الأطروحة الحسينية في استفتاءات وردت وإجابات تلت ولائية أبوية
سماحة المرجع الدینی آیة الله العظمی الفقیه الحاج السید علاء الدین الموسوی الغریفي دامة برکاته
ویلیه التشرف
بمسک الختام فی مبارزة أصحاب الإمام الحسین علیه السلام
و هو ما جمعه جد سماحة السید
المغفور له آیة الله العظمی الفقیه
السید محمد علی الموسوی البحرانی الغریفی قدس سره
الطبعة الْأُولَى
ص: 1
ص: 2
بسمه تعالى شأنه وله الحمد
لا بأس بالعمل بما هو مدَّون في مجموعة الاستفتاءات حول الشَّعائر الحُسينيَّة الشَّريفة المسمَّى ب_ (الأطروحة الحُسينيَّة في استفتاءات وردت واجابات تلت ولائيَّة أبويَّة)، بل هو مأجور ومثاب عليه إن شاء الله تعالى.
ص: 3
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله الَّذي حثَّ على تعظيم شعائره وإجلالها، وجعل ذلك مدعاة لتقوى قلوب عباده وصلاحها، والصَّلاة والسَّلام على أشرف بريَّته وخاتم رسله والدَّال على أحكامه وشرائعه، أبي القاسم محمَّد الَّذي اصطفاه من بين خلقه، وعلى الهداة الميامين من عترته وآله، والخيرة من أصحابه وأتباعه، وبعد:_
بما أنَّ الشَّعائر الحُسينيَّة هي وسيلة إعلامية مهمّة لبث ونشر مبادئ الثَّورة الحسينيَّة، وكونها ممارسة عريقة تحث على المواساة والحزن لمظلوميَّة ومصائب أهل البيت (علیهم السلام)، وطقوس عظيمة تبعث وتستنهض في النُّفوس _ من تلك الثَّورة العظيمة _ الهمم لرفض الذل والاستكانة للظالم، بما تتضمَّن من غايات وأهداف نبيلة أخرى كنشر فضائلهم (علیهم السلام) وبيان تأريخهم النَّاصع وعلومهم المتنوِّعة، وكتربية وتوعية الفئات المتعدِّدة وترسيخ ما أثبتته الفطرة العقائديَّة السَّليمة، وغيرها من الأهداف الكثيرة لهذه الممارسة العظيمة.
وبما أنَّ الشَّعائر أصبحت اليوم وفي عصورنا الحاليَّة تمثل إحدى الأعمدة الَّتي يرتكز عليها المذهب الإمامي الحنيف، ولأنَّها ينبغي أن تكون العنصر الجامع والموحد بين أبناء المذهب على اختلاف جنسيَّاتهم وقوميَّاتهم.
نجد أنَّ اثارة التَّشكيك في مشروعيَّتها واختلاق الشُّبهات في أدائها وتنوُّع ممارستها _ والَّتي لا يؤثِّر وجود بعض الأخطاء فيها على جوهرها الأساس _ قد اتَّسع وتكاثر، ونمى وتزايد إلى حد وجوب اعتبار ذلك عصياناً وانحرافاً عن الفهم
ص: 4
السَّليم للأدلَّة النَّاصعة، وتمرداً على المرتكزات الموروثة بالحجج والبراهين السَّاطعة، بل تعتبر مؤامرة كبيرة وواضحة من ذوي الجهل والحقد والضغينة _ على اختلاف توجُّهاتهم وانتماءاتهم _ لديننا الإسلامي الحنيف ومذهبنا الإمامي المنيف.
بل وجوب التَّصدِّي _ ونحن في ظلِّ صحوة دينيَّة عارمة _ ومحاربة ذلك من كل ذي لب وعقل وكل ذي فكر وعلم، للدِّفاع عن الولاء الحقيقي لأهل بيت النبوَّة (علیهم السلام) وحقِّهم في الإمامة العظمى والتَّنصيب الإلهي لهم وتعظيم كل ما يتعلَّق بهم من شعائر وغيرها.
ولهذا تصدَّى علماءنا الأعلام وفقهاءنا العظام منذ قديم الزَّمان "رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين" لهذه الهجمة الشَّرسة ولأمثالها بكل ما أوتوا من جهد فكري وعلمي ووسائل إيضاحيَّة لمن أراد الحق والحقيقة، وتتبَّع واقتدى بذويه وأهله.
وممَّن تصدَّى لذلك سماحة سيِّدنا المفدَّى المرجع الدِّيني الكبير والفقيه النِّحرير آية الله العظمى السِّيد علاء الدِّين الموسوي البحراني الغريفي "دامت إفاضاته" في حلِّه وترحاله وبحوثه ومحاضراته واستفتاءاته، ممَّا يُأنس المتلقِّي بأجوبته واستدلالاته.
ومن ثَمَّ إنَّنا قد اقتدينا بهم لجمع ما يخص المدرسة العقائديَّة عموماً والثَّورة الحُسينيَّة والشَّعائر العاشورائيَّة خصوصاً من استفتاءات موجَّهة لسماحته "دام ظلُّه" للاستنارة بآرائه وفتاواه بعد طرحها عليه لإعادة النَّظر فيها وتوسيع الاستدلال فيما يراه مناسباً لذلك.
وقد أولى سماحته "دامت بركاته" لمشروعنا اهتماماً بالغاً، وأشرف على نوعيَّة الجمع والتَّنسيق، مع علمنا بكثرة انشغالاته ومسؤوليَّات مرجعيَّته الأبويَّة،
ص: 5
فكان نتاج ذلك أن خرج بحلَّة قشيبة وأطروحة جديدة وإن كان بعناوين مختلفة بحسب كل ما هو مضمون للاستفتاء، موجِّهاً لنا بأن يكون ختام هذا الجمع بمسكه وهو ما جمعه جدُّه المقدَّس المرحوم المبرور آية الله العظمى السيِّد محمَّد علي الموسوي البحراني الغُريفي (رحمة الله) حول مقتل سيِّد الشُّهداء أبي عبد الله الحُسين (علیهما السلام) ليستفيد من هذا المجموع كل قارئ ومتتبِّع على اختلاف ثقافاتهم ومشاربهم، ولأجل ذلك اختار سماحته "دام ظلُّه" أن يكون تسمية هذا المجموع باسم جامع له وهو (الأطروحة الحُسينيَّة في استفتاءات وردت واجابات تلت ولائيَّة أبويَّة).
على أمل أن يُضاف إلى هذه الأطروحة ما يوسِّعها ممَّا يُعثر عليه أو يتجدَّد من الإجابات المناسبة أو تعديل ما يحتاج إلى تعديل.
وهذا من دواعي فخر واعتزاز مؤسسَّتنا (مؤسَّسة العلاَّمة الفقيه السيِّد حسين الغريفي (رحمة الله)) أن يكون لها السَّبق في نشر مؤلَّفات وتراث سماحة سيِّدنا المفدَّى (دام ظله) وبقيَّة أعاظم وأكابر أهل العلم والفضل من الأسرة الغُريفيَّة العريقة، نسأله تعالى أن يمتِّعه بالصَّحة والعافية ويديم علينا إفاضاته الفكريَّة والعلميَّة.
كما نسأله أن يكون عملنا هذا في ميزان حسناتنا ومقبولاً بأحسن القبول في ساحة إمام زماننا الحجة ابن الحسن المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلاَّ من أتى الله بقلب سليم، وآخر دعوانا أن
«الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»
النَّاشر
مؤسَّسة العلاَّمة الفقيه السيِّد حسين الغريفي "قده"
ص: 6
بسم الله الرحمن الرحیم
بسمه تعالی
سماحة السيد الغريفي (دام ظله) بعد السَّلام التَّام أريد من سماحتكم تعريفاً علميَّاً في آية التَّعظيم، ولا أقصد الشَّعائر الحسينيَّة بل مطلق معنى الشَّعائر، إذ أنَّ التَّعريف المشهور عند العلماء هو علامات الله أو معالم دينه، وهناك من يعلِّل تسميتها بالشَّعيرة لأنَّها تشعر بالله.
أريد من سماحتكم تعريفاً شاملاً لها هذا أوَّلاً، وثانياً ورد في الرِّوايات أنَّ تعظيم المؤمن من شعائر الله.
السيد قاسم الغريفي
خير المآثر القول بتعميم الشَّعائر
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة التَّامة على نبي الإسلام الرَّسول الهمام وعز الشَّعائر الَّتي لن تذل به ولا تُضام، محمَّد المصطفى وآله الصَّفوة الشُّرفا الطِّيبين الطَّاهرين، سادة الأنام نجومها وكواكبها من بعده لهداية المؤمنين، إلى حسن الالتزام وتعظيم الشَّعائر إلى قيام يوم الدِّين،واللَّعن الدَّائم التَّام على أعدائهم ومبغضيهم من الآن إلى يوم الانتقام إلهيَّاً من المغضوب عليهم ومن الضَّالِّين.
ص: 7
وبعد:_
فإنَّ الإجابة على سؤال الشَّعائر وأمر تعظيمها قد لا تكون مفصَّلة غاية التَّفصيل كما يريده السَّائل "أيَّده الله تعالى" لكثرة مشاغلنا العلميَّة والحوزويَّة والاجتماعيَّة، لذا فلنقتصر على ما هو الميسور الفعلي منَّا، نسأل الله العلي القدير أن يكون على اختصاره به تحقيق المراد وتمام ما منه يستفاد، ولو على قاعدة (قليلٌ قر خيرٌ من كثيرٍ فر) (والعذرُ عند كرام النَّاس مقبول)، فنقول وبالله الاستعانة:_
قبل كل شيء إنَّ المعنى اللُّغوي للشًّعائر في قوله تعالى «ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ»(1) وغيره من الآيات المتعدِّدة المشابهة له وغير الشَّعائر من الألفاظ المطلوب فهم معانيها في القرآن الكريم وغيره من ألفاظ السنَّة الشَّريفة المشابهة _ هو أوَّل شيء أُعتني به بين أهل العلم قديماً وحديثاً للتَّعريف بالمغلقات اللُّغويَّة من كافَّة الوجوه لقِدَم علم اللُّغة وبما حوته قواميسه من ذلك القديم والجديد تحت ظل الفصاحة والبلاغة والبديع العربيَّة غير المندرسة والباقية آثارها جملة وتفصيلاً من عموم القضايا لكل المذاهب الإسلاميَّة بل غيرها ممَّا كتبه غير المسلمين من العلوم الأدبيَّة وقواميس اللغة لمحاولة الوصول إلى ما به وفاقهم أو اتِّفاقهم ولو في الجملة، فضلاً عمَّا لو كان الكثير أو الأكثرلصالح ما يتناسب مع ما يراد منه لفظ تعظيم شعائر الله وترويجها لنشر الدِّين والقيم كلِّها من واجباته ومستحبَّاته عقائديَّاً وأخلاقيَّاً وشرعيَّاً وبما
ص: 8
لم يخرج عن قيم وذكريات أعظم رجاله من النَّبي (صلی الله علیه و آله) وصفوة آله المعصومين (علیهم السلام)في أفراحهم وأتراحهم، لكونهم الأسوة والقادة والقدوة الَّذين بدون أتباعهم وبدون تعظيم الشَّعائر في أمورهم علماً وعملاً تضيع القيم وتموت السُّنن وتبيد الهمم، بل حتَّى نوَّابهم الخاصُّون بل العامُّون في هذه الغيبة الكبرى ممَّن تركَّز عنوان الدِّين وقيمه على جليل خدماته من قبلهم كذلك شخصيَّة ونوعيَّة في حياة النَّبي (صلی الله علیه و آله) وآله (علیهم السلام) وبعد مماتهم.
ولو قيل بأنَّ قِدم المعلومات اللُّغوية لا تعيننا تماماً على معرفة ما خفي علينا ممَّا جاء من الوحي في ظل الإسلام ومنه مضامين الآية المذكورة؟
فإنَّا نقول أوَّلاً: إنَّ اللُّغويَّات القديمة الَّتي كانت قبل بزوغ شمس الإسلام كان قد عاصر أربابها أو بعضهم ما كان من وحي النبوَّات والرِّسالات السَّماويَّة السَّابقة الَّتي تتشابه مع بعض أو كثير ممَّا في ظل الإسلام ومنه ما يرتبط بمعنى التَّعظيم للشَّعائر ولو في بعض ما حفظ من أناجيل الكتابييِّن لحماية أصل الدِّين وبعض مظاهره كما في إنجيل برنابا.
وثانياً: إنَّ ما ذكرناه من الحاجة إلى قواميس اللُّغة الَّتي حوت القديم من معاني الألفاظ للحاجة إليه قبل معرفة ما هو الأعمق إسلاميَّاً عن طريق ما يعرفه المفسِّرون والفقهاء كثيراً ما ينفعنا للوصال بين القديم السَّماوي وبين الحديث السَّماوي الإسلامي من جهة سرعة التَّصديق به.
وابتداءنا بذكره قبل ذكر قول المفسِّرين والفقهاء ليس معناه أنَّ تلكالقواميس ما حوت المعنى الجديد في ظل الإسلام كأيَّام النَّبي والأئمَّة "عليهم الصَّلاة والسَّلام" من الَّتي تشترك مع ما قبله تماماً كما أشرنا آنفاً،
ص: 9
لكون اللُّغة العربيَّة المعاصرة لتلك الأيام الإسلاميَّة لم تخرج عن كونها لغويَّات عامَّة غير اصطلاحيَّة كاصطلاحيَّات المفسِّرين والفقهاء الخاصَّة، ولذلك كانت القواميس اللغويَّة العامَّة قد حوت الكثير من ألفاظ ما كان في ظل الإسلام كما حوت ما كان قبل مجيئه كما أشرنا ولكن قبل أن تكون اصطلاحات خاصَّة لمثل الفقه.
فتلك اللُّغويَّات العامَّة في قديمها وحديثها هي المحور الَّذي نريد الابتداء به قبل الخاصَّة لمعرفة ما يمكن الاستفادة منه حينما تكون العامَّة تشبه الخاصَّة أم لا؟ وفي حال مشابهتها لها لكوننا قد أصبنا الخير الكثير ولو في المشابهة الإجماليَّة، لكون اللُّغة في عموميَّاتها تشمل المسلمين وغيرهم في أمور عموم الدِّين السَّماوي وتشمل كافَّة المذاهب الإسلاميَّة في الإسلاميَّات العامَّة، وبهذا تتَّضح تماميَّة الحجَّة لنا على غيرنا كما سيجيء حتَّى لو أثبتنا لخصوص مسلك أهل البيت (علیهم السلام) من أدلَّتهم ما يصلح لهم وللمهتدين معهم عن طريق عموم المذاهب الإسلاميَّة أو ما بقي من كتب أهل الدِّيانات السَّماويَّة الأخرى ممَّا حفظ المعتبر عندنا جميعاً من كتبهم كما في إنجيل برنابا وغيره ممَّا وجد في معتبرات روايات أهل البيت (علیهم السلام) عن أولئك والأقدم منهم.
وعلى أي حال فإنَّ العلاقة بين القديم والحديث لابدَّ وأن تنفعنا غاية النفع ولو من العلاقة الجزئيَّة بين المعنى اللُّغوي الشَّامل لهما وبين ما ذكره المفسِّرون وبين ما ذكره الفقهاء الاصطلاحيُّون، لئلا يقال بأنَّ المعنىاللُّغوي قد مُنع من التَّوسُّع في مصاديق التَّعظيم لكل ما أشرنا إليه وما رغب منه ممَّا أشير إليه في السُّؤال دينيَّاً، لكون المعنى اللُّغوي في أحد
ص: 10
معانيه المتعارفة أوسع من الدِّيني لكونه عند اللُّغوييِّن تُعد الصَّلاة مثلاً لمطلق الدُّعاء وفي المعنى الدِّيني الإسلامي أنَّها ذات الأركان الخاصَّة وقد يكون مطابقاً له، إلاَّ أنَّ المفاد قد يختلف في المصداق للجامع المشترك بين الحالتين لأنَّ كلاًّ من الاثنين يحمل معنى الدُّعاء لكن في اختلاف في الكيفيَّة، وقد يكون الشعور بين أذهان مؤسِّسي اللُّغة والتَّدوين لها في الجاهليَّة وفي زمان مؤسِّسيها تحت ظل الإسلام متفاوتاً بمعنى أنَّ الدِّيني الإسلامي أوسع من اللُّغوي الجاهلي من ناحية التَّعبُّد الدِّيني الَّذي لا تكون نواياه موجودة في أذهان الجاهليِّين ولو سطحيَّاً شعائريَّاً في الأوَّل وعدمه أو ضعفه في الزَّمن الجاهلي فيكون المعنى شاملاً للصَّلاة ذات الأركان مع الدُّعاء عند المسلمين ومعدوماً أو ضعيفاً عند الجاهلييِّن ومعهم المحرِّفون لكتبهم السَّماويَّة من الكتابييِّن إلى أن فقدوا كل قيمهم.
ومن هنا يتَّضح التَّفاوت في الحالة الأولى بين اللُّغة والاصطلاح تفاوت العام والخاص المطلق منطقيَّاً.
وفي الحالة الثَّانية حالة التَّطابق الكامل أو المقارب وبما لا يمنع من حمل ما يُراد إسلاميَّاً من مصاديق اللُّغة بما هو أعمق ممَّا يُراد جاهليَّاً وإن كانت مصاديق ما يريده الجاهليُّون أمثال شعائر الحج المرتبطة بهم عاديَّاً والموروثة لهم من زمن الأنبياء والرُّسل الماضين (علیهم السلام) حتَّى زمن إبراهيم الخليل (علیهما السلام) قد تصرَّفوا فيها أيَّام جاهليَّتهم حتَّى أثَّرت ما به بعض الاختلاف بين ما كان وبين ما حصل إلى أن جاء الإسلام.
وفي الحالة الثَّالثة العموم والخصوص من وجه، فلم يبق إلاَّ ما في الحالة الرَّابعة وهي حالة التَّباين من النِّسب المنطقيَّة الأربع بين اللُّغة وغيرها ممَّا
ص: 11
لا يفيدنا، لعدم التَّلاقي ولما ذكرناه من الأهميَّة اللُّغويَّة قبل ما نحتاجه من أمر علمي التَّفسير والفقه الآتي ذكرهما حول المراد ذكره.
فلنضرب أمثلة ممَّا قالته قواميس اللغة لنواجهها بما قاله المفسِّرون وما قاله الفقهاء المستندون _ في كلتا قراراتهما من حالتي التَّخصيص والتَّعميم وما بينهما ممَّا به أمل الالتقاء بين اللًّغة وقول المفسِّرين والفقهاء وما يُراد بالنَّتيجة لصالح ذلك _ على نهج الكتاب والسنَّة والإجماع والعقل لإتِّباع ما يجب أو ينبغي إتِّباعه ممَّا صحَّ أو يصح من قول المفسِّرين والفقهاء الموالين ومن تؤمَّل منهم الهداية ممَّن يتبعهم مستقبلاً من بقيَّة المذاهب وحتَّى الآخرين من غير المسلمين لنظريَّة أهميَّة التَّوسُّع بل قانونها عند ما ثبتت الأدلَّة أو أثبتت وبما لم يرفض لغويَّاً كذلك على الأقل ولو من تلك العلاقة الجزئيَّة.
قال في النِّهاية في غريب الحديث والأثر لأبن الأثير مجد الدِّين أبي السعادات المبارك بن محمد الخيرى في باب (شعر): قد تكرَّر في الحديث ذكر الشَّعائر وشعائر الحج آثاره وعلاماته جمع شعيره، وقيل هو كل ما كان من أعماله كالوقوف والطَّواف والسَّعي والرَّمي والذَّبح وغير ذلك.
وقال الأزهري: الشَّعائر "المعالم الَّتي ندب الله إليها وأمر بالقيام عليها... إلخ".
وفي القاموس في مادة (شعر): شعائر الحج مناسكه وعلاماته والشَّعيرة والشعار والمشعر معظمها أو شعائره معالمه الَّتي ندب إليها وأمر بالقيامبها.
وفي لسان العرب قال الزجَّاج: في شعائر الله يعني بها جميع متعبَّدات
ص: 12
الله الَّتي أشعرها الله أي جعلها أعلاماً لنا، وهي كل ما كان من موقف أو سعي أو ذبح.
إلى غير ذلك من أقوال اللُّغويين في قواميسهم.
أقول: إنَّ ما ذكر في بعض هذه القواميس وغيرها منه ما كان عامَّاً أو صريحاً في عمومه للمراد من الشَّعائر سواء الحج وأجزاءه أو ما هو الأوسع من ذلك ولو في أيَّام الحج أو حتَّى من غيره بدليل ما أورده في النِّهاية آنفاً من قوله في الأخير (وغير ذلك)، وبدليل عموميَّة عبارة الأزهري الواضحة حول ذلك.
ومنه ما قد يلوح منه ذكر خصوص أمور الحج كما في عبارة القاموس ولسان العرب إلاَّ أنَّ الأوَّل لم يصرِّح بأموره والثَّاني ذكر بعضها ولم يستوف الجميع، بينما القرآن صرَّح في بعض آياته على ما سوف يجيء ذكره في مثل قوله تعالى «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ»(1) الدَّال على أنَّ من للتَّبعيض وشعائر فيه نكرة لا يُراد منها خصوص أعمال الحج في أيَّام الحج ومواقعه، بل يشمل ما هو الأعم على ما سيتَّضح أكثر.
إضافة إلى كون تعظيم الشَّعائر موجباً للنَّفع فلو ضممنا إليه قوله تعالى «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ»(2) وإن نزل في جملة آيات الحج لابدَّ وأن يُراد منهما هو الأعم من المناسك الخاصَّة، بل لابدَّ من أن تتجاوز منافع الحج ومواقعه لكونه نكرة في لسان النَّص الشَّريف وهو ما له نظائر كثيرة في
ص: 13
القرآن الكريم كما مرَّ مثيله، فلابدَّ من أن يكون ما ذكره بعض اللُّغويين من مصاديق الحج هو من باب ذكر أشهر المصاديق وهو لا يخصِّص المورد، أو أنَّه أقرب مصاديق ما ذكر في الحج الَّذي هو أحد أفراد ما تعظَّم به الشَّعائر وجوباً أو ندباً ممَّا يتجاوز أمور الحج.
وإلاَّ فلا يمكن الرِّضا بما لو قصد غير ذلك من بعض أولئك اللًّغويين المصرِّحين بخصوص أمثلة الحج ومن الشَّعائر ما لا خلاف فيه من عامَّة الواجبات والمستحبَّات على ما سيجيء توضيحه بدليل آية عموم الشَّعائر وإطلاقها وآية المنافع وغيرهما الواردين حالة الحج وغيره في الكتاب والسنَّة كعبادات الفرائض اليوميَّة ونوافلها والجماعة والجمعة وإحياءها في المساجد ومراسيم العيدين والاعتكاف والاستسقاء وعيادة المريض وتشييع الجنائز وزيارات قبور النَّبي (صلی الله علیه و آله) والأئمَّة (علیهم السلام) في البقيع والبضعة الطَّاهرة (علیها السلام)في البقيع أو الرَّوضة وغيرها من العتبات المقدَّسة للأولياء والصَّالحين كقبور الحجون في مكَّة وقبور الأئمَّة (علیهم السلام) وغيرها في البلدان الأخرى وغير الأئمَّة من الأولياء فيها كما سيجيء تفصيله بما هو أنسب بحيث يُعاب على اللُّغوييِّن الأدباء أن لا يتصوَّروا ما نتصوَّره من أهميَّة تعظيم عموم الشَّعائر حينما كان كلامنا مطابقاً للقواعد الأصوليَّة المنطقيَّة والأصوليَّة العامَّة.
ولذا توسَّعت بعض الكتب اللُّغويَّة الأخرى بعدم ذكر خصوص مايخص الحج لئلاَّ يُترك ما هو الأعم كما لا يخفى على المدقِّقين ممَّا مرَّ ذكره من القواميس والكتب لدى المتتبِّعين في هذا وغيره وإن قلَّ التَّحدُّث مع الأئمَّة (علیهم السلام) في بعض الأوقات حول تشخيص ما يمكن أن تُعظَّم به
ص: 14
الشَّعائر من غير خصوص أمور الحج في بعض الأدوار لجانب ما قد تمنعه التَّقيَّة في عصر الأئمَّة (علیهم السلام) ممَّا سبَّب قلَّة ذكر بعض اللُّغوييِّن لتلك المصاديق الأخرى إلاَّ أنَّ المجموع المكوَّر من لقاءات المؤمنين من الحواري لجميع الأئمَّة في أوقاتهم ومنها غير الحرجة، وكذا غيرهم لحسن الصِّدف ولله الحمد أوجد لنا ثروة من المعلومات في كتب الحديث عن ذلك على ما سيتَّضح مع التَّعميمات اللُّغويَّة وخصوصاً في التَّفاسير الَّتي عليها الطَّابع اللُّغوي الأدبي والمحيط بكل نصوص القضيَّة كتاباً وسنَّة ممَّا سيجيء ذكره قريباً، إضافة إلى القواميس اللُّغويَّة الماضي ذكرها آنفاً وغيرها ممَّا لم نذكره لعدم الحاجة إلى التَّوسُّع به أكثر، لأنَّها لم تخرج نوعاً حتَّى بتوسُّعنا لو أردنا الاختصار عن المحوريَّة الَّتي ظهرت لنا ولغيرنا وأردناها ممَّا مرَّ ذكره عند جمع الأدلَّة وما سيجيء التَّأكيد عليه، ومن ذلك ما أشارت إليه الفقرة الأخيرة لآية التَّعظيم وهي قوله تعالى «فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ»(1) فإنَّها لم تعن لغويَّاً قبل تفسير المفسِّرين الأدباء وبيان الفقهاء الأصولييِّن خصوص مصاديق الحج ممَّا ذكرناه وإن قارب ذكر هذه الآية ذكر تلك المصاديق.
وإن قيل بأنَّ هذا الذِّكر المقارن والمصاحب لتلك المصاديق هو الَّذيسبَّب ولو ظاهراً كون الآية خاصَّة بها دون ما هو الأوسع، وإلاَّ لما كان من داع لمصاحبتها لها.
فإنَّا نقول أوَّلاً:_
ص: 15
إنَّ كثيراً من المصاحبات من الآيات لآيات أو أجزاء آيات خاصَّة في باب الجمع القرآني لم تخرج العموميَّة والإطلاق في الآيات الَّتي سبقتها أو لحقتها من جهاتهما الممكنة بحسب القرائن، ولذلك مصاديق كثيرة ليس هذا محل إيرادها، وقد أشرنا آنفاً إلى عدم لزوم تخصِّص المورد عند ورود الخاص عليه.
وثانياً: إنَّ كلمة «مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ»(1) الظاهر فيها أنَّ (من) الَّتي في مطلعها لن تخرج عن كونها للتَّبعيض إذا جعلنا بعض فروض كون الشَّعائر الَّتي فيها أنَّها كانت من أنواع تلك التَّقوى لخصوص أمور الحج جدلاً، فلم يعن هذا أنَّ هناك شعائر أخرى لم تكن من جهة العموم والإطلاق المتقدِّمين من جهة ما فسَّره اللُّغويُّون وغيرهم من غير أمور الحج غير داخلة في تقوى القلوب المذكورة كعلَّة لمعلول متعدِّد.
ويُضاف إلى هذا تأييداً وإيضاحاً لصدق التَّبعيض مثل قوله تعالى الآخر وهو «وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ»(2)، وآخر وقد مرَّ وهو «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ»(3) فإنَّ من فيهما لا محالةللتَّبعيض مع التَّنكير الَّذي في لفظ الشَّعائر، وهو ما يعني أن الشَّعائر أوسع ممَّا يُعنيه المقلِّصون.
ولما ذكرناه من الإشارة إلى أهميَّة ما يعرفه المفسِّرون مؤالفين ومخالفين
ص: 16
بعد ذلك وبما يفيد التَّعميم للمراد من الشَّعائر لنضرب أمثلة ممَّا ذكروه.
فقال الطَّبرسي (رحمة الله) في مجمعه(1) الَّذي يذكر عادة في بياناته منه ما يروى عن الفريقين عن قوله «ومن يعظم شعائر الله» أي معالم دين الله والأعلام الَّتي نصبها لطاعته.
ثمَّ أختلف في ذلك.
فقيل هي (مناسك الحج كلُّها) عن ابن زيد، وقيل هي (البدن وتعظيمها استسمانها واستحسانها) عن مجاهد، وعن ابن عباس في رواية مقسم والشَّعائر جمع شعيرة وهي (البدن إذا أشعرت أي أعلمت عليها بأن يشقَّ سنامها من الجانب الأيمن ليُعلم بها أنَّها هدي فالَّذي يُهدي مندوب إلى طلب الأسمن والأعظم).
وقيل شعائر الله (دين الله كلُّه وتعظيمها التزاماتها)، عن الحسن.
(فإنَّها) أي فإنَّ تعظيمها لدلالة تعظيم عليه ثمَّ حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه فقال «فإنَّها من تقوى القلوب» أضاف التَّقوى إلى القلوب لأنَّ حقيقة التَّقوى تقوى القلوب، انتهى كلامه من البداية إلى النِّهاية.
وأقول إنَّ من قرأ من بداية ما ذكره الطَّبرسي (رحمة الله) عن الآيةومعه القول الَّذي نقله عن الحسن في بداية أواخر عباراته إلى آخرها لوجد مع العموميَّة والإطلاق فيها وبما يزيد وضوحاً ما عن خصوص المناسك كلِّها أو بعضها ممَّا ذكره الطَّبرسي أيضاً عن ابن زيد وعن مجاهد وعن ابن
ص: 17
عباس بما لا يمكن التَّنازل عن كلا الرأيين، وأنَّ أمور المناسك لا تزيد عن دخولها في ذلك العموم والإطلاق حتَّى عند من فقد الأمور الخاصَّة لو أنصف نفسه لو ضممنا آيات الشَّعائر الأخرى وغيرها ممَّا جعلناه في هذه الإجابة وإلى آخرها من الاستدلالات بتناسب مظاهر حالات العموم والإطلاق من سائر ما يُناط بعموم أمور الدِّين مع مظاهر خصوص حالات أمور المناسك تناسب التَّشابه المصداقي في التَّعظيم لها وبما يصل إلى العمق القلبي من التَّقوى، لأنَّ الطَّبرسي (رحمة الله) عرض المنقولات وبما لم يرجِّح منها رأياً على آخر ولم ينف العموم والإطلاق.
بل حتَّى ما يتعلَّق بأمور الحج لو أصرَّ القائلون بها دون غيرها لو راجعنا قوله تعالى من آياته الأخرى غير آيات الشَّعائر وهو «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ»(1) لحتميَّة دخول كل ما يرضي الله من تلك المنافع الَّتي جاءت بلفظ النَّكرة ممَّا لا ينافي مع عموم شعائر الله وإطلاقها العائد لعموم وإطلاق الدِّين بعد التَّقيُّد بعموم فرائضه ومندوباته المترابطة حتَّى لو بدأت بما هو المهم من المصاديق وهو مناسك الحج الَّذي هو من أهم أركان هذا الدِّين، وقد سبق أن نوَّهنا عن هذه الآية الكريمة.
وقال الشَّيخ النَّمازي الشَّاهرودي(2) في كتابه ما نصُّه (فالشَّعائر مطلق العلامات فإذا أضيفت إلى الله تكون العلامات الرَّاجعة إلى أمور الله وذلك قوله تعالى «ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ»
ص: 18
يعني علامات طاعة الله وأعلام دينه) انتهى ما أردناه من كلامه.
وأقول مضيفاً قد أيَّد هذا الرَّأي الفيض الكاشاني (رحمة الله)(1) في تفسيره والملا فتح الله الكاشاني (رحمة الله) في زبدة التَّفاسير(2)، وبهذا وأمثاله تزداد أقوال التَّعميم والإطلاق.
وما قيل: عن بعض تفاسير العامَّة وبعض تفاسيرنا كتفسير الميزان وما نقل عن عوائد الأيام(3) من أنَّ مفاد الآية هو لا يُراد منها سوى شعائر الحج المراد بها خصوص أعماله بادِّعاء ما يشبهها أو يؤكِّدها من مثل قوله تعالى «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ»(4) وقوله «وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ»(5)، الَّذين لو ضما إلى الآية الرَّئيسة لأتَّضح أنَّ المراد منها هو خصوص أعمال الحج؟
فإنَّه مردود بكون النَّظر الدَّقيق وغيره لا يساعدان على ما قالوه وما قاله في الميزان لأنَّ (من) في الآيتين الأخيرتين كما لا يخفى للتَّبعيض معالتَّنكير في لفظ الشَّعائر في كل منهما كما في الآية الرئيسة الأولى.
وما قيل: بأنَّه ما من عام إلاَّ وقد خُص؟
فقد ثبت أصوليَّاً ما هو خلافه ولو إجمالاً، لأنَّ عموم العام لم يزح
ص: 19
كل مصاديقه ما جاء بعده من بعض مصاديق المتوِّهم، كونها مخصِّصة ولو من احتمال كون العام جاء بعد الخاص، وكما أسلفنا عن الجمع القرآني بعد تواتر النُّصوص المسلَّم أنَّه لا حجيَّة ثابتة بالتَّسلسل الموجود لإمكان أن تتقدَّم بعض الآيات على بعضها الآخر، ولذلك عُد التَّفسير الموضوعي للقرآن أفضل من غيره، ومن قرأ ما يتعلَّق بجمع أمير المؤمنين (علیهما السلام) وجمع ابن مسعود لاتَّضح له الأمر أكثر.
مضافاً إلى أنَّ حقيقة ما عُرف عن النَّراقي (رحمة الله) بعد الدقَّة في المراجعة لآثاره قوله:
(أنَّ المستفاد من جميعها (أي الاقوال في شعائر الله في الآية) أنَّ المراد ب_ (شعائر الله) يحتمل وجوهاً أربعة:
الأوَّل: البدن خاصَّة.
الثَّاني: مناسك الحج وأعماله كلها.
الثَّالث: مواضع مناسكه ومعالمه.
الرَّابع: علامات طاعة الله وأعلام دينه.
ثمَّ أقول ولأجل هذا الوجه الرَّابع الَّذي لابدَّ أن يراد منه العموم والإطلاق وإن كانا باديين من بعض الوجوه الثَّلاثة السَّابقة بما لا يمنع معها غيرها بسبب من التَّبعيضيَّة وغيرها ممَّا مرَّ يمكن أن ينتفي عنده ما يدَّعيه البعض عنه (رحمة الله) أنَّ مراده كان هو خصوص أمور الحج،مواقع أو أعمال، وسيأتي الاستشهاد بفائدة مهمَّة له في بداية التَّعرُّض لرأي الفقهاء قريباً.
ولأجل هذا وأمثاله قال الصَّافي في تفسيره عن قوله تعالى «يَا أَيُّهَا
ص: 20
الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ»(1) لا تتهاونوا بحرمات الله جمع شعيره وهي ما جعله الله شعار الدِّين وعلاماته من أعمال الحج وغيرها.
وقال في مستدرك سفينة البحار(2) (نعم ما قيل الشَّعيرة والعلامة والآية واحدة).
وقال السيد الأستاذ السَّبزواري (رحمة الله) في مواهب الرحمن في تفسير قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ»(3) والشَّعائر جمع شعيره وهي العلامة تُطلق تارة على معالم الحج ومشاعره وهي أعلامه الظَّاهرة المعدَّة للنُّسك والعبادة ومشاعر الله كل ما يتعبَّد فيه لله }.
وأخرى على العبادة والنُّسك من صلاة وصوم ودعاء وقراءة القرآن وغير ذلك ممَّا يصح أن تكون عبادة.
والمعنى أنَّ الصَّفا والمروة من مواضع عبادة الله تعالى ومعالم طاعته، لأنَّ المسعى من أحب البقاع إلى الله تعالى، وأنَّ السَّعي بينهما تذلُّل خاص وخشوع كبير لله تعالى، ففي الحديث قيل للصَّادق (علیهم السلام) (ولِمَ صار المسعى أحب البقاع إلى الله تعالى؟ قال "لأنَّه يذل فيهكل جبار").
ومنه إشعار البُدن، أن جعل لها علامة من شقِّ أحد جنبي سنام البدنة حتَّى يسيل دمها، وإضافتها إلى الله تعالى في الآية المباركة لتشريفها وتهويل الخطب في إحلالها.
ص: 21
والمعنى (يا أيها الذين آمنوا لا تتهاونوا بحرمات الله (عزوجل) ولا تهتكوا شعائر الله تعالى فتجعلوها حلالاً تعملون فيها كما تشاءون).
وخصَّ بعض المفسِّرين الآية الكريمة بشعائر الحج ولكنَّه تخصيص لها بغير دليل. انتهى كلامه رفع مقامه.
أقول: وهذا تصريح إضافي يمتِّن ما قلناه من العموميَّة والإطلاق في المقام بصوره أكثر ولصالح القول بأنَّ الشَّعائر لا تختص بأمور الحج ولو من مؤيد بهذه الآية الكريمة الأخرى، ومن مثل مقام السيد السَّبزواري (رحمة الله) وعلى نظر المفسِّرين بدليل التَّعليل العام في جواب الإمام الصَّادق (علیها السلام) الشَّامل لإذلال كل متكبِّر في نفس بقعة المسعى وغيرها من جميع حالات ما يريده الله تعالى في شرعه بتساوي التَّكاليف بين الملوك والسَّوقة لإخضاعهم جميعاً للمعبود ولإعزاز المؤمنين من السَّوقة وبما يساويهم بأولئك الملوك أو يُفضلُّهم عليهم إن تعنَّت الملوك وتواضع السَّوقة لله تعالى، مع ما ذكره في آخر حقل مراد اللُّغويين من آيات قوله تعالى «مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ» ومن قوله الآخر «مِن شَعَائِرِ اللَّهِ» ومن قوله الثَّالث «مِن شَعَائِرِ اللَّهِ» إضافة إلى ما مرَّ بيانه من قوله الرَّابع وهو «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ» وممَّا سيتَّضح أكثر عند بيان ما نعرضه قريباً عن رأي الفقهاء، وإذا كان كل إذلال للجبابرة يُعد فضيلةلكل قائم به ولو في ضمن أمور دينيَّة أخرى غير مناسك الحج الخاصَّة لما كان الإذلال حكراً على خصوص المناسك الخاصَّة، لكونه مخالفاً للحكمة الإلهيَّة إذا حصر بسط الخلق الإلهي وتيسيره في نفوس عباده في خصوص مناسك الحج الخاصَّة لأهميَّته النَّوعيَّة بدون هذا الحصر.
ص: 22
إضافة إلى أنَّ الآية الواحدة لو توحَّدت في لفظها وتعدَّدت في وجوهها سواء من تعدُّد القراءات أو أنَّها لم تتعدَّد، ولكن تعدَّدت الرِّوايات المعتبرة الموجبة لتعدُّد الوجوه الصَّحيحة بدون تناقض لفظي ومعنوي حتَّى لو اختلفت فيما بينها ظاهراً فإنَّه لا غرابة فيه بين المفسِّرين لأنَّ القرآن معروف أمره بين أهله حمَّال وجوه بالإعجاز الإلهي وأموره التَّفصيليَّة عن كل وجه منها محلوله فقهيَّاً على النَّهج الأصولي المحكم اماميَّاً كما هو موضَّح في آيات الأحكام من كتابنا (دقائق الأفهام)، فلا منافات في أن يراد من الشَّعائر العموم والإطلاق في كل ما يُرضي الله تعالى في كل زمان ومكان وحادثة، وأن يراد خصوص أمور معيَّنة كما مرَّ بيانه في مقامات ذلك الخاصَّة بها.
كيف وأنَّ الآية الَّتي ذكرها السَّبزواري (رحمة الله) وإن اختلفت عن الآية _ الَّتي هي مورد البحث _ فهي لا تختلف مضموناً عنها بل كلاهما يحومان حول محور واحد أشرنا إليه سابقاً، فإنَّ آية _ مورد البحث هي الَّتي تحث على التَّعظيم وترفع مثابة من يحقِّقه والآية الَّتي ذكرها السَّبزواري (رحمة الله) معناها بالنَّهي الصَّريح عن التَّساهل في أمور حرمات تلك الشَّعائر بما لا يُناسبها بما قد يبدأ على الأقل من المكروه إلى الأشد وهو الحرمة الَّذي لابدَّ أن يعكس أهميَّة التَّعظيم الإيجابي احتراماًللحرمات باديا من المستحب إلى الأعلى وهو الواجب.
ولمحاولة دفع شبهة ما قيل وما أوردناه سابقاً من أنَّ العامَّة وبعض الخاصَّة يعتبرون الآية غير مراد منها في التَّعظيم إلاَّ أمور أو بعض أمور الحج لا غير بما هو أكثر ممَّا قد مرَّ ذكره.
ص: 23
فنقول: مضافاً إلى ما دفعناه سابقاً عن بعض رجالنا من المفسِّرين، قد عُرف عن الطَّبري من العامَّة(1) أنَّه قال حول قوله تعالى «لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ» قول عطاء بأنَّ المعنى التَّأويلي هو (لا تحلوا حرمات الله ولا تضيِّعوا فرائضه لأن الشَّعائر جمع شعيره والشَّعيرة فعيلة من قول القائل قد شعر فلان بهذا الأمر إذا عَلم فالشَّعائر المعالم من ذلك)، وإذا كان ذلك كذلك كان معنى الكلام لا تستحلُّوا أيها الذين أمنوا معالم الله فيدخل في ذلك معالم الله كلها في مناسك الحج من تحريم ما حرَّم الله إصابته فيها على المحرم وتضييع ما نهى عنه تضييعه فيها وفيما حرَّم من استحلال حرمات حرمه وغير ذلك من حدوده وفرائضه حلاله وحرامه، لأنَّ كل ذلك من معالمه وشعائره الَّتي جعلها إمارات بين الحق والباطل يُعلم بها حلاله وحرامه وأمره ونهيه، انتهى موضع الحاجة من كلامه المؤيَّد ممَّا نقول به.
وقال محمَّد بن علي الشَّوكاني في تفسيره(2)، (الشَّعائر جمع الشَّعيرة وهي كل شيء فيه لله تعالى شعائر ومنه شعار القوم في الحرب وهوعلاماتهم الَّتي يتعارفون بها، ومنه شعار البُدن وهو الطَّعن في جانبها الأيمن، فشعائر الله أعلام دينه وتدخل الهدايا في الحج دخولاً أوَّلياً والضمير في قوله «فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ» راجع إلى الشَّعائر بتقدير مضاف محذوف أي فإنَّ تعظيمها من تقوى القلوب أي من أفعال القلوب
ص: 24
الَّتي هي التَّقوى، فإنَّ هذا التَّعظيم ناشئ من التَّقوى).
أقول: وبهذا يتم المطلوب التَّفسيري للآية وما يلحق بها من التَّعميم والإطلاق في لفظ شعائر الله تعالى تعظيماً وردعاً عن التَّهاون في استباحة حرماتها عند الفريقين، وسنكرِّر ما يساعد على ذلك في الرَّبط الفقهي وفي أمر التَّقوى في آخر الآية الأولى ودورها في التَّعميم والإطلاق مع ربطها ببعض الآيات الأخرى.
ولما ذكرناه من الاستدلال اللُّغوي والتَّفسيري على اختصاره لنضرب أمثلة بعده كذلك ممَّا قاله الفقهاء للتَّقوية أكثر في أمر الدَّلالة على التَّعميم والإطلاق في الآية الأولى وما عاضدها لمحاولة الوصول مع وضوح المسألة إلى ما هو الأوسع مع مصداقيَّة مناسك الحج أو الصَّلاة والصَّيام ونحوهما معه من فروع الدِّين كلِّها وبقيَّة الواجبات والمستحبَّات بل عموم ما ينبغي أن يحتاط به لأجل الدَّين ممَّا يسبِّب ديمومة عمَّاره وزيادة ازدهاره وحماية ذماره من كل ما ورد مؤكَّداً في الكتاب والسنَّة والسَّيرة والإجماعات في الأمَّة واندحار كل محاولات إبادته أو إضعافه أو جعله في التزاماته طقوساً جامدة في نظر أبنائها وكما يريده الأعداء من الكفرة والوهابييِّن والعلمانييِّن ولو كان ضربنا لهذه الأمثلة لأجل من لم يلق سمعه في المقام وهو شهيد، علَّه ينتبه يوماً من هفوته وغفلته وسُباته إلىهذه الحقائق، ولأجل أنَّ النَّظر الفقهي الشَّريف هو ألزم ما يلزم به المسلم والمؤمن مولويَّاً شرعيَّاً، ولذا جعلناه فاتحة خاتمة البحث والإجابة، الأمر الَّذي دعا رهطاً مهمَّاً من فقهاء الأمَّة من رجالنا الماضين حيث ضمُّوا إلى بحوث قواعد الفقه (قاعدة تعظيم الشَّعائر) بحيث يرجع إليها في كل مورد
ص: 25
من موارد ما تنطبق عليه هذه القاعدة غير المحدودة.
وقد قال المولى النَّراقي (رحمة الله) تحت عنوان (عائدة) قد تكرَّر في كتب الفقهاء الحكم بوجوب تعظيم شعائر الله وبه يتمسَّكون في أحكام كثيرة من الحرمة والوجوب كحرمة بيع المصحف وكتب الحديث من الكفَّار ودخول الضرائح المقدَّسة على غير طُهر وأمثال ذلك، والأصل منه قوله تعالى سبحانه في سورة الحج بعد ذكر طائفة من مناسك الحج «ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ»(1).
ومن جملة مصاديق العموميَّة والإطلاق في التَّعظيم هو إحياء ذكريات قادة الإسلام العِظام من النَّبي (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطَّاهرين المعصومين (علیهم السلام) في ذكريات أفراحهم وأتراحهم كما أشرنا سابقاً، لأنَّ بذلك نعرف السِّيرة النَّبويَّة المتواصلة والحقيقيَّة من زمن المعصومين (علیهم السلام) إلى هذا الحين وإلى آخر الأحايين، وإن كان من بعض تلك الذِّكريات والملحقة بها قد تعتبر جانبيَّة في نفسها أو في نفس من لم يدرك لذَّة روحانيتها لقصر نظرته الشَّخصيَّة أو لبعضالاعتبارات المبعدة عن الشّعور بها وهو ما يمكن الاستغناء عنه في بعض البقاع والأزمنة والمادِّيات من غير الواجبة لكنَّها مستحبَّة في نفسها أو أنَّه قد يستهجن بعضها كأيَّام قوَّة الدِّين وأهله وازدهارهما لقشريَّة بعض تلك الأمور لكونها عادات وتقاليد تأسَّست بعد ذكريات رجال العظمة وقادة الأمَّة كسنن حسنة أباحها الشَّرع
ص: 26
لأهميَّتها في ظروفها ومواقعها المناسبة أو لم تمنعها الشَّريعة كتاباً وسنَّة وسيرة وإجماعاً وعقلاً ولو من فطريَّة ما يفعله العاطفيُّون ولاءاً ومحبَّة لقادتهم، إلاَّ أنَّها لم تخرج عن رجحان الالتزام بها كلَّما سنحت ظروفها واحتيج إليها في بعض المواقع ولم تمنع عنها موانع التَّقيَّة، فقد تأكَّد بين المهمِّين من فقهاء الأمَّة ونوَّاب الأئمَّة (علیهم السلام) أنَّ تعظيم الشَّعائر لا خلاف بينهم في أنَّه أمر حسن وراجح بالمعنى الأعم من الواجب والمستحب من الأحكام التَّكليفيَّة الخمسة المعروفة، بل حتَّى المباحات في بعضها لو قصد فيها القربة وازدادت إلى حد الإخلاص، وكان الدِّين هو المستفيد وكانت قيمه هي المنتشرة بسببها، بل قد ينقلب المباح إلى المستحب بالمعنى الثَّانوي والمستحب إلى واجب كذلك، ويكفينا ما ذكرته الآية الَّتي صدَّرنا بها الكلام من أنَّ حالة تعظيم الشَّعائر فيها تعد من تقوى القلوب، وهو ما يقترب جداً من حالة الإجماع على ذلك، كيف وقد نطق القرآن به وجاءت السنَّة به كذلك والسِّيرة المستمرَّة أيضاً، إذ لا خير في لُباب وهو الدِّين لم يحط بغلافه الخاص به وهو مظاهره ، وكل ما يُعظَّم به من حيث التَّقيُّد والالتزام.
كيف وقد عُدَّ التَّعظيم من تقوى القلوب وإلى حد الوصول اعتباراً لأن يكون الغلاف مثل اللُّباب وقد يكون الغلاف هو اللُّباب واللُّباب هوالغلاف لكثرة مألوفيَّة حمله لمعناه لفظاً واستعمالاً.
وأمَّا ما يتعلَّق بالمصاديق له كمَّاً وكيفاً فقد مرَّ ما أراده المآلف والمخالف ولو نوعاً في حقل اللُّغة أنَّه الأعم من أمور الحج، وكذلك في حقل التَّفسير أنَّه كذلك، وقد تكون اللُّغة والتَّفسير دعامتين للفقهاء لو لم يكن
ص: 27
شيء آخر يحتجُّون به أصوليَّاً أقوى منهما عند الخوض في بحر مسائل الفقه الاجتهاديَّة كتاباً وسنَّة وإجماعاً وعقلاً، كيف واللِّسان الفقهي الَّذي خلفيَّته أتقنت قاعدة كاملة مهمَّة وهي قاعدة تعظيم الشَّعائر.
وأمَّا ما ذكر ممَّا يساعد ما يريده الفقهاء من العموميَّة ومن لسان غير الإماميَّة المعروفين بين الفريقين وهو القندوزي الحنفي صاحب ينابيع المودة في ينابيع مودته المنصفة حيث نقل جزءاً من خطبة لإمام الفقاهة وينبوعها الصَّافي من الوحي والسنَّة الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) حيث قال وهو باب مدينة علم الرسول (نحن الشَّعائر والأصحاب والخزنة والأبواب ولا تؤتي البيوت إلاَّ من أبوابها فمن أتاها من غير أبوابها سُمِّي سارقاً)(1).
وممَّا يؤيِّد هذا هنا من طرقنا ما رواه الشَّيخ الطُّوسي(2) بسند صحيح عن أستاذه الشَّيخ المفيد عن شيخه ابن قولويه عن أبيه عن سعد ابن عبد الله عن أحمد ابن محمد بن عيسى عن الحسن ابن محبوب عن منصور ابن يزرج عن أبي بصير عن أبي عبد الله (علیه السلام) في قول الله«وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ»(3) قال(علیها السلام)(النَّجم رسول الله (صلی الله علیه و آله) والعلامات الأئمَّة (علیهم السلام) من بعده)، انتهى كلامه رفع مقامه، وبمثل هذا استفاضة روائيّة مؤيِّدة عن الرِّضا (علیها السلام)وغيره.
ص: 28
أقول: ومن حالات العموم في غير شعائر الحج هي زيارة قبور الحجون وشِعب أبي طالب في مكَّة وزيارة قبور النَّبي (صلی الله علیه و آله) والزَّهراء (علیها السلام) وأئمَّة البقيع (علیهم السلام) وبقيَّة الصَّالحين والصَّالحات من الآل والأرحام، وقد ورد في ذلك آيات وروايات كقوله تعالى «أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ»(1)، وقد شرح هذا الأمر قول النَّبي (صلی الله علیه و آله) (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها لأنَّها ترقِّق القلب وتذكِّر بالآخرة)(2).
بل ورد عنه (صلی الله علیه و آله) عن خصوص زيارته (صلی الله علیه و آله) من كل حاج من طرق الفريقين ما به تمام الإشارة بل التَّصريح بأنَّ تركها شبه المعصية بل هي المعصية نفسها لو كان التَّرك تعمديَّاً مع المقدرة عليها ما مضمونه بأنَّ (من لم يزرني فقد جافاني)، وكذا ورد الكثير ممَّا يرِّجح زيارة أئمَّة البقيع (علیهم السلام) والزَّهراء (علیها السلام) وغيرهم من الأولياء، وللوقوف على كل ذلك وبإسهابفليراجع ما كتبناه في ملحقات المناسك في كتابنا (غنية النَّاسكين) وغيره.
وما يتعلَّق في أمر عموم زيارة الأئمَّة (علیهم السلام) في النَّجف الأشرف وكربلاء المقدَّسة والكاظميَّة ومشهد الرِّضا(علیه السلام) وسامراء المقدَّسة بالعسكرييَّن وغيرهم من الأولياء والصَّالحين فقد ورد في كتب الأدعية والزِّيارات المخصوصة والعامَّة كعمدة الزَّائر والمفاتيح وغيرهما ممَّا سبقهما من الكتب المعتبرة ما به خير الدِّلالات على كون هذه الأمور من أهم
ص: 29
مصاديق الشَّعائر الَّتي تعظيمها من تقوى القلوب، وقد مرَّ ما استفدناه ممَّا يعين على هذا وأمثاله من قوله وفي نفس آيات الحج وهو قوله تعالى «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ».
ومن هذا وأمثاله وأدلَّة فقهيَّة كثيرة ومهمَّة استفدنا واستفاد قبلنا الفقهاء العِظام والأساتذة الكرام وبإتقان تام أموراً:
منها: ما مرَّ ذكره من الزِّيارات وممَّا سيجيء التَّمثيل له عن طريق استنباط أهميَّة عموميَّة التَّعظيم لجميع مصاديق الشَّعائر الَّتي أثبتناها من عموم الدَّال على الوجوب في قوله تعالى «وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ»(1) وقوله «وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ»(2) وغيرهما مع ضم آية الشَّعائر المختومة بتقوى القلوب إليهما لكون التَّقوى فيها حتَّى لو حملت آيتها على خصوص المناسك ونحوها جزافاً كما مرَّ فهي عامَّة فلابدَّ من أن يراد من ذلك وجوب التَّعظيم عموماً في مقام الوجوب للأمر في الآية الأولىولمفهوم الشَّرط في الآية الثَّانية مع ما ذكرناه من الأمثلة بمعنى حرمة تدنيس كتاب الله بكل معاني التَّدنيس لقوله تعالى «لّا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ»(3) والحرم كذلك ووجوب الحفاظ على طهارته كوجوب تعظيم مناسك الحج، وكذا وجوب احترام كل المساجد فضلاً عن الأربعة المعروفة أو الخمسة، وكذا احترام النَّبي (صلی الله علیه و آله) وآله المعصومين (علیهم السلام)
ص: 30
أسماء ومسميَّات في الاعتقاد بهم وفي الأخذ الشَّرعي منهم وفي مسِّ أسماءهم المكتوبة عن طهارة واحترام عتباتهم المقدَّسة وما مرَّ ذكره من وجوب احترام ذكرياتهم أفراحاً وأتراحاً من الَّتي لولاها لضاع الدَّين ولو بالعنوان الثَّانوي أو حتَّى العنوان الأولى بسبب كون إهمالها يسبِّب نسيان التَّقيُّد بالسِّيرة النَّبويَّة النَّوعيَّة المستمرَّة من زمن المعصومين (علیهم السلام) حتَّى الآن، ولذا أعدَّت هذه السِّيرة دليلاً في نفسه موجباً للإتِّباع.
ولذا كان السيد الأستاذ الخوئي (رحمة الله) يستدل على حرمة مس الجُنب أسماء الأنبياء والأئمة (علیهم السلام) بأدلَّة منها أنَّها خلاف تعظيم شعائر الله، لكونه قاعدة مرَّ الكلام عنها.
وأقول: ويمكن الإضافة منَّا إلى ذلك أنَّه بما أنَّ النَّبي (صلی الله علیه و آله) والمعصومين (علیهم السلام)هم القرآن النَّاطق وأنَّ الجنابة نجاسة حكميَّة بحدثها الكبير المعروفة لدى المتشرِّعة فلا يجوز مسُّ أسماءهم كما لا يجوز مس كتابة القرآن في هذا الحدث والأقل منه وهو الأصغر لقوله تعالى عنالقرآن الكريم «لّا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ».
وألحق بذلك المساجد المذكورة والأضرحة المقدَّسة للمعصومين (علیهم السلام) لأنَّها بيوتهم الَّتي «أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ»(1) وإن لم يصرَّح في بعضها بمسجديَّة أروقتها حملاً على الظَّاهر الإلحاقي ولو احتياطاً، ولأجل إلحاق المساجد عموماً بالمسجدين الأعظمين بل بالمسجد الحرام ولو كانت أمورها أخفض ممَّا اختصَّ به الحرمان أو المسجد الحرام وحده
ص: 31
به لثبوت حرمة العموم بأهميَّة آية التَّعظيم وآية «لا تحلوا» ولقوله تعالى عن المشركين بأنواعهم إن تعدَّدوا «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا»(1).
وقد قال بالوجوب الأردبيلي (رحمة الله) في كتابيه(2).
وممَّا يمكن أن يُستدل به على إلحاق المراقد المشرَّفة للمعصومين (علیهم السلام) بالمساجد هو ما إذا استلزم من عدم تطهيرها الهتك والإهانة دون ما لا يلزم منه ذلك، فإذا كان ذلك كذلك فهو من القدر المتيقَّن دخوله في حدِّ الوجوب من التَّعظيم للشَّعائر(3).وقد عَدَّ المحقِّق الكركي (رحمة الله) (4) أنَّ من موارد الوجوب استناداً لقاعدة تعظيم الشَّعائر استئجار الكافر المصحف ، فإذا سبَّب هذا شيئاً من تدنيسه يكون مخالفاً للتَّعظيم، وإلاَّ كما لا يمسُّه مع احترامه فهو مناسب له.
ومن تلك الأمور هو ما يُستحب فيه التَّعظيم لها لا ما يجب في أصل الحكم وإن وجب بالعنوان الثَّانوي استناداً إلى قوله تعالى «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»(5)، لأنَّ أكرم أفعل تفضيل لا ينافي مقولته لكريم على
ص: 32
الأقل، إلاَّ أنَّ الأكرم أقرب، واستناداً إلى قوله «وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ»(1) وغيرهما ممَّا لا علاقة لهما بالأمر الدَّال على الوجوب وما يلحق بالأمر الدَّال عليه أصوليَّاً لو ربطناهما بآية التَّعظيم، لكونها بذلك في إطلاقها وإن كانت تشمل الوجوب والاستحباب والإباحة الَّتي لا تعدم فيها الفائدة من الأحكام التَّكليفيَّة في بعض الاعتبارات، بل حتَّى الكراهة كالمصادفات غير ما يتكرَّر من ذلك بلجاجة إذا أظهرت نفعاً في بعض الحالات ولو نادراً، إلاَّ أنَّها لا يبرز فيها من المصاديق إلاَّ الاستحباب.
ومن مصاديق هذه الحالة كنس المساجد وتغليف المصاحف والكتب الدِّينيَّة النَّافعة _ لئلاَّ يعبث بها الصِّبيان _ وعدم دخول بيت الخلاء بخاتمعليه أسماء الأنبياء والأئمَّة (علیهم السلام) _ وإن لم يصبها شيء من النَّجاسة _ وزخرفة المشاهد المشرَّفة وعمارة قبور الأنبياء وتجديد قبور العلماء والصُّلحاء والبناء عليها والوضوء للدُّخول في الأماكن الشَّريفة، كقباب الشُّهداء ومحال العلماء والصُّلحاء من الأموات والأحياء ومجالس الدَّرس وما يتبع الرَّوضات من أروقة ونحوها، وهكذا عيادة المريض وتشييع الجنائز وصلاة الجمعة المستحبَّة والجماعة وكثرة التَّزاور وكثرة التَّجمُّع في المساجد والحسينيَّات للاستفادة من المواعظ المنبريَّة حسينيَّة ونحوها والإكثار من الإصلاح بين المؤمنين.
وغير ذلك الكثير ممَّا طفحت به الكتب الفقهيَّة وكتب الأعمال
ص: 33
والأدعية والزِّيارات(1).
تركيز الفقهاء قديماً وحديثاً على الشَّعائر الحسينيَّة.
نقول بعدما أسهبنا بالكلام حول إثبات عموم آية التَّعظيم للشَّعائر جاء دور الكلام عن أهميَّة تعظيم الشَّعائر الحسينيَّة فهي وإن لم يركَّز عليها في السُّؤال كما في إشارة السَّائل "أيَّده الله تعالى" أو أنَّه تنزَّه عن أن يكون من قصده الحديث عن خصوص ذلك تخلُّصاً من تطرُّفات بعضالمتطرِّفين أو لوضوح المسألة عنده وعند أكثر المؤمنين والمسلمين بأكثر من مصاديق ما تدل عليه آية التَّعظيم _ إلاَّ أنَّ حاجة الوقت تلح علينا في أن نجعلها فاتحة خاتمة البحث ولكثرة ما قد سُئلنا عنه في هذه الأيَّام من ذلك مصادفة لورود هذا السُّؤال وكأنَّ هذا السُّؤال كان عن تلك الأسئلة المصادفة وكأنَّ الشَّعيرة الحسينيَّة هي محور البحث الَّذي يفرض نفسه دائماً ولو من حيث النَّتيجة عن القريب الَّذي يريد التَّوسُّع والغريب الَّذي يريد الاطِّلاع.
ولهذا وأمثاله لم تخرج الشَّعائر الحسينيَّة في لسان الفقهاء المنصفين والمعتدلين قديماً وحديثا ًمتى ما ذكرت الآية الكريمة وقريناتها من الكتاب
ص: 34
والسنَّة في مقام الاستدلال الفقهي عن أهميَّتها الاستحبابيَّة بعنوانها الأوَّلي وعن أهميَّتها الوجوبيَّة بالعنوان الثَّانوي وعن أهميَّة بذل قصارى جهودهم في التَّرويج لها والتَّشجيع عليها استمساكاً بما قاله الأئمَّة (علیهم السلام) بعد عاشوراء الحسين (علیه السلام) وفعلوه لإحيائها كما ورد عن زين العابدين (علیه السلام) ومن بعده من الأئمَّة (علیه السلام) من البكاء والنَّحيب والتَّرويج لها وتشجيعهم على قراءة المصيبة كلَّما حلَّت المناسبة، وقد صرَّح الأمام الصَّادق (علیه السلام) (أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا)(1) وخبر مسمع بن عبد الملك، كردين البصري ((قال لي أبو عبد الله أما تذكر ما صُنع به _الحسين _ ؟ قلت: نعم.
قال: فتجزع؟
قلت: إي واللهِ، واستعبر لذلك، حت_ّى يرى أهلي أثر ذلك عليّ، فامتنع عن الطعام، حت_ّى يستبينَ ذلك في وجهي.
قال رحم الله دمعتك، أما إنك من الذين يُعدّون من أهل الجزع لنا، والذين يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا، ويخافون لخوفنا، ويأمنون إذا أمنّا))(2).
بل تجاوز الولاء الحُسيني من قبل العلماء وأتباعهم إلى أن يتجاوزوا التَّعارف مع الوقت المناسب للمصيبة العظمى إلى ما هو الأوسع ولحد
ص: 35
(كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء)، لكون قضيَّة الإمام الحُسين (علیه السلام) هي قضيَّة الإسلام كلَّه بكل معانيه، ولذا أصبح المختصُّون من الخطباء الحُسينيِّين ينوِّعون في محاضراتهم بكل ما يتعلَّق في أمور الدِّين لعدم خروجه عن هدف الإمام الحسين (علیه السلام) من قضيَّته العاشورائيَّة.
ثمَّ تلت مصداقيَّة هذه المصيبة العظمى في نظرهم لأنَّها أهم القضايا مصداقيَّة عموم ذكريات المعصومين (علیهم السلام) عموماً في الأفراح والأتراح تعظيماً لشعائرها المستمدَّة من هذه الآية وما أنيط بها ما دام ارتباط الدِّين وانتشار قيمه مرتكزاً على التَّعظيم بعدما ثبت كون الشَّعائر لم تخص بأمور الحج وبعدما كان تعظيم سائر المؤمنين يُعد من الشَّعائرفضلاً عن المعصومين (علیهم السلام) الَّذين هم أنفسهم الشَّعائر، بل جواهرها وقيمها كما فيما ورد في آخر السُّؤال من نقل شيء من كلام أمير المؤمنين (علیه السلام).
إضافة إلى أنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسيِّد الكونين هو أهم الكل في وجوب التَّقديس له في حياته وبعد مماته أو استشهاده وأنَّ أمير المؤمنين الإمام علي (علیه السلام) كان نفس رسول الله (صلی الله علیه و آله) في آية المباهلة وأنَّ كون الزَّهراء (علیها السلام) سيِّدة النِّساء في هذه الآية وغيرها كانت بضعة النَّبي (صلی الله علیه و آله) في صريح أحاديثه المتواترة حولها وأنَّ الحسن كان من الذين أذهب الله عنهم «الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»(1) في آية التَّطهير ومعه أخوه الحسين (علیهما السلام) وأنَّهما الابنان له في آية المباهلة وفي أحاديث جدهما الكثيرة الأخرى، وأنَّ الإمام الحسين (علیه السلام) من رسول الله (صلی الله علیه و آله) بواسطة ابنته
ص: 36
الزَّهراء (علیها السلام) وأنَّ الرَّسول منه في حديث جدِّه المتواتر (حسين مني وأنا من حسين)(1) تبعيضيَّاً، بل سنخيَّاً.
وهو ما به تمام الإشارة في مقامها والتَّصريح في مقامه إلى كون القضيَّة الحسينيَّة هي سيِّدة القضايا، إضافة إلى ما قد عُرف محقَّقاً مدقَّقاً أنَّ(الإسلام محمَّدي الحدوث علوي البناء حسني التَّمهيد حُسيني الخلود والبقاء)، والآخذ بثأره صاحب الأمر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) في الدَّولة المحمَّديَّة الموعودة، ولكون كل المعصومين الأربعة عشر (علیهم السلام) نور واحد وكما ورد (أوَّلنا محمَّد وآخرنا محمَّد وأوسطنا محمَّد وكلُّنا محمَّد فلا تفرِّقوا بيننا)(2).
فلابدَّ من أن يكون الدَّين غير عامر إلاَّ بإحياء جوهر الذِّكريات الكربلائيَّة واستمراره إشادة وتعظيماً إلى أن يثور ثائر الحسين (علیه السلام) منتظراً بفارغ الصَّبر للأخذ بالثَّأر في دولته الموعودة.
فأفتى الجمع الأهم من فطاحل فقهاء الأمَّة المحنَّكين ونواب الأئمَّة (علیهم السلام) المقدَّسين بأهميَّة إحياء القضيَّة الحسينيَّة وبجميع مصاديق ما يحييها تعظيماً لها كل سنة وعام إلى أن جعل المنبر الحُسيني حاكياً عن قضايا قادة الأمَّة وأنَّ العنوان هو هذا المنبر في كل مكان وفي جميع أيَّام السنة وعظاً وإرشاداً وبثَّاً للعلوم والمعارف الإسلاميَّة عقيدة وعملاً.
ومن تلك الفتاوى ما يقول بوجوب إحياء ذكراه دوماً ولو بالعنوان
ص: 37
الثَّانوي لمسيس علاقته بالدِّين الحنيف ازدهاراً وانتشاراً ولنصرة الدَّم على السَّيف وانتصار المظلوميَّة على الظالميَّة، وابتدأ الإحصاء _ الَّذي عثر عليه من فتاواهم مؤخَّراً وإن سبق ذلك ما لم نعرفه من أمثالها بعدما طفحتالكتب القديمة نصوصاً شريفة وبيانات منيفة بالمشجِّعات _ من عهد المجدِّد الشيرازي الكبير وإلى يومنا هذا، وبدون تحديد لفعَّاليات إحياء الذِّكرى الَّتي لها الوجود التَّأريخي الثَّابت حقَّاً وصدقاً في تهييج العواطف الفطريَّة والولائيَّة الجيَّاشة بانفعالاتها المثيرة حتَّى لعيون الأعداء بالبكاء واللطم والتَّأثُّر من قساوة الظَّلمة الَّذين قتلوا الحسين واخوته وأبناءه وخيرة أصحابه وسبي عياله عطشى في حر الهجير، مع توفير الأدب المناسب وبثِّه انشاداً وإنشاءاً حين تعظيم شعائرها، والحفاظ لقدسيَّتها وبما لم يصل إلى مصاحبة ما يسبِّب الهتك والإهانة وارتكاب المعاصي من الفعَّاليَّات المشينة، إمَّا من الكيفيَّة أو من نوع وشخص الفاعل لها أو الموقع لأنَّها لم ترتكب إلاَّ لمحاربة أصل الذِّكرى، فهي إن اتَّضحت مضار شبهتها المصداقيَّة تُركت ولو احتياطاً وإلاَّ دخلت في أصل الإباحة.
ومن لم يتفاعل مع بعض تلك الفعَّاليَّات الشَّريفة من أولئك العلماء الآخرين لبعض الأسباب لا يعني أنَّه يحرِّمها بسكوته دون الَّذين قد يُطلق عليهم بالفقهاء وهم ليسوا كذلك بتملُّقهم للأعداء أو اندماجهم مع السَّلفيَّة طمعاً ولو بامتناعهم عن التَّشجيع على نشر الحقيقة الحُسينيَّة الَّتي عرفها المآلف والمخالف بحجَّة وجوب التَّقيَّة تملُّقاً أو سيراً في سبيل الاستحسانات والقياسات الَّتي تبرئ منها أصول الإماميَّة، والله العالم.
النَّجف الأشرف 18 رجب المرجب1433ه_
علاء الدين الموسوي الغريفي
ص: 38
رد بعض الشُّبهات حول اقامة الشَّعائر الحُسينيَّة
بسم الله الرَّحمن الرَّحيمسماحة المرجع الدِّيني آية الله العظمى السيد علاء الدِّين الغريفي (دام ظله)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المعروض لسماحتكم
س / تزرع بين الحين والحين الآخر شبه ومزاعم حول إقامة الشَّعائر الحسينيَّة وتُثار بين الأوساط الإيمانيَّة الموالية لأهل البيت (علیهم السلام) لتثبيط العزائم حول إحياءها والالتزام بها.
منها أنَّ في إقامة المآتم والشَّعائر الحُسينيَّة والحضور فيها مضيعة للوقت وهدر للأموال وما إلى ذلك، ويمكن الاكتفاء عنها بالكاسيتات وأشرطة الفيديو والأقراص المدمجة وغيرها.
نرجو بيان ردكم الشَّريف حول الموضوع وبتفاصيل، لتكون لنا سنداً في ردع مثل هذه الشُّبه والانحرافات عن جادة الحقِّ والصَّواب.
ولكم منَّا خالص المودَّة والاحترام والدُّعاء
مجموعة من موالي أهل البيت (علیهم السلام)
ج /
لا يخفى على الأعزاء والموالين وأهل البصائر _ بعد تعظيمنا لمشاعرهم الجيَّاشة تجاه النَّهضة الحُسينيَّة وإحياء ذكرها بشتَّى أنواع الإحياء الصَّحيح على مرِّ العصور وكرِّ الدُّهور _
ص: 39
أنَّ كل من عرف الإمام الحُسين (علیه السلام) ومدى علاقته المُثلى بصاحب الرِّسالة العظمى ومدى توصياته به وببقيَّة العترة المطهَّرة ثانيةالثَّقلين ومداها العظيم في القرآن والسنَّة الواردة عن طريقها وعن طريق المخالفين من أهل اللين والعصبيَّة بما لا يخفى على كلِّ منصف بل كل ظالم نطق الصَّواب على لسانه شاء أم أبى بما ينسج لهم نسيج المكارم والفضائل الَّتي لا تبلى طوال الدهور وإلى أيَّام دولتهم دولة الحق الموعودة وبما لا ينتهي مجال بياناته سرداً لآيات فضائلهم وشروحها وأخبار مناقبهم وعلو مضامينها وبما لم يغز به غيرهم بمثل الشَّيء الَّذي أهَّلهم ليكونوا صفوة الخلق المعصومين والأئمَّة الميامين وخلفاء الحقِّ الرَّبَّانيين مهما بلغ خيار الصَّحابة والتَّابعين وتابعيهم من الآخرين من الشَّرف والفضل ما بلغوا.
وإنَّ كل من عرف الثَّورة الحُسينيَّة الخالدة الَّتي بدأ بتخليدها إشارة وتلويحاً جدُّه النَبي الرَّسول (صلی الله علیه و آله) في مغيَّباته وبتوصياته لأم سلمة (علیها السلام) وبعظيم كلماته المادحة له والمعظِّمة لشأنه والَّتي منها (حُسين منِّي وأنا من حُسين)(1) والذَّامَّة لأعدائهما وأعداء أبيه وأمِّه وأخيه (علیهم السلام).
وانتهت بوافر كلمات الأئمَّة (علیهم السلام) الَّتي لا تُحصى والَّتي منها (أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا)(2) ومنها (اللَّهمَّ ارحم تلك الصَّرخة الَّتي
ص: 40
كانت من أجلنا)(1) وما أورده دعاء النُّدبة الَّذي فيه مطالبة الإمام الحجَّة المنتظر "عج" بالأخذ بالثَّأر من أعداء الحق ومسلكه ومن طواغيت الأرض ومثالبهم.
وبما تفطَّن له خيار علماء الأمَّة وصلحاءها العارفون عن تتبُّعاتهم المهمَّة المليئة بالخبرة التَّأريخيَّة عن مغتصبي الخلافة الشَّرعيَّة من الأمويِّين وأمثالهم سابقاً ولاحقاً حتَّى قالوا ممَّا قالوه في الحُسين (علیه السلام) (الإسلام محمَّدي الحُدوث وعلوي البناء وحَسني التَّمهيد وحُسيني الخلود والبقاء) وهو الَّذي لابدَّ وأن يُجعل عظم ذكراها من عظم صاحبها _
لابدَّ بالنَّتيجة وأن يعتبر العارف وكل مستبصر ومنصف أنَّ هذه الثَّورة بعد الَّذي قدَّمناه ليست بوقتيَّة لتنتهي حينما ينتهي وقتها حتَّى لو أعيدت ذكرياتها المأساويَّة مرَّة أو مرَّتين أو أكثر لعظم فجائعها المتنوِّعة، وليست بموقعيَّة حتَّى تنتهي بنهاية موقعها الكربلائي عند تجاوزه إلى البلدان الأخرى، بل إنَّ ((كل يوم هو عاشوراء وكل أرض هي كربلاء)) ما دامت خالية من الأغراض الخاصَّة والزَّعامات الدُّنيويَّة المحدودة بعد ما أصبح دين رسول الله (صلی الله علیه و آله) يشتكي من كثرة الانحراف الأموي والانقلاب على الأعقاب وأصبح النِّفاق كفراً علنيَّاً وقحاً يتمثَّل بيزيد وأمثاله بما لا تنفع معهم مهادنة أو تقيَّة كما قال الأديب الحُسني:_
قد أصبح الدِّين منه يشتكي سقماً ** وما إلى أحد غير الحُسين شكاحتَّى أجاب لسان حال الإمام الحُسين (علیه السلام) بقوله :_
ص: 41
إن كان دين محمَّد لم يستقم ***** إلاَّ بقتلي يا سيوف خُذيني
ولذا ثارت ثائرة الإمامة والزَّعامة الهامَّة والقيادة العامَّة في سبط الرَّسول وثالث الأئمَّة بعده المثبتة لعالميَّتها ما دامت الرِّسالة المحمَّديَّة عالميَّة لكونها الامتداد الطَّبيعي لهذه الرِّسالة لإرجاعها إلى واقعها الأصيل، وكما مرَّ في الحديث الشَّريف الماضي وهو قول جدِّه (صلی الله علیه و آله) فيه (حُسين منِّي وأنا منه)، كيف والحديث الآخر يقول (الحُسين مصباح الهُدى وسفينة النَّجاة)، لكون النَّجاة معه حتَّى لو قُتل للابُديَّة انتصار الدَّم على السَّيف لمظلوميَّته ومن معه، فأوضح أهدافه السَّامية بقوله من جملة ما أُثر عنه من الأقوال المبيَّنة لأسباب نهضته الشَّريفة (ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أمَّة جدِّي وأبي وأخي ولآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ...إلخ ...) وممَّا قاله عن يزيد (ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النَّفس المحترمة ومثلي لا يبايع مثله)، وهي قضيَّة لابدَّ أن تكون ضدَّ كل طاغوت في كلِّ زمان ومكان.
وعلى فرض أنَّ هذه الثَّورة قليلة الأنصار في بداية الأمر فليس يعني ذلك أن يُستهان بها _ وبأحقيَّتها ليتم تبرير ادِّعاء انعكاس المعادلة الإنسانيَّة العادلة على أهلها على أقل تقدير نتيجة لتصوُّرات عباد أهوائهم وتلبية لرغبات الطَّائشين من عديمي القيم فيخضع النَّاس للظالم مع أنَّ النَّاس أحرار في دُنياهم ليبايعوا يزيد ولو قهراً _ بل هي كما كانت أبان دعوةجدِّ الإمام الحُسين (علیهما السلام) رسول الله (صلی الله علیه و آله) في بداية أمرها ثمَّ توسَّعت، بل قال تعالى عنها وعن هذه النَّهضة الشَّريفة «كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
ص: 42
كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ»(1) أي حتَّى لو كان النَّصر بعد حين كما في هذه النَّهضة، حيث جاءت بعدها خُطب العقيلة زينب(علیها السلام)والإمام زين العابدين(علیه السلام) الفاضحة للأعداء وثورة المختار وإبراهيم بن الأشتر وثورات التَّوابين، حتَّى توسَّعت حالات الانتصار لها فتحوَّلت قضيَّة لوعة الطُّفوف العاشورائيَّة من كونها مجرَّد عَبرة إلى كونها عَبرة وعِبرة لكلِّ الأزمان والعصور وجميع بقاع المعمورة، ووصلت الزَّعامة الإسلاميَّة باسم التَّشيُّع وأهل البيت (علیهم السلام) بقيادة المرجعيَّات الدِّينيَّة في نسبها العالميَّة الرَّائعة بما يفخر به حتَّى بعض أهل الكفر لإنسانيَّة القضيَّة ونبذها للطُّغيان والذُّل والاستعباد وكبت الحريَّات المذهبيَّة كغاندي إمبراطور الهند في مقولته المعروفة (تعلَّمت من الحُسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر) وغيره الكثير من الآخرين.
بل توسَّعت نسبة التَّشيُّع الحُسيني في إسلاميَّته المتوازنة كيفاً وكمَّاً كثيراً وجمَّاً غفيراً من هؤلاء إضافة إلى النِّسب العظمى المهتدية من الأخوة العامَّة حتَّى أصبح كمُّه وكيفه العاليين مهابين بل مخيفين للأقلِّيات من ألدِّ أعدائه بعد ما كان الأعداء المستعمرون يُعتِّمون على نسبه الضخمة من مئات الملايين من الأنصار الحُسينيِّين طوال عشرات السِّنين لئلاَّ يعرفبعضهم بعضاً ويتكاتفوا وتفعل الثَّورة الإلهيَّة دورها الاستئصالي لجذور الكفر والطُّغيان والطَّائفيَّة المقيتة من كلِّ يزيد في كلِّ عصر ومصر ببركة الشَّعائر الحُسينيَّة المتنوِّعة والمستمرَّة بتوسعها بعشرات الملايين الأخرى
ص: 43
حتَّى اتَّسع الخرق على الرَّاقع منهم.
فهيَّجوا بعد يأسهم أمثال العلمانيِّين المجرَّدين من كلِّ القيم الدِّينيَّة في بعض الفضائيَّات والوسائل الأخرى ولو بإلقاء الفتن ممَّن يُحاول محاربة الذِّكرى ولو بتأطيرها بالأطر الضِّيقة ولينجحوا في بثِّ مشجِّعات التَّقليص من حالات الإحياء الأخرى ليتم نجاحهم في المحاربة الحاقدة باسم التَّقدُّم الَّذي يُريدونه للخلاص من المد الإسلامي الأصيل الَّذي ما عاد ينفع في قبالهِ أي انتحار أو تفجير وهابي ولا ديني وبحجَّة أنَّ آية قوله تعالى «ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ»(1) وإن كانت منطبقة حقَّاً في نظر بعض هؤلاء العلمانيِّين على القضيَّة الحُسينيَّة أيضاً كانطباقها على القضايا الإسلاميَّة الأخرى، لعدم قدرتهم على إنكار انطباقها عليها بالمرَّة، إلاَّ أنَّه لا داعي في نظرهم إلى نشر كافَّة مظاهرها الموروثة لئلاَّ ينزعج العالم المتحضِّر ويعكس على المسلمين ذمَّاً واستهجاناً وعلى قول بعضهم أنَّه بالإمكان الاكتفاء بالفيديوهات والكاسيتات ونحوها ومنها الاقتصار على البيوت لتلك المظاهر لئلاَّ تظهر بالقنوات الفضائيَّة، ولأنَّ ثواب ذلك التَّعظيم في الآية الكريمة يمكن أن يتحقَّق بإبقاء الإيمان به في القلب اكتفاء عن نشره المضر في الخارج.بينما نحن وكل عارف منصف نقول أنَّ الآية نفسها هي الَّتي تحث على هذا الإظهار وهذا النَّشر لكلِّ ما هو صحيح من ذكريات الطُّفوف وإن استهجنها أعدائها لو عرفوا أو تعرَّفوا على فلسفتها و((الَّناس أعداء ما
ص: 44
جهلوا)) بعد ما كان أفضل هذا الإظهار ما كان نابعاً من تقوى القلوب وبالأخص في مجالات حريَّاتنا في بُلداننا ومأمننا الَّتي كانت محاربة من قِبل طواغيت هؤلاء العلمانيِّين من أعداء الدِّين والمذهب.
وعلى كافَّة الأعزَّاء المؤمنين الحُسينيِّين ومنهم الَّذين أوردوا سؤالهم الماضي أن لا يكترثوا بمحاولات المشبوهين من أنصار العلمانيَّة الجوفاء والماسونيَّة الرَّعناء والطَّائفيَّة الأمويَّة المقيتة ونحوها وليستمرُّوا في سيرتهم الحُسينيَّة الولائيَّة النيِّرة، وليفضحوا الأعداء بكلِّ ما أوتوا من قِيم معارف المنابر الحُسينيَّة القيِّمة نثراً وشعراً وبكلِّ ما تحتاجه قِيم الذِّكريات الأصيلة حتَّى من غير المظاهر الأصيلة الأخرى ما لم يتخلَّلها محرَّم ولو بالعنوان الثَّانوي وحسب توجيهات مرجعيَّة المراجع الدِّينيَّة الموحَّدة بثوابتها وكما قال تعالى «لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ»(1)، وإن عسر فهم مشروعيَّة شيء عن مظهر من المظاهر فليستوضح منهم لا ممَّا تعرضه تلك القنوات المدسوسة.
فسيروا على بركة الله منتصرين بل منصورين بتوفيق الله في كلِّ سنة وعام وإلى أن يثور ثائر الحُسين (علیه السلام) قال الإمام (علیه السلام)((شيعتنا خُلقوا من فاضل طينتنا يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا))(2).
والله العالم.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
النَّجف الأشرف 9محرَّم الحرام/1432ه_
ص: 45
بسم الله الرحمن الرحيم
سماحة المرجع الديني اية الله العظمى السيد علاء الدين الغريفي (دام ظله)
س / ما هو رأيكم الشَّريف في الشَّعائر الحسينيَّة المقدسَّة من إقامة مجالس العزاء والبكاء والمشي والتَّشبيه واللَّطم والتَّطبير والزِّنجيل أفتونا مأجورين؟
مجموعة من المؤمنين
28 ذي الحجة 1426ه_
ج/ بسمه تعالی
الشَّعائر الحسينيَّة اليوم وكما سبق أهم ما ينبغي أو يجب تعظيمه ولو بالعنوان الثَّانوي في جميع الأوقات والأماكن المناسبة وبالأخص في مواسمها المعدَّة لهذا التَّعظيم، ومن ذلك المجالس الحسينيَّة التَّثقيفيَّة وتوابعها المتعارفة وتوعية الجماهير بما يقرِّب المسلم من الإيمان بالحسين (علیه السلام) ونهضته الإسلاميَّة العظيمة بصورة أكثر أو يكسب غير المسلمين إلى الإسلام فضلاً عن الإيمان بالقضيَّة الحسينيَّة المُثلى في كونهاعَبرة وعِبرة، لامتدادها من الرِّسالة المحمَّدية بالأصالة في جميع معانيها ظاهريَّة وباطنيَّة لقول جدِّه (صلی الله علیه و آله) صاحبها فيه (حُسين منِّي وأنا من حُسين)(1) وارتباطها بكامل روحيَّة وقُدسيَّة النَّهضة الفاطميَّة والدَّولة العلويَّة والتَّمهيد
ص: 46
الحَسني.
إلاَّ أنَّ الرِّسالة المحمَّديَّة ومحاربة الكفر والشِّرك في بداياتها دفاعاً كان على تنزيل القرآن ودفاع الحُسين (علیه السلام) في نهضته ضدَّ المنافقين كان على تأويله كما سبقه والده أمير المؤمنين (علیه السلام) وأخوه الحسن (علیه السلام).
وهكذا كل ما يمت فيها بصلة دينيَّة مقبولة من قريب أو بعيد تُحيي ذكراها وتُذكِّر بلوعاتها المأساويَّة المهيِّجة لأحزان كل محب وموال والمثيرة لشيم المجاهدين العاطفيَّة للنهوض بمثل هذه الشَّعائر ولجعلها غضَّة جديدة بالإحياء والتَّجديد المستمر بنهضة الانقضاض مع الإمكان على أنظمة الطَّواغيت في العالم حينما يتوسَّع النَّصر الحُسيني الَّذي بدأ بانتصار الدَّم على السَّيف بسمو الأهداف وتمام المظلوميَّة وانتهى بنجاحات التَّوعيات المستمرَّة الموسَّعة والباهرة في أيَّام أصل الذِّكرى وفي طول السَّنة وعرضها وبما قد يفوق حدَّ السُّيوف والمدافع ومنه طواغيت عالمنا الإسلامي الَّذين عتوا في الأرض فساداً ودمَّروا العباد والبلاد ومكَّنوا طواغيت الكفر العالمي من استعماره واحتلاله ابتداءاً من أسلاف النِّفاق الأموي ومنسبقهم ومن عاونهم من الرُّوم آنذاك وحتَّى اليوم، حتَّى بدت الصَّحوات الإسلاميَّة المتشعِّبة وأهمُّها الأصيلة المبشِّرة بالخير كثيراً، لأنَّ الحسين (علیه السلام) ما نهض إلاَّ للدِّفاع عن بيضة الإسلام الحقيقيَّة وفضح المغتصبين من خلال تضحيته الشَّريفة وكشفهم على حقيقتهم، لإزاحة حكم الأموييِّن المنافقين وآثارهم ومن لفَّ لفَّهم مع دول الانحراف الأخرى حتَّى اليوم، لكونهم أرادوا ويريدون إرجاع الجاهليَّة كما كانت أو ما يزيد عليها كفسحهم المجال للرُّوم آنذاك وطواغيتهم لذلك بل الأكثر منه وبفسح
ص: 47
مجال الخونة اليوم لطواغيت الكفر المعاصرين كما لا يخفى على الغيارى من الوصول إلى هذه النَّتيجة الوخيمة في أواخر الأيَّام بالنَّحو المذل الأكثر ثكولاً ورجوعاً للجاهليَّة الجهلاء إن استهين بهذه الذِّكريات أو قل إحياؤها، وقد ظهر ذلك من تصريحه (علیه السلام) بقوله في خطبته المعروفة (ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسدا وإنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أمَّة جدِّي وأبي وأخي ولآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق)، ومن ذلك كان الإسلام (محمَّدي الحدوث علوي البناء حَسني التَّمهيد حسيني البقاء) بناءاً على أنَّ بداية الانحراف والتَّطرُّف ونهايته من وزن واحد وإن تفاوتت المصاديق.
وعلى فرض ما يقال جهلاً بكون النَّبي (صلی الله علیه و آله) ما مات إلاَّ وأكمل الله له دينه لآية إكمال الدِّين؟
فإنَّه لابدَّ وأن يُقال بأنَّ إكمال الدِّين قد ثبت بتنصيب علي (علیه السلام) للخلافة الإلهيَّة الَّتي حاربوها بالتَّآمر عليها في السَّقيفة وعدمتطبيق حديث الثَّقلين وهما الكتاب والعترة بزعم الأعداء أنَّهم (حسبهم كتاب الله) استهتاراً ضدَّ أهل البيت (علیه السلام) فكما احتيج إلى الحروب على التَّنزيل وهي الفتوحات الإسلاميَّة وعلى التَّأويل كما في مقاومة النَّاكثين والقاسطين والمارقين من قِبل أمير المؤمنين (علیه السلام) وكما سعى لمثل ذلك بعده الإمام الحسن (علیه السلام) إن تمَّ العدد غير الخؤون حتَّى أرسل بعد ذلك ثالثة إلى الحُسين (علیهما السلام) أقطاب الخيانة أقدم إلينا فإنَّا جُند لك مجنَّدة بما قد وصل إلى اثنى عشر ألف كتاب فجاء تلبية لواجب الجهاد المقدَّس بعد تأكُّده من وفرة خيرة الأصحاب مع أهل بيته وإن تركه من تركه، حتَّى ضُيِّق عليه
ص: 48
فكان ما كان من انفاذ مسطور لنفس الغرض مسلِّماً أمره إلى الله للعهد المعهود والقضاء المبرم الموعود ملبيَّاً الواجب المنشود حتَّى لو أدَّى ذلك إلى شرف عظيم التَّضحيات ومحنة المسبيِّين والمسبيَّات وكما قال الشَّاعر الحسيني:_
إن كان دين محمَّد لم يستقم إلاَّ بقتلي يا سيوف خُذيني
ولكن اشاءة الله تعالى ما تمَّت بذلك السَّبي ومحنته إلاَّ بعكس ما أراده الأعداء تماماً لا كما أرادوا، فجاء جهاد الأعداء بنوع آخر من نفس السَّبايا كالإمام السجَّاد (علیه السلام) والعقيلة الحوراء(علیها السلام) وغيرهما بما أكمل المسيرة الاستشهاديَّة بتلك الخُطب الرنَّانة وكأنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) والزَّهراء (علیها السلام) وأمير المؤمنين (علیه السلام) والحسن (علیه السلام) نهضوا منجديد وقصموا ظهر الشِّرك والكفر والنِّفاق وبدأت ثورات المقتصيِّن والتَّوابين واحياء الذِّكريات المستمرَّة وإلى يومنا هذا كلَّما جاءت المعرقلات من قبل الأعداء بأقسى شدائدها بهذا النَّجاح الباهر عالميَّاً.
فلا ينبغي بل لا يجوز التَّفريط فيها مع الإمكان والحاجة الميسورة ولو بالعنوان الثَّانوي إن تنزَّلنا لبعض السَّطحيِّين في ولائهم إن لم تزامن بعض تلك الشَّعائر بعض السَّلبيَّات المانعة شرعاً.
بل ينبغي تطوير أمورها بما يتناسب بكل ما يحتاجه هذا الوقت من الأساليب الإعلاميَّة النَّاجحة والكاسبة للقلوب والذَّارفة للعيون والمشاعر، ومحاولة دحر كل من يحاول التَّشهير بالقضية الحسينيَّة المعطاء بأتفه الشُّبهات بكل ما أوتي الحسينيُّون الغيارى من قوَّة علميَّة دفاعيَّة
ص: 49
بيانيَّة ناجحة لتصفية الاستثمار في قضايانا الحاليَّة من عطاياها القيِّمة بما لا يدع شبهة إلاَّ وتزول عن سيِّد الشُّهداء (علیه السلام) وكافَّة ذكرياته النَّاصعة لأنَّ الشَّمس لا تسترها الغيوم وإن ادلهمّت تحتها، والله ولي التَّوفيق وهو العالم.
س/ ما حكم الشَّعائر الحسينيَّة المتعارفة؟
الكاتب :: عبد الكريم
ج/ بسمه تعالی
كل ما يمت بإحياء الذِّكريات الحُسينيَّة بصلة في أفراح ميلاد الحسين (علیه السلام) والأمور الَّتي تبيِّن سيرته وحياته أيَّام حياته مع جدِّه(صلی الله علیه و آله) وبعد وفاته وأيَّامه مع أمِّه الزَّهراء(علیها السلام) وأيَّامه مع أبيه (علیه السلام) وأخيه الحسن (علیه السلام) وما ورد في حقِّه كتاباً وسنَّة وما كان عليه من الحياة الجهاديَّة وما يتعلَّق بملحمته الجهاديَّة العظمى الَّتي ما سبقه فيها سابق وما يلحقه فيها لاحق فهو تعظيم للشَّعائر الَّتي مدح الله معظمها في قوله تعالى «ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» (1)، وهو كما قال الأثر المعبِّر عن الواقع (الإسلام محمَّدي الحدوث علوي البناء حَسني التَّمهيد حُسيني البقاء) بل قال النَّبي (علیه السلام) فيه (حسين منِّي وأنا من حسين)(2).
ص: 50
فإحياء ذكريات الطُّفوف الَّتي أحييت في اهتمام المؤمنين بها أكثر من غيرها بالمجالس والمواكب واللَّطم تحرُّقاً بالفاجعة والبكاء والتَّباكي وسقي الماء وطبخ الطَّعام وتوزيعه يوم عاشوراء وقراءة مصيبة المقتل الحسيني، وحتَّى التَّمثيل الصَّحيح المهيِّج للعبرات وإراءة القريب والبعيد لوعاتِ الفجائع الحُسينيَّة بمظهرها الدِّيني اللائق القويم وعلاقته بالإمام الحُسين (علیهما السلام)اعتباراً بكونه من أهم ما تُعظَّم به الشَّعائر وأنَّه راجح شرعي مهم، والله العالم.
بسمه تعالى شأنه وله الحمدسماحة آية الله العظمى الفقيه الورع الحاج السيد علاء الدين الغريفي (دام ظله)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
س / سماحة السيد هناك (حديث) مفاده أنَّ الرِّياء يبطل الأعمال جميعاً حاشا زيارة الحسين (علیهما السلام) فهل توجد صحَّة لهذا الحديث، علماً أنَّ الشَّيخ عباس القمي (قدس سره) ردَّ على هذا الحديث وقال: هذا ما تناقلته العامَّة من النَّاس ولم يذكره أحدٌ من علماء الإثبات (رض) مع أنَّ هذا الحديث أيضاً يتعارض مع القواعد الأصوليَّة والفقهيَّة العامَّة الَّتي أقرَّها الأعلام من العلماء وهي تقول بأنَّ النيَّة هي (مفتاح كل عمل) و(إنَّما الأعمال بالنيَّات) كذلك قال تعالى «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ».
والإخلاص هو حالة كون العبادة إخلاصاً لله، إضافة إلى أنَّ الحسين (علیه السلام) لا يحتاج إلى مثل هذه الكرامات يكفيه أن قال في حقِّه الصَّادق (علیه السلام) (أشهد أن دمك سكن في الخلد)، فأين هذه الأخبار الواهية من تلك العبارات الصَّادقيّة الصَّادقة الَّتي توصف وتقول بأن دم الحسين (علیه السلام) سكن في الخلد وأبهمت أين الروح الطاهرة لذا حيَّرت العقول والأسباب وكفى بها فضيلةً.
ص: 51
فهل الحسين (علیهما السلام) جاء لكي يعطيه الله كرامة (هي جعل الرِّياء عملاً صالحاً)، وما أدري ما أقول هل الحسين (علیه السلام) ثار لأجل جعل الرِّياء عملاً ذا قيمة نعم الحسين (علیه السلام) إنَّما خرج ليوضح الشَّريعة الخالدة وإطماس معالم الكفر ومنها الرِّياء؟أحمد يعقوب(1)
ج/ بسمه تعالی
الأمور المتينة في بعض الأحوال والمنطبقة على بعض مصاديق تعظيم الشَّعائر الَّتي مدح تعالى معظمها في كتابه الكريم _ كأمور إحياء ذكريات الحسين (علیهما السلام) والَّتي تروِّجها كالزِّيارات العامَّة والخاصَّة له والبكاء والتَّباكي عليه وأمثال ذلك للأدلَّة المثبَّتة في مواقعها، لأجل أن تبقى الذكرى غضَّة جديدة في كل عام لا لحاجة منه (علیه السلام) لذلك بل لحاجة النَّاس إليه ولو من مظاهر أعمالهم الأخرى المدعومة بآية تعظيم الشَّعائر العامَّة المطلقة ولو بمرجِّحات العنوان الثَّانوي حتَّى لو تجاوزت بعض الشَّيء عن تلك الأمور المتينة كالأعمال المشوبة بالرِّياء المنتهي إلى الإخلاص _
لا تتنافى والجوهر الحُسيني المنشود إذ لا تزاحم، لأنَّ كل مقصود له مثابته عند الله تعالى، على أنَّ الإخلاص هو المفضَّل والمحرز منه القرب والمثوبة من بين الجميع عكس ما لو كان العمل ريائيَّاً محضاً وإلى النِّهاية دون الانتهاء إلى الإخلاص والعياذ بالله ودون أن يستفيد المجتمع حُسينيَّاً
ص: 52
من مظاهره إيجابيَّاً.
وهذه الأمور المتينة أيضاً لا تمنع من حصول التَّظاهر في ذلك وإن كثروبمثل ما يحصل في مثل هذه السِّنين من مختلف الفعَّاليَّات المفيدة للتَّرويج الدِّيني جدَّاً وإن حسبه بعض النَّاس رياءاً أو اعتقد نوعاً بأنَّ نسبة الزَّائرين الضَّخمة لا تخلو من هذه الحالة أو جرِّ النَّاس إليه وشجَّعوا عليه ولو بالحث الرِّيائي المؤقَّت، إضافة إلى الإخلاص المضمر في قلب الجار والحاث والمشجِّع رغبة في النَّتيجة المحبَّذة شرعاً.
بل حتَّى من عمل المرائي المستمر نعوذ بالله منه وحده ومنه بعض حالات النِّفاق، فإنَّ الشَّرع في ثوابته المتينة لابدَّ وأن يستفيد قوَّة حُسينيَّة نبويَّة من هذه الوسائط من باب (الوزر على ظهره والمهنا لغيره) كما في مظاهر الحج إذا كثر الحجَّاج، فإنَّ الإسلام لابدَّ وأن يستفيد قوَّة مع أنَّ أكثر الحجيج لا وزن لحجِّهم كما ورد (ما أكثر الضَّجيج وأقلَّ الحجيج).
وهذه الأمور أيضاً لم تكن من العبادات الصِّرفة الَّتي يأثر فيها الرِّياء المزعوم لو أطلقناه واختلفت مصاديقه ومنها شعائريَّات الزِّيارة الشَّريفة لو قارنَّاها بالصَّلاة ونحوها من العبادات الأصيلة، بل هي من قبيل التَّشجيع على دفع الصَّدقات لأهميَّة الاستثمار منها للفقراء خصوصاً أو عموماً إذا كثرت، لأنَّ الأخلاقيِّين الشَّرعيِّين حثُّوا على ذلك لصحَّة أدلَّة ذلك شرعاً، وكذلك جوَّز الفقهاء الكذب في اصلاح ذات البين وفي الحرب لأنَّه خدعة وللمصلحة ودفع المفسدة الأكبر كالدِّفاع عن النَّفس أمام الظَّالم، مع أنَّ الكذب أشد من كثير من المعاصي الكبيرة للأدلَّة المجوِّزة في محلِّها كذلك، ولو لم يكن إلاَّ الاستثمار بالنَّتيجة الايجابيَّة
ص: 53
كذلك لكفى، لعدم استحالة أن تنتهي بالتَّالي إلى إرشاد النَّاس إلى الإخلاص النَّاجح به فضلاً عن الصَّفوة والخواص في شعائريَّاتهم لودفعوا به على أنَّ من جاء مدفوعاً ممَّن ذكر عن الرِّياء كثيراً ما يوفَّق إلى الإخلاص في الطَّريق إذا تفاعل قلبه مع القضيَّة الحُسينيَّة وتدبَّر أمورها عقائديَّاً، بل قد يفوق على بعض من قام بحثِّه على ذلك إيمانيَّاً كما كان النَّبي (قدس سره) في بداية أمر دعوته الإسلاميَّة قبل اسلام بعض المنافقين استدراجاً منه لهم باكتفائه بالحث أو قبول مجرَّد الإسلام وحينما نشأ من المسلمين بعض المؤمنين شرع في الحث على الإيمان أكثر من حثِّه عليه في البداية وحينما نشأ من المؤمنين طبقة أعمق إيماناً أخذ يحث على المزيد من العمق الإيماني كلَّما حصل الأمل في ذلك، ففي بدايات الدَّعوة كان الله تعالى يخاطبه لأن يخاطبهم بقوله «قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ»(1) ثمَّ بعد ما انعقدت الآمال في تحقُق العمق والأعمق جاءت آيات نهايتها قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ»(2) ومن هنا ثبتت الدَّرجات العديدة للإيمان.
وإذا قيل بأنَّ تصحيح هذا العمل ممَّا ذكر من المصاديق المجوِّزة في الصَّدقات وكذب المصلحة الشَّرعيَّة ودفع الخطر بالأخطر لا يمكن تحمُّله لأنه يكون من قبيل القياس الممنوع؟
ص: 54
فإنَّا نقول بأنَّا قد أجبنا بما يكفي دليلاً على نفس مسألة الدَّفع إلى المشاركة في القضايا الحُسينيَّة لتكثير العدد وتقوية السَّواد الأعظم وتقويةالطَّاقات الحُسينيَّة ولو بواسطة الرِّياء بالمعنى الَّذي وجَّهناه وإن لم يستفد صاحبه من الثَّواب لو لم يخلط بالإخلاص عرضاً أو نتيجة بل ودون أن يكون الرِّياء هو الغاية بدليل (خُذ الغايات واترك المبادئ) المقصود منه ليس مثل (الغاية تُبرِّر الواسطة) في جميع الحالات بناءاً على عدم مشابهته للدَّليل السَّابق في إمكان دلالة السَّابق على حفظ الغايات وهي الأمور المخلِّصة حُسينيَّاً والتَّمسُّك بها وعدم الاكتراث بالمبادئ وإن كانت واسطة في تحقيق الغايات إذ قد لا يُستغنى عنها في بعض المراحل التَّدريجيَّة وإن لم تتساوَ معها، كيف ويمكن اضمار إرادة إيصال النَّاس إلى الإخلاص الَّذي هو الغاية دون الاعتماد على مثل الرِّياء ليكون هو الغاية المُثلى الوحيدة أو المساوية للمُثلى الَّتي قد تتَّضح في مثل الدَّليل اللاحق مع ما مضى من الدَّليل السَّابق وما سيأتي من الإجابة على ما عُرف من رأي الشَّيخ القمِّي تجاه الرِّواية وكما مرَّ ذكره من تصرُّفات النَّبي (قدس سره) تجاه الدَّعوة إلى الإسلام والإيمان من التَّدرجات.
وبذلك كلِّه يظهر أنَّ ملاك القضايا المذكورة واحد لو فرَّقنا بين الغاية المُثلى الأصيلة في العبادة أو ما يُلحق بها كالزِّيارة ولو بالتَّالي في هذا الملحق وبين يعض الوسائط الَّتي لا يُرغب بها بالعنوان الأوَّلي بل قد تطرَّق بالعنوان الثَّانوي فلا مخالفة في الأمر للقواعد والأصول، لكون الدُّعاة والوعَّاظ غايتهم في ذلك وإن جاءت في بعض الأوقات بالمجاهرات الَّتي قد تنصرف إلى الرِّياء من قصد غير أصيل أو لا قصد أصلاً فلم تكن
ص: 55
إلاَّ للإخلاص بالتَّالي حتَّى من قبل المشاركين أو ما اشترك في ذهن الكثيرين بينه وبين ما يكون من بعض المراءات كما عُرف عند بعض أهلالرِّياضات النَّفسيَّة الَّذي لا تستحيل عليه الحالة الازدواجيَّة حيث بإمكانه قلب الرِّياء إلى الإخلاص في آن واحد أو بعد حين.
وأمَّا شبهة توهُّم جعل الرِّياء هو الغاية من فعل الأعمال الصَّالحة المرتبطة بالكرامة والقدسيَّة المنسوبة إلى الإمام (علیه السلام)؟
فإنَّها مدفوعة بأمرين:_
الأوَّل: أنَّ الغاية لا تُبرِّر الواسطة من جميع الجهات أي حتَّى في الحرام الخالص الثَّابت كما في العبادات الأصيلة أو الملحقة كما مرَّ توضيحه لعدم التَّناسب بين المقامين مع استبعاد أن لا يُراد من الرِّواية ما توهَّمه السَّائل لأنَّه إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال على التَّضعيف الدَّلالي.
والثَّاني: أنَّ بعض الشَّعائريَّات من ذوات العنوان الثَّانوي السَّامية في غاياتها ونتائجها كترويج الدِّين وأهله وعظيم قضاياهم كقضيَّة الإمام الحسين (علیه السلام) الَّتي أصبحت بإحيائها في كل سنة وعام خير قاصمة لظهور كل طواغيت الأرض لا لخصوص انتصار الدَّم على سيف يزيد وأعوانه ولو بعد حين.
حتَّى لو كانت الرِّواية ضعيفة سنداً إذ يمكن استفادة ذلك منها ولو لرجاء المطلوبية، أو لقاعدة التَّسامح في أدلَّة السُّنن، ولعلَّ الشَّيخ استضعف الرِّواية لا لشيء لأنَّه قد أورد في مفاتيحه وغيرها بعض الرِّوايات الضَّعيفة اعتزازاً بالمندوبات ولو رجاءاً إلاَّ للتَّفريق بين ثواب طريق الرِّياء على ما وجَّهناه والإخلاص المحرز في المعنى الثَّاني
ص: 56
والمضاعف أكثر من حالة الرِّياء إلاَّ أن ينتهي المرائي بالتَّالي إلى مثابة الإخلاص وعِظم المثوبة له فيتساوى المعنيان.وقد اهتدى الكثيرون والحمد لله من أهل الكفر والمخالفة والفسق إلى الإسلام والإيمان الولائي والإلتزامي عن طريق هذه السَّطحيَّة في المشاركة عند ما ترق قلوبهم لو عرفوا عِظم المأساة للهداية وإلى ما لا يمكن احصاؤه من المصاديق، حتَّى أصبحت هذه الشَّعائر الحُسينيَّة المعطاء بشتَّى أنواعها المقبولة خير سفينة نجاة للقريب والبعيد وخير مدرسة هادية ومربِّية، والله العالم.
رسالة من زائر اسمه محمد علي(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
سماحة السيد الغريفي البحراني السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
س 1/ هل تتغيَّر ممارسة الشَّعائر الحسينيَّة بتغيُّر الظروف والأزمنة؟!
وهل يطرأ على شعيرة من شعائر الإمام الحسين (علیه السلام) لحرمة بسبب أنَّ هناك أشخاص لا يفقهون فلسفتها أو يجهل البعض المغزى منها؟!
أفيدونا مأجورين
ص: 57
ج / بسمه تعالی
قد تتغيَّر بعض ممارسات الشَّعائر الحُسينيَّة سعة وضيقاً وشدَّة وسطحاً إذا لم تكن منهجيَّتها العمليَّة الأصيلة عند أهلها قابلة للتَّفاوت بحسب ما يسمح به الدَّليل من حيث الضَّرورة لها وعدمها والتَّقيَّة وغير ما هو موجب لها وبالأخص في الأمور الَّتي اختلف فيها عند الآخرين إلاَّ أنَّ مجمل ما ينبغي أن يُقال شرعاً عن كل حالات التَّعظيم لها حُسينيَّاً في جوازه هو ما إذا لم يمنع عنه مانع شرعي صريح وواضح أو رجحانه أن لا يقصِّر في حقِّه كالبكاء واللَّطم والعويل وارتداء السَّواد وحضور المجالس والتَّمثيل الشَّرعي الهادف ونحو ذلك من الذِّكريات في مناسبتها الخاصَّة، وقد تحرم ممارستها إذا تغيَّر مسار ما يجوِّزها أو الأزيد بمثل إهانة الذِّكريات الجوهريَّة المقدَّسة ولو باسم الشَّعيرة الَّتي لم يحصل منها ما يناقضها وكما في قوله تعالى «وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»(1)، والله العالم.
س 2/ ما هو رأي سماحتكم حول حكم الحاكم الشَّرعي في مسألة الشَّعائر الحسينية، هل تعتبر نافذة أم يرجع المقلِّد إلى رأي وفتوى مرجعه فيها؟
ج / بسمه تعالی
إذا أريد في السُّؤال من نافذيَّة حكم أي حاكم شرعي حول أي مسألةيُراعى في حكمها شموليَّة لكافَّة المسلمين أو كافَّة المؤمنين خاصَّة لتوحيد
ص: 58
كلمتهم لأهميَّة اشاعته بينهم بالحرمة أو الحليَّة أو نحوهما لئلاَّ تقع المشاكل بين أبناء الأمَّة فلا مانع من الرُّجوع إلى حكمه إذا علم اجتهاده وجامعيَّته للشَّرائط وعدم خطأه في حكمه ومستنده بل يجب الرُّجوع إليه حتَّى لو كان مرجع التَّكليف الخاص أعلم منه بل حتَّى بقيَّة المجتهدين الآخرين لأهميَّة الحفاظ على دعائم النِّظام العام كما في قضيَّة هلال العيد الموحَّد وحتَّى غيره ما لم يكن ذلك مخلاًّ بعقائد المؤمنين المقدَّسة وذكرياتها المصيريَّة الماسَّة كليَّاً بصميم الدَّعوة الإسلاميَّة والإيمانيَّة وشأن نبيِّها (صلی الله علیه و آله) كالقضيَّة الحُسينيَّة ولو بالعنوان الثَّانوي ارتباطاً بقول النَّبي (صلی الله علیه و آله) الثَّابت (حسين منِّي وأنا من حسين)(1) حينما ترتبط الشَّعيرة ارتباطها الوثيق بها إلاَّ أنَّ أداءها لو اختلف عن مسار الحكم العام لا يلزم أن يكون عامَّاً بل محليَّاً أو محصوراً في مواقع استحسان أو لزوم وقوعه، والله العالم.
رسالة من زائر اسمه حيدر جمعة
وموضوعه الشَّعائر الدِّينيِّة
سماحة سيدنا الجليل ما هو الملاك في كون الشَّيء من شعائر الله؟ هل هو النَّص الشَّرعي أي كل ما لم يرد فيه نص بالوجوب أو الاستحباب لا يمكن أن نعتبره من الشَّعائر؟ أم أنَّ الملاك شيء آخر؟
ص: 59
ج / بسمه تعالی
الملاك في المقام أعم من وجود النَّص الشَّرعي الخاص لأنَّه قد لا يُصرِّح نص خاص على شيء مخصوص بل قد تتآلف نصوص على مفاهيم من وراء ألفاظها النُّصوصيَّة يُفيد بمجموعها ما ينفع في المقام أو تُثبِتُ ذلك كذلك بعض الظواهر بصراحاتها لو لم يكن ما وراء تلك الظواهر من الخفايا ما به القوَّة المساوية لئلاَّ تتساقط الأدلَّة المعارضة أو تثبيت الظواهر المختلفة في ألفاظها المتآلفة في معانيها ذلك كذلك من نواحي العموم والإطلاق أو من ناحية العموم والخصوص من وجه أو العموم والخصوص المطلق الَّذي لم يتبيَّن موضع التقائها عمَّا يساعد على مشروعيَّة الشَّعائر وجوباً أو استحباباً أو ما لم يَقل عن أصل الإباحة ولو بعد الشَّك بين الإباحة والتَّحريم، وهذا الأخير إن تمَّ تبرير أصل إباحته لم يتناف ووجود تشكُّل عنوان ثانوي في رجحانه وإن جاءت به بعض الرِّوايات التَّأريخيَّة الضَّعيفة، والأحوط في ذلك أن تؤخذ فتوى هذه القضيَّة من مجتهد جامع للشَّرائط لا أن تكون من لسان هذا أو ذاك، والله العالم.
س / ما هي الأدلّة التي توجب استمرار البكاء على مصيبة الإمام الحسين (علیه السلام)، وقد تفوَّهت طبقات من الأعداء وبعض من يُحاول أن يظهر أنَّه ليس منهم مستنكراً حالة هذا البكاء، وعلى خصوص الإمام (علیه السلام) وتجييش عواطفهم تجاهه وقتيَّاً أو كلَّما يتذكَّره المحب والموالي أو في كلِّ رأس سنة على وفاته متصوِّراً أنَّ باستشهاد الإمام (علیه السلام)
ص: 60
مع البكاء تذوب قضيَّته؟
ج / بسمه تعالی
نأسف أن ترد وتتوارد هذه الأسئلة الغريبة حتَّى من بعض من يُنسب إلى التَّشيُّع؟
نعم لا غرابة في هذا وغيره إذا أثَّرت شبهات أعداء الإمام الحسين (علیه السلام) وجدِّه(صلی الله علیه و آله) وأبيه (علیه السلام) وأمِّه(علیها السلام) وأخيه (علیه السلام) والتِّسعة المعصومين من ذريَّته وبنيه (علیهم السلام)الَّذي تُعد نهضته الكبرى والفاجعة العظمى الَّتي مرَّت عليه وكانت بحق عَبرة وعِبرة إلى آخر الدَّهر حتَّى وصل الأمر إلى المنع من قِبل طُغاة السَّلفيِّين وفراعنتهم ومعهم بعض من يُحسب على الشِّيعة من الجبناء والطَّامعين والحزبيِّين ولو بحجَّة أنَّ الحسين (علیه السلام) منتصر دمه على سيوف الأعداء وكما يفعله بعض الشَّيخيَّة من لبس البياض بدل السَّواد فرحاً بدلاً من البكاء أو من القوم الَّذين قِيل عنهم عند خطاب أحد أصحاب الأئمَّة (علیهم السلام)في محاربتهم لهم ((قلوبهم معك وسيوفهم عليك)).
في حين أنَّ ديمومة البكاء والتَّباكي هو أحد ما يديم فعَّاليَّة النَّهضة ومظلوميَّة صاحبها لجمع أكبر الأعداد من الأنصار وهو حالة من حالات الأخذ بالثَّأر سلميَّاً إلى _ن يأتي دور الصَّاحب الموعود (عجل اللهتعالی فرجه الشریف) كلَّما ازداد التَّشيُّع قوَّة عدداً وعُدَّة ولو في رسوخ العقيدة، الإيمانيَّة الحُسينيَّة للأخذ به مستقبلاً مع صاحب الأمر (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، فإذا ما حوربت النَّهضة بمثل هذه الأمور ضعفت واندثرت تلك المظلوميَّة أو تأخَّرت أهدافها فلا تؤثِّر أثرها على من بعد يزيد (لع) من سلاطين الجور والظلم.
ص: 61
فلابدَّ من أن يُقال بوجوب استمرار البكاء على تلك المصيبة ولو تباكياً ظاهريَّاً حتَّى في السِّر ووراء حجاب السَّتر على الأقل إلى أن يأتي دور ذلك في العلن والجهر كهذه الأيَّام حينما أتى دورهما ولو بالعنوان الثَّانوي بعد ازدياد التَّشيُّع وذهاب الخوف المانع.
علماً بأنَّ البكاء في طبيعته فطري خوفاً من الله وخشية منه تعالى قبل كلِّ شيء وفي الأحزان وفِراق الأحبَّة وغير ذلك فيما بعد، ولا يمكن أن يُستنكر ذلك حتَّى من الأعداء إلاَّ خوف اظهاره فضيحة اعتداء المعتدين وأسلافهم، فقد ورد عن رَسُولِ (صلی الله علیه و آله) وفي كتب الفريقين, أَنَّهُ قَالَ: ((يَا عَلِيُّ، أَرْبَعُ خِصَالٍ مِنَ الشَّقَاءِ: جُمُودُ الْعَيْنِ، وَقَسَاوَةُ الْقَلْبِ، وَحُبُّ الدُّنْيَا، وَبُعْدُ الْأَمَلِ))(1)، وورد عن أمير المؤمنين ((ما جفَّت الدُّموع إلاَّ لقسوة القلوب وما قست القلوب إلاَّ لكثرة الذُّنوب))(2).
كما أنَّ التَّباكي يترك تأثيراً نفسيَّاً من الظاهر على الباطن، كما ورد عنرسول الله (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر الغفاري: ((يا أبا ذر، من استطاع أن يبكي فليبكِ، ومن لم يستطع فليشعر قلبه الحزن وليتباك، إن القلب القاسي بعيد من الله))(3).
وقال الإمام الصادق (علیه السلام) في بكاء الإنسان على ذنبه ومن خشية الله: ((إن لم يجئك البكاء فتباك، فإن خرج منك مثل رأس الذباب فبخّ
ص: 62
بخّ))(1).
وفي قضيَّة الحُسين (علیه السلام) ورد عن أبي عبد الله الصَّادق (علیه السلام) ((ومن أنشد في الحسين شعراً فبكي فله الجنّة، ومن أنشد في الحسين فتباكى فله الجنّة))(2).
وقد جاء في القرآن حول نبي الله يعقوب (علیه السلام) تجاه فقد ولده يوسف الصدِّيق(علیه السلام) حُزناً عليه «وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ»(3) وقوله تعالى تجاه رقَّة قلوب النَّصارى ولينهم المبكي لهم واختلافهم عن قساوة اليهود «تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ»(4) وقوله تعالى «فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ»(5) الَّذي من معانيه التَّوعُّد ضدَّ المستهزئين على الباكين من المظلومين.
ولمَّا فُجع النَّبي (صلی الله علیه و آله) بابنه إبراهيم قال بعد بكاءه عليه ((إنّ العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول ما يسخط الرب))(6)، ولمَّا رأى النَّبي (صلی الله علیه و آله)حمزة قتيلاً بكى، فلما رأى ما مُثّل به شهق(7)، وبعد بكاءه على ابن عمِّه
ص: 63
جعفر الطيَّار عند استشهاده قال ((على مثل جعفر فلتبك البواكي))(1) كما بكى على عمِّه أبي طالب، وقد بكى عمر على أخيه زيد، كما أمر نساء بني المغيرة بالبكاء على خالد بن الوليد، وعثمان بكى على ابنته، وعائشة بكت على أبيها، وأبو بكر بكى على النَّبي (صلی الله علیه و آله)(2).
كما بكت زوجات رسول الله (صلی الله علیه و آله)حين موته عليه، وبكت عليه ابنته الزَّهراء (علیها السلام) حتَّى حوربت من كثرة بكاءها عليه حتَّى استشهادها وكأنَّ البكاء كان حصراً للأعداء فيما يشتهون دونها ودون أشياعها ولذا نُسب إليها قولها:_
ماذا على من شمَّ تربة أحمد *** ألاَّ يَشمَّ مدى الزَّمان غوالياصُبَّت عليَّ مصائب لو أنَّها *** صُبَّت على الأيَّام صِرنَ لياليا(3)
وهكذا بكاه أمير المؤمنين (علیه السلام)كثيراً وبكاه الحسنان (علیهما السلام)، كما بكى علي وأولاده (علیهم السلام)على الزَّهراء(علیها السلام) بعد استشهادها، وهكذا كانت سنَّة الحياة لمَّا كانت كارثة فقد شهيد المحراب أمير المؤمنين (علیه السلام) بكاه أولاده وخُلَّص الأهل والأصحاب حتَّى استشهاد الحسن (علیه السلام) فقد بكاه أخوه الإمام الحُسين (علیه السلام) وأهل بيته وأصحابه.
ص: 64
ولو لم يكن من موجب بمقتضي وعدم مانع له فهو سير على نهج النَّبي(صلی الله علیه و آله) وسنَّته قبل الحادثة بل من عهود الأنبياء والرُّسل(علیهم السلام) قبلها.
فقد ابكى ذلك جدَّه محمَّداً (صلی الله علیه و آله) حين دخل عليه علي (علیه السلام) فرأى عينيه تفيضان.
عن عبد الله بن يحيى قال : ((دخلنا مع علي إلى صفِّين فلمَّا حاذى نينوى نادى صبراً يا عبد الله، فقال: دخلت على رسول الله وعيناه تفيضان فقلت: بأبي أنت وأُمِّي يا رسول الله ما لعينيك تفيضان؟ أغضبك أحد؟ قال: لا، بل كان عندي جبرئيل فأخبرني أنَّ الحسين يُقتل بشاطئ الفرات، وقال: هل لك أن أشمَّك من تربته؟ قلت: نعم فمدَّ يده فأخذ قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا، واسمالأرض كربلاء، فلمَّا أتت عليه سنتان خرج النَّبي (صلی الله علیه و آله)إلى سفر فوقف في بعض الطَّريق واسترجع ودمعت عيناه فسئل عن ذلك فقال: هذا جبرئيل يخبرني عن أرض بشط الفرات يقال لها كربلاء يُقتل فيها ولدي الحسين وكأنِّي أنظر إليه وإلى مصرعه ومدفنه بها، وكأنِّي أنظر على السَّبايا على أقتاب المطايا وقد أُهدي رأس ولدي الحسين إلى يزيد "لع" فو الله ما ينظر أحد إلى رأس الحسين ويفرح إلاَّ خالف الله بين قلبه ولسانه، وعذَّبه الله عذاباً أليماً.
ثمَّ رجع النَّبي (صلی الله علیه و آله) من سفره مغموماً مهموماً كئيباً حزيناً فصعد المنبر وأصعد معه الحسن والحسين وخطب ووعظ النَّاس فلمَّا فرغ من خطبته وضع يده اليمنى على رأس الحسن ويده اليسرى على رأس الحسين، وقال: اللَّهم إنَّ محمَّداً عبدك ورسولك وهذان أطائب عترتي، وخيار
ص: 65
أرومتي، وأفضل ذريَّتي ومن أخلِّفهما في امَّتي وقد أخبرني جبرئيل أنَّ ولدي هذا مقتول بالسُّم والآخر شهيد مضرَّج بالدَّم اللَّهم فبارك له في قتله، واجعله من سادات الشُّهداء اللَّهم ولا تبارك في قاتله وخاذله وأصله حرَّ نارك، واحشره في أسفل درك الجحيم.
قال: فضجَّ النَّاس بالبكاء والعويل، فقال لهم النَّبي (صلی الله علیه و آله): أيُّها النَّاس أتبكونه ولا تنصرونه، اللَّهم فكن أنت له ولياً وناصراً .... إلخ))(1).وجاء في خبر من سبق النَّبي (صلی الله علیه و آله) من الأنبياء السَّابقين (علیهم السلام) حول سيِّد الشُّهداء (علیه السلام) ما رُوي أنَّ نوحاً (علیه السلام) ((لمَّا ركب السَّفينة طافت به جميع الدُّنيا, فلمَّا مرَّ بكربلاء أخذه الموج, وخاف نوح الغرق فدعا ربَّه, فنزل جبرائيل وقال: يا نوح في هذا الموقع يُقتل الحسين (علیه السلام) سبط محمَّد خاتم الأنبياء, فبكى نوح: وقال: يا جبرائيل ومن قاتله؟ قال: لعين أهل السَّماوات والأرض؛ فلعنه نوح وسارت السفينة))(2).
ورُوي أنَّ إبراهيم (علیه السلام) ((مرَّ بكربلاء وهو راكب على فرسه, فعثرت به الفرس فسقط الى الأرض وشجَّ رأسه وسال دمه, فأخذ يكثر من الاستغفار وقال: إلهي أي شيء حدث منِّي؟ فنزل عليه جبرائيل وقال: يا إبراهيم ما حدث منك ذنب, و لكن هنا يُقتل سبط خاتم النَّبيين, فسال دمك موافقة لدمه, فبكى إبراهيم ثمَّ قال: يا جبرائيل ومن القاتل له؟ قال: لعين أهل السَّماوات والأرض, فرفع إبراهيم يديه الى السَّماء
ص: 66
وقال: اللَّهم العن قاتل الحسين (علیه السلام) ))(1).
بل إنَّ البكاء في مواضعه اللائقة به فطري وطبعي وشرعي وأوَّله الخوف من الله كما مرَّ بيانه، وما بعده الحُزن على أنصار دينه حين استشهادهم ونحوه لو لم يكن حاصلاً أو حبس عنهم لسبب قصر أعمار تاركيه.وقد جاء عن الأئمَّة (علیهم السلام) بعد قضيَّة عاشوراء ما عن ابن خارجة قال كنَّا عند أبي عبد الله جعفر الصَّادق (علیه السلام) فذكر حسين بن علي (علیه السلام) فبكى أبو عبد الله (علیه السلام) وبكينا ثمَّ رفع برأسه فقال: ((قال حسين بن علي: أنَّا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلاَّ بكى))(2).
عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: ((يا علقمة واندبوا الحسين (علیه السلام) وابكوه وليأمر أحدكم من في داره بالبكاء عليه وليقم عليه في داره المصيبة بإظهار الجزع والبكاء وتلاقوا يومئذ بالبكاء بعضكم إلى بعض في البيوت وحيث تلاقيتم وليعزِّ بعضكم بعضاً بمصاب الحسين (علیه السلام) قلت: أصلحك الله كيف يعزَّي بعضنا بعضاً قال تقولون أحسن الله أجورنا بمصابنا بأبي عبد الله الحسين (علیه السلام) وجعلنا من الطالبين بثأره مع الإمام المهدي إلى الحق من آل محمد صلى الله عليه وآله وعليهم أجمعين وإن استطاع أحدكم أن لا يمضي يومه في حاجة فافعلوا فإنه يوم نحس لا تقضى فيه حاجة مؤمن وإن قضيت لم يبارك فيها ولم يرشد ولا يدّخرن أحدكم لمنزله في ذلك اليوم
ص: 67
شيئاً فإنه من فعل ذلك لم يبارك فيه، قال الباقر (علیه السلام) "أنا ضامن لمن فعل ذلك له عند الله (عزوجل) ما تقدم به الذكر من عظيم الثواب وحشره الله في جملة المستشهدين مع الحسين (علیه السلام)))(1).وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سمعته يقول: ((إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جزع، ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن علي (علیهما السلام)، فإنّه فيه مأجور))(2).
وعن عبد الله بن سنان قال: دخلت على سيِّدي أبي عبد الله جعفر بن محمَّد (علیهما السلام) في يوم عاشوراء فلقيته كاسف اللَّون ظاهر الحزن ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط فقلت يا ابن رسول الله ممَ بكاؤك لا أبكى الله عينيك؟ فقال: أو في غفلة أنت، أمَّا علمت أنَّ حسين بن علي أصيب في مثل هذا اليوم)(3).
وعن محمَّد بن مسلم عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: ((كان علي بن الحسين (علیهما السلام) يقول: أيَّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين (علیه السلام) حتَّى تسيل على خدِّه بوأه الله تعالى بها في الجنة غرفاً يسكنها أحقاباً وأيَّما مؤمن دمعت عيناه حتَّى تسيل على خدِّه فيما مسَّنا من الأذى من عدوِّنا في الدُّنيا بوأه الله منزل صدق، وأيُّما مؤمن مسَّه أذى فينا ودمعت عيناه حتَّى تسيل على خدِّه من مضاضة ما أوذي فينا صرف الله من وجهه الأذى وآمنه
ص: 68
يوم القيامة من سخط النَّار))(1).
وعن أبي عمارة الكوفي قال: سمعت جعفر بن محمَّد (علیه السلام) يقول ((من دمعت عينه لدم سفك لنا أو حق لنا انتقصناه أو عرض انتهكلنا أو لأحد من شيعتنا بوأه الله تعالى بها في الجنة حقا))(2).
وعن أبي هارون المكفوف قال أبو عبد الله (علیه السلام): ((ومن ذكر الحسين (علیه السلام) عنده فخرج من عينيه من الدُّموع مقدار جناح ذباب كان ثوابه على الله (عزوجل) ولم يرض له بدون الجنة))(3).
وعن أبي بصير قال: كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) فدخل عليه ابنه فقال مرحباً وضمَّه وقبَّله وقال: ((حقَّر الله من حقَّركم وانتقم ممَّن وتركم وخذل من خذلكم ولعن الله من قتلكم... ثمَّ بكى وقال يا أبا بصير إذا نظرت إلى ولد الحسين أتاني مالا أملكه بما أتى إلى أبيهم وإليهم... ثمَّ قال يا أبا بصير أمَّا تحب أن تكون فيمن أسعد فاطمة (علیها السلام) فبكيت حين قالها فما قدرت على النُّطق وما قدر على كلامي من البكاء ثمَّ قام إلى المصلَّى يدعو فخرجت من عنده على تلك الحال))(4).
وعن الريَّان بن شبيب قال: دخلت على الرِّضا (علیه السلام) في أوَّل يوم من المحرَّم وقال:_
ص: 69
((يا ابن شبيب إن كنت باكياً لشيء فابكِ للحسين بن علي بن أبي طالب (علیهما السلام) فإنَّه ذبح كما يذبح الكبش، وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً، ما لهم في الأرض شبيهون، ولقد بكت السَّماوات السَّبع والأرضون لقتله، ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصره، فوجدوه قد قتل، فهم عند قبره شُعث غُبر إلى أن يقوم القائم، فيكونون من أنصاره، وشعارهم (يا لثارات الحسين).
يا ابن شبيب لقد حدَّثني أبي، عن أبيه، عن جدِّه أنَّه لمَّا قُتل جدِّي الحسين أمطرت السَّماء دماً وتراباً أحمر، يا ابن شبيب إنَّ بكيت على الحسين حتَّى تصير دموعك على خدَّيك غفر الله لك كل ذنب أذنبته صغيراً كان أو كبيراً، قليلاً كان أو كثيراً))(1).
وعن علي بن فضَّال عن أبيه قال: قال الرَّضا (علیه السلام) من تذكَّر مصابنا وبكى لما ارتكب منَّا كان معنا في درجتنا يوم القيامة ومن ذكر بمصابنا فبكى وأبكى، لم تبك عينه يوم تبكي العيون ومن جلس مجلساً يُحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب))(2).
ورُوِيَ عن الإمام الرِّضا (علیه السلام) أنه قال ((إنّ المُحَرَّمَ شهرٌ كان أهلُ الجاهلية يُحرَّمونَ فيه القتال فاستُحِلَت فيه دمائنا وهُتِكَت فيه حرمتنا وسُبيَت فيه ذرارينا ونسائنا ولم ترع لرسول الله (صلی الله علیه و آله) حرمة في أمرنا إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا وأسبل دموعنا وأذل عزيزنا بأرض كرب وبلاء
ص: 70
وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون فإنَّ البكاء عليه يحطُ الذنوب العظام))(1).وفي زيارة الناحية يقول قائم آل محمَّد (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ((فلئن أخَّرتني الدهور، وعاقني عن نصرك المقدور، ولم أكن لمن حاربك محارباً، ولمن نصب لك العداوة مناصباً، فلأندبنّك صباحاً ومساءاً، ولأبكينَّ عليك بدل الدموع دماً، حسرةً عليك، وتأسُّفاً على ما دهاك وتلهفاً، حتى أموت بلوعة المصاب وغصّة الاكتئاب))(2).
وفي دعاء النُّدبة ((فعلى الأطايب من أهل بيت محمّد وعلي "صلى الله عليهما وآلهما"، فليبك الباكون، وإيّاهم فليندب النادبون، ولمثلهم فلتذرف الدُّموع، وليصرخ الصَّارخون، ويضجُّ الضاجُّون، ويعجُّ العاجُّون، أين الحسن أين الحسين؟ أين أبناء الحسين؟))(3).
وروى مسمع بن عبدالملك كردين البصري، عن سيدنا أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) قال: يا مسمع، إنَّ السَّماوات والأرض لم تزل تبكي مذ قتل أمير المؤمنين "صلوات الله عليه"، ومن يبكي لمصابنا من الملائكة أكثر من ذلك، وما من عبد بكى رحمة لنا إلاَّ رحمه الله قبل أن تخرج الدَّمعة من عينه، فإذا سالت على خدِّه فلو أنَّ قطرة منها سقطت في جهنم
ص: 71
لأطفأت حرَّها حتَّى لا يُوجد لها حرارة))(1).
وورد أنَّ البكَّاءين خمسة آخرهم الإمام علي ابن الحُسين السجَّاد خوفاً من الله وعلى أبيه الحُسين (علیه السلام)، فعن الصَّادق (علیهالسلام) ((البكّاؤون خمسة؛ آدم ويعقوب ويوسف وفاطمة وعلي بن الحسين (علیهما السلام) فأمّا آدم إنّه بكى على الجنّة حتّى صار على خدَّيه أمثال الأودية، وبكى يعقوب على يوسف حتّى ذهب بصره، وبكى يوسف على يعقوب حتّى تأذّى منه أهل السّجن فقالوا: إمّا تبكي باللَّيل وتسكت بالنّهار أو تسكت باللَّيل وتبكي بالنَّهار، وبكت فاطمة(علیها السلام) على فراق رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتّى تأذّى أهل المدينة، فكانت تخرج إلى البقيع فتبكي فيه، وبكى علي بن الحسين (علیه السلام) عشرين سنة، وما رأوه على أكل ولا على شرب إلاّ وهو يبكي، فلاموه في ذلك، فقال: إنّي لم أذكر مصارع أبي وأهل بيتي إلاّ وخنقتني العبرة))(2).
وعن جعفر بن محمَّد (علیه السلام)، قال ((سئل علي بن الحسين (علیه السلام) عن كثرة بكائه فقال: لا تلوموني، فإنَّ يعقوب (علیه السلام) فقد سبطاً من ولده فبكى حتَّى ابيضَّت عيناه من الحزن ولم يعلم أنه مات، وقد نظرت إلى أربعة عشر رجلاً من أهل بيتي يذبحون في غداة واحدة ، فترون حزنهم يذهب من قلبي أبداً))(3).
ص: 72
قال العلاَّمة المجلسي (رحمة الله) رأيت في بعض مؤلَّفات المتأخِّرين أنَّه قال: ((حكى دعبل الخزاعي، قال : دخلت على سيِّدي ومولاي علي بن موسى الرِّضا (علیه السلام) في مثل هذه الأيَّام، فرأيته جالساً جلسةالحزين الكئيب، وأصحابه من حوله، فلمّا رآني مقبلاً قال لي: مرحباً بك يا دعبل، مرحباً بناصرنا بيده ولسانه، ثم إنه وسَّع لي في مجلسه، وأجلسني إلى جانبه، ثم قال لي: يا دعبل، أحبّ أن تنشدني شعراً، فإن هذه الأيَّام أيَّام حزن كانت علينا أهل البيت، وأيَّام سرور كانت على أعدائنا خصوصاً بني أميَّة، يا دعبل، من بكى وأبكى على مصابنا ولو واحداً كان أجره على الله، يا دعبل، من ذرفت عيناه على مصابنا، وبكى لما أصابنا من أعدائنا حشره الله معنا في زمرتنا، يا دعبل، من بكى على مصاب جدّي الحسين غفر الله له ذنوبه البتة، ثمَّ إنَّه (علیه السلام) نهض وضرب ستراً بيننا وبين حرمه، وأجلس أهل بيته من وراء السَّتر ليبكوا على مصاب جدِّهم الحسين (علیه السلام)، ثمَّ التفت إليَّ وقال لي: يا دعبل، ارثِ الحسين فأنت ناصرنا ومادحنا ما دمت حيَّاً، فلا تقصِّر عن نصرنا ما استطعت، قال دعبل: فاستعبرت وسالت عبرتي وأنشأت أقول :
أفاطمُ لو خلتِ الحسينَ مجدَّلا *** وقد مات عَطشاناً بشطِّ فُرَاتِ
إذاً للطمتِ الخدَّ فاطمُ عِنْدَهُ *** وأجريتِ دَمْعَ العينِ في الوَجَنَاتِ
أفَاطمُ قومي يا ابنةَ الخيرِ وانْدُبي *** نُجُومَ سماوات بأرضِ فَلاَةِ
قبورٌ بكوفان وأخرى بطيبة *** وأخرى بفخٍّ نالها صلواتي
قبورٌ ببطنِ النَّهْرِ من جَنْبِ كربلا *** مُعَرَّسُهم فيها بشطِّ فُرَاتِ
ص: 73
تُوفُّوا عطاشى بالعراءِ فليتني *** تُوُفِّيْتُ فيهم قَبْلَ حينِ وَفَاتي
إلى الله أشكو لوعةً عند ذِكْرِهِمْ *** سقتني بكأسِ الثَّكْلِ والفظعاتِ
إذا فَخَروا يوماً أتوا بمحمَّد *** وجبريلَ والقرآنِ والسوراتِ
إلى آخر القصيدة(1).
إلى غير ذلك من الرِّوايات الكثيرة، والجمَّة الغفيرة وما ذكرناه نماذج مختارة.
وأمَّا الاجابة عن استنكار بعض مَن يُحسب على الوهابيَّة أو علينا من المتطرِّفين والحزبيِّين أو المستشرقين البعيدين عن عالميَّة القضيَّة الحُسينيَّة فكأنهم ما عرفوا عالميَّتها حتَّى في أشد حالة بروز المظلوميَّة فيها حينما نبكي على الإمام (علیه السلام) ليلاً ونهاراً وما عرفوا أنَّه كان العَبرة والعِبرة وما عرفوا فطريَّة البكاء عليه ومشروعيَّتها وما عرفوا أقوال أهل الكفر المنصفين فيه ومنهم غاندي (تعلَّمت من الحُسين كيف أكون مظلوماً فانتصر) وما عرفوا اختناق سلاطين كفر اليوم أنصار الأمويِّين من هذه الضجَّة العالميَّة من البكاء على الإمام (علیه السلام) والجزع المشروع عليه لتبقى ثورته تلك الغضَّة الجديدة وكأنَّها حدثت هذه الأزمنة لتُحقِّق ولو بعض أخذ الثَّأر قبل الآخذ به وهو إمام العصر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) أوَّل حالاته وذوبان بعض مبادئ الكفر الطَّاغية لضخامتها وفشل الدُّعاة له ولأهل النِّفاق وبالضجَّة العظمى على أسلافهم من الأمويِّين وبالصَّحوة الإسلاميَّة الإيمانيَّة وبتحقُّق هذا بنجاح أين يكون إذن ذوبان قضيَّة الإمام (علیه السلام) العالميَّة
ص: 74
المستمرَّة بصموده المتجدِّد جيلاً بعد جيل ومعه أنصاره البكَّاؤون عليه وكما وردعنه في قوله مخاطباً الباري المتوجِّه إليه تبارك وتعالى في الشَّهادة:_
تركت الخلق طرَّاً في هواكا ***وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني في الحُبِّ إرباً *** لما مال الفؤاد إلى سواكا
وكذلك ما ورد في أدعيته المأثورة عنه يوم عاشوراء يوم استشهاده (علیهما السلام).
وما عرفوا أنَّ عشرات الملايين من الصَّامدين اليوم لأجله، بل الأكثر والأكثر هم أشد صرامة في التَّضحية والفداء له بالبكاء ونحوه، وإلى آخر المطاف، والله العالم.
اسم المرسل: حامد العريض البحراني.
بريد المرسل: hamidalorayed@hotmail.com
الرسالة:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المرجع الكبير آية الله العظمى الغريفي دام ظلكم الشريف ... سؤال.
س / هل الخبر المروي عن الإمام الرِّضا (علیه السلام) (إنَّ يوم الحسين أقرح جفوننا وأسبل دموعنا) غير نقي السَّند ويمكن الاعتراض على دلالاته كما أدعى البعض.
عظم الله لكم الأجر.
ص: 75
ج / بسمه تعالی
بكاء الإمام الحسن (علیه السلام) حين احتضاره
وكلام الحُسين (علیه السلام) عنده
س / نقل عن الحسن بن علي (علیهما السلام) أنَّه حين الاحتضار بكى فقال له الحسين (علیه السلام): ما لي أراك تكاد تجزع مع يقينك بأنَّك تقدم حيث تقدم على جدِّك و أبيك؟ فقال: نعم يا أخي لا شكَّ في ذلك، إلاَّ أنَّني سالك مسلكاً لم أسلكه من قبل.
وهكذا وجدنا في سيرة أمير المؤمنين (علیه السلام) مسهَّداً ليله مكثراً من قول لا إله إلاَّ الله قائلاً لابنته أم كلثوم ..... فما معنى خوفهم هذا؟ وضح لنا سماحتكم ذلك؟
ج / بسمه تعالی
هكذا كان النَّبي (صلی الله علیه و آله) قبل وفاته وشهادة أمِّه الزَّهراء (علیها السلام) وقبل استشهاد أبيه أمير المؤمنين (علیهما السلام) قبيل وفاته واستشهاده حينما طلب من ملك الموت أن ينتظر أمره في لقاء الله في أعلى عليِّين إلى أن يأتيه أخوه جبرائيل (علیه السلام) أوَّلاًفأتاه وجرى بينه وبينه ما جرى قائلاً له (عند الموت لا تخذلني) وهذه
ص: 76
الحالة كانت عند باقي الأئمَّة (علیهم السلام)في أواخر أيَّامهم بل حتَّى في أواسطها وأوائلها بل جميعها لكونهم كانوا يخشون الله ولخشيته كانوا يذرفون الدُّموع في عباداتهم صلاة وصياماً وحجَّاً وأدعية تورُّعيَّة خشوعيَّة عجيبة بحيث لو أعطى العوام حتَّى النصف من أنفسهم وأهمُّهم عقلاؤهم المجرِّبون لو تدبَّروا ودرسوا حياة أئمَّتهم بحق لاتَّخذوا قرار الانقياد إلى ما كانوا عليه تمسُّكاً بهم _ وكلَّما يتعرَّفون على حالاتهم وما يقرؤونه أو يسمعونه من أقوالهم العلويَّة أو الفاطميَّة أو الحَسنيَّة أو الحُسينيَّة أو السجَّاديَّة أو غيرها أمثال (اَللّهُمَّ اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تَهْتِكُ الْعِصَمَ، اَللّ_هُمَّ اغْفِ_رْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُنْزِلُ النِّقَمَ، اَللّهُمَّ اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُغَيِّ_رُ النِّعَمَ، اَللّ_هُمَّ اغْفِرْ لي الذُّنُوبَ الَّتي تَحْبِسُ الدُّعاءَ، اَللّ_هُمَّ اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُنْزِلُ الْبَلاءَ،) ونحو ذلك وبما قد يكون أشد كما في دعاء الحسين (علیه السلام) يوم عرفة أو دعواته يوم عاشوراء وكذلك أدعية السجَّاد (علیهما السلام) الَّتي منها دعاء السَّحر في ليالي شهر رمضان وغيرها وغيرها، بل لم يزدادوا إلاَّ تمسُّكاً وتأسِّياً بقادتهم وإذعاناً لحقِّ المولى تعالى على جميع العباد على اختلاف طبقاتهم _ ولما قال بعض جهلائهم عن سطحيَّتهم العاميَّة أنَّ هؤلاء الصَّفوة (علیه السلام) من أوَّلهم إلى آخرهم حسب اعترافهم عُصاة ومسؤولون عند الله مستقبلاً عن أنفسهم قبل مسؤوليَّتهم عن الأمَّة لولا ما عرفوا به من دلائل العصمة من النَّبي الرَّسول (علیه السلام) وإلى إمام العصر والزَّمان (عجل الله تعالی فرجه الشریف) من الآيات الَّتي منها آية التَّطهير والرِّواياتالأخرى ودلائل كون كل إمام لابدَّ أن لا يكون ظالماً وإن كان من ذريَّة إبراهيم الخليل (علیه السلام) كما أشارت إليه آية قوله تعالى جواباً من الله إليه
ص: 77
«قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» بعد ما قال «وَمِن ذُرِّيَّتِي».
لكن الأمر ليس كما يتصوَّر أو كثيراً ما يتصوَّر جهلاً بشأن أهل العصمة عن أهل النبوَّة والرِّسالة والإمامة أو إنّه بتدبير مدسوس مدروس بدت مؤشراته من قبيل وفاة النَّبي (صلی الله علیه و آله) ليلة الرَّزيَّة ويوم عقد مؤتمر السَّقيفة لتبرير رئاسة المشايخ الثَّلاثة مع الأمويِّين بعدهم ممَّن امتلأت حياتهم بالمآثم والمعاصي وشتَّى أنواع الظلم احتجاجاً من أولئك الأسلاف بما ظهر أو ساعد على هذا الظهور من كثير من حالاته ممَّا في الأدعية وما قبله من الاعتراف بتبرير الخلافة للمغتصبين لها، ومن ذلك ما ذكره الأموي في النَّزعة والانتساب أحد أواسط رواتهم في بداية كتابه المسمَّى ب_ (صحيح البخاري) بأنَّ البعثة النبويَّة ليلة السَّابع والعشرين من رجب كانت للنبوَّة حسب وآية البعثة تقول «هو الَّذي بعث في الأميِّين رسولاً» لأنَّ النَّبي (صلی الله علیه و آله) نبي منذ نعومة أظفاره كما ورد عنه (كنت نبيَّاً وآدم بين الطِّين والماء) لتدليل هذا البخاري على أنَّ النَّبي (صلی الله علیه و آله) قبل بعثته كان غير معصوم.
بينما لأبدَّ أن يكون النَّبي (صلی الله علیه و آله) يوم القيامة ومعه بقيَّة المعصومين (علیهم السلام) حسب تواتر النُّصوص والأخبار هم سادة الفائزين والشُّفعاء وأمناء الرَّحمة الواسعة، وإذا كان أمير المؤمنين يوم ضربه ابن ملجم الخارجي (لع) قد قال (فزت وربِّ الكعبة) فكيف بالنَّبي (صلیالله علیه و آله) وكيف بالزَّهراء (علیها السلام) وكيف بالحسن (علیه السلام)، وقد برهنت الدَّلائل العظيمة على عصمتهم حتَّى مع مظاهر رعبهم وقت وضوئهم وصلاتهم وبقيَّة عباداتهم وما تظهره أدعيتهم الشَّريفة من حالات الاعتراف بالذنوب أنَّها كانت لا من
ص: 78
عدم وثوقهم بفوزهم الأخروي الثَّابت بل لتعليم الأمَّة وللتَّعلُّق بين الخوف والرَّجاء الأرقى عرفانيَّاً عند دنوِّهم من الأجل المحتوم خجلاً منه تعالى احتراماً لمقامه تعالى الأقدس وللقرب العرفاني بما يفوق استحقاقاتهم كمعصومين منه على قاعدة (حسنات الأبرار سيئات المقرَّبين).
وقد وصل الإمام الحُسين (علیه السلام) إلى كربلائه كربلاء الشَّهادة والفداء مع علو مظاهره العرفانيَّة الجليلة واثقاً من نفسه باللِّسان العرفاني الآخر قائلاً في جملة ما قال:_
تركت الخلق طرَّاً في هواكا *** وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطَّعتني بالحب إرباً *** لما مال الفؤاد إلى سواكا
وقبله أخوه العبَّاس (علیه السلام) أثناء الهجوم على الأعداء:_
لا أرهب الموت إذا الموت رقا *** حتَّى أوارى في المصاليت لقا
نفس لنفس المصطفى الطهر وقا *** إنِّي أنا العبَّاس أغدو بالسقا
ولا أخاف الشَّر يوم الملتقى
وهكذا ابنه علي الأكبر شبيه جدِّه النَّبي (علیه السلام) في جوابه لأبيه حينما قال (يا بني، خفقتُ برأسي خفقة فعنّ لي فارس فقال: القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم، فعلمت أنّها أنفسنا نعيت إلينا) قائلاً (يا أبتلا أراك اللّه سوءاً، ألسنا على الحق؟ قال: "بلى والذي إليه مرجع العباد" قال: "إذاً لا نبالي، نموت محقّين")(1)، والأمثال والنَّظائر كثيرة.
ص: 79
وقد تكون بعض الرَّهبات من النَّبي (صلی الله علیه و آله) والآخرين من المعصومين في آخر حياتهم خوفاً على شيعتهم ومواليهم من الانتهاكات ضدَّهم من حكومات الظلم والجور، لأنَّ وجود النَّبي (صلی الله علیه و آله) والإمام (علیه السلام) بركة وأمان للأمََّة وسوف تأتي غيبة صغرى للإمام الغائب ومن بعدها الكبرى في أزمنة طاغوتيَّة مرعبة كما في أزمنة الأئمَّة السَّابقين أو ما يزيد من شديد حالاتها بالتَّقيَّة ونحوها وتحمُّل الصَّبر، وقد يكون خوف الإمام الحسن (علیه السلام) على ما يجري على الإمام الحُسين(علیه السلام) ومن معه في وقت خال من أخيه ومن سبقه، لأنَّ الحسن (علیه السلام) مكتوب عليه سياسيَّاً المهادنة كما صار في صُلح الحُديبيَّة حتَّى عاجله معاوية (لع) بالسُّم بواسطة زوجنه جعدة، وإن كان ذلك خير تمهيد لنهضة الإمام الحُسين (علیه السلام)، وممَّا اعترا الإمام الحُسين (علیه السلام) أواخر ساعاته في كربلاء بكاؤه على أعداءه لأنَّهم ذووا قلوب ملئت بأدران الجاهليَّة مع قوله لهم (تدخلون النَّار بسببي) لأنَّه ابن بنت نبي الرَّحمة (صلی الله علیه و آله)، والله العالم.
س / هناك من الكتَّاب ك_ (محمد مسعود) من علَّق على مسألة البكاء على الحسين سيِّد الشُّهداء (علیه السلام) بأنَّه يبعث على الضَّعف، قال ما نصُّه:
انظروا إلى أمَّة تبكي على شهيدها، لأنَّها تَحسب الشَّهادة فشلاً وخسراناً وأمراً يبعث على الحزن والأسف، وأمَّة أخرى تبتهج بذكرى شهادة شهيدها، لأنَّها تنظر إليها نظرة اعتزاز وافتخار، وأمَّة تبكي ألف عام على استشهاد شهيدها وتتحرَّق ألماً وأسفاً عليه لابدَّ أن تكون ضعيفة مهزوزة مهزومة.
ص: 80
فما هو ردُّكم على مثل هذا القول؟ وكيف تفهمون البكاء على الحسين (علیه السلام)؟
ج / بسمه تعالی
لو لم يكن هذا الكاتب ممَّن لا يتفاعل مع القضايا الحُسينيَّة المفجعة الَّتي لم يسبقها سابق ولم يلحقها لاحق لأهميَّة الإمام الحُسين (علیه السلام) وقربه العظيم من رسول الله (علیه السلام) في جميع مجالات الثَّورة المحمَّديَّة لصالح الإسلام والإيمان ومحاربة الكفر والشِّرك والوثنيَّة والنِّفاق في كافَّة هذه القضايا العاطفيَّة العقليَّة المعطاء لو أعيدت ذكرياتها كما يُرام حتَّى اليوم كغيره لو توفَّر من كتَّاب اليوم إن أنصفناهم بحملهم على الصحَّة في تركيزهم على خصوص أهميَّة اجتناب تكرار البكاء في نظرهم _ إلاَّ ما خرج بالعاطفة الجيَّاشة اللاإراديَّة به _ لمجاراة العصور الحضاريَّة المفضِّلة للفرح على الأحزان والتَّمظهر بمظاهره _ فبالإمكان العود إذن لهذا البكاء لممارسته في إعادة ذكرياته كبقيَّة الذِّكريات المعادة لبقاء الدَّاعي إليه لضخامة هذا الألم والمستمر حتَّى تباكياً عند كل الموالينولو للمواساة لمقام النَّبي (صلی الله علیه و آله) والوصي (علیه السلام) وسيِّدة النِّساء (علیها السلام) والأئمَّة الباقين (علیهم السلام) ولما أوردناه في الإجابة على أحد الأسئلة الماضية مع ذكر روايات كثيرة حول رجحان البكاء التَّعاطفي الشِّعاري واقتصرنا على جملة ممَّا كان أكثر وأكثر لكونه لم يخرج وإن مرَّت قرون وقرون عديدة على مثيراته الأصيلة عن مصداقيَّة كونه ممَّا يُحيي أمر أهل البيت (علیه السلام) في قول الإمام (علیه السلام) (أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا)(1) ولدواع كثيرة أخرى يعرفها
ص: 81
الموالون _ ثمَّ إنَّه يمكن أن يجعل من مقتضيات إعادة مظاهر الحُزن والبكاء في مواسمها سياسيَّاً للانقضاض على أهل الكفر والنِّفاق بما يُثير الموالين للنُّهوض الشُّجاع الأكثر عن طريقه لتبقى النَّهضة الحُسينيَّة غضَّة جديدة لكي تُسبِّب خمول وخمود أعدائها عن مقاومتها _ أمَّا لو حملناه على عدم التَّفاعل كالكثيرين من النَّواصب والجهلة إذا بدت بوادر ذلك فالأمر ليس بغريب من الأعداء والجواب يكون إذن كما قال تعالى «قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ»(1)، والله العالم.
لماذا عدم التَّأثُّر بالخطابة الحُسينيَّة النَّاجحة
س / قد تقدَّم أنَّ البكاء وحضور المأتم الحسيني يربِّي في نفس الفرد روح التَّضحيةوالفداء ويُنمي فيه روح البطولة والصمود بوجه الظالمين, ما لنا نرى بعض البلدان الشِّيعيَّة كالعراق مثلاً المعروف في مواكبه ومسيراته ومجالسه الَّتي بلغت حدَّاً لا يوصف, حتَّى بلغ عدد المجالس في إحدى محافظات العراق إلى سبعة آلاف مجلس في العشرة الأولى من محرَّم كمحافظة البصرة, وأمَّا عدد الخطباء فقد عُرف خطباء العراق ببلاغتهم وتفرُّدهم بأسلوب الخطابة الحُسينيَّة وتصوير الأحداث العاشورائيَّة، وإلى الآن يحتلُّون قَصب السَّبق في هذا الفن، ومع ذلك فإنَّ هذه الجماهير بقيت ساكتة وصامتة ولم نرَ منها تحرُّكاً اتِّجاه الحكَّام الظالمين في هذه الفترة السَّابقة كحكم الطاغية صدَّام.
ألم تكن تلك المجالس لها تأثير ومفعول في نفوس النَّاس؟ أين ذلك الوعظ وأين هم من ذلك الإرشاد ومن تلك المحاضرات؟
ص: 82
ج / بسمه تعالی
ما قامت القيامة على أعداء الدِّين والمذهب المحاميين عن النَّبي (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطَّاهرين (علیهم السلام) من قديم الزَّمان وأيَّام السَّقيفة ورزيَّة الخميس وما بعد ذلك إلاَّ من حين ثبتت المظلوميَّة لهم والمبكية للثَّائرين وطالبي الثَّأر من شيعتهم وإن بدأت آنذاك في فتور أو تقيَّة توعُّداً منهم بالانتقام والاقتصاص منهم أو من مبادئهم الجاهليَّة على كثرة الأعداء وخذلان النَّاصر في مراحل أخرى، نتيجة لتثقيف هذه القلَّة ومحاولة إماتة خذلان بعض الأنصار الآخرين من الأئمَّة (علیهم السلام) وحواريهم مع أدوار التَّقيَّة المبتلى بها آنذاك وبالأخص بعد لوعة كربلاء وسيِّد الشُّهداء عديمة المثيل والنَّظير في المظلوميَّة المهيِّجة للنُّفوس في البكاء المثير لطلب الأخذ بالثَّأر بأسمى معانيه، كما حصل من ثورات التَّوابين وثورة المختار ومن بعده وإن كان ذلك بنسب محدودة آنذاك.ولكنَّ الله لمَّا نصر الدَّم على السَّيف والدَّمعة الَّتي أخذت بالحيف وشجَّعت على النُّهوض بعقد المجالس والمآتم وبقيَّة الفعَّاليَّات الممكنة بالخفاء ثمَّ بالظهور وقت بدو الحريَّة وصبابة الأمل لإنجاح الثَّورة وبأدوار متفاوتة بين ذلك الخفاء والظهور طيلة العهود الغابرة المشحونة بالمضايقات من قِبل الأعداء وطواغيتهم _ كثر التَّشيُّع وازداد أبناؤه وبمبالغ هائلة ثمَّ كثر بذلك أداء هذه المراسيم كما ورد في السُّؤال ومنها البكاء المجيِّش لجند الله والمثبِّط لعزائم الكفر والنَّواصب عن مقاومة هذه المراسيم لكون الحُسين (علیه السلام) (عَبرة وعِبرة) إلى أن تألقت أنجم القيادات
ص: 83
الإسلاميَّة بادية بالحرب الإعلاميَّة المتنوِّعة فهُزم عن طريق هذا المستعمرون ومن ثمَّ قادة البلدان الإسلاميَّة من أعوانهم.
ولكثرة الجهلاء والجاهليَّين مع كثرة الخطباء والوعَّاظ وأمثالهما قد يحتاج أمر زوال الجهل عنهم حتَّى لو كانوا من الموالين أو المحبِّين أو المهتدين كثيراً وأخيراً إلى فترات وطاقات ليست بالقليلة، ولعلَّ من جملة المعرقلات في نشر الفوائد ورسوخها في الأذهان لدى المحبِّين أو بعض الموالين هو دخول الكثير منهم أخيراً في بعض الأحزاب السِّياسيَّة حتَّى الدِّينيَّة الشِّيعيَّة البعيدة عن التَّأثُّر بالثَّقافات الدِّينيَّة المعمَّقة والملتزمة بالعلمانيَّة، بل إنَّ اندفاعهم لا يزيد عن العاطفيَّات.
والله العالم.
س/ ما حكم البكاء والنِّياحة وإقامة المآتم الحُسينيَّة في حين اعتراض العامَّة ومن يؤيدهم من الآخرين، بحجَّة ما رواه عمر ابن الخطَّاب وابنه عبد الله زعماً منهما أنَّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال ((إنَّ الميِّت يُعذَّب لبكاء أهله عليه))، وفي رواية ((يُعذَّب في قبره بما يُنح عليه)) وفي أخرى ((يُعذَّب ببكاء الحي)) وفي أخرى ((من يبكي عليه يُعذَّب)) وأخرى ((إنَّ المعول عليه يُعذَّب)) وأخرى ((ليُعذَّب ببعض بكاء أهله))(1)؟
ص: 84
ج / بسمه تعالی
هذه الرِّوايات مجعولة موضوعة مدفوعة الثَّمن آنذاك كما عُرف لو قصد منها تحريمه المطلق العام كبتاً للعواطف على الأحبَّاء والأعزَّاء المسلمين والمؤمنين المفجوع بهم أهلوهم وغيرهم مع تفاوت عبائر بعضه عن البعض بما يظهر شيئاً من التَّناقض في بعض الأحوال وخوف الافتضاح من الجهة الأكبر الَّتي ستتَّضح، وهل المعذَّب هو خصوص أهله أم حتَّى الأجانب أو العكس أو الاثنان أم البعض غير المعلوم من الأهل كما في الرِّواية الأخيرة، وإذا لم يكن الميِّت مذنباً فلماذا يُعذَّب ببكاء الحي عليه وقد قال تعالى «وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»(1) كيف إذا كان المبكي عليه معصوماً مظلوماً أو من الأولياء المشهود بحقِّهم أن يًصيبه الذَّنب بسبب بكاء الباكي، وإذا كان المبكي عليه مذنباً فتحصيل حاصل لا ملازمة فيه لأن يسبِّب البكاء عليه زيادة ذنب إضافي عليه لما مرَّ في الآية، ولربَّما يبكيعليه قريبه أو صديقه تألماً على حاله في يوم الحساب، وقد يتسبَّب من هذا البكاء حثِّ الباكي على قضاء ما فات هذا الميِّت من الواجبات أو أن يستغفر له ونحو ذلك، وإذا كان البكاء يُسبِّب على الباكي ذنباً مع كون الميِّت مذنباً فالمطلوب أن يستغفر له بدل البكاء ما عدا البكاء العاطفي اللاإرادي، وإذا كان الميِّت مذنباً وقد أوصى بتنفيذ وصيَّته فالمطلوب على الوصي والنَّاظر ومن بيدهم زمام المبادرة إذا بكوا أن يقوموا أو يتعاونوا على تنفيذها بدل البكاء إن كان البكاء اختياريَّاً ومعرقلاً للوصيَّة وهو ما
ص: 85
قد وردت فيه روايات منبِّهة وأن يُسرعوا في ذلك بناءاً على صحَّة هذه الرِّوايات إن تناسبت لا على تحو الإطلاق والعموم.
ولعلَّ مرجوحيَّة البكاء في بعض هذه الرِّوايات إن صحَّت مع ما روي من روايتنا أنَّه لما ذكرناه من أمر الوصيَّة في غير المعصومين (علیهم السلام) ومن تبعهم من الأولياء والشُّهداء وبقيَّة المؤمنين الأزكياء أمَّا في المعصومين(علیهم السلام) ومن يُلحق بهم فكما ورد عن النَّبي (صلی الله علیه و آله) في أصل الحث على زيارتهم (كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ فَزُوروهَا فَإنَّهَا تُزَهِّد في الدُّنْيَا وُتُذَكِّرُ الآخِرَة)(1) حيث كان نهيه عن زيارتها سابقاً لكون القبور كانت قبور شرك وكفر ووثنيَّة وأمَّا أمره بزيارة القبور بعد ذلك فهي قبور أرحامه الموحِّدين الحنيفيِّين وشُهداء بدر وأحد وما بعدهما للعلَّة الَّتي ذكرها (صلی الله علیه وآله) في حين أن لا يمنع هذا من مصاحبة البكاء العاطفي أو غيره على الميِّت أو على الحي نفسه تذكراً بالآخرة كما سيتَّضح كما فعل ذلك النَّبي (صلی الله علیه و آله) عند زياراته للقبور مع ما ورد كثيراً من روايات زيارات المعصومين (علیهم السلام) واستحباب البكاء على مظلوميَّتهم ممَّا مرَّ ذكره.
ولقوله (صلی الله علیه و آله) لمَّا توفِّي ابنه إبراهيم بعدما بكاه ((إنّ العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول ما يسخط الرب))(2)، وبكى عمَّه حمزة سيِّد الشُّهداء وبكى الحُسين (علیهما السلام) قبل وقت استشهاده في قضيَّة أم سلمة والقارورة الَّتي
ص: 86
فيها تربة كربلاء وقال عن جعفر الطيَّار بعد استشهاده ((على مثل جعفر فلتبك البواكي))(1).
وقد ذكرنا عن مشروعيَّة البكاء على الإمام الحُسين (علیه السلام) ما به الكفاية في جواب سابق فلا داعي للإطالة ومن كُتب الفريقين.
هذا وإنَّه في مقابل ما أورده العامَّة ومن يؤيِّدهم من الآخرين لمحاولة التَّحديد من البكاء على الإمام الحُسين (علیه السلام) ومن معه خوف افتضاح أسلافهم ممَّا ارتكبوه ضدَّ آل البيت الطَّاهر (علیهم السلام) ومن قبله من سبقه من إيذاء أمِّه الزَّهراء (علیها السلام) ومنعها عن البكاء على أبيها وغير ذلك على قاعدة عدم التَّفريق بين وزن المعصومين (علیهم السلام) والشُّهداء والأولياء والعلماء وأمَّا سائر العوام الَّذي قد لا يرجحالبكاء عليهم في نظر الأعداء لو كان اختياريَّاً، بل حتَّى قهريَّاً كما فعلوه ضدَّ الزَّهراء (علیها السلام) بحجَّة ما رواه عمر ومن ناصره من مشايخ السَّلفيَّة ومن تلاهم _
في حين أنَّ الرِّوايات المرويَّة عن عمر وابنه قد استدركت عائشة عليهما لمّا بلغها من مقالتهما، فقالت: "إنّكم تحدثوني عن غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السَّمع يخطئ".
وفي رواية عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: "ذكر عند عائشة قول ابن عمر: الميت يعذّب ببكاء أهله عليه، فقالت: رحم الله أبا عبد الرحمن، سمع شيئاً فلم يحفظه، إنّما مرّت على رسول الله (صلی الله علیه و آله) جنازة
ص: 87
يهودي وهم يبكون عليه، فقال: أنتم تبكون وأنّه ليعذّب"(1).
كما ورد في نفس كتب العامَّة من بكاء عمر وعثمان وعائشة.
فإنَّ عائشة ((بكت على أبيها بعد رحيله وناحت عليه))(2)، وقد مرَّ ذلك في موضوع سابق.وأخرج الترمذي _ وحسَّنه _ عن هانئ مولى عثمان بن عفان قال: كان عثمان إذا وقف على قبر يبكي حتى يُبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتذكر القبر فتبكي؟ فقال: إني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: "القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر (مه)، وإن لم ينج فما بعده أشد". قال: وسمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: "ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفظع منه"، وزاد رَزهين فيه: قال هانئ: وسمعت عثمان ينشد على قبر:
فإن تنجُ منها تنجُ من ذي عظيمةٍ وإلاَّ فإنِّي لا إخالك ناجياً(3)
ص: 88
كذا في التَّرغيب وأخرجه أبو نعيم في الحلية عن هانئ مختصراً.
ومنها: بكاء عمر على خالد بن الوليد عندما مات وامتنعت النِّساء من البكاء عليه، فلما انتهى ذلك إلى عمر، قال: وما على نساء بني المغيرة أن يرقن من دمعهن على أبي سليمان ما لم يكن لغواً ولا لقلقة.
ومنها: بكاؤه على أخيه زيد بن الخطاب، وكان صحبه رجل من بني عدي بن كعب فرجع إلى المدينة فلما رآه عمر دمعت عيناه، وقال: وخلفت زيدا قاضياً وأتيتني(1).
والله العالم.
التَّطبير(2)
س / سماحة السيد المفدَّى
في أربعينيَّة استشهاد الإمام الحسين (علیها السلام) الأولى بعد هزيمة الطَّاغية هدَّام البعثي المجرم خرجت مواكب التَّطبير في كربلاء المقدَّسة ومن عدَّة أماكن وما أن رصدت كاميرات أجهزة الإعلام ما يفعلونه من تطبير ودماء تسيل وضرب السُّيوف حتَّى قاموا بالتَّركيز عليها وتصويرها بالكامل ومن ثمَّ بثِّها أمام المجتمعات الغربيَّة والعربيَّة مع بعض التَّعليقات السَّاخرة كقولهم (الشِّيعة يفتتحون عهدهم الجديد بالِّدماء) أو قولهم (حريَّة
ص: 89
الشِّيعة تبدأ بلون أحمر ودماء مرِّوعة) إلخ من التِّعليقات الَّتي تسبَّبت بهتك سُمعة المذهب أمام العالم وبقيَّة المذاهب والأديان الأخرى وتنفيرها منَّا وكذلك تسبَّبت بالحرج للشِّيعة خارج العراق وخاصَّة أكثر في دول الغرب.
فما هو موقفكم الشَّرعي من هذه الظَّاهرة جزاكم الله خير جزاء المحسنين؟
ج / بسمه تعالی
أوَّلاً: إنَّ استنكار أعداء الدِّين والمذهب لم يكن هو بادئاً من خصوص أعمال الموالين والمحبِّين هذه لسيِّد الشُّهداء (علیه السلام) مواساة أو مفاداة له في مؤشِّرات استعدادهم للتَّضحية بين يدي كل فقيه ناهض مأذون له من الإمام القائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف)عموماً أو خصوصاً إنشاء الله ومعه أتباعه للقضاء على كلِّ طاغوت يزيدي أو عبَّاسي أو الأعم منهما، لأنَّ القوم أبناء القوم _ في يوم الأربعين وبالنَّحو التَّظاهري السِّلمي وللدِّفاع عن حقِّ المظلوميَّة ولو إنسانيَّاً للحريَّة الَّتي أرادها سيِّد الأحرار وكافَّة من معه وإن قلَّت هذه الشَّعيرة فيه أو يوم عاشوراء الدَّم والأصيل.
بل قد استنكروا أصل إعادة ذكرى عاشوراء والأربعين حتَّى لو كانت الفعَّاليَّات فيهما خفيفة وضعيفة ومن غير نفس التَّطبير خوف افتضاح أفاعيل أسلافهم المفضوحة عند عشرات الملايين ومئاتهم على مرِّ العصور وكرِّ الدُّهور ضدَّ النَّبي (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الأطهار (علیهم السلام).
بل استهانوا بأصل نهضة الإمام الحُسين (علیها السلام) الَّتي كانت ضدَّ يزيد وأمويَّته وما لفَّ لفَّها حتَّى تجرَّأ بعض جهلة اليوم إن لم نعبأ بلا دينيتهم بأمثال أقوالهم (إنَّ سيدهم يزيد قتل سيدهم الحُسين) أو قول بعض
ص: 90
أسلافهم(1) (إنَّ الحُسين قُتل بسيف جدِّه).
وبهذا المستوى ممَّا بين البساطة السَّاذجة وبين القذارة الفكريَّة العقائديَّة الحاقدة للأسف وسار في هذا الرُّكب بعض من يُحسب على الحزبيِّين الإسلاميِّين من أغلب الإسلاميِّين ومن أغلب الطَّوائف المسلمة الَّتي منها للأسف بعض متطرِّفينا وبُحجج واهية منها محاولة جمع الكلمة ولوبالبخبخة لأعداء أهل البيت (علیهم السلام) وكأنَّ الله تعالى لم يقل «مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ»(2) وكأنَّه ما ورد (لا يُطاع الله من حيث يُعصى) أو للتَّخفيف عن كاهل أسلاف الأمويِّين ممَّن اغتصب الخلافة الشَّرعيَّة وأزاحها عن مسارها ممَّا افتضحوا فيه وما عرفوا أنَّ سخريَّة أعداء الدِّين ومسلك أهل البيت (علیهم السلام) لم تكن اليوم وببعض مظاهر الشَّعائر المتنوِّعة الحُسينيَّة الَّتي قد يبدو فيها أحياناً كونها قشريَّة في بعض أدوارها وإن لم تكن خالية من النَّفع مع التَّوجيه الشَّرعي بل سبقتها السخريَّة والاستهزاء في جواهر أمور الدِّين وقيمه وكما ورد في كتاب الله كقوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ»(3) وغيره من آيات ذمِّ السَّاخرين والمستهزئين كفَّار
ص: 91
ومنافقين وكما قال أيضاً «لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ»(1) وعن الصَّادق (علیه السلام) عن أبيه عن جدِّه (صلی الله علیه و آله) قال : ((قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) يا أبا الحسن ...... ومن زار قبوركم عدل ذلك له ثواب سبعين حجَّة بعد حجَّة الاسلام، وخرج من ذنوبه حتَّى يرجع من زيارتكم كيوم ولدته أمه ، فأبشر يا علي وبشر أوليائك ومحبيِّك منالنَّعيم وقرَّة العين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولكن حثالة من النَّاس يعيِّرون زوَّار قبوركم بزيارتكم كما تعيَّر الزَّانية بزناها، أولئك شرار أمَّتي لا تنالهم شفاعتي ولا يردُّون حوضي))(2).
وثانياً: إنَّ موقفنا فيما يبدو من السُّؤال من بعض السَّلبيَّات الَّتي لا تنحصر في خصوص التَّطبير المعد في شعيرتيَّه إن رجح أو أكثر داخلاً في عموم واطلاق آية تعظيم الشَّعائر بل قد تحصل حتَّى في أداء أساسيَّات العبادات هو حُرمة كل شيء يؤدِّي في كيفيَّة أداءه إلى عكس ما يُريده الإسلام العزيز والمذهب الشِّيعي الحنيف وبما لا امكان على مقاومة سلبيَّات هذه الأمور تماماً فضلاً عمَّا لو زاد هذا الانعكاس في سلبيَّاته حتَّى لو كان ذلك متِّصلاُ أو بعضه بالشَّعائر الحُسينيَّة الأصيلة، بل حتَّى بعض الواجبات قد تنقلب إلى كونها محرَّمة بالعنوان الثَّانوي كأداء صلاة الفريضة في المكان المغصوب وكحالات ما يُخالف التَّقيَّة في بعض البلدان المخالفة للتَّشيُّع وبالأخص إذا ظهر فيها النُّصب الكثير فضلاً عمَّا إذا
ص: 92
كانت تلك البلاد غير إسلاميَّة وتشتد الحرمة فيما ذكرت من تكثُّر وسائل الإعلام المعادية المتكثِّرة في بقاع العتبات المقدَّسة الَّتي تظهر للعالم الخارجي السَّلبيات لا الإيجابيَّات.
إلاَّ أنَّ هذا التَّحريم الطارئ لم يصل في المشتبهات إلى كونه أصالة يُرجع إليها دوماً ليُقال عندها بأصالة الحرمة لكون أصالة المقام هو الحليَّةعلى ما قُرِّر وحُرِّر في الأصول أو الإباحة وإن حُسب هذا من باب الضَّرر فالمبنى هو قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) إن أمكن التَّحمُّل له، وكذلك ما ورد عن أمير المؤمنين قوله عن صعاب الأمور (وإنَّما هي نفسي أروِّضها بالتَّقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر)(1)، وكذا ما ورد (خير الأمور أحمزها)(2)، ولذلك كان خدَّامه يخرجون السِّهام المرماة في جسمه من الأعداء أثناء صلاته لتحمُّلاته الإرتياضيَّة وإن كان في أثناء صلواته المستحبَّة.
أمَّا لو كان البلد الإسلامي الشِّيعي خالٍ من وسائل الإعلام المضرَّة والإعلاميِّين المعادين وكان الخطباء الموالون يكثرون من الكلام حول فلسفة هذا العمل المذكور وغيره بما يُرضي أو يُقنع وهو ما يُظهر مشروعيَّة تهييج النَّاس للنَّاس من وقع المصيبة الحُسينيَّة في نفوسهم حينما يفعلون ذلك ليهيج الآخرون لصالح الذِّكرى وأحزانها حتَّى يثوروا لإظهار رزء الظلامة العظمى للملايين ما دام العقل والعاطفة المنسجمة
ص: 93
معه والنَّظرة الإنسانيَّة الَّتي لا تنفرهما ضدَّاً لكل طاغوت كان على منهجيَّة من حارب الحُسين (علیها السلام) وأهله وأصحابه، أو ما يظهر أنَّ سفك دماء أولياءنا بهذا النَّحو الفدائي منهم لحماية بيضة الإسلام المحمَّديَّة العلوية الحَسنيَّة الحُسينيَّة ممَّا لابدَّ أن يرخِّص دماءنا في سبيل محاربة الطَّواغيت حتَّى لو نموت للأهداف النَّبيلة دون الرَّخيصة أوالرَّخيصة بمثل شعيرة التَّطبير تعبُّداً بها كما قد يتصوَّر وإن كان على ضالَّته وساماً شريفاً يؤجر عليه صاحبه بحد ما شُرِّع له لو كان لم يوصل العامل له إلى ما يميت أو ما يقرب من الموت مع الالتزام الشَّرعي التَّام لبقيَّة الواجبات مع ترك المحرمَّات أو لم يخرجه عن مشابهته للحجامة المستحبَّة بين الخاصَّة والعامَّة من الرَّأس كما سيتَّضح في أحد الأجوبة المناسبة.
فلا أجد مبرِّراً لمحاربة هذا الأمر في كل صوره حتَّى في وسائل الإعلام المؤتمنة أو لا ضرر من أي إعلام مُعاد لو تضخَّم الأنصار عدداً وعُدَّة إلى حدِّ ما يُذيب قوَّة الأعداء ومناهضتهم لنا، وبالأخص إذا كان في نحو ما يجسِّد الذِّكرى تشبيهاً لما وقع في جبهة الإمام من إدماءها من حَجر (ابن أبي الحتوف الجعفي "لع") وضربات أنس "لع" لرأس الإمام بسيفه، وما أدمت به زينب (علیها السلام) جبهتها حين ضربت برأسها المحمل تحرُّقاً على موضع البلوى العظمى، وكذا ما ورد ممَّا يشابه هذا الأمر من إمامنا زين العابدين (علیه السلام)، وكذا ما جاشت له عواطف أهل البحرين لمَّا لم يبلغوا الفتح عند خروجهم لنصرته(1)، وهكذا جماعة سُليمان ابن صُرد وغيرهم من التَّوابين لمَّا نادوا
ص: 94
بالويل والثُّبور والضَّرب بالحجر والمُدي والسُّيوف وغير ذلك من تلك الأزمنة.
ولذا كان رهط كبير من العلماء لا يتجاوزون على مقام أبي عبد الله الحسين (علیها السلام) في أمر ما يناسب ذكريات نهضته تأريخيَّاًوشعائريَّاً، بل أيَّد ذلك ما شاء الله من عُلماء الفقاهة العظمى مع أمن الضَّرر.
بل أفتى بعضهم بوجوب هذا العمل وكتبوا في ذلك رسائل وفتاوى واضحة، بل مارسوا العمل بأنفسهم كآية الله الشَّيخ المامقاني (رحمة الله) ومُقلِّديه، وهكذا صاحب أسرار الشَّهادة الشَّيخ الدَّربندي (رحمة الله) ولو لم ينفك المعادون من تماديهم في النَّقد والتَّشهير ومعهم بعض الجهلة أو حتَّى المتطرِّفين منَّا ممَّا قد يُزعج فلابدَّ أن يكون الجواب بأنَّ الأمر مرتبط بمرجع التَّقليد المجوِّز والمبيح على الأقل وعدم فسح المجال للَّذين يحاربون أصل القضايا دون أن يحترموا الفقهاء المجتهدين في اجتهادهم إذا قالوا بالإيجاب أو التَّفصيل على وزن الأحكام التَّكليفيَّة تبعاً للأدلَّة المتعلِّقة بكل حكم، والله العالم.
س/ ما هو رأي سماحة السيِّد في التَّطبير على سيِّد الشُّهداء (علیها السلام) في يوم عاشوراء؟؟ الكاتب :: حيدر علي(1)
ج/ بسمه تعالی
التَّطبير هو أحد الأمور الَّتي اتَّخذها جملة من الحُسينيِّين من الشِّيعة المؤمنين وغيرهم تحرُّقاً وتألمُّاً على ما وقع في كربلاء المقدَّسة يوم عاشورا
ص: 95
من أعداء النَّبي (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام) واتَّخذوا هذه الحالة كبديل عن مقاومة الأعداء لمَّا لم يقدروا عليهم وفينفس الوقت كان فيه إحياء لمَّا حصل يوم العاشر من المآسي آنذاك تجاه ما وقع كتجسيد وتمثيل مهيِّج للقلوب وذرف الدُّموع ولجعل المأساة غضَّة جديدة بتكرار مجسَّماتها لمعاني النَّهضة الحُسينيَّة المستمرَّة في عطاءاتها السَّامية ولتكون باقية في تأثيرها جيلاً بعد جيل وبالأخص لو استمرَّ حكَّام الجور والظلم أمثال أتباع يزيد بن معاوية "لعنهما الله" في بلاد المسلمين لمَّا لم يقدر عليهم لنصرة هذه النَّهضة وهذا التَّشبيه المعاد كل سنة وعام هو كإحياء لألم حَجَر أبي الحتوف الجعفي "لعنه الله" لمَّا ضرب الحسين (علیه السلام) به على جبهته المقدَّسة، أو سيف سنان النَّخعي "لعنة الله" لمَّا ضرب الإمام به على رأسه الشَّريف، أو ما أراد أن يصنعه الإمام السجَّاد (علیه السلام) برأسه الشَّريف لمَّا رأى رأس أبيه على رأس رمح طويل في ضربه بالحَجَر تحرُّقاً حينما دخلت زينب (علیها السلام) عليه في خيمته وهو عليل لتقول له بما جرى في تلك السَّاعة من العاشر من تغيُّر الجو واكفهراره بعد ما قال لها ارفعي لي طرف الخيمة ورأى ما رأى وقال لها ناوليني حَجَراً لأضرب رأسي هذا رأس أبي على رأس رمح طويل، وما صنعته زينب (علیها السلام) من ضرب رأسها بالمحمل تحرُّقاً وتألُّماً بهذا المصاب الجلل.
فهو بذلك وبأمثاله ممَّا لا ضير فيه ما لم يتخلَّله حرام كما لو أدَّى إلى الانتحار أو النَّزف الممرض أو من دون أداء فريضة من الفرائض أو مخالفة للتَّقيَّة أو ما به مساعدة لبعض الصَّحفيين من أعداء الدِّين والمذهب للقضية بما يُشهِّر بواقعها بما لا يناسب جوهرها الواقعي، والله العالم.
ص: 96
س / ما هو رأي سماحتكم في شعيرة التَّطبير؟الكاتب :: أبو محمد البحراني
ج/ بسمه تعالی
التَّطبير من الشَّعائر المباحة أو الرَّاجحة في بابها والمحرَّمة في بابها أيضاً بما لا تناقض فيما بين الجميع، ويختلف الحكم فيها باختلاف الأهداف ونبلها اتِّجاه النَّهضة الحسينيَّة وعدمه، وفيما لو انضمَّ إليها محرَّم أو لا، وفيما لو كانت تقام في موقع مناسب أو لا، وقد فصَّلنا ذلك في جوابنا على سؤال وردنا حول ذلك من قبل فراجعه.
وإنَّ نوع العلماء المهمِّين قديماً وحديثاً إن لم يصدر منهم ما يجوِّز ذلك أو يرِّجحه لا يجوز أن يتكلَّم ضدَّه على الأقل لا سلباً ولا إيجاباً لقدسيَّة أصل الذِّكرى، ومن أجازه أو رجَّحه من الآخرين المدقِّقين وجد له مجالاً فألحقه في باب تعظيم الشَّعائر بشروط خاصَّة كأداء الفرائض وعدم إزهاق النَّفس أو إيصال هذا العمل إلى حدِّ الإضرار غير المتحمَّل عادة, والله العالم.
ص: 97
رسالة من زائر اسمه محمد علي(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
سماحة السيد علاء الدين الموسوي الغريفي (دام ظله)
س 1/باعتباركم أحد من درس عند السيد الخوئي (رحمة الله) نريد أن نعرف من جنابكم رأي السيد الخوئي (رحمة الله) في شعيرة التَّطبير؟
ج / بسمه تعالی
رأي السيد الأستاذ (رحمة الله) على الظاهر من مجموع ما عُرف عنه أنَّه كان يرى أهميَّة تعظيم الشَّعائر الحُسينيَّة مطلقاً بإطلاق أدلَّته من مثل آية التَّعظيم وملحقاتها ومن ذلكُ التَّعظيم التَّعظيم لكلِّ ما يمت بالقضيَّة الحُسينيَّة في نظر المفجوعين بها قديماً وحديثاً حتَّى على مبدئيَّة ما تفرضه الفطرة والعاطفة المعقولة، سواء كانت شعيرته عالية النِّسبة في ذلك أم لا ما لم يزامن ذلك تسبيبه ما يحرم فعله ومن ذلك كون المشارك في عمليَّة التَّطبير يترك صلاة الصُّبح بسببه أو يطبِّر في المكان الَّذي لا يجوز إيصال الدِّماء إليه كالمسجد أو حرم المقام المُقدَّس أو تلويث المتطهِّرين للعبادة أو يُطبِّر في المكان الَّذي يجر الويلات الاجتماعيَّة أمام الأعداء أو أمام
ص: 98
الإعلاميِّين المعادين أو يصل الضرب إلى حدِّ إزهاق النَّفس أو أن تصيبه عاهة تضرُّه حين ذلك الفعل منه أو كونه عن الجزع الَّذي لم يسمح به الشَّارع المقدَّس لانقسام الجزع إلى حرام وغيره أو من دون أن يعرف مناسبة هذه الشَّعيرة لقضايا الذِّكرى العظيمة من حيث المقدار والكيفيَّة والهدف لعدم امكان قصد القربة بسبب ذلك الارتباك لئلاَّ يكون العمل عبثيَّاً وإن كان هذا المعنى الأخير من مصاديق الإباحة لانقسام المباح إلى ما قد يتم به وصوله إلى مصداق حالة تعظيم الشَّعائر ولو بعد حين وإلى ما لا يتم خوف التَّورط في الوقوع في العبثيَّة المذمومة أو على الأقل حالة حصول الشَّك في مصداقيَّة كون مثل هذه الأمور هل هي مناسبة أو لا.
فهو (رحمة الله) كغيره من المراجع الَّذين لو لم يُصرِّحوا برجحان هذه الشَّعيرة شخصيَّاً قد يسكتون عن الكلام ضدَّ ها لو لم يبرز ما يمنع عنها حتَّى في باب الكراهة وأن لم ينطقوا بالقيام بها لأنَّ كل مكروه جائز فكان كالإقرار بها، فيما لم يتيسَّر لهم ما يجوِّز ردَّها أو يُبيِّنه بوضوح احتراماً لأساس أهميَّة كل ما تُعظَّم به الشَّعائر ولو بالعنوان الثَّانوي إلاَّ إذا منع عن هذه الشَّعيرة مانع واضح ممَّا مرَّ ذكره، وقد أحصى المتتبِّعون مئات من الفتاوى الإيجابيَّة لصالح عموم الشَّعائر الحُسنيَّة استحباباً بل وجوباً في بعضها ولأزمنة قديمة جدَّاً ومتوسِّطة وحديثة وقد اطَّلعت على الكثير منها، والله العالم.
ص: 99
س 2/ ما صحَّة رواية نطح السيِّدة زينب (علیها السلام) رأسها بمقدَّم المحمل، هل هي ثابتة وصحيحة عندكم؟ أفيدونا مأجورين
ج / بسمه تعالی
لا مانع من الأخذ بها على حدِّ ما ورد في ذلك من الرِّواية على ما جاء عن مسلم الجصَّاص ولو في رواية مرسلة، فقد اعتمد عليها الشَّيخ المجلسي (رحمة الله) والشَّيخ الطِّريحي (رحمة الله) في منتخبه وبعض العلماء ممَّا قد يقوِّي سندها(1)، أو أن يُكتفى بما يمكن التَّسامح فيه من الأدلَّة الَّتي هي في موارد السُّنن، ولإظهار ألمها (علیها السلام) في مصاب عاشوراء الجلل، وكثيراً ما صُحِّحت الأسانيد بالمتون ولو من الوجهة العاطفيَّة الشَّريفة، ومن مثل مقام العقيلة زينب الَّتي ورد في حقِّها من الإمام (علیه السلام) (أنت بحمد الله عالمة غير معلمة وفَهِمة غير مفهّمة)(2)، ولذلك ولأمثاله كان لها أن تجتهد فتُبيح لنفسها الشَّريفة ما أثار فيها هذه العاطفة الجيَّاشة حينما رأت رأس ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) على الرُّمح في الكوفة وفي وقت لم يكن مثل يوم عاشوراء لكونه يوم توصية الإمام الشَّهيد (علیه السلام) لها بضبط نفسها يوم تكفل
ص: 100
العيال والأطفال وإمامها العليل السجَّاد (علیه السلام).
وقد صحَّح شيخ الشَّريعة الأصفهاني (رحمة الله) هذه الرِّواية بالرَّغم من إرسالها كذلك بعد ما استبعدها البعض قائلاً إنَّه:_
(لا استبعاد فيه إلاَّ من جهة ظهور الجزع منها وإيلام نفسها والإيلام الغير المؤدِّي إلى الهلاك لا دليل على عدم جوازه والجزع مندوب إليه ومرغَّب فيه في كثير من الأخبار)، قال الخطيب البارع الشَّيخ هادي الكربلائي على ما مرَّ من الدَّواعي:_
نشج منا أرؤساً بالمدى *** لرزء سبط المصطفى المرسل
حلَّ لنا من اخته زينب *** مذ رأسها شجَّته بالمحمل
وغيره لشعراء آخرين.
كل ذلك للشَّج الَّذي يريحها (علیها السلام) عاطفيَّاً من ألم مصائبها العظمى، ولأجل أن تواسيها الأجيال المؤمنة في مصابها من الآلام بما يتلائم وعاطفيَّاتهم وإن لم تكن المواساة بمثل تلك الحالة المأساويَّة، ولعقد الآمال في الانقضاض على الطَّواغيت والظَّلمة في المستقبل بما يتلائم ونماذج المقاومة المقدور عليها ولو بمثل غسل أدمغة الجهلاء من لوثات الجهل بمقام الإمام الشَّهيد (علیه السلام) وقضيَّته وعظاً وإرشاداً وتكثير أنصاره والملبِّين لنداءه بهذا وأمثاله حينما نادى (أما من مغيثيُغيثنا أما من ذابِّ يذب عنَّا).
لأهميَّة التَّلبية بل لوجوبها وإن وصلنا نداؤه الشَّريف في زماننا هذا متأخرِّاً لقول الأئمَّة (علیهما السلام) من أبناءه (من سمع واعيتنا ولم يُجبنا أكبَّه الله
ص: 101
على منخريه في النَّار)(1) لأهميَّة التَّهيؤ بهذا وأمثاله لنصرة صاحب الأمر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) الطَّالب بالثَّأر الكامل.
ولذلك ورد في الزِّيارة المخصوصة للإمام (علیه السلام) بعد ذلك وهو قدوتنا (لَبَّيْكَ داعِيَ اللهِ اِنْ كانَ لَمْ يُجِبْكَ بَدَني عِنْدَ اسْتِغاثَتِكَ وَلِساني عِنْدَ اسْتِنْصارِكَ، فَقَدْ اَجابَكَ قَلْبي وَسَمْعي وَبَصَرَي) وما هذه الإجابة من الإمام الزَّائر (علیه السلام) إلاَّ ما يتناسب مع الظرف المتأخِّر من أنواع الشَّعائر المثيرة للأشجان والمجدِّدة للأحزان بكاءاً ولطماً ولبساً للسَّواد وإقامة لمجالس العزاء وقراءة لأشعار المناسبة وغيره من الفعَّاليَّات، ولذلك كان الأئمَّة (علیهم السلام) من أبناء الشَّهيد (علیه السلام) وأحفاده يحثُّون شيعتهم ومُحبيهم على كل ما يُعبِّر به قولاً وفعلاً يقوم به فاقدوا أعزِّ الأعزَّاء ثالث الأئمَّة وسيِّد الشُّهداء (علیه السلام).
وإن قيل افتراضاً إضافيَّاً بعدم إمكان قبول هذه الرِّواية، لأنَّ الإمام (علیهما السلام) كان قد أوصاها قبل استشهاده كما أشرنا بأن لا تشقَّ عليه جيباً ولا تخمش وجهاً ولا تدعو بالويل والثَّبور، وهذا العمل منافٍ للوصيَّة؟فنقول كما أشرنا آنفاً: إنَّ هذه الوصيَّة لم يذكر فيها نطح الرأس بالمحمل وأنَّها (علیها السلام) وإن كانت معصومة بالعصمة الصُّغرى ولكن لا تتنافى مع العواطف المحزنة الجيَّاشة اللاإراديَّة في مثل تلك السَّاعات العصيبة الَّتي تهشِّم الصَّخر الأصم وإن كانت الوصيَّة بالجَلَد لحفظ العيال جميعاً يوم العاشر وليلة الحادي عشر فليس بمانع من حصول ذلك وقت الرَّحيل إلى
ص: 102
الشَّام من الكوفة، ولا يمكن أن تفسَّر هذه الحالة بالجزع المحرَّم إلاَّ في مثل غير زينب (علیها السلام) وغير هذه الذِّكرى العظيمة، بل كان حال رؤيتها (علیها السلام) ومشاهدتها لرأس أخيها "سلام الله عليه" في يوم الرَّحيل في الكوفة محمولاً على رأس رمح طويل فنطحت رأسها بالمحمل تحرُّقاً وبمعيَّة غير بعيدة عن إمام زمانها السجَّاد (علیه السلام) ولو كان في ذلك سلبيَّة لردعها، ولذلك فلا مانع، والله العالم.
س3/ يعتبر (ضرب الرَّأس) بالسَّيف من الشَّعائر الحسينيَّة الَّتي طالما أحياها عشَّاق ومحبُّوا الحسين (علیهما السلام)ولكن في الفترات الأخيرة خرجت أصوات تندِّد وتشكِّك في عليَّة هذه الشَّعائر ممَّا سبَّب حيرة وانقسام النَّاس بين معارض ومؤيِّد في رأي الشَّارع في هذا؟ حتَّى تمسَّك بعض بأنَّه من نوع الجزع؟
ج/ بسمه تعالی
لا مانع من كل ما يتعلَّق بالأمور الحسينيَّة ويمت به بصلة دينية من قريب أو بعيد إذا كانت ممَّا يحسب للذِّكرى الحزينة الَّتي لابدَّ وأن تكون خالدة إلى أن يثور ثائر الحسين (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ما لم توصل إلى الهلكة وتلف الحياة أو خلق بدع لا أصل لها فيما يتناسب وألم الذِّكرى ومضاعفاتها في نفوس العاطفيِّين المرتبطين بالعلماء الفقهاء في التزاماتهم.
وأمَّا الأصوات في الشَّارع في مقابل ما يُعظَّم به الشَّعائر الحقيقيَّة فما هي إلاَّ من أحقاد طائفيَّة ومعادية للحسين (علیه السلام) وذكراه بكل أبعادها أو ما هو سائر في طريق المعاداة ولو من أفواه ظاهرها غير معادية أو أنَّها قد
ص: 103
يصبّها بعض القريبين منا مذهبيَّاً بقالب من التقيَّة.
وينبغي لهذا الأخير ان يتأمَّل فيما يقول لئلاَّ يتجاوز عن الحد المقبول لئلاَّ يتشبَّه بسيرة أنصار عيد الظفر الَّذين كل منهم وللأسف أصبح يصول ويجول، والعاقبة للمتقين.
س4/ هل الشَّعائر الحسينيَّة بوجه عام والتَّطبير بوجه خاص يسبِّب وهناً للمذهب في هذا العصر؟
ج / بسمه تعالی
ربَّما يُسبِّب الوهن إذا خالف التَّقيَّة الواجب اتِّباعها وكان نفعه قليلاً وضرره كثيراً إلاَّ ما كان مقبولاُ من الشَّعائر أو مسكوتاً عنه عند كافَّة المذاهب مع المألوف عند أنصار أهل البيت (علیهم السلام)دون أعداء الجميع من الوهابيَّة وأهل الكفر من حلفاءهم فلا وهن فيها، بل يرجح تطبيق عموم أولئك المسلمين وغيرهم مع المقدرة وعدم وجود المخاطر لئلاَّ تدخل المقبولة منها أو يَقل خطر إقامتها في مداخل محرجات التَّقيَّة ككون التَّقيَّة ضرورة لا تُقدَّر إلاَّ بقدرها، والله العالم.س5/ هل يجوز التَّطبير للصغار؟
ج/ بسمه تعالی
إذا ثبت عموم وإطلاق الرُّجحان في نظر المجتهد مرجع التَّقليد لغرض التَّشجيع ولو بما هو المسمَّى من ذلك فلا مانع، ونحن لا نمنع منه إن ثبت المقتضي وارتفع المانع، والله العالم.
ص: 104
س6/ هل تؤيدون فتوى أستاذ الفقهاء والمجتهدين آية الله العظمى الشَّيخ النَّائيني (رحمة الله) في جواز ورجحان الشَّعائر الحسينيَّة؟
وهل تؤيدون فتوى مؤسس الحوزة العلميَّة في قم المقدَّسة آية الله العظمى الشَّيخ عبد الكريم الحائري (رحمة الله) في جواز التَّطبير في العزاء، كما ورد في رسالته الفارسيَّة؟
ج/ بسمه تعالی
ما قاله العَلَمان ومن سبقهما ومن لحق بهما من الكثيرين من فتاواهم الإيجابيَّة عن الأدلَّة المساوية لاجتهادهما المعلوم بين الجميع هو في محلِّه ومن أهله ولأنَّه من بعض الجهات ضدَّ النَّواصب والوهابيَّة لأنَّ (الرُّشد في خلافهم)(1) كما عنهم (علیهم السلام)ما لم يصل الأمر إلى ما قد نهى عنه هذان العَظيمان من مصاديق التَّحريم أو عدم الرُّجحان، والله العالم.
س7/ ما هو رأيكم بمن ينصب أماكن التَّبرُّع بالدَّم صدَّاً عن بعض الشَّعائرالحسينيَّة؟ وهل التَّبرُّع بالدَّم يندرج في ضمن الشَّعائر الحسينيَّة؟
ج/ بسمه تعالی
إذا كان الصَّد بالنَّحو العِدائي _ من قِبل النَّواصب والوهابيَّة ومن يَتحرَّك من قِبلهم جبناً وطمعاً أو عِداءاً حزبيَّاً وإن حسبوا من أحبَّاء الأئمَّة (علیهم السلام) بما يستحسنوه ويقيسوه بعقولهم لا باتِّباع ما يقوله أهل الرشد العميق من فقهاء الأمَّة استنباطاً من الأدلَّة الشَّرعيَّة _ فلا يجوز تأييدهم في ذلك، وبالأخص لو كان سحب الدَّم لا ينتفع منه إلاَّ النَّواصب ومن
ص: 105
يحذو حذوهم من الآخرين.
أمَّا إذا كان سحب الدَّم للتَّبرُّع به بعيداً عن الصَّد المذكور بل كان من التَّرويج على التَّطبير الشَّعائري الجائز في أدلَّته الصَّحيحة ولغرض إفادة المؤمنين المحتاجين إلى الدَّم وباسم الإمام الحسين (علیه السلام) فلا مانع منه، والله العالم.
س8/ هل من يفتي بحرمة بعض الشَّعائر الحسينيَّة بوجه عام والتَّطبير بوجه خاص ساقط العدالة؟ أفيدونا مأجورين(1).
ج/ بسمه تعالی
كل من يُفتي من العوام وإن كان من الأفاضل أو من يُقال بأنَّه من المجتهدين _ ضدَّ الشَّعائر الحُسينيَّة ككل _ قياساً او استحساناً وتزلُّفاً لأعداءأهل البيت (علیهم السلام)وبما لا يصل إلى حدِّ العناوين الثانويَّة كالتَّقيَّة للضَّرورة إليها، أو لأنَّه من الحزبيِّين أو السِّياسيِّين الَّذين تُسبِّب تدخُّلاتهم السِّياسيَّة ضعفه في الدِّين فإنَّه ممَّا يُسبِّب ذلك فقده للعدالة، والله العالم.
س/ استفتاء موضوعه الاعتداء على محيي الشَّعائر الحسينيَّة
في شهر محرَّم من عام 1431ه_ قام ثلَّة من المؤمنين في قريتي (سند والدِّراز) البحرانيتين بإخراج موكب للتَّطبير اعتماداً على رأي المراجع العظام المجيزين لهذه الشَّعيرة المقدَّسة، ولكن للأسف فقد هوجم هذان الموكبان من مجموعة من السذَّج
ص: 106
بالشَّتم والضرب بالأحجار وغيرها صداً منهم عن هذه الشَّعيرة المقدَّسة.
سيدنا الكريم: العجيب أنَّ هؤلاء المطبِّرين لم يستطيعوا التَّحرر من أيدي المعتدين عليهم إلاَّ بحضور (قوات مكافحة الشَّغب) !!! ، انظروا إلى أين وصل بنا الحال، حتى تأتي قوات الدَّولة النَّاصبيَّة لتحرُّر أبنائنا المعزين لله ولرسوله صلی الله علیه و آله وفاطمة وعلي (علیهما السلام) بقتل سيد الشهداء (علیه السلام) روحي فداه!!
سيدنا الكريم: ألا يحق لنا نحن المطبِّرون أن ندافع عن أنفسنا من هجمات هؤلاء السذَّج المحاربين للشَّعائر الحسينيَّة؟
ألا يحق لنا أن نضربهم كما ضربونا من باب «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليهم بمثل ما اعتدوا عليكم»؟
ما هي نصيحتكم لهؤلاء السذَّج ولمن يقوم بتحريضهم وتهييجهم على ضرب إخوانهم المؤمنين؟
وما هي كلمتكم لأبنائكم المطبِّرين لإحياء هذه الشَّعيرة في كل عام وحتَّى لو ضربوا وقتلوا؟
أفيدونا مأجورين.ج/ بسمه تعالی
لا يجوز الاعتداء في مطلق وعموم الأمر، ولذا جاء حق القصاص لعموم واطلاق قوله تعالى «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ»(1)، ولكن جاء الحث على العفو لقوله تعالى «وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ
ص: 107
غَفُورٌ رَّحِيمٌ»(1) بل وقوله تعالى «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ»(2) وبالأخص فيما بين أهل الجلدة الواحدة والمظهر التَّشيعي الواحد وإن لم يُحرز في المعتدى سلامة المخبر للحاجة الماسَّة إلى التَّكاتف ولو ظاهريَّاً لفسح المجال للتَّفاعل الَّذي قد يحرج المعتدي لأن ينصاع ضدَّ العدو المشترك وهو الحاكم النَّاصبي وإن كان القرب من الظالم مخلِّصاً في الجملة ولكنَّه ركون محرَّم إليه كما لا يخفى حتَّى لو مسُّوا بعواطف المؤمنين الحُسينيَّة وقَبِل الظَّالم بها فإنَّ قبول الظَّالم بها مؤقَّت حتماً لكسب الأصدقاء ضدَّ جميع الشَّعب المحب والموالي، ولأنَّ بعض الشَّعائر في حقيقتها لا يزيد على كونها مستحبَّة كالتَّطبير.
فالمأمول من الجميع سحق العدو المشترك واللجوء إلى علماء القضيَّة الحسينيَّة المشتركة بين الجميع لحرمة الرُّكون إلى الظَّالم، والله العالم.س/ ما هو رأيكم الشَّريف في التَّطبير؟ وهل هو جائز شرعاً؟
بتاريخ 12-12-2008
ج / بسمه تعالی
التَّطبير شعيرة حسينيَّة لها موقعها العاطفي المهم للمتحرِّقين الثَّائرين للقضيَّة الحُسينيَّة لو لم يقدروا على المشاركة في مقاومة أعداء الحُسين (علیهما السلام) آنذاك، إذ له معانيه إمَّا لإرائة أعداء اليوم أو غير المتفاعلين مع ذكرى
ص: 108
الطفوف ومآسيها الدَّمويَّة وظلامة سبي بيت الرِّسالة المحمَّدية والعلويَّة من غيرهم بأنَّنا مع الفاجعة إلى حدِّ الدَّم فداء وتضحية عند اقتضاء الحاجة المعاصرة إلى الجهاد.
نعم قد تكون محرَّمة إذا كان الإنسان متهاوناً بواجباته الشَّرعيَّة كصلاة الفجر في وقت التَّطبير وبسببه أو كان مؤدِّياً للضَّرر كقتل النَّفس أو إضعاف البدن بما يخيف أو كان أمام الأعداء الَّذين يشنِّعون على أنصار الحُسين (علیهما السلام)بما لم يكن واقعيَّاً وفي الأماكن غير اللائقة فيجب أن تترك، وقد تكون مسكوتاً عنها إذا لم يُعلم المرجِّح أو المرجوحيَّة، والله العالم.
س / يدّعي البعض أنّ التَّطبير عادة دخيلة على المذهب، وقد رفضها العلماء الأعلام، والَّذي لم يرفضها سكت خوفاً من إهانة العوام، فما هو رأيكم الشَّريف في ذلك؟
ج / بسمه تعالی
لو أبتلي أي إنسان في العالم الإسلامي وغيره بكارثة أو فقد عزيزاً فضلاً عن قائد لأمَّته أو ما هو أعلى لا يرتجى أي خير ولا يدفع أي شر إلاَّ بمفاداته بكل غال ونفيس ولو بعد انقضاء حدث ذلك الابتلاء _ لابدَّ وأن يُعزَّز ذلك نوعاً من نوعاً بالجزع لا إراديَّاً حسب العادة والمبرَّر بعِظم الفاجعة وكذا الخروج عن كل طور يُهيج الأحزان في الآخرين لو لم يصل إلى ما يحرِّمه الله وشرعه حينما لم يقدر ذلك الإنسان على المشاركة في مناصرته بمقدار أصل القضية ونوعيَّتها أو شخصيتها ولو ليدوم ذلك وكأنَّ ذلك الحدث بإعادة ذكراه حدث غض جديد في كل ما يُحدِّد لذلك الحدث من التِّكرار كيف
ص: 109
وقضيَّة القضايا العالميَّة الإسلاميَّة الَّتي ملأت العالم كلِّه مسلمين وغيرهم بما تآلف على إجراء فعَّاليَّات ما يتناسب والحدث أكثر العاطفيِّين المدركين لألم الكارثة الإنسانيَّة والمثيرين للشُّجون حتَّى لو كان بإخراج شيء من رمز الدَّم الَّذي لم تمر عليه عوارض المنع الشَّرعي وهكذا غيره من الفعَّاليَّات الَّتي لم يستنكرها الشِّيعي والسنِّي وغير المسلم ولم يرفضها العلماء رفض ما يشيعه الأعداء كما يُتوهَّم، وإنَّما ما وصل إلى المحرَّم الصَّريح إلاَّ في شِدَّة الفعل أو مصاحبته للمحرَّم بترك واجب ونحوه ممَّا ذكرناه في أكثر من موقع ولم يسكت عنه بعض العلماء عند احتمال وقوع ما قد يَحرم من ملتزميه إلاَّ لاحترام أصله ولو لرجحانه بعنوانه الثَّانوي إشفاقاً منهم على ما يرجوه الملتزم به بحيث لو شجَّعوا عليه بالنَّحو المطلق لتساهلوا كثيراً في أمره، بل إنَّ كثيراً من العلماء الأعاظم القدامى جوَّزوه بل شجَّعوا عليه بالقيود المحدَّدة، وكل مسلم ومؤمن تعقَّل فتوى مرجعه بالجواز لا مانع من إتيانه بما أبيح له من ذلك في الحدود المجوِّزة فكما قالتعالى «لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ»(1) وقد ورد في خطاب الإمام الحجَّة "عج" لجدِّه الإمام الحسين (علیهما السلام) في زيارة النَّاحية (فلأندبنَّك صباحاً ومساءاً ولأبكينَّ عليك بدل الدموع دماً)(2)، والاحتياط سبيل النَّجاة في مواضع الشُّبهات، والله العالم.
ص: 110
س / ما هو حكم التَّطبير في زماننا هذا، حيث لا يمكن تفهيمه للمخالفين في المذهب أو الدِّيانة، من جهة عدم قابليّتهم لإدراك أهداف أهل العزاء والمصيبة من هذا العمل، بحيث أصبح التطبير حاليّاً مورداً للتُّهمة والافتراء على الشِّيعة ووهناً على المذهب، حتّى أنّ بعض أعداء المذهب الإمامي قد قام بتوزيع أشرطة فيديو وصور للمطبِّرين، وأنشأوا بعض المواقع على شبكة الانترنت لعرض صور للمطبّرين بهدف تشويه المذهب الإمامي؟
ج/ بسمه تعالی
التَّطبير كبقيَّة ما يُجريه المسلمون والمؤمنون يوم العاشر من مظاهر التَّحرُّق والتَّألُّم حزناً على مصاب سيِّد الشُّهداء (علیه السلام) ومن معه في كربلاء من اللَّطم والضَّرب بالزنجيل أو السَّلاسل لأصالة الحليَّة لو لم يمنع عنه مانع يكون ضرره أكثر من نفعه أو يكون مضرَّاً غير نافع أو ترتفع عنه الإباحة حينما لا تضمُّه العمومات والإطلاقات المحقِّقة لتعظيم الشَّعائر مكاناً وزماناً وللموانع الاجتماعيَّة ولذلك فهو ممَّا تنطبق عليه كافَّة الأحكام المحلِّلة لا المحرَّمة.
وأمَّا الأعداء فلابدَّ من أن نجعلهم في معزل عن قضايا أنصار أهل البيت (علیهم السلام) من الشِّيعة وبقيَّة المذاهب وبعض غير المسلمين المتعاطفين، لأنَّ (الرُّشد في خلافهم)، وإنَّ محاربتهم لهذه الأمور لم يكونوا مقتصرين عليها حسب، بل لو تمكَّنوا لحاربوا أعز الأمور من قضايانا وهم نفس أهل البيت (علیهم السلام)ومقاماتهم وكما قال تعالى «يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللَّهِ
ص: 111
بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»(1)، وهذه نواياهم السَّوداء تمتد وأنَّهم يريدون بها تهديم قبر النَّبي (صلی الله علیه و آله) كما فعلوا في البقيع وغيره وفي العراق وغيره، والله المنتقم من أعداءه، والله العالم.
س / أنا دكتور مختصّ ولقد اطّلعت على فتوى العلماء بخصوص التَّطبير وجوازه ما دام لا يؤدّي إلى الهلاك، ونحن نعلم وإيّاكم أنّ الكثير من أمراض العصر ممّا ينتقل عن طريق الملامسة والدم، ومنها أمراض توجب الهلاك الحتمي، كمرض الإيدز أو مرض التهاب الكبد الوبائي، وبما أنّ المطبّرين يكونون قريبين من بعضهم البعض، وربّما تطايرت الدِّماء من بعضهم وسقطت على الآخرين، فتؤدّي إلى نقل العدوى لهم ولو كانت بكميّات قليلة وغير مرئيّة، فما هو رأي سماحتكم بهذا الخصوص؟
ج/ بسمه تعالی
نحن ما جوَّزناه في محلِّه وجوَّزنا أمثاله كضرب الظَّهر بالسَّلاسل وضرب الصَّدر حتَّى لو أدميا ممَّا سبق شرعاً من حيث المبدأ وكمن جوَّز ذلك من فقهاء الأمَّة قديماً وحديثاً في مورد الشَّك إلاَّ بأصالة الإباحة الحكميَّة ونحو ذلك من الأدلَّة المتعدِّدة المذكورة في بعض أجوبتنا الماضية على بعض الأسئلة الواردة من أصحابها.ولمَّا كنَّا نتورَّع في اطلاق كلمة الجواز في هذا الأمر وأمثاله كذلك حتَّى
ص: 112
لو بنيناه على هذه الأصالة لاحقاً لوجود بعض الطَّوارئ المخالفة لها نتيجة لاختلاف تصرُّفات النَّاس بين ما يُباح وبين ما قد لا يُباح _ جعلناه أيضاً بعد اتِّضاح أمره قبل وضوح المضرَّات منه من تلك التَّصرُّفات لتقوية الإباحة مع إمكانها من مصاديق عموم واطلاق ما تُعظَّم به الشَّعائر على ما أظهرته آيتها وكما ينبغي، إضافة إلى كونه من مصاديق ما تثور لأجله عواطف المحبِّين والموالين الجيَّاشة دمويَّاُ فطريَّاً أو لا إراديَّاً ممَّا قد يُبرر له من باب أولى بمثل البكاء والنَّحيب والضَّرب على الوجه والصَّدر وإن لم يطقه الأعداء في أمر ذكرى الإمام (علیه السلام) وإن طبَّقوه لأنفسهم في فجائعهم الخاصَّة لورود الرِّوايات المجوِّزة للجزع على الإمام الشَّهيد (علیهما السلام)دون أن يصاحب ذلك اعتراض على الله تعالى في مقاديره، بل جعل غير الاعتراضي مكروهاً إلاَّ على الإمام الحُسين (علیه السلام)، وكما ورد عن النَّبي صلی الله علیه و آله قوله ((إنَّ لقتل ولدي الحسين في قلوب المؤمنين لحرقة لن تبرد أبداً))(1) وغير ذلك من الأدلَّة المجوِّزة للَّذين لم يوفَّقوا لإدراك الفتح المبين مع الإمام الشَّهيد (علیه السلام) ولكنَّهم اليوم وفِّقوا أيَّام عودة النَّصر الإسلامي المحمَّدي العلوي والفاطمي والحسني بانتصار الدَّم على السَّيف أيَّام كثرة الشِّيعة والموالين بلا رادع يردعهم، وأولاد الحُسين (علیه السلام) من الأئمَّة (علیهم السلام) بين معاصرين لهم ولم يُنكروا عليهم أو سمعوا أخبارهم المروِّجة لكل ما يتناسب مع ما يطابق التَّلبيات بعدهم كأزمتنا هذه، ولا تقيَّة أيضاً تمنعهم عن هذا المقدار من المواساة ولو بهذا المسمَّى اليسير منها
ص: 113
إلاَّ إذا فتح الله للأمَّة فتخ الآخذ الأقوم بالثَّأر بدولة آل محمَّد (صلی الله علیه و آله) القادمة للانضواء تحت لواء الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) الآخذ به ومع ذلك كلِّه في ذلك معنى إخافة الأعداء إن لم يهتدوا وبما يُحكي عبارة (نحن جاهزون للفداء في سبيل الإمام (علیهما السلام)) أو لتنبيه الأعداء بأن يبتعدوا غير مزاحمين للمسيرة الثَّائرة على الطَّواغيت المشابهين لقتلة الإمام (علیه السلام).
ولكن في نفس الوقت وإن كنَّا لم نتعرَّض إلى ما به التَّضرُّر من ذلك فلا يعني أن لا نعتني به إذا أضرَّ بما كان ممنوعاً شرعاً، بل جعلنا له مورده الخاص في الكلام عنه بالنُّصح بترك ما يضر فلم نرتض بكل ما يؤدِّي إلى الضَّرر قليله أو كثيره ممَّا ذكر ممَّا لم يُتحمَّل في السُّؤال الصحي وغيره إن اتَّضح صدقه بحق، سواء على نفس الإنسان أو على الآخرين أو على الموقع الَّذي يجب الحفاظ على طهارته كالمسجد أو ما يُلحق به كالمعد للمصلِّين أو على البيئة بما ينشر الأمراض.
إلاَّ أنَّه لا يحق محاولة المراوغة من وراء السؤال وإن لم يقصده السَّائل بالكذب باسم الصحَّة والواقع شيء آخر لمنع هذا الأمر أو أصل الشَّعائر تلبية لرغبة ما به فضيحة سادة الوهابيِّين وأسلافهم الأمويِّين ومن مهَّد لهم سبل ذلك، والله العالم.
س / هل يمكن استفادة قوَّة في مشروعيَّة التَّطبير بسبب مشروعيَّة الحجامة من الرَّأس؟ أم لا؟
ص: 114
ج / بسمه تعالی
إنَّ ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ التَّطبير المتعارف اليوم كيوم عاشوراء لم ترد فيه نصوص من القرآن ومن النَّبي (صلی الله علیه و آله) وآله (علیها السلام) لمشروعيَّته بصراحة فيه وفي السنَّة قولاً وعملاً وتقريراً إلاَّ بما عُرف عن آيات تعظيم الشَّعائر ومضامينها وما تريده مضامين قوله (الناس مسلَّطون على أموالهم وأنفسهم) (1) من التَّصرُّفات الاختياريَّة ومن السنَّة من تجويز الجزع في موارده المناسبة للمقام فتدخل فيه مضامينه كذلك، كما أوردناه في أحد الأجوبة من هذا الكتاب أو ما به مضامين مثل قوله (صلی الله علیه و آله) ((إنَّ لقتل ولدي الحسين حرقة في قلوب المؤمنين لن تبرد أبداً)) (2) ومضامين حديث ((لا ضرر)) الَّذي ذكرنا قاعدته كذلك فيما سبق، وهكذا بعض أدلَّة أخرى من دون أن تتشخَّص له مصداقيَّة عمليَّة في تلك الأزمنة لكن من غير أن يمكن فيه انكار العموميَّة والإطلاق في تلك الآيات والرِّوايات لعدم حصول فاجعةكربلاء المقدَّسة في زمانه (علیه السلام) كما ورد في الحجامة الَّتي مارسها النَّبي (صلی الله علیه و آله) وآله (علیهم السلام)، وبالأخص من جهة الرَّأس، وفي روايات كثيرة من الفريقين.
فعن سالم بن مكرم عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (الحجامة على الرأس على شبر من طرف الأنف وفترٍ ما بين الحاجبين، فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يسميها المنقذة) والفتر: ما بين السبابة والإبهام، وفي حديث آخر: (كان
ص: 115
رسول الله (صلی الله علیه و آله) يحتجم على رأسه ويسميها المغيثة أو المنقذة)(1).
وفي رواية عن الإمام الصَّادق (علیه السلام) قال: (الحجامة في الرأس هي المغيثة تنفع من كل داء إلا السام، وشبر من الحاجبين إلى حيث بلغ إبهامه، ثم قال: ها هنا، وأشار إلى موضع من الرأس)(2).
وعن زرارة، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر(علیه السلام) يقول : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) ((الحجامة في الرأس شفاء من كل داء إلا السَّام))(3).
وعن أبي محمد البردعي عن صفوان، عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال : ((كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يحتجم ثلاثة: واحدة منها في الراس يسميها "المتقدمة" وواحدة بين الكتفين يسميها "النافعة"وواحدة بين الوركين يسميها "المغيثة"))(4).
وعن علي (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) ((احتجموا إذا هاج بكم الدم فإن الدم ربما تبيغ بصاحبه فيقتله))(5).
وكان (علیه السلام) ((إذا اعتل إنسان من أهل الدار قال: انظروا في وجهه، فإن قالوا: أصفر قال: هو من المرة الصفراء، فيأمر بماء فيسقى وإن قالوا: أحمر قال: دم، فيأمر بالحجامة))(6).
ص: 116
وروى الأنصاري قال: ((كان الرضا (علیهما السلام) ربما تبيغه الدَّم، فاحتجم في جوف اللَّيل)).
وأمَّا ورود ما يتعلَّق بالتَّطبير عمليَّاً من بعد استشهاد الإمام (علیه السلام) أيَّام أبناءه الأئمَّة (علیهم السلام) فما جاء منه سوى ما نقله التَّأريخ من فعَّاليَّة نطح الرَّأس بالمحمل في الكوفة من قِبل العقيلة زينب (علیها السلام)، إضافة إلى تصحيح العلماء لهذه الرِّواية مع وجود زين العابدين (علیه السلام) آنذاك معها بحيث لو لم تكن له مشروعيَّة تطبيقاً لما سبق ذكره من العموميَّات والإطلاقات لاعترض عليها فكان من ذلك حجيَّة التَّقرير العملي، وكذلك محاولة مواساة الموالين للإمام الشَّهيد (علیه السلام) بدل ما أجراه أعداء الله ضدَّه من مثل سنان اللَّعين الَّذي ضرب رأسه الشَّريف بالسَّيف اثنى عشر ضربة، وغير ذلك منعبارات الأئمَّة (علیهم السلام) من أولاد الشَّهيد (علیه السلام) الَّتي لم تخرج عن طور التَّشجيع أو لا أقل من عدم دلالتها على المنع كما عُرف عن شيعة البحرين وجماعة سُليمان ابن صُرد الخزاعي بعد أن لم يظفروا بمثوبة المشاركة بمحاربة الأعداء في كربلاء.
ومع ذلك فالفرق بين التَّطبير والحجامة وعلى الأقل بين الفعل المقرَّر له وبين الَّذي وردت في حقِّها روايات وممارسات ممَّا قبل فاجعة كربلاء وبعدها أيَّام الأئمَّة (علیهم السلام) هو أنَّه لم يبق للتَّطبير ومشروعيَّته في أساسها سوى ذلك مع الأدلَّة الأخرى الَّتي أثبتت رجحان إعادة ذكريات حماسيَّات التَّفجُّع والتَّوجُّع من باب التَّعظيم للشَّعائر مع سبق أصالة الإباحة وغير ذلك ممَّا مرَّ ذكره هنا وفي بحث جوابي سابق مع خصوص ما جاء عمليَّاً بعد الفاجعة.
ص: 117
وعلى هذا فلا ضير في السُّؤال بأنَّ أدلَّة التَّطبير الماضية مع مشروعيَّة الحجامة العمليَّة من الرَّأس من الأوَّل هل يمكن أن تتقوَّى بينهما فتزداد مشروعيَّته؟ أم لا؟ فتضعف أمام قوَّة الحجامة لكن لا تنفي أصل مشروعيَّته.
فالحق أنَّ ذلك لم يحقَّق من ذلك شيئاً واضحاً إلاَّ أنَّ من ظواهر الحاجة إلى الحجامة عند الاعتياد عليها هو ظهور آلام في المنطقة الرَّأسيَّة لا ترتفع إلاَّ بها على ما تعارف، فإذا حصل مثل هذا في المطبِّر وقت المناسبة تلهُّفاً ولائيَّاً إلى التَّطبير بحيث لو لم يحصل لولَّد ذلك مثل تلك الآلام ولو كانت في بدايتها نفسيَّة ثمَّ انتقلت إلى كونها عضويَّة كما في حالتي التَّقارب بين الحاجتين وبما قد يزيد في الحاجة إليهما في الموضعالواحد بالنَّحو التَّلازمي فلا بأس بذلك، لظهوره في الرُّجحان من الجهتين ولتحقُّق فوائد ما أوردته رواية زرارة عن الباقر (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله الماضي ذكره (الحجامة في الرَّأس شفاء من كل داء إلاَّ السَّام) والَّتي من تلك الفوائد فائدة ما يتعلَّق بالتَّطبير عند الحاجة المذكورة إليه مع الحجامة كثيرة الفوائد، مع ما تقوِّيه الشَّعائريَّة الحُسينيَّة الخاصَّة بالتَّطبير، والله العالم.
س / هل يجوز لنا مناقشة العلماء الذين يختلفون معكم في الفتوى فيما يخص موضوع التَّطبير أو عموم الشَّعائر؟، وكذلك مناقشة العوام لأجل إقناعهم مثلاً؟ وكيف
ص: 118
ينبغي أن يكون النقاش في هذه المسألة ؟ وما نصيحتكم للشباب في هذا الجانب؟؟
ج / بسمه تعالی
لا مانع من مناقشتهم مع القابليَّة العلميَّة والتَّعرُّف على مبانينا ومداركنا الشَّرعيَّة والعقليَّة بدقَّة وافية، وإن كان الأجلاَّء منهم قد يُنصِفون القضيَّة معكم لو تفاوت رأينا معهم كقولهم بالتَّحريم في نفس قولنا بالحليَّة ولكن للحيثيَّة المختلفة، وقد لا نتفاوت من حيث وحدة الحيثيَّة إمَّا بالحرمة أو الحليَّة أو ما بينهما كالاستحباب أو الكراهة أو حتَّى الوجوب بالعنوان الثَّانوي علميَّاً في هذه الأمور.
بل قد يجب عليكم الدِّفاع عن مسلك الحق الولائي الَّذي قد يخالفه أو بعضه _ مع ما اشترطناه عليكم _ في عُمق أو سطحيَّة في الفقهيَّات العامَّةوهي ما تشترك بين العقائد والفقهيَّات الخاصَّة أو خصوص الفقهيَّات كالاجتهادات الخاصَّة بين الإماميَّة أو المذهبيَّة بيننا وبين أهل العامَّة _ بعض أهل العلم منَّا أو من يُطلق عليهم أنَّهم منهم لو كانوا من العامَّة إن عرفتم تلك المباني والمدارك المرتبطة بتصرُّفات المؤمنين الإماميَّة الَّتي قد يختلف فيها علماؤهم في بعض وجهات النَّظر معنا أو ما يختلف فيه الإماميَّة فيما بينهم في بعض تلك الوجهات وإن كانت نادرة جدَّاً إلاَّ من عوارض مشبوهة وبالخُصوص ما ورد السُّؤال، ومن ذلك القضايا المرتبطة بأهل البيت عامَّة _ أفراحاً وأتراحاً _ أو خاصَّة كما في الأمور الحُسينيَّة المهمَّة سواء كان أولئك العلماء المخالفون من العامَّة أو من الخاصَّة الَّذين قد تقترب مداركهم أو بعضهم من مدارك العامَّة لكونهم
ص: 119
ممَّن تحزَّب وأوجد لنفسه فكرة يدَّعي لها ضرورة التَّقرب إليهم حتَّى إلى حدِّ قسوته على بعض المهمَّات المبدئيَّة للآخرين من المؤمنين، أو تملُّقه إلى بعض العامَّة فراراً من التَّباعد المسلكي أو السَّياسي عنهم ولو على حساب المبادئ الخاصَّة غير المضرَّة بهم ببعض التَّنازلات لهم وبما يزيد على مجال التَّقيَّة اللازمة وإلى حدِّ أن تكون مباني الاثنين متشابهة قياساً أو استحساناً ممنوعين عندنا أو على بعض روايات ضعيفة لا تصلح أن تكون مبنى لهذا الإمامي إن لم ينقلب على مبادئه الإماميَّة أصوليَّاً وإن كانت مبنى عند العامي بشُبهة مرفوضة عندنا شرعاً.
ولكن هذا الوجوب لابدَّ وأن نؤكِّد على كونه فرع التَّعرُّف على مداركنا، ويتفرَّع من ذلك أمور مناقشة العوام أو محاولة اقناعهم وعلى مستوى ما يتناسب معهم من الأساليب النَّافعة لإزاحة الشُّبهات العالقةفي أذهانهم من هذا أو ذاك.
وعلى فرض ادِّعاء الأعداء أو الجُهلاء أو من اختلطت عليه المباني بأنَّ ما يقوله العلماء عن مصاديق الشَّعائر بأنَّها ما جاءت إلاَّ من الاستحسانات الذَّوقيَّة الَّتي ليست بأدلَّة؟
فإنَّنا نقول: بأنَّ ما يتصوَّرونه من الاستحسانات عنَّا هي الَّتي لابدَّ أن تكون عندنا على الأقل مندرجة تحت ظلَّ العمومات والاطلاقات من النُّصوص أو الظَّواهر أو ما يرجع إلى أصالة الإباحة لو حصل فيها شيء من الشَّك، وقاعدة (لا ضرر ولا ضرار) وتقرير المعصوم المعاصر عند بدو بعض حالات الجزع الجائز في المصيبة وبما مرَّ ذكره مفصَّلاً في الأجوبة الماضية لما سبق من الأسئلة، مضافاً إلى عموم واطلاق آية تعظيم
ص: 120
الشَّعائر إلاَّ ما خرج عن حالات الحليَّة الطارئة إلى ما يحرم.
وينبغي أيضاً أن يكون النِّقاش _ في حالة الابتعاد عنَّا وعدم العلم بمبانينا _ منحصراً في الحوزويِّين الموالين المهذَّبين الفضلاء _ مبنيَّاً فيهم على العلميَّات والمدارك الخاصَّة _ للفتاوى الفقهيَّة عامَّة ومنها ما يتعلَّق بالفقه المقارن بين المذاهب الإسلاميَّة وبالأخص الفقهيَّات الَّتي لها علاقة حتَّى بالعقائد الفرعيَّة الَّتي قد لا تتفاوت مداركها عن مدارك الفقهيَّات الأصيلة _ لتقييمها وتثبيتها ودفع الشُّبهات عنها كما في أمور قضايا الشَّعائر العامَّة والخاصَّة بأهل البيت (علیهم السلام) وبالأخص الشَّعائر الحُسينيَّة عموماً والَّتي خلَّدت الرِّسالة المحمَّديَّة الإيمانيَّة وفضحت الكفر والنِّفاق.
ونظراً لضرورة سرعة الإجابة بالعلميَّات كما بينَّا فعلى الشَّباب قبل أنتباغتهم الشُّبهات أن يتعلَّموا ويتزوَّدوا من المعارف الحوزويَّة مقدِّمات وسطوحاً وعلميَّات خارجيَّة معمَّقة في جميع المجالات لمسلك الفقه الإمامي البعيد في أصوله عن القياسات والاستحسانات والاجتهاد في مقابل النُّصوص وإن أشغلتهم أو بعضهم الأكاديميَّات في فتراتهم الأولى، ليكونوا مهيَّئين سريعاً للإجابة المتنوِّعة بين الحوزويِّة والأكاديميَّة نصرة للمظلومين الأعاظم من أهل البيت (علیهم السلام) لئلاَّ يُبخس حقُّهم المهتضم.
لأهميَّة الجمع بين الفضيلتين حتَّى يمارسوا مجالات النِّقاش الصَّحيح والنَّافع والبعيد عن الالتواءات العصبيَّة الحاقدة ولئلاَّ يبقوا أمام أبواب العلم الدَّقيق المؤصدة خاملين وإن قيَّدت المؤمنين منهم عواطف الولاء الصَّامدة بالتَّعود عليها من خلفيَّة الأدلَّة السَّطحيَّة وإن تنفعهم ولائيَّاً بعض الوقت لئلاَّ تردَّهم مغالطات وشُبهات الأعداء المخادعة فتأثِّر فيهم
ص: 121
حالات الخجل فإنَّه أضرَّ بهم.
وأؤكد ناصحاً إن اضطرَّتهم بعض الأمور فعليهم ارجاع الأمر سريعاً إلى أهل العلم الولائيِّين فإنَّ فيهم الكفاية إنشاء الله وكما قال تعالى «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ»(1)، والله العالم.
س / ما هو رأيكم الشَّريف باللَّطم على الصُّدور؟ وما حكم الضَّرب الشَّديد الموجب لاسوداد الصَّدر؟ وهل يوجد دليل شرعي ينص على استحباب الضَّرب بالزَّنجيل والقامة؟ والعبور على النَّار؟ ورفع المشاعل؟ ومجالس العزاء.
وما هي حدود الجزع المطلوب على الإمام الحسين (علیه السلام)؟ وما هي الأدلَّة إن كانت؟
ج / بسمه تعالی
لا مانع من اللَّطم على الصَّدر على المباني المتعارفة بين الفقهاء أصوليَّاً وكما سيجيء ذكر شيء من الأدلَّة لصالح العموم والخصوص إذا تحمَّله الإنسان حتَّى على زحمته كحالة اسوداده في المصاب الجلل أو حتَّى غير الجلل في ذاته للآخرين، لكنَّه على فقد المحبوب عاطفيَّاً لا إراديَّاً أو حتَّى الإرادي، بل قد يزيد كالضَّرب على الرأس والوجه بما يتحمَّل عادة
ص: 122
جرياً على ما كان يفعله المفجوعون بأعزَّاءهم ما لم يُوصل نوع التَّصرف إلى ما يُوجب الكفَّارة، امَّا على خصوص سيِّد الشُّهداء (علیه السلام) ومن معه لفاجعة الأمَّة الكبرى بقضيَّته وقضيَّتهم لا لخصوصيَّة بهذه الأمور من جهة كونها متوارثة بين النَّاس والمؤمنين وإن كان لها شأن مهم قد لا يُستهان به بالتَّوارث فيه كبعض وجهاء الأمَّة الإسلاميَّة فضلاً عن الأئمَّة (علیهم السلام) في فجائعهم لأنَّها قد تكون بالتَّوارث في غير الأئمَّة(علیهم السلام)كالأئمَّة (علیهم السلام)أو بعض أفذاذ أهل العلم والفقاهة المعنونين في طول التَّأريخ لا موضوعيَّة شعائريَّة مستمرَّةلها، بل إنَّما هي لموضوعيَّة العاطفة الفطريَّة العقليَّة أو اللإراديَّة بصفة أكثر توجُّعاً على هذا النَّوع المحدود من الثَّكل الَّذي لا نظير له في الأخص على نوعيَّة ما حصل من التَّواتر الرِّوائي والتَّأريخي في الأئمَّة (علیهم السلام) ومن يُلحق بهم، إضافة إلى الخصيصة الخاصَّة في توارث هذه الأمور للعادة الَّتي يصعب تركها وتشكَّلت بمصاحبتها علاقة دينيَّة مثلى تُسبِّب القوَّة في الدِّين بإحيائها عالميَّاً أو دوليَّاً ولا أقل من الفائدة المحليَّة الَّتي لابدَّ وأن تنمى الثَّقافة الحُسينيَّة إلى ما به التَّوسُّع النَّوعي الأكبر.
ومن ذلك الضَّرب على الظهر بالسَّلاسل والزِّنجيل والقامة على نحو تدعو له نفس العاطفة الطَّبيعيَّة الفطريَّة على ما في جليل القضيَّة الحُسينيَّة الَّتي لها علاقتها الكبرى بالمبدأ الدِّيني الأقوم حتَّى لو سُمِّي هذا العمل من نوع الجزع الَّذي لم يجعل من باب الخروج عن رضا الله في حكمه القضائي إنكاراً عليه بل من باب المواساة لما صدر على الحُسين (علیه السلام) وأهل بيته (علیهم السلام) وخيرة أصحابه وللتَّذكُّر بأنَّ الموالي اليوم هو الأولى
ص: 123
بالمفاداة وتحمُّل ما أجراه الأعداء بدلاً عن الإمام (علیه السلام) وجيشه وعياله، ولتذكير الأمَّة وتنبيه الأمم الأخرى في إنسانيَّتها بما جرى كي ينهضوا لمناصرة هذه الذِّكرى بما يتناسب معها ولو بالاستنكار لنبذ هذا النَّوع من البشر القاسي اللاإنساني.
إضافة إلى ما في هذه الأمور الَّتي لو لم تؤلف أو قد تستغرب من جهات كثيرة أو قليلة من رمزيَّات يُبرَّر فعلها لأجلها.
ككون السَّلاسل حتَّى ذوات السَّكاكين كانت رمزاً بديلاً عن السِّياط الَّتي كانت على ظهور وأكتاف الإمام العليل (علیه السلام) وأخواتهوعمَّته (علیها السلام) والبقيَّة وما كان من حوافر الخيول على ظهر الإمام الشَّهيد (علیه السلام) ومدى أثره عليه، ليرى ألمها الشِّيعة والموالون بدلاً عنهم مع تمنِّيهم البالغ لو كانوا في عاشوراء بدلاء في هذه اللوعات عنهم أيضاً لتعود الذِّكرى وكأنَّها الغضَّة الجديدة تجاه أولياء أمورهم وأئمَّتهم (علیهم السلام).
وعقد المجالس حتَّى لو كبرت وتضخَّمت أو كثرت مصارفها وبذلها فهو لتذكير الأمَّة والأوسع لما كان يجري في أشد مجالس الغرور والسُّخريَّة بالإسلام وقادته من قِبل الأموييِّن وبحضور الإمام السجَّاد (علیه السلام) والسَّبايا مع الحوراء الَّتي ما تركته إلاَّ بإلقائها خطبتها الَّتي فضحت بها الطَّاغية الأموي وحزبه وأسلافهم وكذلك خطبة الإمام (علیه السلام) حيث قلب بخطبته مجلس الغرور إلى مجلس عزاء حُسيني امتلأ بالبكاء والنَّحيب من المغفَّلين ومن انكشفت لهم اللُّعبة الأمويَّة بعد ذلك ممَّا سبَّب فك أسرهم(علیهم السلام).
والقامة لما وقع في رأس الإمام الشَّهيد (علیه السلام) من ضرب السُّيوف وحَجر أبي الحتوف ولما قد شجَّعت عليه العقيلة (علیها السلام) بشجِّ رأسها بالمحمل ومن
ص: 124
سار على نهجها من ذلك الوقت من التَّوابين وغيرهم.
والضَّرب على الصَّدر حتَّى الاسوداد وبالسَّلاسل على الظَّهر تجسيداً لما كان يجري على صدر وظهر الإمام (علیه السلام) من رضِّ الخيول العشرة ولما كان يجري على ظهور السَّبايا.
والعبور على الجمر إذا كان يُذكِّر الموالين بعبور عوائل الإمام الشَّهيد(علیهما السلام) ومن معهم على النِّيران الَّتي أحرق الأعداء بها الخيام فراراً.
وحمل المشاعل في اللَّيالي الأخيرة من عشرة عاشوراء المذكِّر بما كان يحمله جيش الأعداء لإرهاب جيش الإمام (علیه السلام) وعوائله وهي الَّتي أحرقت بها الخيام وللتَّنوير اللَّيلي في الحروب، لعَكس الأمر من المؤمنين هذه الأيَّام ضدَّ الأعداء لإظهار الفرق بين حمل الموالين لها وبين حمل الأعداء فلابدَّ من أنَّه سيُشعر هذا الأمر لا محالة أنَّ زمام المبادرة صار بيد الموالين لإرائة نصرة الدَّم على السَّيف وإلى حين ظهور الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) إنشاء الله تعالى وبما لم يتوقَّف عن ذرف الدُّموع بما كان يجري آنذاك.
وهناك أدلَّة كثيرة تدل على جواز ذلك أو الأكثر إذا مسَّت الحاجة إلى هذه الفعَّاليَّات أو بعضها لحثِّ هيجان الأمَّة على الأعداء وأسلافهم إذا لم يوصل الأمر إلى الموت أو المرض الَّذي لا يُتحمَّل أو ما قد يلازم ذلك من المحرَّمات والمبتدعات الغريبة جدَّاً عن روح الذِّكرى، ولم يُقتصر على خصوص استدلالات الفرقة النَّاجية بل وردت الأدلَّة من كتب القوم المخالفين أيضاً ومن ذلك:_
1 _ الإطلاق والعموم المشهور بين أهل العلم في أدلَّة أهميَّة تعظيم الشَّعائر آيات وروايات حتَّى لو استدعى ذلك شيئاً أو أشياء من العناء
ص: 125
والمشقَّة كالجزع المذكور في كيفيَّة أو كميَّة بعض الفعَّاليَّات المجرات من قِبل الحُسينيِّين إذا لم يصل إلى ما يحرم على ما سيجيء ذكره في آخر الإجابة،كما أشار إلى هذا قول النَّبي (صلی الله علیه و آله) (إنَّ لفي قتل ولدي الحُسين حرارة في قلوب المؤمنين لن تبرد أبداً)(1) وفيه إشارة إلى تبرير الجزع لو كان حُسينيَّاً.
2 _ حديث النَّبي (صلی الله علیه و آله) ((لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)) (2) إذا كانت لا نافية، وسبب هذا الحديث قلع النَّخلة من قِبل النَّبي (صلی الله علیه و آله) لأنَّها كانت في الطَّريق وهي نخلة سمرة ابن جندب مع التَّعويض، فإذا كان الإضرار بالآخرين كلا ضرر لأجل النَّوع بولاية النَّبي أو الإمام أو النَّائب الخاص لو أسند هذا الأمر إلى أدلَّة ليس هذا محل تفصيلها، فلا سبيل على عدم المنع في القضيَّة الشَّخصيَّة إذا وافق صاحبها أو النَّوعيَّة حتَّى لو لم يُوافق صاحبها لأجل واجب المطاوعة لأوامر صاحب الولاية العامَّة المطلقة لوجوب حفظ النِّظام أو اختصار المسافة المؤذية للنَّاس نوعاً لو بقيت على طولها.
3 _ قول النَّبي (صلی الله علیه و آله) أيضاً (النَّاس مسلَّطون على أموالهم وأنفسهم)(3) فإذا كان الإضرار بالغير لا أثر له إذا كان يضر بالجميع ضرره النَّوعي وبالنَّفس ضرره الشَّخصي مع المكافأة المذكورة في باب حديث لا ضرر فكيف بالإضرار بالنَّفس باللَّطم ونحوه إذا لم يصل إلى ما يحرم مثل
ص: 126
الإلقاء بالنَّفس إلى التَّهلكة المنهي عنه في القرآن، فلا أثر لما يُثيره الأعداء من تافه الشُّبهات، ولذا نزلت الآية الكريمة «لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ»(1).
4 _ ما دلَّ على جواز هذه الأمور في زيارة النَّاحية والنُّدبة بما فيه الكفاية، ففي زيارة النَّاحية يقول الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ((فلئن أخَّرتني الدهور، وعاقني عن نصرك المقدور، ولم أكن لمن حاربك محارباً، ولمن نصب لك العداوة مناصباً، فلأندبنّك صباحاً ومساءاً، ولأبكينَّ عليك بدل الدموع دماً، حسرةً عليك، وتأسُّفاً على ما دهاك وتلهفاً، حتى أموت بلوعة المصاب وغصّة الاكتئاب)) إلى أن يقول ((فلما رأين النِّساء جوادك مخزياً، ونظرن سرجك عليه ملويَّا، برزن من الخدور ناشرات الشُّعور، على الخدود لاطمات وللوجوه سافرات، وبالعويل داعيات، وبعد العزِّ مذلَّلات، وإلى مصرعك مبادرات))(2).
وفي دعاء النُّدبة ((فعلى الأطايب من أهل بيت محمّد وعلي "صلى الله عليهما وآلهما"، فليبك الباكون، وإيّاهم فليندب النادبون، ولمثلهم فلتذرف الدُّموع، وليصرخ الصَّارخون، ويضجُّ الضاجُّون، ويعجُّ العاجُّون، أين الحسن أين الحسين؟ أين أبناء الحسين؟))(3).
وغير ذلك ممَّا قد يزيد في شِدَّة العناية المجرات وإلى حدِّ ما قد لا يتحمَّله
ص: 127
بعض الفقهاء في فتاواهم كما في عبارة زيارة النَّاحية وهي ((حتى أموت بلوعة المصاب وغصّة الاكتئاب)) بما لابدَّ أن يوجَّه عند قبول كلمة الموت لو وقع بما لو لم يكن مقصوداً أو لم يؤلف وقوعه عند فعل هذه الفعَّاليَّة أو تلك أو لو مارس الموالي الدِّفاع عن نفسه أو ماله أو عِرضه أو عن فرقتنا النَّاجية الحُسينيَّة إذا شُخِّص المُقتضي وانتفى المانع بإذن الفقيه أو المقتضيات الملزمة العامَّة فقتل بالدِّفاع الممضى من الفقهاء لا بقصد أن يقتل نفسه.
5 _ أصالة الإباحة والحليَّة لقول الأئمَّة (علیهم السلام) عند الشَّك ( كل شيء حلال حتَّى تعلم أنَّه حرام بعينه)، وأمَّا عند غير هذه الأمور أو بعضها بكونها فعَّاليَّات العواطف الجيَّاشة في المصائب وبالأخص في الحالات اللا اختياريَّة غير المنفصلة عن مصاديق (من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجره شيء، ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من وزره شيء)(1) ممَّا يمكن أن ينضوي تحت عنوان المباح في أساسه كالتَّمثيل والتَّشبيه المتقن تأريخيَّاً بما يذكِّر بألم مصائب كربلاء المتَّصلة اتِّصالها الكامل بالرِّسالة المحمَّديَّة فهي الرَّاجحة شرعاً بامتياز.
6 _ قول الإمام (علیه السلام) (إنَّما هي نفسي أرِّوضها بالتَّقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر)(2) وكون النَّبي (صلی الله علیه و آله) كان يمشي على أطراف أصابعه وكون
ص: 128
الحسن والسجَّاد (علیه السلام) كانا يمشيان إلى مكَّة للحج مشياً على الأقدام وقول الحديث (خير الأمور أحمزها)، فإنَّ هذه الأقوال لابدَّ أن تبرِّر للمفجوع بالعزيز ما يوقعه من الأفعال المتعارفة، حزناً وألماً ونحوهما، فضلاً عن فاجعة كربلاء، بل إنَّ مجالس العزاء الحُسيني هي الَّتي اعتاد عليها المؤمنون بأن يختموا بها مجالس نكباتهم بأعزَّائهم لتهون مصائبهم عند التَّذكُّر بذكريات الإمام الحُسين (علیه السلام) لكون الإمام (عَبرة وعِبرة).
7 _ كانت الزَّهراء (علیها السلام) ونساء النَّبي (صلی الله علیه و آله)وحتَّى عائشة وحفصة يبكين على النَّبي (صلی الله علیه و آله)، بل كان النَّبي (صلی الله علیه و آله) ومن سبقه من الأنبياء يبكون على الحسين (علیه السلام) في روايات السنَّة والشِّيعة، فإذا كان الحسين(علیه السلام) هو بضعة من جدِّه النَّبي (صلی الله علیه و آله) لقوله فيه (حُسين منِّي وأنا من حُسين)(1) فلماذا لا يحق أن تُجري عليه هذه المراسيم البكائيَّة والحزينة المحزنة.
8 _ قول النَّبي (صلی الله علیه و آله) ((إنَّ للحسين في بواطنالمؤمنين معرفة مكتومة))(2)، وما رواه ابن سنان، عن جعفر بن محمد (علیهما السلام)، قال: ((نظر النَّبي (صلی الله علیه و آله) إلى الحسين بن علي (علیهما السلام) وهو مقبل، فأجلسه في حجره وقال: إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً، ثمَّ قال (صلی الله علیه و آله) بأبي قتيل كل عبرة، قيل: وما قتيل كل عبرة يا بن رسول الله؟ قال: لا يذكره مؤمن إلاَّ
ص: 129
بكى))(1).
9 _ ما ورد عن الأئمَّة (علیهم السلام)من التَّشجيعات غير المنحصرة بفعَّالية خاصَّة ممَّا لم يدخل في حقيقة الحرمة، ففي حديث مناجاة موسى (علیه السلام) وقد قال:. ((يا ربِّ لم فضَّلت أمَّة محمَّد (صلی الله علیه و آله) على سائر الأمم؟ فقال الله تعالى: فضَّلتهم لعشر خصال، قال موسى: وما تلك الخصال الَّتي يعملونها حتَّى آمر بني إسرائيل يعملونها؟ قال الله تعالى: الصَّلاة، والزَّكاة، والصَّوم، والحج، والجهاد، والجمعة، والجماعة، والقرآن، والعلم، والعاشوراء، قال موسى (علیه السلام) يا ربِّ وما العاشوراء؟ قال: البكاء والتَّباكي على سبط محمَّد (صلی الله علیه و آله)، والمرثيَّة والعزاء على مصيبة ولد المصطفى، يا موسى ما من عبد من عبيدي في ذلك الزَّمان، بكى أو تباكى وتعزَّى على ولد المصطفى (صلی الله علیه و آله) إلاَّ وكانت له الجنة ثابتاً فيها، ومامن عبد أنفق من ماله في الدِّرهم بسبعين درهماً، وكان معافاً في الجنَّة، وغفرت له ذنوبه، وعزَّتي وجلالي، ما من رجل أو امرأة سال دمع عينيه في يوم عاشوراء وغيره، قطرة واحدة إلاَّ وكتب له أجر مائة شهيد))(2).
هذه أدلَّة أو بعض أدلَّة يستفيد منها الفقهاء حليَّة أو إباحة ما مضى ذكره من إجراءات المؤمنين تجاه الإمام الشَّهيد (علیه السلام) أو حتَّى غيره من المعصومين (علیهم السلام) في فجائعهم، أو استحباب بعضها بل الأكثر لو توقَّفت
ص: 130
حالات انتصار الدَّم على السَّيف ولو بظهور شِدَّة المظلوميَّة عليه.
ما لم تصل بعض الفعَّاليَّات إلى عكس الهدف المنشود من مثل سوء تصرُّف المشارك في نفسه أو لغيره أو من بعض الموانع الخارجيَّة ولو للتَّقيَّة أو كون الضَّرر أكثر من النَّفع أو عدم النَّفع الَّذي يجر الويلات على النَّوع.
فلابدَّ من أن يكون النَّظر الفقهي لا يتمشَّى مع مطلق رغبة المشارك إلاَّ باجتهاده أو تقليده فلم يبق إلاَّ ما حصل التَّسالم عليه من التَّصدِّيات الأخرى.
وأمَّا أمر الجزع فإنَّه ينقسم إلى قسمين:_
أحدهما: الممنوع، وهو عدم الرِّضا بما قسم الله من المرض والفقر وسرعة الموت ونحو ذلك اعتراضاً على الله تعالى.فعن ربعي بن عبد الله عن أبي عبد الله (علیه السلام) _ في حديث _ قال: ((إن الصَّبر والبلاء يستبقان إلى الكافر فيأتيه البلاء وهو جزوع))(1).
وعن إسحاق بن عمَّار، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: ((يا إسحاق، لا تعدَّن مصيبة أعطيت عليها الصَّبر واستوجبت عليها من الله (عزوجل) الثَّواب، إنَّما المصيبة الَّتي يحرم صاحبها أجرها وثوابها إذا لم يصبر عند نزولها))(2).
وعن فضل بني ميسر قال: كنَّا عند أبي عبد الله (علیه السلام) فجاء رجل فشكا
ص: 131
إليه مصيبة أصيب بها، فقال له أبو عبد الله (علیه السلام) ((أما إنَّك إن تصبر تؤجر، وإلاَّ تصبر يمض عليك قدر الله الَّذي قدر عليك وأنت مأزور))(1).
وعن الهيثم بن واقد، عن رجل، عن أبي عبدالله (علیه السلام) _ في حديث _ ((أنَّ ملك الموت قال لرسول الله (صلی الله علیه و آله) يا محمَّد، إنِّي أقبض روح ابن آدم فيجزع أهله فأقوم في ناحية من دارهم فأقول: ما هذا الجزع؟! فو الله ما تعجلَّناه قبل أجله، وما كان لنا في قبضه من ذنب، فإن تحتسبوه وتصبروا تؤجروا، وإن تجزعوا تأثموا وتوزروا))(2).وعن صالح بن أبي حمَّاد، رفعه قال: جاء أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى الأشعث بن قيس يعزِّيه بأخ له، فقال له: ((إن جزعت فحق الرِّحم أتيت، وإن صبرت فحق الله أدَّيت، على أنَّك إن صبرت جرى عليك القضاء وأنت محمود، وإن جزعت جرى عليك القضاء وأنت مذموم))(3).
مع عمومات وإطلاقات آيات وروايات التَّوصية بالالتزام بالصَّبر عن المعصية وعلى الطَّاعة وعلى البلوى والمصيبة فيما لو كانت البلايا والمصائب قضايا شخصيَّة لا علاقة لها بالتَّفكُّر في أمور القضايا النَّوعيَّة عدا ما كان مألوفاً فِطرة وعقلاً وشرعاً.
ص: 132
وورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) ليلة ضرب ابن ملجم (لع) المرادي له وهي ليلة التَّاسع عشر من شهر رمضان أنَّه قال عند خروجه من منزله إلى المسجد حين محاولته فتح الباب بانحلال مئزره:
أُشدُد حَيازيمَكَ لِلمَوتِ *** فِإِنَّ المَوتَ لاقيكَا
وَلا تَجزَع مِنَ المَوتِ *** إِذا حَلَّ بِواديكَا
وَلاَ تَغْتَر بِالدَّهْرِ *** وَإنْ كَانَ يُؤاتِيكَا
كَمَا أَضْحَكَكَ الدَّهْرُ *** كَذَاكَ الدَّهْرُ يُبكِيكَا
وورد في أدعية الإمام الحُسين (علیه السلام) في مواقف عديدة:
منها: أنَّه قال بعد أن ذبح ابنه الرَّضيع وهو على صدره داعياً بقوله((هون ما نزل بي أنَّه بعين الله تعالى اللَّهم لا يكون أهون عليك من فصيل ناقة صالح إلهي إن كنت حبست عنَّا النَّصر فاجعله لما هو خير منه وانتقم لنا من الظالمين))(1).
ومنها: أثناء مصرعه "سلام الله عليه" وبقائه ثلاث ساعات من النَّهار ملطّخا بدمه رامقاً بطرفه إلى السَّماء وينادني (يا إلهي صبراً على قضائك ولا معبود سواك)(2).
ومنها: قوله (علیه السلام) ((لا أرى الموت إلاَّ سعادة والحياة مع الظَّالمين إلاَّ برما)).
ص: 133
والثَّاني: وهو ما لم يصل إلى هذا الحد، بل هو الرَّاجح والمرغوب فيه، بدلالة عموم واطلاق آية «ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ»(1).
وعن معاوية بن وهب ، عن أبي عبدالله (علیه السلام) _ في حديث _ قال: ((كل الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين (علیه السلام) ))(2)، وذلك لغلبة الحالات والفوائد النَّوعيَّة المرتبطة بسيِّد الشُّهداء فلا كراهة أمَّا في الآخرين الَّذين لا نوعيَّة في ذكريات فجائعهم فأقل ما يكون هو كراهة ما يدخل في الحلال منها فكيف بالمحرَّمالَّذي فيه معنى الاعتراض على الله جلَّ وعلا.
وفي خبر علي بن أبي حمزة، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، سمعته يقول: ((إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جزع، ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن عليّ (علیهما السلام) فإنّه فيه مأجور))(3).
وخبر مسمع بن عبد الملك، كردين البصري ((قال لي أبو عبد الله أما تذكر ما صُنع به _ الحسين _ ؟ قلت: نعم.
قال: فتجزع؟
قلت: إي واللهِ، واستعبر لذلك، حت_ّى يرى أهلي أثر ذلك عليّ، فامتنع عن الطعام، حت_ّى يستبينَ ذلك في وجهي.
ص: 134
قال رحم الله دمعتك، أما إنَّك من الّذين يُعدّون من أهل الجزع لنا، والَّذين يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا، ويخافون لخوفنا، ويأمنون إذا أمنّا))(1).
وعن الصَّ_ادق (علیه السلام)، ((أنَّ زين العابدين (علیه السلام) بكى على أبيه أربعين سنة، صائما نهاره، قائماً ليله، فإذا حضر الإفطار جاء غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يديه فيقول: كل يا مولاي، فيقول: قتل ابن رسول الله (علیه السلام) جائعاً، قتل ابن رسول الله عطشاناً، فلا يزال يكرِّر ذلك ويبكي حتَّى يبل طعامه بدموعه، ويمزج شرابهبدموعه، فلم يزل كذلك حتَّى لحق بالله (عزوجل)))(2).
وعن بعض مواليه قال : خرج (علیهما السلام) يوماً إلى الصَّحراء فتبعته، فوجدته قد سجد على حجارة خشنة، فوقفت وأنا أسمع شهيقه وبكاءه، وأحصيت له ألف مرَّة وهو يقول: لا إله إلاَّ الله حقَّا حقَّاً، لا إله إلاَّ الله تعبُّدا ورقَّاً، لا إله إلاَّ الله إيماناً وصدقاً، ثمَّ رفع رأسه من سجوده، وأنَّ لحيته ووجهه قد غمرا بالماء من دموع عينيه، فقلت: يا سيِّدي، ما آن لحزنك أن ينقضي؟! ولبكائك أن يقل؟! فقال لي: ((ويحك، إنَّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كان نبيَّا ابن نبي، وكان له اثنا عشر ابناً، فغيَّب الله واحداً منهم، فشاب رأسه من الحزن، وأحدودب ظهره من الغم والهم، وذهب بصره من البكاء، وابنه حي في دار الدُّنيا، وأنا رأيت أبي
ص: 135
وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين، فكيف ينقضي حزني ويذهب بكائي؟!))(1).
ومنها خبر صالح بن عقبة: في حديث زيارة عاشوراء قال: ((إذا كان ذلك اليوم برز إلى الصحراء أو صعد سطحاً مرتفعاً في داره، وأومأ إليه بالسلام، واجتهد على قاتله بالدعاء وصلى بعده ركعتين يفعل ذلك في صدر النهار قبل الزوال، ثم ليندب الحسين (علیه السلام) ويبكيه ويأمر من في داره البكاء عليه، ويقيم في داره مصيبته بإظهار الجزع عليه، ويتلاقون بالبكاء بعضهم بعضاً في البيوت، وليعزّ بعضهم بعضاً بمصابالحسين (علیه السلام)، فأنا ضامن لهم إذا فعلوا ذلك على الله (عزوجل) جميع هذا الثواب))(2)
ومنها خبر خالد بن سدير، عن أبي عبد الله (عزوجل) في حديث: ((وقد شققن الجيوبَ، ولطمن الخدودَ - الفاطمياتُ - على الحسين بن عليّ (علیهما السلام)، وعلى مثله تُلطم الخدود، وتُشقّ الجيوب))(3).
وفي خبر بشر ابن حذلم حين عودة السَّبايا إلى المدينة قال: ((فما بقيت في المدينة مخدّرة ولا محجّبة إلّا برزن من خدورهنّ، مكشوفة شعورهنّ، مخمّشة وجوههنّ، ضاربات خدودهنّ، يدعون بالويل والثبور، فلم أرَ باكياً وباكية أكثر من ذلك اليوم، ولا يوماً أمرّ على المسلمين منه))(4).
ص: 136
ومنها خبر معاوية بن وهب: ((استأذنت على أبي عبد الله (علیه السلام)، فقيل لي: ادخل. فدخلت، فوجدته في مصلاه في بيته، فجلست حت_ّى قضى صلاته، فسمعته وهو يناجي ربّه، وهو يقول: (يا من خصّنا بالكرامة _ إلى أن قال: _ اغفر لي ولإخواني ولزوّار قبر أبي عبد الله الحسين (علیه السلام)_ إلى أن قال: _ وارحم تلك الأعين الَّتي جرت دموعها رحمةً لنا، وارحم تلك القلوب التي جَزَعت واحترقت لنا، وارحم الصَّرخة الَّتي كانت لنا)...))(1).والله العالم.
س 1/ ما هو رأيكم في لبس السواد حزناً على الإمام الحسين (علیه السلام)؟
س 2/ ما حكم الحضور لخطيب لا يرتدي السَّواد؟
س 3/ ما حكم من يُحرِّض النَّاس في خطبه على المنبر على عدم لبس السَّواد مع عدم التَّقيَّة؟
س 4/ ما هي نصيحتكم للشِّيعة حول العالم في لباس السَّواد؟
س 5/ هل تؤيدون من يقول بوجوب لبس السَّواد حِداداً على أبي الأحرار؟
محمَّد علي
ص: 137
ج 1/ بسمه تعالی
لبس السَّواد هو أحد موارد رجحان واستحباب إظهار الحُزن والجزع على ذكريات وفيات المعصومين "سلام الله عليهم أجمعين" وبالأخص سيِّد الشُّهداء أبي عبد الله الحُسين (علیه السلام).
وقد استثنى الفقهاء من روايات كراهة لبس السَّواد في الحالات العامَّة موارد عِدَّه منها لبس العمَّة والكساء على ما سيجيء دليله قريباً.
وفي الموارد الخاصَّة كالأحزان على المعصومين (علیهم السلام) إذا افتقدوا، فقد لبس الحسن المجتبى (علیه السلام) على أبيه المرتضى(علیه السلام) السَّواد.
ففي وفيَّات الأئمَّة (ثمَّ رجع الحسن والحسين (علیهما السلام) وأخوتهما من دفنه، وقعد في بيته ولم يخرج ذلك اليوم، ثمَّ خرج عبد الله بن العباس بن عبد المطلب إلى النَّاس فقال: إنَّ أمير المؤمنين (علیه السلام) قد توفَّى وانتقل إلى جوار الله، وقد ترك بعده خلفاً، فإن أحببتم خرج إليكم وإن كرهتم فلا أحد على أحد، فبكى النَّاس وضجُّوا بالبكاء والنَّحيب، فقالوا: بل يخرج إلينا، فخرج إليهم الحسن وعليه ثياب سود وهو يبكى لفقد أبيه، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وذكر النَّبي فصلَّى عليه، ثمَّ قال: أيها النَّاس: اتَّقوا الله فإنا أمراؤكم وساداتكم وأهل البيت الَّذين قال الله فيهم: «إنَّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا».
أيها الناس: لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون، ولا يلحقه الآخرون. لقد كان يجاهد مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيفديه بنفسه، لقد كان يوجهه برايته فيكنفه جبرائيل عن يمينه وميكائيل عن شماله، فلا
ص: 138
يرجع حتى يفتح الله عليه)(1).
كما قد جُعل السَّواد شعاراً للعلويِّين بعد مقتل سيِّد الشُّهداء (علیه السلام) وأهل بيته وأصحابه بالصِّفة الأخص لما ورد في المقاتل عن عمر بن زين العابدين ((لمّا قُتِل الحسينُ بن عليّ (علیهما السلام) لَبس نساءُ بني هاشم السَّوادَ والمُسوحَ، وهنَّ لا يَشتَكِينَ من حَرِّ ولا بَردٍ، وكانعليُّ بنُ الحسينِ(علیهما السلام) يَعملُ لَهُنَّ الطَّعام للمأتم))(2)، وفي رواية أخرى . . . قال : ((فلما أصبح استدعى حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال(3) لهن أيما أحب إليكن: المقام عندي أو الرجوع إلى المدينة ولكم الجائزة السنية؟ قالوا : نحب أولا أن ننوح على الحسين، قال : افعلوا ما بدا لكم، ثم أخليت لهن الحجر والبيوت في دمشق، ولم تبق هاشمية ولا قرشية إلا ولبست السواد على الحسين، وندبوه على ما نقل سبعة أيام))(4).
وخبر عبد الله بن سُليمان عن أبيه أنَّ علي بن الحُسين (علیهما السلام) دخل المسجد وعليه عمامة سوداء قد أرسل طرفيها بين كتفيه)(5).
وفي المستدرك عن دعائم الإسلام أنَّ علي بن الحسين (علیهما السلام) (رؤي
ص: 139
وعليه دراعة سوداء وطيلسان)(1).
وعن عبد اللَّه الأصمّ عن اُمّه :ضُرِبَ لِاُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنها قُبَّةٌ في مَسجِدِ رَسولِ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) حينَ قُتِلَ الحُسَينُ (علیهالسلام) فَرَأَيتُ عَلَيها خِماراً أسوَدَ)(2).
وعن أبي نعيم بإسناده :عَن اُمِّ سَلَمَةَ أنَّها لَمّا بَلَغَها مَقتَلُ الحُسَينِ(علیه السلام) ضَرَبَت قُبَّةً في مَسجِدِ رَسولِ اللَّهِ (علیه السلام) جَلَسَت فيها، ولَبِسَت سَواداً)(3).
وفي الدمعة السَّاكبة عن بعض المقاتل: لما دخل بشر ابن حذلم المدينة وأخبر الناس بقتل الحسين (علیه السلام) وضجّ الناس بالبكاء و النحيب كان محمد ابن الحنفية مريضا و لم يكن له علم بذلك الخبر الشنيع، فسمع أصواتاً عظيمة و رجة عظيمة... ثم أركبوه جواده و أتت خدامه أمامه حتى خرج من المدينة فلم ير إلا أعلاماً سوداً فقال: ما هذه الأعلام السود والله قتل الحسين (علیه السلام) بنو أميه! فصاح صيحة عظيمة وخرّ عن جواده إلى الأرض مغشياً عليه)(4).
ونضيف إلى هذا ما في سفينة البحار ج4 ص324 باب السِّين بعد الواو دار الآخرة قال (أقول نقل شيخنا المتبحِّر المحدِّث النُّوري "نوَّر الله مرقده" هذا الخبر في المستدرك عن الشَّيخ الطِّريحي ونقل بعده منه رؤيا سُكينة
ص: 140
بنت الحُسين (علیه السلام) بدمشق جدَّتها فاطمة (علیها السلام) ناشرة شعرها وعليها ثياب سود وبيدها قميص مضمَّخ بالدَّم).
ثمَّ نقل عن كامل ابن قولويه (أنَّ ملكاً من ملائكة الفردوس الأعلىنزل على البحر ونشر أجنحته عليها ثمَّ صاح صيحة وقال يا أهل البحار ألبسوا أثواب الحزن فإنَّ فرخ رسول الله (صلی الله علیه و آله) مذبوح).
ثمَّ قال (رحمة الله) وفي هذه الأخبار والقصص إشارة أو دلالة على عدم كراهة لبس السَّواد ورجحانه حزناً على أبي عبد الله (علیه السلام) كما عليه سيرة كثير في أيَّام حزنه ومأتمه).
ثمَّ نقل عن مناقب ابن شهرا شوب اختيار أبي مسلم الخراساني السَّواد خلافاً لبني أميَّة وهيبة للنَّاظر وكانوا يقولون هذا السَّواد حداد آل محمَّد (صلی الله علیه و آله) وشهداء كربلاء وزيد ويحيى).
انتهى إلى غير ذلك ممَّا أورده المرحوم البحَّاثة الشَّيخ عبَّاس القمِّي في سفينته، ومن أراد التَّوسُّع فليراجعه أو يراجع نفس البحار وغيره للمزيد.
ثمَّ أقول ولمحاولة التَّدقيق الأكثر ومن الوجهة العلميَّة الفقهيَّة تجاه الرِّوايات الَّتي ظاهرها المنع في كتب جوامع الرِّوايات في لباس المصلِّي واستحباب كون أفضله البياض وللحذر من التَّزي بزي الفراعنة وبني العبَّاس الظالمين وغيرهم، فعند مراجعة روايات رجحان لبس السَّواد حزناً على الحُسين (علیه السلام) أو الأكثر لبعض الاعتبارات استثناء عن تلك المناهي مع استثناء ما سبق مثل لبس الخف والعمَّة والكساء.
فمن طرقنا:_
روى الصدوق في الأمالي عن مولانا الإمام الصَّادق (علیه السلام) قال:" خرج
ص: 141
رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعليه خميصة قد اشتمل بها، فقيل: يا رسول الله من كساك هذه الخميصة؟ فقال: كسانيحبيبي وصفيي وخاصَّتي وخالصتي والمؤدِّي عنِّي ووصيِّي ووارثي وأخي وأوَّل المؤمنين إسلاماً وأخلصهم إيمانا وأسمح النَّاس كفَّاً سيِّد النَّاس بعدي قائد الغر المحجَّلين إمام أهل الأرض علي بن أبي طالب " فلم يزل يبكي حتَّى ابتلَّ الحصى من دموعه شوقا إليه"(1).
قال الجزري : الخميصة : ثوب خز أو صوف معلم، وقيل لا تسمَّى خميصة إلاَّ أن يكون سوداء معلمة(2).
وعن معاوية بن عمار عن مولانا الإمام الصَّادق (علیه السلام) قال:" ودخل مكَّة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء"(3).
وجاء في الغوالي أنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان له عمامة سوداء يتعمَّم بها ويصلِّي فيها)(4).
كما جاء عن أبي ظبيان قال: خرج علينا عليٌّ (علیه السلام) في إزار أصفر وخميصة سوداء"(5). والخميصة هي ثوب أسود مربع.
وروى صاحب الوسائل وكثير من المقاتل أن مولانا الإمام الحسين
ص: 142
(علیهما السلام): "قد قتل وعليه جبّة خز دكناء وهو الأسود"(1).
وروي "أن عليَّ بن الحسين (علیهما السلام) رؤي وعليه دراعةسوداء وطيلسان"(2).
وعن عبد الله بن سليمان قال:" إن عليَّ بن الحسين (علیهما السلام) دخل المسجد وعليه عمامة سوداء قد أرسل طرفيها من كتفيه"(3).
وما روي عن داود الرقي قال: كانت الشيعة تسأل أبا عبد الله (علیه السلام) عن لبس السواد قال: فوجدناه قاعداً عليه جبَّة سوداء وقلنسوة سوداء وخف سود مبطن بسواد، ثم فتق ناحية منه وقال: أما أن قطنه أسود، وأخرج منه قطناً أسود ثم قال: بيّض قلبك والبس ما شئت"(4).
وما رواه صاحب الوسائل بأسناده إلى حذيفة بن منصور قال: كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) بالحيرة فأتاه رسول بني العباس الخليفة يدعوه فدعى بممطر أحد وجهيه أسود والآخر أبيض فلبسه، ثم قال:" أما أنّي ألبسه وأنا أعلم أنه لباس أهل النار"(5).
وأمَّا من طرق العامَّة:_
فقد أخرج مسلم بسنده عن عائشة، قالت: (خرج النَّبي (صلی الله علیه و آله) ذات
ص: 143
غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود)(1).
والمرط: كساء يكون تارة من صوف وتارة من شعر أو كتان أو خز.قال الخطابي: هو كساء يؤتزر به.
وأخرج أيضاً عن عائشة، قالت: (خرج النَّبي (صلی الله علیه و آله) غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثمَّ جاء الحسين فدخل معه، ثمَّ جاءت فاطمة فأدخلها، ثمَّ جاء علي فأدخله، ثمَّ قال: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»)(2).
وعن جابر بن عبد الله أنَّ (النَّبي (صلی الله علیه و آله) دخل يوم فتح مكَّة وعليه عمامة سوداء)(3).
وعن عمرو بن حريث أن (رسول الله (صلی الله علیه و آله) خطب الناس وعليه عمامة سوداء)(4).
وعن عائشة قالت: (كان على رسول الله (صلی الله علیه و آله) خميصة سوداء حين اشتد به وجعه، قالت: فهو يضعها مرَّة على وجهه، ومرَّة يكشفها عنه)(5).
(والخميصة: ثوب خز أو صوف مُعْلَم، وقيل: لا تسمَّى خميصة إلاَّ أن تكون سوداء مُعْلَمَة، وكانت من لباس النَّاس قديماً)(6).
ص: 144
وعن عبد الله بن زيد قال: (استسقى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعليه خميصة له سوداء، فأراد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت قلبها على عاتقه)(1).
وعن عائشة: أنَّ (النَّبي (صلی الله علیه و آله) لبس بُردة سوداء، فقالت عائشة: ما أحسنها عليك يا رسول الله، يشوب بياضك سوادها، ويشوب سوادها بياضك. فبان منها ريح، فألقاها، وكان يعجبه الريح الطيبة)(2).
وعن عائشة: (أنها صنعت لرسول الله (صلی الله علیه و آله) جُبَّة من صوف سوداء، فلبسها فلما عرق وجد ريح الصوف، فخلعها، و كان يعجبه الريح الطيب)(3).
بل إنَّ جملة من علماءهم أفتوا باستحباب لبس السَّواد.
قال ابن عابدين: ((ندب لبس السواد؛ لأن محمداً ذكر في السير الكبير في باب الغنائم حديثاً يدل على أن لبس السواد مستحب))(4).
وقال في الفتاوى الهندية: (الباب التَّاسع في اللِّبس: ما يكره من ذلك،وما لا يكره) ندب لبس السواد، وإرسال ذنب العمامة بين الكتفين إلى
ص: 145
وسط الظهر)(1).
كما أفتى آخرون بأن لبس السَّواد جائز، ليس بمكروه.
قال الملا علي القاري: (وفي الجملة جاز لبس السواد في العمامة وغيرها وإن الأفضل البياض نظراً إلى أكثر أحواله عليه الصَّلاة والسَّلام فعلاً وأمراً.، وأغرب الشافعية في قولهم: "لبس الخطيب السَّواد بدعة، فليتركه ويلبس الأبيض، إلاَّ إن أُكْرِه بخصوصه كما كان يفعله العبَّاسيُّون")(2).
وذكر بعضهم أنَّ من علامات المسلمين: لبس السواد.
قال السرخسي في المبسوط: وأمَّا السَّواد من علامات المسلمين، جاء في الحديث "أنَّ النَّبي (صلی الله علیه و آله) دخل مكَّة يوم الفتح وعلى رأسه عمامة سوداء"(3).
وقال الصنعاني (ولو اجتمع الموتى المسلمون والكافر يُنظر إن كان بالمسلمين علامة الفصل بها يفصل، وعلامة المسلمين أربعة أشياء: الختان، والخضاب، ولبس السواد، وحلق العانة)(4).
ومن أراد التَّوسُّع فليراجع وبما خلاصته قوَّة أدلَّة ذلك وبما لا ممانعةلروايات المنع.
ص: 146
بل عند التَّدقيق في أدلَّة المنع وتبين كون أمرها بين ضعف السَّند والمراسيل وبين ضعف الدِّلالة وبين ضعف كليهما وهو ما يُعطي امكان القول بكون المنع محمولاً على الكراهة دون الحرمة وهي ما تُعطي حكم الجواز فضلاً عمَّا لو لم يقصد من لبسه التَّزي بزي الكافر والظالم، وهو ما يقوي أدلَّة الاستثناء للحزن وبما قد يفوق حالة الاستحباب لبعض الاعتبارات الشَّعائريَّة، ولذلك التزم بارتدائه أعاظم الفقهاء قديماً وحديثاً وشجَّعوا عليه.
يبقى الأمر فيمن يتزمَّت ضدَّ لبس السَّواد حتَّى في الأحزان لصالح أهل العصمة وسيِّد الشُّهداء (علیهم السلام) إذا كان من فصائلنا نحن الإماميَّة فهو إمَّا من بعض المحدِّثين السَّطحيِّين في فهمهم أو من المطبِّقين أمور التَّقيَّة في غير مواردها أو من الحزبيِّين المخطَّط لهم أن يسيروا دوماً سياسيَّاً على تطرُّفهم في هذه الأمور أو ليتنازلوا للأعداء حتَّى عن جواهر الأمور طلباً للتَّقريب التَّملُّقي فضلاً عن هذه الألبسة السَّوداء للفوز بمقاعد الزَّعامة أو نيل بعض الأموال الفانية والمرتشى بها.
كيف وأعداء القضيَّة الوهابيِّين ومن لفَّ لفَّهم في موتاهم ومن يسمونهم بشهداء قضاياهم لا يقيمون فواتحهم ومجالس عزائهم إلاَّ بأوشحة ويافطات السَّواد.
والله العالم.
ج 2/ لا مانع من الحضور في مجلسه إذا كان يعتبر لبس السَّواد مجرَّد كونه مستحبَّاً لا أكثر اجتهاداً أو تقليداً وبحيث لم يكن عدم لبسه ملفتاًللنَّظر للأعراف السَّائدة بلبسه تعظيماً للشَّعائر، وإذا كان ذلك ملفتاً للنَّظر
ص: 147
فالأفضل الحضور عنده لإبداء النُّصح له على انفراد إذا كان المقام يقتضي ذلك أو حتَّى مع الآخرين إذا كان يشتد ضدَّ القضيَّة مع امكان أن يلبسه، والله العالم.
ج 3/ حكمه بإبداء التَّنبيه له أو إبداء النَّصيحة حسب مقتضى ما يناسب أحدهما أو المناقشة الأشد إذا واجه الأمر بالأشد كذلك لإقناعه أو منعه عن التَّحدُّث في هذه الأمور إذا كان العرف الحُسيني السَّائد هو الالتزام نوعاً بالسَّواد، فإن لم يرتدع فالأرجح جدَّاً استبداله بخطيب حُسيني آخر.
والله العالم.
ج 4/ نصيحتي للشِّيعة في بقاعهم الأصيلة والمختلطة مع غيرهم من بقيَّة المسلمين المسالمين في باقي البقاع الإسلاميَّة والشِّيعة في ديار الغربة وغيرهم ممَّن يُقدر ويُقدِّس القضيَّة الحُسينيَّة وحتَّى غيرها من فجائع ذكريات المعصومين الأربعة عشر أن يتوشَّحوا بلبس السَّواد فإنَّه من أفضل ما تُعظم به الشَّعائر وأهمُّها الحُسينيَّة، والله العالم.
ج 5/ لا مانع إذا حصل المقتضي وعدم المانع خارجاً بالعنوان الثَّانوي، والله العالم.
ص: 148
س 1/رسالة من زائر اسمه حسين الموسوي بريده humo@gawab.com
بسم الله الرحمن الرحيم
جزاكم الله خيرا نرجو إجابتكم حول قضية القاسم (علیه السلام) وما جرى من عقد من قبل الإمام الحسين له على إحدى بناته
فهل هذا المعنى صحيح؟ علما باني وجدت له مصدراً في كتاب المنتخب للشيخ الطريحي ومدينة المعاجز للسيد البحراني.
وما رأيكم بما يصنع في يوم القاسم وهو الثَّامن من محرَّم من تشبيه وصنع حجلة للعروسين والشموع وغير ذلك.
س 2/ هل يجوز عمل التشابيه والتمثيل في مصاب أهل البيت (علیهم السلام)؟
س 3/ هل يجوز استخدام الطبول والنقَّارات في عزاء الحسين (علیه السلام)؟
بتاريخ 1212009
ج 1/ بسمه تعالی
المصادر الَّتي تذكر عرس القاسم بن الإمام الحسن (علیه السلام) مع الإكبار لمؤلِّفيها الموالين لم تكن كبقيَّة الأمور المتيِّقنة والمطمئن بها من حيث الكم المقنع والكيف الواقعي المنتهي إلى حتميَّة الشَّهادة، وبناءاً على صحَّتها لعدم الدَّليل الكامل على الاستحالة لعلَّه كان ليستشهد مع عمِّه والبقيَّة "سلام الله عليهم" وهو كامل الإيمان بزواجه على ما نصَّ عليه في الأدلَّة العامَّة، أو تنفيذاً لوصيَّة أبيه الحسن (علیه السلام) في مثل يومالعاشر لذلك أو غيره لأنَّ له بنتاً عند عمِّه الإمام (علیه السلام) على تقدير عدم قضيَّة عاشوراء أو
ص: 149
حتَّى معها ولكن لم تنته حياته إلاَّ بالشَّهادة لمعانقة الحور العين بدل ذلك الزَّواج الدُّنيوي، لأنَّ حوادث الأمور المؤلمة لم تمهل الإنسان مهلة إمكان الزَّواج الَّتي لابدَّ أن تنته بذرف الدُّموع لكون جميع قضايا الإمام عَبرة وعِبرة أو هناك سر آخر.
وعليه فلا مانع من أن تجرى بعض مظاهر العرس لاستدرار العواطف الجيَّاشة والمذرفة للدموع _ الجامعة بين فرح العرس غير المستمر وألم الفراق المخلوط بفرح الشَّهادة في سن الشَّباب _ تجسيداً بالتَّشبيه الوقر والمحتشم لا المبتذل كما كان يصنع في بعض الأوساط بسبب عدم المكافئة بين شأنيَّة الممثِّل وشأنيَّة الشَّخص الأصيل في القصَّة أو في كيفيَّة التَّمثيل غير اللائقة أو الصُّورة المفتعلة الَّتي لا واقع لها، كما كان يجرى آنذاك أثناء الوداع حينما طلب من عمِّه البراز بعد ما قلَّ ناصره وكثر واتره على ما ورد في تلك المصادر.
وأمَّا اتِّخاذ حالة التَّمثيل في اليوم الثَّامن فعلى الظاهر الَّذي لم يصدر من اساءة في القصد لدى الخطباء اللامعين القدامى ابتداعا واختلاقاً، وإنَّما هي طريقة تقسيم أدوار القصَّة العاشورائيَّة يوم العاشر على أيَّام العشرة الأولى من المحرَّم فجعلوا لكل دور يوماً خاصَّاً له إلى التَّاسع للتَّهيؤ يوم العاشر إمَّا للذِّهاب إلى كربلاء المقدَّسة لزيارة الإمام (علیه السلام) بالمخصوصة أو الاطِّلاع على كامل القصَّة في ذلك اليوم، فيصنعون ما يؤلف فعله في الأعراس ولو مختصراً بمثل أن يلبس القاسم ملابس أبيه المدَّخرة له إذا كبر للعرس وحومة الميدان دفاعاً عن بيضةالإسلام مع عمِّه (فكان ما كان من إنفاذ مسطور)، والله العالم.
ص: 150
ج 2/ بسمه تعالی
لا مانع من ذلك، ولكن ليعلم المتأمِّل الحائر في ذلك أنَّ الكثير ممَّن لا يرضى بذلك نصباً وعِداءً في خصوص القضيَّة الحُسينيَّة، لأنَّ بذلك ترويج ونشر لقضيَّته قد يجوز كثيراً لنفسه بل قد يلزم نفسه إذا يأس من قدرته على محو هذه الأمور أن يرتاد التمثيل نظراً ومشاهده مسجلة ومشاركة فيما لو لم تكن القصة حسينية من الأمور التاريخية الأخرى للتَّسلية بتوافه الأمور دنيًويَّاً أو للناحية المعادية الطائفيَّة كتوافه فلم الرِّسالة المخلوط سمينه بالغث وغيره من الأفلام المروِّجة لشأنيَّات المنافقين ضدَّ من أوصى بشأنهم الرَّسول (صلی الله علیه و آله) من أهل بيته الطَّاهرين المظلومين (علیهم السلام)، بل قد يُأنس بأفلام الفسق والفجور، بل قد يعجبه الاشتراك بالتَّمثيل فيها، لاعتباره نوعاً من الثَّقافة المعاصرة حسب فكره، ولكن فيما يخص آل الرَّسول والحقائق الولائيَّة لهم يكون ذلك صادماً له ولما يرغب, فلم يدخل إن دخل إلاَّ للدَّس والتَّشويه فعليه الحذر.
وأمَّا بقيَّة من لا يرضى بذلك من المؤمنين دون الأعداء إذا كان قصده من ذلك عدم التَّشجيع على التَّشبيه والتَّمثيل للخلط التَّأريخي بين الغث والسَّمين أو الإساءة في العرض التَّمثيلي كيفيَّاً حتَّى لو صحَّ تأريخيَّاً أو من أشخاص غير مرغوب بهم في أن يأخذوا دور صاحب القضيَّة الكذائيَّة في شأنه المحترم كالإمام (علیه السلام) أو أخيه وابنه أو أحد حواريه الممثِّل في ذاته فاسق فاجر غير نزيه وغير تائب بين النَّاس فلا يعني ذلك عدم الرِّضابما يصح في جميع ذلك.
بل لا مانع منه شرعاً، بل إنَّ التَّمثيل والتَّشبيه كما يجوز عند سرد
ص: 151
القصَّة العاشورائيَّة يوم العاشر أو ما يعرضه الخطباء الحُسينيُّون لإثارة المؤمنين للاعتبار والإبكاء ونحوهما بعرض واحد كامل أيضاً أو بعرض مقطع حسب المتعارف في عِدَّة أيَّام كذلك يجوز عرض ذلك ميدانيَّاً أو في المسارح أو عبر التِّلفاز والسِّينما وغيرهما.
فلا داعي إلى مثل هذا التَّحيُّر من قِبل السَّائل إذا كان صاحبه محباً للحسين (علیه السلام) والعاقبة للتقوى.
ج3/ بسمه تعالی
لا مانع من ذلك إذا كان على غير مسلك المطربين كما لا يخفى وهو الأسلوب الحربي المتعارف إمَّا بنحو التَّشبيه المعيد لذكرى ما أوقعه الأعداء آنذاك لتذكير المؤمنين الحسينيِّين اليوم بتلك المأساة لإثارتهم لتبقى غصَّة جديدة معادة في كلِّ عام مُذرفة للدُّموع أو لعمل ذلك ضدَّ الأعداء من القدامى والمعاصرين من أمثالهم كحالة من حالات الانتصار عليهم وعلى الطَّواغيت، لأنَّ ذلك الفعل الشَّنيع لابدَّ أن يكون رد فعله بعد انتصار الدَّم على السَّيف هو حمل تلك الطبول وضربها ضدَّ أولئك الأعداء لإشعارهم بأن الدَّم انتصر على السَّيف أو بعنوان الضَّرب الحزين لإبكاء المؤمنين كعمل تشييعي جديد لأولئك الشُّهداء.
تبقى عندنا أسئلة تفرض نفسها في أذهان المؤمنين الواعين ليُجاب عليها قد مرَّ بعضها بنحو الإشارة كي يكونوا مهيئين للإجابة عند احراج من لايُعجبه التَّشبيه والتَّمثيل أو من يُستثار للإثارة سذاجة أو تنبُّهاً لما يحتاج إليه الفكر لسعة الاطلاع وهي:_
ص: 152
كيف يجوز تمثيل الأدنى بالأعلى، وكيف يجوز تمثيل الأعلى بالأدنى، وكيف يجوز تشبُّه الرِّجال بالنِّساء؟ فضلاً عن تشبُّه النِّساء بالرِّجال؟
فنقول:_ أمَّا على السُّؤال الأوَّل فإنَّ من أدلَّة جواز ذلك قول الأئمَّة (علیهم السلام) ((كل شيء لك حلال حتَّى تعلم أنَّه حرام بعينه))، وبأصالة الإباحة عند الشَّك ما لم يكن الأدنى موجباً لسخريَّة المؤمنين الواعين بشأنيَّة الأعلى، لعدم التَّناسب أمام غيرهم من العامَّة كابن الزِّنا أو الفاسق الَّذي لا يتناسب مع أقل شخص من أصحاب كربلاء الفدائيِّيين كيف بالأعلى نفسه.
وأمَّا على السُّؤال الثَّاني كتشبُّه المؤمنين بقتلة الإمام الحُسين (علیه السلام) كالشِّمر (لع) لإباحة ذلك ذاتاً بل هو مستحب عرضاً لأجل الإبكاء وتجديد العزاء وإحياء أمر أهل البيت (علیهم السلام) وقد تشبَّه أمير المؤمنين (علیه السلام) بصفِّين بعبد الله ابن عبَّاس خوفاً عليه من بطل باغ يريد مقاتلته ومحاولة قتله.
وأمَّا على السُّؤال الثَّالث فإنَّ اقتضاء نجاح هذا الأمر التَّمثيلي في أمر الزِّينبيَّات الَّذي قد لا يستدعي من يقوم بدل بعض النِّسوة الأخريات مكانهنَّ بما هو أكثر حشمة ومهابة عن المخاطر بالاحتكاك بين الرِّجال والنِّساء بلبس العباءة من قِبل الرِّجال مع ستر الوجه فلا مانع منه مؤقَّتاً حسبما يقتضيه الدَّور الخاص لا بنحو الدَّوام تشبُّهاً بهنَّ كما لا يجوز تشبهنَّ بالرِّجال دواماً كذلك للحديث النَّبوي المعروف الَّذي (لعن فيهالمتخنِّثين من الرِّجال المتشبِّهين بالنِّساء والمترجِّلات من النِّساء المتشبِّهات بالرِّجال) إلاَّ في بعض الحالات المؤقَّتة لغاية مهمَّة كما صنعه أمير المؤمنين
ص: 153
(علیهما السلام) بإرسال نسوة لبسن لباس الرِّجال بعمائم وسيوف لإرجاع عائشة المحاربة الخائبة إلى المدينة مع أخيها ربيب الإمام (علیه السلام)، والله العالم.
أسئلة حول زيارة عاشوراء
بسم الله الرحمن الرحيم
سماحة آية الله السيد علاء الدين الغريفي أدام الله ظلكم العالي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
ذكر العلماء "رضوان الله عليهم" لزيارة عاشوراء فضائل كثيرة أوصوا النَّاس بالمواظبة عليها مدَّة أربعين يوماً لنيل المطلوب، وفعلاً قد نال كثير من النَّاس مقاصدهم بفضل هذه الزِّيارة.
أما بعد فأرجو التَّفضُّل بالإجابة على هذه الأسئلة:
س1: هل تجب النيَّة في قراءة الزِّيارة مثلاً لو أردت قراءة الزِّيارة للفرج عن أحد المؤمنين المخطوفين، فهل في هذه الحالة يجب عليَّ أن أقول (إنِّي أقرأ هذه الزِّيارة بنيَّة الفرج عن فلان بن فلان قربة إلى الله تعالى)؟
س2: هل يجوز أن نقول مئة مرة (اللُّهمَّ العن أعداء محمَّد وآل محمَّد) بدلاً من (اللُّهمَّ العن أوَّل ظالم ظلم حق محمَّد وآل محمَّد وآخر تابع له ... الخ)؟
س3: هل يجوز أن نقول مئة مرة (اللُّهمَّ صل على محمَّد وآل محمَّد) أو (السَّلامعلي الحسين وأهل بيته وأصحابه وأنصاره) بدلاً من (السَّلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي ... الخ)؟
س4: ورد في الزِّيارة (اللُّهمَّ إنَّ هذا يوم تبرَّكت به بنو أميَّة ...) وكذلك (وهذا
ص: 154
يوم فرحت به آل زياد ...) فكيف ينسجم قراءة هذه المقاطع إذا كانت قراءة الزِّيارة في يوم ولادة أحد الأئمَّة (علیهم السلام)حيث لا تتبرَّك به بنو أمية ولا تفرح به آل زياد؟
س5: يقول بعض العلماء إذا أردت الوصول إلى مرامك أقرأ زيارة عاشوراء أربعين يوماً في مكان واحد وفي وقت محدَّد، فما رأيكم الشَّريف بهذا الصَّدد؟
وهل يجب التَّقيُّد بالمكان والوقت؟ إذا كان كذلك أرجو التَّوضيح في المكان والوقت؟
س6: هل يمكن لي أنْ أقرا الزِّيارة وأنا في السيَّارة أو في السَّوق؟
س7: هل يمكن أنْ أقرا زيارة عاشوراء نيابة عن أحد الأئمَّة (علیهم السلام) بنيَّة قضاء حاجة معيَّنة؟ أو نيابة عن الإمام واهداء ثوابها إلى الوالدين مثلاً؟ إذا جاز ذلك فكيف تكون صيغة النيَّة في هاتين الحالتين؟
س8: هل جربتم أو رأيتم دعاء غير زيارة عاشوراء له أثر قوي للوصول إلى المقصود؟
س9: ورد في زيارة عاشوراء اللَّعن على بني أميَّة قاطبة مع أنَّه ذكر التَّأريخ أنّ معاوية بن يزيد بن معاوية كان موالياًَ للإمام زين العابدين (علیه السلام) فكيف يكون الَّلعن إذن؟
المذنب
مصطفى بابا الموسوي
ج / بسمه تعالی
ج1: لم تكن نيَّة الأفعال المستحبَّة واجبة، وإنَّما هي شرط في صحَّة العمل، إضافة إلى أنَّ استحبابها كاستحباب أصل العمل، ولا مانع من
ص: 155
الالتزام بهذه الزِّيارة لغرض دنيوي مشروع آخر غير أصل أداء الزِّيارة ما دام منوياً به القربة إلى الله لصالح الدُّنيا والآخرة من دون أن تحتاج تلك النيَّة إلى اللفظ المذكور في السُّؤال، والله العالم.
ج2: لابدَّ من ذكر صورة اللَّعن الكبيرة المذكورة في الزِّيارة الشَّريفة (100) مرَّة، وإن أريد الاختصار فلتذكر الكبيرة مرَّة ثمَّ تكرر بعد ذلك صورة (اللُّهمَّ العنهم جميعاً) (99) مرَّة، ولا يصح التَّصرُّف بغير ما ورد اجتهاداً في مقابل النَّص، والله العالم.
ج3: لابدَّ من الالتزام بذكر صورة السَّلام الكامل مائة مرَّة طبقاً لصورة الزِّيارة المذكورة في الرِّواية، وإن أريد الاختصار فلا مانع من ذكره كاملاً مرَّة واحدة ثمَّ تكرِّر قراءة (السَّلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين) (99) مرَّة، والله العالم.
ج4: إنَّ المقصود بتبرُّك الأعداء وهم بنو أميَّة وفرح أتباعهم اللقطاء وهم آل زياد حول يوم عاشوراء يوم المأساة العظمى لا يوم أعياد الأئمَّة (علیهم السلام) كأيام ولاداتهم، وإن كان استحباب قراءة هذه الزِّيارة ثابت حتى في أيام ولاداتهم(علیهم السلام)اعتباراً، لأن يكون كل يوم هو يومعاشوراء وكل أرض هي كربلاء، لعظم يوم المأساة هذا وإن توسعت اعتبارات مأساته، لأنَّ النهضة الحسينيَّة ثورة الحق كلِّه ضدَّ الباطل كلِّه من دون أن تتقيَّد بزمان أو مكان وإن صادف أن تقرأ الزِّيارة يوم عيد من أعيادنا ولأن أعيادنا مخلوطة بالمآتم إلى أن يثور ثائر الحسين (علیه السلام) كما قال زين العابدين (علیه السلام):
ص: 156
يفرح هذا الورى بعيدهمُ *** ونحن أعيادنا مآتمنا
والله العالم.
ج5: نعم قد يكون ما يقوله البعض بهذا القيد ملتزماً به ومجرباً، ولا مانع من الالتزام به في نفسه إذا كان تابعاً لما ورد ولو بمقدار ما يسمح به من التَّسامح في السُّنن، ولكن لا يعني ذلك أن لا يجوز تعدُّد المكان والزمان أو حتَّى في السيَّارة وغيرها لعدم ثبوت العكس بالدقَّة ولكن المحرز هو استحباب الاتِّجاه في قراءتها إلى جهة المرقد الكربلائي الشَّريف بالنَّحو المفضَّل وإن لم يكن فإلى تلك الرُّوح الجهاديَّة العظمى الَّتي ملأت الدُّنيا بعطاءها، والله العالم.
ج6: لا مانع من قراءتها في السيَّارة أو السُّوق مع عدم توفُّر المجال في الجو الطبيعي كما أشرنا آنفاً، والله العالم.
ج7: النية هي الخطور الذِّهني قصداً لها وإن كان بنحو الدَّاعي إلى العمل المراد، ولكن لا على أن يتعدَّى المعنى الَّذي يحمله اللَّفظ المذكور في السُّؤال كالنيابة عن أحد الأئمَّة (علیهم السلام) لقضاء الحاجة الشَّرعيَّة الخاصَّة أو النيابة عنهم (علیهم السلام) مثلاً وإهداء الثَّوابللوالدين.
ج8: المجرَّبات كثيرة عندنا وعند غيرنا ما دمنا لم نختلق من أنفسنا أمراً إلاَّ عن أصوله في الشَّريعة ومن مجرَّبات الإماميَّة الموروثة "صانها الله من كل سوء" دون أن يكون في خصوص زيارة عاشوراء، والله العالم.
ج9: لعن بني أميَّة قاطبة في الزِّيارة لا يعني أن لا يكون من ذراريهم من لا يستنكر أعمالهم وإن بقي في عزلة عن التَّشيُّع العظيم أو كان
ص: 157
سياسيَّاً في مجاملاته كعمر بن عبد العزيز الَّذي رفع السَّب عن أمير المؤمنين (علیه السلام) وأرجع فدكاً لأنَّه لو كان كما يريده الأئمَّة(علیهم السلام)لأرجع الخلافة إلى أهلها الشَّرعيِّين، أو كان مثل الخارج خروجاً موضوعياً بناء على أن لكل قاعدة من شواذ، والله العالم.
نص توجيهات
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
سماحة المرجع الديني آية الله العظمى
السيد علاء الدين الموسوي الغريفي (دام ظله)
س/ كيف يكون الإنسان حسينيَّاً؟ أو ما هي نصائحكم لمن يريد أن يكون حسينيَّاً؟ أفتونا مأجورين؟
مجلَّة عاشوراء من البحرينبسم الله الرَّحمن الرَّحيم وبه نستعين
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى الأئمَّة من آله آل الله، والمستشهدين في كربلاء، مع الحسين سيد شهدائها في سبيل الله، واللعن الدَّائم على أعدائهم جميعاً أعداء الله، وبعد:_
فسلام دائم وتحيَّة حارَّة مع دعوات خالصة لتحقيق أمانيكم الحسينيَّة البحرانيَّة من النَّجف الأشرف.
ص: 158
ثمَّ إنَّ الحديث عما تبغيه مجلَّتكم الحسينيَّة المباركة تحتاج إلى تفصيل لا يسعنا الآن إلاَّ أن نوجزه بما يمكننا بعد تعب الرجوع من فريضة الحج مع الاعتذار فنقول مستعيناً بالله تعالى.
لمَّا كانت النَّهضة الحسينيَّة المعطاء العظمى واسعة الأهداف _ إنسانيَّاً ودينيَّاً وإسلاميَّاً وإيمانيَّاً _ منيرة بإنارتها العامَّة _ غير الخاصَّة _ والنَّوعيَّة _ غير الشَّخصيَّة _ في كل دروب الحياة المظلمة، في طول التَّأريخ وعرضه، بسبب بقايا التَّخلُّف الجاهلي، وزرع مشاكل أهل النِّفاق بعد الثَّورة المحمديَّة الكبرى، والانقلاب على الأعقاب، وكثرة الفتن الَّتي لا يصبر عليها غيور، لا كما يقوم به بقيَّة الثَّائرين مهما ارتقوا ، كما لا يخفى على العارفين، سواء كانوا حسينيِّين أم من غيرهم من المكابرين، وممَّن تأخذهم العزَّة بالإثم أو من كانوا في طريقهم إلى الهداية، لكون الإمام الحسين (علیها السلام) اقتضت أهدافه العظيمة من ثورته الجسيمة، الثَّورة الهائلة ضد الكفر والشِّرك والنِّفاق وأهلهما، وبمستوى ما رآه من ذلك الانقلاب على الدِّين والانفلات عنه في الصورة والجوهر، وبما لايمكن أن يُتحمَّل، كمثل ما كان ممَّا يمكن تحمُّله أو يصبر عليه ولو على مضض، ولوقت محدَّد في مثل عهد أبيه أمير المؤمنين (علیها السلام) وأخيه المجتبى (علیها السلام)، وبالأخص بعد نزول آية الانقلاب، والَّتي من مصاديق خبرها مؤامرة السَّقيفة (سقيفة بني ساعدة) الثُّلاثيَّة، ورزية يوم الخميس، ومحنة الزَّهراء (علیها السلام)، والَّتي تمَّت فيها مطالبتها (علیها السلام) في الخطبتين العظيمتين بالحق القيادي الإلهي لزوجها، وبقيَّة الأمور الأخرى المهمَّة، وازدياد الغمط لهذه الحقوق المشروعة، والفساد الشَّديد من القوم في ذلك، وإلى حد الرِّضا
ص: 159
منهم بخصوص المظهر بالإسلام القشري في أنفسهم وإن بقيت الجاهليَّة أو بعضها في أعماقهم، ممَّا قد وسَّع في ازدياد هذا التَّخلُّف كثيراً، وأعاد الكفر في الأمويين وأنصارهم، بما لا أمل للرَّجعة فيه منهم أبداً، تلك الثَّورة الإلهيَّة ضدَّ الأمويين وأمثالهم، مع قلَّة النَّاصر عدداً وعدَّة كثورة بدر، بل أسمى وأشد عمقاً وأشعب أهدافاً، إذ إنَّ الأولى كانت تحاسب الأعداء على تنزيل القرآن، وهذه أخذت تحاسبهم على تأويله، ولذا صار الإسلام بعد جدِّه (صلی الله علیه و آله) وأبيه وأخيه (علیهما السلام) (حسيني البقاء) وكما قال الإمام الحسين (علیها السلام) في بعض كلماته المدويَّة في وصف أصحابه (لم أرَ أصحاباً كأصحابي)، وقال كذلك عن هدفه السَّامي العميق (إنِّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أمَّة جدِّي وأبي وأخي ولآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق) وكلام الإمام إمام الكلام، حتَّى أصبحت مثلاً ومثالاً عظيماًيقتدي به الثَّائرون، وإن كان بعضهم في كفر الانحراف أو فسقه، لكونهم يحملون من جهة أو جهات إنسانيَّة أو عدالة أو نحوهما، أو كانوا يتحلَّون ولو ظاهريَّاً من تلك النَّزاهة العظمى في الذِّكرى، ليتستَّروا بها ولو ببعض معانيها للخلاص من بعض الضغوط الدُّوليَّة عليهم، لعسر الوسيلة النَّاجحة إلاَّ عن طريقها، كما حدث لغاندي إمبراطور الهند، وقال عما اُبتلي به بما يناسب المقام (تعلَّمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فانتصر)، ولعظمتها هذه أصبحت ثورة ناجحة على كل الطَّواغيت في الأرض طولاً وعرضاً.
فلأجل هذه الأسباب وأمثالها لم يكن بالإمكان التَّام وكما قد يرام
ص: 160
أن يكون الإنسان حسينيَّاً وبهذه السهولة، للتَّفاوت الواضح بين هذا الإنسان أو ذاك في الإسلام وغيره والإيمان وغيره، ولو تضخمت المزاعم أو تكثرت أو ظهرت بعضها في الميدان، إلاَّ بعد الإسلام وتمام الإيمان ومعرفة أسباب هذه النَّهضة وأهدافها الحقيقيَّة العظيمة والاندماج فكريَّاً وعقائديَّاً بمقتضياتها ومعطياتها وإلى حد ذلك الإيمان الكامل وكما سيتَّضح أكثر إذا أردنا المعنى الحسيني الحقيقي، بل لم يفز بذلك إلاَّ الشُّهداء مع سيِّدهم ومن تلاهم من هذا الوزن الإيماني ولو لم يقتل لبعض الأسباب.
ولقلَّة أمثال هذا النَّوع حسب العادة لتصريح القرآن الكريم في عموميَّات آياته بقوله تعالى «وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ» وقوله كذلك «وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ» وقوله «وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ»، وتصريح الإمام الثَّائر نفسه لسان أخيه وأمه وأبيه وجده بقوله (إذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّالدَّيانون)، لا ينبغي أن تكون هذه القلَّة مكبِّلة لقوى الحق وقدراتها عن أن تنهض بأعباء القضية بأي نوع من النَّجاح أو الإنجاح، حتَّى تمنع شرعاً من النهوض ضدَّ الظلم والكفر والطغيان والفساد، بل إنَّها قد تكون هي النَّاجحة أو الأنجح ولو في بعض المقامات دون بعضها الآخر، وبالخصوص لو حوت القيم وسامي الأهداف مع الصمود والمفاداة، وبالأخص لو دعمت بالقوَّة الغيبيَّة وخرق العادات من تلك الغيبيَّات، وما أعطاه الله تعالى لشجعان الإيمان وأقوياء الأهداف الإلهييِّن من الَّذين لا يبالون بالموت سواء وقعوا على الموت أو وقع الموت عليهم، لنبلهم المحرز في القضية كعلي (علیها السلام) وأمثاله في المبيت على الفراش وفي بدر وحنين
ص: 161
وأحد والأحزاب، وكشهداء الطفوف الَّذين سطَّروا الملاحم وهزموا الألوف مع تلك القلَّة في العدد والعدَّة، لأنَّ إمامهم أمامَهم، وشعاره الأسمى مستقر في قلوبهم وهو (إمَّا النَّصر أو الشَّهادة)، من دون أي احتمال لأن يزولوا عن طريقته لاختباره لهم بمختلف الاختبارات الكاشفة عن عمق إيمانهم، ولذلك كان قوله تعالى في القلَّة المؤمنة كهذه«كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ».
ولكن مضافاً إلى ذلك فإنَّ للإسلام العزيز أساليبه الكسبيَّة النَّاجحة لإدخال غير أبناءه فيه، وللإيمان الإسلامي تجاربه الخدميَّة العلميَّة الفائقة في استقطاب الأشخاص البعيدين عنه، لترسيخ ذلك الإسلام في نفوسهم وجعله إيماناً إقراريَّاً واعتقاديَّاً وأركانيَّاً وعلى أحسن ما يرام، فقد سطَّر النَّجاحات تلو النَّجاحات على أيدي أكفائنا من السَّلف الصَّالح وحتَّى هذا الحين، وأوصل من كان جوه جو يأس في أن يكون حسينيَّاً _ لبعدهأو ابتعاده أو إبعاده عن الخط الإلهي والنَّبوي والإمامي والحسيني بطريقة أو أخرى، وإن كان مع كونه مسلماً فقط أو مؤمناً محبَّاً، لا كدرجة الموالين فضلاً عن الأقل من ذلك للحاجة إلى نوعيَّتهم _ إلى أن يكون كذلك من التَّوجيهات والمواعظ والإرشادات والشِّعاريَّات الملهبة للضَّمائر الحيَّة والمنادية بحق المظلومين كسيِّدهم الحسين (علیها السلام) وغير ذلك من الكثير ممَّا يجري في سبيل نهضته.
وهذا ما يمكن أن يتحقَّق _ وبتوضيح آخر من غير ما بيَّنَّاه _ فيمن تتوفَّر فيه أمور _ وإن كانت قد تتفاوت بعضها عن بعض من موقع النَّهضة الحسينيَّة على الإنسان أو ما يتفاوت أمر حسينيَّة ذلك الإنسان بين العمق
ص: 162
والسَّطحيَّة مع كون الحسينيَّة الحقيقيَّة لابدَّ وأن تكون الواصلة إلى حد الصُّمود والتَّفاني في سبيل النَّهضة من جميع مجالاتها _ حرصاً منِّا على حفظ هذا النَّاموس القويم ولو بالأقل رغبة في توسعة الرُّقعة الحسينيَّة العميقة لتضخيم تأثيراتها ولو بعد حين:
1._ التَّديُّن بالدِّين الإسلامي، تديُّناً صادقاً وصحيحاً لفظاً وعقيدة والتزاماً إيمانياً لا نفاق فيه، وعلى نهج النَّبي (صلی الله علیه و آله) وآله الطَّاهرين (علیهم السلام)، والفرح بفرحهم والحزن بحزنهم وإلى حد التَّفاني والتَّضحية منهم وفيهم في هذا السبيل إن اقتضى الأمر كذلك، والتَّوبة والإنابة والاستغفار من كل ذنب صدر من أتباعهم قبل ذلك في أيَّامهم أو بعدها.
وهذا التَّفاني منهم لم يكن مختصَّاً بخصوص الاستشهاد في سبيل النَّهضة الحسينيَّة أو ما به خدمة خالصة للإسلام والإيمان على نفس الخطالمذكور كما مر، بل إنَّما هو في عموم القضيَّة من بقايا أنواع الجهاد الأخرى، وباللسان والقلم وتعظيم الشَّعائر الدِّينيَّة في مواسمها والبذل الثَّقافي وإطعام الطَّعام وتشييد المجالس والمواكب أو غير ذلك، إذا كان هذا الكل منبعثاً من واقعيَّة اعتقاديَّة واحدة، لأنَّ الملاك في الجميع واحد.
2._ دراسة النَّهضة الحسينيَّة، أسبابها ومسبِّباتها وأبعادها من وجهتها الخاصَّة من جميع وجوهها، ومن مصادرها الصَّحيحة فضلاً عن أن يكون منها ما يرويه الأعداء أنفسهم، والتَّجرُّد عن كل العواطف الرِّخيصة الأخرى، والشُّبهات المتأخِّرة المثارة ضدَّها من أعداء الإسلام والمذهب الحق، للوصول إلى الحق الثَّابت فيها، وعلى أساس قول النَّبي صلی الله علیه و آله في سبطه الشَّهيد (حسين منِّي وأنا من حسين) وغيره.
ص: 163
فإنَّها بما أنَّها سر قويم للإسلام الصَّحيح فلابدَّ من أن يستثمر منها دارسها حسينيَّته، حتَّى لو كان غير مسلم أو غير مؤمن، فمن أسلم عن هذا الطَّريق وعلى خير ما يراد نال حسينيَّته المطلوبة تماماً، ومن آمن بعد إسلامه السَّطحي فكذلك، إلاَّ من بقي على كفره أو مجرَّد إسلامه السَّطحي، أو اعتقد بجانب دون جانب من هذه القضية، فلم ينل تلك الدَّرجة المثلى قطعاً، اللَّهم إلاَّ من استشهد مع الحسين (علیها السلام) كالحر، وزهير بن القين، ووهب بن حباب الكلبي ونحوهم، وهكذا من ضحَّى في زمن الأئمَّة الباقين (علیهم السلام) بأمرهم أو بترخيص منهم، ومن نفس المستوى المبني على جوهريَّة الواقع، بل وهكذا في زمن الغيبة الكبرى هذه، إذا كانت تحت إشراف الفقهاء من رجال الجهاد الدِّفاعي وإن كان هجوميَّاً في بعض الحالات الَّتي يشخِّصها ذلك الفقيه الإلهي الحاذق فيكل من ختم حياته بذلك، لحسن عاقبته وإن سبق ذلك بعض الانحرافات الممحاة بالاستغفار والتَّوبة النَّصوحة، أو فعل ما يوصل إلى تلك الدَّرجة من الجهاديَّات الأخرى وإن بقي حيَّاً كما مر.
وبتعبير آخر إنَّ الصِّفة الحسينيَّة في الإنسان هي الأقرب إلى الإيمان الكامل أو هي نفسها، وهي الَّتي تصلح لأن تسمَّى بالموالاة لآل الله والبراءة من أعدائهم، وإن لم تختم بالشَّهادة المرادة بمعنى القتل في سبيل الله كشهداء كربلاء، حين عدم وجود مقتضى لذلك شرعاً، ويلحق بذلك التَّفاني في أمر ذلك الجهاد من المصاديق الأقل من القتل، من مثل الإعلام والوعظ والإرشاد والتَّفقيه الكامل وإحياء الشَّعائر في أفراح وأتراح الإسلام ونحو ذلك من إراءة المجتمعات الحاليَّة عظم هذه الذِّكرى
ص: 164
الإلهيَّة، لتكون ثورتها باقية غضَّة في صرختها المدويَّة ضدَّ الطَّواغيت، وإلى أن يثور ثائر الحسين (علیها السلام) ولي العصر المنتظر في ثورته العظمى الأخيرة لدولة آل محمَّد الموعودة.
3._ نعم ينبغي _ في هذا الثَّالث وهو كثير المصاديق _ أن لا يبخس في حق أحد منهم ممَّن دون أهل الإيمان الكامل، من ذوي الصِّفة الحسينيَّة بالاعتبار السَّطحي أو في بعض الاعتبارات لا في جميعها، سواء المؤمنين أو المسلمين أو الإنسانييِّن من بقيَّة من يتعاطف مع هذه الذِّكرى، أو يحسب أن يكون محسوباً له حسابه الإيجابي عند المؤمنين الحسينييِّن دنوا من هذا الاتِّصاف الشَّريف لاحتمال هدايتهم لذلك هداية صادقة.
فينبغي بل يجب في بعض الحالات أن يرحَّب بهم ويشجَّعوا في كبارهم وصغارهم ونسائهم ورجالهم، وأن يتحفوا بمعلومات السُّمووالرِّفعة من هذه الذِّكرى المباركة، وأن لا يقصَّر في حق أحد منهم كل بحسب استعداده وتقبُّله منهم، رغبة في تكثير أهل الصِّفة الحسينيَّة الواقعيَّة ولو لتأتي بعد حين، وتحقيقاً لأمل سلفنا الصَّالح في وعاتنا تجاه أمثال هؤلاء لئلا يتشتَّتوا، أو توسعة لرقعة المؤيِّدين لهذا الخط ولو من النَّمط الأدنى، فإنَّه أهم من العدم قطعاً في هذا العالم الإسلامي وغيره، مع وجوب الحذر في نفس الوقت لو شُكَّ في بعض المندسِّين من هؤلاء، وفي إخلاص بعض المستشرقين، والَّذين يحاولون التَّستُّر بهذه الصِّفة الثَّمينة، للاصطياد في الماء العكر، ومنهم الإعلاميُّون المشهرِّون عن الذِّكرى بما لا يناسبها وتقييمها بقيم متواضعة لا تتناسب وعظمها، ولذلك ينبغي أن نجعل هؤلاء وأمثالهم صالحين لأن يكونوا في هذا
ص: 165
الثَّالث من الأمور أصحاب شرط ثالث إن كان لصدق الوصف الحسيني لهم ولو في الجملة.
4 __ بل حتَّى بعض من استثنيناهم ممَّن ينبغي الحذر منهم ممَّن يمكن أن تنتفع منهم أساسيَّات الذِّكرى الحسينيَّة وتقوى مظاهرها الشَّعائرية في أمر رابع وإن لم ينتفعوا هم بها، لسوء مقاصدهم أو استمرارها، مضافاً إلى ما قد يحصل من ذلك من بعض المنافع في بعضهم بعد الوعظ والإرشاد لهم ممَّا مرَّ، ومن باب (من فمك أدينك)، أو من باب إجراء قاعدة الإلزام على قضاياهم المشاركة لنا، لاعتبار أنَّ من إعلاميَّات وتشهيرات بعضهم كانت في نظرهم ولو بحسب الغرض الظاهري كاملة الإيجابيَّة للوصف الحسيني ونهضته الجبارة، إلاَّ أنَّهم وضَّفوها بسبب وآخر في الباطن تحت عناوين الاستنقاص الَّذي لم يثبت كامل القبح الواقعي فيهحتماً بحسب الواقع، لسوء فهم أو قصد أولئك المشهِّرين في الحقيقة ونحوه، وللتَّفاوت فيهم بين القصور والتَّقصير، وفي التَّقصير بين الالتفات وغيره وإن عاداها الكثير منهم واقعاً.
فهذا أيضاً يمكن أن يكون ممَّا قد تتَّسع له بعض الشُّروط القابلة لتوسعة الميزانيَّة الحسينيَّة وإن خفَّت موازينها عندهم، آملاً بتوسعة هذه الرُّقعة كذلك وعلى قاعدة (ربَّما يوجد في الأسقاط ما لا يوجد في الأسفاط) و (ما لا يدرك كلُّه لا يُترك كلُّه) لقوله تعالى «إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ».
وإلى مزيد من نشر الوعي الحسيني الهادف والمساعدة على نجاح التوعية وإنجاحها ومن التَّماسك الحسيني المطلوب وتشجيع من كان دون
ص: 166
ذلك في جميع أجوائنا من بحريننا الكبرى وعراقنا الجريح الثَّائر وإيران الإسلاميَّة وكافَّة دول المنطقة الإسلاميَّة وغيرها للنُّهوض في وجه الطُّغاة ونجاحه وإنجاحه بهذا التَّماسك الإلهي الموحَّد.
والحمد لله كما هو أوَّل الكلام، فهو مسك الختام، والسَّلام على كل من اتَّبع الهدى واستقام، ضدَّ أعداء النَّهضة الحسينيَّة من الأموييِّن والخوارج والتَّكفيريين، ومن سار على نهجهم حتَّى ظهور وقيام صاحب القيام (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، ورحمة الله وبركاته.
النَّجف الأشرف - 24 ذي الحجَّة الحرام
1426هزيارة الحُسين (علیهما السلام) يوم الأربعين والمشي على الأقدام(1)
س / إنَّ رواية رجوع سبايا آل محمَّد "صلوات الله عليهم" يوم الأربعين إلى كربلاء لم يذكرها إلاَّ السيد ابن طاووس في الملهوف وابن نما اعتماداً على الملهوف إلاَّ أنَّ السيد ابن طاووس الَّذي هو أصل النَّقل رجع عن ذلك في كتابه الإقبال وعليه فهنا نقول:_
هل إذا ثبت ذلك لا يجوز لنا نقل هذه الرواية أم أنَّ هنالك مستنداً آخر ولو
ص: 167
لاحتمال البعض أنَّ تأريخها كان في السنة الثَّانية؟
ج / بسمه تعالی
إنَّ موضوع رجوع سبايا آل محمَّد "صلوات الله عليهم" جميعاً إلى كربلاء يوم الأربعين من نفس سنة الاستشهاد لا يتعلَّق بأصل زيارة سيِّد الشُّهداء (علیه السلام) وأهل بيته الكرام (علیهم السلام) في يوم الأربعين، لأنَّ يوم الأربعين من ذلك الأصل الثَّابت في الرِّوايات العامَّة الَّتي ليس هنا محلُّها.
يبقى الأمر بحاجة إلى إثبات كون الإرجاع إن كان ثابتاً في أربعينيَّة الاستشهاد للسنة الأولى أم في السنة الثَّانية إن كان ذا فائدة؟
إضافة إلى أنَّ زيارة الأربعين من اجماعات الإماميَّة ومن علامات المؤمن كما عن الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) (علاماتالمؤمن خمسة صلاة الإحدى والخمسين وزيارة الأربعين والتَّختُّم باليمين وتعفير الجبين والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم)(1) وقد طفحت بذلك كُتب الأدعية والزِّيارة وسيتَّضح قريباً.
في حين إمكان أن يُستفاد منها ظهور ذلك في نفس السَّنة دون غيرها وتكرار ذكراها في كلِّ عام من ذلك الأصل، بل ومجرَّد لفظ الأربعين ممَّا يُستبعد أن يُراد منها الأربعون من السنة الثَّانية إذا كانت بداية أيَّامها يوم عاشوراء الأصيل لبُعد المدة المغاير لمسافة ما بين الشَّام والعراق، كما أنَّها لم يظهر منها أنَّها بما بعد السَّنة الأولى لتكون البداية من السَّنة الثَّانية،
ص: 168
لأنَّ الأظهر إضافة إلى الظاهر هو كل سنة على ما تمَّ توجيهه في مقامات أخرى غير هذا المقام.
وخير شاهد على ذلك ما عن زرارة بن أعين عن أبي عبد الله الصَّادق (علیه السلام) أنَّه قال: (إنَّ السَّماء بكت على الحسين أربعين صباحاً بالدَّم، والأرض بكت عليه أربعين صباحاً بالسَّواد، والشَّمس بكت عليه أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة، والملائكة بكت عليه أربعين صباحاً وما اختضبت امرأة منَّا ولا ادهنت ولا اكتحلت ولا رجلت حتَّى أتانا رأس عبيد الله بن زياد وما زلنا في عَبرة من بعده)(1).
وقال الباقر (علیه السلام) (إنَّ السَّماء بكت على الحسين أربعينصباحاً تطلع حمراء وتغرب حمراء)(2).
وأمَّا موضوع رجوع السَّبايا فقد ذكر جمع من علماء الفريقين إضافة إلى السيد ابن طاووس (رحمة الله) في كتابه الملهوف أنَّ رجوعهم في نفس سنة الاستشهاد ومن دون اكتراث ببُعد المسافة بين الشَّام وكربلاء للقرينة المقاميَّة بين جميع الرِّوايات، منهم:_
1 _ أبو الريحان البيروني في كتابه(3) قال: (في العشرين من صفر ردَّ رأس الحسين (علیه السلام) إلى جثَّته حتَّى دفن مع جثَّته، وفيه زيارة الأربعين، وهم حرمه بعد انصرافهم من الشَّام).
ص: 169
2 _ القزويني في كتابه(1) قال: (في العشرين من صفر رد رأس الحسين (علیهما السلام) الى جثته).
والتَّلازم بين ردِّ الرَّأس الشَّريف وبين مجيء الإمام السجَّاد (علیه السلام) والحرم واضح لا لبس فيه لأنَّه كان بصحبتهم.
3 _ ابن حجر الهيثمي في المنح المكيَّة(2) قال: (وقيل أعيد رأس الحسين (علیه السلام) بعد أربعين يوماً من مقتله).
والقيل لم يكن دليلاً على خصوص الاستضعاف ولم يثبت ولو في ضعف على أنَّه جاء به الأعداء تشبُّثاً بلفظ الفعل المبني للمجهول فيروايات ردِّ الرؤوس لأنَّ صفة السَّبي انتهت عنهم ومعم ولي الأمر الإمام زين العابدين (علیه السلام) كما سيأتي عن البحار.
4 _ الشيخ الشبراوي في كتابه الاتحاف(3) (قيل: إنَّه أُعيد إلى جثَّته بعد أربعين يوماً)، وهذا القيل كسابقه.
5 _ الشَّيخ البهائي في كتابه توضيح المقاصد(4) (وفى هذا اليوم وهو يوم الأربعين من شهادته (علیه السلام) كان قدوم جابر بن عبد الله الأنصاري رحمة الله لزيارته (علیه السلام) واتَّفق في ذلك اليوم ورود حرمه (علیه السلام) من الشَّام إلى كربلاء قاصدين المدينة على ساكنها السَّلام والتَّحيَّة).
ص: 170
ومن هنا ولخبرة الشَّيخ (رحمة الله) المعروفة كان في قوله قرينة لفظيَّة على كون الزِّيارة في نفس العام وكون الرؤوس ما جاءت إلاَّ مع الحرم (علیهم السلام).
6 _ نقل الشَّيخ المجلسي (علیه السلام) الشهرة بين الأصحاب قال(1) (اعلم أنه ليس في الأخبار ما العلة، في استحباب زيارته "صلوات الله عليه" في هذا اليوم؟ والمشهور بين الأصحاب أن العلَّة في ذلك رجوع حرم الحسين "صلوات الله عليه" في مثل ذلك اليوم إلى كربلاء عند رجوعهم من الشَّام، وإلحاق علي بن الحسين "صلوات الله عليه"الرؤوس (علیهم السلام) بالأجساد).
أقول إنَّ العلَّة واضحة في المقام بزيارة الإمام السجَّاد (علیه السلام) لأنَّه ما وصل إلاَّ للزِّيارة وإرجاع الرؤوس، ولذا كان غيره من بعض الأئمَّة (علیهم السلام) الباقين فيما بعد ذلك من السِّنين قد قاموا بهذه الزِّيارة وتبعهم الموالون لهم حتَّى في أشد الظروف، وهو المنشأ للشُّهرة حتَّى صارت سنَّة شريفة متبَّعة من الأئمَّة(علیهم السلام)الَّذين أوَّلهم السجَّاد (علیه السلام) عند قيامهم بها، وكذلك من سيرة الصَّحابي جابر ابن عبد الله (دام ظله) من علمه بأهميَّة الزِّيارة الخاصَّة من النَّبي (صلی الله علیه و آله) ومن بعده من الأئمَّة (علیهم السلام) وآخرهم السجَّاد (علیه السلام) ثمَّ تلاه بقيَّة الأئمَّة (علیهم السلام)وشيعتهم ، وقد يشيَّد الرُّجحان لذلك بالجمع بين إجماع رجحان هذه الزِّيارة الخاصَّة وشهرة إرجاع الرؤوس لعدم التَّنافي بين المقامين بل للتَّقارب أيضاً.
7 _ الشَّهيد القاضي الطَّباطبائي (رحمة الله) في كتابه (تحقيق حول الأربعين
ص: 171
الحُسيني)، وقد أجاد في تحقيقه وردِّه على من يُنكر هذا الرَّأي ويستبعده وهو ما نقل أنَّه في السنة الثَّانية لبُعد الطَّريق، واستشهد بشواهد كثيرة:_
منها تحقق السَّير من العراق إلى الشَّام وبالعكس في مدَّة عشرة أو ثمانية بل وحتَّى سبعة.
ومنها ما ذكره السيِّد محسن الأمين (رحمة الله)في أعيان الشَّيعة، أنَّ هناك طريقاً مستقيماً بين العراق والشَّام، يسلكه أعراب العُقيل في زمانناهذا خلال أسبوع فقط.
كما ذكر الأمين أن أعراب صليب _ وهم من حوران الواقع في قبلة دمشق _ كانوا يسيرون السير إلى العراق في مدة ثمانية أيام، فليراجع.
أمَّا رجوع ابن طاووس (رحمة الله) عن رواية رجوع السَّبايا يوم الأربعين إلى كربلاء إن كان رجوعاً عن اعتبارها رواية صحيحة ومعتبرة لا رجوعاً عن أصل اعتبارها أي حتَّى لو كانت ضعيفة السَّند فيمكن البناء عليها كالبناء على ما يُستحب القيام به في الرجائيَّات أو قاعدة (من بلغه ثواب على عمل) ولو بنحو التَّسامح في أدلَّة السُّنن.
وإن كان رجوعاً عن اعتبارها كرواية صحيحة ومعتبرة، بل وكذا لو كانت ضعيفة بحيث لا يجوز التَّصُّرف في هذا الأمر لإبطال المشروع غير المستند إلى دليل وإن كان ضعيفاً فهو من البدع الَّتي يُطبِّل لها ويُزمِّر الأعداء النَّواصب والوهابيُّون ولو بأتفه الشُّبهات لأنَّهم يتشبَّثون بالحشيش في حال غرقهم في بحر ظلماتهم.
لكن شهرة القضيَّة وكون العوام منَّا غير مكلَّفين بالرُّجوع إلى ابن طاووس (رحمة الله) تقليداً له لعدم جواز تقليد الموتى ابتداءاً، ونحن في أتم خير
ص: 172
ببركة المصادر الكثيرة وكثرة أهل العلم المدقِّقين حتَّى في أمر ارجاع الرُّؤوس الَّذي قبل بأنَّ له روايات أخر تقول بأنَّ لها مدافن أخر غير كربلاء لكون الشُّهرة في العود تعارضها ولاحتمال كون تلك المدافن الأخرى هي مواضع وضعها في تلك الأماكن مؤقَّتاً لا دفنها كما قيل _ هي خير ما يُلقمون به حجراً ومبقياً لهم على توحلهم وغرقهم في ظلماتهم، إضافة إلى وجود ما أعطته المصادر الأخرى الَّتي مرَّ بعضها،لأنَّ العلم كلَّه في العالم كلِّه وجلَّ من لا يخطأ إلا ابن طاووس (رحمة الله) وغيره من غير المعصومين مع أرجحيَّة حمله على المعنى الأوَّل إن كان هناك خلل عنده في سند الرِّواية لا بمعنى هجرها عن تأثيرها ولو بما مرَّ ذكره، وأمَّا إذا كانت هناك استفاضة فيها على الأقل من الشُّهرة فغريب منه أن لا يبني على قوَّة الاستحباب، لأنَّ عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود من غيره من المجتهدين بل اثبات الشَّيء لابد أن لا ينفي ما عداه كما مرَّ تحقيقه وقد تحقق ولو على الإجمال غير المعارض بما يساويه، والله العالم.
س / ما هو رأيكم (أيَّدكم الله) بزيارة الأئمة (علیهم السلام) مشياً على الأقدام، ولا سيَّما زيارة الإمام الحسين (علیهم السلام)؟ وهل من دليل معتبر على ذلك؟
ج / بسمه تعالی
الزِّيارة لمراقد النَّبي (صلی الله علیه و آله) وآله وهم الزَّهراء والأئمَّة (علیهم السلام) من أفضل الأعمال الَّتي تعظَّم فيها الشَّعائر الدِّينيَّة في حياتهم وبعد مماتهم بالسُّمِّ والقتل لأنَّها بذلك كما قال تعالى «ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن
ص: 173
تَقْوَى الْقُلُوبِ»(1).
وبالأخص زياراتهم المخصوصة الَّتي يُعد تركها من الجفاء بمكان، وأفضل ما يسمح به أمر التَّعظيم المهم هو زيارة الإمام الحسين(علیه السلام) شهيد الطُّفوف، الَّذي فدى نفسه وأهل بيته وخُلَّص أصحابهحتَّى سُبي عياله، لإحياء دين جدِّه (صلی الله علیه و آله) بعد ما حاول إماتة قيمه المنقلبون على الأعقاب وطواغيت الأرض من أسلاف الأمويين فضلاً عنهم، لأنَّ الإسلام (محمَّدي الحدوث وعلوي البناء وحَسني التَّمهيد وحُسيني الخلود والبقاء)، وحاولوا أن يديموا ذلك لتنساهم الأمَّة ولكن شاء الله أن ينقلب السِّحر على السَّاحر «وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»(2) بهذه التَّضحيات العِظام الَّتي لابدَّ وأن تبقى هي المقدَّسة في ذكرياتها بإحيائها في مثل يوم عاشوراء والأربعين ونحو ذلك من أيَّام الزِّيارات المخصوصة الأخرى في كل سنة وعام، لإدامتها وإدامة الضَّغط على طواغيت العصر للقضاء عليهم بإدامتها ولإدامة النَّصر ولو بملأ مشاعر الأمَّة دوماً وبشتَّى الأساليب ببث معاني نصرة ذلك الدَّم الطَّاهر على السَّيف الَّتي أهون ما يكون من حالاتها كون الزِّيارة مشياً على الأقدام ولو كان هذا المشي من أبعد الأماكن.
لأنَّ بهذا المشي إحياء الدِّين وإماتة الباطل وأهله وتحقيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والملاقاة الاجتماعية بين الأحباء وأهل
ص: 174
العقيدة الواحدة للتَّداول حول مهمَّات الأمور الدِّينية وقضاء حوائج المؤمنين ونحو ذلك في كربلاء المقدَّسة من مختلف الأماكن القريبة والبعيدة ولأنَّ تلبية رغبة المؤمنين بما مضى من أهم الحوائج في ترسيخ عقائدهم في الحسين (علیه السلام)، كيف وقد وصلت نسبة الزَّائرين إلى الأضعافالمضاعفة من الملايين إعراباً منهم عن مسيس حاجاتهم الولائيَّة إلى هذا.
وقد نطق القرآن الكريم بكلمة المشي في قوله تعالى «امْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ»(1)، والمشي لم يرد منه خصوص القريب للإتيان بالرِّزق ونحو ذلك من أمور الحياة الشَّرعية وبكلمة السَّعي الَّتي من أبرز ما فيها من معنى إن تعدَّد معناها بما لا شكَّ فيه هو المشي على القدم مثل قوله تعالى «وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى»(2)، وما ذاك إلاَّ لإرائة الفرق بين السَّعي للخير والسَّعي للشَّر ومقدار المقبول من كل منهما أخرويَّاً في باب الموازين الدَّقيقة وهو ما ينفع في أمر ما نحن في صدده وقوله «وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى»(3) وهي من أوضح ما يفيد في المقام، وأوضح من ذلك قوله تعالى مخاطباً موسى (علیه السلام) «إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى»(4).
ص: 175
وكان النَّبي عيسى المسيح (علیه السلام) يمسح الأرض طولاً وعرضاً للوعظ والإرشاد، وهو منشأ لفظي ومعنوي لتسميته (علیه السلام) بذلك.
وهكذا كان بعض الأئمَّة كالحسن والحُسين وزين العابدين (علیهمالسلام) يقومون بالحج سعياً بين المدينة ومكَّة حتَّى أحصت بعض الرِّوايات لبعضهم خمساً وعشرين مرَّة، فعن الحلبي قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن فضل المشي فقال: الحسن بن علي (علیهما السلام) قاسم ربَّه ثلاث مرَّات حتَّى نعلاً ونعلاً وثوباً ثوباً وديناراً ديناراً وحجَّ عشرين حجَّة ماشياً على قدميه)(1).
وعن الصادق عن آبائه (علیهم السلام) (إنَّ الحسن بن علي (علیهما السلام) كان أعبد النَّاس وأزهدهم وأفضلهم في زمانه وكان إذا حجَّ حجَّ ماشياً ورمى ماشياً وربَّما مشى حافياً)(2).
وفي خبر آخر (وكان الحسين بن علي (علیهما السلام) يمشي إلى الحج ودابَّته تقاد وراءه)(3).
كل ذلك للثَّواب العظيم المرتَّب لكل من يقصد ويؤدِّي هذا العمل قربة إلى الله ولصالح نشر الوعي الدِّيني ولو عن أشق الأعمال لأنَّ
ص: 176
(أفضل الأعمال أحمزها)(1) يعني (أشقُّها وأتعبها) كما في الخبر المشهور بين الخاصَّة والعامَّة عن النَّبي الأعظم (صلی الله علیه و آله).
حيث كان النَّبي (صلی الله علیه و آله) والأئمَّة (علیهم السلام)في عباداتهم وأعمالهم يتحمَّلون المشاق وكانوا يضغطون على أنفسهم القُدسيَّة جوعاً وعطشاً ولبس الخشن وقيام الليل وصيام النَّهار ومشيا للحجِّ بل حفاة من أجل التَّقرب إلى الله سبحانه ونيل الزلفة لديه.
والشَّواهد من الآيات والرِّوايات كثيرة ففي تفسير قوله تعالى مخاطباً نبيَّه الكريم (صلی الله علیه و آله) «طه مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى»(2) كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا صلَّى قام على أصابع رجليه حتَّى تورم فأنزل الله تبارك وتعالي طه …)، وفي الكافي عن الباقر (علیه السلام) قال: (كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) عند عائشة ليلتها فقالت: يا رسول الله لم تتعب نفسك وقد غفر لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ فقال: يا عائشة أو لا أكون عبدا شكوراً؟ قال: كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقوم على أطراف أصابع رجليه فأنزل الله سبحانه طه ما أنزلنا ...)، والشَّقاء هو الشدَّة والعسر.
وفي الاحتجاج عن الكاظم عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين (علیه السلام)قال لقد قام رسول الله (صلی الله علیه و آله) عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورمت قدماه وأصفر وجهه يقوم اللَّيل أجمع حتَّى عُوتب في ذلك فقال الله (عزوجل) «طه مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى» بل لتسعد به قيل والشَّقاء شايع
ص: 177
بمعنى التَّعب ومنه أشقى من رايض المهر وسيِّد القوم أشقاهم ولعلَّه عدل إليه للإشعار بأنَّه أنزل إليه ليسعد)(1).وأيضا جاء في تفسير قوله تعالي في سورة المزمل خطابا لرسول الله(صلی الله علیه و آله)«إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ» إن رسول الله والإمام أمير المؤمنين والصديقة الطاهرة وبعض الخواص من أصحاب رسول الله كانوا يقومون الليل بالعبادة حتي انتفخت أقدامهم)(2).
والمشي إلى زيارة الحسين (علیه السلام) مصداق من مصاديقها، لكون قضيَّته (علیهما السلام) كانت مرتبطة وبادية من محاولة أداءه مناسك الحج مذ كان في مكَّة وما تمكَّن إلاَّ بقلبه إلى العمرة المفردة، لكونه كان مراقباً من الأعداء ففعل ذلك حقناً للدِّماء في الحرم وفي المسجد الحرام والشَّهر الحرام.
ومن ذلك ما عن أبي أيوب الخزاز عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال (من سعى في حاجة أخيه المسلم طلب وجه الله كتب الله له ألف ألف حسنة ينفر فيها لأقاربه وجيرانه وإخوانه ومعارفه ومن صنع إليه معروفاً في الدُّنيا فإذا كان يوم القيامة قيل له أدخل النَّار فمن وجدته فيها صنع إليك معروفاً في الدُّنيا فأخرجه بإذن الله (عزوجل) إلاَّ أنَّ يكون ناصباً)(3).
وفي أخر هذه الرِّواية إشارة لما ينفع في المقام.
ص: 178
وأيضاً ما عن أبي عبيدة الحذاء قال قال أبو جعفر (علیه السلام)(من مشى في حاجة أخيه المسلم أظلَّه الله بخمسة وسبعين ألف ملك ولم يرفع قدماً إلاَّ كتب الله له حسنة وحطَّ عنه بها سيئة ويرفع له بها درجة فإذا فرغ من حاجته كتب الله (عزوجل) له بها أجر حاج ومعتمر)(1).
وإنَّ التَّفاوت الملحوظ بين الرِّوايتين غير ضار بين المليون حسنة والحسنة الواحدة.
لأنّه إمَّا للفرق بين مدارك كل من السَّائلين في نظر الإمام (علیه السلام) أيٍّ كان من الأئمَّة (علیهم السلام)لأنَّ علمهم واحد أو روعي المليون في الأولى أنَّه من صغار الحسنات والحسنة الواحدة في الثَّانية هي كبرى الحسنة أو أنَّ المليون ذكر في الأولى من دون حطِّ السِّيئات في المقابل وبذكر الحسنة الواحدة كان حط للسِّيئة في مقابلها مع الإضافات في كلتا الرِّوايتين وقد تتساوى الرِّوايتان باعتبار آخر بحسب الوقت المتفاوت بين الشدَّة والخفَّة فلا تهافت بينهما ومع ذلك لو نوقش في ذلك فلم تسقط فضيلة السَّعي لعموم ومطلق الحاجات ولو في القدر المتيقَّن منهما لأنَّ به الكفاية المشرعة والمشجِّعة.
وهكذا ما عن أبي حمزة الثَّمالي عن علي بن الحسين (علیه السلام) قال _ في جملة حديثه _ (ومن سعى له "أي لأخيه" في حاجة حتَّى قضاها له فسّر بقضائها فكان كإدخال السرور على رسول الله (صلی الله علیه و آله))(2) إلخ.
ص: 179
وعن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قال (من مشى إلى مسجد من مساجد الله فله بكل خطوة خطاها حتَّى يرجع إلى منزله عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات)(1).
وقال الإمام جعفر ابن محمَّد الصَّادق (علیه السلام) (من مشى إلى المسجد لم يضع رجلاً على رطب ولا يابس إلاَّ سبَّحت له الأرض إلى الأرض السَّابعة)(2).
وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كما رواه جمهور المسلمين (من أغبرت قدماه في سبيل الله حرَّمهما الله على النَّار)(3)
أقول إلى غير ذلك من العمومات والإطلاقات الشَّرعيَّة الَّتي لابدَّ وأن تدخل ما نحن في صدد الإجابة عنه أو لا تمنع من ذلك على الأقل لو تصفَّحنا وضعنا وما يجب علينا أو ينبغي لنا من القيام به تجاه هذه الذِّكرى المتعلِّقة بقطب الإيمان الإمام الحُسين (علیه السلام) مقارنة بقطب الكفر والنِّفاق والفسق والفجور وهم أعداؤه (علیه السلام) وأعداء جدِّه (صلی الله علیه و آله) وآله الأطهار(علیهم السلام).
وبالأخص أنَّ هذه الأخيرة يمكن الاستدلال بها على الحُفاة في الحرم وعلى صلاة
ص: 180
الجنازة، بل مطلق العبادة على الحُفاة في الحرم وعلى صلاة الجنائز مع قضاء حوائج الإخوان فيما سبقها من الرِّوايات الأخرى بل مطلق العبادة مثل زيارة الحُسين (علیه السلام) وغيرها.
وعلى هذا المنوال ولرؤية الكرامة الفائقة في طريق مشاة زيارة الإمام (علیه السلام) من قبل الشَّاعر المعروف الخليعي(1) الَّذي نظم عندئذ بيتين:
إذا شئت النَّجاة فزر حسيناً *** لكي تلقى الإله قرير عين
فإنَّ النَّ_ار ليس تمس جسماً *** عليه غبار زوَّار الحسين
وأمَّا ما يخص أهل المشي لزيارة مرقد هذا الإمام (علیه السلام) من الرِّوايات فنكتفي ببعض منها وهي ما عن الحسن بن نوير بن أبي فاختة قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام) (يا حسن إنَّه من خرج من منزله يريد زيارة قبر الحسين بن علي (علیهما السلام) إن كان ماشياً كتب لهبكل خطوة حسنة ومحي عنه سيئة فإن كان راكباً كتب الله له بكل حافر حسنة وحط بها عنه سيئة حتَّى إذا صار في الحائر كتبه الله من المفلحين المنجحين حتَّى إذا قضى مناسكه كتبه الله
ص: 181
من الفائزين حتَّى إذا أراد الانصراف أتاه ملك فقال له إنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) يُقرؤك السَّلام ويقول لك استأنف العمل فقد غفر الله لك ما مضى)(1).
وعن جابر المكفوف، عن أبي الصَّامت قال: (سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) وهو يقول: من أتى قبر الحسين (علیه السلام) ماشياً كتب الله له بكل خطوة ألف حسنة، ومحا عنه ألف سيئة ورفع له ألف درجة)(2).
وعن أبي سعيد القاضي قال: دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) في غرفة له فسمعته يقول: من أتى قبر الحسين ماشياً كتب الله له بكل خطوة وبكل قدم يرفعها ويضعها عتق رقبة من ولد إسماعيل)(3).
وعن بشير الدهان عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: إن الرجل ليخرج إلى قبر الحسين (علیه السلام) فله إذا خرج من أهله بأول خطوة مغفرة لذنبه، ثم لم يزل يقدس بكل خطوة حتى يأتيه فإذا أتاه ناجاه الله تعالى فقال : عبدى سلني أعطك ؛ أدعني أجبك ، اطلب مني أعطك ، سلني حاجة أقضيها لك ! قال وقال أبو عبد الله (علیه السلام) وحقعلى الله أن يعطي ما بذل)(4).
وعلى هذا الأساس ولو بخصوص هذه الرِّوايات في صراحتها وللتَّسامح في أدلَّة السُّنن لو كان هناك ضَعف أو استضعاف في بعضها بل
ص: 182
قوَّة من مجموع ما ورد ممَّا هو وافٍ، فليس بعد شخص الإمام (علیه السلام) شخص يستحق ذلك إضافة لما ذكرناه من العمومات والإطلاقات قبل ذلك.
وقد مارس المشي إلى مرقد سيِّد الشُّهداء أبي عبد الله الحسين "سلام الله عليه" والشُّهداء المئات تلو المئات من علماءنا المقدَّسين قديماً وحديثاً ومعهم الملايين تلو الملايين بعدما رأوا قوَّة مشروعيَّة هذه الزِّيارة ممَّا ذكرناه ومن غيره حتَّى بلغت نسبة عدد زيارات آية الله العظمى السيِّد محمود الحُسيني الشَّاهرودي (رحمة الله) على شيخوخته المقدَّسة تمام المئتين.
وينقل السيِّد محسن الأمين العاملي عن نفسه في كتابه(1) حيث قال عن زيارة الحُسين (علیهما السلام) (لم تفتني زيارته والحمد لله مدَّة وجودي في النَّجف وهي نحو عشرة سنوات ونصف السنة في الزِّيارات المخصوصة: عاشوراء والعيدين وعرفة والأربعين إلاَّ نادراً وكنت قبل السَّفر اذهب إلى من لهم عليَّ دَين في السُّوق فأستحل منهم وكنت أشتهي أن أزوره راجلاً وأتهيَّب ذلك فجرَّبته فهان عليَّ واتبعني علىذلك جماعة من العامليِّين والنَّجفيِّين وغيرهم فزرت راجلاً غير مرَّة) مع أنَّه كان يتشدَّد في بعض المراسيم الأخرى، والله العالم.
ص: 183
بسم الله الرحمن الرحيم
سماحة آية الله العظمى السيد علاء الدين الموسوي الغريفي (دام ظله)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
1 _ سيدي في زيارة الأربعين يسعى النَّاس لزيارة سيد الشُّهداء (علیه السلام) سيراً على الأقدام، فما رأي سماحتكم بمشاركة النِّساء بالمسير مع ما يتعرَّض له الزَّائرون من مصاعب ومخاطر في الطَّريق وتركهنَّ بيوتهن؟
2 _ في حالة ذهاب مجموعة من النِّساء بدون صحبة أحد محارمهنَّ مع كون المسير يستغرق عدَّة أيَّام واحتمال تعرضهنَّ للمخاطر ولهتك الحرمة؟
3 _ في زيارة المراقد المقدَّسة للأئمَّة الأطهار وخصوصاً الزِّيارات المخصوصة مثل زيارة الأربعين، فما نصيحتكم للنِّساء بالحضور للزِّيارة أم الزيارة من بعد وتحضر في يوم آخر إن استطاعت؟
خادمكم قاسم محمد / ديوانية
28 صفر 1430ه_
ج / بسمه تعالی
1/ إذا اعترض النِّساء ما ذكرت من المخاطر لا يجوز ذلك مع العلم المسبق ولو ظنَّاً معتدَّاً به، لأنَّه عمل مستحب في نفسه مع عدم المانع المؤذي شديداً، وأمَّا معه فينقلب إلى كونه محرَّماً، وإذا خفَّت وطأة ذلك يكون مكروهاً، والله العالم.
2/ لا يجوز غالباً مع عدم المحارم ونحوهم لعدم الحافظ لهنَّ، ما لميكن الاحتمال ضعيفاً مع وجود الحمايات الواقية في الطَّريق ولو من
ص: 184
النِّسوة الحاميات أو النِّسوة الزَّائرات المصاحبات إذا عرفت حذاقتهنَّ في الحفظ، والله العالم.
3/ في كل زيارة يزدحم فيها النَّاس كالأربعين ممَّا قد يحصل من الاحتكاكات بين الرِّجال والنِّساء ما لا يمكن فيه إحراز عدم الهتك للنِّساء والأعراض المؤمنة أو من يُخاف عليهنَّ من أهل البراءة والتَّرسُّل من غيرهنَّ الأحوط فيه عدم الرَّواح مع ضبط حالات التَّحفُّظ من الحرام غالباً، أمَّا مع عدم القدرة عليه فحرام مؤكَّد، وإن حضرت المرأة في مدينة كربلاء المقدَّسة فعليها البقاء في محل استراحتها وأداء مراسيم الزِّيارة هناك.
ونصيحتي للمرأة أن تتحفَّظ جهد الإمكان من النَّاظر الأجنبي حتَّى في عدم الازدحام بحجابها وتعفُّفها للواجب المقدَّس وحتَّى لا تفسح مجالاً للاستهتار وللرِّجال الأقارب في نظرهم السَّيئ لهنَّ فضلاً عن الأجانب.
ونصيحتي للرِّجال أيضاً أن يحفظوا أعراض عموم المؤمنين من النَّظر إليهن، وعلى المؤمنين منهم إبداء النَّصيحة لهنَّ إن تساهلن ولا يوقعوا أنفسهم معهنَّ في مداخل الحرام والشُّبهات في ظرف عمل هو مستحب لا واجب، لأنَّه (لا يطاع الله من حيث يُعصى).
وليعلم كل من الجنسين كيف كان الحسين (علیه السلام) وأهله في حفظه لهم وحفظهم لأنفسهم من الأعداء أنَّه كان بأشد ما يمكن أن يجرى من أنواع المثابرة والجهاد.
وأرجو أن لا يكون أي من التَّساهلات من الزَّائرين والزَّائراتوخدامهم في الطَّريق لئلاَّ يفتح أعداء الإسلام والتَّشيُّع من الوهابيِّين
ص: 185
أفواههم ضدَّ مبادئنا وشرف عوائلنا وأهل التَّعفُّف المتواجدين في هذه البقاع المقدَّسة الَّذين لا يهون عليهم بقاء هذا الكم الهائل من أنصار الحسين (علیه السلام) بملايينه خوف افتضاح أسلافهم الأمويِّين بما أوقعوه من الفجائع ولو بزج بعض جماعاتهم نساءاً ورجالاً لإثارة المشاكل.
هذا كلُّه مع التَّرسُّل واحتمال وقوع النِّساء في الشُّبهات المحوجة إلى هذه التَّنبُّهات قبل التَّنبيهات من الآخرين، أمَّا مع عدم شيء من التَّرسُّل المحوج لها بل مع الضبط في الانتظام الرِّسالي تأسِّياً من قبل خيار النِّسوة المؤمنات بما جرى على السَّبايا والزِّينبيَّات وبالسِّيرة الهادفة مع الحمايات الكافلة الكافية سواء من الرِّجال الخاصِّين عن بُعد أو حتَّى النِّساء الخاصَّات بالنَّشاطات المشابهة للرِّجال الرِّساليِّين المقاومة لما يفعله طواغيت العصر في الكُليَّات والجزئيَّات فلا مانع منه بل هو من تمام ما تحث عليه آيات تعظيم الشَّعائر.
وبالأخص حين تفعيل مسيرة نسويَّة رساليَّة لو أمكن حافظة لنفسها ومحفوظة من أهل الحرص الدِّيني الكامل عليها فإنَّه لا شكَّ في كونه سيراً على نهج الزَّهراء وزينب (علیهما السلام) لتكون هذه المسيرة حرباً للاختلاط الجنسي في المدارس والمعاهد والجامعات ونحو ذلك كمظاهرة رائدة للدِّفاع عن حقوق نصف المجتمع المظلوم في عفَّته المحاربة طوال حكم الطَّواغيت قديماً وحديثاً، لأنَّ بإطلاقهنَّ كما يريده العلمانيُّون وأمثالهم وتحديدهنَّ في البيوت كما يريده الظَّلمة والجاهليِّون وقتالحاجة أيَّام المحن والتَّكالب ضدَّ الدِّين الإلهي والمحمَّدي والحُسيني لن يتم إلاَّ بكبتهنَّ ترويجاً للتَّخلُّف أو إطلاقاً لهنَّ في ميادين التَّهتُّك والاختلاط ونوادي العراة ونحو ذلك،
ص: 186
وكلا الحالتين ما هما إلاَّ المحاربة للنَّمط الإسلامي الوسط.
وبتحديد ما أردناه في أمرهنَّ في مثل هذه المسيرة وأمثالها مع الضوابط الَّتي ذكرناها تكون المرأة منتصرة على من ظلمها في أجواء الكفر وأجواء الظلم الإسلامي المتطرِّف ونحوه، والله العالم.
بسم الله الرحمن الرحيم
سماحة آية الله العظمى الإمام الكبير السيد علاء الدين البحراني الغريفي(دام ظله)
سيدنا المفدَّى:
ما قولكم فيمن جاء لزيارة الأئمَّة (علیهم السلام) مشياً على الأقدام تأسِّياً بهم وحبَّاً لهم من باب تعظيم شعائر الله؟ وما هو قولكم فيمن يقول (إنَّ زيارة الحسين(علیه السلام) مشياً على الأقدام وغيره من الأئمَّة (علیهم السلام) من البدع الَّتي لم ترد رواية فيها؟ وأنَّ شدَّ الرِّحال لزيارة الأئمَّة (علیهم السلام) ليس من الدِّين؟
ولدكم المخلص
احمد يعقوب حميد 27 صفر 1422ه_
ج/ بسمه تعالی
فإن كانت مثل الأوَّل فلا داعي إلى هذا الاهتمام به لعدائه عن الحماقة
ص: 187
وكما ورد (النَّاس أعداء ما جهلوا) أو لأنَّه (لا أمر لمن لا يُطاع)، وكلا الواردين من نمط واحد، وكما اُبتلي المؤمنون وعظمائهم قديماً بالسَّلفيَّة وإن أجيبوا بأمتن الأدلَّة، بل كما قال تعالى «لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ»(1) إذا لم يلزم بالقضيَّة إلاَّ الإماميَّة ومؤيدوهم من غيرهم وهم ليسوا بقلَّة.
وإن كانت مثل الثَّاني فإن كان عن جهل بسيط وعلم بالخلاف لشُبه لا عن نُصب وعداء فعلى المؤمن العارف أن يُثبت له أنَّ الأولياء كانوا يقصدون بيت الله إلى الحج من أماكنهم البعيدة ماشين على أقدامهم مرَّات وكرَّات، والتَّأريخ الصَّحيح بين أيدي الجميع ومن ذلك بل ومن الَّلوازم الشَّرعيَّة زيارة النَّبي (صلی الله علیه و آله) ومعه أئمَّة البقيع(علیهم السلام)والزَّهراء (علیها السلام) خوف الوقوع بالتَّرك في الجفاء، وقصد القاصد لكل محبوب في الله لم يتقيَّد بطائره أو سيَّارة أو باخره أو نحو ذلك إليهم، بل قد يفضِّل عنده المشي على القدمين أو السَّعي على الرُّكبتين ولو من مكان بعيد كما في بعض الآيات «وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى»(2) وقوله «إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِالْمُقَدَّسِ طُوًى»(3)، ومن ذلك بقيَّة أضرحة الأئمَّة في إيران والعراق ومنهم سيِّد الشُّهداء أبو عبد الحُسين (علیه السلام).
وقد تعارف أمر زيارته عن طريق المشي للنُّصوص الَّتي ذكرناها في
ص: 188
الأجوبة السَّابقة عموماً وخصوصاً، وقد أجاد القائل الموالي:_
تا الله لو قطَّعوا أرجلنا واليدين *** نأتيك زحفاً سيِّدي يا حُسين
إضافة إلى أنَّنا قد ذكرنا في كتبنا ومنها (غُنية النَّاسكين في أحكام الحُجَّاج والمعتمرين) فيما يخص أمر زيارة قبور النَّبي (صلی الله علیه و آله) والزَّهراء(علیها السلام) وأئمَّة البقيع (علیهم السلام) ما يُفيد كثيراً.
فقد أثر عنه (صلی الله علیه و آله) وفي كُتب الفريقين (كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ فَزُوروهَا فَإنَّهَا تُزَهِّد في الدُّنْيَا وُتُذَكِّرُ الآخِرَة)(1) إشارة إلى قوله تعالى «أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ(1) حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ (2)»(2).
وقد ذكرنا في هذه الأطروحة أكثر من مورد يُثبت رجحان المشي وأنَّه لا غرابة في أن يكون من خيرة مصاديق آية تعظيم الشَّعائر العامَّة والمطلقة.
وأمَّا عدم تجويز بعض العامَّة شدِّ الرِّحال إلى القبور حسب روايتهمكرواية (لا تشد الرِّحال إلاَّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى)(3) فقد أوضحتها الرِّواية الأخرى عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً (لا ينبغي للمصلِّي أن يشدَّ رحاله إلى مسجد يبتغي فيه الصَّلاة غير المسجد الحرام, والمسجد الأقصى ومسجدي هذا)
ص: 189
وفي رواية بلفظ آخر (لا ينبغي للمَطي أن تُشدَّ رحالها يبتغي الصَّلاة غير المسجد الحرام, والمسجد الأقصى ومسجدي هذا)(1).
أقول: وهو لا ينفي رجحان زيارة النَّبي (صلی الله علیه و آله) أو الأئمَّة (علیهم السلام) والزَّهراء (علیها السلام) والأولياء في بقيع الغرقد (علیهم السلام)، وكذا قبور بقيَّة الأئمَّة والأولياء (علیهم السلام) ولو بحمل الرِّوايتين على الاحتمال المخالف، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، وهو ما كان على عدم جواز شدِّ الرِّحال إلى المشاهد المشَّرفة.
كما أجاب بقيَّة علمائهم عن الرِّواية الأولى منهم الغزالي في كتابه الإحياء (والحديث إنَّما ورد في المساجد وليس في معناها المشاهد لأنَّ المساجد بعد المساجد الثَّلاثة متماثلة، ولا بلد إلاَّ وفيه مسجد، فلا معنى للرِّحلة إلى مسجد آخر، وأمَّا المشاهد فلا تتساوى، بل بركة زيارتها على قدر درجاتهم عند الله }.
نعم لو كان في موضع لا يسجد فيه فله أن يشدَّ الرِّحال إلى موضع فيهمسجد وينتقل إليه بالكليَّة إن شاء.
ثمَّ ليت شعري، هل يمنع هذا القائل من شدِّ الرِّحال إلى قبور الأنبياء "عليهم الصَّلاة والسَّلام مثل إبراهيم وموسى ويحيى وغيرهم (علیهم السلام).
فالمنع من ذلك في غاية الإحالة، فإذا جوِّز هذا فقبور الأولياء والصُّلحاء في معناها، فلا يبعد أن يكون ذلك من أغراض الرِّحلة، كما أنَّ زيارة العلماء في الحياة من المقاصد، هذا في الرِّحلة) انتهى.
ص: 190
أقول وبهذا الَّذي ذكرناه مع ما ورد من رجحان زيارة النَّبي (صلی الله علیه و آله) وآله (علیهم السلام) وبقيَّة الأولياء والصَّالحين وليس عند خصوص الموالين لأهل البيت (علیهم السلام)، بل لبقيَّة المذاهب الأخرى غير الوهابيَّة وبقيَّة السَّلفيَّة وقصدهم لقبور أولياءهم معروف مشهور وبما طفحت به كتبنا وكتبهم فلا مجال للاعتناء بما يُشاع ويُذاع ضدَّنا على الأكثر دون غيرنا نحن الإماميَّة.
والله العالم.
س/ إنِّي أريد أن أذهب إلى زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) مشياً خلال هذه السَّنة (في الأربعين) ولكن والدي ووالدتي لم يرضيا في هذا من باب خوفهما عليَّ أو غير ذلك فهل يجوز الذَّهاب مع عصيانهما؟
ج / بسمه تعالی
مع كون استحباب الزِّيارة ومن دون إضافة عنوان الوجوب لابدَّ من أخذ موافقة الأبوين والانتهاء عنها إذا نهيا عنها مع بقاء تمام الاحترام والتَّقديس لتلك الزِّيارة، ومع وجوبها بنذر قد أجازاه به هما أو أحدهما نذراً أو عهداً أو يميناً أو إجارة قد قبض ثمنها بموافقتهما أو دخل عنوان الوجوب الشَّعائري عليها ولو بالعنوان الثَّانوي فلا داعي لأخذ ذلك الإذن مع أمن الضَّرر الخارجي وأدبه الرَّفيع مع الأبوين، والله العالم.
ص: 191
س / قال الإمام الصَّادق (علیه السلام) (زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) في عنق كل مسلم) فهل في زيارة الإمام الحسين وجوب؟
ج/ بسمه تعالی
زيارة الحسين (علیهم السلام) كبقيَّة زيارات الأئمَّة (علیهم السلام) مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) والزهراء (علیها السلام) ممَّا يُستحب الالتزام بها، وقد تتأكَّد في حالة ورود رواية زيارة إمام معصوم له كما في ليلة أوَّل رجب وليلة النِّصف منه والنِّصف من شعبان وليلة الجمعة وعرفة وزيارة العيدين ليلاً ونهاراً وعاشوراء والقدر ونحوها لبعض الاعتبارات.
وقد تجب بالنِّيابة مع أخذ الأجرة بعد العقد وبالنَّذر والعهد واليمين وبنحو العنوان الثَّانوي شعائريَّاً كما في التَّرك الكثير الموصل إلى جهة الجفاء كما في ترك زيارة النَّبي (صلی الله علیه و آله) للذَّاهب إلى بيتالله الحرام، وبالأخص لو كان نوع زيارة الحُسين من المخصوصات المعظَّمة في ضخامتها بالزوَّار وفي كثرة المدح والتَّوصيات بالفتاوى العلمائيَّة بالاهتمام بها وفي الرِّوايات وإلى حدِّ أن تقدَّم الزِّيارة في مثل عرفة على حجِّ الفريضة لو تمَّت الاستطاعة في أيَّام الحج وسبقها النَّذر لتلك الزِّيارة، وعند الحاجة أيضاً إلى تلك الكثرة لئلاَّ تنقص ضدَّ أعداء سبط النَّبي (صلی الله علیه و آله) لحاجة الدِّين وعَماره إليه لقوله فيه (حُسين منِّي وأنا من حُسين)(1) إلى أن تضخَّم هذا التَّعلُّق بعد استشهاده، بل قد تزيد الحاجة إلى ناحية الوجوب
ص: 192
من سؤال أحدهم للإمام (علیه السلام) عن أنَّ الحُسين سفينة النَّجاة وحده، فأجابه (علیه السلام) ((كلًّنا أبواب النَّجاة وباب الحسين أوسع، وكلُّنا سفن النَّجاة وسفينة الحسين أسرع))(1)، وبالحاجة إلى السَّفينة عند خوف الفرق لابدَّ أن يكون الإنقاذ واجباً لحرمة الوقوع في الهلكة ولو في الوقوع في مخاطر ضعف الدِّين بترك الزِّيارة.
ومن حالات الوجوب في غير ذلك بل ولذاتيَّة الزِّيارة ففيما إذا يتوقَّف أداء واجب شرعي على الزِّيارة كالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر لمسيس علاقتهما بها ومسيس علاقتها بهما من جهات متعدِّدة حينما تكون فعَّاليَّات الزِّيارة ذاتيَّاً متعدِّدة الجوانب كما هو المعتقد لا أنَّها مرتبطةبجانب واحد وهو الجمود على أدب الزِّيارة حسب وكما في الرِّواية الواردة في السُّؤال، بل وكما عن الأمام جعفر الصادق (علیه السلام) أنه قال ((لو أنّ أحدكم حجّ دهره ثمّ لم يزر الحسين بن علي (علیه السلام) لكان تاركاً حقاً من حقوق رسول الله (صلی الله علیه و آله)، لأنّ حق الحسين (علیه السلام) فريضة من الله واجبة على كل مسلم))(2)، بل لو تأمَّلنا بفرعي فروع الدِّين العشرة الأخيرين وهما التَّولِّي والتَّبرِّي وأمر الحفاظ عليهما بالتَّقيُّد تعبُّداً واجباً بهما لحتمية ما يخص قضيَّة نهضة الإمام الحُسين وزيارته لكونهما من أهم مصاديق هذين الواجبين فبالزِّيارة وتوابعها تتحقَّق مصداقيَّة الموالاة وبممارستها ضدَّ رغبات أعداء الله يتحقَّق التَّبرِّي.
ص: 193
فتكون لذلك واجبة وفي غير ذلك لا يمكن تصوُّر الوجوب إلا حالة تحقُّق ما ذكرناه من الجفاء المذكور بالتَّرك بالمرَّة، والله العالم.
س/ انتشر لدى بعض النَّاس أنَّ زيارة الحسين (علیه السلام) لما كانت مستحبَّة في بداية أمرها فلا داعي لها ما دام هناك فقراء فلماذا لا يفضَّها الزَّائر فيهم بدلها، أفتونا مأجورين.
ج/ بسمه تعالی
إذا لم يكن الإنسان مديناً حقَّاً شرعيَّاً للفقراء حقُّ به شخصاً أو حتَّى نوعاً به ولم يصل حاجة الفقراء إلى حد الهلكة الحقيقيَّة أو كان أمرهميحتاج إلى تفحُّص في أمر استحقاقهم أو لم يكن لديه شيء من الحُقوق المنطبقة عليهم ولكن لم يتعيَّن ما لديه من مال الزِّيارة في الحاجة الملحَّة إلى هؤلاء الفقراء فلا داعي إلى ترك الزِّيارة لاستحبابها لبقاء هذا الرُّجحان ولكونها تعظيماً لشعائر الله وفي موسم خاص في السَّنة وبعدم الذَّهاب للزِّيارة يفوت أوان التَّعظيم لشعارها بينما إعانة الفقراء مع إمكانها أو الرَّغبة في أداء الميسور ولو قليلاً منها وقتها أوسع.
يبقى أمر الحاجة الماسَّة لهم ومن هذا المال كإنقاذ حياة ضروري لهم منه بحيث لو لم يُصرف منه جزءاً أو كلاَّ لماتوا فبالإمكان القول بأرجحيَّة أو وجوب صرفه فيهم وترك الزِّيارة لو لم تزد حالتها في الوجوب على حاجة أولئك الفقراء، والله العالم.
ص: 194
بيان هام حول ذكرى زيارة الأربعين وفضلها
وما يتناسب معها في الحال الحاضر(1)
تفضَّل به سماحة المرجع الدِّيني آية الله العظمى
السَّيّد عَلاءِ الَدّينِ المُوسَوي البَحرَانِي الغُرَيفِي (دَاَمَ ظِلُّه)
بسم الله الرحمن الرحیم
وبه نستعينالحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعترته الطَّاهرين والأئمَّة الميامين، وصحبه المنتجبين، واللَّعن الدَّائم على أعدائهم أجمعين، من الآن إلى يوم الدِّين وبعد:
تحيَّاتنا للحُسينيِّين جميعاً ودعواتنا في أن يُعظِّم تعالى أجورنا وأجورهم نقول:_
إلى أحرار العالم الإنسانيين ممَّن لم يرضخوا إلاَّ لذوي القيم والمثل العليا من المجاهدين في قضاياهم الَّتي ظلموا فيها من طغاة زمانهم وجبابرتهم وممَّن قدَّسوا الإمام الحسين (علیه السلام) في نهضته العظمى أو يقدِّسونه في ذكرياته الجليلة لو عرفوها.
إلى أبناء أمَّتنا الإسلاميَّة الغيورين على الدِّين الإسلامي العزيز الَّذي تنتابه الويلات من الشَّرق والغرب من الكافرين ومن أنصارهم المكفرة السَّلفيين والخوارج السَّفاحين بطريقة وبأخرى وممَّن زُجُّوا أو زجُّوا أنفسهم في البين من أهل البدع والتَّطرُّف من الآخرين.
إلى كافَّة الغيورين على الشُّعوب الإسلاميَّة المستضعفة في عموم العالم
ص: 195
الإسلامي _ من البلدان الإسلاميَّة وغيرها من الجاليات المسلمة ومن كافَّة المذاهب والقوميَّات والعناصر المسالمة والإنسانيَّة _ والمحتاجين إلى هذا البيان وهذا الخطاب والَّذين يهمُّهم اليوم _ في مشاكلهم الَّتي زرعها أو ضخَّمها عدُّوها المشترك للخلاص منها _ أمرُ المنقذ والمخلِّص الشَّهيد (علیه السلام) الَّذي ضحَّى بدمه ودماء من معه صغاراً وكباراً وسبَِّي عياله الأطهار في سبيل المستضعفين في العالم للالتفاف حوله والاستنجاد به وإن سبق زمانه حيث أصبحت ذكراه شعلة وضَّاءة تنير دروب الظلام في الخلاص من ظلم كل كافر وظالم من الخارج والدَّاخل.
وما هو في زمانه وفي أزمنتنا قبل ظهور حجَّة آل محمَّد (صلی الله علیه و آله)المنقذ الأخير غير أبي الأحرار وأبيُّ الضيم الحسين (علیه السلام) في المحن الكثيرة الَّتي تظافر الكفر فيها صهيونية وصليبيَّة وماسونيَّة مع الطَّائفيَّة السَّلفيَّة المقيتة المعادية لمذهب أهل البيت (علیهم السلام)بل للمذاهب الإسلاميَّة الخمسة المُتسالمة في خيرة أبناءها والَّتي طالما حاول وعاتُها من المتآخين في الإسلام محو تأثيرات حالات الخلاف للنهوض بالوحدة الثَّابتة بضخامة جوامعها إسلاميَّاً في العقيدة والأحكام دفاعاً ضدَّ تلك المحاربة من ذلك العدو المشترك.
والَّذين يهمُّهم بالتَّأكيد كذلك أمر إخوانهم المسلمين الخاصَّين كالعراقيين المضطهدين قديماً وحديثاً _ وأمثالهم في دول المنطقة الإسلاميَّة طوال استيلاء الاستعمار الغاشم عليها وحتَّى اليوم، وتسليط الظلمة والكفرة باسم العروبة الجرداء عن الإسلام وقيمه في مناطقها، أو باسم العلمانيَّة المعادية للإسلام والإيمان في الدُّول العربيَّة حتَّى زرع الاستعمار الكافر ومن لفَّ لفَّه مذاهب متطرِّفة أخرى لتمزيق عقيدتها الحقَّة من الدَّاخل وغير العربيَّة منها _ وما ذلك إلاَّ لشعور الغيارى بالمسؤوليَّة على الأقل.
ص: 196
وما اضطهاد هؤلاء وأولئك إلاَّ لكونهم يحبُّون النَّبي (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام) حب مودَّة وولاء ويعتزُّون بالثَّائرين منهم، بل ينهجون على منهجهم كلَّما دعت الحاجة إلى ذلك ضدَّ طواغيت الأرض في زمانهم ويسعون بالمسير على نهجهم دوماً _ ولو بمثل التَّآخي المذكور بين المذاهب _ كإمامنا أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) الثَّائر هو وأصحابه من أهل بيته والآخرين من الشُّهداء والسَّبايا.
إلى أبناء عراقنا الجريح المظلوم وكل من يتعاطف معهم في المنطقة المجاورة وغيرها:_نصرِّح ونصرِّح مؤكِّدين إنَّ العراق مستهدف من قبل الأعداء المتعدِّدين _ شرقاً وغرباً كفراً وإلحاداً وطائفيَّة وتطرُّفاً لا تقل مشاكله عن مستوى الكفر بل قد تزيد على خطره لو وزنَّاهم بالمسالمين من أهله خوفاً وطمعاً لأنَّه كما هو بلد معروف _ في قلب المنطقة ثري وعريق في كل معانيه السَّامية وحضاراته العالية وأنَه بلد الأنبياء _ وبموالاته للعترة الطَّاهرة (علیهم السلام) ومحبَّة الآخرين لها حتَّى من كان من أقلِّياته، ولذلك صار بلد المقدَّسات والثَّالث بعد مكَّة والمدينة في بعض الاعتبارات حيث كان مقرَّا وعاصمةً للمسلمين في خلافة أمير المؤمنين علي (علیه السلام) من أرض كوفان ومرموقاً جدَّاً في اعتبارات أخرى إلى أن جعل أهل الكفر الحاقد وأعوانه أنَّ هذا البلد لو يترك حرَّاً آمناً لما تحقَّقت لهم أهدافهم المشؤومة.
فأُُناشد الجميع أن ينظروا بعين البصر والبصيرة و(ليس الأعمى كالبصير) فيما يجري فيه اليوم بل في كل يوم من مشاكل وأزمات وكوارث لا تطاق وباستمرار منقطع النَّظير كالعهد السَّابق وزيادات من أذنابه وأمثالهم، ومن بعض دول الجوار وغيرها.
وأن ينتبهوا إلى مستوى خسارة أعداء هذا البلد وأنصاره في المنطقة بعد انتهاء
ص: 197
عهد الكفرة البعثيين وإخوانهم الطَّائفيين المكفِّرين أركان العهد السَّابق وما عاصره وسبقه، بل إلى فداحة ما منوا به وإلى هذا الحين وبما قد يشد عزمهم على الإبادة لشعبنا أكثر فأكثر لو تركناهم في بقاياهم كلاباً مسعورة ونحن على خمول من دون تفكير جماعي منَّا لمعالجة خطرهم، وللأسف إنَّ بقاياهم في هذه الحكومة مع تلك الخسارات المؤقَّتة الَّتي منوا بها ما زالوا يسرحون ويمرحون مع أنصار من صنع الحروب والسجون والمقابر الجماعيَّة والتَّفجيرات والتَّهجيرات واستورد الصهيونيَّةوالصَّليبيَّة والطَّائفيَّة وكأنَّهم يتربَّصون بالشَّعب الدَّوائر للانتقام أكثر ممَّا مضى لو تركنَّاهم ينجحون في تجمُّعهم، كما يشاءون أو يُخطط لهم.
إنَّكم أيُّها العراقيون الشرفاء إن لم تتكاتفوا تحت ظل المرجعيَّة الدِّينيَّة المتآخية في شؤون أهدافها العظمى بالتَّمسُّك بنصائحها وإرشاداتها المستمرَّة ولم تنهضوا لاستئصال هؤلاء الأعداء واجتثاثهم أو إبعادهم عن أن يأخذوا مواقعهم الاعتياديَّة في البلد على الأقل بعدما أُوغلوا فينا جميعاً وإلى هذا الحين فسوف يقاومونكم مقاومة المستميتين لكم، وآثار هذا الأمر غير خفيَّة عليكم من أعمالهم الدَّمويَّة ضدَّ الشَّعب البريء بالتَّفجيرات المستمرَّة والذَّبح والاختطاف وإلى حد المئات والآلاف وعشراتها والأكثر مع الدَّعم العدائي المفضوح بالكفر والطَّائفيةَّ ونحوهما من دول الجوار التي مازالت تتطاول على لسان وعّاظ سلاطينها على رموز الإسلام والإيمان وغيرها، إضافة إلى زجِّ المئات والآلاف والأكثر للمشاركة في هذا الأمر العدائي وأمثاله.
إضافة إلى أثقالها الَّتي حطُّوها وخباثاتهم الَّتي فعلوها هم وأسلافهم أكثر فأكثر ضدَّ هذا الشَّعب المظلوم ووضعوها كابوساً دائماً على صدور أبناءه كإشعال فتيل الحرب بين العراق وإيران والعديد مما تلاه لكي لا تبقى المنطقة وعراقها العريق
ص: 198
سائرة على نهج النَّبي (صلی الله علیه و آله) وعترته الطَّاهرة (علیهم السلام) ومن سار على نهجهم من الصَّحابة والتَّابعين وتابعي التَّابعين في ذكرياتهم مع بقيَّة الشُّعوب المؤمنة بصفاء ووئام.
وأهم تلك الذِّكريات التي مازالت ولا تزال تزعزع أركانهم بل هي الفعَّالة في الثَّورة ضدَّ الظالمين في كل مكان وحين وبفعَّاليَّة سريعة هي نهضة الحسين (علیه السلام) سبط النَّبي (صلی الله علیه و آله) وريحانته وسيِّد شباب أهل الجنةوسيِّد الشُّهداء في فكر كل الغيارى من أبناء العالم ولكافَّة المظلومين مسلمين وغيرهم، لأنَّ الإسلام كما هو (محمَّدي الحدوث وعلوي البناء وحسني التَّمهيد فهو حسيني البقاء)، لأنَّ هذه النَّهضة قامت مؤلَّفة منه (علیه السلام) ومن أهل بيته وخلَّص أصحابه من صحابة وأحرار وعبيد ومن مسلمين موالين في أساسهم وعثمَّانيِّين كزهير بن القين ومسيحييِّن ك_ (وهب) ومن أعداء في بدايتهم وقد اهتدوا كالحر بن يزيد.
ولكن أبى الأعداء إلاَّ أن يحاربوا هذه الذِّكرى وباستمرار حين إحياءنا لها في كل سنة وعام قديماً وحديثاً لأنَّ فيها هذه الخصلة العظيمة الفعَّالة خوفاً على مراكزهم ومصالحهم الخسيسة وعروشهم المعادية كما دام القدامى المنافقون على ذلك لإرجاع الجاهليَّة إلى ما كانت أو إلى ما اعتزَّوا به كثيراً من حالاتها.
إلى أبناء عراقنا العزيز تمر علينا هذه الذِّكريات المأساويَّة الأليمة الحسينيَّة ومعها بقيَّة الذِّكريات ومن أقدم العصور كعادتنا في كل سنة وعام ممَّا فجعت به الأمَّة الإسلاميَّة بأعاظمها من النَّبي (صلی الله علیه و آله) وآله الأطيبين الأطهرين المظلومين من الأئمَّة (علیهم السلام) والزَّهراء (صلی الله علیه و آله) ممَّا جناه أعداء الدِّين وطواغيت عصورهم من الجاهلييِّن ومن المنافقين المنقلبين على أعقابهم في عصر الإسلام وعلى طول تأريخه بهم لكونهم جميعاً بين مقتول ومسموم وبصرخاتنا الثوريَّة المُدوِّية المُقاوِمة لكل فلول الكفر
ص: 199
والنفاق من أعدائهم، فلابدَّ لنا من تقييمها بما يتناسب وعدم التَّقصير في شأنها لأنَّ أهداف الجميع لابدَّ أن تكون موحَّدة تجاه نصرة الحق في النَّبي (صلی الله علیه و آله) وعترته (علیهم السلام) وضدَّ الكفر والنُّصب وأهلهما.
وأهم تلك الذِّكريات بالطَّبع هي ذكريات مظلوميَّة الحسين (علیه السلام) فيعاشوراء محرَّم وأربعينيَّتها في صفر من هذه الأيَّام في نكباتها وفي شأنيَّتها العظمى لعظم فعَّاليَّاتها وكأنَّها الغضَّة الجديدة من حيث شأنها ومن حيث كثرة أنصارها في العالم، والَّتي كان بها تجديد عهد أبناء الرِّسالة الباقين مع شهداء الطَّف وسيِّدهم يوم الأربعين بالحضور عنده قبل الرُّجوع إلى المدينة المنوَّرة _ من الَّذين عدُّوا أسفاً ظلماً عند أبناء الطلقاء الأمويين سبايا وهم إمامنا السَّجَّاد(علیه السلام) وعمَّته العقيلة وبقيَّة الأرامل والأيتام _.
فشهيد الطُّفوف والشُّهداء الباقون من الأهل والأصحاب إذن حري بنا جميعاً _ أن نهتم بذكرياتهم لتعظيم الشَّعائر الدِّينيَّة العامَّة الَّتي هذه من أهمِّها دوماً وبكل ما يتناسب مع هذا التَّعظيم ولزيارتهم تأسيَّاً بمن فعل ذلك من أعاظم السَّلف كبعض الأئمَّة (علیهم السلام)بتجديد العهد والزِّيارة وعقد مآتم العزاء هناك من قبلهم ومن قبل بقيَّة الأنصار والشَّيعة والموالين الَّذين أوَّلهم الصَّحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري لتكون سيرة الأجيال المستحبَّة يجرونها احتراماً لها وتعبُّداً بالالتزام بشعائرها ولكونها دواء بلسماً وشفاء من كل سقم ينشره الطَّواغيت والظلمة ليكافحوا بها الظلم والظالمين.
تمرُّ بنا أيُّها الأعزاء هذه الذِّكرى العظيمة الَّتي فضح فيها الإمام السَّجاد (علیه السلام) وعمَّته العقيلة الحوراء (علیها السلام) الأمويين وأنصارهم بخطبتيهما العظيمتين في جموع الشَّاميين المُغفَّلين الذين انطلت عليهم في البداية إعلاميَّات الأمويِّين __ إضافة إلى
ص: 200
ما جرى في الكوفة أمام عموم الجماهير _ بما قام به الأعداء مع طاغيتهم يزيد وابن زياد الذي سبقه من التَّمويه عليهم بأنَّ هؤلاء هم من الخوارج ، حيث أصالة الحسين (علیه السلام) ومن معه ونفاق هؤلاء الأمويين وكفرهم وخروجهم على إمام زمانهم الحسين (علیه السلام) إن قام أو قعد كمافي الحديث الشَّريف بين الفريقين عنه وعن أخيه(علیهما السلام) بينما الأعداء هم الطلقاء وأبناء الطلقاء الذين ليس لهم أيُّ حقٍّ في التزعُّم على رقاب المسلمين واعتلاء منابر الرسالة والإمامة.
بل كشف العظيمان (العقيلة والسجَّاد "سلام الله عليهما") واقع المؤامرة الضخمة _ على مقام الإسلام والمسلمين المتمثِّلين بإمامهما سبط النَّبي (صلی الله علیه و آله) وريحانته وسيِّد شباب أهل الجنَّة (علیه السلام) _ الَّتي اتِّخذت من قبل الأعداء لإرجاع العهد إلى الجاهليَّة الأولى وأسلافهم المنقلبين على الأعقاب.
ونحن الآن بأمس الحاجة إلى الاستفادة من معاني هذه الثَّورة الزَّاخرة بالعطاء في محنتنا العظيمة إبّان عصور حكَّام الكفر والظلم والجور والفساد وإلى الآن ومنها ما يحصل من دول الجوار من السَّلفيَّة والطَّائفيين والنَّواصب الَّذين اعتادوا كأسلافهم على قلب يوم عاشوراء إلى يوم ظفر كعيد سلفي لهم كما يحصل في الأردن الآن وفي غيرها من حالات تلوُّع العراقيين وترويعهم بالتَّفجيرات الفتَّاكة بما يفرحهم ويؤنسهم.
تمرُّ علينا هذه الذِّكرى وكأنَّها في نظر بعض المؤمنين _ هداهم الله إلى سعة النَّظر أكثر _ هي مجرَّد مأساة قام بها الأعداء ليُتفجَّع بها ويُبكى لها ويلطم على الصُّدور لأجلها وأمثال ذلك فقط بحجَّة أنَّ الحُسين (علیه السلام) عَبرة كل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة فقط، وإن كانت هذه الأمور لوحدها مهمَّة جدَّاً في بابها إذ زعزعت عروش الكفر والظلم من الأزمنة الَّتي تلتها وإلى زماننا هذا من بقايا الدَّولة
ص: 201
الأمويَّة والعبَّاسيَّة وما بعدهما للقساوات الَّتي أودعوها من تلك الفجائع الَّتي لا تنقطع لأجلها المدامع، ولذلك كانت الدُّول الَّتي تلتها من الأعداء تمنع إقامة هذه الذِّكريات والشَّعائر خوفاً على عروشهم وطغيانهم لأنَّها ثورة ضدَّ كلالطَّواغيت.
ولم يختص الأمويون ولا العبَّاسيُّون الأوائل ومن تلاهم بمعاداتهم لأهل هذا البيت الطَّاهر (علیهم السلام)، بل هناك من كان أشد من يزيد وأعوانه ومن تلاهم في نواحي أخرى خوفاً على سلطانهم _ أمثال المتوكِّل من العبَّاسيِّين الأواخر وكذا العثمانيِّين وأضرابهم وحتَّى الآن من مظلوميَّة الحسين (علیه السلام) _ عليه وعلى آله وأنصاره لمحاربة ثورته المستمرَّة.
في هذه الذِّكرى المعدَّة إلهيَّاً ثورة مزعزعة لكلِّ طواغيت العالم في كلِّ زمان ومكان لكونها حينما تعود وتُعاد ليعتاد على ذكراها بزيارة صاحبها (علیه السلام) والشُّهداء معه والبكاء عند قبره وإنشاد الأشعار الحسينيَّة الهادفة هناك وبكل ما تريده الذِّكرى ويحتاجه واقعنا المُعاش تحت نير الظلم والانحراف المستمر وقراءات مجالس العزاء والَّتي تساهم في إحياء الذِّكرى أو إبقاءها وإدامتها والَّتي يبيِّن فيها أهداف النَّهضة المباركة لا كما يتصوَّره الجهلة وأمثال ذلك بكل ما يذكِّر المؤمنين ممَّا جرى ويهيِّجهم على التَّحمُّس له وعلى كلِّ طاغوت ظالم وكافر يعبث بمقدَّرات المسلمين بمن يشبه يزيد بن معاوية وابن مرجانة وأمثالهما في عهدهما والمتوكِّل وأمثاله في عهده ومن بعده فيحصل المنع والمحاربة ولو بالتَّظاهر السِّلمي في وجوههم بشعار الأحرار المؤمنين وهو (هيهات منَّا الذِّلَّة).
فإنَّ هذه الحالة __ وهي كون الحسين (علیه السلام) عَبرة وحدها غير كافية لأنَّ الحسين (علیه السلام) كما هو عَبرة فهو عِبرة وعظة في قضية ثائرة ذات أهداف دينيَّة سامية ضحَّى من
ص: 202
أجلها بالغالي والنَّفيس __ يريد أن يشعر بها ويسير على نهجها المضطهدون وغيرهم ممَّن لا يريد أن يبقى من يحاربهم من الطَّواغيت ساعة واحدة ليبقوا أحراراً ديِّنيين في دنياهم كما خلقهم الله كذلك.فينبغي بل يجب في بعض المقامات للتَّصدِّي إلى مكافحة عروش الطَّواغيت وإزالتها _ أو التَّهيؤ لها لو خشي منها ولو في بداية ذلك وبالأخص في أحرج الظروف الَّتي لا تفسح للمؤمنين والمسلمين والإنسانييِّن أي مجال لأن يبقوا _ على الضيم _ بلا سعي مناسب ولو بالطرق غير المباشرة _ بالاستلهام أوَّلاً من كل معاني هذه الذِّكرى الحسينيَّة الضخمة، إضافة إلى ما مضى من مثل إجراء الخطب والمحاضرات والتَّوعية الدَّقيقة إفادة واستفادة للتَّظاهر النَّاجح بهذا وأمثاله تعظيماً للشَّعائر ضدَّ أعداء الله مهما كانت مشاربهم ثمَّ بالمساعي النَّاجحة الشَّريفة الأخرى.
وإذا كان غاندي الهندوسي إمبراطور الهند وهو كافر يقول عن صاحب هذه الذِّكرى (تعلَّمت من الحسين (علیه السلام) كيف أكون مظلوماً فانتصر) وهكذا الكثيرون من غيره فكيف بنا ونحن أشياعه وأحبَّاؤه وظلمنا من طواغيت عصورنا ومن سبقنا بشتَّى أنواع الظلم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب أحد لأنَّنا حسينيُّون في الهدف والأنشودة بتوفيق الله المستمر ولأنَّنا على دين جدِّ الحسين (علیه السلام) وأبيه وأمِّه وأخيه والبقيَّة من بنيه، ولأنَّنا صمدنا على ذلك وما قلنا إلاَّ ربُّنا الله ثمَّ استقمنا ولاقينا الأمرَّين من أعداءنا كما أشرنا بالقتل والتَّعذيب والسجون والتشريد.
أفهل يجوز لنا حينئذٍ التَّساهل في ذلك؟ ونحن في أوج المسيرة بالاقتصار على شيء دون شيء ولا تقيَّة في مسايرة الكافر على كفره، بل ولا على ظلمه، وكذا
ص: 203
الخارجي والنَّاصبي والمنافق إذا استمروا على انحرافاتهم المفضوحة مع قدراتنا الهائلة على المكافحة الاستدلاليَّة والمرضية بأسلم الأحوال الأخلاقية، وهذه فرصتنا السَّانحة و (لو تُرك القطا لغفا ونام) ونحن قد قُسي علينا كثيراً وبإمكانناالعلاج ونحن في مأمننا والعدو يهاجمنا في عقر دارنا.
فعلينا أن نفعل كلَّ شيء تقتضيه النَّهضة الحسينيَّة الخالدة العادلة في هذا الفراغ بالعَبرة والعِبرة معاً مع تكاتفنا وانضواء الجميع تحت لواء المرجعيَّة الموَّحد على الخط الحُسيني المستقيم بلا عدد محدَّد ما دام الوفاق مستقيماً في حسينيَّته على بركة الله.
كأن نحاسب كلَّ حاكم يحلُّ في بلادنا مستقبلاً وحاليَّاً على تصرّفاته إذا لم تتلاءم والعدالة الإسلاميّة والإنسانيّة أيَّاً كانت مثابته الوظيفيَّة من أيِّ طائفة أو قوميَّة أو عنصر سواء انتخبناه شخصيَّاً أو لم ننتخبه ولينتبه هو أو غيره أو كلاهما إلى أنَّه هل هو خادم الشَّعب كما عاهد الله والشَّعب ولصالح دين الأغلبيَّة السَّاحقة وهو الإسلام العزيز مع ضمان حقوق الأقليَّات إنسانيَّاً وبمحتوى ما يقول به الدُّستور الإسلامي الجامع لكلِّ خير يرتجى لدى الجميع كما ينبغي أو يجب؟
أم كان في رأسه حبُّ الرِّئاسة والأطَّماع وخسَّة الطِّباع كما هي ذاته أو ما علَّمه به الأجنبي الغازي؟ أو كان من أزلام العهد الصدَّامي البائد ولو من بعيد كي يطرد ولا كرامة إن لم يأت دور محاكمته ومعاقبته لو ثبتت عليه الإدانة شرعاً لبعض الأسباب.
وعلينا من جملة ما علينا في سياساتنا أن نحدد من نشاطات الأعداء من دول الجوار وغيرهم ممَّن لزعمائهم الدَّور المهم أو الأهم في إيذائنا ونحن في عقر دارنا بصنع المؤامرات والتَّفجيرات والذَّبح والاختطاف والنَّهب والسَّلب والاغتصاب
ص: 204
وبذل طائل الأموال لشراء الذمم العميلة ونحوها وإن لم يكن من بعضهم شيء صريح بين الناس ولكنَّهم ممَّن يخشى منهم في ذلك وممَّن قد يكونون هم أهم داعم لبقايا الظلمة والخونة في الدَّاخل ولو بسكوته أو ممَّن هو الآن في الحكم المؤقَّت منالسَّلفيِّين وغيرهم أو لا علاقة له في الحكم مع السَّلفيِّين وإنَّما له علاقة بإثارة الفتن والنَّعرات الطَّائفيَّة لأن تغلب الأقليَّات الأكثريَّات كالعهد السَّابق وغير ذلك، بل إنَّ كثيراً من الواردين الأجانب لم يتمكَّنوا من التَّفجيرات وإجراء عمليَّات السَّفك وغيرها إلاَّ بالممهِّدات من خونة الدَّاخل أو الأعداء المتأصليِّين من الشُّذَّاذ، وهذه التَّحديدات لها وسائل وعوامل كثيرة.
واختصاراً إنَّ هذا الحد لا يتأتّى إلاَّ بأمور :_
1 _ التَّكاتف تحت ظل المرجعيَّة الموحَّدة باستقامتها وأبوَّتها بما لم يحدَّد بعدد في قراراتها كما مر لئلاَّ تستخدم النَّهضة بما لا يتناسب مع سمو أهدافها الدِّينيَّة العالميَّة.
2 _ التَّنبُّه إلى أهميَّة أداء الواجبات كالصَّلوات في أوقاتها الثَّلاثة الرَّئيسيَّة بالتَّوقُّف المؤقت عن مراسيم المواكب والمجالس والمحاضرات ونحوها إلى حين انتهاءها بصلوات الجماعات وتعقيباتها والوعظ والإرشاد المناسبين.
3 _ الأدب الرَّفيع روحيَّاً عند زيارة الإمام (علیه السلام) في أربعينيَّة استشهاده، بل في كل زيارة مع قصد القربة وعدم التَّساهل في الواجبات وكأنَّها زيارة تحقيق الأهداف الحسينيَّة الكاملة وتجديد العهد بها مع الإمام (علیه السلام)وعلى أساس كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء أثناء العمل وإذا رجعوا إلى أهلهم.
4 _ التَّذكُّر والتَّذكير عند إطعام الطَّعام وسقي الماء للزَّائرين مشاة وركَّاباً بأهميَّة السَّخاء بهذين المهمَّين في مثل ذكرى الأربعين مع عاشوراء ضدَّ من منع ذلك عن
ص: 205
الحسين (علیه السلام) وعياله وأصحابه مع التَّذكُّر أيضاً للاستثمار بفعل العكس من قبل الحسين (علیه السلام) مع الحر بن يزيد الرِّياحي وأصحابهحينما سقاهم في الطَّريق وغير ذلك، بل بجوده ومن معه بأنفسهم و(الجود بالنَّفس أقصى غاية الجود).
5 _ وجوب التَّنبُّه حين تناول الأطعمة والأشربة إلى ما قد يوقعه الأعداء من هنا وهناك من السُّموم وأمثالهما فيهما لاجتنابهما حينما يعتقد بوجود شيءٍ من ذلك وهو أقل ما يتصدُّون له من ذلك إن تمكَّنوا باستمرار الحذر بالمراقبة.
6 _ التَّوعية المستمرَّة ثابتة ومتنقِّلة في المدارس والمساجد والبيوت وساحات وشوارع الَّتجمُّع الحسيني سواء من على منبر الخطابة أو أناشيد الحدات وقصائدهم من على المنابر أو في المواكب السَّائرة كما أشرنا بما يتناسب وكل القضايا الحسينيّة الجامعة لشمل الأُمّة على خطِّ الإمام وجدِّه وأبيه وأُمّه وأخيه (علیهم السلام) وإلى ما يصلح لنا اليوم ضدّ طواغيت العصر، وعدم تمكين الجهلة والمشبوهين من اعتلاء المنابر لئلاَّ يجعلوها أدواتٍ للدِّعايات الانتخابيَّة لصالح أعداء الدِّين والوطن الحسيني العظيم.
7 _ السَّهر وكثرة المراقبة في التَّرصُّد لئلاَّ يدخل الأعداء ويفعلوا أفاعيلهم من التَّفجيرات ونحوها كما حصل هذا العام وما قبله من أيَّام عاشوراء في الكاظميَّة وبغداد وكربلاء والحلَّة وطريق سامراء وغير ذلك ممَّا يثكل ويفجع كل الغيارى محاربة للذِّكريات الحسينيَّة.
8 _ التَّعاون في أمر استئصال بقايا الأعداء الماضين البعثيِّين ومن لفَّ لفَّهم ممَّن لطخت أيديهم بالدِّماء مباشرة أو تسبُّباً أو كانوا أهل الفكرة الضالَّة من الملوَّثين من بقايا العفالقة والإلحاديِّين ومنهم من هم الآن يسرحون ويمرحون ويشغلون المقاعد المهمة في البلد ولو بالتَّظاهر الإسلامي الحسيني السِّلمي ضدَّهم وعلى
ص: 206
الأقل إبعادهم انتصاراً للعقيدة والتزام الحفاظ على حق الأغلبيَّة السَّاحقةالمظلومة.
9 _ إبعاد شيوخ النِّظام البائد عن التَّدخُّل في هذه الأمور وأمثالها وعن دخولهم في بعض الصَّحوات المخيفة للخشية من خيانتهم المكرَّرة ونصرتهم المستمرَّة للقتلة الماضين والحاليِّين كما كانوا أو أزيد.
10 _ تنقيح الجيش والشُّرطة ورجال الأمن والمخابرات ونحوهم من الموظَّفين من ذوي السَّوابق الوخيمة واللواحق اللئيمة أو مراقبة تحرُّكاتهم لتجميدها عن التَّحرك على الأقل.
11 _ المظاهرات الدِّينيَّة الحسينيَّة للمطالبة بالقضاء على كل بقايا الطَّواغيت وأعوانهم أو الحذر منهم ومن بعض من أطلق سراحهم أو سيُطلق سراحُهم من أهل السوابق فيما قد يُسمَّى بالعفو العام الحاصل أو ما سيحصل والعياذ بالله ويا ليتها لو كانت متوحِّدة في الأهداف وغير مثيرة للشَّغب والفتن.
12 _ المظاهرات الحسينيَّة السلميّة الهادفة للمطالبة بمحاربة كل ما يبتدع من القوانين الضَّارَّة وما لا يناسب دين الأغلبيَّة والَّتي منها ما صوِّت على بعضه ممَّن لم يكن الشَّعب المظلوم والمضطهد راضياً بالكثير من أشخاصهم وقراراتهم كما في بعض قرارات وأشخاص برلمان اليوم لمجاملتهم الكبيرة للمستعمر والمزيدة على المظلوميَّة والاضطهاد أضعافاً مضاعفة ولكونهم ما انتخبوا سابقاً علناً وأثقلوا ميزانيَّة الدولة بضخامة رواتبهم التي لا يستحقونها، لأهميَّة الانتخاب الآتي علينا ولأفضل الأشخاص وبالخصوص في مرحلة الانفتاح الانتخابي الموعود.
13 _ وجوب مطالبة الجميع للحكومة المحترمة في شعاراتهم الحسينيَّة بزيادة اهتمامها بإعادة بناء الأضرحة المقدَّسة المهدَّمة المتساهل في أمرها وأهمُّها تنجيز
ص: 207
أمور ضريح الإمامين العسكريَّين (علیهما السلام) في سامراء كاملاً وسريعاًوبدون تواني وغيره ووجوب تنفيذ أوامر هذه الحكومة المُستضعفة من قبل الطامعين والنواصب والبعثيين لو تصدَّت إلى هذا الاهتمام من قبل المسلمين والمؤمنين المخلصين بتكاتفهم السريع.
14 _ وجوب مشاركة وسائل الإعلام المرئيَّة والمسموعة وأمثالهما الصادقة المتواجدة في العراق والَّتي تدَّعي كثير منها مبالغة أو كذباً وزوراً بأنَّها تريد خدمة المشاعر الشَّعبيَّة العراقيَّة المظلومة، وأي ظلامة للشَّعب المسلم المؤمن مثل مظلوميَّته ومظلوميَّة بقيَّة شعوب العالم الإسلامي والإنساني معه من الَّتي حلَّت فيهم طيلة العقود والعهود الماضية من طواغيت العراق ومن لفَّ لفَّهم من بقايا حكَّام الماسونيَّة والطَّائفيَّة في المنطقة والَّتي أهمُّها قدسيَّة الذكريات الحسينيَّة المحاربة ومنها مسيرة الأربعين ولكن الواقع المطبَّق على الأرض مع الأسف قليل جدَّاً من هذه الوسائل وإن كان قد صدق الآخرون في مدَّعاهم الخدمي لأمثال هذه الأمور لبادروا ولسدُّوا الفراغ بما يشفي الغليل لو لم يفعلوا العكس تماماً وبما لا تستغل هذه الذكريات بالاستغلال السياسي المُتطرِّف.
15 _ محاربة ما قد يبديه بعض المتطرِّفين ممَّن يسموَّن بالمهدويَّة السُّلوكيَّة من الإشاعات الفكريَّة أو الزَّرقاويَّة أو غيرهما وبالحجج الواهية وببعض الإغراءات الماليَّة المشوِّشة على أذهان المؤمنين العوام في عقيدتهم الحقَّة عن إمامنا المفدَّى الحجَّة المهدي بن الحسن العسكري (علیهما السلام) الثَّاني عشر "عجَّل الله فرجه الشَّريف" ومنها تجويزهم الإفساد في الأرض حتَّى يضطر الإمام بالظهور المبكِّر بينما الواقع أن الأمر كلَّه مرهون بالإذن الإلهي وبما ينجح لآل محمَّد (علیهم السلام)دولتهم ولأهل الحق الثَّابت نهضتهم بحسن الانتظار والثبات على الدين والإيمان، والحديث طويل لو
ص: 208
أردنا الإطالة ولكن نكتفي بهذا القدر،والله الهادي إلى سبيل الرَّشاد.
والسَّلام على من اتَّبع الهدى الحُسيني أوَّلاً وآخراً
النَّجف الأشرف- 26/محرَّم الحرام
1431ه_
س / ورد في كتاب نور الأبصار في أحوال الأئمَّة التِّسعة الأبرار قيل لأبي جعفر محمّد بن عليّ الجواد (علیهما السلام) زيارة الرِّضا (علیه السلام) أفضل أم زيارة الحسين (علیه السلام)؟ فقال: زيارة أبي أفضل لأنّه لا يزوره إلاّ الخواص من الشيعة.
بينما تذهب بعض الرِّوايات إلى تفضيل زيارة الحسين (علیه السلام) على سائر الزِّيارات؟
ج / بسمه تعالی
لابدَّ أن نقول بأنَّ زيارة الإمام الحُسين (علیه السلام) أهم الزِّيارات جميعاً بتأكيد النَّبي (صلی الله علیه و آله) والأئمَّة الآخرين (علیهم السلام)لا من جهة وجود من كان مفضَّلاً عليه كجدِّه وأبيه وأمِّه وأخيه فيهم وفي مدافنهم الشَّريفة وأهميَّة زيارتها أيضاً بما يتناسب وأفضليَّتهم عليه، ولأنَّ أكثرهم يلزم الاهتمام بزيارتهم لمظلوميَّتهم بسبب منع النَّواصب الالتزام بها أو بكيفيَّاتها.
بل إنَّ زيارته كانت مفضَّلة بعد هذا التَّأكيد لجبر المصائب العاشورائيَّة، ولأهميَّة علاقاتها بالرَّوابط الولائيَّة الأكبر، بل وفي قِبال عدائيَّات كافَّة
ص: 209
أعداء القضيَّة عموماً وخصوصاً من سلاطين الجور وفراعنة الظُّلم من أهل الكفر والنِّفاق ومن ارتبط بهم حتَّى لو كان على نحو المسلك السِّياسي.
حيث أنَّ جدَّه النَّبي الرَّسول (صلی الله علیه و آله) لمَّا كان هو صاحب المقام الأوَّل والأعظم في بداية الدَّولة الإسلاميَّة فلابدَّ من كونه في تعاملاته الشَّريفة _ مع أعداءه من قادة الأمم الكافرة ومع المسلمين والمؤمنين من شعوبه وولاياتها الإسلاميَّة وما حلَّ فيما بينهم من بقيَّة أهل الملل والنِّحل _ منسجماً مع سياسات الخُلق الرَّفيع المعروفة عنه، وقد قال عنه بما قبل حادثة استشهاده الكربلائي على أيدي أهل الكفر والنِّفاق لإكمال النَّهضة السَّماويَّة المحمديَّة والنَّهضة الفاطميَّة والمخطط الصَّابر العلوي والتَّمهيد الحَسني (حسين منِّي وأنا من حُسين)(1) لتكون كربلاء المقدَّسة في طول الزَّمن وعرضه كعبة الزَّائرين ومهد الانطلاق الثَّوري ضدَّ الطَّواغيت والفراعنة مسلمين وغيرهم من أمثال يزيد الأموي وإن لم يكن هذا التَّقابل مقاوماً بالسَّيف والبُندقيَّة، لأنَّ زياراته المطلوبة ندباً عامَّاً أو خاصَّاً أو ووجوباً كانت في أساسها تظاهرات سلميَّة لن يقدر على محوها _ لضخامة شعبيَّاتها العالميَّة للعدو _ سيف أو بندقيَّة عدائيَّان بلمن موقعها المسالم هدَّت عروش كفر ونفاق هائلين على مدى العصور القديمة وحتَّى الآن وإلى ما شاء الله من المستقبل وحتَّى ظهور الإمام
ص: 210
المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) الآخذ بالثَّأر إن شاء الله تعالى.
وهذا الحث على الزِّيارة جاء بأدلَّة عظيمة العدد والمضمون وبالنَّحو العام بل بالنَّحو العام الخاص المتعدِّد وهو في بدايته من زيارة أحد الأئمَّة له من أبناءه أو بأمرهم لبعض أو كلِّ حواريهم وشيعتهم لزيارته بالتَّكليف الخاص أو العام، بل بالتَّشجيع على زيارته خصوصاً بأكثر من زيارات خاصَّة كانت لأبيه أمير المؤمنين (علیه السلام) وإن تعدَّدت كزيارة المبعث وزيارة المولد النَّبوي والغدير ووفاة النَّبي (صلی الله علیه و آله) ووفاة أمير المؤمنين (علیه السلام) للمبالغة في زيارات الحُسين (علیه السلام) حتَّى ورد الكلام منهم (علیهم السلام)في وجوبها ومنها زيارة عاشوراء والأربعين وأوَّل رجب ووسطه ونصف شعبان وليالي القدر الثَّلاثة وليلتي العيدين ويوم عرفة وليلة الجمعة ومن جملة ما ورد في زيارته من دلائل الوجوب ما عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (علیه السلام) قال ((مروا شيعتنا بزيارة الحسين بن علي (علیهما السلام) فإنَّ زيارته (علیه السلام) تدفع الهدم والغرق والحرق وأكل السَّبع وزيارته مفترضة على من أقرَّ للحسين بالإمامة من الله (عزوجل) ))(1).وإذا كان الأمر كما عُلم فلابدَّ من أن تبدو الأفضليَّة على زيارة الإمام الرِّضا (علیه السلام) بما ذكرناه من الخصوصيَّة.
في حين أنَّ هذه الخاصَّة لم تكن خصوصاً أنَّها الأربعين لأنَّ ما ورد في الأربعين الكثير، بل قد يسقط وجوب الحج الواجب إذا سبق وجوبه نذر الذَّهاب لزيارته يوم عرفة، حتَّى لو قلنا بأنَّه يزوره المؤمن وغيره والمسلم
ص: 211
وغيره والاثني عشري والنَّاقص كالزَّيدي والإسماعيلي والواقفي وغيرهما لما مرَّ من التَّوجيه، بينما الإمام الرِّضا (علیه السلام) زيارته كانت واحدة في شهر رجب عدا العموميَّات الَّتي وردت فيه وفي غيره على ما ورد في التَّهذيب عن أبي عامر واعظ أهل الحجاز عن الصَّادق عن أبيه عن جدَّه (علیهم السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) ((يا أبا الحسن إنَّ الله جعل قبرك وقبر ولدك بقاعاً من بقاع الجنة وعرصات من عرصاتها، وإنَّ الله (عزوجل) جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوة من عباده تحنُّ إليكم وتحتمل المذلَّة والأذى فيكم، فيعمرون قبوركم ويكثرون زيارتها تقرُّباً منهم إلى الله ومودَّة منهم لرسوله، أولئك يا علي المخصوصون بشفاعتي والواردون حوضي وهم زواري وجيراني غداً في الجنَّة، يا علي من عمَّر قبوركم وتعاهدها فكأنَّما أعان سليمان بن داوود على بناء بيت المقدَّس، ومن زار قبوركم عدل ذلك ثواب سبعين حجَّة بعد حجَّة الإسلام وخرج من ذنوبه حتَّى يرجع من زيارتكم كيوم ولدته أمُّه، فأبشر يا علي وبشِّر أولياءك ومحبيِّك من النَّعيم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولكن حثالة من النَّاس يعيِّرون زوَّار قبوركمبزيارتكم كما تعيَّر الزانية بزناها أولئك شرار أمَّتي لا تنالهم شفاعتي ولا يردُّون حوضي))(1).
أقول: وما كان ذلك في الإمام الرِّضا (علیه السلام) إلاَّ لتكثير الزوَّار لأنَّه كان
ص: 212
غريباً في بقاع خُراسان البعيدة واليوم هو المقصود بكثرة زوَّاره.
وأمَّا أفضليَّة زيارته (علیه السلام) المذكورة في الرِّواية في السُّؤال فورودها ليس على أصل مفضوليَّة زيارة جدِّه الحُسين (علیه السلام) وبقيَّة من سبق الإمام الرِّضا (علیه السلام) من آبائه (علیهم السلام) بل لنوعيَّة حصيلة زوَّاره في كون كلِّ منهم أو نوعهم أنَّهم كانوا كما هم الآن من الاثنا عشريَّة ولعلَّه لكونه كما في بعض روايات آخر أنَّه غريب الغرباء والبعيد عن الأوطان وإن كان خصوص الزوَّار الإثنا عشريَّة أفضل من عموم المذاهب أو خصوص الشِّيعة من الإثنا عشريَّة وغيرهم، وهذا لا يدل على أفضليَّة أصل زيارته فقد شاعت وذاعت زيارته بالملايين وعشراتها من العالم كلِّه سنَّة وشيعة ومن بقيَّة مذاهب التَّشيُّع المتنوِّعة من المهتدين أو المتطلِّعين حتَّى ذهبت الغرابة وفاقت زيارته في الكم والكيف زيارة الباقين ما عدا زيارة جدِّه الإمام الحُسين (علیه السلام) وما ذلك إلاَّ لكون الحُسين (علیه السلام) في الحديث القُدسي المكتوب على العرش (الحُسين مصباح الهدى وسفينة النَّجاة) وإن قال الإمام (علیه السلام) في إحدى الرِّوايات الأخرى (كلُّنا سفن النَّجاة ولكن سفينةجدِّي الحُسين أوسع)(1) فهو الَّذي ينبئ عن سرِّ تمام الأفضليَّة لنهضته المحمَّديَّة العالميَّة لصالح كلِّ الأمَّة لديمومة عزِّ الإسلام والإيمان الَّذي لابدَّ أن يختم بدولة آخر الزَّمان الموعود لها النَّصر الأتم وأخذ الثَّأر من قِبل إمام الزَّمان (عجل الله تعالی فرجه الشریف) فيجب مراعاتها فلا مانع من ورود الرِّوايتين في السُّؤال كل مضمون منهما له حيثيَّته لعدم المشاحَّة بينهما، والله العالم.
ص: 213
س / هل من الرَّاجح اصطحاب الأطفال إلى مجالس التَّعزية، أو إلى مجالس الفاتحة؟
ج / بسمه تعالی
ممَّا يرجح جدَّاً اصطحاب الأطفال إلى مجالس التَّنميَّة والتَّسليك الدِّيني وبالأخص عند الحاجة كحالة انحصار تربيتهم على الخط الولائي أو الاجتماعي النَّافع العام على ذلك خشية من المد السَّلبي الجارف في الزُّقاق والشَّارع وحتَّى المدرسة غير المرتَّبة في مناهجها وغير المعتدلة في منتسبيها المعلِّمين والمدرِّسين وطلاَّبها فضلاً عن دور الغربة غير الإسلاميَّة والجو جو جاليات مسلمة مؤمنة تريد الحفاظ على أبناءها وإفادتهم هناك كإفادتهم في بلادهم الإسلامي الإيماني الحُسيني الملتزم.وإنَّ ممَّا ورد في الحث على هذا الأمر وأمثاله تجاههم في القرآن ما خوطب به عموم الآباء تجاه أبنائهم والأمَّهات تجاه بناتهن وعموم الأبناء للآباء والبنات للأمَّهات، وإن قلَّ السِّن فيهما عن السَّبعة للحفاظ على الفطرة السَّليمة فيهما وهو قوله تعالى «وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا»(1)، وقوله «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ»(2) والإيصاء فيه نوع عموميَّة بما يزيد على المواريث وبما يشمل الأيتام وغيرهم في
ص: 214
التَّربية الأقل كلفة من الأموال، وقوله «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(1) وغير ذلك، وقوله «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ»(2) وقوله على لسان لقمان يوصي ولده «وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»(3).
ويقول رسول الله (صلی الله علیه و آله) (ألزموا أولادكم وأحسنوا آدابهم، فإنَّ أولادكم هديّة إليكم)(4)، ويقول أيضاً في رواية أخرى (أدِّبوا أولادكم على ثلاث خصال حب نبيِّكم وحب أهل بيته وعلى قراءة القرآن)(5).
كما ورد أيضاً في السنَّة قول أمير المؤمنين (علیه السلام) تجاه الأطفال أيضاً (اترك ولدك سبعاً، وعلمه سبعاً، وصاحبه سبعاً)(6)، وفي عبارة أخرى عن
ص: 215
الصَّادق (علیهما السلام) (دع ابنك يلعب سبع سنين، ويؤدَّب سبع سنين وألزمه نفسك سبع سنين، فإن أفلح وإلاَّ فإنَّه ممَّن لا خير فيه)(1) إذا كان من حالات التَّأديب هو بعض أنواع المصاحبات لمثل تلك المجالس وبالخصوص في هذه الأزمنة الَّتي لا تضمن نجاتهم بتركهم في البيت مع وجود الملهيات الحديثة أو مع أقرانهم في أزقَّة اللهو واللَّعب وشوارع ما يُخاف منه عليهم لو اجتمعوا أو حتَّى لو انفردوا مع مشاكل الانترنيت ووسائل اللَّهو واللَّعب الخطيرة.
وجاء في رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين زين العابدين (علیهالسلام) (وأمَّا حقّ ولدك فإن تعلم إنَّه منك ومضاف إليك في عاجل الدُّنيا بخيره وشرِّه، وإنَّك مسؤول عمَّا وليته من حسن الأدب، والدَّلالة على ربِّه }، والمعونة على طاعته، فاعمل في أمره عمل من يعلم أنَّه مثاب على الإحسان إليه، معاقب على الإساءة إليه فاعمل في أمره عمل المتزّين بحسن أثره عليه في عاجل الدُّنيا فعملك وتربيتك لولدك كمن يزيّن نفسه بالأثر الصَّالح لهذا الولد في الدُّنيا.. المعذَّر إلى ربِّه فيما بينك وبينه بحسن القيام عليه والآخذ له منه).
وقال الصَّادق (علیه السلام) (مروا أولادكم بالصَّلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، فإنَّا نأمر أولادنا بالصَّلاة وهم أبناء خمس، ونضربهم عليها وهم أبناء سبع)(2).
ص: 216
ودخول البنات مع الذُّكور من الأولاد وارد في التَّغليب من الوجهة الأدبيَّة وكذلك في الأكبر منهما، إلاَّ أنَّ بلوغ البنات بداية العاشرة علامة للوجوب.
وورد عن الصَّحابي الجليل أبي ذر الغفاري المعروف بصدق اللَّهجة المفضَّل على غيره بعد المعصومين (علیهم السلام) وتلميذ أمير المؤمنين (علیه السلام) الَّذي قال عنه النَّبي (صلی الله علیه و آله) ((ما أضلَّت الخضراء ولا أقلَّت الغبراء بذي لهجة أصدق من أبي ذر))(1)مخاطباً آباء وأمَّهات أهل الشَّام (أدِّبوا أولادكم على حبِّ علي)(2) وهو مضمون وصايا النَّبي (صلی الله علیه و آله).
وهذا بطبيعة الأمر لن يتم إلاَّ بمصاحبتهم اليوم إلى مجالس ومآتم ولده وسبطه الإمام الحسين (علیه السلام) مدرسة الأجيال طولاً وعرضاً، وكذلك مجالس الفواتح لو تُختم بمجالس العزاء الحُسيني للهدف الحُسيني المتَّصل بالعلوي، لكون (الإسلام محمَّدي الحدوث علوي البناء حسنَي التَّمهيد حُسيني الخلود والبقاء).
والله العالم.
ص: 217
س / هل يجوز الصِّيام تطوُّعاً في المناسبات الَّتي وقعت فيها مصائب عظيمة على الأمَّة الإسلاميَّة كيوم وفاة النَّبي الأكرم 2 أو غيره كشهادة الإمام الحُسين (علیها السلام) في ملحمة عاشوراء؟
ج / بسمه تعالی
نعم ، يجوز ذلك حتَّى في عاشوراء لو لم يكن عن تشفِّي لا كما كان يصنعه أعداء الحُسين (علیها السلام) لعنهم الله ولكن على كراهيَّة إذا كان طوال النَّهار من الشِّيعة والموالين ولو تألُّماً، نعم يبقى التَّطوُّع على استحبابه إذا كان بنحو الإمساك تظلُّماً وحزنا وكإضراب عن الطَّعام والشَّراب للوعة المصاب إلى حين العصر لانصراف النَّفس عن التَّشهي لهما وحين ذاك إذا أكل أو شرب فبالقلَّة مثل من لا يشتهي لذلك، وأمَّا ما أشرنا له من صيام الأعداء الكامل تشفيَّاً فهو حرام مبتدع، وأمَّا يوم وفاة النَّبي (صلی الله علیه و آله) فهو وإن كان عظيماً على المؤمنين وهكذا غيره من بقيَّة المعصومين (علیهم السلام) فلا ملازمة شرعيَّة بين خصوصه من أيَّام وفياتهم وبين استحباب صومه من النَّاحية الأساسيَّة العامَّة لكل السنة ما عدا العيدين، ولكنَّه لا يحرم فيه صوم كل ذلك اليوم بنحو استحباب الصَّوم المطلق أو للقضاء أو للنَّذر أو شبهه، أمَّا أنَّه على نفس كراهيَّة يوم العاشر فلم يثبت، والله العالم.
ص: 218
س / ما مدى صحَّة ما يرويه البعض في كتبهم من المناسبات السَّعيدة الَّتي حصلت في نفس يوم عاشوراء كمناسبة خروج يونس (علیها السلام) من بطن الحوت ونجاة النَّبي إبراهيم (علیها السلام) من النَّار وغيرها؟
ج / بسمه تعالی
الإسلام كما أنَّه يجب ما قبله في بعض أموره تسهيلاً على الأمم إذا أقدمت على الإسلام تديناً به كي لا يحاسبوا على ما أجروه في الجاهليَّة وكأنَّهم عند إسلامهم كيوم ولدتهم أمَّهاتهم كذلك ينسي أحداث ما قبله أفراحاً وأتراحاً من الحوادث الجليلة للأنبياء والرُّسل والأسباط السَّابقين تجاه أجليَّة أحداث ما يتعلَّق بأفراح وأتراح النَّبي (صلی الله علیه و آله) وبقيَّة المعصومين (علیهم السلام) وبالأخص المصائب الَّتي تتلوها مع كون أحداث الأفراح السَّابقة على الإسلام لم تزاحمها قضيَّة عاشوراء في زمانها الإسلامي العظيم، لكون أفراح السَّابقين محترمة في زمانها، ولأنَّ مناقبهم قد تتلى في قرآننا العظيم يوميَّاً بدون تقيَّد باليوم المعيَّن لها تأريخيَّاً، بل إنَّ فرح مناقبهم لو كان يوم عاشوراء في حينه ما تمَّ لهم إلاَّ ببركة الأشباح الخمسة الَّذين آخرهم الإمام الحُسين (علیهما السلام)، وإنَّ الأفراح مهما كانت في عظمتها لن تدوم أيضاً بغلبة مصاب سيِّد شباب أهل الجنَّة (علیهم السلام)وكما يروى عن إمامنا زين العابدين (علیه السلام) :_
عظيمة في الأنام محنتنا *** أوَّلنا مبتلى وآخرنا
ص: 219
يفرح هذا الورى بعيدهم *** ونحن أعيادنا مآتمنا(1)
والله العالم.
رسالة من زائر اسمه محمد علي بريده golfboy_120@hotmail.com
وموضوعه الفيديو كليب الحسيني
سماحة آية الله العظمى السيد علاء الدين الغريفي دام ظله
بانتشار وسائل الإعلام الحديثة وتعدد طرقها، ونظراً لتزايد الهجمة الشرسة من أعداء أهل البيت (علیهم السلام) على المذهب الحق، فقد تزايدت ولله الحمد القنوات الفضائية المنتسبة لمذهب أهل البيت (علیهم السلام)، ومع تواضع جهودها خاصة في الطفرة الإعلامية المعاصرة، فكان من المفروض من هذه القنوات الشيعية أن تكون زيناً لأهل البيت (علیهم السلام) لا شيناً – والعياذ بالله – عليهم.
فقد انتشرت في هذه القنوات المنسوبة للمذهب الحق ( الفيديو كليب الحسيني ) وهو أن يقوم الرَّادود الحسيني بذكر مصائب أهل البيت (علیهم السلام)، أو بذكر مواليدهم الشريفة.
ولكن وللأسف فقد دخلت في هذه الأعمال بعض الأمور المخزية من انتشار بعض الموسيقى أو المؤثرات الصوتية الشبيهة بالموسيقى، أو تصوير هذه الفيديوهات في الحدائق العامة أو على شواطئ البحر أو على الجبال وغيرها.سيدنا الكريم.. لا نعيب على الرُّواديد الحسينيِّين مكان التصوير بقدر ما نعيب عليهم ما يفعلونه أثناء التصوير، من فتح صدورهم أو لبس الملابس الملونة في أثناء
ص: 220
ذكرهم لمصائب أهل البيت (علیهم السلام)، أو في ما يقومون به من بعض التمثيل الذي لا يليق بذكر مصائبهم (علیهم السلام)، أو من فعل بعض الأمور الغريبة وكأن هذه الفيديوهات هي استعراض يقوم به أشباه الرُّواديد يدعون من خلاله أنهم خدام للحسين (علیه السلام).
سيدنا الكريم.. من باب مكانكم وتكليفكم كمرجع ديني لهذه الطائفة الحقة، ومن باب أنكم حماة الدين والمدافعين عن العقيدة الحقة، نرجو منكم ذكر رأيكم الشريف عن هذه الأعمال، ونصيحتكم لهؤلاء الذين يدعون أنهم خدام لأهل البيت (علیهم السلام)، وخاصة أن هناك قناة متخصصة تتبنى عرض هذه الأعمال بدون أي شعور بالمسؤولية أو خوف من تشويه صورة أهل البيت (علیهم السلام).
ج / بسمه تعالی
لابدَّ للحق أن يُقال وإن كنَّا نحن أهل الحق عقيدة وشرعاً وغيرنا أهل باطل وضلال لنا أم علينا وليس للتَّشفِّي ضدَّ أحد والإثارة لأي جهة على أي أخرى وإنَّما لتنقيح مسلكنا من كل الأشواك والعراقيل الموضوعة في الطَّريق لنبقى مناراً للجميع للمتجاوزين من أبناء مسلكنا وللآخرين كما علَّمنا أئمَّتنا وقادتنا (علیهم السلام) بأن نبقى في أتم سلامة من ديننا ودنيانا بلا خلط بين الغث والسَّمين، ولأنَّ الله لا يُطاع في سلامة الدِّين والدُّنيا المرتبطين بالوسط الشَّرعي من حيث يُعصى، وقد ذمَّ تعالى الملتزمين بالخلط بقوله «وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا»(1)، لمحاولةالسَّعي لتقليص عدد اختلاف الأمَّة إلى ثلاث وسبعين فرقة، ولتوسعة محور الهداية لأكبر عدد ممكن بين المتفاوتين.
ص: 221
ومن كان غرضه أن يجمع بين الآراء المختلفة والمذاهب المتفاوتة في العقيدة والسُّلوك العملي لا يقدر أن يُصحِّح التَّجاوز الَّذي نريد أن ينتهي عنه أعداؤنا أو ينتهي عنه أبناء جلدتنا لو تجاوزوا، لأنّ الإسلام العزيز الجامع بين المسلكين بعد التَّدقيق في أدلَّة الطَّرفين للوصول إلى ما به الوسطيَّة المطلوبة لابدَّ وأن تنهي الجميع عن الفحشاء والمنكر من جميع المجالات، سواء بالنَّحو الثَّقيل أو الخفيف وسواء بارتياد الأماكن غير المقبولة أو الاجتماع بالمعشر غير المقبول والألبسة غير المقبولة أو خلط ما تكون القراءة فيه بالموسيقى وبعد العمل الحُسيني عن التَّقيُّد بالعبادات المطلوبة سواء في الأفراح والأتراح.
فإنَّ السَّير بهذا النَّحو من الفوضى بعيد كل البعد عن مرام الثَّائرين أمثال الإمام الحُسين (علیه السلام) الَّذي يُمثِّل جدَّه (صلی الله علیه و آله) وأباه وأخاه (علیهم السلام) ضدَّ الجاهليِّين من أهل الفسق والفجور كيزيد، لأنَّه ما جاء إلاَّ للانقضاض على كل صفاتهم المخالفة للشَّريعة، بل لن يرض حتَّى عن مسلك ما قد يُسمَّى سطحيَّاً بما مظهره الإسلام فقط لكونه مليئاً بالنِّفاق كمعاوية وطبقته، وقد قال (علیهما السلام) ((إنِّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أمَّة جدِّي محمَّد (صلی الله علیه و آله) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب (علیهما السلام) فمن قبلني بالحق فالله أولى بالحق ومن ردَّ عليفسأصبر حتَّى يحكم الله والله خير الحاكمين)).
ومن حاول الخلط بين الحلال والحرام في الأفراح والأتراح في هذه الفعَّاليَّات بحجَّة نشوة الانتصار فإنَّه خروج عن حقيقة الانتظار، بل عليه
ص: 222
ضدَّ صاحبه، بل هو سير في مسلك الاندثار، لأنَّه (لا يُطاع الله من حيث يُعصى)، بل إذا كانت ذكريات الأفراح هي كالأتراح وكما يروى عن إمامنا زين العابدين (علیه السلام):_
عظيمة في الأنام محنتنا *** أولنا مبتلى وآخرنا
يفرح هذا الورى بعيدهم *** ونحن أعيادنا مآتمنا(1)
فكيف يكون التَّفاعل إذن منافي ذكريات الأتراح لو اصطدم بما يُنافي الشَّرع، والله العالم.
س 1/ قضيَّة حضور ليلى أم علي الأكبر لم يذكرها إلاَّ صاحب أسرار الشَّهادة، وجاء فيها بأسانيد مجهولة ولم يذكرها أحد من أصحاب الكتب المعتبرة، فإذا كان الكلام بهذا الشَّكل.
ما حكم من ينقل لنا القصَّة وحوارها مع الإمام الحسين (علیه السلام) فهل يدخل ذلك في مدخلية الكذب على الأئمَّة (علیهم السلام).
س 2/ ما حكم من ينقل رواية حول حياة الإمام الحُسين (علیه السلام) أو مصرعه أو أحد الأئمَّة (علیهم السلام) غير موجودة في الكتب المعتبرة.
ج 1/ بسمه تعالی
قضيَّة ليلى أم علي الأكبر كقضيَّة رملة أم القاسم وأم كلثوم كبنت ثانية
ص: 223
لأمير المؤمنين (علیه السلام) وكأم البنين وغيرهنَّ بنقل روايات عنهنَّ مشوبات بالضَّعف أو جاء عنهنَّ في التَّأريخ والسِّير قسمان من الرِّوايات:
قسم: يقول بوجودهنَّ أو بعضهنَّ، وآخر يقول بعدمه.
دون أن يكون أحد القسمين ملازماً للضَّعف، بل قد يكون فيه قوَّة لا على التَّعيين فالعمل على طبقه أو عدمه على المبنى وعلى الأخص لو كان أمر اعتبار ذكرهنَّ من قبيل السُّنن الَّتي تسامحوا فيها بلا أن يثبت بعض ذلك شيئاً من التَّساقط بعد التَّعارض لعدم ثبوته كاملاً بالدقَّة.
ففي مقام هذا الضَّعف مثلاً هل يمكن القول بعدم جواز التَّفاعل في أمرهنَّ مع احتمال عدمه كنساء مفجوعات بما حصل بكربلاء المقدَّسة؟
لاحتمال عدم وجودهنَّ مع كون احتمال وجودهنَّ أيضاً لا يمكن البت بعدمه إذا لم يكن الضَّعف مقطوعاً به في مقابل القول الآخر المرتبط بالقوَّة.
وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.
وقد حرص الخطباء المشهورون واللامعون بل حتَّى الفقهاء المجتهدون الَّذين اعتادوا يوم العاشر على ارتقاء الأعواد وقراءة ما جمعوه من رواياته ومنها نقل حتَّى الرِّوايات الضَّعيفة، لعدم امكان الاستهانة بها حتَّى مع ضعفها على ما بينَّاه ولو لاحتمال أن تسنح الفرصة للعثور على ما يُقويِّها بين المتفرِّقات من الكتب أو لأداء حقِّهنَّ كأمَّهات أو أخوات أوبنات ثكلى تستدر لهنَّ وبسببهنَّ للآخرين الدُّموع المستحب سكبها على تقدير وجودهنَّ ولتحقيق ما نصَّت عليه روايات التَّشجيع على عقد المجالس النِّسائيَّة أو الرِّجاليَّة مع النِّسائيَّة المحتشمة بنحو التَّسامح في أدلَّة
ص: 224
السُّنن للنِّياحة أو حتَّى ما قد يُصوِّره الخيال الشَّاعري قريضاً أو باللغة الدَّارجة على فرض وجود هكذا نسوة وإن لم يكن لأداء حقِّهنَّ كمفجوعات موجودات فليبكين في أرواحهنَّ المرهفة، لعدم امكان نكران حياتهنَّ الرُّوحيَّة العامرة، لأنَّهنَّ من نساء البيت الحُسيني الطَّاهر كما في أشعار الحُسيني الموهوب المحبوب دعبل الخُزاعي (رحمة الله) المعروف في ولائيَّاته التَّائيَّة المعروفة عند حضوره بخدمة الإمام الرِّضا (علیه السلام) بقوله مخاطباً الزَّهراء (صلی الله علیه و آله)وهي أوَّل المفجوعات بعزيزها الإمام (علیه السلام):_
أفاطم لو خلت الحُسين مجدَّلاً *** وقد مات عطشاناً بشط فرات
إذن للطمت الخد فاطمُ عنده *** وأجريت دمع العين في الوجنات
فبعموم واطلاق روايات التَّشجيع على عقد هكذا مجالس كقول الإمام (علیهما السلام) (أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا) (1) وغيره لا مانع من نقل قصَّة ليلى وحوارها مع الحُسين (علیه السلام) ما دام لم يُقصد الكذب في النَّقل حينما لم يصل الضَّعف إلى حدِّ الاعتقاد الجازم بعدم الورود بلا احتمال الخلاف أو بنقل حالة التَّعاطف النَّوعي المثير للشجون معها شريطة أن لا تُختلق قضيَّة تأريخيَّة لا أصل لها، واللهالعالم.
ج 2/ بسمه تعالی
لا يجوز نقل شيء من هذه الأمور على المنابر وغيرها من دون تثبُّت من المصادر المعروفة في احترامها وبالأخص المرويَّات الَّتي قد تثير أو
ص: 225
يُثيرها الأعداء ليزداد اللَّغط والنِّقاش ضدَّ أساس النَّهضة الحُسينيَّة العملاقة في أساسها وعطاءها ضدَّ طواغيت الأرض لكلِّ زمان ومكان.
نعم قد يُحفظ على الألسن فقط بعض الأمور المشهورة بين الحُسينيين الأصيليِّين خلفاً عن سلف حتَّى مع طول الزَّمن فقد تكون في واقعها روايات عن كتب أتلفت سهواً أو عمداً عدائيَّاً أو آفات قهريَّة وبقيت منقولة محفوظة في الصُّدور، ومن ذلك بعض القضايا الحُسينيِّة الَّتي يذكرها الشُّعراء الواردون حُسينيِّاً في أشعارهم ممَّا لا يخفى على مشاهير الخطباء المهمِّين فلا مانع من ذلك مع أهميَّة الاحتياط كثيراً من باقي المنقولات على الألسن غير المخضرم أصحابها من جهة خطورة حالات ما قد يصل إلى التَّجاوز المخل عند النَّقل بالمعنى.
وأمَّا المبالغات والتَّضخيمات أو ما يُقال ممَّا تستدعيه الضَّرورة الشِّعريَّة أو ما تُذرف له الدُّموع أكثر بما لم يُثبت له أساس ولم يكن مرسوماً في أصل الواقعة فهو حرام لا يجوز المبالغة فيه، والله العالم.
س / ما رأي سماحتكم في روايات عاشوراء التَّأريخيَّة وما بعده وغيرها فهل يُحسب علميَّاً لها حساب روايات الأحكام الفقهيَّة فيُنتج منها نفس ما يُنتجه استنباط الأحكام الشَّرعيَّة بدون فرق كالوجوب والاستحباب ونحوهما ممَّا يتناسب اجراؤه تجاهها؟ على ضوء أصول الفقه أم لا؟ أفتونا مأجورين.
ص: 226
ج / بسمه تعالی
لم تكن كل القضايا التَّأريخيَّة محسوباً لها حساب روايات الأحكام المنتجة للأحكام الشَّرعيَّة إلاَّ ما كان منها ما هو مرتبط بقول المعصوم (علیه السلام) أو فعله أو تقريره ولو من بعيد هو قريب كالَّذي يرويه الصَّحفي المعروف آنذاك كحميد ابن مسلم وأمثاله وأُيد بوجود السجَّاد (علیه السلام) مثلاً ومن بعده من أبناءه البررة (علیهم السلام) حينما يقول المؤرخ المعاصر لهم خبراً عاشورائيَّاً ولم يُنكر المعصوم (علیه السلام) منهم على الأقل حينما يُراد التَّعرُّف على تلك القضايا من المعصومين أو حواريهم، وفي نفس الوقت تُعد مضامين هذه الرِّوايات من نوع السُّنن الَّتي تسامحوا فيها ما لم يتسامحوا في غيرها، حتَّى لو سرى هذا التَّسامح إلى ما قد يزيد على المستحب وهو الوجوب بالمعنى الثَّانوي لبعض الذِّكريات الحُسينيَّة أو ما يحرم تركه منها ثانويَّاً كذلك بناءاً على ما يبنى عليه من قبح العقاب بلا بيان وقد حصل البيان بهذا المستوى حسب مستوى القضيَّة الحُسينيَّة من الجهة التَّأريخيَّة الممضاة من المعصوم (علیه السلام) ولو تقريراً فلا قبح فلا عقاب ما دام البيان موجوداً ولو بهذا المستوى الثَّانوي، بل إنَّ الاستدلالات الفقهيَّة الرِّوائيَّة في داخلها هي ممَّا يمكن الأخذ به كالموثَّقات حتَّى لبعض المخالفين ومثلها ما يُحسب على التَّأريخيَّات المأخوذة من المؤرخين الموثوقين لو رووا ذلك عن الإمام (علیه السلام) أو رووا الحدث العاشورائيوتوابعه أمام الإمام (علیه السلام) ولم ينكره، وهكذا يمكن الأخذ حتَّى بمثل كيفيَّة استنباطهم السَّطحي أو القياسي الَّذي لا نلتزم به نحن في فقهنا، وإنَّما نلتزم بالأخذ به لإجراء قاعدة الإلزام عليهم فيما يؤيدنا في مسألة ذكريات إمامنا سيِّد الشُّهداء (علیه السلام) حينما تثبت مظلوميَّة أهل البيت (علیهم السلام) وظلم وقساوة قادة ظالميهم.
ص: 227
وبذلك لا مانع من البناء عليها في مثل التَّشبيه لها في هذه الأزمنة عند وجود أهميَّة خاصَّة في إعادة ذكراها أو بثِّها على منبر الخطابة الحُسينيَّة أو أمثال ذلك من الفعَّاليَّات ولو بالنَّقل بالمعنى السَّديد ما دامت روحيَّة الذِّكرى محفوظة فيه كما ورد (كلِّموا النَّاس على قدر عقولهم) وإن حصل التَّفاوت في نقل الخبر بين قول مثل حميد ابن مسلم أو أبي مخنف أو غيرهما والمعنى واحد بناءاً على وثاقة المخبر أو تسديد خبره بما ذكرناه عن مثل تقرير المعصوم (علیه السلام) ولو من جهة أخرى.
نعم يُمكن لأهل المنابر وأهل الفعَّاليَّات الأخرى لإعادة الذِّكرى الأخذ بذلك إذا لم يكن الأمر ملزماً للتَّخريج الفقهي إذا لم يكن له مقتض يقتضيه بل لأنَّ الخبر الفلاني للمعركة وإن لم يكن الإمام (علیه السلام) فيها معه لكنَّه مرتبط بالحدث الأعظم الَّذي لا خلاف فيه عند الجميع بالتَّواتر المعنوي كقتل الإمام (علیه السلام) أو قتل أخيه أبي الفضل (علیه السلام) أو غيرهما أو نحو ذلك من تحرُّكات السَّبايا فلا مانع من ذكر صغريات تلك الأمور وإعطائها حق الذِّكر لها بما ينسجم وحال هذا التَّواتر بالثَّكل العظيم ولو لإثبات المظلوميَّة فقط لتحقيق الانتصار عن طريق إعلامنا الخطابي أو التَّدويني ونحو ذلك كالمسرحيَّات والعرض الميداني للقصَّة العاشورائيَّة وتوابعها بما يُسمَّى بالتَّشبيه كذلك أو مايُؤدَّى اليوم في الأفلام السِّينمائيَّة أو التِّلفزيونيَّة ونحوهما مؤدَّى جوهر القضيَّة لإثارة أكبر عدد ممكن من الأمَّة أو مع بقيَّة الأمم من دعاة الإنسانيَّة وأمثالها ليقفوا على توحُّشات الأمويِّين ومن سبقهم ضدَّ عائلة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الأطهار (علیهم السلام) الَّذين ما تركهم وغفى عنهم إلاَّ بعد أن أوصى باحترامهم وتقديسهم والاعتقاد بهم لأنَّهم العترة الطَّاهرة ثقل النُّبوَّة بعده بالإمامة في حديث الثَّقلين المتواتر بين الفريقين، لأنَّه وأهل بيته (علیهم السلام) لما كانوا قد انتصروا على الجاهليَّة والجاهليِّين وأهل الشِّرك وعبادة الأصنام وأحزاب
ص: 228
القوميَّة العربيَّة الجرداء من قِيم الدِّين الإسلامي وشرف تعاليمه، بعد ذلك هاجت نفوس الموتورين من أبناء أولئك الأعداء وحقَّقوا الانتقام تلو الانتقام النِّفاقي الأموي لأجل مشايخهم الَّذين قُتلوا في بدر وغيرها، وكما ورد من تشفِّي يزيد (لع):_
ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلُّ_وا واستهلُّ_وا فرحاً *** ثمَّ قالوا يا يزيد لا تشل
فلابدَّ أن يكون راجحاً جدَّاً بل واجباً على نهج ما رواه صحفيو الأعداء ومؤرخوهم أو ممَّن يُعد محسوباً على الحياديِّين في نظر أولئك الأعداء وممَّن يُوثق به عندهم من اسناد رواياتهم الحُسينيَّة المتعارفة بما ذكرناه عمليَّاً باستمرار البث الإعلامي والنَّشر له، ليتأثر به عُقلاؤهم عسى أن يهتدوا لإلزامهم بما ألزموا به أنفسهم لإدامة ذلك الانتصار الإسلامي.
وأمَّا في غير ما تُحرز به الفوائد بل تعطى المضار وتشويه الصورة المجلَّلة لآل البيت الطَّاهر (علیهم السلام)دونها فلابدَّ من وجود الحاجة الماسَّة إلى إعادةالنَّظر في تأريخيَّات هذه الأمور كالأخبار الموضوعة والملفَّقة أو المعمات أو الإسرائيليَّات من أمثال أقوال أبي هُريرة وكعب الأحبار وشُريح القاضي وأضرابهم ومن سبقهم ولحق بهم من الوضَّاعين الَّذين أدَّت أخبارهم إلى نشر كون أهل البيت (علیهم السلام) خرجوا عن خط النَّبي (صلی الله علیه و آله) حتَّى أُطلق عليهم في الشَّام بأنَّهم خوارج أو أنَّهم خرجوا على إمام زمانهم يزيد (لع) ومحاولة قلب فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى معاوية ابن أبي سُفيان ونحو ذلك من توافه المهازل إلى أن انكشفت الغُبرة السَّوداء المشؤومة والحمد لله بافتضاح الأمويِّين بُخطب الحوراء والإمام السجَّاد وانقلاب
ص: 229
السِّحر على السَّاحر بقضايا أخرى ساعدت على ذلك.
ثمَّ استمرَّ الانتصار تلو الانتصار ولو كان ذلك تحت الضُّغوط العنيفة جدَّاً والظروف الاستشهاديَّة الكثيرة الأخرى بما لا يمكن تحمُّل تفاصيله من الثَّكل بالأنصار الحُسينيِّين أيَّام طواغيت تلك الأزمنة العصيبة مقدِّمة فدائيَّة لأهميَّة هذه الانتصارات ما دام (الإسلام محمَّدي الحدوث علوي البناء حسنيُّ التَّمهيد حُسيني الخلود والبقاء) وإلى أن يقوم الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
والفوز المفيد جدَّاً لخطبائنا في إعادة النَّظر في التَّأريخيَّات والأمور الواردة في كُتب العامَّة أو حتَّى الخاصَّة المرتبطة برواة العامَّة لا يُضمن إلاَّ بدراسة علمي الدِّراية والحديث والرِّجال لكل من الفريقين لمعرفة الملابسات لدى الجميع لغرض إفراز ما يجوز البناء عليه من روايات المؤرخين من السنَّة أو حتَّى مؤرخي الشِّيعة الَّذين لم يتفقَّهوا في أساليب ما تفقَّه به علماؤها الخواص في كتبهم مناستنتاجاتهم على ما لا يجوز، والله العالم.
س 1/ نحن في أيام عاشوراء المصائب والمحن لآل بيت المصطفى 2 حيث نلاحظ بعض الجهات تحاول تسييس الشَّعائر الحسينية لصالحها، فما هو الحكم الشرعي لتسييس الشَّعائر؟
وكيف يمكن أن نوظِّف الشَّعائر والقضيَّة الحسينيَّة في إصلاح الواقع المتردِّي؟
س 2/ هل يجوز إدخال المواضيع السياسيّة في المنبر الحسيني ومواكب العزاء؟
ص: 230
ج 1/ بسمه تعالی
إنَّ الشعائر الحُسينيّة هي في أصالتها من واقع السّياسة الأصيلة للإسلام لا الموضوعة أو المستوردة من دول الكفر والوثنيَّة أو حتَّى المؤطَّر ببعض الأطر الإسلاميَّة المزيَّفة، لأنَّ الإسلام الأصيل (مُحمّديُّ الحدوث علويُّ البناء حسنيُّ التمهيد حُسينيُّ الخلود والبقاء ) كما مرَّ، والكل خطهم الإسلامي سياسي واحد في أصالته.
والإمام الحسين (علیه السلام) ما جاء بذلك إلاَّ للإصلاح في أُمَّة جدِّه وأبيه وأخيه "سلام الله عليهم" لتغيير الجو من جو النفاق والارتداد الأمويِّ وما سبقه إلى جوِّ الحكم الإسلامي الأصيل الذي يُعدُّ الحسين (علیه السلام) أحد أركان قيادييه العظام بعد جدِّه النَّبي (صلی الله علیه و آله) وأبيه الوصي والخليفة الأوَّل (علیه السلام) وأخيه المجتبى(علیه السلام) حيث أوكلت إليه هذه المهمَّة على شِدَّة آلامها للغبطة المثلى في آمالها المبتغاة من غاياتها.
وبهذا لا مانع من السَّير على الخط الحسيني الجهادي السياسيِّ المستمر في أهدافه بهذا النحو من المعنى، لاعتبار صحَّة أنَّ يُقال (كلَّ يومٍ عاشوراء وكلَّ أرضٍ كربلاء) استفادة من سياسته الحكيمة.
ولذلك ما حاسب أعداءه رأساً بالمقاومة المحاربة، بل أرسل إليهم ابن عمِّه مسلم ابن عقيل (علیهما السلام) إلى الكوفة بعد إرسالهم إليه آلاف الكتب، ثمَّ غدروا بالرَّسول حيث قتلوا مسلماً (علیه السلام) وواجههم الإمام (علیه السلام) في دور المواجهة بالحكمة المعروف فيها أيضاً بعد محاصرتهم له وما قاومهم أيضاً إلاَّ بالوعظ والإرشاد ثمَّ تمتَّ المناجزة وكما قال الشَّاعر:_
ص: 231
بلسانه وسنانه صد *** قان من طعن وقِيل
خلط البراعة بالشَّ__ *** جاعة فالصَّليل عن الدَّليل
ولحنكته السَّياسيَّة العظمى بانت نتائج انتصاره بانتصار الدَّم على السَّيف بعد استشهاده وانكسار أعداءه اليوم وإلى ما لا يمكن وصفه، وأين وكيف قبر يزيد وأبيه وكيف قبر الحُسين (علیه السلام) وقبر أمير المؤمنين (علیه السلام) قبله في القباب الذَّهبيَّة الَّتي تناطح السَّحاب والسَّماء نوراً ولآلاءاً.
وأمَّا جعل هذه الشَّعائر بدمجها بالسّياسة الاستعماريّة الحديثة فلا يجوزُ لحتميةِ انتهاء روحيَّتها وروحانيّتِها بذلك لحرمة تسييس الديانة الأصيلة بالسّياسات المُستوردة من هنا وهناك.وعلى فرض بقاء التزام بعض الكتل والأحزاب الإسلاميَّة على نفس الخط الثَّوري السِّياسي الحُسيني الأصيل ولكن يريد في تعظيم تلك الشَّعائر جر النَّار إلى قرصه لتخسر الكتل الأخرى تلك الثوريَّة وفوائد ذلك التَّعظيم فلا يجوز ما دامت الكتل والأحزاب كلُّها تدَّعي واقعيَّة انضمامها إلى الخط الحُسيني العظيم لأنَّ الإمام (علیه السلام) ملك الجميع في عموميَّة أهدافه وكما كان أنصاره وفدائيُّوه من مختلف الأصناف إلاَّ أنَّهم جميعاً توَّحدوا على ما عرفوه من عظيم أهدافه فالخاسر كل الخاسر اليوم من جر القضيَّة لصالح نفسه دون غيره ثمَّ يتبيَّن عدم انسجام أهدافه أو بعضها مع أهداف الإمام المفدَّى (عجل الله تعالی فرجه الشریف) وما أخزى تلك الكتلة لو تبيَّن أنَّ الكتل الأخرى أو بعضها أقرب إلى أهداف الإمام (علیه السلام) أو كما يُرام، والله العالم.
ص: 232
ج 2/ بسمه تعالی
لا مانع من إدخال الخطيب المطالب النَّاصحة للسِّياسيِّين لتديين السِّياسة لا لتسييسها وحرفها عن المسار الأصيل الَّذي أوضحناه في الجواب الأوَّل، وبالأخص بالنَّحو الإرشادي لجمع الكلمة السَّائرة على الخط الحُسيني العام والخاص المرتبط ببعض المناطق المسكونة من قبل خواص المؤمنين، لئلاَّ يختطف مطالبه العدو المشترك في إضراره بالجميع عن طريق اختلاف بعض المؤمنين في مشاربهم بإدخالهم في مسلكهالجارف في بحر ظلماته أو مسالك مظالمه المؤدِّية إلى سيطرته المتزعِّمة عليهم على قاعدة (فرَّق تسد) سواء الأجنبيَّة أو الدَّاخليَّة الخؤون أو ما تركَّب من الاثنين أو لمجرَّد إلقائهم على الأقل في المتاهات المظلمة إن لم يتمكَّن من السِّيطرة الكاملة عليهم وهي فوضى السِّياسة اليوم الَّتي لا خلاقيَّة إيجابيَّة فيها أبداً إلاَّ بما يشتهيه أهل الكفر والزَّنادقة.
نعم يجب الحذر إذا كان الخطيب أو (الحادي) ممَّن تنطلي عليه الأمور لو حاول الإرشاد أو التَّوجيه التَّنبيهي على بعض الأمور النَّاصحة لما ذكر إذا كانت الدِّعايات الإعلاميَّة معادية في تحريكها لهما وإلى حدِّ ما يضر ولا ينفع فلا يجوز ولو لكون دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة، والأولى في مثل ذلك أيضاً لو حصل الموجب أن تراعى المصالح العامَّة أكثر من الخاصَّة لو ضعفت الطَّاقة في رعايتها وتحت دراية المرجعيَّة الموحَّدة.
وأمَّا إذا كان الخطيب من الأذكياء ويُخشى منه أن يزجَّ أشياء سياسيَّة خارجة عن الخط الحُسيني الخالص المطلوب ولو بشبهة حُسينيَّة موهمة له
ص: 233
أو لغيره فلا يجوز الالتزام به لو كان يُريد التَّحرُّر فيما يقول ويُبيِّن وهكذا الحادي، والله العالم.
س / هل يجوز التهكّم والاستهزاء بخطباء المنبر الحسيني، والتهجّم عليهم بأنّهم يسخّفون عقول النَّاس، ولا يتحدّثون إلاّ بالمنامات، والحال أنّ هذا من الكذب والافتراء عليهم؟ج / بسمه تعالی
إذا كان الخطيب متديِّناً وحاوياً للمواعظ وأنواع الإرشادات _ عقيدة وأخلاقاً وشرعيَّات ومتوِّسعاً في بث المعلومات النَّافعة بأدلَّتها المتقنة قرآناً وسنَّة وسيرة، وبما يحتاجه الجماهير ومتضلِّعاً في ردِّ الشُّبهات ومسلكاً شباب اليوم في جادَّة مسيرة الإمام الحسين (علیه السلام) في ثورته بواقعيَّة مليئة بالعِبر حتَّى عن طريق المنامات الصَّحيحة المنبِّهة على الاستقامة وكما هو أهله انقضاضاً على طواغيت الجور والكفر والنِّفاق ممَّن ظلمه ومحاولاً بث الرُّوحيَّة الجهاديَّة في المؤمنين به ولو عن طريق مظلوميَّة مقتتها الإنسانيَّة العامَّة _ فكيف يستهزئ بمثل هذا الخطيب ويُتهجَّم عليه إلاَّ ممَّن كان تافهاً وماقتاً للحق والحقيقة.
لكون المستهزئ هو من كان في الواقع محتاجاً لأن يُصلح نفسه أو يجلس تحت منبر أمثال هذا الخطيب بدل استهزاءه ليتعلَّم منه بدل هذه التَّجاوزات.
ص: 234
بل إذا كان أمثال هؤلاء الخطباء اللامعين والجامعين المانعين يستخفُّون بعقول أمثال المستخفِّين الَّذين ورد ذكرهم في السؤال أو يذكرون بعض المنامات المقرِّبة إلى الطَّاعة والمبعدة عن المعصية وإن لم يجب التَّصديق بالكثير أو القليل منها فهذا السؤال يكون ممَّا يورد على مُورده، لأنَّ بعض المنامات ممَّا يمكن الاعتبار بها، ولكن هذه الحالة لو تجاوزت عن المستوى المقبول في بعض الأحوال إمَّا أن تكون من مستهزئ مُعاد طائفي مخالف أو علماني لا يفهم من الدِّين والقِيم شيئاً أو من مشتبه انطلى عليهعكس الواقع ممَّا مرَّ ايضاحه.
والأمر المؤلم كثيراً هو أن يكون الاستهزاء من خطيب غير لامع أو لامع لا حظَّ له في قراءة المجالس لضيق أفقه الأخلاقي فيستهزئ تبجُّحاً بلا مُبرِّر أو حسداً.
وأمَّا إذا كان الخطيب دون من وصفناه وبدون أن يصل إلى المستوى النَّافع لا لنفسه ولا لغيره ويخلط ويخبط بل كان ضرره أكثر من نفعه ولم يمكن إصلاحه أو تربيته ومن أهل الإصرار على الجهالة أو عكس ما يحتاج إليه فلا مانع من أن يتصرَّف معه بما ذكر في السؤال وبحكمة الأداء الأدبي الَّذي لا يجر الضَّرر منه ومن مجتمعه على النَّاصحين له، والله العالم.
ص: 235
س / بماذا يُحرز الخطيب العام إذا أراد النَّجاح علميَّاً بل إسلاميَّاً وحُسينيَّاً وكونه نافعاً بتنوِّعه ودقَّته في حسن أداءه كما يُريده العلم والإسلام والإمام الحُسين (علیه السلام)؟
ج/ بسمه تعالی
لابدَّ لمن يريد أن يكون خطيباً ناجحاً في العلم أو لترويج معارف الإسلام في جميع ميادينها عقيدة وأخلاقاً وشريعة أو لإحياء الشَّعائر الحُسينيَّة ولإيضاح جوهر الإسلام عن طريقها بعد التَّشجيع العام على العلم والمعرفة كتاباً وسنَّة وسيرة مستمرَّة أن يدرس الأدبيَّات بكاملها والمنطقيَّات ومسالكها القانونيَّة العقليَّة وما يُناط لها من مسالك الإيصال إليها من مباحث الألفاظ وما يتعلَّق بمباحث الخطابة لأنَّ المنطق خادم العلوم، وهكذا ما يرتبط بالمعاني والبيان والبديع فصاحة وبلاغة ومحسِّنات، والإلمام بالتَّأريخيَّات العامَّة وأخبار الأدباء والشُّعراء والخطباء والوعَّاظ وحفظ قضاياهم ونكات قصصهم الأخاذة للاستشهاد بها عند الحاجة، إضافة إلى ما عليه من دراسة العلوم الأخرى كأصول الفقه والكلام والفقه والعقائد والأخلاق والتَّفسير وعلوم القرآن والرِّوايات الواردة من كُتب الفريقين والاحتجاجات الدِّينيَّة والمذهبيَّة مع أهميَّة الإلمام بالأكاديميَّات للتَّنوُّع الثَّقافي بين الحوزويَّة والأكاديميَّة للهيمنة على المخاطبين واستقطاب أكبر عدد منهم إن لم يكن كلُّهم لتسليكهم سبل
ص: 236
الهداية والنَّجاة وازاحة الشُّبهات عن الأذهان حتَّى بالطرق العلميَّة المبسَّطة منبريَّاً عند الحاجة إليها، ولا يمكن الأخذ بما تعوَّد عليه بعض الخطباء من الأساليب الجامدة وغير القائمة على الحجَّة والبرهان في مجال الحاجة إليهما، وما يكون تقليداً في الأساليب لهذا وذاك من الخطباء وعلى الأخص إذا كان معها سرقة المعلومات من هذا أو ذاك، لكون القاعدة العلميَّة إن اتبعت فإنَّ الخطيب يكون في أغنى حالة عن اقتفاء أسلوب غيره أو ما يطرحه من المطالب، اللَّهمَّ إلاَّ إذا تلمَّذ على بعض من سبقه من الخطباء اللامعين فأخذ مجازاً من كلِّ شخص أسلوباً وجمع لنفسه أساليب متعدِّدة كان في كلِّ أسلوب منها جهة حُسن لها مقامها أمكن أن يُقبل منه الجمع بينها كأسلوب خاص له إذا أحسن التَّنسيق بينها.
ومن هنا وغيره قد تتشكَّل الألمعيَّة في الخطيب فيكثر عطاؤه وعندئذ يكثر نفعه الواضح، وإذا كان الألمعي كما قال الشَّاعر:
الألمعي الَّذي يظن بك الظن *** كأن قد رأى وقد سمعا
لكونه يكون كثير التَّحسُّس في الفهم من ألفاظ الكتاب والسنَّة ومعاني الأدعيَّة ونهج البلاغة وغير ذلك من أشعار الأدب الرَّفيع وقضايا الأمور الاجتماعيَّة القديمة والحديثة النَّافعة وقصص الوعظ والإرشاد، فإذا كان فهمه دقيقاً من هذه الأمور وعديد النَّفع في الأساليب المتعدِّدة كيف لا يكون ألمعيَّاً في عطاءه للآخرين، بل قد يكون محسوباً من قادة الأمَّة فيخطابته المتوسِّعة بسعة أفقه وفعَّاليَّته، وبالأخص لو نال درجة الهيمنة
ص: 237
باجتهاده على المجتمع مهما تفاوت في درجات الفهم كما بين العوام والمثقَّفين أو المثقَّف العادي وما فوق أو بين أكابر العلماء ومن دونهم أو ما هو الأوسع فأعطى كل ذي حقٍ حقَّه وبما يتناسب مع مقتضى المقام أكثر فأكثر، لأنَّ لكل مقام مقال ليباركوا له في عطائه فيظهر من نبوغه البياني المناسب ما يجعله خلاق الكلام ومن نبوغه الفكري والمعنوي المناسبين ما يجعله خلاق المعاني، ولحنكته البالغة قد يُرضى الجميع حتَّى بأسلوب موحَّد من بين تلك الأساليب يصاغ من قبله يأنس به الجميع من الطَّبقات المتفاوتة، وهذه ميزة اللُّغة العربيَّة عن غيرها لا تجدها في غيرها من اللُّغات لضيقها وضآلة ما تحمله.
نعم يمكن أن توجد الصُّدف أو ما قد نمسيها في الأحسن بعض التَّوفيقات إلهيَّاً فينبغ خطيب مثقَّف بالثَّقافة العامَّة من الأكاديميَّات ومن كثرة المطالعات دون العلميَّات ولكن من شدَّة ذكاءه وقوَّة حافظته وعلو همَّته وتعلُّقه بالمنبر وأخذه من أساليب هذا وذاك من الخطباء المخضرمين والحاجة أم الاختراع كما لا يخفى، قد يصبح كالاصطلاحييِّن الدَّارسين في نفع المجتمع وهو في الواقع ربَّما يكون في الأساس من فصيلة الأميِّين أو ما يُشبههم ولكنَّه صار بعد ذلك على جانب مهم خطابة ووعظاً وهداية وحتَّى نظماً للشِّعر الرَّاقي للمجتمع، وقد ينطبق عليه قول القائل:
وإنِّي وإن كنت الأخير زمانه *** لآت بما لم تستطعه الأوائل
خرقاً للقواعد المتعارفة في التَّعليم والتَّعلُّم، إلاَّ أنَّ هذا النَّمط نادركالكبريت الأحمر لا يمكن الاعتماد عليه في هذا الخرق لقواعد
ص: 238
الاصطلاح التَّعليميَّة أو التَّعلُّميَّة، فلابدَّ من البقاء على التَّشجيع على خصوص النَّمط الاصطلاحي المساوي للقواعد العلميَّة حوزويَّاً مع الأكاديميَّة مع الاهتمام بطريقة ما امتاز به ذلك النَّادر إن كان وكما قال تعالى «وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى»(1) لأنَّه المألوف نجاحه مع كثرة التَّطبيق للقواعد وقال الشَّاعر بما يشبه الآية الكريمة:
على المرء أن يسعى بمقدار جهده *** وليس عليه أن يكون موفَّقاً
وينبغي التَّنزُّه عن اشغال المنبر بتكديس العبائر المعسولة والفارغة وجمع المعاني الكثيرة بلا تعبير يقربها إلى الأذهان أو عدم اشغال المنبر بوحدة الموضوع أو طرح مواضيع الخطابة طرح حفظ للفظ والمادَّة المنسوجة به من الألف إلى الياء عن ظهر قلب بلا أي مجال للتَّصرُّف المنبري أو قراءتها مخطوطة في الأوراق بلا اشغال الذِّهن بها لئلاَّ لا يتوجَّه الخطيب إلى ما يناسب المقام ممَّا لا يُناسبه ولا يتصرَّف على المنبر الحُسيني بما يحتاجه الجماهير.
وينبغي اختيار أسهل الأساليب لإيصال المعاني إلى الأذهان والتَّدرُّج في البيان إلى إيصال المطلوب الكامل وكما أبلغ الإمام الحُسين (علیه السلام) في خطبه الثَّلاثة يوم عاشوراء قبل مقاومته الأعداء وكما قال الشَّاعر الحُسيني:
بلسانه وسنانه صد *** قان من طعن وقيل
ص: 239
خلط البراعة بالشَّجا *** عة فالصَّليل عن الدَّليل
وبما أنَّ الخطابة العامَّة والخطابة الإسلاميَّة غير المقيَّدة بعلم دون علم لهما قواعدهما العلميَّة والأدبيَّة بما لا يحتاج إلى مزيد عناية للنَّجاح المألوف بين العلماء وخطباء الإسلام حتَّى نبغ فيهم من يُستفاد منهم قديماً حتَّى الآن بما لم يحتج إلى الحجَّة والبرهان كالنَّبي (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) وغيرهما من الأئمَّة (علیهم السلام) كالحسن والحسين (علیهما السلام) حتَّى نساءهم كالزَّهراء وزينب وزين العابدين (علیهم السلام) وغيرهم، حتَّى جهابذة علماءنا الحوزويِّين في هذا الزَّمان بما لا يختلف فيه اثنان، إلاَّ أنَّ الخطابة الحُسينيَّة الَّتي أضحت هي الأهم والَّتي يجب العناية بها لتكون مستقبلة أكبر عدد ممكن من النَّاس إلى الخط الجهادي الحُسيني لتتِّسع رقعة التَّشيُّع مع هذه الصَّحوة الدِّينيَّة الهائلة عن طريقها ليكون الانتماء في نفس الوقت إلى العلم وإلى الدِّين عن طريق خط أهل البيت الحسيني(علیهم السلام)، لأنَّ المجالس الحُسينيَّة أصبحت هي المدرسة السيَّارة والمنبع الصَّافي علميَّاً ودينيَّاً وعاطفيَّاً ناشراً للحق ودافعاً للباطل لتعود كما كانت أيَّام الأئمَّة (علیهم السلام)، وكما قال دعبل:
مدارس آيات خلت من تلاوة *** ومنزل وحي مقفر العرصات
لكون الدَّولتين الأمويَّة والعبَّاسيَّة ضيَّقتا الخناق على هذا البيت الطَّاهر فجعلتا أغلب أيَّامهم أيام ملاحقة وتقيَّة ومطاردة فما دامتالصَّحوة الدِّينيَّة متجاوبة مع سمو الأهداف الأصيلة الحاصل فلا يجوز إهمال الخطابة لئلاَّ تبقى على سذاجتها وبالمستوى الَّذي لا يبني على
ص: 240
الطموحات الشَّريفة بما يناسبها.
ولقد وصلنا قديماً نبأ مفرح عن نوعيَّة الخطباء الحُسينيِّين في بعض الأوساط الحوزويَّة بكونهم لن يُفسح لهم مجال ارتقاء الأعواد المنبريَّة إلاَّ بعد اجتهادهم، وقد عرفنا بعضهم ومنهم من كان معنا في التَّلمذة على يد السِّيد الأستاذ السيِّد الخوئي (رحمة الله) وغيره، ولذا نرجو تيسُّر أمثال هؤلاء ليكون بيدهم زمام المبادرة في حل عويصات المشاكل الذِّهنيَّة مهما تعقَّدت على المنبر الحُسيني لترقى معنويَّاته كارتقاء الإمامة بهيبتها العظيمة.
وليكن وضعنا وضع امتحان بين يدي صاحب الأمر والزَّمان، هل يكون في مورد الحاجة بمستوى من يكرم من حضرته أو نهان.
والله العالم.
س / ما حكم أخذ الأجرة على الخطابة (المحاضرة العلميَّة) العامَّة والإسلاميَّة، ومنها الخطابة الحُسينيَّة التَّي تُعاد بها الذِّكرى مواساة لسيِّد الشُّهداء (علیه السلام) إذا كان الخطيب آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، وإذا جاز، هل يحق له التَّعامل على أجرة معيَّنة؟ أم ليس له الحق إلاَّ أخذ الهدايا؟ أم الأجرة من بيت المال؟
ج/ بسمه تعالی
إنَّ الوظائف العلميَّة العامَّة _ غير الدِّينيَّة أو التَّي لها علاقة بالدِّين
ص: 241
والإسلام ولكنَّها بغير مباشرة بحيث لا يتوقَّف الأمر الشَّرعي عليها بالتَّوقُّف التَّام ومنها المحاضرات والخطابة لو لم يتوظَّف لها داخل اطار نظام الدَّولة بمورد يعيش به من بيت المال كالمدرِّسين والمعلِّمين والمدرِّسات والمعلِّمات ومن تفوَّق عليهم ومن دنا عنهم في المدارس والمعاهد والجامعات _
لا مانع من أخذ الأجرة عليها حتَّى التَّعامل، إلاَّ أنَّ الرِّفق بالطَّبقات الضَّعيفة اقتصاديَّاً راجح شرعي للنَّصائح المتوفِّرة الكثيرة كتاباً وسنَّة وإجماعاً وسيرة في عموماتها واطلاقاتها.
بل حتَّى غير الضَّعيفة منها في الاقتصاد تشجيعاً للعلم ونبذاً للجهل أو الأميَّة، وإن كانت هذه الوظائف معدَّة من الوظائف الأهليَّة الَّتي لأصحابها الحريَّة في التَّعامل لأجل القضايا الإنسانيَّة الفاضلة، وعلى الأخص لو كان المحاضر والخطيب متمكِّناً اقتصاديَّاً.
ومن المشجِّعات على هذا السُّلوك أنَّ ديدننا الحوزوي النَّجفي وغيره قديماً وحديثاً وعليه سيرة الآباء والأجداد والسَّلف الصَّالح من العلماء، وممَّا قد تكون له بالتَّأكيد بعض الآثار الشَّرعيَّة المشجِّعة ولو استحباباً عدم أخذ أيَّة أجرة من التَّلامذة فضلاً عن عامَّة المستمعين، بل كثيراً ما ينعكس الأمر فيعطي التَّلميذ أو مستمعو المحاضرة الخاصُّون مساعدات أو رواتب شهريَّة إن لم يكن من نفس المحاضر أو الخطيب نفسه فمن المرجعيَّة معالعطايا الخاصَّة للمحاضر أو الخطيب نفسه منها أو من اللِّجان العامَّة بلا مجال للتَّعامل.
أمَّا إذا توظَّف هذا المحاضر أو الخطيب من الدَّولة أو من الحوزة
ص: 242
سواء كانت الوظيفة رسميَّة للدَّولة أو أهليَّة لا يحق له أخذ أي مقدار من الأجرة فضلاً عن التَّعامل عليها، اللَّهمَّ إلاَّ إذا كان الأخذ بنحو الهديَّة الواقعيَّة غير المصحوبة بإحراج للتَّلميذ والمستمع والأشد من ذلك كلِّه ضعف الأداء في الخطابة والمحاضرات عمداً ليضطر الطَّالب والتَّلميذ والمستمع أيَّام الامتحانات أو ما قبلها بفترة لأن تجدَّد له المحاضرة والخطابة لقاء أجرة اضافيَّة فإنَّه من المحرَّمات الواضحة كما اشتهر هذا الفساد الإداري في أوساط مدارس الدَّولة الحكوميَّة للأسف مع انقلاب رواتب هؤلاء الموظَّفين المتساهلين إلى السُّحت المحرَّم في تملُّكه كلًّه أو بعضه حسب نسبة التَّساهل، وبالأخص إذا كانت هذه الوظيفة لها علاقة بالدِّين والإسلام عقيدة وعملاً وسلوكاً أخلاقيَّاً تحتاجها الأمَّة أفراداً وجماعات بالمباشرة أو التَّسبيب الَّذي فيه معنى التَّوقُّف كتعليم العقائد والأخلاق والأحكام ومنها الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر والإصلاحيَّات ومنها المسائل الشَّرعيَّة الَّتي يرتبط بلزوم بثِّها وكلاء العلماء والمراجع ومعتمدوهم، ومنها المجالس الحُسينيَّة الَّتي تُعاد بها الذِّكريات لسيِّد الشُّهداء (علیهما السلام)المرتبطة بهذه المواصفات وغيرها من عموم القضايا النَّافعة.
نعم لا مانع من أخذ الهدايا الإضافيَّة على الرَّواتب والمنح المرسومة، أمَّا إذا خلت هذه الوظائف من التَّعويضات المسبقة من الجهات الرَّسميَّةالعامَّة لو كانت أو الحوزويَّة فلا مانع من أخذ الأجرة على ما عدا الشَّرعيَّات والقضايا الحُسينيَّة المنوطة بها لو اختلطت هذه الأمور بها فضلاً عن التَّعامل على المخلوط من الجميع لحرمته مع الخلط لئلاَّ تكون الأجرة داخلة فيما أخذ، ولذا كانت نصائح العلماء تحث على التَّنزُّه عن
ص: 243
أخذ المال بنحو الأجرة، بل بأخذها بنحو الهديَّة حسب.
ولكن ينبغي أن يُكرم الخطيب والمحاضر الحُسيني الَّذي ظاهره جلالة القدر بما يتناسب معه كخطيب بارع، وقد يأتي من مكان بعيد إذا أمكنت أن تكون الهديَّة مجزية، ولئلاَّ يُبخس الفضلاء أشياءهم وبالأخص مع حاجتهم الَّتي تستدعي الإجزاء ولتكريم العلم والعلماء.
ومع غنى الخطيب والمحاضر ومستوى حاجة المجتمع والتَّخفيف عنه من النَّاحية الاقتصاديَّة جهد الإمكان، ومع هذا الغِنى المذكور فيه ووجود الوجوب العيني إذا تحقَّق افتراضاً وخارجاً في بعض الأوساط فتكون المسؤوليَّة أشد وللخطيب أن يستعين بغيره إن كانت قدرته وغناه لا يفيان لإعانة المجتمع لإدامة حيويَّة نشاطه الحُسيني، ومن هذا الغير بيت المال الشَّرعي.
ولابدَّ في الختام أن أبدي نصيحتي للمؤمنين أن لا يتعاملوا مع من يُحب المغالاة لنفسه في العنوانيَّة والأجور من الخطباء ولا يتواضع لجميع طبقات المجتمع المسلم والإنساني المتسالم مهما ارتقى في العلم والمعرفة والأداء لهما أو يتكبَّر عليهم.
وأن لا يبخسوا في المقابل أشياء من لم يصبه الغرور وحُب المغالاة من هؤلاء وكانت صفته التَّواضع، وأن يكرموا ولا يُقصِّروا مع منيستحق الإكرام والتَّكريم دون أن يجعلوه مضطرَّاً للإشارة إليهم بالمزيد مع الإمكان وبالأخص إذا كان من ذوي الحاجة، لأنَّ الخجول الصَّابر من الخطباء قد يصيبه الضَّنك والبؤس بما لا يتحمَّل حينما لم يُعط ما يستحقُّه لفقره أو بُعد وطنه أو كثرة مصارفه إلى أن يأتي إلى محل الخطابة.
ص: 244
وأن يتأكَّدوا من هويَّة من يأتيهم لعلَّها تضر بهم وبالمجتمع ولو بعد حين إذا كان مجهولاً والجهل به يثير الرِّيبة به لحزبيَّة مشبوهة ونحوها.
وأهم ما يجب التَّهيؤ له قبل عقد المجالس والمحافل هو التَّعرُّف عليه وعلى صفاء دينه ونواياه وما سوف يؤدِّيه واختيار الخطيب البارع للمجتمع المتفاوت بين المذاهب المختلفة أو الملل المتفاوتة أو المخلوط من الجميع الَّذي لا يصلح أن يكون الكفوء إلاَّ الخطيب الجامع المانع والَّذي أهم أدلَّته ما كان لصالح عترة أهل البيت (علیهم السلام) مع عظمة مسالكها الَّتي في مظَّانها المعلومة، وإنَّ شأن ما تحويه من الأدلَّة على الأرجح هو ما يختاره من كتب نفس المخالفين كصحاحهم الستَّة وغيرها مع عدم تفاعلهم الإيجابي كما ينبغي مع مصادرنا وبمصادرهم الكفاية للدِّفاع عن شُبهاتهم الَّتي وضعوها ضدَّ حقوقنا عقيدة وأخلاقاً وشرعاً إن دُقِّقت أو أنواع التَّوراة والأناجيل المحرَّفة الَّتي تظهر صريح محرَّفاتها وصدق قرآننا المحفوظ لكسب أهل الكفر إلى الإسلام، وبالأخص لو استند إلى انجيل برنابا الَّذي فيه من البقايا ما يؤيِّدنا ضدَّ المحرِّفين من النَّصارى.
وأن أبدي نصيحتي للمجتمع النِّسوي المقدِّر لمصائب أهل البيت النَّبوي (علیهم السلام) والمحتاج كثيراً إلى النَّصائح والمعارف والوعظوالإرشاد والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر أيضاً أن يخترن لهنَّ من النِّساء الفاضلات من يسد حاجتهنَّ التَّامَّة في ذلك، وإن كان الخطباء الأكفَّاء من الرِّجال بحمد الله قد يسدون كثيراً من الفراغ ويغنون المرأة عموماً والمرأة المسلمة والمؤمنة خصوصاً بما فيه الكفاية ولكن لم يكن ذلك بنحو الموجبة الكليَّة وعلى الدَّوام، لاقتضاء الحاجة في كثير من الحالات إلى تلكنَّ
ص: 245
الواعظات المرشدات والخطيبات الماهرات الفاطميَّات الزَّينبيَّات اللَّواتي يقمن بنفس دور ما يقوم به الرِّجال، بل بالنَّحو الأنسب ممَّا يقوم به الرِّجال في بعض أو كثير ممَّا يخص النِّساء، وبالأخص في الوقت الَّذي أمكن توفُّر هذا النَّوع النَّافع من النِّسوة العارفات.
وقد شجعَّنا بعض المهمَّات من اتِّخاذهنَّ طريقة الأداء الخطابي الرِّجالي بدل ما كنَّ عليه من الطُّرق الأدائيَّة القديمة إلاَّ في نماذج محبوبة من بعضهنَّ، مع رجاءنا من المحترمات القديمة أن يطوِّرن ما هنَّ عليه، وإن يُضفن إلى ما يُحسنَّ من القراءة القديمة ما عليه المألوف الجديد النَّافع مع اتِّباعهنَّ ما نصحنا به الأعزَّاء من الخطباء ومجاميع من يجلس تحت منابرهم في أمور أخذ الأجرة وتفاصيلها.
والله العالم.
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
سماحة آية الله العظمى السيد علاء الدِّين الغريفي"دام ظلُّه"نرجو من جنابكم المبارك ان تتحفونا من رحيق مسككم عِطراً نتعطَّر به لإقامة المجالس الحُسينيَّة والمحاضرات الدِّينيَّة، إذ نطلب منكم اعطاء الموعظة لنا ودمتم لنا ناصحين.
علماً إنَّ هذه الموعظة ستُطبع على شكل كرَّاس توزَّع على طلبة العلوم الدِّينيَّة وخُطباء المنبر الحُسيني.
خادمكم / حسن الياسري
ص: 246
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم وبه نستعين
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على من بلَّغ وصدع بالحق المبين، أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين محمَّد الصَّادق الأمين، وعترته الطَّاهرين الَّذين نشروا علومه بأصدق وأنصع تبليغ وتبيين، وبعد:_
فإجابة لما ورد في السُّؤال مع التَّحيَّة والدُّعاء لك بتمام الموفَّقيَّة لما تبتغيه وتتمنَّاه أنت ومن يُشاركك في الهدف الشَّرعي الحُسيني.
نقول: إنَّه بعدما نزلت آية «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» المرتبطة ببيعة الغدير لخليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله) الحق وهو أمير المؤمنين علي (علیه السلام) وبعدما نزلت آية إكمال الدِّين وإتمام النِّعمة بتمام التَّبليغ والبيعة والبخبخة له، وبعدما نزلت آية الانقلاب على الأعقاب الَّتي كشفت عن سوء نوايا المنافقين من المبايعين والشُّروع بالتَّآمر على جوهر الإسلام والإيمان ورسول الله (صلی الله علیه و آله) على فراش مرضه يؤكِّد على وجوب رعاية الثَّقلين كتاب الله والعترة إلى أن ارتحل إلى الرَّفيق الأعلى فما كان من أولئك الأعداء إلاَّ الاعتزاز بجاهليَّتهم وكان ما كان من إنفاذ مسطور كإيذاء سيِّدة النِّساء (علیها السلام) مع كامل تبليغها بما جاء به النَّبي (صلی الله علیه و آله) في خطبتها بسلب حقوقها وإلى حدِّ استشهادها وسلب حقوق زوجها الإمام (علیه السلام) وعزله عن وظيفته مع وافر تبليغاته بالحق الَّذي يجب أو يُستحب أن يُقال إلى حين استشهاده (علیه السلام)، وهكذاالإمام الحسن (علیه السلام) ما ترك التَّبليغ بما يجب وما يُستحب حتَّى استشهاده (علیه السلام).
إلى أن جاء دور سيِّد الشُّهداء أبي عبد الله الحُسين (علیه السلام) قبل استشهاده ما ترك
ص: 247
القوم من أعداءه وأعداء أخيه وأبيه وأمِّه وجدِّه "صلوات الله عليهم أجمعين" يوم عاشوراء قبل دفاعه عن بيضة الإسلام وجوهر الإيمان وعن أهله وأصحابه وعيالاته بسيوف الإسلام والإيمان الأصيليِّن إلاَّ بتبليغهم الشَّهير في خطبه الثَّلاثة وكما قال الشَّاعر الحُسيني في حقِّه:_
بلسانه وسنانه صد *** قان من طعن وقِيل
خلط البراعة بالشَّجا *** عة فالصَّليل عن الدَّليل
وهكذا من كان معه ما تركوا ذلك حتَّى الإمام السجَّاد والعقيلة (صلی الله علیه و آله) في الكوفة والشَّام بعد الاستشهاد العظيم لما في الخطابة من أثر جسيم حتَّى عدَّت من الحوراء وزين العابدين (علیهما السلام) هي المكمِّلة للثَّورة الحُسينيَّة الَّتي هدَّت عروش الأمويِّين وأسلافهم حتَّى وسعت نطاق الإسلام والإيمان في عوالمنا اليوم بما يُعطي الأمل إلى الاتِّساع الانتصاري حتَّى ظهور صاحب الأمر (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
حتَّى أمكن القول بل صحَّ أن يُقال (الإسلام محمَّدي الحُدوث علوي البناء حَسني التَّمهيد حُسيني الخلود والبقاء)، ولذا عمَّت الصَّحوة الإسلاميَّة وباسم النَّهضة الاستشهاديَّة الحُسينيَّة بما يفخر به كل ناهض ضدَّ الطَّواغيت وإن لم يكن إماميَّاً بل ولا مسلماً، فعمرت ديار المسلمين في العالم الإسلامي وغيره مزدانة بالذِّكرى الحُسينيَّة في جميع أيَّام السَّنة حتَّى تجاوزت بيوت الآخرين من غيرالمسلمين فصارت خير أسباب لهداية الكثيرين منهم لما عرفوه جوهريَّاً ومظهريَّاً عند تعظيم شعائرها وبالأخص أيَّام عاشوراء والأربعين ذاتي التَّجمُّع المليوني العظيم من كلِّ عام وبما يشدُّهم إلى المزيد إلى الاعتبار بالعِبرة والعَبرة إهابة لروحانيَّتها.
وعند معرفة أسباب هذه النَّهضة وعموم أهدافها السَّامية عن طريق الخطابة
ص: 248
الحُسينيَّة الوافية من خيرة خطبائها الَّلامعين بالمعرفة العامَّة والخاصَّة.
فحري بالأمَّة اليوم الاهتمام بالخطابة الدَّقيقة والمتناسبة مع كل ما سعى له النَّبي 2 والعترة الطَّاهرة لهداية الأمَّة من الضِّياع أو للتَّحذير من الوقوع فيه أو للتَّرسيخ في الإيمان أو لزرع الإيمان في القلوب وحسب مقتضى المقام الزَّماني والمكاني.
على أن تجعل الذِّكرى الحُسينيَّة خير معيار للتَّثبيت الإيماني الوسطي لأبناء الأمَّة في أعماق قلوبها لقول النَّبي (صلی الله علیه و آله) في حقِّ سبطه الشَّهيد (علیه السلام) من بين الكثير من أقواله فيه (حُسين منِّي وأنا من حُسين)(1) و (إنَّ الحُسين مصباح هدى وسفينة نجاة)(2) إلى غيرهما ممَّا شاءه الله في خِيرة عباده المعصومين (علیهم السلام) وكما ورد عن بقيَّة الأئمَّة (علیهم السلام)من أبناء سيِّد الشُّهداء من الحث والتَّشجيع على الخطابة الحُسينيَّة لأنَّها خير لسان ناطق بالحق عن الله تعالى في قُرآنه وعن النَّبي في سنَّته عن عترته لكون تجمع ذلك وخلاصته هو هذهالخطابة كقول أبي عبد الله الصَّادق (علیه السلام) (أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا) (3) وفي أثر آخر (إنِّي والله لأحب تلك المجالس).
وإذا كان علماء المنطق خادم العلوم ولكل قوم ولغة وعلماء البلاغة للغة العرب ولغة الكتاب والسنَّة الشَّريفة يُعرِّفان الخطابة بأنَّها (صناعة علميَّة بسببها
ص: 249
يمكن إقناع الجمهور في الأمر الَّذي يُتوقَّع حصول التَّصديق به بقدر الإمكان) وعلى أساس ذلك نجحت سائر العُلوم آليَّة واستقلاليَّة دينيَّة ودنيويَّة في إيصال محاضرات علمائها العلميَّة ودروسهم العمليَّة وبالنَّحو الإقناعي الَّذي به قد لا يزيد إلى ما هو الأعمق من مستوى التَّصديق به عن هذا الطَّريق فيما نجحت به تلك العلوم من عموم اللغات أو خصوص اللغة العربيَّة.
فإنَّه ليس بمثل ما نجحت وتنجح به العلوم الإلهيَّة ومُقدِّماتها الآليَّة والاستقلاليَّة إذا كانت على ضوء تعاليم العترة الطَّاهرة العلاجيَّة والأصوليَّة المتوفِّرة في نصوصها الشَّريفة وما دوَّنه علماء الأصول من توجيهات ما يُوصل معارف المحاضرات إلى ما هو الأعمق من الإقناعيَّات والتَّصديق عن طريقها وهو ما أوصل جُلاَّس المنابر الحُسينيَّة في معارفها الدِّينيَّة المتشعِّبة مع سائر العُلوم وهو حدِّ الاعتقاد الجازم المرتبط بالعمل الجدِّي مع القُدرة الهائلة في الدِّفاع العلمي والفكري عن بيضة الإسلام والإيمان الحُسينيَّة البادئة بالنَّبي الرَّسول (صلی الله علیه و آله) وعظمته والمنتهية بدولة صاحب الأمر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) إمام المستضعفين والمفحمة لأعتى أعداء الحقيقة الولائيَّةمهما أُوتوا من القُدرة على المُغالطات والسفسطائيَّات ما يُعرقل التَّصديق بالحق الواضح حتَّى نبغ الآلاف ومئات الآلاف بل الملايين وملايينها على طول الزَّمن وسِعة البقاع والأصقاع من حُضَّار تلك المجالس عقائديون مجاهدون مصمِّمون على المفاداة في سبيل القضيَّة العظيمة عند الحاجة كتصميمهم على الاستشهاد بين يدَي الآخذ بالثَّأر الحجَّة ابن الحسن (عجل الله تعالی فرجه الشریف) عند توفيقهم للمثول بين يدَيه.
ولهذا وأمثاله أنصح نفسي والأعزَّاء من خطباء العهد الجديد والجُدد أخوة وأبناء فضلاً عن المبتدئين منهم أن يستوعبوا كل علوم الحوزة النَّجفيَّة مُقدِّماتها
ص: 250
والغائيَّات الَّتي بعدها مع الأمور الحُسينيَّة والامتلاء بكل ما يؤدِّي إلى القدرة والفعليَّة التَّامَّة لردِّ أهل الشُّبهات في العقائد والفقهيَّات الحقَّة والنَّجاح في ذلك وفي كلِّ ما يتعلَّق بأمور القضيَّة الحُسينيَّة مع ترجيح الإلمام بالضَّروريَّات من المعارف الأكاديميَّة والإكثار من المطالعات النَّافعة العامَّة الأخرى الَّتي لا يُبقي للأعداء أي مجال للانتقاد مع الاهتمام قبل كلِّ شيء وأوسطه وآخره بالتَّدين وقصد القربة الإخلاصيَّة الولائيَّة ونصيحة النَّفس قبل نصيحة الآخرين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
النَّجف الأشرف
س/ هل يمكن القول بأشرفيَّة أرض كربلاء الشَّهادة حتَّى على أرض مكَّة ومنها الكعبة؟ وما خبر القارورة والتربة الحمراء الَّتي أعطاها النَّبي(صلی الله علیه و آله) لأم سلمة لتعرف بها عندفورانها بالدَّم وقت استشهاد الإمام الحُسين (علیه السلام) وأهميَّة التُّربة في اتِّخاذها مسجداً للصَّلاة ومسبحة للتَّسبيح وتربة للتَّيمُّم والاستشفاء بها وللتَّخيير بين القصر والتَّمام في الحائر الحُسيني؟
ج/ بسمه تعالی
كيف لا يمكن وكرامة المؤمن عند الله في أحاديث النَّبي (صلی الله علیه و آله) أشرف من الكعبة، وهل يمكن لعاقل متديِّن إنكار إيمان سيِّد الشُّهداء (علیه السلام) شهيد الطُّفوف بعد النَّبي (صلی الله علیه و آله) وآله من أبيه وأمِّه وأخيه(علیهم السلام)، وتحلِّيه بصفة سيِّد الشُّهداء بما لم يسبقه سابق ولا يلحقه لاحق، وقد تشرَّفت كربلاء بجسده
ص: 251
الطَّاهر فكان مدفنه ومدفن بقيَّة الشُّهداء كعبة الزَّائرين بالملايين تلو الملايين وبما قد يزيد على قصد البيت الحرام، وإذا كان أكمل الشَّرف عليها شأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وشأن وصيِّه وهما اللَّذان طهَّراها من الأوثان والأصنام وتشرَّفت بوليدها أمير المؤمنين (علیهما السلام) المولود في داخلها بأتم إعجاز، فقول النَّبي (علیهما السلام) عنه (حسين منِّي وأنا من حُسين)(1) وهو لا محالة بضعة من بضعة النَّبي (صلی الله علیه و آله) ومن أبيه (علیهما السلام) كذلك، فلابدَّ من أن تفوق تربة استشهاده تربة الكعبة وتربة المدينة.
روى الحافظ الهيثمي في مجمعه عن علي (علیه السلام)
قال:دخلت على النَّبي(صلی الله علیه و آله) ذات يوم وإذا عيناه تذرفان، قلت: يا نبي الله أغضبك أحد ما شأن عينيك تفيضان، قال: بل قام من عندي جبريل (علیه السلام) فحدّثني أنَّ الحسين يُقتل بشط الفرات قال فقال: هل لك أن أشمك من تربته؟ قلت: نعم، قال فمدَّ يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا)(2).
وإن قالت الزَّهراء (علیها السلام) بعد فقد أبيها (صلی الله علیه و آله) مع بكاءها عليه في تأبينه:_
ماذا على من شمَّ تربة أحمد *** أن لا يشمَّ مدى الزَّمان غواليا
صُبَّت عليَّ مصائب لو أنَّها *** صُّبَّت على الأيَّام صِرن لياليا
ص: 252
فلا غرو بأن يكون مجمع فضائل أهل الإيمان المعصومين الخمسة هو خامس أهل الكساء (علیهم السلام) وتربة استشهاده أفضل البقاع.
وأمَّا رواية القارورة الَّتي جاء بها جبرائيل (علیه السلام) إلى النَّبي (صلی الله علیه و آله) قبل الحادث ليعطيها إلى أم سلمة مع تربة كربلاء لتبقيها في القارورة كعلامة دالَّة على حدوث الحادث الحُسيني العظيم إذا فارت بالدَّم العبيط.
فعن أم سلمة قالت : كان الحسن والحسين (علیهما السلام) يلعبان بين يدي النَّبي (صلی الله علیه و آله) في بيتي فنزل جبريل (علیهما السلام) فقال: يا محمد إن أمتك تقتل ابنك هذا من بعدك ! فأومأ بيده إلىالحسين، فبكى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وضمه إلى صدره، ثمَّ قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) وديعة عندك هذه التربة فشمَّها رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: ويح كرب وبلاء، قالت: وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) يا أم سلمة إذا تحولت هذه التُّربة دماً فاعلمي أنَّ ابني قد قتل، قال: فجعلتها أم سلمة في قارورة ثمَّ جعلت تنظر إليها كل يوم وتقول: إنَّ يوماً تتحوَّلين فيه دماً ليوم عظيم)(1).
وإذا كانت أرض شهادة أُحد لحمزة سيِّد شهداء زمانه (دام ظله) اتَّخذ النَّبي (صلی الله علیه و آله) والزَّهراء(علیها السلام) منها ما به الموضع للسُّجود ومسابح التَّسبيح فقد اتّخذت "سلام الله عليها" من تربة حمزة سيِّد الشهداء (دام ظله) مسبحة ونظمتها في خيط، وكانت تذكر بها التسبيحات، وهكذا فعل النَّاس، فلمّا قتل الحسين "صلوات الله عليه" عدل بالأمر إليه فاستعملوا تربته لما فيها
ص: 253
من الفضل والمزيّة)(1).
فكيف لا تُفضَّل هذه التُّربة لهذه الأمور إذا كان عموم هذه الأمور مشروعة بعموم التُّربة في حديث النَّبي (صلی الله علیه و آله) عند الخاصَّة والعامَّة وهو قوله 2 ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً))(2).
مع ما لا يمكن نكرانه من أفضليَّة كربلاء على الكعبة والمدينة وبقايابقاع العتبات المقدَّسة الأخرى عند النَّبي (صلی الله علیه و آله) والوصي (علیه السلام) والزَّهراء (صلی الله علیه و آله) وكما قال العلاَّمة الهادي كاشف الغطاء (رحمة الله) في مقبولته الحسينيَّة مضمِّناً بيت العلاَّمة الطَّباطبائي (رحمة الله) في فضل كربلاء المقدَّسة الَّذي نضمه في درَّته الفقهيَّة المدعومة بالأدلَّة الشَّريفة:_
تزهر كربلا لأهل الجنة *** كالكوكب الدري في الدجنة
وفضلها كالشَّمس ليس يُجحد *** كيف وفي الدرَّة قال السيِّد
(ومن حديث كربلاء والكعبة *** لكربلاء بان علو الرُّتبة)
لم تخلق الكعبة لولا كربلا *** وكربلا نالت بما فيه العلا
ففي حديث أبي الجارود عن الإمام السجَّاد (علیه السلام) أنَّه قال: أتَّخذ الله أرض كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يخلق أرض الكعبة ويتَّخذها حرماً بأربعة وعشرين ألف عام، وأنَّه إذا زلزل الله تبارك وتعالى الأرض وسيّرها رُفعت كما هي بتربتها نورانيَّة صافية فجُعلت في أفضل روضة من رياض الجنة، وأفضل مسكن في الجنة، لا يسكنها إلاَّ النَّبيُّون
ص: 254
والمرسلون أو قال: أولوا العزم من الرسل وإنَّها لتزهر بين رياض الجنة كما يزهر الكوكب لأهل الأرض، يغشي نورها أبصار أهل الجنة وهي تنادي (أنا أرض الله المقدَّسة الطيِّبة المباركة الَّتي تضمَّنت سيِّد الشُّهداء وسيِّد شباب أهل الجنة)(1).
وعنه في حديث أم أيمن وما أخبر رسول الله عن شهادة ولده الحسين(علیه السلام) بأرض تدعى كربلاء، قال: (وهي أطهر بقاع الأرض وأعظمها حرمة، وأنَّها لمن بطحاء الجنة الخ)(2).
وروي عن بيّاع السابري عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: إن أرض الكعبة قالت: من مثلي وقد بنى الله بيته على ظهري، ويأتيني النَّاس من كل فج عميق، وجعلت حرم الله وأمنه؟! فأوحى الله إليها أنَّ كُفِّي وقرّي! فو عزَّتي وجلالي ما فضل ما فضلت به في ما أعطيت به أرض كربلاء إلاَّ بمنزلة الإبرة غمست في البحر فحملت من ماء البحر! ولولا تربة كربلاء ما فضلتك! ولولا ما تضمّنته أرض كربلاء لما خلقتك ولا خلقت البيت الَّذي افتخرت به !! فقرّي واستقري، وكوني دنيّاً متواضعاً، ذليلاً مهيناً غير مستنكف ولا مستكبر لأرض كربلاء وإلاَّ سخت بك وهويت بك في نار جهنم!)(3).
وفي الرِّواية المفصَّلة المنقولة عن المفضَّل في وصف ما يكون عند ظهور
ص: 255
صاحب الأمر (عجل الله تعالی فرجه الشریف):_
ثمَّ تنفَّس أبو عبد الله (علیه السلام) وقال: (يا مفضَّل إنَّ بقاع الأرض تفاخرت ففخرت كعبة البيت الحرام على بقعة كربلاء، فأوحى الله إليها أن اسكتي كعبة البيت الحرام، ولا تفتخري على كربلاء فإنَّها البقعة المباركة الَّتي نؤدي موسى منها من الشَّجرة، وأنَّها الرَّبوة الَّتي أويت إليها مريم والمسيح، وأنَّها الدَّالية الَّتي غسل فيها رأس الحسين (علیه السلام)وفيها غسلت مريم عيسى واغتسلت من ولادتها وأنَّها خير بقعة عرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) منها وقت غيبته وليكوننَّ لشيعتنا فيها خيرة إلى ظهور قائمنا (علیهما السلام))(1).
وعن مولانا الرَّضا (علیه السلام) عن آبائه قال: قال علي بن الحسين (علیهما السلام): (كأنَّي بالقصور وقد شيَّدت حول قبر الحسين (علیه السلام) وكأنِّي بالأسواق قد حفت حول قبره، فلا تذهب الأيام واللَّيالي حتَّى يسار إليه من الآفاق وذلك عند انقطاع ملك بني مروان)(2).
وعن نسخة بني عباس وعن عباد عن صفوان الجمال قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: (إنَّ الله تبارك وتعالى فضل الأرضيين والمياه بعضها على بعض، فمنها ما تفاخرت ومنها ما بغت فما من ماء ولا أرض إلاَّ عوقبت لترك التَّواضع لله حتَّى سلَّط الله المشركين، وأرسل إلى زمزم ماء مالحاً حتَّى أفسد طعمه، وإنَّ كربلاء وماء الفرات أوَّل أرض وأوَّل ماء قدَّس الله تبارك وتعالى وبارك عليها، فقال لها تكلِّمي بما
ص: 256
فضلِّك الله، فقالت لمَّا تفاخرت الأرضون والمياه بعضها على بعض قالت: أنا أرض الله المقدَّسة المباركة، الشِّفاء في تربتي ومائي، ولا فخر بل خاضعة ذليلة لمن فعل بي ذلك، ولا فخر على من دوني بل شكراًلله، فأكرمها وزادها بتواضعها وشكرها لله بالحسين (علیه السلام) وأصحابه، ثم قال أبو عبد الله (علیه السلام) من تواضع لله رفعه الله ومن تكبَّر وضعه الله)(1).
إضافة إلى ما قد مارسه الأئمَّة الباقون (علیهم السلام) من أبناء(علیهم السلام)من اتِّخاذ تربة السُّجود منها وخريطة التَّيمُّم ومسابح التَّسبيح والاستشفاء على ما سيجيء، إضافة إلى ما أورده من دلائل إمكان التَّخيير بين القصر والتَّمام للمسافرين عند الحائر الحُسيني كالمسجدين الأعظمين ومسجد الكوفة، فقد ورد وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السلام) قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «تَتِمُّ الصَّلَاةُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاطِنَ؛ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ومَسْجِدِ الرَّسُولِ 2، ومَسْجِدِ الْكُوفَةِ، وحَرَمِ الْحُسَيْنِ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ)(2).
وأمَّا ما قيل طائفيَّاً من كون هذه المتَّخذات في السُّجود ونحو ذلك من هذه التُّربة المقدَّسة لابدَّ وأن تكون موقعة للمسلم في لوثة الشِّرك.
فإنَّه لابدَّ أن يُقال بأنَّ هذا السُّجود لم يكن للتُّربة وإنَّما هو عليها وإن كان عموم واطلاق الطَّهارة في ذاتي عموم التُّربة في حديث النَّبي (صلی الله علیه و آله) الماضي ذكره ما لم يطرأ عليه ما يُنجِّسه أو يمنع السجود عليه، فاطلاق تربة كربلاء المقدَّسة يدخل معها أيضاً خصوص الطَّهارة المعنويَّة بسبب
ص: 257
الشَّهادة، وكذا أمر التَّسبيح والتَّيمُّم بدلاً عن الغُسلوالوضوء عند الحاجة.
ولأجل كل العوامل الشَّريفة الماضية وغيرها جعل الله تعالى مجرَّباً بالتَّأكيد وبما لا خلاف فيه الشِّفاء كما مرَّ ذكره في هذا التُّراب مع خلطه بالماء من أشد الأدواء وما سيجيء الآن أيضاً.
فقد ورد عن الإمام الصَّادق (علیه السلام) (في طين قبر الحسين شفاء من كلّ داء وهو الدواء الأكبر)(1).
وقيل للصَّادق (علیه السلام) (جعلت فداك، إني رأيتُ أصحابنا يأخذون من طين الحائر ليستشفوا به، هل في ذلك شيء مما يقولون من الشفاء؟ قال: يستشفى بما بينه وبين القبر على رأس أربعة أميال)(2).
قال الإمام الرِّضا (علیه السلام) (كل طين حرام كالميتة والدَّم وما أهلَّ لغير الله به، ما خلا طين قبر الحسين (علیه السلام) فإنه شفاء من كلِّ داء)(3).
وروي الحسن بن أبي العلاء قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام)، يقول: (حنكِّوا أولادكم بتربة الحسين فإنَّها أمان)(4)، والله العالم.
ص: 258
س / ما المراد من قول الإمام (علیه السلام) في الزِّيارة لسيِّد الشُّهداء (علیه السلام) ((لبَّيك داعي الله إن كان لم يُجبك بدني عند استنصارك فقد أجابك قلبي وسمعي وبصري ...إلخ))؟
وهل تكون الإجابة اليوم واجبة في أنواع ومصاديق تعظيم الشَّعائر الحُسينيَّة غير الَّذي لم يوفَّق له الموالون من الالتحاق به والاستشهاد بين يديه ولو كواجب مستقل في هذه الأيَّام، بحيث يمكن أن يكون داخلاً في قول الإمام الدَّاعي إلى هذه التَّلبية ووجوبها مثل قوله ((أما من مغيث يُغيثنا أما من ذاب يذب عنَّا)) وقوله في رسالته ((ومن لم يلتحق بنا لم يبلغ الفتح)) وغير ذلك من مؤشِّرات هذا التَّكليف؟
ج / بسمه تعالی
لو جمعنا كل ما قاله الإمام الحُسين (علیه السلام) في دعوته إلى مشاركته في النُّهوض معه للجهاد الواجب لتخليص الأمَّة من كابوس الكفر والنِّفاق والظلم والفسق الأموي ومن لفَّ لف الأمويِّين من الأعوان ومن ذلك إرساله نائبه الخاص إلى الكوفة بعد إرسال أهل الكوفة له (أن أقدِّم إلينا يا ابن رسول الله فإنَّا جُند لك مجنَّدة)(1) مصحوباً بكتاب جوابي منه لهم بقوله (إنِّي باعث إليكم أخي وثقتي مسلم ابنعقيل)(2).
ومن ذلك أقواله المأثورة في مثل وصيَّته لأخيه محمَّد ابن الحنفيَّة مؤقَّتاً إلى أن يرجع إلى المدينة ولده الإمام زين العابدين (علیه السلام) العليل بعد
ص: 259
استشهاده (علیه السلام) وإجاباته التَّكليفيَّة للملتقين به من الصَّحابة والتَّابعين في مكَّة وفي الطَّريق وبما لا مجال شرعاً فيه للانفكاك عنه مع علمهم التَّام بكون الحُسين (علیه السلام) من هو عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) وما هي وصاياه فيه عموماً مع أخيه الحسن (علیه السلام) وخصوصاً، ولكون الجهاد بين يدي الإمام الثَّالث (علیه السلام) واجب شرعي عند أمره به وتصميمه عليه وهو أحد فروع الدِّين العشرة ممَّا لا خلاف فيه ولا ريب يعتريه، ولما ورد في السُّؤال وما تضمَّنته خطبه (علیه السلام) الثَّلاثة يوم العاشر وما سبقه من كلمات النَّبي (صلی الله علیه و آله) في حقِّه الأخص بوجوب نصرته يوم كربلاء قبل الموعد غيبيَّاً بما علَّمه الله به بواسطة جبرئيل (علیه السلام) وحتميَّة ارتباط مصير الدِّين به بعد أخيه الحسن الزَّكي (علیه السلام) وقيامه في نهضته الإصلاحيَّة الشَّريفة بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر والجهاد الدِّفاعي الَّذي اضطرَّ إليه ولو مع الصَّفوة الَّذين معه بعد تلك المحاصرة العنيفة من الأعداء بحيث لو لم يقم به حتَّى لو انتهى باستشهاده ومن معه وسبي عيالاته ومن معهم _ لتمادي الأمويون بكفرهم وإلى حد إرجاع تمام الجاهليَّة الأولى والأكثر، ولذلك ما أنتج ماذكرناه كله وغيره إلاَّ ذلك الواجب الجهادي المقدَّس الَّذي لم ينفك عن كل من سمع الواعية لبلوغ الفتح المبين إلاَّ بالانضمام الواجب إلى هذه القافلة المقدَّسة، ولذلك ما انفكَّت العقيلة زينب الحوراء (علیها السلام) وابن أخيها الإمام زين العابدين (علیه السلام) ومن معهما عن وظيفتهم الجهاديَّة بالخُطب الفاضحة للأعداء في الكوفة والشَّام ونحو ذلك _ وهكذا كانت ألفاظ التَّلبيات القوليَّة ومعانيها الفعليَّة الَّتي حثَّ عليها الأئمَّة الهادون المهديون (علیهم السلام) بعد سيِّد الشُّهداء (علیه السلام) وطبَّقها الموالون والمحبُّون بمقدار ما تمكَّنوا
ص: 260
عليه بعد انتهاء استشهاد الإمام (علیهما السلام) كثورات التَّوابين ومن هم أفضل من التَّوابين كقيام المختار والزِّيارات الحزينة والتَّوصيات بها وبأمثالها من قِبل الأئمَّة الباقين (علیهم السلام) كالحث على القيام بالمجالس والمآتم الحُسينيَّة وبما لا حصر له بحيث لولاها _ لما أنتج غير الواجب المقدَّس أيضاً بحيث لو اتبع بإخلاص وصفاء بالنيَّة ومن دون سابق إصرار متعمَّد في الفرار من الزَّحف مع الإمام (علیه السلام) من بعض التَّوابين لما قلَّ عن مستوى النُّصرة المقارنة للنَّهضة في بعض الاعتبارات وهي فضيحة آل أبي سفيان وانكشاف كون الحُسين (علیه السلام) وقومه وسباياه هم رهط سادة الوحي والتَّنزيل لا كما كانوا يعتمون على النَّاس بأنَّ أهل البيت (علیهم السلام) خوارج كنجاح دور زينب الحوراء والإمام السجَّاد (علیهما السلام) المكمِّلين للنَّهضة الحُسينيَّة.
وأمَّا مسألة التَّلبيات بمصاديق عموم واطلاق تعظيم الشَّعائر الحُسينيَّة المستمرَّة حتَّى الآن وما يزيد وبما تعارف الحسينيون عليه اليوم وما ساندذلك من الأدلَّة الَّتي اعتمد عليها فقهاء الأمَّة قديماً وحديثاً من أزمنة الغيبة الكبرى فلم يكن كل ما صحَّ أن يكون من مصاديق فعَّاليَّات الذِّكريات عن التَّلبيات تحت نظرهم كلِّه بالواجب الفقهي إلاَّ ما تعلَّق به النَّفع الكثير ودفع الضَّرر الخطير بحيث لولاهما لما صحَّ إرجاع الاعتبار إلى الإمام المفدَّى (علیه السلام) ومن معه بالتَّعلُّق به تعلُّقاً عِليَّاً ومعلوليَّاً وتبقى البواقي إمَّا مستحبَّة أو مباحة، والله العالم.
ص: 261
س / هل إنَّ ذكريات مأساة عاشوراء ومحاولة تخليدها في كل سنة وعام من قِبل المؤمنين والمحبِّين بالفعَّاليَّات الشَّعائريَّة من وزن واحد؟ أم مختلف؟
وعلى فرض التَّفاوت كثيراً أم قليلاً بينهما؟
فهل إنَّ فعَّاليَّات التَّخليد والإحياء لها من وزن واحد أيضاً؟ أم مختلف؟
وعلى فرض التَّفاوت بين الاثنين كثيراً أم قليلاً بينهما؟
هل يمكن القول بجواز أو باستحباب أو وجوب استمرار التَّخليد والإحياء لها حتَّى ظهور صاحب الأمر (عج) بمساواة في الاعتبار وبدون ذلك التَّفاوت؟ أم لا؟
أفتونا مأجورين.
ج / بسمه تعالی
لا شكَّ ولا ريب بأن ما ثبَّته التَّأريخ المنقَّح على لسان الأعداء وإن أرغموا والمنصفين منهم ومن أوصلتهم الحقيقة إلى طريق الاستبصار والهداية وما صحَّ من إخبار السِّيرة النَّبويَّة الصَّادقة عن النَّبي (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطَّاهرين (علیهم السلام) قبل الذِّكرى الكربلائيَّة الأليمة وبعدها من ثوابت قضاياها وما ألحق بها من بقايا لوعاتها المظنونة من لسان الرُّواة الآخرين على فرض صحَّتها لا يمكن أن تقارن بأي مذبحة في التَّأريخ والسِّير الأخرى وإن أمكن أن يُقال بأنَّ هناكمذابح أخرى غيرها أقسى وأشد من حيث الكم أو الكم والكيف أو الكيف كالإبادات النَّوعيَّة البشريَّة كما حصل في نفس الجيش الأموي من الفتك الذَّريع إلهيَّاً من سيوف الله
ص: 262
الهاشميِّين الأبطال وأنصارهم عند دفاعهم عن أنفسهم وعيالاتهم وغير ذلك _ من جهة شأنيَّة من صمم الأمويُّون على حربهم وهم سبط النَّبي المصطفى العظيم ومصباح الهدى وسفينة النَّجاة وخِيرة أهل بيته وأصحابه قتلاً وأطهر نسوانه وعيالاته سبياً.
فهم على قِلَّتهم بين كونهم قتلى وسبايا عدوا كأنَّهم رسول الله وخِيرة أهله وأصحابه، ولا غرو في ذلك بعد ما قال جدُّه النَّبي (صلی الله علیه و آله) فيه بهذه التَّضحية العظيمة (حُسين منِّي وأنا من حُسين)(1) وبلَّغ (صلی الله علیه و آله) بما سيحدثه عليه الأعداء من بعده وبعد أبيه وأخيه وبكى عليه، فلا يمكن أن تضاهيها بلوعتها كل لوعات التَّأريخ قتلاً وبُعداً إنسانيَّاً ودينيَّاً.
وعلى هذا الأساس لا يمكن أن تضاهيها جميع فعَّاليَّات التَّخليد والإحياء من قبل المؤمنين والمحبِّين مهما بذلوا من أموال وطاقات وبذل مهجات متفانيات وإن أوصلتهم إلى كامل التَّوفيقات دنيويَّاً وأخرويَّاً وحسن عواقب ورقي في المثابات بعالي المثوبات إلاَّ بعمار الدِّين الأكبر بما أراده النَّبي الأطهر (صلی الله علیه و آله) وبضعته الزَّهراء (صلیالله علیه و آله) ووصيِّه (علیه السلام) والحسن الصَّابر (علیه السلام) وما رامه شهيد الطفوف (علیه السلام) ومن معه وكما نطق به لسان حاله:_
إن كان دين محمَّد لم يستقم *** إلاَّ بقتلي يا سيوف خُذيني
وغير هذا من السنَّة حال من معه من الشُّهداء بين يديه أرحاماً
ص: 263
وأصحاباً حينما كان هذا العمار لا يتحقَّق إلاَّ بأخذ الثَّأر النَّوعي من يزيد ذلك العصر وكل يزيد هذا العمار الَّذي بدأ بانتصار الدَّم على السَّيف بأنواع من الانتقام الإلهي من الأعداء وانتشار التَّشيُّع والَّذي لابدَّ وأن ينتهي بالأخذ بالثَّأر الأقوم إنشاء الله بعد طول انتظارنا بفارغ صبر المؤمنين والمؤمنات.
وبذلك تأتي الدَّولة الَّتي أرادها الله ونبيَّه (صلی الله علیه و آله) والزَّهراء(علیها السلام) والأئمَّة (علیهم السلام) بالعهد المعهود الَّذي قال عنه تعالى «وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ»(1) وغيره وبلَّغ به النَّبي (صلی الله علیه و آله) والزَّهراء (صلی الله علیه و آله) والأئمَّة (علیهم السلام)بما ورد عنهم من الكثير والجم الغفير.
وبهذا لا تكون ولن تكون فعَّاليَّات ما يُجريه المؤمنون وأعوانهم إلاَّ بمقدار ما جادت وتجود به عواطفهم لا أكثر وهو كلا شيء تجاه الشَّأنيَّة العظمى للإمام الحسين (علیه السلام) ورهطه العظيم، وكما قالالقائل:_
(عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ)
وكل العارفين منهم يُقرون بقصورهم أو تقصيرهم تجاه ضخامة القضيَّة الَّتي لن تكون إلاَّ بالمفاداة يوم ادراك الفتح المبين وكما قال القائل:_
(والجود بالنفس أقصى غاية الجود)
وهو قليل ونزر يسير فيما بعد اللوعة الأساسيَّة وقبل ظهور الإمام
ص: 264
المنتظر الثَّائر (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
فإذا ثبت هذا ويُثبت أيضاً أنَّ ما يُجريه المؤمنون وأعوانهم متفاوت بين ما هو مباح وشعائري مستحب أو مستحب ثابت أو واجب بالعنوان الثَّانوي شعائري أو واجب توقُّف الدِّين وذكرياته عليه مؤقَّتاً أو دائماً إلى أن يثور ثائر الحُسين (علیه السلام) كما فصَّلنا هذا في بعض الأجوبة الماضية بما لا حاجة إلى إعادته.
فهل يُمكن القول بأنَّ جميع الفعَّاليَّات على اختلافها وتمايز بعضها عن بعض في المشروعيَّة وحُسن الأداء أو سوءه في التَّصرُّفات الخارجيَّة، واحتمال كون بعضها قد تقل عن أصل الإباحة وإلى حد المرجوحيَّة أو الأشد أو كون الرجحان مؤقَّتاً لا دائماً من مستوى واحد في الاستمرار إلى حين ظهور الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
فلابدَّ في الجواب من أن تكون القشريَّات الشَّعاريَّة من الَّتي يقل فيها اللباب الدِّيني أو لم يبق منه شيء للصَّالح الدِّيني الحُسيني بمرور الزَّمنوحدوث الطوارئ المانعة قليلاً أو كثيراً فضلاً عن مجيء ما به تلهُّف المؤمنين عامَّة وهو ظهور الإمام الثَّائر المغني ظهوره عن كثير من تلك العادات وإن كانت في أدوارها أو بعضها السَّابقة لها شأنها المهم في الإشادة بالقضيَّة الحُسينيَّة والمقوِّمة للدِّين الأصيل لأهميَّة الانشغال بمقوِّمات الدَّولة الإسلاميَّة العظمى الخاتمة للحياة وهي الأهم الَّذي كان هدف جدِّه الشَّهيد يصبوا نحوه إلى وصول الأمر إليه لأخذه بالثَّأر والاقتصاص من الأوائل الَّذين سبَّبوا التَّطرُّف والأواخر الَّذين فعلوا الأفاعيل على نهجهم لتكون خاتمة الأمور لما بعد الحياة يوم الحساب
ص: 265
«لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ»(1)، والله العالم.
س / ورد في أدلَّة كثيرة عن النَّبي(صلی الله علیه و آله) والوصي والزَّهراء والحسن والحسين (علیهم السلام) حتَّى عن بعض من دونهم من خيار الصَّحابة ممَّن حوى الأسرار عنهم وزوجة النَّبي(صلی الله علیه و آله) الخاصَّة أم سلمة (رض) أنَّهم علموا من النَّبي(صلی الله علیه و آله) عن جبرائيل (علیه السلام) عن الله تعالى من تأويلات ما في كتابه الكريم كآية الانقلاب وغيرها ومن الأحاديث القدسيَّة بما يجري على الإمام الحسين (علیهما السلام) في كربلاء المقدَّسة يوم عاشوراء على يد أعداء النَّبي(صلی الله علیه و آله) وآله (علیهم السلام) من الأموييِّن وأنصارهم المنافقين.
فهل يجوز للإمام الحسين (علیهما السلام) ومن معه بعد هذا العلم المسبقالاقتحام في أجواء التَّهلكة وهو حرام قطعي بآيته؟
وهل العلم بهذا تفصيلي؟ وإذا كان كذلك فلماذا لا يبتعد الإمام (علیه السلام) عن الأجواء السِّياسيَّة المهلكة مع إمكان الابتعاد أو لا ينتقم من القائل بعد الاطمئنان بصدق هذه الأنباء وامكان تشخيص القاتل المباشر أو الأكثر فضلاً عن كون علم الغيب خاص في الله تعالى؟ فلا مجال لوروده إذا لم يُعلم به الإمام؟
أمَّ إنَّ علم الغيب المأذون به من الله تعالى خال من التَّفصيل؟ أم أنَّ هناك سراً لا نعلمه؟
أفتونا مأجورين.
ص: 266
ج / بسمه تعالی
لابدَّ من تسليم الأمر بكل ما ذكر في السؤال ممَّا ورد صحيحاً لدى كل مسلم ومؤمن حسن العقيدة وثابت الإيمان من علم النَّبي (علیه السلام) وأهل بيته الأطهار (علیهم السلام) وحتَّى بعض الصَّحابة الأخيار والحواري الأبرار بتعليم منهم (علیهم السلام) عن الله تعالى ببعض المغيَّبات المأذون بها لكونها من المغيَّبات المطلقة وغير الخاصَّة بالله تعالى، لأنَّ تصرُّفات النَّبي (صلی الله علیه و آله) وآله الطَّاهرين (علیهم السلام)وما تعلَّمه الأصحاب الخلَّص ومنهم بعض أمَّهات المؤمنين المؤتمنات على الأسرار كأم سلمة وبعض التَّابعين من حواري الأئمَّة (علیهم السلام) وما واكبوه في حياتهم وبعد مماتهم أو استشهادهم من الأحداث مع الأصدقاء والأعداء كلُّها مرتبطة بالإجمال أو التَّفصيل بالوحي المبين للحال والمستقبل في جميع المجالات المتعلِّقة بالفروع العقائديَّة كإمكانيَّة العلم بتلك الغيبيَّات بمستوى علم النَّبي (صلی الله علیه و آله) والإمام (علیه السلام) والزَّهراء(صلی الله علیه و آله) لعصمتهم وعدم جواز اعتقاد خلاف ذلك لتواتر الأدلَّة كتاباً وسنَّة والمتعلِّقة أيضاً بالفروع الشَّرعيَّة كبقاء وجوب الواجب الجهادي على حاله اقتحاميَّاً أو دفاعيَّاً مع إحراز إمكانيَّة المقاومة ولو مع قلَّة العدد والعُدَّة لقوله تعالى «كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ»(1) كما في بدر وما بعدها لأنَّ النَّصر مع قلَّة العدد والعُدَّة قد يحصل مع انضمام الملائكة أو مع قوَّة الثَّبات عند الأكفَّاء العقائديِّين وإن قلُّوا عن أعدائهم من أهل العدد والعُدَّة أو لا أقل من عظمة أهل الشَّأن القليليِّن فيهما
ص: 267
كجند الله الميامين التَّابعين للنَّبي (صلی الله علیه و آله) أو للإمام (علیه السلام) بحتميَّة انتصارهم ولو في الغاية المحسومة لهم بانتصار الدَّم على السَّيف، لكون تلك التَّصرُّفات المجراة من النَّبي (صلی الله علیه و آله) أو الإمام (علیه السلام) مع الأصدقاء أو الأعداء حتماً مع الحوادث المستقبليَّة لن تخرج عن دائرة العلم المسبق قبل حدوث الحوادث تصديقاً بما علَّم الله به نبيَّه (صلی الله علیه و آله) وأوليائه المعصومين الآخرين من الزَّهراء (صلی الله علیه و آله) والأئمَّة الاثنا عشر (علیهم السلام) بواسطته ولو بالعلم الإجمالي أو حتَّى التَّفصيلي مع بعض الإخفائيَّات لو لم تحتك بخواص علم الله تعالى ما دام علمهم فوق مستوى علم البشر المتعلِّمين من حيث اللَّدنيَّة الَّتي حبوا بها والتَّفريعيَّة الَّتي أتقنوا قواعدها والجفريَّة الَّتي فازوا بحل طلاسمها وخفيت على الآخرين وبما يُسمَّى بالعلم بالمغيَّبات المأذون بهامن الله تعالى والَّتي منها ما حوته آياته القرآنيَّة الَّتي أعطت قواعد الإذن الإجماليَّة كقوله تعالى «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ»(1) وقوله «وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء»(2) وقوله «وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ»(3) وقوله «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ»(4)، إلى غير ذلك من الآيات المثبتة لإمكان علم الصَّفوة المشار إليهم بالغيب غير الخاص بالله.
ص: 268
ومنها ما حوته تفصيلات ذلك الإجمال عن طريق الأحاديث القُدسيَّة وما حوته الأحاديث النَّبويَّة والتَّصرُّفات الرِّساليَّة تجاه الأحداث المستقبليَّة، وهكذا روايات أهل البيت الطَّاهرين (علیهم السلام) المعرِّفة حسب ما وصلنا لكثير من تلك المضامين وعن طريق النَّبي (صلی الله علیه و آله) وطريق أهل بيته (علیهم السلام)عرف بعض هذه الأمور خلَّص الأصحاب والحواري وبعض الخيِّرات من نساء النَّبي (صلی الله علیه و آله) كأم سلمة، ممَّا أطلق عليه هذا العلم بعلم المنايا والبلايا.
وقد حوى التَّأريخ النَّاصع كثيراً من الأحداث الَّتي عرفها بعض خُلَّص الأصحاب والحواري وعرفوا بها وقت حصول المناسّبة المناسِبةبعد علمهم المسبق فكان كما أخبروا كبعض أصحاب الإمام الحُسين (علیه السلام) ليلة العاشر وميثم التمَّار أمام ابن زياد وسعيد ابن جبير أمام الحجَّاج وغيرهم وغيرهم.
ومن الآيات الَّتي تحدَّثت عمَّا يجري مستقبلاً على الأمَّة ممَّا كان النَّبي (صلی الله علیه و آله) يخاف من منافقيها لو بلغ بولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) وخلافته من بعده يوم غدير خم من حجَّة الوداع قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ»(1) فتحقَّق ما كان يخاف منه (صلی الله علیه و آله) وهو تمرُّد المنافقين ومحاربة خلافة الإمام (علیه السلام) المباشرة ولكن عصم الله نبيَّه وكفاه شرَّهم المستقبلي عليه حين تبليغه بما أمره الله به وإن قهر بهذا الحاسدون والمنافقون وأبدوا
ص: 269
الحقد وأنواع الضَّغينة على أهل البيت الطَّاهر (علیهم السلام) قبل وفاة النَّبي (صلی الله علیه و آله) وبعده بما تشيب له الرؤوس وتتلوَّع به النُّفوس وبما لا يمكن أن يُحد بحد غير القتل وإزهاق الأرواح وبالأخص حينما ظهر النَّصر بكثرة شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) المعتقدين بخلافته الأصيلة وموالاته والبرائة من أعدائه وموالاة بقيَّة المعصومين والبرائة من أعدائهم وإن كان أنصاره آنذاك الصَّفوة وهم النَّزر القليل ولكنَّهم بعد مرور الأحداث المرَّة المريرة وانكشاف زيف المنقلبين على الأعقاب أخذ التَّشيُّع يزداد والإيمان يرسخ ويُثبت بدليل الفعل المضارع في آخر الآيةالدَّال على الحال والاستقبال وبما يصل اليوم إلى ما قد يزيد على النِّصف مليار مسلم مؤمن شيعي وبتوسُّع هائل ومستمر وقد تحقَّق والحمد لله، ونسأله أن يجمع شملهم بالتَّكاتف والتَّوحُّد تحت لواء المرجعيَّة الموحَّدة الأصيلة.
ومن تلك الآيات الَّتي تحقَّقت تفاصيل ما أخبرت به في المستقبل قوله تعالى «أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ»(1) فتحقَّق الانقلاب على الأعقاب وصيَّروا الرزيَّة في ليلتها وتآمروا في السَّقيفة وحاربوا الزَّهراء(علیها السلام) واغتصبوا فدكاً وحاربوا الإمام الأوَّل (علیه السلام) والحسنين (علیهما السلام) وإلى ما شاء الله بما يضيق المجال بالتَّوسُّع في بيانه، وهكذا قوله تعالى «وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
ص: 270
وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ»(1) حيث بدت بدايات المن الإلهي على الأمَّة علماً وعملاً وحتَّى آخر حياتهم وللثَّمانية الباقين بنشر العلوم وبث الكرامات والمعارف ورجوع النَّاس إليهم وللثَّاني عشر بتواقيعه المقدَّسة في الغيبة الصُّغرى ولآخر الزَّمان في دولته العظمى الموعودة بأزهى البشارات وأبهى الانتصارات بإذن الله تعالى، ومن أدل ما يُفيد مصداقيَّة العلم بالغيب سورة القدر المرتبطة بليلتها المستمرَّة بعلاقتها بالنَّبي (صلی الله علیه و آله) وبالحجَّة الغائب(عجل الله تعالی فرجه الشریف) في تقادير قصر العمر وطوله والأرزاق.
ولولا الأخبار بالمغيَّبات وحصول مصاديق ذلك واقعاً لانتفى جوهر الإسلام والإيمان من القلوب في كثير من الأحوال لعدم وجود المصداقيَّة المثبِّتة للإسلام بالألسنة والإيمان بالقلوب حينما يصح الإخبار بالحوادث المصيريَّة للأمَّة المرتبطة بحادثة مستقبل النبوَّة والبعثة للرِّسالة وما يتلوها من مصيرها المنوط ببيعة الغدير وما تلاها من مآسي رزيَّة الخميس وفقد النَّبي (صلی الله علیه و آله) وشهادته ومؤامرة السَّقيفة واغتصاب حقِّ الزَّهراء (علیه السلام) وأمير المؤمنين حتَّى استشهادها ومعاناة أمير المؤمنين (علیه السلام) بأنواعها حتَّى استشهاده (علیه السلام) ومعاناة الحسن حتَّى استشهاده إلى أن جاء دور معاناة الحُسين (علیه السلام) المقصود في الإجابة على ما ورد في السؤال وكما وعد النَّبي (صلی الله علیه و آله) بما سيجري عليه من سلالة الشَّجرة الخبيثة في القرآن وقد تحقَّق ما وعد به.
ولهذا وأمثاله علَّم النَّبي (صلی الله علیه و آله) أم المؤمنين أم سلمة ما سيجري على
ص: 271
الإمام الحُسين (علیه السلام) حينما أعطاها قارورة فيها تراب من أرض كربلاء أعطاها إياه جبرائيل (علیهما السلام) وهو يبكي قائلاً لها ما مضمونه إذا رأيت هذا التراب يفور بالدَّم العبيط فاعلمي أنَّ الحسين استشهد في كربلاء المقدَّسة وقد تحقَّق بمراقبتها ذلك حينئذ.وبعد أهميَّة علم النَّبي (صلی الله علیه و آله) والأئمَّة (علیهم السلام) ومنه العلم بالحوادث قبل وقوعها هناك أسئلة تفرض نفسها بإلحاق الإجابة عليها وكما ورد في السؤال، فقد أبتلي بعض السَّائلين بإثارة بعض الشُّبهات كهذه الأسئلة من قِبل من ورَّطهم بالمباشرة أو التَّسبيب من أعداء القضيَّة الحُسينيَّة قديماً وحديثاً، ومن هذا المنطلق لم يترك الأعداء المفضوحين في مبادئهم الأمويَّة اعتزازهم بما ارتكبه أسلافهم من كارثة كربلاء الشَّهادة العظمى وما قبلها وما بعدها إلاَّ ببعض الإيرادات الواهية بمحاولة منع حتَّى مطلق العلم بالغيب بعد ثبوت التَّرخيص الإلهي لخيرة عباده من الأنبياء والرُّسل وأوصياءهم من الأئمَّة والأسباط ومن صحَّ في العقيدة الحقَّة بإلحاقه بهم من الحواري والأولياء كما مرَّ في الأدلَّة، وعلى فرض عدم قدرتهم على منعه في المطلق منه للأدلَّة الصَّحيحة الماضية حاولوا ويحاولون في عنادهم العصبي النَّاصبي إثارة شبهة إيقاع النَّفس بعد العلم المسبق في التَّهلكة احتجاجاً منهم بقوله تعالى «وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ»(1) لمحاولة جعل الفرصة من الأعداء سانحة في تماديهم على مواصلة دمار الأمَّة الإسلاميَّة الإلهيَّة وحدهم وعدم فسح المجال
ص: 272
لأصحاب الحكم الشَّرعي الأصيل.
بينما الجواب السَّديد وبالتَّحديد المفيد عدم جواز مخالفة الاعتقاد بعهد الله المعهود الَّذي لا خلف له في كتابة الأحداث المستقبليَّة النَّوعيَّة على أكابر رجالها ونسائها النَّوعيِّين كعظماء الشَّجرة الطِّيبة في القرآنالمبتلين بالشَّجرة الخبيثة لعدم التَّلازم بين العلم الإجمالي أو شبه التَّفصيلي المسبق وبين واجب التَّصدِّي من قِبل المبتلي لأعداءه من أعداء الدِّين والإيمان ما دام الإمام واثقاً من نفسه والفدائيون معه أنَّهم إن قتلوا فهم شهداء لأعلى عليِّين وإن قتلوا الأعداء فمصير الأعداء جهنم وبئس المصير، ولأن من يؤمر بالجهاد دفاعيَّاً أو حتَّى هجوميَّاً وكان من مثل الإمام الحُسين (علیه السلام) المخاطب بعد جدِّه (صلی الله علیه و آله) وأبيه وأخيه (علیهما السلام) بواجب حماية الدِّين والملَّة في آيات الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر والجهاد وحرمة التَّغاضي عن مصير الأمَّة المتهرِّي بحكَّام الكفر والنِّفاق والفسق والفجور إلاَّ بالسَّعي لمقاومتهم حتَّى لو أدَّى إلى استشهاد الإمام (علیه السلام) واستشهاد من معه وقدسيَّة وجوب هذه التَّصدِّيات في نظر الفدائيِّين فإنَّ التَّصدِّي لا يمنع حتَّى من العلم التَّفصيلي المسبق ولذلك كان الإمام الحُسين (علیه السلام) يصف أصحابه بقوله ((يستأنسون بالمنيَّة دوني)) لعدم جواز الخضوع للعدو المستهتر خوف إرجاع الجاهليَّة الأولى إلى واقعها، ولذلك كان يقول (فو الله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذَّليل ولا أقر لهم إقرار العبيد) وقال أيضاً:
الموت أولى من ركوب العار *** والعار أولى من دخول النَّار
ص: 273
فهو (علیه السلام) الَّذي لا يضرُّه العلم الكامل المسبق بهذا المصير الإلهي بحيث لا يسلب اختياره (علیه السلام) عند إقدامه على الشَّهادة ولا يبرئ به قاتله لأنَّه جاء أمام هذا القاتل بل لأنَّه لماذا جاء هذا القاتلمطارداً للإمام ومحاصراً له.
وإن قيل لماذا ما أخذ حذره كما في آيات أخذ الحذر ووجوبه؟
فإنَّه يُقال إذا كان أخذ الحذر للبقاء والاعتزال، فإنَّ العدو لا يمهله إلاَّ بأخذ البيعة منه ومن خُلَّص الشِّيعة أو القتل والإبادة بنحو الذل الأشد كما مرَّ وعلى فرض إمكان الإبقاء مع ذلك الذل يتم إرجاع الجاهليَّة الأولى والأكثر وإن كان أخذ الحذر هو الانتقام من الأعداء كلهم أو بعضهم قبل الموعد فلا يجوز القصاص قبل الجناية كما كان عليه أمير المؤمنين (علیه السلام) تجاه قاتله ابن اليهوديَّة ابن ملجم (لع).
وإن قِيل لماذا لم يُصالح يزيد كما صالح أخوه الحسن (علیه السلام) معاوية قبل ذلك؟
فإنَّه يُقال بعد ذكر العهد المعهود من الابتلاء الإلهي لخوض المعركة المصيريَّة لصالح جوهر الدَّعوة الإسلاميَّة ومستقبلها ولو بانتصار الدَّم على السَّيف ولو بعد حين للرَّابط الإلهي بين النَّبي (صلی الله علیه و آله) وسبطه الحُسين (علیه السلام) في قوله (حسين منِّي وأنا من حسين) وبإخباره (صلی الله علیه و آله) بما يجري عليه ممَّا علَّمه الله تعالى لا يمكن أن تكون قضيَّة الإمام الحُسين (علیه السلام) كقضيَّة أخيه الإمام الحسن (علیه السلام) ولا عهد يزيد كعهد أبيه معاوية وإن كان من لوثة جرثوميَّة واحدة أساساً إلاَّ أنَّ بعض الظواهر كانت متفاوتة مع خيانة أكثر أصحاب الإمام الحسن بما لا يؤهله للحرب ومن أقرب النَّاس إليه كعبيد الله ابن العبَّاس وكون صلحه مع معاوية وبالشُّروط الَّتي وضعها
ص: 274
عليه وبلا مبايعة ما كان إلاَّ لإحراج معاوية بالكف عن المؤمنينوملاحقتهم وتجنُّب سبِّ أبيه (علیه السلام) وعندما لم يف بتنفيذ الشُّروط ثبتت عليه فضيحة الخيانة فما كان صُلح الإمام الحسن (علیه السلام) على ما سبق بيانه إلاَّ للتَّمهيد لنهضة الإمام الحُسين (علیه السلام)، فلم يبق للإمام الحُسين (علیه السلام) إلاَّ هذا المخطَّط الإلهي المحمَّدي العلوي الحَسني الحُسيني وإن رفرف النَّصر المؤزَّر الدُّنيوي الأخروي يوم العاشر فوراً على الأعداء على رأسه (علیه السلام) فاختار الشَّهادة لإحراز ما هو الأكبر تمهيداً لدولة صاحب الأمر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) متحلِّياً بالصَّبر منسوباً إليه قوله من أواخر عباراته (صبراً على قضاءك لا معبود سواك).
والله العالم.
س / لماذا الشِّيعة يهتمُّون بالحُسينيَّات (المآتم) أكثر من المساجد؟
ج / بسمه تعالی
لم يكن مثل المؤمنين من شيعة النَّبي (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطَّاهرين (علیهم السلام) فرقة أخرى من المسلمين تهتم بالمساجد بأكثر منهم بل حتَّى مثلهم في الإخلاص القصدي الإلهي التَّام في مثل بناءها والاهتمام بترميمها لصيانتها وإدامتها والتَّواجد فيها صلاة جماعة وجمعة وفرادى لأهل المشاغل المستعجلة ودعاء وقراءة لكتاب اللهوتواجداً في الاتِّعاظ بمواعظ
ص: 275
الواعظين والاستفادة من دروس المدرِّسين فقهاً عقائديَّاً وشرعيَّاً وأخلاقيَّاً وتفسيريَّاً ومُقدِّمات العلوم الأدبيَّة والمنطقيَّة والأصوليَّة للوصول إلى التَّخصيصات من ذبها للاجتهاد في الفقه وغيره ومن قديم الزَّمان ابتداءاً من أيَّام أخذ الحريَّة التَّامَّة في التَّواجد عند بيت الله الحرام وحين تكسير الأصنام من قِبل مكسِّرها أمير المؤمنين علي (علیه السلام) وبعد بناء المسجد النَّبوي وغيره في المدينة وأوَّل معمِّريه هم النَّبي (صلی الله علیه و آله) بالتَّواجد فيه عبادة وخُطباً وذِكراً للوحي وقضاء لحوائج المسلمين والمؤمنين حتَّى وفاته في غُرفته المطلَّة على المسجد، وكذا أهل بيته (علیهم السلام) وخُلَّص الأصحاب والحواري كما أخبر (صلی الله علیه و آله) بما أُنزل عليه من الآيات المشجِّعة على الاهتمام بها مثل قوله تعالى «لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ»(1)) وقوله «قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ»(2) وقوله «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ»(3)، وقوله النَّبي (صلی الله علیه و آله) في التَّشجيع على الاهتمام بها والتَّواجد فيها (من أحب الله فليحبني ومن أحبّني فليحب عترتي، وإني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله و عترتي،ومن أحب عترتي فليحب القران، ومن احب القران فليحب المساجد، فإنها أفنية الله وأبنيته، أذِن في رفعها وبارك فيها، ميمونة ،ميمون أهلها ،
ص: 276
مزينة ، مزين أهلها محفوظة، محفوظ أهلها ، هم في صلاتهم، والله في حوائجهم هم في سجودهم والله من ورائهم)(1)، وعن الأصبغ بن نباته عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنَّه كان يقول: (من أختلف إلى المسجد أصاب إحدى الثمان: أخاً مستفاداً في الله، أو علماً مستطرفاً، أو آية محكمة أو رحمة منتظرة، أو كلمة ترده عن ردى أو يسمع كلمة تدله على هدى، أو يترك ذنباً خشية أو حياء)(2).
حيث استمرَّ إحياؤها وإحياء غيرها من بقيَّة المساجد كمسجد الكوفة وسُهيل وبُراثا والبصرة والمسجد الأقصى من قِبل الصَّفوة مثل أئمَّة أهل البيت (علیهم السلام) وحواريهم حيث جعلوها خير المحال لمختلف العبادات صلاة وصياماً واعتكافاً ودرساً ومذاكرة وتلاوة وأيَّام النَّبي (صلی الله علیه و آله) في بياناته وأحاديثه وقضائه بين المتخاصمين كما عن الدعائم، عن علي (علیه السلام) قال: (دخلت المسجد، فإذا برجلين من الأنصار يريدان أن يختصما إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال أحدهما لصاحبه: هلم نختصم إلى علي (علیهم السلام) فجزعت من قوله، فنظر إليّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: انطلق واقض بينهما، قلت: وكيف اقضي بحضرتك يا رسول الله (صلیالله علیه و آله) ؟ قال: نعم فافعل، فانطلقت فقضيت بينهما، فما رفع إليَّ قضاء بعد ذلك اليوم إلا وضح لي)(3)، حيث استمرَّ عطاء الله للإمام (علیه السلام) بتواجده العبادي المخلص فنزلت آية التَّصدُّق
ص: 277
بالخاتم وهي آية الولاية العظمى في حقِّه وهو يصلِّي فيه «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(1).
وأمير المؤمنين (علیهما السلام) في خطبه للنَّهج ومواعظه ولدكَّة القضاء كما عن نواف البكالي وطلبه الموعظة منه (علیه السلام) وهو (في رحبة مسجد الكوفة)(2).
وما روي عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: (بينا أمير المؤمنين (علیه السلام) جالس في مسجد الكوفة، وقد احتبى بسيفه وألقى ترسه خلف ظهره، إذ أتته امرأة تستعدي على زوجها، فقضى للزوج عليها، فغضبت فقالت: والله ما هو كما قضيت، والله ما تقضي بالسوية، ولا تعدل في الرعية، ولا قضيتك عند الله بالمرضية.
قال: فغضب أمير المؤمنين (علیه السلام) فنظر إليها مليا، ثم قال:.....إلخ)(3).وهذا التَّواجد من أمير المؤمنين (علیهما السلام) إمام الشِّيعة ومقتداهم ثابت منه كما بدأت ولادته في الكعبة وانتهت حياته شهيداً في محراب مسجد الكوفة.
وللزَّهراء (صلی الله علیه و آله) في خُطبتها العظيمة الدِّفاعيَّة عن الخلافة وبقيَّة الحقوق.
وعن نصر بن عاصم الليثي : ((أتيت اليشكري في رهط من بني ليث، فقال: قدمت الكوفة، فدخلت المسجد، فإذا فيه حلقة كأنما قُطِعت
ص: 278
رؤوسهم، يستمعون إلى حديث رجل، فقمت عليهم، فقلت: مَنْ هذا؟ فقيل: حذيفة بن اليمان صاحب رسول الله، فدنوت منه، وسمعت بعض حديثه، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله))(1).
وكذلك بقيَّة المعصومين (علیهم السلام) من عهد الحسنين (علیهما السلام) والسجَّاد والباقرين (علیهما السلام) وإلى آخرهم (علیهم السلام)، تشهد بذلك حتَّى هذا الحين والتَّأريخ الصَّحيح النَّاصح خير دليل بما أقرَّ به نفس المذاهب الأربعة بأستاذيَّة الإمام الصَّادق (علیه السلام) في مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث كان أبو حنيفة يقول (لولا السَّنتان لهلك النُّعمان)(2) وقال الحسن بن علي الوشاء: (أدركتُ في هذا المسجد _ أي مسجد الكوفة _ تسعمائةشيخ كلّ يقول: حدثني جعفر بن محمّد)(3).
وهذا ديدن الشِّيعة من ذلك الوقت مع أئمَّتهم حتَّى مع مصادفتهم الكثير من المضايقات من دول الظلم الأوَّل والأموي والعبَّاسي وغيرها إلى العثماني وما بعد ذلك من أنواع المحاربات لهم وإلى حد تهديم مساجد الشِّيعة اليوم أو عدم منحهم إجازات البناء تأسِّيساً أو تجديداً أو ترميماً بل محاولة جعل تلك المساجد الموقوفة سابقاً باسم الواقفين المؤمنين الشِّيعة لها باسم جهات مذهبيَّة أخرى لمحاولة سلب عنوانيَّة أصل الإسلام الإيماني منهم بالحُجج الواهية وهي رفضهم سيرة من اجتهد
ص: 279
باطلاً في مقابل النُّصوص وترك وصايا النَّبي (صلی الله علیه و آله) المتكرِّرة آيات وبيِّنات وأحاديث نبويَّات متواترات بين الفريقين في حق أهل البيت الطَّاهر (علیهم السلام)لكونهم خزَّان وحي الله حقَّاًً وأهل الخلافة صِدقاً ومعهم شيعتهم لقول النَّبي (صلی الله علیه و آله) (يا علي أنت وشيعتك الفائزون يوم القيامة)(1) وغيره.
حتَّى ثورة الإمام الحُسين (علیهما السلام) الثَّائرة والمنتظرة لأن تثور بعهد معهود من الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وبعلم مسبق من أمير المؤمنين (علیه السلام) والزَّهراء(علیها السلام) وأخيه الحسن (علیه السلام) الَّذي نعى أخاه الحُسين (علیه السلام) قُبيل وفاته بقوله (لا يوم كيومك يا أبا عبد الله) حينما صار ينزوا أرجاسالأموييِّن والمروانيِّين الفسقة والفجرة والجاهليِّين على منابر النَّبي (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطَّاهر (علیهم السلام) ولأن ترفع الكابوس الجاهلي الطَّاغوتي الأموي والجاهلي الجديد الجاثم على الصُّدور.
ولذلك احتاج المؤمنون وحواري الأئمَّة(علیهم السلام)بتشجيع من أئمَّتهم (علیهم السلام)لتوسعة انتصار الدَّم على السَّيف أيَّام صحوة ضمير التَّوابين والمختار (رض) وغيرهم بجعل المآتم في البيوت وغيرها وبما نُسميِّها اليوم ب_ (الحُسينيَّات) لإقامة العزاء الحُسيني بأنواعه المقبولة والمسموح بها من لسان الأدلَّة المتعدِّدة لتبقى القضيَّة في كل سنة وعام غضَّة جديدة ومتوسِّعة أكثر فأكثر لإرجاع اعتبار النُّبوَّة والرِّسالة المحمَّديَّة الأصيلة إلى واقعها الأصيل للحاجة الماسَّة إلى هذا الإرجاع وكما كان يُريده النَّبي صلی الله علیه و آله في قوله الشَّريف (بَدَأَ الإسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا
ص: 280
كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، الَّذِينَ يُصْلِحُونَ ما أفَسَدَهُ النَّاسُ من السُنَّة)(1) مبتدئاً من الانقلاب على الأعقاب ولو بمثل هذه التَّضحيات الجسام الَّتي كلَّما تضخَّمت في نظر الأمَّة بل الأمم اليوم مآسيها ولوعاتها دينيَّاً وإنسانيَّاً ازداد النَّصر بالعِبرة والعَبرة أكثر وإلى أن يثور ثائر الحُسين (علیه السلام) حفيده المنتظر (عجل الله تعالیفرجه الشریف) ولأجل نجاح هذه الحُسينيَّات في أداء الرِّسالة المتنوِّع بالطَّابع الحُسيني صارت المشاكل المعارضة من السَّلفيِّين الوهابيِّين الحاقدين وأمثالهم أكثر حسداً وخوفاً من زيادات افتضاح أسلافهم وعند عدم مقدرتهم على هدمها في بعض الأوقات أخذوا يوردون الشُّبهات ولو على لسان المغفَّلين أو السِّياسيِّين العلمانيِّين من متوسِّطي المسلمين أو حتَّى من قليلي الفهم من أبناء المحسوبين علينا.
علماً بأنَّ الحُسينيَّات كثيراً ما لا تختلف عن وظائف المساجد أو أنَّ هناك موقوفات لمتبرِّع أو أكثر حول جعل قسم منها خاصَّاً للمسجديَّة لا يدخلها مجنب أو حائض أو غير متوضئ لأداء ما يناسبها حتَّى المجالس الحُسينيَّة وقسمها الآخر للحُسينيَّة لا يضر في شرعيَّتها دخول الجُنب أو الحائض أو غير المتوضئ وإن كان العكس أفضل مع إمكان دخول غير المسلم أيضاً ممَّن يُرتجى هدايتهم للإسلام والإيمان الحُسيني كما حصل والحمد لله اليوم وقبله انتماء الملايِّين تلو الملايين إلى ما يبتغيه النَّبي (صلی الله علیه و آله)
ص: 281
وآله(علیهم السلام)من هذه النَّهضة المباركة، نسأل الله تعالى ثباتهم على هذا الإيمان، والله العالم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الأسئلة موجهة من قبل :موقع باب الحوائج الشهيد عبد الله الرَّضيع (علیه السلام)
www.alasghar.com
info@alasghar.com
* كيف أصبح عبد الله الرَّضيع (علیه السلام) باباً من أبواب الحوائج الى الله سبحانه وتعالى؟
ج/ بسمه تعالی
أصبح كذلك وبدون غرابة لأنَّه من أهم مصاديق قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ»(1) وعلى الأخص إذا كان هذا الطِّفل مظلوماً لطفولته ولا قابليَّة له في المقاومة، وقد ورد عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: لما حضر علي بن الحسين (علیه السلام) الوفاة ضمَّني إلى صدره ثمَّ قال: يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي (علیه السلام) حين حضرته الوفاة، و بما ذكر بأنَّ أباه أوصاه به، قال: يا بني إيَّاك وظلم من لا يجد
ص: 282
عليك ناصراً إلاَّ الله)(1).
كيف وهو بن سبط رسول الله (صلی الله علیه و آله) _ وفي عطش الضما الكربلائي المعروف لدى الخاص والعام _ صاحب الذِّكرى العالميَّة الإسلاميَّة العظمى الَّتي بها الامتداد الإسلامي الدِّفاعي الطَّبيعي لنهضة النَّبي (صلی الله علیه و آله) والزَّهراء (صلی الله علیه و آله) والوصي (علیه السلام) وأخيه المجتبى (علیه السلام) وعن بيضةالإسلام والَّتي كشفت نوايا الطَّواغيت الأمويَّة النِّفاقيَّة الَّتي لا تخفى على كلِّ من ألقى السَّمع وهو شهيد _ ولسان حال هكذا طفل ذبيح أبلغ من أن يصرَّح كرأس أبيه وإن تكلَّم بما ورد دون الطِّفل _ فلا غرو أن تلبَّى دعوة الدَّاعي الموالي توسُّلاً برأسه ورأس أبيه إلى الله تعالى في قضاء الحوائج الشَّرعيَّة بإذنه تعالى كما هو مجرَّب وبأسرع ما قد يُجاب، ولذلك صار صالحاً في كونه باباً من أبواب الحوائج، والله العالم.
* ما هو دور الطِّفل الرَّضيع (علیه السلام) في النَّهضة الحسينيَّة؟
ج/ بسمه تعالی
إنَّ دوره كما لا يخفى على الموالين والمحبِّين ممَّن لا تذهب عن فكره حقيقة المأساة الحسينيَّة من قبل الأعداء ومن قضاياها المهمَّة جدَّاً قضيَّة الطِّفل الرَّضيع واستشهاده، وعلى كلِّ من قرأ القصَّة الحسينيَّة يوم عاشوراء ممَّن فيه شيء من الغيرة من الآخرين لابدَّ بأن يُشعر بأنَّه دور العامل المهم في انتصار الدَّم على السَّيف وانتصار الطُّفولة البريئة على كل من اعتدى
ص: 283
وهو مفاد النَّص المعروف الَّذي لا ينكر معقوليَّته المنقضَّة على الأعداء إلاَّ مكابر أحمق وهو قول الإمام (علیه السلام) (إذا كان ذنب للكبار فما ذنب الصَّغار) حتَّى كشف ذلك وأمثاله أحقيَّة النّهضة الحُسينيَّة ضدَّ يزيد وأعوانه عند قرب وقوع الفتنة الَّتي ما انتهت إلاَّ بتنفيذ قول ابن سعد (لع) من قِبل حرملة (لع) بذبحه، والله العالم.* ما هو دور المرأة الحسينية في تربية الطِّفل الحُسيني ؟
ج/ بسمه تعالی
ينبغي لها أن تربِّيه على حبِّ النَّهضة الحُسينيَّة ورجالها _ مع إمامها العظيم وقمر بني هاشم _ ونساءها _ مع العقيلة _ وشبابها _ مع الأكبر والقاسم _ وصغارها المظلومين الأبرياء مع باب الحوائج الطِّفل الرَّضيع _ المنتصر لمظلوميَّته وعظم مبادئ النَّهضة فللانقضاض على كلِّ طواغيت الأرض في كلِّ زمان ومكان وإلى دولة آل محمَّد الآتية إنشاء الله _ وأن ترسَّخ فيه عقيدته على هذه المبادئ العظيمة إلى حدِّ ما يؤثِّر فيه ذلك تمام الاستقامة إلى حين الكِبر والتَّفاني على هذه العقيدة الحقَّة كما ربَّت نساء البيت الحُسيني الطَّاهر أطفالهنَّ وشبابهنَّ إلى حين فنائهم وتفانيهم بلا بخل على الدِّين إن اقتضت حكمة انتصاره عليه، وكما قال الموالي في شعره:_
لا عذَّب الله أمِّي إنَّها شربت *** حبَّ الوصي وغذَّتنيه باللَّبن
وكان لي والد يهوى أبا حسنٍ *** فصرت من ذي وذا أهوى أبا حسن
ص: 284
وإمامنا أبو الحسن "سلام الله عليه" مع أبناءه ومنهم الحسين وأبناءه (علیهم السلام)هم الَّذين حاموا عن الدِّين بالغالي والنَّفيس لمحاربة الطَّواغيت حتَّى ظلموا بأشدِّ أنواع الظُّلم ومنهم الأطفال، فصار الواجب الدِّفاع عن المبادئ في زرعها في ذرارينا، ونحن في هذا الزَّمان في التَّربية لهم يجب أن نحكم السَّيطرة عليها لتكون على أحسن حال من الولاء بتعاوننا مع الأمَّهات في مقابل السَّلفيَّة المكفِّرة وأمثالهم، والله العالم.* خلال العشرة الأولى من ليالي محرم الحرام عُنونت كل ليلة باسم أحد شهداء الطف، وعنونت ليلة العاشر باسم الطفل الرَّضيع حيث يتطرَّق الخطباء بذكره؟ برأيكم ما السِّر في ذلك وما ضرورته؟
ج/ بسمه تعالی
يظهر ممَّا دُوِّن في كتب المقاتل أنَّ الطِّفل الرَّضيع "سلام الله عليه" كان قتله آخر شهداء أسرته من الأخوة والأبناء وغيرهم قبيل استشهاد الإمام (علیه السلام) أو من أهمِّ من استشهد في الآخر، لذا جعل الخطباء بعد تقسيم مهمَّات أحداث يوم العاشر على العشرة الأولى من الأيَّام، وهذه العادة مألوفة في أكثر الأماكن بين شعوب دول العالم الإسلامي الشِّيعي حين توزيعهم تسلسل الأحداث على أيَّام العشرة الأولى كما سبق وإن بنينا شيئاً من ذلك جواباً على بعض الأسئلة إلاَّ يوم العبَّاس (علیه السلام) الَّذي جعلوه يوم السَّابع وهو أنَّ واقعه كان يوم عاشوراء كذلك حين خروجه لأخذ الماء من نهر الفرات لسقي العطاشا فإنَّما كانت هناك مناسبة أخرى سبقت
ص: 285
العاشر لتحديده، لأنَّه (علیه السلام) كان قد خرج يوم السَّابع واقعاً قبله أيضاً للفرض نفسه مسبقاً فكانت مناسبة ذلك إليه أوضح جدَّاً، والله العالم.
* لكل من استشهد بين أصحاب الحسين وأهل بيته (علیهم السلام) خصوصيَّة و ميزة خاصَّة، فيوجد منهم صحابي ويوجد شاب ويوجد شيخ كبير وتوجد امرأة ويوجد نصراني أسلم ويوجد عبد أسود و .. إلخ، ولكن الأغرب من كل ذلك يوجد طفل رضيع، فما فلسفة حضور هذه الشَّرائح و بالذَّات الطِّفل الرَّضيع؟ج/ بسمه تعالی
شاء الله أن يكون هذا الطِّفل العظيم ابن الأعاظم والبريء ابن الأبرياء الأكابر وابن الإمامة والنُّبوَّة _ في التَّضحية به بمصاحبته مع العيال _ أكبر فضيحة للأعداء اللاإنسانيِّين لأن تنكَّس أعلامهم لكونها ضدَّ الدِّين والإنسانيَّة وأن يثبت التَّأريخ ذلك نتيجة لحسن الاعتقاد به وبأهداف والده السِّبط (علیه السلام) الكبرى في نهضته العظمى الَّتي تسترخص لأجلها دماؤه ودماء من معه جميعاً مع سبي العيال _ وحسن التَّوسُّل به إلى الله تعالى لقضاء الحوائج ونجاح ذلك في قضاء ما لا يحصى عدُّه من الأمور المشروعة، ونقل هذا اليوم العالمي من أهمِّ الفلسفات المكتشفة أخيراً، والله العالم.
* لماذا سأل الإمام زين العابدين (علیه السلام) عن حرملة قاتل الطِّفل الرَّضيع دون غير ذلك من أفعاله الأخرى، ودون أن يسأل عن غيره من القتلة الآخرين مع شناعة أفعالهم الأخرى كذلك؟
ص: 286
ج/ بسمه تعالی
بناءاً على صحَّة هذا السؤال من الإمام (علیه السلام) في الرِّوايات فهو انطلاق من إرادة فضح قساوة عدو من أعدى أعداء الأبرياء وأبناء الأنبياء والأئمَّة والأولياء (علیهم السلام) مثل هذا الرَّضيع البريء (علیه السلام) لئلاَّ يكون هذا الأمر من جزئيَّات الأمور التَّأريخيَّة المنسيَّة في عاشوراء وإن لم يُنس منها شيء نوعاً والحمد لله إلاَّ ما حاول طمسهالأعداء النَّواصب كأصل الذِّكرى الَّتي حاربوها وما زالوا يحاربونها حشرهم الله مع يزيد وحزبه في قعر جهنَّم، وإن من أسرار هذا الاهتمام من أخيه زين العباد (علیه السلام) هو لتضخيم الانتصار على الأعداء وتشديد الاندحار لهم قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ»(1)، والله العالم.
* حينما ذُبح الطِّفل الرَّضيع رفعه الإمام الحسين (علیه السلام) إلى السَّماء داعياً ومستجيراً بالله، وكما ورد في المقاتل: "ثم أخذ بكفِّه من دمه الطَّاهر ورمى به نحو السَّماء فلم يسقط منه قطرة" ما معنى ذلك ولماذا فعل الإمام ذلك؟
ج/ بسمه تعالی
كل هذا المروي منه (علیه السلام) لم يتجاوز أمور الشَّكوى إلى الله تعالى الآمر بالجهاد والدِّفاع ضدَّ المنافقين والكفرة الأعداء الأمويِّين وأنصارهم حينما دعا للغضب على الأعداء بقوله (علیه السلام) (اللَّهم لا يكن أهون عليك من فصيل ناقة صالح) وإنَّ أمره تعالى بالجهاد ورضاه بعظيم الاستشهاد حتَّى
ص: 287
بجعل الطِّفل الرَّضيع خير قربان من قِبل أبيه لصالح الدِّين لا يعني رضاه تعالى بظلم المظلومين ومنهم الأطفال من قِبل ظالميهم وعدم سقوط الدَّم لابدَّ وأن يكون حالة إعجازيَّة خارقة للعادة عُرف من جرَّاءها مدى انتصار الدَّم على السَّيف وفضيحة الأعداء والانتقام الإلهي منهم في الدُّنيا والآخرة حتَّى صار كل طاغوت بعد ذلكيخشى من أهل هذا البيت الطَّاهر (علیهما السلام) وأمثاله إلاَّ أنَّه لم يعش في طاغوتيَّته إلاَّ من كان أقسى القلب حتَّى بقيت الشِّيعة مع علماءها مظلومة وإلى هذا اليوم، لكن لا ديمومة لتلك الطَّاغوتيَّة كما رأينا ورأى ذلك من سبقنا كما قد يتصوَّر ذلك الأعداء، لأنَّ للظالم جولة وللحقِّ دولة، والله العالم.
* هل يُعتقد أن الأمَّة الإسلاميَّة استفادت حقَّاً من مبادئ الثَّورة الحسينيَّة ومن الدِّماء الطَّاهرة والسَّخيَّة الَّتي بذلها ريحانة رسول الله(صلی الله علیه و آله) الإمام الحسين (علیه السلام) وأهل بيته وأصحابه؟
ج/ بسمه تعالی
لمَّا كان انتصار الدَّم على السَّيف مضموناً ضماناً معنويَّاً ولو بعد حين مع ما ثُكل به الأعداء ثكلهم العظيم من يزيد "لعنه الله" إلى آخر جندي في حينه وحصلت الانتصارات تلو الانتصارات من ثورات التَّوابين وثورة المختار "رحمه الله" وبالأشكال المختلفة الإضافيَّة بعد ذلك من حالات نجاح أنواع تعظيم الشَّعائر الحسينيَّة المهمَّة المرتبطة بهذه الشَّعيرة الحُسينيَّة العظيمة والَّتي عدت بها مبادئ الإسلام العزيز (حسينيَّة الخلود والبقاء)
ص: 288
حقَّاً عمليَّاً، فقد صارت هذه الحالة كقاعدة ثابتة يعتمد عليها شيعة الحسين (علیهما السلام) في العالم، ومن ذلك ما في الأزمنة الَّتي تلت تلك الذِّكرى وإلى يومنا هذا، بل حتَّى من اهتدى بعض الشَّيء وأخذ يُقدِّس الإمام الحسين وسئم كلَّ طواغيت الأرض من أدعياء الإسلاموالكفرة الطَّامعين والغزاة حيث أخذوا يثورون بين حين وآخر ضدَّهم كي يتمتَّع أحرار العالم الإسلامي والإنساني بحريَّاتهم الإلهيَّة، إلاَّ أنَّ بعض الثَّورات قد يتفاوت بعضها عن بعض في القرب الكثير إلى نهضة الإمام (علیهما السلام) من غيره ممَّا يحتاج إلى مزيد من التَّثقيف النَّهضوي الحُسيني الأصيل ليعتز تماماً بعد ذلك بذلك الإسلام العظيم الأصيل في أكبر عدد ممكن من الثَّورات الولائيَّة الَّذي ضحَّى (علیه السلام) هو وأهل بيته وأطفاله وأصحابه وسبي عياله في سبيله لا بما قد يتمسَّك به بعض الثَّائرين الَّذين تلت بعض ثوراتهم ثورته من الأهداف الرَّخيصة أو الإنسانيَّة المحدودة وغير ذلك، والله العالم.
* ألا تعتقدون أنَّ ذبح عبد الله الرَّضيع ذو الستَّة أشهر فقط بنبلة مسمومة ذات ثلاث شعب من يد حرملة بن كاهل الأسدي الكوفي (لعنه الله) يفند ويفضح المزاعم الَّتي كان يختبئ وراءها أعداء الله وأعداء الإنسانية .. حيث كانوا يبرِّرون قتلهم للإمام الحسين (علیه السلام) بأنَّه خارجي وخرج على أمر الخليفة يزيد بن معاوية ؟ فإذا كان للكبار ذنب فما هو ذنب الصِّغار والأطفال الرضَّع؟.
ج/ بسمه تعالی
ص: 289
هذا من واقع عقيدة الإمام النَّاهض (علیه السلام) حينما صرَّح بما فيه الكفاية من فضحه للأعداء بهذه الأفاعيل الشَّنيعة وكما صرَّح بذلك الإمام زين العابدين (علیه السلام) وزينب الحوراء (علیها السلام) ومن تمام عقيدتنا به معهما(علیهما السلام) ومن ذلك ما فهمه حتَّىالمغفَّلون من تصرُّفات أعداء الله والإنسانيَّة بعد خطبتيهما في الكوفة والشَّام حتَّى ما عرفوا بأنَّ الخارج عن الدِّين وعليه إلاَّ يزيد وأنصاره، والله العالم.
* في أحد أعمالي الفنيَّة رسمت فيها للإمام الحسين (علیه السلام) وهو يحمل رأسه بيده ويقول:
خذوا من رأسي ما شئ_ *** تم دما ومساجدا
ولا تنسوا تقوى الله *** ووصايا أحمدا
ترى كيف تقرأ هذه العبارة؟
ج/ بسمه تعالی
لا يجوز رسم صورة الإمام (علیه السلام) المهاب الهمام الَّذي قيَّد الله تعالى عمَّار دينه باستشهاده ومن معه من دون معرفة واقعها النُّوراني العظيم إلاَّ بنحو شجي يثير العواطف الجيَّاشة ضدَّ الظَلمة لاستمرار الثَّورة ضدَّ أولئك الأعداء، لوجوب استمرار واستنكار كل أعمالهم ضدَّ صاحب هذا المقام العظيم، ولاستمرار الثَّورة ضدَّ طواغيت الأرض من أمثالهم في مستقبل الأيَّام.
وأمَّا نسبة هذا القول المذكور إليه وهو لم يقله فلا يجوز إلاَّ بلسان الحال المعبِّر عن واقع الحالة المرادة منه (علیه السلام) في قصَّة عاشوراء بمثل عبارة (كأنَّه يقول كذا وكذا) فلا مانع، والله العالم.
ص: 290
* هل تعتقدون أنَّ خروج الإمام الحسين (علیه السلام) على الأعداء وهو يحمل طفله الرَّضيع (علیه السلام) طالباً له الماء مع علمه بقساوة قلوب الأعداء .. كان فيهرسالة مهمَّة للعالم؟
ج/ بسمه تعالی
هي كذلك رسالة مهمَّة أودعت اللَّغط بين الأعداء قبل كلِّ شيء وكادت أن تقع الواقعة فيما بينهم ويا ليتها كانت الواقعة ما عدا ما عُرف عن ابن سعد اللعين القاسي أن خاطب حرملة القاسي مشيراً إليه بأن يرمي الطِّفل بكلمة أن (اقطع نزاع القوم) ممَّا أثبت هذا النِّزاع حالة عدم الرَّضا الكامل بهذه المعركة حتَّى عند بعض الأعداء وأنَّ كون جميعها كان ضدَّ الإنسانيَّة وهو ممَّا قد أظهر في عهد قريب بعد عاشوراء انتصار الدَّم على السَّيف بإبداء النَّدامات وإعلان التَّوبات، والله العالم.
* كيف تقيمون فكرة تخصيص يوم للطِّفل الرَّضيع (علیهما السلام).. بعنوان اليوم العالمي لإحياء ذكرى مظلوميَّة الطِّفل الرَّضيع .. والَّذي حدَّده المجمع العالمي لإحياء ذكرى مظلوميَّة الطِّفل الرَّضيع (علیهما السلام) في صباح أوَّل جمعة من عاشوراء (صباح أوَّل جمعة من شهر محرَّم الحرام من كل عام)؟
ج/ بسمه تعالی
هذه حركة مهمَّة لو طُبِّقت بنجاح مثبت عالميَّة القضيَّة على النَّحو الرَّسمي الأممي كما هي عالميَّة بالنَّحو الشَّعبي والإنساني ونحن ممّن يُشجِّع الجماهير المؤمنة والمسلمة والإنسانيَّة على هذا الاقتراح، لأنَّ الإمام
ص: 291
الحُسين (علیهما السلام) ما ثار وضحَّى لهدف خاص إلاَّ للجانبالإسلامي الإيماني المكمِّل لنهضة جدِّه وأمِّه وأبيه وأخيه والإنساني أيضاً وعلى تأويل القرآن بعد ما كانت الثَّورة النَّبويَّة على تنزيله بل حتى على الاثنين للهداية إلى الاسلام.
وقد عادى الأمويُّون الطلقاء ومنهم يزيد هذه المسيرة في نفاقه بل كفره وفسقه وفجوره وقتله سيِّد الشُّهداء (علیه السلام) وأهله وأصحابه وسبي عياله وأطفاله في سنة حكمه الأولى وهدمه الكعبة في السَّنة الثَّانية وإباحته للمدينة صغاراً وكباراً في السنة الثَّالثة حتَّى هلك آخذاً مصيره الجهنَّمي المحتوم، والله العالم.
* غالبيَّة المسلمين يعرفون الإمام الحسين (علیه السلام) بأنَّ ذكرياته عبارة عن طقوس دينيَّة تبدأ في أول محرَّم وتنتهي في العشرين من صغر .. هل تعتقد أنَّ هذه المعرفة الضيِّقة تتناسب وأهداف الثَّورة الحسينيَّة؟
ج/ بسمه تعالی
لمَّا كان هذا الإمام الهمام (علیه السلام) هو الَّذي يمثِّل الجوهر الحقيقي للإسلام وهو القرآن النَّاطق وهو جدُّه وأمُّه وأبوه وأخوه معه "سلام الله عليهم أجمعين" وكما قال جدُّه (صلی الله علیه و آله) (حسين منِّي وأنا من حسين)، فلا غرابة أن يكون (علیه السلام) بالمعنى الشَّعائري المذكور في السُّؤال وهو المعد كالحمي والحريم لذلك الجوهر العظيم والموسَّع بسعته وإن توهَّم المتوهِّمون أنَّ فيه بعضاً من الضِّيق ولو كان كذلك ما ضاقت نفوس الأعداء إلاَّ بمحاربة هذه الالتزامات الملايينيَّة في العالم وفي كربلاء بل وفي كل سنة على طول
ص: 292
التَّأريخ، إذ قد تتشخَّصتلك الأهداف السَّامية بهذه المسمَّاة بالطُّقوس ما دامت نوايا شيعة النَّبي (صلی الله علیه و آله) وآله والحسين (علیهم السلام) على نفس مستوى جوهر تلك الثَّورة وعلى هداها ولم يتخلَّلها سلوك مخالف للشَّرع، والله العالم.
* كتب الشُّعراء والأدباء المسيحيُّون الكثير عن واقعة الطَّف أمثال (بولس سلامة وجورج جرداق وجورج شكور وآخرين) في الوقت الَّذي تقاعس فيه العديد من الأدباء والشُّعراء العرب والمسلمين .
ما هي الأسباب الحقيقيَّة الَّتي تقف وراء هذه المفارقة؟
ج/ بسمه تعالی
هذه القضية تقرِّبها وتبعِّدها حالة القرب في الهداية إلى الحق وإن كان القريب أو المقترب هو من غير المسلمين وحالة البعد عن الهداية وإن كان البعيد أو المبتعد هو ممَّن يدَّعي الإسلام أو يُدعى له بسبب حسن النَّوايا في الأوَّل وسوءها والنِّفاق في الثَّاني، وإن كان أصل الواقعة الحُسينيَّة قد جمعت القريب والبعيد في الإسلام وغيره كالمسيحي والعثماني وغيرهما في العقيدة من كلِّ من حلَّت فيه العقيدة الكاملة ممَّا يدعو في هذه الأزمنة إلى أن يرعوي الجميع فينتصروا لهذه النَّهضة العظيمة حتَّى غير الشِّيعي من بقيَّة المسلمين وهذا موجود وإن كان بقلَّة في أوساطهم وكما قال القائل:_
وإذا حلَّت الهداية قلباً *** نشطت للهداية الأعضاء
إلاَّ أنَّ العمدة كما يقول القائل أيضاً:
ص: 293
وكل إناء بالَّذي فيه ينضح
إضافة إلى أنَّ بعض النَّصارى والصَّابئة وغيرهم من الأقليَّات في البلدان الإسلاميَّة قد يستضعفون من قِبل بعض الحكَّام الجائرين من وجهة سياسيَّة وضعيَّة لا كما تريده رأفة الإسلام الأصيل بالأقليَّات فأخذ شعراءهم يقولون الشِّعر الحُسيني من الوجهة الإنسانيَّة بل أدركوا ما هو الأسمى دينيَّاً حينما عرفوا أنَّ منهم من كان شهيداً مع الإمام الحُسين (علیه السلام) وأسلموا وآمنوا بخبر شهير كما قد أسلم وآمن من هؤلاء الشُّعراء الجم الغفير، والله العالم.
* يقول الإمام علي (علیهما السلام) (وقوع الظلم يعني أن يعين المظلوم الظالم على نفسه) ! بينما يقول غاندي : (تعلَّمت من الإمام الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر) .. ترى كيف تقرأ العبارتين ..؟
بمعنى آخر كيف يمكن للمظلوم أن ينتصر على الظالم؟
ج/ بسمه تعالی
إذا أعان المظلوم الظَّالم على نفسه بعد المقاومة الدِّفاعيَّة المشروعة حتَّى أبلى بلاءاً حسناً في الجهاد الصَّامد من دون أن يعينه على نفسه بمعاني الذُّل والمسكنة الَّذين لم يكونا في أقل ناصر للحسين (علیه السلام) في نهضته فضلاً عن مقام الحسين (علیه السلام) وبقيَّة أبطاله من آله والآخرين من أنصاره لساناً وسناناً مع ما أجري عليهم من الحصار منجيش الأعداء منعاً عن الماء وغيره، إضافة إلى أهداف النَّهضة العظيمة السَّامية الأخرى الَّتي لا محلَّ
ص: 294
لذكرها في هذا المختصر، فلا يتنافى هذا مع كلام غاندي الهندي إذا كان يعرف بعض أسرار النَّهضة العظيمة حتَّى مع بقاءه على الكفر بناءاً على أنَّه يعرف جانباً ويجهل جوانب وهو غير بعيد، أمَّا مع عدم معرفته الصَّحيحة بذلك كما ينبغي ولعلَّه غير صحيح في كل الأحوال، فقد يجعله الله ناصراً للحسين (علیهما السلام)وهو على كفر وعن جهالته في المعاني السَّامية أو الأسمى، لأنَّ المظلوم لابدَّ وأن ينتصر حتَّى لو توَّهم المتوِّهمون أو ابتدع المبتدعون ذلك بغضاً وحسداً بأنَّه قد أعان الظَّالم على نفسه وكما قال تعالى «وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ»(1) ارتباطاً بسمو الأهداف الحقيقيَّة وإن لم يرتض المخالفون الحاقدون عناداً تمسكاً بقول الله «قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ»(2) وقوله «قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ»(3)، لأنَّ النَّصر حليفنا عاجلاً وآجلاً، والله العالم.
مع الطَّعام الحُسيني العام إلاَّ في الجملة المختصرة
س / أيّهما أفضل الصَّدقة على الفقراء، أم بذل الطَّعام في عزاء الإمام الحسين (علیهالسلام)؟
ج/ بسمه تعالی
ص: 295
الصَّدقة من حيث هي ممَّا أوصى بها الإسلام والقرآن والرَّسول (صلی الله علیه و آله) والأئمَّة (علیهم السلام) لنفع الفقراء والمحتاجين ومنها الواجبات كفريضة الزَّكاة وزكاة الفطرة ومجهول المالك والكفَّارات وما وجب بنذر وعهد ويمين باسم خصوص الفقراء، وقد جاءت النُّصوص القرآنيَّة والأحاديث النَّبويَّة وما رواه الأئمَّة (علیهم السلام)في أمرها كثيراً للتَّأكيد عليها بصيغة الوجوب وهو فعل الأمر كقوله الله تعالى في آيات متشابهة كثيرة جدَّاً منها «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»(1) وقوله في مصرفها المبتدئ بأداة الحصر بحيث لا يجوز التَّعدِّي عن المذكورين فيه إلى غيرهم «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(2) وأوَّلهم الفقراء والمساكين وبقرينة كلمة (فريضة من الله) الدَّالة على الوجوب بوضوح وقوله «وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ»(3) وهو ما به تمام الدَّلالة على ما يجب صرفه من الأموال المملوكة في موارد الصَّرف المحدَّدة شرعاً ومنها الصَّدقات الواجبة وقوله «إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّاهِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ
ص: 296
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ»(1)، وفي هذه الآية ما يُراد بيانه من صدقات الجهر والسِّر وبعمومها وإطلاقها لا يمنع من إرادة ما يجب وما يستحب وإن كان ما يجب هو الأظهر بقرينة (ويكفر عنكم من سيئاتكم) وقوله «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»(2) وعن أبي جعفر (علیهما السلام) قال (بينما رسول الله (صلی الله علیه و آله) في المسجد إذ قال: قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان حتَّى أخرج خمسة نفر، فقال: أخرجوا من مسجدنا لا تصلُّوا فيه وأنتم لا تزكون)(3) وعن أبي عبد الله (علیهما السلام) أنه قال: (ما من رجل يمنع درهماً في حقِّه إلاَّ أنفق اثنين في غير حقِّه، وما من رجل يمنع حقَّاً في ماله إلاَّ طوَّقه الله به حية من نار يوم القيامة)(4).
ومنها المستحبَّات الَّتي وردت في حقِّها النُّصوص القرآنيَّة والسنَّة النَّبويَّة الشَّريفة وروايات أهل البيت (علیهم السلام) المنيفة وسيرتهم العمليَّة كثيراً كانت على هذا المنوال في المستحبَّات فضلاً عن تلك الواجبات فقال تعالى «مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّسُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ»(5)
ص: 297
بقرينة (أموالهم)، فإنَّها أو بعضها هي خالص الأموال لا الزَّكاة الواجبة فإنَّها لم تكن من أموالهم فلابدَّ من أن يُراد هو الانفاق المستحب، وقوله «الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ»(1) وهو كذلك بقرينة (أموالهم).
وعن السكوني عن جعفر عن آبائه (علیهما السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) (إنَّ الله لا إله إلاَّ هو ليدفع بالصَّدقة الدَّاء والدبيلة والحرق والغرق والهدم والجنون وعدّ سبعين باباً من السوء)(2)، ومن ظاهر ومطلق هذه الرِّواية إرادة ما يُستحب التَّصدُّق به أيضاً.
وعن أبي عبدالله (علیهما السلام) قال: (إنَّ الله يقول: ما من شيء إلاّ وقد وكّلت به من يقبضه غيري إلاَّ الصَّدقة، فإني أتلقّفها بيدي تلقّفاً حتى إنَّ الرجل ليتصدَّق بالتمرة أو بشقّ تمرة فأربيها له كما يربي الرَّجل فلوه وفصيلة، فيأتي يوم القيامة وهو مثل أحد وأعظم من أحد)(3) وغيرهما.
وكان النَّبي (صلی الله علیه و آله) والأئمَّة (علیهما السلام) منسيرتهم إيصال عموم الصَّدقات بعمومها وإطلاقها بأنفسهم، ومن ذلك ما عن جابر عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال (قال أمير المؤمنين (علیه السلام) تصدَّقت يوماً بدينار فقال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله) أما علمت أنَّ صدقة المؤمن لا تخرج من يده حتَّى تفك به من الحي
ص: 298
سبعين شيطاناً، وما تقع في يد السَّائل حتَّى تقع في يد الرب تعالى، ألم يقل هذه الآية : ألم تعلموا أنَّ الله هو يقبل التَّوبة عن عباده ويأخذ الصَّدقات)(1). بسمه تعالی
هذا وغيره من الكثير مبلغ اهتمام الشَّرع الشَّريف بالصَّدقات الواجبة والمستحبَّة ومستحقِّيها وغيرها من الحقوق الأخرى ومستحقِّيها تبعاً لأدلَّتها الواردة في محلِّها، فلا ينبغي للسَّائل أن يربط بينها وبين الإطعام الحُسيني العام، ليترك بصفته الحُسينيَّة العامَّة ويستبدل بالصَّدقة وحدها دون المقصد الحُسيني لأجل أن لا تؤدِّى هذه الشَّعيرة المهمَّة جدَّاً فيبابها، لأنَّها أيضاً لها أدلَّتها المتقنة بما لا نقاش فيه في مجالها الَّذي ما تركنا ايضاح الكلام فيه في اجاباتنا عنها من هذه المجموعة الحُسينيَّة، وإن كان بعض المنفقين للإطعام الحُسيني العام قد يُفضِّل اطعام خصوص هؤلاء المحتاجين لو يتيسَّر إلاَّ أن احتكاكهم بعموم الباقين من المكتفين والأغنياء
ص: 299
هو الَّذي يمنع من ذلك إلاَّ في بعض المصادفات.
والفقراء شريحة اجتماعيَّة مهمَّة في العالم الإسلامي وغيره في نظر الإسلام العزيز راعي الجميع من الوجهة الإنسانيَّة، لكن لهم من تلك الواجبات والمستحبَّات ما يستحقُّونه منها دون الآخرين لعدم جواز أن يُشاركهم الأغنياء في شيء منها بل حتَّى من يشك في أمره أنَّه منهم أو من الأغنياء إلاَّ ابن السَّبيل أو عامل الزَّكاة والمؤلَّفة قلوبهم ونحوهم على ما مرَّ من آية الاستحقاق ممَّا هو مفصَّل في الفقه أيضاً فتوزَّع بينهم إن تيسَّرت فرادى وجماعات كلَّما دعت حاجات ذلك إلى التَّوزيع، وكذلك لا يمكن صرف ذلك في الهاشميِّين والعلويِّين لاختصاص الخمس فيهم واختصاصهم بالخمس إذا افتقروا أو أخذهم من الهدايا أو بعموم الإطعام الحُسيني دون الصَّدقات إلاَّ من دخل في آية الاستحقاق من غير الفقراء والمساكين ونحوهما كما أشرنا وهو ليس ممَّا نتكلَّم فيه.
وقد تنتشر فوائد الصَّدقة بل كثيراً ما يحصل مثل ذلك في بعض الأوقات والحالات حتَّى بدون أن ترتبط بالثَّقافة الإسلاميَّة الحُسينيَّة الَّتي تُعقد لها مجالس تثقيفيَّة حُسينيَّة قبل بذل الطَّعام الحُسيني حسب ما هو المتعارف نوعاً ومن الوجهة الإنسانيَّة الَّتي قد يتلهَّف غير المسلمين المحتاجين أيضاً إلى اللجوء إلى الإسلام لاهتمامه الأبلغ بهذه الشَّريحةمنهم وبأكثر من عنوان ومن هذه العناوين هم المؤلَّفة قلوبهم والمستضعفون ولكن ربُّما لن يظهر هذا النَّفع والانتفاع على أوجهما وبالنَّحو التَّحريري التَّام من الفقرين المالي والثَّقافي، إلاَّ أن تصنع لهم مجالس التَّوعية الحُسينيَّة ليستفيدوا منها حين حضورهم ولينالوا صدقاتهم
ص: 300
إذا كان الإطعام خاصَّاً بأولئك الفقراء والمساكين، ولربَّما تكون من هذه الصَّدقات وجبة طعام بسيطة أو مقدار يسير من المال، وقد لا تصنع لهم هذه المجالس لعدم مألوفيَّتها عند البعض أو الكثير.
بينما بذل الطَّعام الحُسيني الكثير في مواضعه وأوقاته الَّذي يستفيد منه الفقراء مع عوائلهم وغيرهم من المال التَّبرعي العام الَّذي يأكل منه الفقير والغني وبدون أن يضم إليه شيء من حقوق الفقراء لوجود الأغنياء معهم من الَّذين قد تنشأ فيهم أيضاً نشاطات التَّحفُّز الأكثر على إطعام الطَّعام وانتشاره بصورة أشد لصالح الفقراء، ولذا شجَّع الكثيرون من أهل المال وحُب البذل بضم هذه الشَّريحة إلى عموم الآخرين باسم سيِّد الشُّهداء (علیهما السلام).
وقد ينتفع من هذا الانتشار الموسَّع _ إن رجح في نفسه وشُجِّع عليه _ أكبر عدد من الفقراء من أكثريَّة مصاحبة حالة الإطعام للمجالس والمواكب وأنواع التَّوعيات ومراسيم الشَّعائر المنمِّية للدِّين والمقوِّية له حسينيَّاً جهاديَّاً في نفوس الفقراء بالفقر المالي وفقراء الدِّين والمعرفة فلابدَّ من أن يكون المعنى الثَّاني في الاستفتاء مفضَّلاً على الأوَّل بهذا الاعتبار دون أن يترك صِرف الواجب أو المستحب في مجالاته وبالأخص حينما كان البذل عامَّاً دون أن يرتبط بشيء من الأموال الخاصَّة بالفقراء والمساكين من العوام مثل الصَّدقات ونحوها ممَّا مرَّ.
إضافة إلى أنَّ قسماً من هؤلاء المجتمعين في محافل المجالس الحُسينيَّة الملحوقة بالإطعام هم من الهاشميِّين والعلويِّين الَّذين يحرم عليهم أكل الصَّدقات وما يُلحق بها وهم شريحة مهمَّة ومحترمة في المجتمع لأنَّ لهم
ص: 301
الخمس لو كانوا من أهل الحاجة والإطعام الحُسيني العام يشملهم ويشمل غيرهم كذلك سواء منهم المحتاجون وغيرهم، إلاَّ أن تكون الصَّدقات المستحبَّة أو الواجبة المنذورة وشبهها لصالح الفقراء عموماً أو شريحة خاصَّة منهم كأهل البلد الفلاني أو المنطقة الفلانيَّة باسم سيِّد الشُّهداء (علیهما السلام) ومن قبل متصد هاشمي علوي فلا مانع من ذلك دون أن يُشاركهم معتدلو الحال حتَّى لو كان معهم الهاشميُّون العلويُّون المحتاجون في القصد الإطعامي.
ولكن هذه أيضاً لا يمكن أن تذوب مشروعيَّة تعظيم الشَّعائر في إطعام الطَّعام العام المسبوق بالمحاضرة الحُسينيَّة، كيف والأمر غير تام في استحقاق من يُسمَّون بالفقراء عموماً أو خصوصاً، لكون الكثير منهم لم يكن مستحقَّاً في الواقع.
إلاَّ أنَّ وجه استفتاء المستفتي لو حملناه على إمكان إلقاء اللَّوم على بعض الأغنياء المنفقين لهذا الطَّعام العام الحُسيني من الَّذين لم يُفكِّروا يوماً بإخراج الحقوق الشَّرعيَّة الواجبة خمساً أو زكاة فالحق مع المستفتي لكن لا حقَّ له في إثارة المشاكل على الباذلين الباقين من المؤمنين وهم الأعم الأغلب بتوفيق الله، فلا يمكن أن يأخذ استفتاؤه ضدَّاً على الجميع.
أمَّا عن خصوص السُّؤال عن أفضليَّة الصَّدقات أم الإطعام الحُسيني فلا يتناسب أمر الصَّدقات الواجبة أو المنذورات وشبهها مع الإطعام المستحب، لعدم جواز ترك الأوَّل وجواز ترك الثَّاني، لكن إن حلَّ وقت الثَّاني ومحلِّه وصار مصداقاً غالباً من مصاديق آية تعظيم الشَّعائر لا يلزم
ص: 302
أن يتزاحم مع الأوَّل إن صمَّم المطِعم الحُسيني على أداء ما يجب في الأوَّل وعلى أداء الثَّاني من خالص ماله أيضاً.
أمَّا في حالة استحباب الصَّدقات ووجوب الإطعام بالنَّذر ونحوه فلا يتناسب أيضاً فيقدَّم الثَّاني حتماً على الأوَّل إلاَّ أنَّه لم يتزاحم الأمر ما بينهما كذلك كما لو أطعم الطَّعام الحُسيني لوجوبه وتصدَّق على الفقراء تصدَّقه المستحب من خالص ماله أو أطعمهم من عموم ذلك الإطعام الحُسيني الواجب بالنَّذر ونحوه، وهكذا الأمر نفسه لو كان كل من العملين واجباً في حدِّ نفسه أو مستحبَّاً في حدِّ نفسه بدون أن يتقدَّم أحدهما على الآخر.
نعم ينصح جميع المتشرِّعين بعدم التَّبذير والاهتمام بالفقراء والمحتاجين الواقعيِّين عموماً وإن يفضلُّوا على غيرهم لو أمكن وأن يحذر الجميع من شبهات الوهابيَّة ونحوهم من المتصيِّدين في الماء العكر، والله العالم.
بسمه تعالى وله الحمد والمجدوالصَّلاة على خاتم الأنبياء والمرسلين محمَّد وآل بيته الأمجد
السَّلام على سيِّدنا المبجَّل وأبينا المؤمَّل المرجع الدِّيني السيد الغريفي (أدام الله عزه)
بين يديك الكريمتين:
نص السؤال الَّذي وجَّهه المرحوم جدُّنا السيد سعيد العدناني إلى المرجع الدِّيني
ص: 303
الكبير المرحوم السيِّد محمَّد جواد الطباطبائي التبريزي أعلى الله مقامه
وقد ورد الجواب منه وكان بعبارات علميَّة لا تفهمها العامَّة, ونظراً لما برعتم به من يراع ثاقب واستيعاب لمطالب الأصول والفروع نرجو من سماحتكم إيضاح عبارته أدامكم عزَّاً للإسلام وحصناً منيعاً.
(ابنكم وخادمكم السيِّد قاسم الغريفي _ لبنان)
هل إنَّ الإمام الحسين (علیهما السلام) قال لأهل بيته وأصحابه: (أنتم في حل من بيعتي) وأمرهم بالانصراف عنه أم لا؟
وهل إنَّ هذا الإحلال من بيعته يوجب رفع التَّكليف عنهم من جهة, ولا يوجب رفع التَّكليف عنهم من جهة وجوب الدِّفاع عنه والمحافظة عليه؟ وهل أنَّ الأمر بالانصراف للتَّرخيص لا أمر حقيقة نظير قوله تعالى: «وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا» أو قوله تعالى «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ» وأمثال ذلك أم لا ؟
أفيدونا
الجواب من المرحوم السيد محمَّد جواد الطباطبائي التَّبريزي "قدَّس الله نفسه الزَّكية":
الأمر كما ذكره المرحوم الآخوند في الكفاية موضوع لإنشاء الطَّلب والدَّاعي للإنشاء يختلف:
تارة يكون الدَّاعي للإنشاء حقيقة الطَّلب.
وأخرى: امتحان المأمور.
وثالثاً: تهديده.ورابعاً: رفع توهم الخطر (أو الحظر ارجوا التصحيح) وهكذا.
والأمر بالانصراف عن الحسين (علیهما السلام) لا يمكن أن يكون بداعي حقيقة الطلب، وذلك لأن ترك نصرة الحق كما هو حرام على أصحاب الحسين (علیه السلام) كذلك يحرم على الحسين (علیه السلام) أن يطلب منهم إيجاد هذا الحرام، بل كان إنشاء هذا الطلب بداعي أن يفهم النَّاس
ص: 304
ما بلَّغ إليه أصحابه من الثَّبات والتَّفاني في نصرة الحق حتَّى أنَّهم مع عدم إلزام الحسين (علیهما السلام) لهم بالجهاد ورفع بيعته عنهم أبوا إلاَّ التَّضحية في سبيل الحق بداعي الإخلاص والتَّقرب إلى الله تعالى في خدمة الشَّرع وإعلاء درجات الإيمان وأقصى مراتب العبوديَّة كما وصفهم السيِّد المرتضى "قده" ومدحهم
وقال :
لهم جسوم على الرَّمضاء مهملة *** والنَّفس في جوار الله يقويها
كأنَّ قاصدها بالضر نافعها *** وأنَّ قاتلها بالسيف محييها
ج/ بسمه تعالی
لتوضيح ما أراده السيد التَّبريزي (رحمة الله) وعلى طبق ما أراده الآخند (رحمة الله) في كفايته حول الطَّلب الَّذي قاله الإمام الحسين (علیهما السلام) لبعض أصحابه وأهل بيته ليلة العاشر في قوله لهم ((أنتم في حل من بيعتي هذا اللَّيل قد غشيكم)) فإنَّه قابل لأن يحمل معاني أربعة:
أوَّلها: غير ممكن وهو كون الدَّاعي للإنشاء حقيقة الطَّلب وسبب عدم إمكانه أن ترك نصرة الحق كما هو حرام على أصحاب الحُسين(علیهما السلام) كذلك يحرم على الحُسين (علیهما السلام) نفسه أن يطلب منهم إيجاد هذا الحرام والحرب قائمة وإنَّما أجِّلت بطلب من الإمام (علیهما السلام) وأهل بيته وأصحابه للتَّزوُّد بالعبادة تلك اللَّيلة وللقاء الله يوم غد فوزاً بالشَّهادة، ولعلَّ من أسباب أخذ المهلة إلى الصَّباح أيضاً هو إمهال الإمام (علیه السلام) بعض أصحابه وأهل بيته لاختبارهم بين أن يكونوا منفصلين لما صرفهم الإمام (علیه السلام) إليه أو للخلاص من شرِّ بعضهم أو أنَّهم ثابتون فوزاً بالسَّعادة، ولذلك ورد
ص: 305
عنه (علیهما السلام)قوله عنهم بعد التَّصفية بهذا الاختبار ولئلاَّ يبقى ممَّن خرج منهم ليلاً إلى الصَّباح وهو ما قد يُسبِّب زعزعة مخيفة أو احراجاً للخُلَّص منهم (ما رأيت أصحاباً كأصحابي ولا أهل بيت أبر وأوفى من أهل بيتي ...إلخ)(1) وإن كان أولئك الَّذين ذهبوا كانوا منهم سابقاً فهؤلاء هم الصَّفوة لأنَّ البداء لله وكما حصل يوم العاشر.
الثَّاني: وهو ما به معنى امتحان المأمور لأجل أن تبقى الصَّفوة راغبة بصرف اختيارها للتَّحلِّي بوسام شرف الشَّهادة الكربلائيَّة، وإن لم يخل عن نسبة من التَّرخيص الَّتي لم تصل إلى مستوى وجوب إجابة الدَّاعي الَّذي لو لم يبق معه لم يبلغ الفتح أو الَّذي أقنع من راح إلى أهله بعد هذا التَّرخيص أنَّه سمع الواعية وأجاب فلم يكن من أهل النَّار كما ذكرته الأخبار كقولهم (علیهما السلام) (من سمع واعيتنا ولم يُجبناأكبَّه الله على منخريه في النَّار) (2) ولعلَّ منهم من كان بيده رسالة حُسينيَّة بمستوى الشَّخص المرسل ومن أرسل إليهم اعلاميَّاً وغيره، وقد تدرك بعضهم ندامة النَّادمين وثورة التَّوابين.
الثَّالث: وهو ما به معنى احتمال الخيانة من الَّذي رضي بالانفصال عند الحضور في المعركة أو تأكُّدها بسبب النِّفاق الكامن فيه فخطابه بالذَّهاب بمثابة تهديده بأنَّك لم تكن كخُلَّص الأصحاب فلن تبلغ الفتح وكأنَّك ما جئتنا كمن جاء وثبت أو أرسلناه لحكمة.
ص: 306
الرَّابع: وهو ما به معنى التَّرخيص المشار إليه لأنَّ الخطر هو التَّحريم فعند طلب الإمام (علیهما السلام) تبيَّن عدم الخطر في الخروج وإن كان البقاء واجباً للمفاداة طلباً للنُّصرة الآنيَّة في الحرب بكثرة الأنصار ولكن علم الإمام (علیه السلام) والموروث له عن أبيه وجدِّه "سلام الله عليهم أجمعين" من علم الكتاب أنَّ عدد أصحابه محدود لا أكثر ولا أقل ولكنَّه لم يثبت لأولئك المنفصلين الفوز بما ناله الفائزون مع الإمام (علیهما السلام) يوم العاشر وإن كان الذَّهاب بالتَّرخيص أحرزت فيه بعض الفوائد ممَّا قد يكون معه حُسن العاقبة في بعضهم، لاحتمال اختلاف مراتب المنفصلين، وعليه فالاستشهاد بآية «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ»(1) أقرب للمراد من آية «وَإِذَا حَلَلْتُمْفَاصْطَادُواْ»(2) لأجل أنَّ في الثَّانية كون المكلَّف بعد الإحلال مطلقاً في حريَّته حتَّى لو لم يستثمر منه عند الإرسال، بينما الأولى المختومة بكلمة «أمركم الله» هي الَّتي يمكن فيها أن يستثمر ممَّن جعلهم الإمام (علیهما السلام) خليفة جدِّه في حِل منه بما يبقي لهم بعض المثوبة.
هذا شيء أو بعض شيء ممَّا تيسَّر لنا بيانه للإيضاح حسب مُراد جناب السيِّد المبجَّل على نحو العجالة، والله العالم.
ص: 307
س/ هل تتغيَّر ممارسة الشَّعائر الحُسينيَّة بتغيُّر الظروف والأزمنة والمواقع، أفيدونا مأجورين.
محمد علي
ج/ بسمه تعالی
لا يمكن أن تتغيَّر ممارسة الشَّعائر الحُسينيَّة الأصيلة المرتبطة بأصالة الإمام الثَّائر سيِّد الشُّهداء أبي عبد الله الحسين (علیهما السلام) ضدَّ مثال النِّفاق والكفر والفسوق والفجور إذا كان المراد من التَّغيير هو تغيير اسم الثَّائر باسم الآخر وقضيَّته وما يبغيه أنصاره من أساليب الممارسات، وقد يكون من تلك الممارسات ما يتناسب والعصر الحاضر وبما قد ينسجم وضعاً وأذواق المعاصرين من أبناء اليوم لاختلاف شأنيَّة هذا الإمام (علیهما السلام) المعظَّمة عن بقيَّة الشَّأنيَّات الأخرى للثَّائرين واختلاف القضيَّة الَّتي ثار من أجلها الإمام (علیهما السلام) عن بقيَّة القضايا للأخرين مهما علت تلك الشَّأنيات والقضايا فإنَّها كلا شيء تجاه القضيَّة الأم وللفرق الواضح بين المأمومين وإمامهم.
لأنَّ قضيَّة الإمام (علیهما السلام) ليست كبقيَّة القضايا مهما حاول الآخرون من كافَّة المسلمين وبعض المؤمنين في فراداهم وجماعاتهم أو تحزُّباتهم في أن يولِّدوا شخصيَّة ذات مثابة في قضيَّة فيهابعض الشَّبه بقضيَّته كما قيل في شخص الحسين ابن علي شهيد فخ (رض) ومعه أخته المآزرة له زينب
ص: 308
شبيهة العقيلة زينب ابنة أمير المؤمنين (علیهما السلام) كذلك أو قيل في بعض شهداء العصر (رحمة الله) أنَّه حسين العصر، لأنَّ قاتله يشبه يزيد عصر الإمام (علیه السلام) إلاَّ إذا وجِّه في ذلك بكون ثورة بقيَّة الثَّائرين وشهادة بقيَّة الشُّهداء على يد يزيد العصر المنتمي إلى يزيد عصر الإمام (علیهما السلام) سبباً أو نسباً حتَّى لو تغيَّرت بعض الالتزامات الَّتي لم تخرج عن طورها الصَّحيح شرعاً.
لذا فإنَّ ما قاله المعبِّرون عن عظمة شأنيَّة يوم القضيَّة الأصيل وموقعها العالمي زماناً ومكاناً تبعاً لعظمة شأنيَّة رجل القضيَّة الَّذي لم يسبقه سابق ولم يلحقه لاحق (كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء) ما هو إلاَّ لإدامة تلك الشَّعائر المجسِّدة لأصل الذِّكرى وصاحبها لتبقى غضَّة جديدة ودائمة لن تبلَّ ضدَّ الأعداء ومن يتناسل أو يتسبَّب منهم.
وعلى فرض قبول تصوُّر من يهوى مقارنة قضايا بعض الأخرين جدلاً على ما يتناسب ومستوى فهمهم الفكري المحدود بقضيَّة الإمام (علیهما السلام) فندعوه إلى التَّفكير الجدِّي بعد التَّجرُّد العاطفي والالتجاء إلى أهل الفهم والدِّين المحمَّدي الحُسيني بما ورد في الإمام (علیهما السلام) في الكتاب والسنَّة وبما يقر به الفريقان وبما ورد في الأخرين ولو في العموميَّات المشخِّصة لشأن بقيَّة المجاهدين أو ما لم يرد فيهم على الأقل كالإمام (علیهما السلام).
فالإمام الحُسين (علیهما السلام) في آيات الله القرآنيَّة خامسأصحاب الكساء في آية التَّطهير وثاني الأبناء في آية المباهلة وأحد مصاديق آية المودَّة في القربى وهي «قُل لّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» (1)وثالث الأئمَّة
ص: 309
الاثنى عشر في قوله تعالى «وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ»(1) وأحد الأئمَّة في قوله تعالى «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا»(2) وغير ذلك الكثير.
وهو في سنَّة جدِّه (صلی الله علیه و آله) أيضاً أحد أفراد الثَّقلين في قول النَّبي (صلی الله علیه و آله) (أيها الناس؛ قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي)(3) وهو المشهور بين الخاص والعام وبنصوص مشابهة أخرى، وقوله فيه وفي بقيَّة أهل البيت (علیهما السلام) (مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلَّف عنها غرق وهوى)(4)، وهو ثاني اثني قول النَّبي 2 فيه وفي أخيه الحسن (الحسن والحُسين إمامان قاما أو قعدا)(5) وقوله فيهما (الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَبُوهُمَا خَيْرٌ مِنْهُمَا)(6) وفي رواية أخرى (ذاك ملك من الملائكة أستأذن ربه يسلم علي، ويبشرني بالحسن والحسين أنهما سيِّدا شباب أهل الجنة، وأن
ص: 310
فاطمة سيدة نساء أهل الجنة)(1) وقوله (الحسن والحُسين ريحانتاي من الدُّنيا)(2) وقوله في الحُسين خاصَّة (حسين منِّي وأنا من حُسين)(3) وقوله (لمَّا عُرج بي إلى السَّماء وجدت مكتوباً على ساق العرش إنَّ الحسين مصباح هدى وسفينة نجاة)(4) وقول النَّبي (صلی الله علیه و آله) لابنته الزَّهراء(علیها السلام) عنه (يا فاطمة! إنّ نساء أُمّتي يبكون على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي، ويجدّدون العزاء جيلاً بعد جيل في كلّ سنة، فإذا كان القيامة تشفعين أنت للنساء وأنا أشفع للرجال، وكلّ من بكى منهم على مصاب الحسين أخذنا بيده وأدخلناه الجنَّة)(5).
وروي أنَّ (فاطمة الزهراء (صلی الله علیه و آله) ندبت ولدهاالحسين من قبل أن تحمل به، وقد ندبته بالغريب العطشان البعيد عن الأوطان الظامي اللهفان المدفون بلا غسل ولا أكفان، ثمَّ قالت لأبيها: يا رسول الله من يبكي على ولدي الحسين من بعدي؟ فنزل جبرئيل من الربِّ الجليل يقول: إنَّ الله تعالى يُنشىء له شيعة تندبه جيلا بعد جيل، فلما سمعت
ص: 311
كلام جبرئيل سكن بعض ما كان عندها من الوجل)(1).
وأمَّا الآخرون فإن كان لهم نصيب حسن من الذِّكر الحسن ففي العموميَّات الَّتي لا توصلهم إلى شيء منه إلاَّ بمستوى نهجهم على منوال ما يدعو إليه الإمام (علیهما السلام) ولذا ما قتلوا مجاهدين وشهداء إلاَّ من قبل أعداء الإمام (علیهما السلام) ممَّن تسلسل من أولئك السَّابقين إمَّا لاندماج خطِّهم الولائي بخط الإمام تماماً أو لقربه من خطِّه فلا داعي إلى شيء من التَّغيُّر في الذِّكريات تبعاً للقضيَّة الأم، ويكفيهم أنَّهم من مجموعة الشُّهداء السَّائرين على الخط الحُسيني أو قريبين منه وهذا هو الغاية في العز ولو في أواسط الزَّمان أو آخره لأنَّ قوم الأعداء هم أبناء أولئك الأقوام القدامى وكما في القول المعروف (القوم أبناء القوم) أو (الكفر ملَّة واحدة).
وأمَّا إذا أريد من التَّغيُّر هو عدم الحاجة إلى بعض الفعَّاليَّات لعدم الفائدة فيها أو أنَّ ضررها أكثر من نفعها أو أنَّه لم يظهر منها إلاَّ الضَّرر مع شرف الوحدويَّة الانتمائيَّة إلى الخط الحُسيني الواضح فنقول:_
بأنَّ هذه الفعَّاليَّات إن لم تكن لها علاقة بالذِّكرى الأساسيَّة فلابدَّ منتغييرها إلى ما به الأصالة من الذِّكريات.
وأمَّا إذا كان لها بعض العلاقة بالأساسيَّات أو تفرَّعت عن تلك الأساسيَّات ولكن في الإتيان بها ضرر ولم يغلبه النَّفع أو يصل إليه من دون أن يتحمَّل ذلك الضَّرر كحالات التَّقيَّة فهو ممَّا يدخل في باب الممنوعات من حيث الزَّمان غير المناسب أو الموقع أيضاً أو كلاهما
ص: 312
كذلك، ومتى ارتفعت التَّقيَّة وامكن الانتفاع فلا مانع من المداومة عليها.
وأمَّا تغيير ما يشتهيه الهوائيون أو الحزبيُّون والذِّكرى أصيلة فلا حقَّ لأحد بالتَّطاول عليها في مجالاتها المناسبة ولو بناءاً على فتوى من يجتهد في القضيَّة من فقهاء الأمَّة كوجهة نظر يراها في المنع غير ما يراه الآخرون ولم يكن رأيه حجَّة عليهم وإنَّما حجيَّته على خصوص مقلِّديه، ولا يحق لمقلِّديه التَّطاول على الأخرين من مقلِّدي الأخرين غير المانعين.
هذا كلُّه ما يرتبط بزماننا أيَّام الغيبة الكبرى الَّتي للفقهاء المهمِّين الحُسينيِّين اليد الطولى في تشخيص ما به تمام المشروعيَّة من عدمها لا ما تشخصه الأحزاب لعدم إمكان أن تقبل منهم الإفتاءات حسب الموازين الأصوليَّة.
نعم قد تكون بعض الذِّكريات الأصيلة ممَّا يُستغنى عنها أيَّام ظهور الإمام (علیهما السلام) وهو أمر لا حاجة لنا به الآن لأنَّه خارج عن التَّكليف الفعلي، لأنَّ مرجعه الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشریف) آنذاك، فذكريات الإمام (علیهما السلام) مطلقاً هي الخالدة بخلوده، ولذا قال الشَّاعر الحُسيني لتخليد ذكرياته حسب دون الأخرين.
لك بالطِّف يا بن أحمد يوم *** خلَّدته الأجيال جيلاً فجيلاوقال الأخر:_
كذب الموت فالحسين مخلَّد *** كلَّما أخلد الزَّمان تجدَّد
والله العالم.
ص: 313
س / ما المراد من مخاطبة الإمام الصَّادق (علیهما السلام) وغيره لجدِّه الإمام الشَّهيد أبي عبد الله الحُسين (علیهما السلام) في زيارته له بقوله (السَّلام عليك يا وارث آدم صفوة الله .... إلخ)، لعلَّنا نتعرَّف على سر من أسرار النَّهضة للإمام (علیهما السلام)، أفتونا مأجورين؟
ج/ بسمه تعالی
لا شكَّ بعد التَّأمُّل الجيِّد من قِبل من يريد الاطِّلاع على الحقائق المتعدِّدة بين عهد النبوَّة والرِّسالة المحمَّديَّة في الدَّعوة السريَّة إلى العلنيَّة ومعاناة النَّبي الرَّسول (صلی الله علیه و آله) من المشركين والمنافقين وفي التَّنصيص على أمير المؤمنين (علیهما السلام) بالخلافة والجعجعة بالزَّهراء (صلی الله علیه و آله) بعد وفاة النَّبي (صلی الله علیه و آله) وإلى قضيَّة كربلاء المُثلى في أحداثها التَّأريخيَّة كل في وقته إلاَّ أنَّها مترابطة ترابط حدث واحد ما انفكَّ أوَّله عن أخره وأخره عن أوَّله ولن ينفكَّ ما دام الدِّين واحداً في جوهره وأعيانه المعصومين (علیهم السلام) وكما ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو يخاطب سلمان وجندب (وأنا عالم بضمائر قلوبكم والأئمَّة من أولادي (علیهما السلام) يعلمون ويفعلونهذا إذا أحبُّوا وأرادوا لأنَّا كلُّنا واحد، أوَّلنا محمَّد وآخرنا محمَّد وأوسطنا محمَّد وكلُّنا محمَّد فلا تفرِّقوا بيننا)(1).
لكن حاول الأعداء محاولاتهم الخبوث للتَّفكيك فمهَّد له أسلافه وطبَّقه ووسَّعه من خلفهم، والأسلاف هم نماذج اختيروا من الجاهليِّين
ص: 314
دخلوا في الإسلام بلا رغبة فيه إلاَّ للنِّفاق والتَّآمر على مصير الحكم بعد النبوَّة والرِّسالة بشتَّى الوسائل المتاحة حتَّى بجساراتهم على نبي الرَّحمة (صلی الله علیه و آله) مراراً مستغلِّين قربهم منه بحجَّة كونهم من الصَّحابة أو المصاهرة السِّياسيَّة حتَّى نبَّههم النَّبي (علیه السلام) بما أخبره الله تعالى به عنهم بآية الانقلاب على الأعقاب وما في ذمِّهم في سورة الحجرات والمنافقين وغيرها وما اشتدَّت تآمراتهم إلاَّ بعد عقد الولاية والخلافة لأمير المؤمنين علي (علیهما السلام)في حجَّة الوداع في بيعة الغدير فتخلَّفوا عن الالتحاق بجيش أسامة ولعنهم النَّبي (صلی الله علیه و آله) لذلك فصنعوا الرزَّية يوم الخميس وقال قائلهم وهو الثَّاني بجرأته وجسارته لمَّا أراد النَّبي (صلی الله علیه و آله) أن يأتوه بالدَّواة والكتف (دعوه إنه يهجر فقد غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله)(1) والنَّبي هو الوحي الَّذي يوحى حتَّى طردهم وأبقى عليَّاً (علیهما السلام) وصيَّه وخليفته واجتمعوا للمآمرة التَّامَّة تحت السَّقيفة والنَّبي (صلی الله علیه و آله) على فراش الموت وبعد وفاته وأمير المؤمنين(علیه السلام) مشغول في تجهيزه كانوا يمارسون التَّآمر وبإصرار وتناول الأوَّل ما خطَّط له وأوَّل ما قام به جعجعته بالزَّهراء (صلی الله علیه و آله) وبحق زوجها الإمام وولديها (علیهم السلام) وحرمهم النِّحلة والميراث فطالبت بتلك الحقوق معلنة جهادها الشَّرعي في خطبتها المزعزعة لعروش الاغتصاب بخطبتها العظيمة الَّتي ما ذكرتهم إلاَّ بلسان وبيان وهدى أبيها العظيم الرَّاحل الباقي بعترته فطالبت بالميراث والنِّحلة الماليِّين لفدك والعوالي وحصتها من بيت النَّبي (صلی الله علیه و آله) وميراث النبوَّة في العلم والحكمة وبخطبتها
ص: 315
العظيمة الأخرى لنساء المهاجرين والأنصار وقد ورث سليمان داوود النبوَّة والعلم والحكمة والمال، ومن ذلك ألفاً من الخيل المسوَّمة على ما عُرف في التَّفاسير ثمَّ مهَّد الأول للثَّاني بعد ما جرعَّا الزَّهراء (صلی الله علیه و آله) بما لا يتحمَّل بيانه إلاَّ في اختصاره باقتحام دار أمير المؤمنين وعصرها خلف الباب وإسقاط جنينها محسناً وكسر ضلعها حتَّى استشهادها حتَّى مات الأوَّل ودفن في حصَّة من حصص الزَّهراء (صلی الله علیه و آله) وبقي الثَّاني مصرَّاً على هذا المنوال بل الأكثر ومهَّد للانفصال عن حقِّ أمير المؤمنين (علیه السلام) الكامل المستقبلي بعد الَّذي أجروه ضدَّه من المآسي الضِّخام سابقاً حتَّى في جعله خليفة رابعاً بجعله يزيد ابن أبي سفيان والياً على الشَّام ومن بعد وفاته جعل أخاه معاوية والياً عليها وبعد ما عرف من شكاوى الشَّاميِّين على معاوية لسوء تصرفاته قال دعوه أنَّه كسرى العرب كل ذلك لإصراره على بقاءه على ما خطَّط للأمويِّين وغيرهم ضدَّ أمير المؤمنين وأبناءه (علیهم السلام) وهم يعلمون ما هو المقصود من قولهتعالى «وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ»(1) وغيره حتَّى قُتل الثَّاني وتلا الثَّاني الثَّالث الأموي المسند المهم لقوى معاوية وبني مروان بعد قتل الثَّاني ودفنه في بيت النَّبي (صلی الله علیه و آله) الَّذي ترث منه الزَّهراء (علیها السلام) كذلك، ولذلك وأمثاله عرف عن عبد الله ابن عبَّاس قوله مخاطباً المرأة (عائشة) بعد إعلانها الحرب لأمير المؤمنين (علیه السلام) مع طلحة والزًّبير المسبوق بمطالبتها لعثمان أيَّام ما كان بالإرث "واسوأتاه يوماً على جمل
ص: 316
ويوما على بغل"(1)، وفي رواية يوماً تجملت ويوماً تبغلت وإن عشت تفيلت، فأخذه الشَّاعر الحسين بن الحجاج البغدادي فقال
يا بنت أبي بكر *** لا كان ولا كنتِ
تجمَّلت تبغَّلتِ *** ولو شئت تفيَّ_لتِ
لك التِّسع من الثُّ_ *** _من وبالكل تملَّكتِ
ومن هنا بدأت شدَّة مشاكل الأمويِّين والخوارج بعد النَّاكثين والمرأة حينما بويع أمير المؤمنين بعد مقتل عثمان وانتصر أمير المؤمنين (علیه السلام) كما انتصر أمير المؤمنين (علیهما السلام) كذلك على معاوية ثمَّ بدت فتنة المصاحف والتَّحكيم وكشف عمرو ابن العاص عورته وبقي معاوية متمرِّداً على الإمام (علیهما السلام) في الشَّام مؤيِّداً للروم ضدَّ الإسلام لأنَّ مستشاره آنذاك كان سرجون يُخطِّط بواسطته لولده يزيد كما كان معه يُخطِّط لتسُّلطاته ومكائده السَّالفة.
وبعد انتصار أمير المؤمنين (علیهما السلام) على الخوارج تمَّت مؤامرة معاوية مع من تخلَّف من الخوارج على أمير المؤمنين (علیهما السلام) وإن لم يسلم من ذلك حتَّى معاوية بالجرح في فخذه فقتل ابن ملجم المرادي الإمام (علیه السلام) وبدأت قضيَّة محاولة محاربة الإمام الحسن الزَّكي (علیهما السلام) لمعاوية بالجمع غير المتكافئ إلاَّ من شذَّ من بعض الصَّامدين إن تمَّت المؤهلات، ولذلك وبعد الورطة وخيانة عبيد الله ابن العبَّاس وبرشوة له قدرها مليون درهم معجلُّها النِّصف من معاوية، ولعلَّ في ذلك تمهيد بطيء غير بيِّن من معاوية لو لم يتمكَّن
ص: 317
الأمويُّون في الاستمرار على الحكم أن يتناوله العبَّاسيُّون بُغضاً للعلويِّين ولو براً في العلاقة القديمة بين أبي سفيان والعبَّاس وإن لم يكن مقصوداً بصراحة تامَّة، ولذلك كان الشَّاعر الموالي يقول عن الأمويِّين:
أمّا الكتاب فمزَّقته أميةٌ *** والعترة الهادون أضحوا صرَّعا
والموالي الأخر عن العبَّاسيِّين:_
تالله ما فعلت علوج أميَّة *** معشار ما فعلت بنوا العبَّاس
لأنَّ الكفر ملَّة واحدة، إذ لا قيمة لبعض المظاهر الإسلاميَّة النِّفاقيَّة الجوفاء.
فقبل الإمام الحسن (علیه السلام) ما سمَّاه معاوية وقومه صُلحاً بناه على شروط عديدة محرجة لم يف بها معاوية، بل صرَّح بعدم الوفاء بشيء من شروطها جاعلاً لها كلُّها بوقاحته تحت قدميه وشتم هذا المنافقبل المتجاهر بكفره بعد ذلك أمير المؤمنين (علیه السلام) كعادته.
وبهذا اتَّضح أنَّ من حكمة الإمام المجتبى (علیه السلام) فيما مضى من عمله أنَّه مهَّد لنهضة أخيه الإمام الحسين (علیه السلام) للزَّمان والمكان والوجه الأنسب، وثبت أمام الملأ وبعض أهل البصائر والمنصفين مدى خيانة ومخادعات معاوية وبما لم يفعله حتَّى أصحاب صلح الحُديبيَّة أيَّام النَّبي (صلی الله علیه و آله)، بل تمادى معاوية فخطَّط لولده الوغد الطَّائش الفاسق الفاجر الكافر يزيد ليكون غاصباً إضافيَّاً لميراث النَّبيِّين والأئمَّة "سلام الله عليهم أجمعين".
حتَّى جاء دور التَّزاحم بين قطبي الإيمان والكفر وهما الإمام الحُسين (علیه السلام) العظيم وعلج العلوج يزيد ابن معاوية، ومن موقع المسؤوليَّة
ص: 318
الشَّرعيَّة مع صفوة الأصحاب والأهل رأى الإمام (علیه السلام) ما يتناسب ووظيفته الجهاديَّة كما قال الشَّاعر الموالي:
فما رأى السِّبط للدِّين الحنيف شفا *** إلاَّ إذا دمه في كربلا سفكا
والمواريث بكلِّ معانيها أمانة لا يُبر بها حقِّ برِّها إلاَّ من جعلت له ووصلته بالعهد المعهود خلفاً عن سلف، وكما ورد في قوله تعالى لإبراهيم «قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ».
والإمام الحسين (علیه السلام) من تلك الذريَّة العادلة الفاخرة الَّتي عهد إليها الفوز العظيم بهذه الوظيفة الشَّريفة ومن الشَّجرة الطِّيبة المتَّصلة بجدِّه إبراهيم الخليل (علیه السلام) في الأصلاب الشَّامخةوالأرحام المطهَّرة وكما قال تعالى عن جدِّه المصطفى (صلی الله علیه و آله) «وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ»(1)، ولأجل ذلك اتَّسعت الفضيحة وبانت الهوَّة الشَّنيعة على الأعداء بما لا يمكن ولن يكون أي تناسب بين القطبين، لأنَّهم من أرجاس الشَّجرة الملعونة.
ومن قرأ زيارة وارث من أوَّلها إلى أخرها وغيرها من الزِّيارات الأخرى المشابهة للإمام الحُسين (علیه السلام) وللأخرين من الأئمَّة (علیهم السلام) لعرف أنَّ بداية التَّوريث كانت من زمن آدم (علیهما السلام) حتَّى نبيِّن (صلی الله علیه و آله) ومن بعده خليفته أمير المؤمنين(علیه السلام) والزَّهراء(علیها السلام) حليلته وبضعة النَّبي (صلی الله علیه و آله) والحسن المجتبى (علیه السلام) ثمَّ الوارث العظيم الإمام الحُسين (علیهما السلام) ومن بعده أبناءه حتَّى الإمام الحجَّة المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، وقد ذكر المؤرِّخون التَّشابه التَّوارثي بين القديم
ص: 319
والأخير في أسرة أهل البيت (علیهم السلام) في أكثر من معنى حتَّى في المآسي الَّتي قاسوها حتَّى ما بين الحوراء زينب (صلی الله علیه و آله) وبين أمِّها الزَّهراء في خطبها الجهاديَّة الفعَّالة وفي المآسي كذلك، فقال الشَّاعر الموالي السيِّد رضا الهندي (رحمة الله):
بأبي الَّتي ورثت مصائب أمِّها *** فغدت تقابلها بصبر أبيها(1)والله العالم.
س / لماذا التَّنوُّع في أصحاب الحُسين (علیه السلام) ومنهم القريب ومنهم البعيد في الحسب والنَّسب ومنهم الحر ومنهم العبد ومنهم الصَّحابي ومنهم التَّابعي ومنهم المخالف كالعثماني ومنهم الأسود ومنهم الأبيض ومنهم النَّصراني ومنهم الصَّغير والكبير ومنهم المكلَّف وغيره ومنهم من سقط عنهم الجهاد كالمرضى والنِّساء والهم الكبير، وكلُّهم متفانون في الدِّفاع عن الإمام (علیه السلام) وبمستوى واحد؟
ج/ بسمه تعالی
لا يستحيل أن تدرك الهداية أصحاب الهوايات والهويَّات المتفاوتة والمشارب المتخالفة والدِّيانات المتضاربة وأهل القدم في الدِّين والعمق فيه وأهل السَّطحيَّة فيه وهكذا من أدركته الهداية في اللَّحظات الأخيرة ومن كان منصرفاً عن المشاركة مع الإمام (علیه السلام) لشبهة ونحوها ثمَّ اهتدى بمجرَّد
ص: 320
رؤية الإمام (علیهما السلام)المسلَّم في أصالته متحيِّراً كيف يصنع مع الأمَّة المتخاذلة عن إنقاذ ولِّي أمرها للدَّوافع المتعدِّدة وبالمستوى الواحد ولو في نهاية ما وصلوا إليه لإمكان أن يُنقذ الإنسان نفسه من مجرَّد معرفة التَّحيُّر عند الإمام (علیهما السلام) بسبب الحصار ولو بلحظة واحدة ومن مجرَّد المستوى الفطري الإنساني بل سبب ذلك الرِّقَّة منهم على الإمام (علیه السلام) ومن معه ومنهم الأطفالحينما حورب (علیه السلام) بمحاصرته ومنعه عن ماء الفرات لثلاثة أيَّام وفي الحر الشَّديد وبالأخص عند اطلاق الأعداء الحريَّة للحيوانات السَّائبة بل حتَّى الكلاب والخنازير ولم يُعطوا الإمام (علیه السلام) قطرة واحدة حتَّى للأطفال، وممَّا تحرَّكت لأجله بعض إنسانيَّات جيش العدو وممَّا أبكى بعضهم مع مدى قساوتهم المعروفة فأراد بعضهم سقي الإمام المضرَّج بالدِّماء بل كادت أن تقع الفتنة لمَّا عرض الإمام عليهم ولده الطِّفل الَّذي يتضوَّر عطشاً حيث قال بعضهم لوماً للأخرين منهم (إذا كان ذنب للكبار فما هو ذنب الصِّغار) ولذلك وردت هداية بعض الأفراد منهم متسلِّلين إلى مجموعة الإمام (علیه السلام) لنصرته وإلى حد إن لم يدرك بعض الأخرين منهم المعركة لمَّا وصلتهم الواعية ممَّن كان بعيداً ومتأخِّراً متأسِّفين والهين داعين بالويل والثُّبور.
وهذا التَّنوُّع لم يكن في أساسه حادثاً إلاَّ من سيرة جدِّه النَّبي (صلی الله علیه و آله) ومن بدايات الدَّعوة إلى الإسلام العزيز والإيمان الثَّابت، لأنَّ المبدئين إن سلم القلب معهما من أحد المتغايرين في اللَّون أو القوميَّة أو العنصريَّة أو في الهجرة أو النُّصرة أو الحريَّة أو العبوديَّة ونحو ذلك فلا يضر فيهما أي من التَّغاير ولذلك آخى النَّبي (صلی الله علیه و آله) بين أصحابه ونجح فيمن ثبت إسلامه
ص: 321
وإيمانه منهم.
ولذلك وردت الآيات ودلَّت الرِّوايات الَّتي تحث على الألفة الدِّينيَّة والإيمانيَّة وعلى المستوى الَّذي خطَّط له النَّبي (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الأطهار (علیهم السلام) وبما لم يقل عن مستوى الأخوة الصَّادقة الفدائية بين أنصار الإمام الحسين (علیه السلام) أو من فدى النَّبي (صلی اللهعلیه و آله) وقيم الدِّين قبل ذلك في الحروب السَّابقة مهما كان من التَّفاوت الَّذي عرف عنهم بل فضل أصحاب الإمام (علیهما السلام) عليهم كما سيجيء، ومن تلك الآيات المشجِّعة على ذلك قوله تعالى «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»(1) وقوله «وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ»(2) بمعنى أنَّ الآية لم تعبأ بشكليَّات الفوارق المذكورة ما دام الجوهر الإيماني ثابتاً، وقوله «وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ»(3) وهذه الآية كسابقتها وقوله تعالى «مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا»(4) وهو بالمعنى الَّذي لم يفرق بين التَّفاوتات المذكورة، وقول النَّبي 2 (أيها الناس! إنّ ربكم واحد، وإنَّ أباكم واحد، كلّكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربيِّ على عجمي
ص: 322
فضل إلاّ بالتقوى)(1) وقوله (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضها بعضاً)(2) وهو ما معناه أيضاً عدم التَّفريق المذكور، ومثله قوله (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرالجسد بالحمى والسهر)(3) وقوله أيضاً (إنَّ النَّاس من آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط، لا فضل للعربي على العجمي، ولا للأحمر على الأسود إلاَّ بالتقوى)(4) وقول الشَّاعر على نهج القرآن والسنَّة والسِّيرة:_
لعمرك ما الإنسان إلاَّ ابن دينه *** فلا تترك التَّقوى اتِّكالاً على النَّسب
فقد رفع الإسلام سلمان فارس *** وقد وضع الشِّرك الشَّريف أبا لهب
ولذلك شاء الله تعالى أن يجمع أصحاب الإمام (علیه السلام) في كربلاء على الشَّاكلة الَّتي وردت في السُّؤال وفيما بينَّاه بعد ذلك لإنجاح ما خطِّط له النَّبي (صلی الله علیه و آله) فيما أعد لسبطه الحسين (علیه السلام) من المجموعة الَّتي فضلت على تفاوتاتها لحسن العاقبة الكاشفة عن حسن البداية وسلامة الفطرة حتَّى على أصحاب بدر من الشُّهداء وكما قال الإمام (علیه السلام) (لم أر أصحاباً مثل أصحابي ولا أهل بيت أبر وأتقى من أهل بيتي) فإن لم يكن الَّذين آخى النَّبي (صلی الله علیه و آله) فيما بينهم ناجحاً لتمرُّد الكثيرين من أهل النِّفاق وبقايا
ص: 323
العصبيَّة الجاهليَّة والمرتدِّين والمتآمرين على مستقبل الإسلام حتَّى باسترخاص جعله كالكرة بيد الصِّبيان لتفضيلهم القوميات العربيَّة أو النَّوعيَّات الخاصَّة من العشائريَّات كالتَّيميَّة أو العدويَّة أو الأمويَّة أو الأنحاء الخاصَّة من القرشيَّة دون الهاشميَّة العلويَّة، لأنَّ أمير المؤمنين (علیه السلام) وشجعان أسرته حظى وحظوا معه في الإسلام بقتلالمتمرِّدين من أعداءه من أسلافهم وقرَّب المؤمنين من الأعاجم والعبيد والعناصر الأخرى على عروبتهم الجرداء إلاَّ في البعض النَّادر من العروبة الجامعة وكما قال تعالى «وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ»(1) وغيره فقد صحَّ في ثلَّة من أصحاب الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وثلَّة من أصحاب الإمام الحسن (علیه السلام) والثلَّة المحسوب لها حسابها الإسلامي الإيماني المثالي من أهل البصائر الَّذين أراهم الإمام (علیه السلام) مواقعهم في الجنان الخالدة وكان لم يُفرِّق بين العبد جون وبين ولده علي الأكبر فقبَّل كلاًّ منهما بعد استشهادهما ووضع خدَّه الشَّريف على خدِّ كلٍّ منهما، وكما بارك لهم النَّبي (صلی الله علیه و آله) قبل وقوع الأمر بالعلم من الله سابقاً لأنَّ (الإسلام حسيني الخلود والبقاء).
فلا ضير بأن يكون معيار ما بعده من الانتشار الدِّيني التَّشيُّعي والتَّوسعي على المستوى الحسيني الصَّادق لأنَّ هذا المستوى الحسيني هو نفسه المستوى المحمدي النَّاجح في انتصار الدَّم على السَّيف وللأهداف السَّامية الَّتي اتَّضحت بعد ذلك شيئاً فشيئاً واتَّضحت خسَّة الأعداء وإلى هذا الحين وبما هو أكثر وأشد، وكأنَّ المعوَّل الأهم صار على هذه النَّهضة
ص: 324
المباركة مع الصَّفوة الممتازة على قلَّة العدد والعدَّة وخذلان النَّاصر ما دام النَّبي (صلی الله علیه و آله) قد صحَّ عنه ومن أقواله (بُدئ الإسلام غريباً وسيعود غريباً)(1) وإنَّ من أوَّل حالات الغربة هي حالة الالتجاء إلىمقاومة الأعداء الدِّفاعيَّة على تأويل القرآن بعد ما كانت على تنزيله بل حتَّى على تنزيله لنزو أمثال صبيان الشَّجرة الملعونة في القرآن والطلقاء من الأمويِّين والمروانيِّين الطَّريدين على منابر المسلمين، فصمَّم (علیهما السلام) على مواجهة الحتوف ومقاومة الألوف بما لديه من يسير العِدَّة وذلك العدد القليل المعروف، ولذلك قال السيد جعفر الحلي (رحمة الله):_
قد أصبح الدِّين منه(2) يشتكي سقماً *** وما إلى أحد غير الحسين شكا
وقال الآخر على لسان الإمام (علیه السلام):_
إن كان دين محمَّد لم يستقم *** إلاَّ بقتلي يا سيوف خُذيني
وإلى حدِّ مواجهة أنواع جديدة من الغريبات عن الدِّين الأصيل وقيمه معاندين مع قوَّة انتصار المد الحُسيني العظيم مثال جدِّه وأبيه وأمِّه وأخيه "سلام الله عليهم أجمعين" فأصرُّوا على اعتزازهم بالعروبة ضدَّ صميم الإسلام والإيمان بغضاً لمن والى عليَّاً أمير المؤمنين (علیه السلام) من غير العرب كسلمان المحمَّدي (دام ظله) وغيره من الطَّبقات المتفاوتة في الشَّكليَّات
ص: 325
الأخرى.
مع أنَّ علماءهم أكثرهم من القوميَّات الأخرى ممَّا يستدعي منا ممارسة الجهاد الإسلامي الثَّقافي الأكثر والإصرار عليه لنصرة الحقوالحقيقة الولائيَّة ومواجهة أباطيلهم بالرَّد الهادم لما بناه أسلافهم من التَّلفيقات والوضعيَّات والأكاذيب المنقوضة من كتبهم المسمَّاة بالصِّحاح وغيرها دعماً لصفاء ونقاوة مبادئنا الولائيَّة ونبذاً للفوارق الَّتي طالما حرَّمها وحاربها النَّبي (صلی الله علیه و آله) في كتاب الله وفي السنَّة الشَّريفة والسِّيرة المنيفة.
والله العالم.
س / ماذا يرى سماحة السيِّد المفدَّى في أمر مثل أعتى الظلمة والطغاة وأهل النَّزق والفسق والفجور وأهل الكفر النِّفاقي الَّذي لم يعرف الجديَّة العقلائيَّة الموزونة يوماً، بل أهل التَّجاهر بالكفر الموروث من الآباء وغيره كيزيد ابن معاوية شبيه أخواله كذلك؟
فهل يُعقل أن تشمله التَّوبة بعد ما روي أنَّه ندم على جرائمه ضدَّ النَّبي(صلی الله علیه و آله) في سبطه (علیه السلام) بعموم واطلاق أدلَّتها في القرآن والسنَّة وغيرهما، وبالخصوص بعد ما ورد بأنَّ من أدرك ثواب صلاة الغفيلة لابدَّ أن تشمله فائدتها، وبالأخص أيضاً أنَّه ورد بأنَّ (لله رحمة يوم القيامة يطمع فيها حتَّى إبليس "لع")، ولا أقل لو كان الأمر في مثل يزيد
ص: 326
"لع" أنَّه داخل في بقعة إمكان ذلك وعدم الاستحالة؟
فعلى فرض تحقُّق شيء من ذلك ولو احتمالاً أو تحقيقاً إن صحَّت التَّوبة المعروفة فقهاً وأخلاقاً فهل يُحقِّق بقاء الدَّاعي للموالي في ترتيب آثار البراءة من الأعداء بقاءه في غيضه على يزيد ومن معه ولعنه لهم دوماً أم لا؟ج/ بسمه تعالی
لا يمكن إنكار أنَّ هناك عمومات وإطلاقات في آيات القرآن الكريم وسنَّة نبيِّه(صلی الله علیه و آله)المحفوظة في أذهان وعلى ألسنة عترته (علیهم السلام) الَّتي ما جاءت إلاَّ رحمة للعلمين جميعاً.
وفي تلك العمومات والإطلاقات جاءت حالات إمكانيَّة جمع الشَّمل لأكبر عدد ممكن للأمَّة المرحومة بعفو خالقها وعطف نبِّيه (صلی الله علیه و آله) صاحب الخلق العظيم وعدم التَّفريق بين طبقات من انضوى تحت لواء هذه الأمَّة مبدئيَّاً على اختلافها من المسلمين ومنهم المنافقون وفيهم الطلقاء ومن المؤمنين المتَّصفين بالإيمان المستودع والآخرين الثَّابتين في إيمانهم وعلى اختلاف درجاتهم بمساواتهم في الحقوق والواجبات ما دام الأمر مرتبطاً بالحكم على الظواهر، ومن ذلك عفو النَّبي (صلی الله علیه و آله) عن قاتل عمِّه حمزة سيِّد الشُّهداء في أحد إلاَّ أنَّه أبعده عن وجهه الشَّريف وقبول إسلام آكلة الأكباد، ومن ذلك قوله بعد فتح مكَّة (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن) مع أنَّه (صلی الله علیه و آله) يعرف مدى نفاق هذا الأموي وقال لأسرى المنافقين قبل إسلامهم (اذهبوا فأنتم الطلقاء).
بل جعل للأقليَّات غير المسلمة من المصالحين والمهادنين والحلفاء
ص: 327
حقوقهم الإنسانيَّة، ولذلك اهتدى الكثيرون منهم، بل أزاد من رحمته عفوه عن كل ما سلف من جرائم ما قبل إسلام المهتدين إلى الإسلام وجعل لذلك قاعدة كمبنى عام لكل من يمر بهذه المرحلة وهي قاعدة(الإسلام يجب ما قبله).
وهكذا كانت سيرة الأئمَّة (علیهم السلام) بعد النَّبي (صلی الله علیه و آله) كما ورد عن زين العابدين (علیهما السلام) قوله (لشيعته: عليكم بأداء الأمانة، فو الذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً، لو أن قاتل أبي الحسين بن علي بن أبي طالب (علیه السلام) ائتمنني على السَّيف الَّذي قتله به، لأدَّيته إليه)(1).
والأقوال المأثورة من هذا القبيل كثيرة جدَّاً لا حاجة إلى الإطالة بها لكن بعد دخول الإسلام في استسلام أو إقبال تام أو دخل في فطرته أحد بين أبوين مسلمين فطريِّين أو أسلما وولد ما بينهما أو من أب مسلم أو أم كذلك وارتدَّ فطريَّاً أو مليَّاً غلظ الأمر عليه لحرمة الإخلال بالنِّظام، ومن هنا تبدأ المشكلة من أعداء الله المنافقين والمرتدِّين فيما يُثار علينا من شُبهاتهم وشُبهات محبِّيهم وأنصارهم حتَّى اليوم.
فإنَّ من درس حياة الظلمة والطُّغاة _ ومن نافق أو تجاهر بالكفر أو الارتداد منهم بعد نفاقه وتتبَّع أخبارهم الَّتي سوَّدت وجه التَّأريخ بشتَّى الممارسات عن سبق إصرار وتخطيط مسبق منه ومن غيره له حتَّى نهاية حياته وبما لا يتناسب مع غير مدى جرثومة الكفر والانحراف وحُب الاستعباد للآخرين ولو على أشلاء من آلاف الضَّحايا أو ملايينها كيزيد
ص: 328
ابن معاوية _ لم يجد بُدَّاً من لزوم الاعتقاد بكونه بعد اعتقاد أنصاره وأعوانه المخالفين والنَّواصب بأنَّه كان محسوباً من المسلمين أو عليهم وبناءنا على ذلك كذلك على نهج قاعدة الإلزام في بعض الحالات وثبوت إتيانه بشتَّى جرائمه المعروفة بين المؤالف والمخالف بكونه لا مجال لأن يُعفى عنه لارتكابه ما يزيد على مرتكبي الكفر والارتداد ولو لأجل حق أهل الدِّين والإنسانيَّة المعتقدين بإمامة وسمو كرامة سيِّد الشُّهداء (علیهما السلام) ومن معه من الأهل والأصحاب والسَّبايا الَّذين يحملون في عقيدتهم علو الأمانة الإسلاميَّة الَّتي بيد إمامهم أبي عبد الله الحُسين (علیه السلام) بعد فقد جدِّه وأبيه وأمِّه وأخيه "سلام الله عليهم أجمعين" في طول التَّأريخ وعرضه للجهة النَّوعيَّة في خسارتها العظمى دون النَّاحية الجزئيَّة الَّتي يمكن أن تغفر أو يعفى عنها حتَّى إلهيَّاً لما عُلم بأنَّ الإسلام لمَّا كان (محمَّدي الحدوث وفاطمي الابتلاء وعلوي البناء وحَسني التَّمهيد فهو حُسيني البقاء والخلود) بحيث لو أمكن القول بإمكان العفو والغفران عن جميع المجرمين والمفسدين في الأرض مطلقاً لضاعت القيم النَّوعيَّة عقيدة وعملاً ولجاز التَّساهل في التَّمسُّك بها حتَّى لو يُسبِّب ذلك اختلال نظم الحياة الَّتي لها ثوابتها الَّتي لن تنثني كتمرُّد إبليس "لع" على الله وعلى آدم حتَّى أصبح ملعوناً طول الدَّهر وجرأة قابيل وقتله لأخيه الَّتي ما انفكَّت اللَّعنات عنه إلى نهاية العالم حتَّى جعل قانون الحياة في قوله تعالى «مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ
ص: 329
جَمِيعًا»(1) حتَّى لو قيل بأنَّ الحق الخاص يمكن أن يُسبِّب عفواً عن القاتل بالتَّنازل من مثل الإمام زين العابدين (علیهالسلام) جدلاً عن قاتل أبيه فإنَّه مضافاً إلى عدم إمكان ثبوته عقلاً ونقلاً وإنسانيَّة كيف يُقاس الطَّود الشَّامخ في أنواع عظمته وأنواع العِظام من رهطه أقارب وأصحاب وسبايا العائلة ومن معهم ومصير الأمَّة المحمَّديَّة المرحومة بكاملها بهذا النَّاموس الأعظم سبط النَّبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) بالرِّجس الأموي النِّجس وحثالته وإن قَبل الإمام المفدَّى (علیهما السلام) شخصيَّاً لا مجال لتنفيذ حق الولاية العامَّة بذلك وإن كان من حقِّه في الأمور الَّتي لا تُسبِّب اختلالاً في النُّظم والنَّواميس العامَّة، لأنَّ الإمام (علیهما السلام) يعرف ما في نفوس جميع الموالين بأنَّها لن ترض لو خُليَّت وطبعها الولائي عن هذا الرِّجس النَّجس وإلاَّ كيف صار الإمام الحُسين (علیه السلام) ثار الله وابن ثاره وكيف صار الوتر الموتور وكيف يكون الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) الثَّائر هو الطَّالب بالثَّأر من قتلة الإمام (علیه السلام) ومن أسلافهم وفي نصوص شريفة عديدة.
ولأنَّ الظلم كما في الخبر المشهور (ثلاثة ظلم لا يُغفر وهو الشِّرك بالله) وهو ثابت في نفس وعقيدة يزيد المنافق بل المشرك جهاراً في ذاته على أقل تقدير وهو القائل في وقاحته لمَّا جيء له برأس الإمام (علیه السلام) وصار آخذاً يضربه بعود الخيزران:_
ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلُّ_وا واستهلُّ_وا فرحاً *** ثمَّ قالوا يا يزيد لا تُشل
ص: 330
لست من خندف إن لم أنتقم *** من بني أحمد ما كان فعل
لعبت هاشم بالمُلك فلا *** خبر جاء ولا وحي نزل
و(ظلم يُغفر) وهو ظلم العبد لنفسه حينما يكون مطبِّقاً للآية الكريمة وهي قوله تعالى «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى»(1) حتَّى يُدركه الموت مطيعاً غير عاص، وهو غير ثابت عنه أي شيء من ذلك، وإن قال المتزلِّفون للباطل من أعوانه أنَّه أدركته النَّدامة بعد قتل الإمام (علیه السلام) لكن لم يثبت أي شيء من ذلك بعد إحراق الكعبة بالمنجنيق وإباحة المدينة الصَّادرين بعد كارثة الطَّف تباعاً سنة بعد سنة حتَّى وفاته.
إلاَّ أن يُقال عند ادراك النَّدامة الجوفاء منه أنَّه ممَّا ينطبق عليه قوله تعالى «كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا» إذا كان لسان حاله المشلول بعد الجرائم الكبرى الَّتي أوقعها يقول «قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ»(2)، لأنَّ النَّتيجة العمليَّة إذا صارت بعد الإرجاع تكون كما قال تعالى بإخباره الثَّابت عن حال هذا الإرجاع وأصحابه وهو العالم بدفائنهم الخسيسة كيزيد «بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ»(3)
(وظلم لا يُترك وهو ظلم النَّاس بعضهم بعضاً) وهذا النَّوع هو
ص: 331
الثَّابت الموجود والمتواتر المشهود في هذا الوغد بما لا مجال لإنكاره وبنحوالإفساد الشَّنيع في الأرض كذلك في أعماله السَّابقة المذكورة الَّتي لا يمكن فيها أيضاً أي مجال للعفو والصَّفح حتَّى لو عفى كل أولياء الأمور من الأئمَّة (علیهم السلام) كالسجَّاد (علیه السلام) ومن بعده ممَّن لم نفترض أنَّهم مضغوط عليهم من سلطات الجور في زمانهم وغيرهم من بقيَّة أولياء أمور الآخرين من عوائل الشُّهداء في باب الحق الشَّخصي.
لأنَّ الحق النَّوعي الإلهي الَّذي ذكرناه وانتشار حقوق اللوعات الشِّيعيَّة الولائيَّة لكافَّة أبناء الأمَّة في طول التَّأريخ وعرضه لن يسمح أبداً بسقوط هذا الحق، بل الحق النَّوعي العام حاكم حتَّى على الحقوق الخاصَّة في خصوص هذه الكارثة العظمى، وفرض المحال وإن كان ليس بمحال فهو في المقام ليس له مجال.
لأنَّ الله الَّذي فرض على الأمَّة إمامة هذا الإمام المفدَّى (علیه السلام) وأوجب على الأمَّة الاعتقاد به فالحق عليه أن لا يُضيع أمره من عقيدتهم فيمن أمرهم باتِّباعه فلهم الحق أن لا يرضوا إلاَّ بالاقتصاص النَّوعي من يزيد "لع" وممَّن قد سبَّب فيه ذلك ومن كان على نهج حزبه قديماً وحديثاً وكما قال تعالى «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا»(1) وغيره ولا أقل من جواز لعنه ومن معه بل استحبابه كما في زيارة عاشوراء وغيرها، بل لزوم ذلك وإلاَّ تكون الزِّيارة المؤكَّدة منقوصة.
وإذا أراد الله أن يعفو في واسع رحمته ولا رادَّ لحكمه كما لو قيل في
ص: 332
يوم القيامة وإن استحال بالنَّظر الدَّقيق لدقَّة حساب يوم القيامة وعلىالموازين العادلة التَّامَّة فلابدَّ أن يكون في غير هذا المورد، لأنَّ المورد يتعلَّق في الدُّنيا بالموازين العادلة حسب الدستور القرآني والسنَّة الشَّريفة والسِّيرة المنيفة، ولعدم إمكان الخلط في المعايير الإلهيَّة العادلة الَّتي عُرف بها تعالى في هذا الكون وما بعده.
وأمَّا فيما يتعلَّق بأمر صلاة الغفيلة والدَّيمومة عليها من قِبله فإنَّ الإمام السجَّاد (علیه السلام) أجاب عن ذلك بأنَّه لم يُوفَّق إلى الاستفادة منها.
وفي الختام أقول بعد هذا المقدار من العلم اليقيني الصَّريح _ بضخامة الجرائر المتنوِّعة الَّتي ارتكبها كالشِّرك السَّلفي أو النِّفاق الدَّفين الَّذي انكشف بهذه الفضائع وما انطوى عليه الشِّرك من سوء السَّريرة وفضاعة السِّيرة وظلم الأمَّة بكاملها محاربة لنبيِّها (صلی الله علیه و آله) ودستورها ودينها بقتل الإمام (علیهما السلام)وإحراق الكعبة وإباحة المدينة _
لماذا إصرار بعض المخالفين ومن وراءهم الوهابيُّون ومن سبقهم من السَّلفيِّين على إثارة أمثال هذه الأسئلة غير منقطع حول من لم تتغيَّر صفحة اسوداد تأريخ حياته في هذه الأمور وغيرها إلاَّ إلى ما هو الأشد وهو ما يُراد منه البقاء استهتاراً على محاربة جوهر الإسلام الأصيل وطمس أعلامه من خلال الفتك بهم وتمزيق شعائرهم وأعلامهم الخفَّاقة حتَّى في القبول بانتصار الدَّم على السَّيف كما قدَّر الله حيث قال «يَا أَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ»(1)، بل ما تركوا
ص: 333
الأمر حتَّى قال قائلهم كشريح وابن تيميَّة وابن عربي (إنَّ الحُسين قُتل بسيف جدِّه) وتلاقف هذه التَّمويهات من تلاهم من شُذَّاذ الآفاق وممَّا لا يمكن تجرُّع هذه السُّموم إلاَّ على أساس إرادتهم من ذلك هو اعترافهم كأسيادهم بما مضمونه (بأنَّنا انتصرنا على محمَّد (صلی الله علیه و آله) الَّذي ادَّعى النبوَّة فحاربناه وانتصرنا عليه وأخذنا سيفه ومنبره وملكه وأرجعنا الأمر لنا كما كان ولو بالصِّبغة الإسلاميَّة السَّطحيَّة الَّتي قبلنا بها مكرهين)، ولكن نقول أيضاً «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ»(1).
والله العالم
ممَّن ساهم في قتل الإمام الحُسين (علیه السلام) تسبيباً أو مباشرة وغير ذلك
س / ما رأيكم في نظريَّة عدالة الصَّحابة القائلة بأنَّهم جميعاً من مستوى عادل واحد لتُقبل أعمالهم كلُّها وهي متفاوتة، ومع ثبوت أنَّ بعضهم كان مشاركاً مباشرة أو تسبيباً في قتل الإمام الحُسين (علیه السلام) وأهل بيته وأصحابه وسبي عياله، أفيدوناجزاكم الله عنَّا خير الجزاء؟
ج/ بسمه تعالی
إنَّ خلاصة المعنى اللُّغوي لكلمة الصَّاحب في القواميس اللُّغويَّة بأجمعها وإن كانت المصاحبة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) من قبل من عاش معه من
ص: 334
قريب أو بعيد ودنوا وابتعاداً بأجمعهم فيها لهم الشَّرف العظيم والدَّاعي للغبطة واغتنام الفرصة للمزيد من الاستقامة وبالأخص من كان يؤذيه ويؤذي عترته ويتآمر عليه ويُنافق ضدَّه لو كانوا يعقلون _ تقول ما مضمونه أنَّه يجمع المحب والعدو، دون أن تكون للمصاحبة أي موضوعيَّة أخرى عن طريقها تبرر فيه المصاحبة أي تجاوز على أي مسلم أو إنسان فضلاً عن المؤمن والأكبر كقادة الإسلام من المعصومين كالنَّبي (صلی الله علیه و آله) والإمام (علیه السلام) وغيرهما من العترة أو الحواري.
وقد فصَّل القرآن الكريم ذلك في كثير من الآيات، بل بعض منها كانت خاصَّة في هذا الأمر كسورة المنافقين وغيرها بين المؤمن منهم وغيره من عموم المسلمين وبين المؤمن التَّام وبين المنافق الدَّفين ومنهم عيون المشركين واليهود سرَّاً من الَّذين قربَّهم بعض من يُسمَّون بالصَّحابة المقرَّبين ككعب الأحبار المسلم في ظاهره وهو صاحب الإسرائيليَّات، وسر هذا التَّفصيل ليحاسب المتجاوز على تجاوزه إن لم يُحاسب نفسه ويرجعها أو يوصلها إلى مستوى الكمال.
ومن تصفَّح التَّأريخ بدقَّة وقارنه بالسنَّة والسِّيرة النَّبويَّة الصَّافية فيورودها عن العترة المطهَّرة وما عاضدها من كتب المخالفين أنفسهم ممَّن نقل القول فأنصف في نقله لرأى العجب العجاب الكاشف عن واقع الكثير ممَّن يُعتبر من الصَّحابة المنحرفين، ورأى كيف كان النَّبي (صلی الله علیه و آله) صابراً كتوماً على مضض من هؤلاء لتوسعة رقعة الإسلام وإن كان سطحيَّاً كثيراً في بدايته ليغطي الكفر والشِّرك ويُحاصرها وتسود صبغته على الأمَّة في بقاع الأرض إلى أن تحين الفرصة للتَّدقيق في الإيمان أو
ص: 335
زرعه ممَّا ألجأه (صلی الله علیه و آله) للمزيد في توصياته في خصوص الإمام والخليفة من بعده وهو أمير المؤمنين (علیه السلام) لئلاَّ تتمزَّق المسيرة على النَّهج الصَّحيح كما يريده الله مفصَّلاً ابتدءاً من دعوة «وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ»(1) وانتهاءاً ببيعة الغدير وفي عموم الإيصاء بالعترة وحديث الثَّقلين وآخرها الدَّواة والكتف في رزيَّة الخميس وقولهم ما لا يُطاق ذكره ممَّا أشارت إليه آية الانقلاب على الأعقاب وغيرها حتَّى عُرف عنه (صلی الله علیه و آله) قوله (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)(2) أي حتَّى بما يزيد على أذيَّة المشركين السَّابقين له، وأي صحبة تلك الَّتي تمَّ فيها التَّآمر في سقيفة بني ساعدة، إضافة إلى ما كان يُعانيه من زوجتيه كما نصَّ على ذلك في سورة التَّحريم «إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنطَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا»(3)، وإضافة إلى ما كان يُنكَّل فيها بالرَّسول (صلی الله علیه و آله) من قبل من يدعَّي أقرب القرب منه في الصَّحبة كما في سورة الحجرات لقوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ»(4) وعدم إطاعته في آية النَّجوى منهم بُخلاً بالصَّدقة الواجبة
ص: 336
حتَّى أثبتت أنَّها نازلة بحق أمير المؤمنين (علیهما السلام) حسب وهي قوله تعالى «لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا»(1) وإيذاءه من قِبل بعضهم في قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا»(2) وإيذاءه كما في سورة الجمعة أثناء صلاة الجمعة حيث يقول «وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ»(3).
تلك التَّوصيات الَّتي لولاها لما عرفنا الحق في زماننا هذا عقيدةوعملاً، كيف كان وكيف لابدَّ أن يكون للحذر من أصحاب السُّوء ومن أفاعيلهم وأي صحبة تلك هي المرادة لتكون مثالاً ومثلاً يُقتدى ويُحتذى به فما كان النَّاتج للأسف إلاَّ أن يكيد بعضهم في بعض المقرَّبين منه أيضاً وإلى حدِّ غصب خلافة الإمام (علیه السلام) وغصب الزَّهراء (صلی الله علیه و آله) حقَّها وإلى حدِّ استشهادها ومحاربتهم لأمير المؤمنين (علیه السلام) الَّتي منها ما فعلوه في بعض مواليه كمالك ابن نويرة والفجور بامرأته من قبل خالد ابن الوليد والتَّنكيل بالحسنين (علیهما السلام) ونحلتيهما والتَّنكيل بخيار الصَّحابة وإفساح المجال لمعاوية في ولاية الشَّام وتلقيبه بكاتب الوحي وهو لم يكن إلاَّ كاتباً
ص: 337
للرَّسائل إن صحَّ الخبر وخال المؤمنين وعدم تسمية محمَّد ابن أبي بكر بخال المؤمنين، لأنَّه كان ربيب أمير المؤمنين (علیه السلام)، وأي صحبة هذه الَّتي ينكَّل فيها بأبي ذر الغفاري (دام ظله) صاحب اللهجة الصَّادقة ويُنفى إلى الرَّبذة من قِبل الثَّالث حتَّى وفاته لأنَّه من حواري أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد صحابتيه الجليلة، وأي صحبة يُنكَّل فيها حتَّى برسول الله (صلی الله علیه و آله) كما مر.
وأي صحبة يُقرَّب فيها الطُّلقاء الأمويُّون ويُبعد الأخيار المهمُّون حتَّى قُتل الأمويُّون مع من سبقهم من النَّاكثين يتبعهم المارقون ما لا يُعد من الصَّحابة في حروبهم الَّتي شنُّوها ضدَّ سيِّد الأهل والصَّحابة أمير المؤمنين (علیه السلام) أيَّام خلافته، حتَّى ما تركوا هذا الخلط بين العدول الواقعيِّين وغيرهم إلاَّ لوضع المشاكل بالتَّناقضات الحاصلة من الخلط في هذه الأوراق لئلاَّ تُعرف الحقيقة أو لتغطية غيرها على ذات الحقيقة حتَّىاستشهاد المرتضى (علیه السلام) ومن بعده استشهاد ابنه المجتبى (علیه السلام) عن طريق المنحرفين من الصَّحابة بل حتَّى كفر الواقعيُّون من الصَّحابة ظلماً وسُمِّي الحُسين (علیه السلام) ومن معه في ذكراه بالخوارج مكان الطلقاء.
ومن ذلك تمَّ وضع الكثير من الأحاديث المشيِّدة لشأن من اغتصب الحكم الشَّرعي ومنها نسبة القول إلى النَّبي (صلی الله علیه و آله) وحاشاه وهو (أصحابي كالنُّجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم) مع التَّفاوت الَّذي ملأ الكتب، وقد قال تعالى «قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ»(1) وقال أيضاً «إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ
ص: 338
لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ»(1).
ثمَّ إنَّ من الواردات بعض الآيات النَّافية لصدق الصُّحبة التَّامَّة بموضوعيَّة شاملة لكلِّ مصاحبة كقوله تعالى من سورة يوسف في مورد الذَّم «يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ ءأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ»(2) والقول المشهور في مورد الذَّم أيضاً (إنكنَّ صويحبات يوسف) وقول الشَّاعر:
صاحبْ أخا ثقةٍ تحضا بصحبته *** فالطَّبع مكتسب من كلِّ مصحوبكالرِّيح آخذة ممَّ_ا تمرُّ به *** نتناً من النَّتن أو طيباً من الطِّيب
يُضاف إلى ذلك أن تعريف العدالة بمعناها الرَّابع والمعنى المشهور أنَّها في الشَّرع عبارة عن ملكة نفسانيَّة تبعث على ملازمة التَّقوى والمروءة وليست عبارة عن نفس الملكة المجرَّدة الغير ملازمة لفعل الواجبات وترك المحرَّمات، وممَّن سار على ذلك الشَّيخ الأنصاري (رحمة الله) والسيِّد اليزدي (رحمة الله) وعُرف عن المختلف والقواعد والإرشاد والتَّحرير والمهذَّب ونهاية الأصول والمنية والدُّروس والذِّكرى والتَّنقيح والرَّوضة والرَّوض وجامع المقاصد والمعالم والرِّياض وهو المشهور عند المولى الأردبيلي (رحمة الله) في الفروع والأصول ونسبه الفاضل الهندي (رحمة الله) إلى المشهور بين الخاصَّة والعامَّة، وقال في الذَّخيرة نسبته إلى المتأخِّرين وفي التَّنقيح نسبته إلى
ص: 339
الفقهاء مشعراً بدعوى إجماعهم عليه.
وممَّن صرَّح من العامَّة جماعة من محقِّيقهم حيث حكي ذهاب الغزالي والحاجبي والعضدي والآمدي إليه ولا يمكن التَّجاوز عن هذا التَّعريف المتسالم عليه إلى مجرَّد التَّعريف اللُّغوي كما يرى بعض المتساهلين حتَّى بكل ما يأتي به أي مسلم لتبرير ما بُني عليه المخالفون بمثل الصَّلاة خلف كل بر وفاجر والقضاء عند كل من نصب له حتَّى شبث بن ربعي أو قبول خلافة معاوية وأمثاله كابنه يزيد ومروان ومن تلاهما من النَّازين على منابر المسلمين نزو القرود.
وبناءاً على هذا التَّفاوت الصَّريح في مصاديق الصُّحبة وبما يعترف المخالفون أنفسهم به ممَّن أنصف وممَّن اهتدى واعترف وكما ذكرناه لايمكن بعد هذا أن تفرض هذه القضيَّة بالنَّظريَّة للبحث فيها لعدم أي داع إليه فيها لعدم الجدوى من ذلك إذا لم يكن من وراءها سوء في القصد وإذا كان فهو الأجدر منهم بعد عدم الدَّاعي إلى الكلام عن ذلك عمليَّاً ومنه التَّغطية على مرتكبي الأعمال الشَّنيعة طول التَّأريخ وعرضه وإلى هذا الحين وأشدِّها قضيَّة استشهاد الإمام الحُسين (علیه السلام) ومن معه بغضاً للنَّبي (صلی الله علیه و آله) ورسالته خوف المزيد من الافتضاح، وقد أفتى المرتشي المعروف في البلاط الأموي بإباحة مقاتلة الإمام (علیه السلام) لخروجه على إمام زمانه مهما كان وزنه، وهذا الأمر عندهم شبيه بما يجريه علماؤهم أصوليَّاً بالتَّصويب عكس القول بالتَّخطئة الَّذي يبني عليه أصوليُّوا الإماميَّة، لكون هؤلاء المخالفين يرون أنَّ الآراء المتفاوتة في الشَّيء الواحد مهما تناقضت تعد مقبولة وإن خافوا على سلطتهم من وراء هذا
ص: 340
التَّناقض يبتون الحق على السلطويَّة الَّتي يأخذونها بالمخادعة الشَّيطانيَّة والغلبة بالسَّيف ظلماً وعدواناً، وبعد ذلك يقولون (بأنَّنا أهل الحق ولذا سُلِّطنا عليكم ولذلك لا تجوز محاربتنا).
وهذا نوع من الجبر الَّذي يتمسكون به من دون أن تكون لهم أي قيم عقائديَّة صحيحة يدافعون عنها في معاداتهم كالوحوش الهائجة للفرائس والغنائم عكس ما جاء به النَّبي (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام) وخُلَّص أصحابه.
وقد مهَّد لهذه القضيَّة العظمى معاوية أبن أبي سفيان لوغده يزيد ومن قبله وما أشرنا إليه مسبقاً من أسلافه تسبيباً نذكره للاختصار.
والله العالم.الإسلام دين السَّلام
س / هل الإسلام على ما يُقال أنَّه دين حرب وإرهاب، وما ألان النَّاس إلى التَّديُّن به إلاَّ بالسَّيف والقهر به لا بالإقناع البرهاني والحجَّة؟
وكيف تجتمع هذه التَّهمة مع ما جوبه به أمير المؤمنين (علیه السلام) في حروب النَّاكثين والقاسطين والمارقين، وكذلك محاربة معاوية للإمام الحسن (علیه السلام) والَّذي آخره حصار الأمويِّين ورجسهم يزيد (لع) وذنبه عبيد الله وعتاته للإمام الحسين (علیه السلام)؟
ج/ بسمه تعالی
كيف يكون الدِّين الإسلامي الحنيف دين حرب وإرهاب وهو خاتم أديان السَّماء والامتداد الجوهري لكافَّة كمالاتها بل مضاف إليها ما
ص: 341
يعجز عنه الواصفون من الممادح العظمى والمعاجز الخارقة للعادة.
ولذا كان القرآن الكريم طافحاً بآيات تثبت العكس تماماً كقوله تعالى في مدح المؤمنين وأهل الجنَّة «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا»(1) وقوله آمراً للنَّبي (صلی الله علیه و آله)«خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ»(2)وقوله «وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى»(3) وقوله «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ»(4) وقوله «وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ»(5) وقوله «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ»(6) وغير ذلك من كلام النَّبي (صلی الله علیه و آله) مالئاً الكتب الجامعة بالمثل من أحاديث حيث كان النَّبي (صلی الله علیه و آله) يقول (إنَّما بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق)(7) وقوله (جئتكم بالشريعة السهلة السمحاء)(8) وغيرهما من
ص: 342
أقواله وأقوال العترة المطهَّرة من بعده (علیهم السلام)، فلا غرو أنَّه دين السَّلام والوئام.
والعاقل المنصف لو تجرَّد بعقله عن صفة العصبيَّة العاطفيَّة الميَّالة إلى قبول ما يُثار من الشُّبهات لما صدق إلاَّ بالتَّفريق بين جماديَّة الأصنام والأوثان الَّتي كانت تُعبد من دون الله وبين العقول النَّاضجة المرنة الَّتي تخجل أن تتصوَّر يوماً أنَّها مع جماديَّتها يمكن أن توجد الكون ونظمالحياة الَّذي لا يبدعه إلاَّ مبدعه وهو الله تعالى الغني عن كلِّ عجز وضعف فما بدا الجاهليُّون في معايشة الأحناف والعقلاء والمرتجى اعتدالهم عن الضَّلالة وحيرة الجهالة بين حين وآخر لهم إلا َّ بجراثيم عاداتهم وتقاليدهم ومساوئ تصرُّفاتهم مع شركهم وعبادتهم للأصنام والأوثان ممَّا ضيَّق حريَّات الأخرين المعتدلين فأباح الله لهم الدِّفاع عن حقوقهم حتَّى بعث النَّبي (صلی الله علیه و آله) كذلك لنشر السَّلام والوئام السِّلميَّين لو لم تكن مجابهة من الأعداء.
وما بدأ النَّبي (صلی الله علیه و آله) نبي الرَّحمة بالدَّعوة إلى الإسلام إلاَّ بطيب الأخلاق وألطف أساليبها وهو المعروف عند المشركين أنفسهم بالصَّادق الأمين لنبذ الوثنيَّة والجاهليَّة الحمقاء للعيش بكرامة بدل التَّشبُّه بالبهيميَّة والغزو الوحشي ووئد البنات وهنَّ حيَّات ولاعتناق مبدأ التَّوحيد والتَّمسُّك برسالة السَّماء وترك قوانين أعراف الجاهليَّة الوضعيَّة كما كان عليه من سبق نبيِّنا (صلی الله علیه و آله) من أنبياء ورسل سابقين، بل كيف يُقبل اتِّهام الأعداء الألدَّاء دين الاستقامة والاعتدال المنقض على معايبهم المشهورة في تأريخ المخالف والمؤالف جهاراً بأنَّه دين إرهاب.
ص: 343
وما بدأ إلاَّ بالدَّعوة السريَّة وبالكرامات الإعجازيَّة استغناءاً عن البدء بالمقاومة حتَّى بالمثل في مدَّة مديدة، لعدم القدرة عدداً وعِدَّة مع عدم اقتضاء الحكمة حتَّى ببعض الشَّيء من ذلك والصَّبر طويلاً على أذاهم لولا محاماة وإيواء عمِّه شيخ البطحاء أبي طالب (علیه السلام) ومفاداة أولاده الأطهار عنه حتَّى اشتداد أولئك الأعداء الحمقى بمقاومتهم له(صلی الله علیه و آله) ولمن معه بالحصار في الشَّعب والمقاطعة والمطاردة حتَّى وفاة عمِّه ووفاة زوجته خديجة (علیه السلام)، وما حصل من النَّبي (صلی الله علیه و آله) ومن معه من الصُّمود والإصرار على البقاء على الدَّعوة إلى التَّوحيد بقوله (والله، لو وضعوا الشَّمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتَّى يظهره الله أو أهلك دونه)(1) فلم يكن بداية في حرب أو إرهاب بل هو منجاة من الجهالة وحيرة الضَّلالة، وهكذا من الدِّفاع عن النَّفس والدِّين القويم عند اقتضاء الأمر الإلهي الحكيم المحفوف بالدَّعم الملائكي والنَّصر الرَّباني لعدم الكفاءة الظَّاهريَّة عدداً وعِدَّة فهو بعيد كل البعد عن قبول تصوُّر معنى الإرهاب من جانب المسلمين ومبدئيَّتهم الثَّابتة، لأنَّه لم يكن كالهجوم بالسِّلاح والفتك بالأخرين بلا حجَّة وبرهان، بل إنَّ المشكلة لم تتسبَّب من أصل هذه الحالة، ومن أدق ما قد يتصوَّر توهمَّاً أو بهتاناً ومن أدق خيط من خيوط المواجهة لأن اعتداء الأعداء صارخ لم ينكره الجاهليون أنفسهم كما حدَّث به التَّأريخ، لاعتزازهم وإصرارهم على شركهم وجاهليَّتهم وتمرُّدهم على الحضارة الَّتي وفدت إليهم سلميَّة بدل
ص: 344
الحرب الَّذي يبتغونه فأصرُّوا على ما هم عليه تقليداً للآباء وإصراراً على استمرار الحرب والإرهاب حتَّى حينما ضعفوا والتجأوا سياسة إلى الدُّخول في الإسلام لا عن عقيدة ونفاقاً لا عن إيمان في كثير منهم ومن أشدِّهم الطُّلقاء من الأسرى والَّذين دفنوا في أنفسهمدفائن الحقد والضَّغائن وهم الخوارج فأخذوا يتحيَّنون الفرص ضدَّ النَّبي (صلی الله علیه و آله) وصفوته (علیه السلام) وخُلَّص أصحابه بمثل ترويج المنافقين من وراء كواليسهم لهذه الدِّعايات وتحريكهم لليهود ضدَّ الإسلام والمسلمين وارتباطهم بالرُّوم كذلك وتشبُّثهم بكلِّ شبهة تضعف الطَّاقة الدِّينيَّة النَّقيَّة من شِدَّة ثكلهم بكثرة من قتل من آبائهم وبقيَّة رجالهم الأرجاس عند المواجهة حتَّى مع قِلَّة عدد المسلمين وكثرتهم نهجاً على النَّعرات العشائريَّة والقبليَّة الجاهليَّة في الأخذ بالثَّأر حتَّى بعد إسلام المسلمين منهم تحت مظلَّة من تأصَّل النِّفاق في بعضهم حتَّى فرقَّاً من أبناء أولئك الأسلاف نسباً وحسباً أو عقيدة سلفيَّة ومبادئ متطرِّفة حزبيَّة أخذوا يقتلون عامَّة المسلمين من الشِّيعة والسنَّة وعلى الهويَّة غير السَّلفيَّة وعلى الأخص الهويَّة الشِّيعيَّة وبإرهاب مقيت لم يأذن به جوهر الإسلام في يوم من الأيَّام إلى أن انتشرت هذه الدِّعايات.
وإذا قيل بأنَّ هؤلاء ما اشتدُّوا على أهل البيت الطَّاهر (علیهم السلام) إلاَّ لأنَّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ضرب خراطيم أسلافهم حتَّى قالوا (لا إله إلاَّ الله محمَّد رسول الله) فتآلبوا على العترة للانتقام والأخذ بالثَّأر منها؟
فإنَّا نقول: بعد إعلانهم الإسلام أين موازين هذا الإسلام الثَّابتة فيهم حسب ادِّعائهم بأنَّهم منهم، وهل لا يُفرِّقون بين من يموت وهو مسلم
ص: 345
وبين من يُقتل أو يموت وهو رجس نجس.
وما قيل من ورود بعض الآيات الدَّالَّة على الإرهاب كقوله تعالى«تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ»(1) فما كان إلاَّ للتَّخويف وهي كلمة تُقال ومباحة في الحروب عند الجميع كغيرها من مخادعات القتال، وعند دخول مكَّة عام الفتح لمَّا كان أحد الصَّحابة وهو سعد ابن عبادة ينادي جيش المسلمين بزهو النَّصر وهو يغلظ على القوم وأظهر ما في نفسه من الحنق عليهم ، (اليوم يوم الملحمة اليوم تُسبى الحرمة أذلَّ الله قريشاً) فسمعها العباس فقال للنَّبي (صلی الله علیه و آله) أما تسمع يا رسول الله ما يقول سعد بن عبادة؟ إني لا آمن أن يكون له في قريش صولة!
فقال النَّبي (صلی الله علیه و آله) لأمير المؤمنين (علیه السلام) أدرك يا علي سعداً فخذ الراية منه، وكن أنت الذي يدخل بها مكة، فأدركه أمير المؤمنين (علیه السلام) فأخذها منه، فأخذ الراية فذهب بها إلى مكة، حتَّى غرزها عند الركن، لينادي بعكس النِّداء الأوَّل (اليوم يوم المرحمة اليوم تُصان الحرمة أعزَّ الله قريشاً)(2).
وثمَّ إنَّه ما انتشرت هذه الدِّعاية وأمثالها أخيراً إلاَّ من بعض أهل الكفر ومن المنافقين وأنصار أعداء الحسين (علیه السلام)، لإثارة أذهان النَّاس شبهة عليها خوف شِدَّة افتضاح أسلافهم بقتل الإمام الحُسين (علیه السلام) وأهل
ص: 346
بيته وأصحابه وسبي عيالاته حتَّى قالوا(إنَّ الحسين قُتل بسيف جدِّه)(1).
ولهذا كان الإمام الحسين (علیه السلام) يناقش أعداءه يوم العاشر بقوله (فو الله ما بين المشرق و المغرب ابن بنت نبي غيري منكم و لا من غيركم ثم أنا ابن بنت نبيكم ص خاصة دون غيره خبروني هل تطلبوني بقتيل منكم قتلته أو بمال استهلكته أو بقصاص من جراحة)(2)، فأجابوه (نقتلك ولا نبالي بُغضاً لأبيك أبي تراب)، فهل من نفاقهم الصَّريح هذا نقدر أن تقبل حجَّتهم ولا نردَّهم اعتماداً على شبهة مقبولة، وقد قال يزيد:
ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسل
وممَّا يؤيِّد ما نقول إنَّ الحسين (علیه السلام) كان يقول في البداية (ما كنت لأبدأهم بقتال)(3)، وفي رواية أخرى (إنِّي أكره أن أبدأهم بقتال)، بل رمى عمر ابن سعد بسهمه على الإمام (علیه السلام) وجمعه قائلاً (اشهدوا لي عند الأمير بأني أول من رمى)(4).
وبهذا يتم أمر الإرهاب من أين أتى، هل من الإسلام المحمَّديالحُسيني؟ أم من الكفر والنِّفاق الأموي؟.
والله العالم.
ص: 347
س / ما هي أسباب النَّهضة الحُسينيَّة وغاياتها؟ وهل يمكن أن يكون من تلك الأسباب قضيَّة أرينب أو الطَّمع في الزَّعامة ونحو ذلك؟
ج/ بسمه تعالی
كثيراً ما أحرج النَّبي (صلی الله علیه و آله) في أيَّام دعوته الأولى للإسلام بسبب دخول المنافقين وأهل الإسلام السِّياسي المجرَّد من كلِّ روحإ حتَّى ظهر من بعضهم توليد علاقة وطيدة مع أعيان المشركين أو اليهود للعودة إلى الوضع الجاهلي السَّابق إن فشل المسلمون في دعوتهم أو توسُّعها وأمكن ذلك، ولو لم يمكن ذلك ظاهراً فتآمرهم مستمر في صنع المكائد أو لا أقل من التَّخريب مهما أمكن ممَّا جعل النَّبي (صلی الله علیه و آله) صابراً على صنيعهم وبما يزيد على ضيم المشركين واليهود عليه، لأنَّ الله نصره عليهم في الحروب مهما أوغلوا في محاربتهم له وبمعونة المنافقين في هزيمتهم عنه وهم في ظاهر الإسلام كما يدَّعون أو تخاذلهم عن التَّعاون معه لازدياد آلامهم عليه في وسط الدَّعوة أيَّام زرع الإيمان الأدق والأعمق من الإسلام للفرق البيِّن الواضح بين الحالتين حتَّى اضطرَّ للمصاهرة الظَّاهريَّة مع بعضهم، فما كان في آخر أيَّامه وأيَّامالصَّفوة من أهله وخلَّص أصحابه مع صنوه ووصيه إلاَّ ما هو الأشد بزرع المؤامرات ومحاولات قتله بالسُّم من قِبل زوجتيه وغيرهما وإبعاد ابن عمِّه أمير المؤمنين (علیه السلام) عن أن يُنال ما عيَّنه
ص: 348
الله تعالى له في بيعة يوم الغدير من وظيفة الخلافة الإلهيَّة بعد وفاة النَّبي (صلی الله علیه و آله) بما حصل من رزيَّة يوم الخميس ومؤامرة السَّقيفة بعد تمرُّدهم عن الالتحاق بجيش أسامة حتَّى عرف من كلام هذا النَّبي العظيم المدوي في الأذهان وكافَّة الأفاق بقوله (ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت)(1) إنَّ أثره من هؤلاء المنافقين كان أشد عليه من المشركين وغيرهم ولوضوح ما أخبر به عن واقعهم في وحي الله الكثير في مصاديقه من السور والآيات ضدَّ المنافقين وعن ارتدادهم بمثل قوله تعالى «أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»(2) حتَّى أخذوا بعد غصبهم الخلافة يُنكِّلون بأهل البيت وخُلَّص الأصحاب وكما قال الموالي:
الواثبين لظلم آل محمَّد *** ومحمَّد ملقى بلا تكفين
وبدأوا بالزَّهراء (صلی الله علیه و آله) والإلحاح في ظلمها واغتصاب حقوقها وحقوق زوجها وابنيها (علیهم السلام) ومنعها من البكاء على أبيها حتَّى استشهادها بعد هجومهم على الدَّار وما كان من بعد ذلك إلاَّ بالصَّبر من أمير المؤمنين (علیه السلام) كصبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولو اكتفاء ببعض ما كان من المظاهر الإسلاميَّة من عهودالمشايخ الثَّلاثة وعزل أمير المؤمنين (علیه السلام) أو انعزاله إلى أن أتى دوره الظاهري الواقعي حيث شاء التَّخطيط المعادي لعدم إمكان التَّآمر عليه بأكثر من ذلك لا عن حُب له ولكن لوجود رهط مهم وكبير من خُلَّص أصحابه يوقعونهم في ملامة عنيفة إن خالفوا في ذلك،
ص: 349
ولكن ما ترك هؤلاء الأعداء أو أبناءهم هذا يمر على الإمام بسلام إلاَّ بإشغاله بالمشاكل، بل أصَّلوا كثيراً من الزَّيف والتَّحريف.
إلاَّ أنَّ المظهر الإسلامي مهما تأثَّر أيَّام الثَّلاثة بهما خابت ظنون الأعداء وأهل النِّفاق إلاَّ أن يرجع فيتأصَّل جديداً وكما كان في المؤمنين والخلَّص منهم في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعهده (علیه السلام) لكن معه أيضاً ما تركه الأعداء من النَّاكثين والقاسطين والمارقين إلاَّ أن أشغلوه عن هذا التَّأصيل والتَّوسُّع الباهر فيه وممارسته حتَّى استشهاده (علیه السلام) إلى أن جاء دور الحسن (علیه السلام) فأعلن الحرب ضدَّ المنافق معاوية واضطرَّه الخونة كعبيد الله ابن العبَّاس وغيره إلى الصُّلح على الشُّروط المعروفة الَّتي لم تثبت إلاَّ خيانة معاوية وافتضاحه لو تخلَّف عنها وما دامت بعض المظاهر الإسلاميَّة باقية وبالإمكان الصَّبر عليها حتَّى خيانة معاوية وافتضاح مسلكه واستشهاد الحسن الزَّكي (علیه السلام).
إلاَّ أنَّ معاوية بعد استشهاد الحسن (علیه السلام) أخذ يمهِّد السُّبل تلو السُّبل لاستمرار المملكة الأمويَّة بجعل ولاية العهد لنغله يزيد الفاسق الفاجر الكافر المتجاهر والَّذي لا يمكن الصَّبر عليه يوماً واحداً ومن مثل الإمام الحسين (علیه السلام) أمل جدِّه رسول الله (صلی الله علیهو آله) بإتمام المسيرة الجهاديَّة والمثبتة لإيمان المؤمنين بدعوة رسول الله (صلی الله علیه و آله) على ضوء النَّهضة الحُسينيَّة حتَّى لو أدَّت إلى شرف الشَّهادة إلى أن هلك معاوية
(لع) فأهون به هالكاً وجاء دور ابنه يزيد الجاهلي الفضيع وتمَّ الاستشهاد في كربلاء على يد الأرجاس من جنده ثمَّ إباحة المدينة في السَّنة الثَّانية ثمَّ حرق الكعبة في السَّنة الثَّالثة، حتَّى أخذ يبدو انتصار الدِّين ويتأصَّل إيمان المؤمنين يوماً
ص: 350
بعد يوم بالصَّحوة بعد الصَّدمة لقتل سبط النَّبي (علیه السلام) وشبابه وأصحابه وهتك حرمة عياله بانتصار الدَّم على السَّيف وبالنَّجاح المنقطع النَّظير وإلى أن انتهت كثير من أدوار التَّقيَّة وانتعاش المسلمين والمؤمنين الموالين بتعاليم نبيِّهم (صلی الله علیه و آله) وأئمَّتهم (علیهم السلام) بظهور التَّوابين وظهور جهاديِّين طالبين بالثَّأر كجماعة المختار (رحمة الله) وعلى أمل إتمام الأمر وإكماله بطالب الثَّأر الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) في دولته المعهودة.
وعن طريق هذا السَّبب الأهم للنَّهضة الشَّريفة يمكن فهم أسباب أخرى كالإصلاح بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر وتثبيت الرُّكنيَّة الشَّرعيَّة للإمامة وانتزاع القيادة الطَّاغوتيَّة من أهل الكفر والفسق والفجور، وبالأخص في الأرض الإسلاميَّة المقدور عليها عاديَّاً.
وأمَّا ما أثاره المغرضون من كون الحسين طالب رئاسة ومحب لها ولمعاداة شخصيَّة ليزيد لكون يزيد راغباً بانتزاع أرينب من زوجها ونحو ذلك فإنَّها وإن كان لبعضها شيء من الوجود، لكون أصل الحكم الإلهيللنَّبي (صلی الله علیه و آله) والأئمَّة الاثنا عشر وثالثهم الإمام الحُسين (علیهم السلام)، ولأنَّ أرينب كانت تحت ولاية الإمام الحُسين (علیه السلام) وتابعة لشرف ولايته رأى من واجبه الشَّرعي إعادتها إلى عِزِّ بيته مؤقَّتاً لئلاَّ تقع في اغتصاب الفاجر الكافر، إلاَّ أنَّه لا يمس بالإمام (علیه السلام) شيء من هذه العيوب المزعومة كما يمس بصاحب العيوب والشَّناعة في المسلَّمين.
والله العالم.
ص: 351
س / ماذا يرى سماحة السيِّد المفدَّى في أمر اللَّعن الَّذي يتطيَّر منه المخالفون لأعداء الله تعالى والنَّبي(صلی الله علیه و آله) والمعصومين (علیهم السلام) وأتباعهم حبَّاً لهم أو لبعضهم، سواء كان اللَّعن مقيَّداً بالنُّصوص كتاباً وسنَّة وسيرة في الأحاديث وروايات أهل البيت (علیهم السلام) والأدعية والزِّيارات تعبُّداً وبما حُدِّد في ذلك من الواردات المنصوصة أو بمطلق الإذن بذلك حتَّى مطلق عبائر المؤمنين ولو لشفاء الغليل من مثل قاتل الإمام الحُسين (علیه السلام) وغيره من الأعداء؟
ج/ بسمه تعالی
لا شكَّ في أنَّ المراد من اللَّعن _ لمثل إبليس المتكبِّر على نبي الله آدم (علیه السلام) وغيره من الكذبة والقياسيِّين _ مع وضوح الفوارق _ والمخالفين للأوامر الإلهيَّة عِناداً من أعداء الله _ هو الدُّعاء على أولئك الأعداء بالإبعاد لشرِّهم عن المسلمين والمؤمنين وبما يتشابه أو يتساوى مع الاستعاذة منهم وهو المألوف بشرعيَّته في القرآن العزيز والسنَّة المطهَّرة والسِّيرة المستمرَّة سنَّة وإجماعاً تعبُّديَّاً واستشفاءاً للغليل.
بل قد ورد في القرآن بما قد يزيد على الأربعين مورداً بنص اللَّعن أو ما يؤدِّي إليه، وهكذا نصوص الأحاديث الشَّريفة والرِّوايات المنيفة من كافَّةالطُّرق المرتبطة بالفريقين، ومن ذلك الأدعية الصَّحيحة والزِّيارات
ص: 352
المنقَّحة المبتنية على القواعد الَّتي لا اختلاف عليها لو حُسبت الأمور حساب العدل والإنصاف لولا التَّعصُّب الأعمى بترك اللَّعن من قِبل بعض أو كثير من أهل الخلاف خوفاً من شمول أسلافهم بعد تعدِّيهم على السَّلف الصَّالح وإن خالفوا الشَّرع وقوانينه صراحة أو أنَّهم لو قرأوا هذه الآيات أو تلك الأحاديث والرِّوايات وما حملته من الأدعية والزِّيارات على علاَّتها ضدَّ أولئك المعتدين لو أطاعوا ولو ظاهراً من دون قصد أو تدبُّر فلم يستفيدوا ثواباً وأجراً ممَّا تحمله لأنفسهم ولغيرهم إذا مشوا على نهجهم، لأنَّ النَّبي (علیهما السلام) قال "إنَّما الأعمال بالنيَّات ولكلِّ امرئ ما نوى"(1) وقد قال تعالى عن آياته وأتباعها وغيرها ممَّا تحمله من خير المعاني، ومنها شرف اللَّعن لأعداء الله من شياطين الإنس والجن في موضع الملامة والتَّوبيخ والاستنكار «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ»(2)، لأنَّ قسماً من المتعصِّبين للأعداء لا يرغبون بقراءة آيات اللَّعن وأحاديثه ورواياته حتَّى لو سلمت وتأكَّد ورودها في مصادرهم.
علماً بأنَّه لا فرق بين أعداء الله وبين أعداء النَّبي (صلی الله علیه و آله) وبين المعصومين (علیهم السلام) كالزَّهراء (صلی الله علیه و آله) والأئمَّة (علیهم السلام)في أمر الثَّوابت الجامعة لوجوب تعظيمشأن الجميع للخالق تعالى والخِيرة من المخلوقين الَّذين تحرم معاداتهم ومحاربتهم خِدمة للدِّين والإيمان به، وإلاَّ سوف يكون إسلام المتعصبِّين للأعداء والمفرِّقين بين النَّبي (صلی الله علیه و آله) وآله (علیهم السلام) في شك.
ص: 353
بل حتَّى بقيَّة المسلمين الَّذين لم يُلوثُّهم التَّكبُّر والكذب والقياس مع الفارق والنِّفاق يوماً فضلاً عن المؤمن والمؤمن المتَّقي الَّذي كرامته عظيمة عند الله تعالى، لأنَّه عُدَّ أشرف من الكعبة.
كيف وقد تطاول المنافقون بال