقط يحبط أجره، ثم أوصل الكلام إلى ضرب القامات وشقّ الجيوب والضرب بالسيوف(1)، والجواب يتمّ ببيان مقامين:

المقام الأوّل: البكاء على الميّت

الحزن والتأثّر عند فقدان الأحبّة أمر جُبلت عليه الفطرة الإنسانية، فإذا ابتلي الإنسان بمصاب عزيز من أعزّائه أو فلذة من أفلاذ كبده وأرحامه، يحسّ بحزن شديد يتعقّبه ذرف الدموع على وجناته، ولا يستطيع أن يتمالك حزنه أو بكاءه. ولا أجد أحداً ينكر هذه الحقيقة إنكار جدٍ وموضوعية، ومن الواضح بمكان أنّ الإسلام دين الفطرة يجاريها ولا يخالفها.

قال سبحانه: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّٰاسَ عَلَيْهٰا) .(2)

ولا يمكن لتشريع سماوي أن يحرّم الحزن والبكاء على فقد الأحبّة إذا لم يقترن بشيء يغضب الربّ.

ومن حسن الحظ نرى أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان ساروا على وفق الفطرة.

ص: 180


1- . لاحظ: قراءة راشدة: 81.
2- . الروم: 30.

فهذا رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم يبكي على ولده إبراهيم، ويقول: «العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلّاما يرضي ربَّنا، وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون».(1)

وروى أصحاب السِّيَر والتاريخ، أنّه لمّا احتُضر إبراهيم ابن النبيّ، جاء صلى الله عليه و آله و سلم فوجده في حجر أُمّه، فأخذه ووضعهُ في حجره، وقال: «يا إبراهيم إنّا لن نغني عنك من اللّٰه شيئاً - ثمّ ذرفت عيناه - وقال: إنّا بك يا إبراهيم لمحزونون، تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الربّ، ولولا أنّه أمرٌ حقٌّ ووعدٌ صدقٌ وأنّها سبيل مأتيّة لحزَنّا عليك حزناً شديداً أشدّ من هذا».

ولمّا قال له عبد الرحمن بن عوف: أو لم تكن نهيت عن البكاء؟ أجاب بقوله: «لا، ولكن نهيتُ عن صوتين أحمقين وآخرين، صوت عند مصيبة وخمش وجوه وشقّ جيوب ورنّة شيطان، وصوت عند نغمة لهو، وهذه رحمة، ومن لا يَرحم لا يُرحَم».(2)

وليس هذا أوّل وآخر بكاء منه صلى الله عليه و آله و سلم عند ابتلائه بمصاب أعزّائه، بل بكى صلى الله عليه و آله و سلم على ابنه «طاهر» وقال: «إنّ العين تذرف وإنّ الدمع يغلب والقلب يحزن، ولا نعصي اللّٰه عزّ وجلّ».(3)

ص: 181


1- . سنن أبي داود: 58/1؛ سنن ابن ماجة: 482/1.
2- . السيرة الحلبية: 348/3.
3- . مجمع الزوائد للهيثمي: 8/3.

وقد قام العلّامة الأميني في موسوعته الكبيرة «الغدير» بجمع موارد كثيرة بكىٰ فيها النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم والصحابة والتابعون على موتاهم وأعزّائهم عند افتقادهم، وإليك نصّ ما جاء به ذلك المتتبِّع الخبير:

وهذا هو صلى الله عليه و آله و سلم لمّا أُصيب حمزة رضى الله عنه وجاءت صفيّة بنت عبد المطلّب - رضي اللّٰه عنها - تطلبه، فحال بينها وبينه الأنصار، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: دعوها، فجلست عنده فجعلت إذا بكت بكىٰ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم، وإذا نشجت نَشَجَ، وكانت فاطمة عليها السلام تبكي، ورسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم كلّما بكت يبكي، وقال: لن أُصاب بمثلك أبداً.(1)

ولمّا رجع رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم من أُحد بكت نساء الأنصار على شهدائهنّ، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فقال: «لكنّ حمزة لا بواكي له»، فرجع الأنصار فقالوا لنسائهم: لا تبكين أحداً حتّى تبدأن بحمزة، قال: فذاك فيهم إلى اليوم لا يبكين ميّتاً إلّابدأن بحمزة.(2) وهذا هو صلى الله عليه و آله و سلم ينعى جعفراً، وزيد بن حارثة، وعبد اللّٰه بن رواحة، وعيناه تذرفان.(3)

وهذا هو صلى الله عليه و آله و سلم زار قبر أُمّه وبكىٰ عليها وأبكىٰ من حوله.(4)

ص: 182


1- . إمتاع الأسماع للمقريزي: 167/1-168.
2- . مجمع الزوائد: 120/6.
3- . صحيح البخاري: 184/4، كتاب المناقب في علامات النبوّة في الإسلام؛ سنن البيهقي: 70/4.
4- . سنن البيهقي: 70/4؛ تاريخ الخطيب البغدادي: 289/7.

وهذا هو صلى الله عليه و آله و سلم يقبّل عثمان بن مظعون وهو ميّت ودموعه تسيل على خدّه.(1)

وهذا هو صلى الله عليه و آله و سلم يبكي على ابن لبعض بناته، فقال له عبادة بن الصامت: ما هذا يا رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم؟ قال: «الرحمة التي جعلها اللّٰه في بني آدم، وإنّما يرحم اللّٰه من عباده الرحماء».(2)

وهذه الصدّيقة الطاهرة عليها السلام تبكي على رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم، وتقول:

«يا أبتاه مَن ربُّه ما أدناه، يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه، يا أبتاه إلى جبرئيل ننعاه، يا أبتاه جنّة الفردوس مأواه».(3)

المقام الثاني: ضرب القامات وشق الجيوب

اشارة

وهو ما أشار إليه من ضرب القامات وشقّ الجيوب والضرب بالسيوف، فإنّها أُمور لا تنطبق على الشرع، ولا يوافقها فقه الإمام عليه السلام ولا فقه بقية أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وقد رفضها كثير من مراجع الفتيا، والكاتب لم يُشر إلى تلك الفتاوى، وكأنّه من رماة القول على عواهنه.

ثمّ إنّه أيّد كلامه بقوله: اقرأ ما جاء في النهج: وروي أنّه عليه السلام، لمّا

ص: 183


1- . سنن أبي داود: 63/2؛ سنن ابن ماجة: 445/1.
2- . سنن أبي داود: 58/2؛ سنن ابن ماجة: 481/1.
3- . صحيح البخاري: 144/5، باب مرض النبي ووفاته؛ مسند أبي داود: 197/2؛ سنن النسائي: 13/4؛ مستدرك الحاكم: 163/3؛ تاريخ الخطيب: 262/6.

ورد الكوفة قادماً من صفين مرّ بالشّباميّين، فسمع بكاء النساء على قتلى صفين، وخرج إليه حرب بن شُرَحْبِيل الشّبامي، وكان من وجوه قومه، فقال عليه السلام له: «أَتَغْلِبُكُمْ نِسَاؤُكُمْ عَلَىٰ مَا أَسْمَعُ؟ أَلَا تَنْهَوْنَهُنَّ عَنْ هَذَا الرَّنِينِ؟».(1)

وعلّق عليه بقوله: وكان هذا بكاء طبيعياً، ويعبّر عن حرارة الموقف وجدّته، ونهى عنه فكيف بغيره؟(2)

أقول: قد فُسّر الرنين بالصوت.(3) ومن المعلوم أنّه ليس بالأمر المحرّم، وقد تقدّم قول رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «ولكن حمزة لا بواكي له» فرجع الأنصار وقالوا لنسائهم لا تبكين أحداً حتى تبدأن بحمزة، وهذا قرينة على أنّ نهي الإمام عليه السلام هنا له أسبابه الخاصّة، كشماتة المنافقين، أو تثبيت المجاهدين. ثمّ إنّ الغالب في بكائهنّ على الميّت التفوّه بالباطل، إلى غير ذلك من الأسباب التي سبّبت نهي الإمام عن البكاء، مع كونه أمراً مطلوباً إذا تجرّد عن عدم الرضا بقضاء اللّٰه وقدره. وحصيلة الكلام: إنّ البكاء على الميّت على ضربين:

تارة يكون بسبب فقدان الأحبّة، وهذا أمر جبلت عليه الفطرة

ص: 184


1- . نهج البلاغة: قصار الحكم برقم 330.
2- . قراءة راشدة: 81-82.
3- . شرح نهج البلاغة: 234/19.

الإنسانية، فكلّ إنسان سليم الفطرة إذا فقد أحد أعزائه، يحسّ بحزن شديد يتعقّبه البكاء، ولا يستطيع أن يتمالك حزنه أو بكاءه.

وأُخرى أنّه يبكي ويضرب على فخذه ويجزع معترضاً على قضاء اللّٰه وقدره، فلا شكّ أنّه أمر محرّم، والكاتب لم يفرّق بين مطلوب الفطرة والأمر المحرّم.

***

دعوى التساوي بين ولاة عليّ وولاة غيره

اشارة

ذكر الكاتب تحت عنوان: (عمّال علي بعض عتاباته لولاته وعمّاله)، ثم رتّب على ذلك أنّ عمّاله رضى الله عنه كعمّال غيره فيهم الأعلىٰ والأوسط والأدنىٰ.(1)

أقول: إنّ تاريخ الخلافة الإسلامية ذكر قبائح الأعمال لعدد كبير من الولاة والقادة في عهد الخلفاء خصوصاً في عهد الثالث، وهانحن نذكر شيئاً قليلاً من ذلك:

1. خالد بن الوليد

ذكرت مصادر التاريخ أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بعث مالك بن نُوَيرة على صدقة بني يربوع، وكان قد أسلم هو وأخوه متمِّم بن نويرة الشاعر.

ص: 185


1- . لاحظ: قراءة راشدة: 84-85.

ولمّا ارتحل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم شاع الارتداد في القبائل، وبعث أبوبكر خالد ابن الوليد ليطفئ هذه الفتنة، ولكنّ خالداً تجاوز الحدّ فقتل الصحابي: مالك بن نويرة، ولم يقتصر على قتله فحسب، بل زنىٰ بزوجته أيضاً.(1) أقسم عليك باللّٰه - أيّها القارئ - هل كان من ولاة علي عليه السلام من يقوم بذلك العمل، حتى يقول الكاتب أنّ ولاة علي كولاة من سبقه.

2. الوليد بن عقبة

اتّفق المفسرون على أنّ قوله سبحانه: (إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ) (2)نزلت في حقّه. وحديثه وكذبه على بني المصطلق أمر معروف.

ثمّ إنّ فسق الوليد لم يقتصر على حياته في عصر النبوّة، بل امتدّ إلى سائر أيام حياته، وتجلّى بشكل سافر في عهد عثمان بن عفان، الذي ولّاه الكوفة وعزل عنها سعد بن أبي وقّاص، فصلّى - في أحد الأيام - بالناس الفجر أربعاً وهو سكران، ثم التفت وقال: أزيدكم؟ فبلغ عثمان، فطلبه، وحدّه.(3)

ثمّ إنّ أخبار الوليد هذا في شرب الخمر ومنادمته أبا زبيد الطائي

ص: 186


1- . لاحظ: الاستيعاب: 1362/3، برقم 2303؛ مختصر تاريخ دمشق: 19/8؛ سير أعلام النبلاء: 235/3، ترجمة خالد برقم 83؛ تاريخ الطبري: 272/2.
2- . الحجرات: 6.
3- . سير أعلام النبلاء: 414/3؛ وانظر: الاستيعاب: 1555/4.

مشهورة كثيرة... وله أخبار فيها نكارة وشناعة تقطع على سوء حاله وقبح أفعاله.(1)

فهل في ولاة علي عليه السلام مثل هذا الأنموذج الفاسق، حاشا وكلّا.

نعم كان بين عمال الإمام عليه السلام من خرج عن الأوصاف التي يجب أن يتحلّىٰ بها الوالي العادل، ولذلك كان الإمام عليه السلام يوبخّه ويزجره بسبب تصرفاته التي لا تنسجم مع الأوصاف التي يريدها الإمام منه.

ولذلك كتب إلى عثمان بن حنيف الأنصاري - وكان عامله على البصرة - وقد بلغه أنّه دُعي إلىٰ وليمة قوم من أهلها فمضى إليها، وإليك الرسالة:

«أَمَّا بَعْدُ، يَابْنَ حُنَيْفٍ! فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلاً مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إِلَىٰ مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا تُسْتَطَابُ لَكَ الْأَلْوَانُ، وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ. وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلَىٰ طَعَامِ قَوْمٍ، عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ، وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ. فَانْظُرْ إِلَىٰ مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هٰذَا الْمَقْضَمِ، فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ، وَمَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ».(2)

فهل من الإنصاف أن نساوي بين هذا العمل وبين شرب الخمر أو قتل النفس المحترمة وأمثال ذلك؟ ما لكم كيف تحكمون؟!

وبذلك تظهر ضآلة قول الكاتب: إنّ عمّاله رضى الله عنه كعمّال غيره،

ص: 187


1- . الاستيعاب: 1554/4.
2- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 45.

فيهم الأعلى والأوسط والأدنىٰ.(1)

نعم إنّ عماله عليه السلام كانوا مختلفين في التحلّي بالفضائل والتخلّي عن الرذائل، ولكن لم يكونوا زناة، ولا شاربي خمر، ولا... ولا....

ثمّ إنّ الكاتب ختم هذا المبحث بقوله: وهكذا البشر يتفاوتون، فقويٌّ في العبادة ضعيف في الإدارة، ضعيف في الإدارة قويّ في الحرب، ضعيف في العبادة قوي في القتال... وهكذا، فلا عيب على عليّ ولا غير عليّ إن كان هناك ضعف أو خور.(2)

أقول: ماذا يُريد الكاتب من هذه الفقرة؟

فمَن وقف على نفسية المؤلّف يذعن بأنّه ينوي الهمز واللمز في الإمام علي عليه السلام بأنّه كان قوياً في العبادة والقتال ولكنّه ضعيف في الإدارة، ويشهد على ذلك، قوله: «فلا عيب على عليّ ولا غير عليّ إن كان هناك ضعف أو خور». لقد كان الإمام عليه السلام قوياً في الإدارة، فقد أدار أُمور المسلمين طيلة خمسة أعوام، ولم يظهر منه فتور أو ضعف، وكانت عامّة البلاد تحت يده، إلّاالشام الذي لم يبايعه حين بايعه المهاجرون والأنصار.

نعم تختلف إدارة الإمام عليه السلام عن إدارة غيره، بأنّها لا تخرج عن

ص: 188


1- . قراءة راشدة: 85.
2- . قراءة راشدة: 85.

الضوابط الدينية قيد شعرة، وقد اتُّهم عليّ في حياته بأنّ معاوية أدهى منه فقال عليه السلام في ردّ ذلك: «وَاللّٰهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَىٰ مِنِّي، وَلٰكِنَّهُ يَغْدِرُ وَيَفْجُرُ. وَلَوْلَا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَىٰ النَّاسِ».(1)

إنّ الإمام استلم زمام الخلافة وقد خرج أغلب أبناء المجتمع الإسلامي ممّا كانوا عليه في زمن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من التعبّد بالشرع، والاجتناب عن جمع الأموال واقتناء الذهب والفضة، وتملُّك الضياع والبساتين، فعندما أراد الإمام أن يردّ الأُمّة الإسلامية إلى ما كانت عليه، صار ذلك ثقيلاً على أصحاب الثروات وطلاب الدنيا وأصحاب المقام، ولذلك أصبحوا ناكثين ومارقين وقاسطين، ويشير الإمام عليه السلام إلى هذه النكسة بقوله: «فَلَمَّا نَهَضْتُ بالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ، وَ مَرَقَتْ أُخْرَىٰ، وَقَسَطَ آخَرُونَ: كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللّٰهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: (تِلْكَ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فَسٰاداً وَ اَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (2) بَلَىٰ! وَاللّٰهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا، وَلٰكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ، وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا!».(3)

ص: 189


1- . نهج البلاغة: قصار الحكم، برقم 200.
2- . القصص: 83.
3- . نهج البلاغة: الخطبة 3.

خاتمة الرسالة

اشارة

قال الكاتب في الخاتمة: وبعد؛ فقد صدق الإمام عندما قال:

«هَلَكَ فِيَّ رَجُلَانِ: مُحِبٌّ غَالٍ، وَمُبْغِضٌ قَالٍ».(1)

فالمحبّ الغالي لن يرى كلّ شيء إلّاحسناً، والمبغض القالي لن يرى الشيء إلّاسيئاً، والوسطية مطلوبة، ف «حبّ علي من الإيمان، وبغضه من النفاق» كما صحّ في حديث مسلم، فلا نرفعه إلىٰ درجة الأنبياء، ولا ننزله إلىٰ درجة الفسّاق وغيرهم.(2)

أقول: لا أدري ماذا يُريد بقوله: فلا نرفعه إلى درجة الأنبياء؟ هل يوجد بين الأُمّة الإسلامية ممّن يُعتدّ بقوله ودينه يرفع الإمام إلى درجة الأنبياء؟ فمَن قال بأنّه إمام منصوص عليه من جانب اللّٰه سبحانه يوم الغدير وأنّه يقوم بوظائف النبوة سوى الوحي

ص: 190


1- . نهج البلاغة: قصار الحكم برقم 117.
2- . قراءة راشدة: 86.

والتشريع، هل رفعه إلى درجة الأنبياء؟ وإذا كان الإمام باب علم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وقد قال فيه الرسول صلى الله عليه و آله و سلم: «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها» فالرجوع إليه في الحلال والحرام لا يلازم كونه نبيّاً، وإنّما هو وارث لعلوم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

وصية الجميعان للقرّاء

يقول الكاتب: وفقنا اللّٰه لكلّ خير، هذا جهدي وقد اجتهدت، فإن وجدت خيراً أيّها القارئ الكريم فلا تنسنا من دعاء بليل، وإن كان خطأ فأستغفر اللّٰه، وأرجو منك أن تسأل اللّٰه لي المغفرة، لأنّني ما تعمدت الخطأ، وكلّ ابن آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوّابون.(1)

أقول: نحن خضوعاً لطلب الكاتب نسأل اللّٰه له المغفرة لأنّه حرّف الكلم عن مواضعها وحمل كلام الإمام على خلاف مقاصده، وأخذ بفقرات من كلامه وأعرض عن ذكر ما يرفع النقاب عن مقاصده الحقيقية.

ومع ذلك نحن نسأل اللّٰه المغفرة له ولعامّة المسلمين ولكلّ من يشهد باللّٰه ربّاً، وبمحمد صلى الله عليه و آله و سلم نبيّاً، وبالكعبة قبلة، وبالقرآن كتاباً.

اللّهم آمين.

ص: 191


1- . قراءة راشدة: 86.

كما نسأله سبحانه أن يرزق المسلمين توحيد الكلمة كما رزقهم كلمة التوحيد، ويجعلهم يداً واحدة بوجه الأعداء والصهاينة، ومن هو بصدد تطبيع العلاقات معهم، وتسليط الأعداء على أوّل قبلة للمسلمين. آمين يا ربّ العالمين.

ص: 192

نصيحة لمؤسّسي «مبرّة الآل والأصحاب»

السلام عليكم ورحمة اللّٰه وبركاته

إنّ عنوان كلّ مؤسّسة - سواء أكانت دينية أم سياسية... - يُعرب عن أهدافها وأغراضها، وقد اتّخذ أصحاب المبرّة ذاك العنوان شعاراً دالّاً على ما يبتغونه، وظاهر العنوان يحكي عن أنّ المؤسّسين يحملون هموم الأُمّة الإسلامية لأجل تفرّقهم وتشرذمهم، فقاموا لأجل تقريب الخطى وتأليف شتات الأُمّة بتأسيس هذه المبرة لتحقيق تلك الغاية المنشودة.

أقول: لو كان هذا هو الغرض الأقصى، فنعم الغرض، لكن إصدارات المؤسّسة مازالت تعكس لنا خلاف ذلك، وسنشير إلى بعض عناوينها، وبذلك يظن الألمعي بأنّ ضمّ الآل إلى الأصحاب ليس إلّاواجهة لاستقطاب أنظار شباب الشيعة إلى برامجهم من دون أن يكون فيها شيءٌ من (الآل)، بل الغاية هي إبعادهم عن عقائدهم التي تعلموها من رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم وعترته الطاهرة، فالخبير يذعن بأنّ

ص: 193

العنوان ما هو إلّامكيدة، ومصيدة للشباب.

وها نحن نذكر أُنموذجين من عناوين بعض ما صدر من المبرّة والتي تسير في تحقيق هذا الهدف:

1. نحو وحدة إسلامية حقيقية، مواقيت الصلاة نموذجاً، تأليف الدكتور طه حامد الديلمي.

وفيه تخطئة للشيعة في جمعهم بين الصلاتين: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء

2. الحوار الذي أُجري مع الشيخ محمد سالم الخضر حول صوم يوم عاشوراء. وقد أكّد على صيامه الذي تبرّك به بنو أُمية لقتلهم الحسين عليه السلام.

وقد صدر أخيراً كتاب «قراءة راشدة لنهج البلاغة» بقلم: عبد الرحمن الجميعان، فقد قرأ «نهج البلاغة» لا للاستضاءة بأنواره أو للانتهال من منهله العذب، بل لغاية نقد عقائد الشيعة حسب استنتاجاته الشخصية من كلمات وخطب الإمام علي عليه السلام.

ويا ليت أنّه قرأ «النهج» متجرّداً عن كلّ رأي وعقيدة مسبقة، مع رعاية الأمانة العلمية في النقل والاستنباط، ولكن ما أبعد بينه وبين تلك الأُمنية، فتارة ينقل كلام الإمام على غير وجهه، وأُخرى يحمله على ما لا يرومه الإمام عليه السلام، وثالثة يستدلّ ببعض خطبه التي ليس فيها أية إشارة إلى ما يُريد الكاتب إثباته.

وحبذا لو كانت إصداراتهم مركّزة في العقائد والفقه على ما عليه

ص: 194

جمهور أهل السنّة فإنّهم في المسائل العقدية بين أشعري وماتريدي، وفي الفقه ينتمون إلى أحد المذاهب الفقهية الأربعة ولكنّ منشورات المبرّة على خلاف ما عليه جمهور أهل السنّة، فهم في الاعتقادات من دعاة الوهابية المهتمين بنشرها بأيّة وسيلة، ولنأت بمثال:

ألّف واحد منهم كتاباً في سيرة الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام (مع غض النظر عمّا في ثنايا الكتاب من غثّ وسمين) فقد زيّن غلاف كتابه بالحديث المروي عنه عليه السلام، قال: كان من دعاء الإمام الباقر عليه السلام:

«اللّهم من كانت له حاجة هاهنا وهاهنا، فإنّ حاجتي إليك وحدك لا شريك لك».

إنّ الغاية من كتابة هذا الحديث على غلاف الكتاب هو الردّ على المسلمين في مسألة التوسّل زاعماً بأنّ عملهم على خلاف ما عليه الإمام الباقر عليه السلام. والمسكين لم يفرّق بين توسّل مشروع وتوسّل ممنوع، فالتوسّل بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم حتى يدعو اللّٰه تبارك وتعالى ليقضي حاجة المتوسّل به، توسّل مشروع وهذا ملؤه التوحيد، وقد دلّ على ذلك الكتاب والسنّة.

وأمّا التوسّل باعتقاد أنّ المتوسّل به بيده مصير المتوسّل في قضاء الحاجة، فهذا توسّل ممنوع، والإمام عليه السلام بصدد ردّ الوثنيّين الذين كانوا يتصوّرون أن بيد آلهتهم مصيرهم أو الغلاة من غيرهم، والشاهد على ذلك ذيل الحديث حيث يقول: «لا شريك لك» فإنّ

ص: 195

الشرك في الصورة الثانية لا الأُولى. وفي ثنايا الكتاب الذي قدّمناه للقرّاء بحث واف حول التوسّل.

ولا ينقضي عجبنا إذ نرى أنّ مؤلّف الكتاب في سيرة الإمام الباقر عليه السلام ذكر أنّ عبد اللّٰه بن عمر - الذي لا يفقه شروط طلاق زوجته - جعله أحد شيوخ الإمام عليه السلام.(1)

ونحن نقترح على رئيس المبرّة ومديرها بالقيام بنشر ما فيه رضا اللّٰه تعالى ومصلحة الأُمّة الإسلامية وتوعية الشباب على محاسن المعارف الإسلامية، والعمل على تقوية الأُمّة الإسلامية للوقوف بوجه أعدائها وناهبي خيراتها.

ولو حاول أحد من الكتاب أن يبيّن عقائد بعض الفرق ويعرضها على القرّاء، فيجب أن يترك هذا الأمر الحسّاس إلى عالم طاهر القلب ذي أمانة علمية يعرف عقائدها وأُصولها.

هذه نصيحتي لمسؤولي المبرّة المحترمين، عسى أن تقع موضع القبول عندهم.

واللّٰه من وراء القصد.

جعفر السبحاني

قم المقدّسة

27 شوال المكرم من شهور عام 1440 ه

ص: 196


1- . الروض الناضر في سيرة الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام: 152.

فهرس لأهمّ المراجع والمصادر

ن تبرّك بذكر القرآن الكريم أوّلاً

1. إحياء علوم الدين: أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي (450 - 505 ه)، دار المعرفة، بيروت.

2. الاستيعاب (المطبوع في حاشية الإصابة): ابن عبدالبر (المتوفّى 463 ه)، دار النهضة، مصر، القاهرة.

3. الإمامة والسياسة: ابن قتيبة عبد اللّٰه بن مسلم الدينوري (المتوفّى 276 ه)، مطبعة مصطفى محمد، مصر.

4. إمتاع الأسماع: أحمد بن علي المقريزي (المتوفّى 845 ه) دار الكتب العلمية، بيروت، 1420 ه.

5. الأُم: محمد بن إدريس الشافعي (150-204 ه) دار المعرفة، بيروت، 1408 ه.

6. أُسد الغابة: ابن الأثير الجزري (المتوفّى 630 ه) دار إحياء التراث العربي، بيروت.

7. أعيان الشيعة: محسن الأمين العاملي (المتوفّى 1371 ه) دار التعارف، بيروت، 1420 ه.

8. بداية المجتهد: ابن رشد محمد بن أحمد القرطبي (520-595 ه) دار المعرفة، بيروت، 1403 ه.

ص: 197

9. البدعة: عبدالملك عبدالرحمن السعدي، مطبعة النواعير، الرمادي، 1992 م.

10. تاريخ بغداد: أحمد بن علي الخطيب البغدادي (المتوفّى 463 ه) المكتبة السلفية، المدينة المنورة.

11. تاريخ الطبري (تاريخ الأُمم والملوك): أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (المتوفّى 310 ه) مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1403 ه.

12. تحف العقول: الحسن بن علي الحرّاني (من أعلام القرن الرابع الهجري) مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1394 ه.

13. تذكرة الخواص: السبط ابن الجوزي (المتوفّى 654 ه)، طبعة مؤسسة أهل البيت عليهم السلام، بيروت، 1401 ه.

14. التوصل إلى حقيقة التوسّل: محمد نسيب الرفاعي، بيروت - 1394 ه.

15. الدر المنثور: جلال الدين السيوطي (849-911 ه) دار الفكر، بيروت، 1403 ه.

16. ديوان حافظ إبراهيم المصري (المتوفّى 1351 ه)، طبعة دار الجيل، بيروت.

17. الذريعة إلى تصانيف الشيعة، الشيخ آغا بزرگ الطهراني (1293-1389)

18. الرجال: النجاشي أحمد بن علي بن أحمد بن العباس الأسدي (372 - 450 ه) مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، 1407 ه.

19. روح المعاني (تفسير الآلوسي): محمود البغدادي الآلوسي (المتوفّى 1270 ه) دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405 ه.

ص: 198

20. الروض الناضر في سيرة الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام: مبرّة الآل والأصحاب، الكويت.

21. السنن: ابن ماجة محمد بن يزيد القزويني (207-275 ه) تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي، نشر إحياء الكتب العربية.

22. السنن: أبو داود سليمان بن الأشعث الأزدي (202-275 ه) دار إحياء التراث العربي، بيروت.

23. السنن الكبرى: أحمد بن الحسين البيهقي (المتوفّى 458 ه) دار المعرفة، بيروت، 1406 ه.

24. سير أعلام النبلاء: الذهبي محمد بن أحمد (المتوفّى 748 ه) مؤسسة الرسالة، بيروت، 1409 ه.

25. السيرة الحلبية: علي بن إبراهيم الحلبي (المتوفّى 1044 ه) دار المعرفة، بيروت، 1400 ه.

26. السيرة النبوية: ابن هشام عبدالملك بن أيوب الحميري (المتوفّى 212 أو 218 ه) دار التراث العربي، بيروت.

27. شرح النووي على صحيح مسلم: أبو زكريا يحيى بن شرف (631 - 676 ه) دار القلم، بيروت، 1407 ه.

28. شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد المعتزلي (المتوفّى 655 ه) دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1378 ه.

29. شرح نهج البلاغة: مثيم بن علي بن ميثم البحراني (المتوفّى 679 ه) دار الآثار للنشر ودار العالم الإسلامي، بيروت، 1402 ه.

30. الصحيح: البخاري محمد بن إسماعيل (المتوفّى 256 ه) دار الكتب

ص: 199

العلمية، بيروت، 1419 ه.

31. العروة الوثقى: السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي (المتوفّى 1337 ه) دار الكتب الإسلامية، طهران، 1388 ه.

32. العقد الفريد، ابن عبدربه الأندلسي (المتوفّى 327 ه)، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1986 م.

33. عمدة عيون صحاح الأخبار: يحيى بن الحسن ابن البطريق الحلّي (523-600 ه)، تحقيق المحمودي والبهادري، نشر ممثلية السيد القائد في الحج، طهران، 1412 ه.

34. الغدير: العلّامة عبدالحسين بن أحمد الأميني (1320-1390 ه)، دار الكتاب العربي، بيروت، 1387 ه.

35. الفائق في غريب الحديث: محمود بن عمر الزمخشري، (467-538 ه)، دار الفكر، بيروت، 1399 ه.

36. فتح الباري في شرح صحيح البخاري: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (773-852 ه)، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

37. فهرست أسماء علماء الشيعة ومصنفيهم (فهرست منتجب الدين)، أبو الحسن علي بن عبيد اللّٰه ابن بابويه الرازي (ق 6 ه)، طبعة المكتبة المرتضوية، طهران، 1404 ه.

38. في ظلال نهج البلاغة: محمد جواد مغنية رحمه الله، دار العلم للملايين، بيروت، 1972 م.

39. كنز العمال: عماد الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي (المتوفّى 975 ه) مؤسسة الرسالة، بيروت، 1405 ه.

ص: 200

40. مجلة: (تراثنا): العدد 2 و 3، نشرة فصلية تصدرها مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث في قم المقدّسة، السنة 9، 1414 ه.

41. مجمع الزوائد: علي بن أبي بكر الهيثمي (735-807 ه) دار الكتاب العربي، بيروت، 1402 ه.

42. مجموع الرسائل الكبرى: ابن تيمية الحرّاني (661-728 ه) مكتبة محمد علي صبيح وأولاده، مصر.

43. مجموعة الرسائل والمسائل: أحمد بن تيمية الحراني، دار الكتب العلمية، بيروت، 1412 ه.

44. مختصر تاريخ دمشق: ابن منظور محمد بن مكرم (630-711 ه) دار الفكر، بيروت، 1404 ه.

45. مراقي الفلاح بإمداد الفتاح: الشيخ حسن بن عمّار الشرنبلالي.

46. مروج الذهب: علي بن الحسين المسعودي (المتوفّى 345 ه) دار الأندلس، بيروت.

47. المستدرك: الحاكم النيسابوري محمد بن عبداللّٰه (المتوفّى 405 ه) دار المعرفة، بيروت.

48. المسند: أحمد بن حنبل (المتوفّى 241 ه) دار الفكر، بيروت.

49. مصادر نهج البلاغة وأسانيده: السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب، دار الأضواء، بيروت، 1405 ه.

50. المعجم الصغير: أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (260-360 ه) دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1409 ه.

51. المعجم الكبير: أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (260-360 ه)

ص: 201

دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1404 ه.

52. مفاهيم القرآن: جعفر السبحاني، نشر مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، قم المقدّسة، 1420 ه.

53. مقالات الإسلاميين: علي بن إسماعيل الأشعري (المتوفّى 324 ه) الطبعة الثالثة، 1400 ه.

54. مناقب الإمام علي بن أبي طالب: ابن المغازلي علي بن محمد بن الطيب المالكي (المتوفّى 483 ه) دار الأضواء، بيروت، 1403 ه.

55. من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق (المتوفّى 381 ه) مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1414 ه.

56. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: قطب الدين بن هبة اللّٰه الراوندي (المتوفّى 573 ه)، منشورات مكتبة السيد المرعشي قدس سره، قم المقدّسة، 1406 ه.

57. الموسوعة الفقهية الكويتية: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، 1414 ه.

58. نهج البلاغة: جمع الشريف الرضي (359-406 ه) لخطب أمير المؤمنين عليه السلام بيروت، 1387 ه.

59. نيل الأوطار: محمد بن علي بن محمد (1172-1255 ه) دار الجيل، بيروت.

60. الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية: جعفر السبحاني، تعريب خضر آتش فراز، مؤسّسة الإمام الصادق عليه السلام، قم، 1426 ه.

ص: 202

فهرس المحتويات

مقدّمة المؤلّف... 7

قراءة نهج البلاغة لأغراض خاصّة... 10

اقرأ واقض... 13

مواصفات الآل والصحابة في القرآن الكريم... 13

أصناف الصحابة في الذكر الحكيم... 15

المبحث الأوّل: الإمامة

الإمامة والنصّ... 18

1. «ولهم خصائص حقّ الولاية»... 18

2. «ما زلت مدفوعاً عن حقّي»... 20

3. «طلبت حقاً لي»... 20

وجه استدلال الإمام بالقرابة على إمامته... 23

نقد انطباعات الكاتب من كلام الإمام عليه السلام على عدم النص... 24

الشبهة الأُولى... 25

أوصاف الصنف الخامس يدلّ على أنّ المراد الأئمّة... 28

ص: 203

الشبهة الثانية... 31

ما هو السبب لتعاون الإمام مع القوم... 35

الحوادث المرّة في بيعة السقيفة... 36

الشبهة الثالثة... 39

في كلام الإمام ازراء بمن صرف الأمر عن أهل البيت... 40

الشبهة الرابعة... 41

كلام الإمام بيان رسميّ للدول كلّها... 43

الشبهة الخامسة... 45

عدم وقوف الكاتب على مقصود الإمام من الاجابة... 46

ما هو السبب لرفض الإمام بيعة الناس معه... 47

ما هو المراد من قول الإمام «لم أرغب عنكما»... 49

الشبهة السادسة... 51

احتجاج الإمام جدال بالأحسن... 51

المبحث الثاني: العصمة

الشبهة الأُولى... 54

توضيح دعائه عليه السلام... 55

الإمام في مقام استنزال الرحمة وتعليم الناس... 57

الشبهة الثانية... 60

الغاية من استشارة المعصوم تكريم الأُمّة... 60

الشبهة الثالثة... 62

ص: 204

دعاؤه للجميع لا لنفسه وحده... 62

الشبهة الرابعة... 64

الغاية من المشورة استقطاب عواطف الحاضرين في صفين... 64

الشبهة الخامسة... 68

اعتراف الإمام في مقام الابتهال لا ينافي عصمته... 69

الشبهة السادسة... 71

المعصومون يتعاملون مع الناس حسب الظواهر... 73

استدلال الكاتب بأدعية الإمام عليه السلام في مواقف مختلفة... 75

الشبهة السابعة... 79

أوصاف الوالد... 84

أوصاف الولد... 85

المبحث الثالث: الصحابة

اتجاهان في عدالة الصحابة... 90

الآيات الواردة في حقّ الصحابة... 90

الآية الأُولى... 91

الترضّي عن عدد خاص من الصحابة... 92

الترضي مشروط بثباتهم على الحقّ... 93

الآية الثانية... 93

الآية ناظرة إلى من جمع فيهم الخصال الخمس... 94

الآية الثالثة... 95

ص: 205

في شبهات الجميعان والرد عليها... 99

الشبهة الأُولى... 99

عند عزوف الصحابة عن المقابلة يقدم النبي أهل بيته... 99

الشبهة الثانية:... 101

الاحتجاج ببيعة الصحابة احتجاج بمسلّمات الخصم... 102

الشبهة الثالثة... 105

الشبهة الرابعة... 107

اختلاف أصحاب النبيّ في أمر القتال والنصرة... 109

الشبهة الخامسة... 111

الشبهة السادسة... 113

الشبهة السابعة... 113

الشبهة الثامنة... 115

الشبهة التاسعة... 116

صلابة الإمام في حفظ كيان الإسلام... 117

الشبهة العاشرة... 118

الشبهة الحادية عشرة... 119

الشبهة الثانية عشرة... 121

الشبهة الثالثة عشرة... 123

الشبهة الرابعة عشرة... 125

الشبهة الخامسة عشرة... 129

ص: 206

الشبهة السادسة عشرة... 132

المبحث الرابع: أهل الشام

ما هو الفرق بين الباغي والكافر... 137

المبحث الخامس: أصحاب عليّ عليه السلام

الكاتب يمدح أهل الشام ويبالغ في ذمّ أهل الكوفة... 140

المبحث السادس: الكتاب والسنّة

الكاتب يتّهم الشيعة بتحريف القرآن... 142

المبحث السابع: الدعاء

الأدلّة الشرعية على التوسّل... 151

الأوّل: التوسّل بدعاء النبي، في حال حياته... 151

الثاني: التوسّل بدعاء النبي بعد رحيله... 152

الثالث: التوسّل بذات الأنبياء والصالحين... 153

توسّل الضرير بنبي الرحمة... 155

1. اللّٰهُمَّ إِنّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ... 156

2. مُحمّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ... 157

3. يا محمّد إنّي أتوجّهُ بِكَ إلىٰ رَبّي... 157

إجابة عن سؤال... 157

سيرة الأُمم في توسّلهم بالذوات الطاهرة... 161

1. استسقاء عبد المطلب بالنبيّ وهو رضيع... 161

2. استسقاء أبي طالب بالنبيّ وهو غلام... 162

ص: 207

3. التوسّل بالأطفال والشيوخ في صلاة الاستسقاء... 163

4. توسّل الخليفة بالعباس عمّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 164

الجواب... 166

تابوت بني إسرائيل وإنزال السكينة... 168

المبحث الثامن: العبادات

الجميعان يريد الرد على عمل الشيعة في الجمع بين الصلاتين... 171

الفصل الأخير: متفرّقات وشوارد

انقطاع خبر السماء بموت النبيّ... 176

البكاء على الميّت... 180

ضرب القامات وشق الجيوب... 183

دعوى التساوي بين ولاة عليّ وولاة غيره... 185

نموذجان لقبح أعمال الولاة... 185

1. خالد بن الوليد... 185

2. الوليد بن عقبة... 186

خاتمة الرسالة... 190

وصية الكاتب للقرّاء... 191

نصيحة: لمؤسّسي «مبرة الآل والأصحاب»... 193

فهرس لأهمّ المراجع والمصادر... 197

فهرس المحتويات... 203

ص: 208

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.