كمال الدين و تمام النعمة

هویة الکتاب

كَمالُ الدِّين وَ تَمَامُ النِّعمَة

تأليف: الشيخ الجليل الأقدم أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي الصدوق (رحمة الله)

المتوفى سنة (381ه)

الجزء الأوَّل , الجزء الثاني

تقديم وتحقيق: مَرکَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّیَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَی فَرَجَهُ الشَّریف

ص: 1

المجلد 1

اشارة

مَرکَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّیَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَی فَرَجَهُ الشَّریف

اسم الکتاب: ......... كَمالُ الدِّين وَ تَمَامُ النِّعمَة / الجزء الأول

تأليف: .......... الشيخ الصدوق (رحمة الله)

تقديم وتحقيق: ........... مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)

رقم الإصدار: 257

الطبعة: الأولى 1442ه

عدد النسخ: ........... 1000

--------------------

جمیع حقوق الطبع والنشر محفوظة للمرکز

العراق - النجف الأشرف

هاتف: 07809744474 - 07816787226

www.m-mahdi.com

info@m-mahdi.com

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

مقدّمة المركز:

لا يختلف اثنان في أنَّ الأُمَم إنَّما تخلد بتراثها الذي يحفظ كيانها، وأُصولها، ويُثبِّت ارتباطها بجذور عميقة بمبادئها، الأمر الذي يحكي عن قوَّة في الحضارة، ورسوخ في المعتقد.

ولذا اهتمَّت جميع الأطياف البشريَّة بتدوين حضارتها، ومنجزاتها، وما يحفظ كيانها، عبر مختلف وسائل التدوين، بدءاً بالعصور الأُولىٰ للتدوين، وانتهاءً بما وصلت إليه أدوات التدوين اليوم من تطوُّر لم يسبق له نظير.

إلَّا أنَّ المفارقة نجدها واضحة في صدر الإسلام، حيث سعىٰ من تسنُّم دفَّة الحكم، إلىٰ منع تدوين تراث الإسلام (من حديث النبيِّ (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام)، وعبر مراحل متعدِّدة، كان أوَّلها العمل علىٰ جمع حديث النبيِّ (صلی الله علیه و آله)، ثمّ إحراق الصُّحُف التي حوته، مروراً بمنع رواية أيِّ حديث ما لم يطَّلع عليه الحاكم ويُمضيه، وانتهاءً بإنزال أشدّ أنواع العقوبات علىٰ من يخالف الجهاز الحاكم ويروي من دون إذنهم، أو يروي ما لا يستسيغه الحاكم(1).

إلَّا أنَّ ذلك لم يمنع أهل البيت (علیهم السلام) عن القيام بمهمَّتهم، في الحفاظ علىٰ الدِّين الإسلامي بالنسخة الأصليَّة التي أرادها الله تبارك وتعالىٰ، ولأجل ذلك عملوا علىٰ تأسيس مدرسة علميَّة محكمة، وربّواالكثير من التلاميذ الذين أخذوا علىٰ عاتقهم حفظ التراث الدِّيني، وبذلوا في سبيل ذلك الغالي والنفيس من أموالهم، وجهودهم، وحتَّىٰ أرواحهم.

ص: 3


1- انظر للتفاصيل: منع تدوين الحديث/ تأليف: السيِّد عليٍّ الشهرستاني.

يشهد علىٰ هذه الحقيقة، وفرة الروايات التي وصلت إلينا عنهم (علیهم السلام)، عبر الأُصول الأربعمائة التي استندت إليه المدوَّنات الحديثيَّة الضخمة، ومنها الكُتُب الأربعة للمحمّدين الثلاثة، والتي استفاد منها الفقهاء والعلماء والمتخصِّصون في مختلف المجالات المرتبطة بالدِّين، ومنها ما يرتبط بالقضيَّة المهدويَّة.

لقد كتب الكثير من العلماء في القضيَّة المهدويَّة، وعملوا علىٰ إشباع جميع جوانبها، وملئ جميع الفراغات فيها، والبحث عن النتوءات الحرجة فيها ومعالجتها، فكانت المكتبة المهدويَّة عامرةً بالكثير من الإصدارات.

هذا، ونجد الكثير من العلماء قد كتبوا في هذه القضيَّة قبل الشيخ الصدوق، ومنهم:

1 - أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الأحمري النهاوندي، سمع منه أبو أحمد القاسم بن محمّد الهمداني في تسع وستِّين ومائتين، له كتاب الغيبة(1).

2 - أبو إسحاق إبراهيم بن صالح الأنماطي الكوفي الأسدي، من أصحاب الإمام الكاظم (علیه السلام)، ثقة، له كتاب الغيبة، يرويه عنه جعفر بن قولويه بواسطة واحدة(2).3 - أبو محمّد الفضل شاذان بن جبرئيل (الخليل) الأزدي النيسابوري، المتوفَّىٰ سنة (260ه)، لقي عليَّ بن محمّد التقي (علیه السلام)، له كتاب إثبات الرجعة...(3).

ص: 4


1- رجال النجاشي (ص 19/ الرقم 21)، الفهرست (ص 10 و11/ الرقم 11)، الذريعة (ج 16/ ص 74/ الرقم 371).
2- رجال النجاشي (ص 15/ الرقم 13)، الفهرست (ص 14/ الرقم 19)، معالم العلماء (ص 5/ الرقم 5)، الذريعة (ج 16/ ص 75/ الرقم 373).
3- رجال النجاشي (ص 306 و307/ الرقم 840)، الفهرست (ص 254 و255/ الرقم 559)، معالم العلماء (ص 90 و91/ الرقم 627)، الذريعة (ج 16/ ص 78/ الرقم 395).

4 - أبو بكر خيثمة أحمد بن زهير النسائي، المتوفَّىٰ سنة (279ه)، له جمع الأحاديث الواردة في المهدي(1).

5 - أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن عبد الله بن قضاعة بن صفوان بن مهران الجمَّال، المعروف بالصفواني، الشريك مع النعماني في القراءة علىٰ ثقة الإسلام الكليني، له كتاب الغيبة وكشف الحيرة(2).

6 - أبو جعفر محمّد بن عليِّ بن أبي العزاقر الشلمغاني، المتوفَّىٰ سنة (323ه)، كان متقدِّماً في أصحابنا ومستقيم الطريقة، فحمله الحسد لأبي القاسم الحسين بن روح علىٰ ترك المذهب والدخول في المذاهب الرديَّة، فظهرت منه مقالات منكرة، وخرج في لعنه التوقيع من الناحية، له كتاب الغيبة(3).

7 - أبو بكر محمّد بن القاسم البغدادي، معاصر ابن همَّام الذي تُوفِّي سنة (332ه)، له كتاب الغيبة(4).8 - أبو النضر محمّد بن مسعود بن محمّد بن عيَّاش السلمي السمرقندي، المعروف بالعيَّاشي، كان في أوَّل عمره عامّي المذهب وسمع حديث العامَّة فأكثر منه، ثمّ تبصَّر وعاد إلينا، له كتاب الغيبة(5).

9 - أبو الحسن عليُّ بن مهزيار الدورقي الأهوازي، كان أبوه نصرانيًّا، وقيل: إنَّ عليًّا أيضاً أسلم وهو صغير، ومنَّ الله عليه بمعرفة هذا الأمر، وتفقَّه

ص: 5


1- مجلَّة تراثنا/ العدد الأوَّل.
2- الذريعة (ج 16/ ص 37 و84/ الرقم 157 و420).
3- كتابه الغيبة كتبه قبل ضلاله. راجع: رجال النجاشي (ص 378/ الرقم 1029)، الذريعة (ج 16/ ص 80/ الرقم 401).
4- الذريعة (ج 16/ ص 80/ الرقم 403).
5- رجال النجاشي (ص 350 - 353/ الرقم 944)، الفهرست (ص 317 - 320/ الرقم 690)، معالم العلماء (ص 99 و100/ الرقم 668).

وروىٰ عن الرضا وأبي جعفر (علیهما السلام)، واختصَّ بأبي جعفر الثاني، له كتاب القائم(1).

10 - أبو الحسن عليُّ بن محمّد بن إبراهيم بن أبان المعروف بعلَّان الرازي الكليني، خال ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني، وأحد العدَّة الذين يروي عنهم عن سهل بن زياد في كتابه الكافي، له كتاب أخبار القائم (علیه السلام)(2).

11 - أبو الفضل عبَّاس بن هشام الناشري الأسدي، من أصحاب الرضا (علیه السلام)، متوفَّىٰ سنة (220ه)، له كتاب الغيبة(3).

12 - أبو سعيد عبَّاد بن يعقوب الرواجني الأسدي الكوفي، المتوفَّىٰ سنة (250ه) أو (271ه)، له كتاب أخبار المهدي ويُسمِّيه المسند(4).

13 - أبو الحسن سلامة بن محمّد بن إسماعيل (أسماء) بن عبد اللهبن موسىٰ بن أبي الأكرم الأرذني (الأزوني)، المتوفَّىٰ سنة (339ه)، له كتاب الغيبة وكشف الحيرة(5).

14 - أبو محمّد الحسن بن محمّد بن يحيىٰ بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله ابن الحسين بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب (علیهم السلام)، المعروف بابن أخي طاهر، المتوفَّىٰ في ربيع الأوَّل سنة (358ه)، له كتاب الغيبة وذكر القائم (علیه السلام)(6).

15 - أبو محمّد الحسن بن حمزة بن عليِّ بن عبد الله بن محمّد بن الحسن بن

ص: 6


1- رجال النجاشي (ص 253 و254/ الرقم 664).
2- الذريعة (ج 1/ ص 345/ الرقم 1803).
3- رجال النجاشي (ص 380/ الرقم 741)، الذريعة (ج 16/ ص 76/ الرقم 386).
4- الفهرست (ص 176/ الرقم 374)، معالم (ص 88/ الرقم 612)، الذريعة (ج 1/ ص 352/ الرقم 1852).
5- رجال النجاشي (ص 192/ الرقم 514)، الذريعة (ج 16/ ص 83/ الرقم 419).
6- رجال النجاشي (ص 64/ الرقم 149)، الذريعة (ج 16/ ص 83/ الرقم 416).

الحسين بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب (علیهم السلام)، المعروف بالطبري والمرعش، كان من أجلَّاء هذه الطائفة وفقهائها، تُوفِّي سنة (358ه)، له كتاب الغيبة(1).

وهكذا استمرَّ البحث والتأليف عن هذه القضيَّة، لأهمّيَّتها، وقد نقل (عبد الجبَّار الرفاعي) في كتابه (معجم ما كُتِبَ عن الرسول وأهل البيت (علیهم السلام)/ القسم الرابع عشر: الإمام محمّد بن الحسن المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ما يقرب من (1145) عنوان كتاب عن الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف).

وهذا لا يعني أنَّه تمَّ إغلاق ملف هذه القضيَّة، كلَّا، بل إنَّها ما زالت كما بدأت، غضَّة، طريَّة، غير آبية عن الكتابة، والتطوير، والبحث والتنقيب، يشهد علىٰ ذلك أنَّه صدر في العصر الحديث عن مركزنا فقط مايقرب من (86) إصداراً متعلِّقاً بهذه القضيَّة العظيمة.

* * *

ثمّ إنَّه لا شكَّ في أنَّ هناك مصادر أساسيَّة يُعتَمد عليها في أيِّ علم من العلوم، تكون هي العين النابعة بالمعرفة لمن يريد الكتابة في تخصُّص ما، وللقضيَّة المهدويَّة مصادرها الأساسيَّة في ذلك، والتي كانت ولا زالت محطّ نظر الباحثين عنها، حيث يجدون فيها ما يروي ظمأهم المعرفي من المعلومات المهدويَّة الرصينة.

ويتصدَّر قائمة المصادر المهدويَّة كتاب (كمال الدِّين وتمام النعمة) للشيخ الصدوق (قدس سره)، حيث إنَّه يُمثِّل أقدم مصدر حديثي في هذه القضيَّة، بعد كتاب الغيبة للشيخ النعماني.

ص: 7


1- رجال النجاشي (ص 64/ الرقم 150)، معالم العلماء (ص 36/ الرقم 215)، الذريعة (ج 16/ ص 76/ الرقم 380).

أهمّيَّة هذا المُصنَّف:

اشارة

إنَّ لكتاب (كمال الدِّين وتمام النعمة) خصائص عديدة، جعلته من أهمّ المصادر المعتمدة في القضيَّة المهدويَّة، وحتَّىٰ تتبيَّن هذه الحقيقة نذكر الأُمور التالية:

الأمر الأوَّل:

إنَّ مؤلِّفه هو الشيخ الجليل الأقدم الصدوق أبو جعفر محمّد بن عليِّ بن الحسين بن بابويه القمِّي المتوفَّىٰ سنه (381ه)، وهو من الجلالة والوثاقة والعلم ما عرفه القاصي والداني، وإنَّه لأشهر من نار علىٰ علم.

وُلِدَ بدعاء صاحب الأمر (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، حيث نقل الشيخ الطوسي ݥ في غيبته قال: قال ابن نوح: وحدَّثني أبو عبد الله الحسين محمّد بن سورة القمِّي (رحمة الله) حين قَدِمَ علينا حاجًّا، قال: حدَّثني عليُّ بن الحسن بن يوسف الصائغ القمِّي ومحمّد ابن أحمد بن محمّد الصيرفيالمعروف بابن الدلَّال وغيرهما من مشايخ أهل قم أنَّ عليَّ بن الحسين بن موسىٰ بن بابويه كانت تحته بنت عمِّه محمّد بن موسىٰ بن بابويه فلم يُرزَق منها ولداً، فكتب إلىٰ الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (رضی الله عنه) أنْ يسأل الحضرة أنْ يدعو الله أنْ يرزقه أولاداً فقهاء، فجاء الجواب: «إنَّك لا تُرزَق من هذه، وستملك جارية ديلميَّة وتُرزَق منها ولدين فقيهين»(1).

بل إنَّ الشيخ الصدوق (رحمة الله) نفسه في كتابه كمال الدِّين قال ما نصه:

وَحَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَسْوَدُ ݥ ، قَالَ: سَأَلَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ابْنِ مُوسَىٰ بْنِ بَابَوَيْهِ ݥ بَعْدَ مَوْتِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْعَمْرِيِّ ݥ أَنْ أَسْأَلَ أَبَا الْقَاسِمِ الرَّوْحِيَّ أَنْ يَسْأَلَ مَوْلَانَا صَاحِبَ الزَّمَانِ (علیه السلام) أَنْ يَدْعُوَ اللهَ (عزوجل)أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَداً ذَكَراً، قَالَ: فَسَأَلْتُهُ، فَأَنْهَىٰ ذَلِكَ، ثُمَّ أَخْبَرَنِي بَعْدَ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَنَّهُ قَدْ دَعَا لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَأَنَّهُ سَيُولَدُ لَهُ وَلَدٌ مُبَارَكٌ يَنْفَعُ [اللهُ] بِهِ وَبَعْدَهُ أَوْلَادٌ.

ص: 8


1- الغيبة للطوسي (ص 309 و310/ ح 261).

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَسْوَدُ ݥ: وَسَأَلْتُهُ فِي أَمْرِ نَفْسِي أَنْ يَدْعُوَ اللهَ لِي أَنْ يَرْزُقَنِي وَلَداً ذَكَراً، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَيْهِ، وَقَالَ: لَيْسَ إِلَىٰ هَذَا سَبِيلٌ، قَالَ: فَوُلِدَ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ݥ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَبَعْدَهُ أَوْلَادٌ، وَلَمْ يُولَدْ لِي شَيْءٌ.

الأمر الثاني:

إنَّ الشيخ الصدوق ݥ كان قد ألَّف هذا الكتاب سنة (354 ه/ 965م)، أي بعد انتهاء الغيبة الصغرىٰ وبدء الكبرىٰ بخمسة وعشرين عاماً تقريباً، ومن هنا، فهو من أقدم المصادر الروائية المستقلَّة في مجال القضيَّة المهدويَّة، ولم يسبقه في ذلك سوىٰ النعماني في كتابه: الغيبة،والذي ألَّفه عام (342 ه/953م).

وبذلك يكون هذا الكتاب مرجعاً للبحث في هذه القضيَّة، ولا يستغني عنه أحد في هذا المجال.

الأمر الثالث:

جاء في سبب تأليف الشيخ الصدوق لهذا الكتاب أنَّ الشيخ كان يُقلقه حيرة المؤمنين بالغيبة، وأنَّه كان يبذل قصارىٰ جهده في إرشادهم إلىٰ الحقِّ وردِّهم إلىٰ الصواب بالأخبار الواردة في ذلك عن النبيِّ والأئمَّة (صلوات الله عليهم)، ثمّ إنَّه رأىٰ الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) في الرؤيا... يقول الشيخ في مقدّمة كتابه كمال الدِّين: ... فأرىٰ مولانا القائم صاحب الزمان (صلوات الله عليه) واقفاً بباب الكعبة، فأدنو منه علىٰ شغل قلب وتقسُّم فكر، فعلم (علیه السلام) ما في نفسي بتفرُّسه في وجهي، فسلَّمت عليه، فردَّ عليَّ السلام، ثمّ قال لي: «لِمَ لَا تُصَنِّفُ كِتَاباً فِي الْغَيْبَةِ حَتَّىٰ تُكْفَىٰ مَا قَدْ هَمَّكَ؟»، فقلت له: يا ابن رسول الله، قد صنَّفت في الغيبة أشياء، فقال (علیه السلام): «لَيْسَ عَلَىٰ ذَلِكَ السَّبِيلِ، آمُرُكَ أَنْ تُصَنِّفَ الْآنَ كِتَاباً فِي الْغَيْبَةِ واذْكُرْ فِيهِ غَيْبَاتِ الْأَنْبِيَاءِ (علیهم السلام)»، ثمّ مضىٰ (صلوات الله عليه)، فانتبهت

ص: 9

فزعاً إلىٰ الدعاء والبكاء والبثِّ والشكوىٰ إلىٰ وقت طلوع الفجر، فلمَّا أصبحت ابتدأت في تأليف هذا الكتاب ممتثلاً لأمر وليِّ الله وحجَّته، مستعيناً بالله ومتوكِّلاً عليه ومستغفراً من التقصير، «وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ 88» [هود: 88].

الأمر الرابع:

ابتدأ المصنِّف كتابه بمقدّمة طويلة، ذكر فيها الكثير من الاستدلالاتالتي ردَّ بها مزاعم المدَّعين من الكيسانيَّة والناووسيَّة والواقفة والزيديَّة وغيرهم، بالإضافة إلىٰ أنَّه أجاب عن الشُّبُهات المطروحة حول الغيبة، فضلاً عن مناظراته مع بعض الملحدين، وهي مقدّمة غنيَّة بالمعلومات ثريَّة بالاستدلالات العلميَّة والمنطقيَّة الرصينة، حريٌّ بها أنْ تكون كتاباً مستقلّاً، وحريٌّ بالباحثين أنْ يولوها جُلَّ اهتمامهم بالتحقيق والتعليق والشرح.

ثمّ بدأ بفصول كتابه وسرد الروايات المهدوية، والتي بلغ عددها الكلِّي (572) رواية، توزَّعت علىٰ (58) باباً، تجدها بالتفصيل في فهرست الكتاب.

من كلِّ ما تقدَّم، تتبيَّن أهمّيَّة هذا الكتاب، من جهة جلالة مؤلِّفه، وقِدَم كتابته، وبركة تأليفه، وشموليَّة عناوينه ومضامينه.

من هنا، ارتأىٰ مركزنا أنْ يقوم بإعادة طباعة هذا الكتاب، بحُلَّة جديدة.

عملنا في الكتاب:

1 - اعتمادنا علىٰ نسخة الكتاب الموجودة في مكتبة أهل البيت (علیهم السلام)/ تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري/ طبع ونشر مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المقدَّسة/ محرَّم الحرام 1405ه.

2 - أتينا بالأحاديث محرَّكة لتسهيل القراءة علىٰ القارئ الكريم.

ص: 10

3 - أضفنا إلىٰ الكتاب بعض الشروحات من الكُتُب التالية:

أ) شرح أُصول الكافي لمولىٰ محمّد صالح المازندراني/ ضبط وتصحيح: السيِّد عليّ عاشور/ طبع ونشر دار إحياء التراث العربي/ ط 1/ 1421ه.

ب) روضة المتَّقين في شرح من لا يحضره الفقيه لمحمّد تقي المجلسي (الأوَّل)/ تصحيح وتحقيق: السيِّد حسين الموسوي الكرماني والشيخ علي بناه الاشتهاردي/ طبع ونشر مؤسَّسة فرهنگي إسلامي كوشانبور/ قم/ ط 2/ 1406ه.

ج) مرآة العقول في شرح أخبار الرسول للعلَّامة المجلسي/ نشر دار الكُتُب الإسلاميَّة/ ط 2/ 1404ه.

د) بحار الأنوار الجامعة لدُرَر أخبار الأئمَّة الأطهار للعلَّامة المجلسي/ نشر مؤسَّسة الوفاء/ ط 2/ 1403ه/ بيروت.

4 - قمنا بتغيير أرقام صفحات جميع مصادر التحقيق وأتينا بها من مكتبة أهل البيت (علیهم السلام).

نسأل الله تعالىٰ أنْ يُوفِّق جميع المؤمنين لخدمة مذهب أهل البيت (علیهم السلام) والقضيَّة المهدويَّة، وأنْ يجعل عملنا هذا في عينه، وأنْ يبارك فيه ليكون ومضة نور في طريق التمهيد لظهور الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف).

مركز الدراسات التخصَّصيَّة

في الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)

ص: 11

ص: 12

مقدّمة المؤلِّف

اشارة

ص: 13

ص: 14

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّىٰ الله علىٰ محمّد وآله الطاهرين.

الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الحيِّ القادر العليم الحكيم، تقدَّس وتعالىٰ عن صفة المخلوقين، ذي الجلال والإكرام، والإفضال والإنعام، والمشيئة النافذة والإرادة الكاملة، «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ 11» [الشورىٰ: 11]، «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ 103» [الأنعام: 103].

وأشهد أنْ لا إِله إِلَّا الله وحده لا شريك له، خالق كلِّ شيء، ومالك كلِّ شيء، وجاعل كلِّ شيء، ومحدِث كلِّ شيء، وربُّ كلِّ شيء، وأنَّه يقضي بالحقِّ، ويعدل في الحكم، ويحكم بالقسط، ويأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربىٰ، وينهىٰ عن الفحشاء والمنكر والبغي، ولا يُكلِّف نفساً إلَّا وسعها، ولا يُحمِّلها فوق طاقتها، وله الحجَّة البالغة، ولو شاء لهدىٰ الناس أجمعين، يدعو إِلىٰ دارِ السلامِ ويهدي من يشاء إلىٰ صراط مستقيم. لا يعجل بالعقوبة، ولا يُعذِّب إلَّا بعد إيضاح الحجَّة وتقديم الآيات والنذارة، لم يستعبد عباده بما لم يُبيِّنه لهم، ولم يأمرهم إطاعة من لم ينصبه لهم، ولم يكلهم إلىٰ أنفسهم واختيارهم وآرائهم بطاعته واختراعهم في خلافته(1)، تعالىٰ الله عن ذلك علوًّا كبيراً.

وأشهد أنَّ محمّداً (صلی الله علیه و آله) عبده ورسوله وأمينه، وأنَّه بلَّغ عن ربِّه، ودعا إلىٰ

ص: 15


1- في بعض النُّسَخ: (في دينه).

سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، وعمل بالكتاب وأمر باتِّباعه، وأوصىٰ بالتمسُّك به وبعترته الأئمَّة بعده(1) (صلوات الله عليهم)، وأنَّهما لن يفترقا حتَّىٰ يردا عليه حوضه، وأنَّ اعتصام المسلمين بهما علىٰ المحجَّة الواضحة(2)، والطريقة المستقيمة، والحنيفيَّة البيضاء التي ليلها كنهارها وباطنها كظاهرها، ولم يدع أُمَّته في شبهة ولا عمىٰ من أمره، ولم يدَّخر عنهم دلالة ولا نصيحة ولا هداية، ولم يدع برهاناً ولا حجَّةً إلَّا أوضح سبيلها وأقام لهم دليلها، «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَىٰ اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» [النساء: 165]، و«لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» [الأنفال: 42].

وأشهد أنَّه ليس ب «مُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَىٰ اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» [الأحزاب: 36]، وأنَّ الله يخلق من «يَشَاءُ وَيَخْتَارُ» [القَصص: 68]، وأنَّهم لا يؤمنون حتَّىٰ يُحكِّموه «فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا» قضاه «وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً 65» [النساء: 65].

وأنَّ من حرَّم حلالاً ومن حلَّل حراماً، أو غيَّر سُنَّةً، أو نقَّص فريضةً، أو بدَّل شريعةً، أو أحدث بدعةً، يريد أنْ يُتَّبع عليها ويصرف وجوه الناس إليها، فقد أقام نفسه لله شريكاً، ومن أطاعه فقد ادَّعىٰ مع الله ربًّا، و«بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ» [الأنفال: 16]، و«مَأْوَاهُ النَّارُ» [المائدة: 72]،و«بِئْسَ مَثْوَىٰ الظَّالِمِينَ 151» [آل عمران: 151]، و«حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ 5» [المائدة: 5]، وصلَّىٰ الله علىٰ محمّد وآله الطاهرين.

ص: 16


1- في نسخة: (بعد وفاته).
2- في بعض النُّسَخ: (وأنَّه يدلُّ المسلمين بهما علىٰ المحجَّة الواضحة).

[سبب تأليف الكتاب]:

قال الشيخ الفقيه أبو جعفر محمّد بن عليِّ بن الحسين بن موسىٰ بن بابويه القمِّي مصنِّف هذا الكتاب (أعانه الله علىٰ طاعته):

إنَّ الذي دعاني إلىٰ تأليف كتابي هذا، أنِّي لمَّا قضيت وطري من زيارة عليِّ ابن موسىٰ الرضا (صلوات الله عليه) رجعت إلىٰ نيسابور وأقمت بها، فوجدت أكثر المختلفين إليَّ(1) من الشيعة قد حيَّرتهم الغيبة، ودخلت عليهم في أمر القائم (علیه السلام) الشبهة، وعدلوا عن طريق التسليم إلىٰ الآراء والمقائيس، فجعلت أبذل مجهودي في إرشادهم إلىٰ الحقِّ وردِّهم إلىٰ الصواب بالأخبار الواردة في ذلك عن النبيِّ والأئمَّة (صلوات الله عليهم)، حتَّىٰ ورد إلينا من بخارا شيخ من أهل الفضل والعلم والنباهة ببلد قم، طالما تمنَّيت لقاءه واشتقت إلىٰ مشاهدته لدينه وسديد رأيه واستقامة طريقته، وهو الشيخ نجم الدِّين أبو سعيد محمّد بن الحسن بن محمّد بن أحمد بن عليِّ بن الصلت القمِّي (أدام الله توفيقه)، وكان أبي يروي عن جدِّه محمّد بن أحمد بن عليِّ بن الصلت (قدَّس الله روحه)، ويصف علمه وعمله وزهده وفضله وعبادته، وكان أحمد بن محمّد بن عيسىٰ في فضله وجلالته يروي عن أبي طالب عبد الله بن الصلت القمِّي (رضی الله عنه)، وبقي(2) حتَّىٰ لقيه محمّد بن الحسن الصفَّار وروىٰ عنه، فلمَّاأظفرني الله (تعالىٰ ذكره) بهذا الشيخ الذي هو من أهل هذا البيت الرفيع شكرت الله (تعالىٰ ذكره) علىٰ ما يسَّر لي من لقائه وأكرمني به من إخائه وحباني به من ودِّه وصفائه، فبينا هو يُحدِّثني ذات يوم إذ ذكر لي عن رجل قد لقيه ببخارا من كبار الفلاسفة والمنطقيِّين كلاماً في القائم (علیه السلام) قد حيَّره وشكَّكه في أمره لطول غيبته وانقطاع أخباره، فذكرت له

ص: 17


1- الاختلاف بمعنىٰ التردُّد، أي الذهاب والمجيء.
2- يعني عبد الله بن الصلت.

فصولاً في إثبات كونه (علیه السلام)، ورويت له أخباراً في غيبته عن النبيِّ والأئمَّة (علیهم السلام) سكنت إليها نفسه، وزال بها عن قلبه ما كان دخل عليه من الشكِّ والارتياب والشبهة، وتلقَّىٰ ما سمعه من الآثار الصحيحة بالسمع والطاعة والقبول والتسليم، وسألني أنْ أُصنِّف [له] في هذا المعنىٰ كتاباً، فأجبته إلىٰ ملتمسه ووعدته جمع ما ابتغىٰ إذا سهَّل الله لي العود إلىٰ مستقرِّي ووطني بالريِّ.

فبينا أنا ذات ليلة أُفكِّر فيما خلَّفت ورائي من أهل وولد وإخوان ونعمة إذ غلبني النوم، فرأيت كأنِّي بمكَّة أطوف حول بيت الله الحرام وأنا في الشوط السابع عند الحجر الأسود أستلمه وأُقبِّله، وأقول: أمانتي أدَّيتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة، فأرىٰ مولانا القائم صاحب الزمان (صلوات الله عليه) واقفاً بباب الكعبة، فأدنو منه علىٰ شغل قلب وتقسُّم فكر، فعلم (علیه السلام) ما في نفسي بتفرُّسه في وجهي، فسلَّمت عليه، فردَّ عليَّ السلام، ثمّ قال لي: «لِمَ لَا تُصَنِّفُ كِتَاباً فِي الْغَيْبَةِ حَتَّىٰ تُكْفَىٰ مَا قَدْ هَمَّكَ؟»، فقلت له: يا ابن رسول الله، قد صنَّفت في الغيبة أشياء، فقال (علیه السلام): «لَيْسَ عَلَىٰ ذَلِكَ السَّبِيلِ، آمُرُكَ أَنْ تُصَنِّفَ [وَلَكِنْ صَنِّفِ](1) الْآنَ كِتَاباً فِي الْغَيْبَةِ واذْكُرْ فِيهِ غَيْبَاتِ الْأَنْبِيَاءِ (علیهمالسلام)»، ثمّ مضىٰ (صلوات الله عليه)، فانتبهت فزعاً إلىٰ الدعاء والبكاء والبثِّ والشكوىٰ إلىٰ وقت طلوع الفجر، فلمَّا أصبحت ابتدأت في تأليف هذا الكتاب ممتثلاً لأمر وليِّ الله وحجَّته، مستعيناً بالله ومتوكِّلاً عليه ومستغفراً من التقصير، «وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ 88» [هود: 88].

[الخليفة قبل الخليقة]:

أمَّا بعد، فإنَّ الله تبارك وتعالىٰ يقول في محكم كتابه: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً ...» الآية [البقرة: 30]، فبدأ (عزوجل)

ص: 18


1- كذا في النُّسَخ.

بالخليفة قبل الخليقة، فدلَّ ذلك علىٰ أنَّ الحكمة في الخليفة أبلغ من الحكمة في الخليقة، فلذلك ابتدأ به، لأنَّه سبحانه حكيم، والحكيم من يبدأ بالأهمّ دون الأعمّ، وذلك تصديق قول الصادق جعفر بن محمّد (علیهما السلام) حيث يقول: «الْحُجَّةُ قَبْلَ الْخَلْقِ، وَمَعَ الْخَلْقِ، وَبَعْدَ الْخَلْقِ »(1)، ولو خلق الله (عزوجل)الخليقة خلوا من الخليفة لكان قد عرَّضهم للتلف، ولم يردع السفيه عن سفهه بالنوع الذي توجب حكمته من إقامة الحدود وتقويم المفسد. واللحظة الواحدة لا تُسوِّغ الحكمة ضرب صفح عنها(2)، إنَّ الحكمة تعمُّ كما أنَّ الطاعة تعمُّ، ومن زعم أنَّ الدنيا تخلو ساعة من إمام لزمه أنْ يُصحِّح مذهب البراهمة في إبطالهم الرسالة، ولولا أنَّ القرآن نزل بأنَّ محمّداً (صلی الله علیه و آله) خاتم الأنبياء لوجب كون رسول في كلِّ وقت، فلمَّا صحَّ ذلك لارتفع معنىٰ كون الرسول بعدهوبقيت الصورة المستدعية للخليفة في العقل، وذلك أنَّ الله (تقدَّس ذكره) لا يدعو إلىٰ سبب إلَّا بعد أنْ يُصوِّر في العقول حقائقه، وإذا لم يُصوِّر ذلك لم تتَّسق الدعوة ولم تثبت الحجَّة، وذلك أنَّ الأشياء تألف أشكالها، وتنبو عن أضدادها، فلو كان في العقل إنكار الرُّسُل لما بعث الله (عزوجل)نبيًّا قطُّ.

مثال ذلك: الطبيب يعالج المريض بما يوافق طباعه، ولو عالجه بدواء يخالف طباعه أدَّىٰ ذلك إلىٰ تلفه، فثبت أنَّ الله أحكم الحاكمين لا يدعو إلىٰ سبب إلَّا وله في العقول صورة ثابتة، وبالخليفة يُستَدلُّ علىٰ المستخلِف كما جرت به العادة في العامَّة والخاصَّة، وفي المتعارف متىٰ استخلف مَلِك ظالماً استُدِلَّ بظلم خليفته علىٰ ظلم مستخلِفه، وإذا كان عادلاً استُدِلَّ بعدله علىٰ عدل مستخلِفه، فثبت أنَّ خلافة الله توجب العصمة، ولا يكون الخليفة إلَّا معصوماً.

ص: 19


1- سيأتي مسنداً تحت الرقم (75/5)، فانتظر.
2- يعني عن إقامة الحدود.

[وجوب طاعة الخليفة]:

ولمَّا استخلف الله (عزوجل)آدم في الأرض أوجب علىٰ أهل السماوات الطاعة له، فكيف الظنُّ بأهل الأرض؟ ولمَّا أوجب الله (عزوجل)علىٰ الخلق الإيمان بملائكة الله، وأوجب علىٰ الملائكة السجود لخليفة الله، ثمّ لمَّا امتنع ممتنع من الجنِّ عن السجود له أحلَّ الله به الذلُّ والصغار والدمار، وأخزاه ولعنه إلىٰ يوم القيامة، علمنا بذلك رتبة الإمام وفضله، وأنَّ الله تبارك وتعالىٰ لمَّا أعلم الملائكة أنَّه جاعل في الأرض خليفة أشهدهم علىٰ ذلك، لأنَّ العلم شهادة، فلزم من ادَّعىٰ أنَّ الخلق يختار الخليفة أنْ تشهد ملائكة الله كلُّهم عن آخرهم عليه، والشهادة العظيمة تدلُّ علىٰ الخطب العظيم كما جرت به العادة في الشاهد، فكيف وأنَّىٰ ينجوصاحب الاختيار من عذاب الله وقد شهدت عليه ملائكة الله أوَّلهم وآخرهم؟ وكيف وأنَّىٰ يُعذَّب صاحب النصِّ وقد شهدت له ملائكة الله كلُّهم؟

وله وجه آخر، وهو: أنَّ القضيَّة في الخليفة باقية إلىٰ يوم القيامة، ومن زعم أنَّ الخليفة أراد به النبوَّة فقد أخطأ من وجه، وذلك أنَّ الله (عزوجل)وعد أنْ يستخلف من هذه الأُمَّة (الفاضلة) خلفاء راشدين كما قال (جلَّ وتقدَّس): «وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً» [النور: 55]، ولو كانت قضيَّة الخلافة قضيَّة النبوَّة أوجب حكم الآية أنْ يبعث الله (عزوجل)نبيًّا بعد محمّد (صلی الله علیه و آله)، وما صحَّ قوله: «وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ» [الأحزاب: 40]، فثبت أنَّ الوعد من الله (عزوجل)ثابت من غير النبوَّة، وثبت أنَّ الخلافة تخالف النبوَّة بوجه، وقد يكون الخليفة غير نبيٍّ، ولا يكون النبيُّ إلَّا خليفة.

وآخر، هو: أنَّه (عزوجل)أراد أنْ يُظهِر باستعباده الخلق بالسجود لآدم (علیه السلام)

ص: 20

نفاق المنافق وإخلاص المخلص، كما كشفت الأيَّام والخبر عن قناعيهما أعني ملائكة الله والشيطان، ولو وكَّل ذلك المعنىٰ - من اختيار الإمام - إلىٰ من أضمر سوءاً لما كشفت الأيَّام عنه بالتعرُّض، وذلك أنَّه يختار المنافق من سمحت نفسه بطاعته والسجود له، فكيف وأنَّىٰ يُوصَل إلىٰ ما في الضمائر من النفاق والإخلاص والحسد والداء الدفين؟

ووجه آخر، وهو: أنَّ الكلمة تتفاضل علىٰ أقدار المخاطِب والمخاطَب، فخطاب الرجل عبده يخالف خطاب سيِّده، والمخاطِب كان الله(تبارک و تعالی)، والمخاطَبون ملائكة الله أوَّلهم وآخرهم، والكلمة العموم لها مصلحة عموم كما أنَّ الكلمة الخصوص لها مصلحة خصوص، والمثوبة في العموم أجلُّ من المثوبة في الخصوص، كالتوحيد الذي هو عموم علىٰ عامَّة خلق الله يخالف الحجَّ والزكاة وسائر أبواب الشرع الذي هو خصوص، فقوله (تبارک و تعالی): «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً» دلَّ علىٰ أنَّ فيه معنىٰ من معاني التوحيد لما أخرجه مخرج العموم، والكلمة إذا جاورت الكلمة في معنىٰ لزمها ما لزم أُختها إذا جمعهما معنىٰ واحد، ووجه ذلك أنَّ الله سبحانه علم أنَّ من خلقه من يُوحِّده ويأتمر لأمره، وأنَّ لهم أعداء يعيبونهم ويستبيحوا حريمهم، ولو أنَّه (عزوجل)قصَّر الأيدي عنهم جبراً وقهراً لبطلت الحكمة وثبت الإجبار رأساً(1)، وبطل الثواب والعقاب والعبادات، ولمَّا استحال ذلك وجب أنْ يدفع عن أوليائه بضرب من الضروب لا تبطل به ومعه العبادات والمثوبات، فكان الوجه في ذلك إقامة الحدود كالقطع والصلب والقتل والحبس وتحصيل الحقوق، كما قيل: (ما يزع السلطان أكثر ممَّا يزع القرآن)(2)، وقد نطق بمثله قوله (تبارک و تعالی): «لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي

ص: 21


1- في بعض النُّسَخ: (لبطلت الحكمة وتنيه الاختيار)، وفى بعضها: (وفائدة الاختيار)، وفى بعضها: (وتب الاختيار).
2- أي ما يمنع الحاكم أكثر ممَّا يمنع القرآن.

صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ» [الحشر: 13]، فوجب أنْ ينصب (عزوجل)خليفة يقصر من أيدي أعدائه عن أوليائه ما تصحُّ به ومعه الولاية، لأنَّه لا ولاية مع من أغفل الحقوق وضيَّع الواجبات ووجب خلعه في العقول، جلَّ الله تعالىٰ عن ذلك.

و(الخليفة) اسم مشترك لأنَّه لو أنَّ رجلاً بنىٰ مسجداً ولم يُؤذِّن فيهونصب فيه مؤذِّناً كان مؤذِّنه، فأمَّا إذا أذَّن فيه أيَّاماً ثمّ نصب فيه مؤذِّناً كان خليفته، وكذلك الصورة في العقول والمعارف متىٰ قال البندار(1): (هذا خليفتي)، كان خليفته علىٰ البندرة لا علىٰ البريد والمظالم، فكذلك القول في صاحبي البريد والمظالم، فثبت أنَّ الخليفة من الأسماء المشتركة، فكان من صفة الله (تعالىٰ ذكره) الانتصاف لأوليائه من أعدائه، فوكَّل من ذلك معنىٰ إلىٰ خليفته، فلهذا الشأن استحقَّ معنىٰ الخليفة دون معنىٰ أنْ يتَّخذ شريكاً معبوداً مع الله سبحانه، ولهذا من الشأن قال الله تبارك وتعالىٰ لإبليس: «قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ»، ثمّ قال (تبارک و تعالی): «بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ» [ص: 75]، وذلك أنَّه يقطع العذر ولا يُوهِم أنَّه خليفة شارك الله في وحدته، فقال - بعد ما عرفت أنَّه خلق الله -: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ»، ثمّ قال: «بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ»(2)، واليد في اللغة قد تكون بمعنىٰ النعمة، وقد كان لله (عزوجل)عليه نعمتان حوتا نِعَماً(3)، كقوله (تبارک و تعالی): «

ص: 22


1- البندار - بضمِّ الميم -: من بيده ديوان الخراج، ويقال لمحمّد بن بشَّار البصري: (بندار) لأنَّه جمع حديث أهل بلده.
2- يعنى الباء في قوله: «بِيَدَيَّ» ليست متعلِّقة ب «خَلَقْتُ» حتَّىٰ تكون اليد بمعنىٰ القدرة، بل متعلِّقة بفعل متأخِّر هو قوله: «أَسْتَكْبَرْتَ». أقول: وفيه ما لا يخفى، لأنَّ الهمزة للاستفهام بقرينة «أَمْ»، وشأنها الصدر، وعليه فلا يصحُّ أنْ يكون ما قبلها معمولاً لما بعدها كما حُقِّق في محلِّه، وفى حديث عن الرضا (علیه السلام)، قال: «يعنى بقدرتي وقوَّتي» (عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج 1/ ص 110/ ح 13).
3- في بعض النُّسَخ: (جرَّتا نِعَماً)، وكذا ما يأتي.

وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً» [لقمان: 20]، وهما نعمتان حوتا نِعَماً لا تُحصىٰ، ثمّ غلَّظ عليه القول بقوله (تبارک و تعالی): «بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ»، كقول القائل: (بسيفيتقاتلني؟ وبرمحي تطاعنني؟)، وهذا أبلغ في القبح وأشنع، فقوله (تبارک و تعالی): «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً» كانت كلمة متشابهة أحد وجوهها أنَّه يُتصوَّر عند الجاهل أنَّ الله (عزوجل)يستشير خلقه في معنىٰ التبس عليه، ويُتصوَّر عند المستدلِّ إذا استدلَّ علىٰ الله (عزوجل)بأفعاله المحكمة وجلالته الجليلة أنَّه جلَّ عن أنْ يلتبس عليه معنىٰ أو يستعجم عليه حال فإنَّه لا يعجزه شيء في السماوات والأرض، والسبيل في هذه الآية المتشابهة كالسبيل في أخواتها من الآيات المتشابهات أنَّها تُرَدُّ إلىٰ المحكمات ممَّا يُقطَع به ومعه العذر للمتطرِّق إلىٰ السفه والإلحاد.

فقوله: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً» يدلُّ علىٰ معنىٰ هدايتهم لطاعة جليلة مقترنة بالتوحيد، نافية عن الله (عزوجل)الخلع والظلم وتضييع الحقوق وما تصحُّ به ومعه الولاية، فتكمل معه الحجَّة، ولا يبقىٰ لأحد عذر في إغفال حقٍّ.

وأُخرىٰ، أنَّه (عزوجل)إذا علم استقلال أحد من عباده لمعنىٰ من معاني الطاعات ندبه له حتَّىٰ تحصل له به عبادة ويستحقُّ معها مثوبة علىٰ قدرها ما لو أغفل ذلك جاز أنْ يغفل جميع معاني حقوق خلقه أوَّلهم وآخرهم، جلَّ الله عن ذلك. فللقوام بحقوق الله وحقوق خلقه مثوبة جليلة متىٰ فكَّر فيها مفكِّر عرف أجزاءها، إذ لا وصول إلىٰ كلِّها لجلالتها وعظم قدرها، وأحد معانيها وهو جزء من أجزائها أنَّه يسعد بالإمام العادل النملة والبعوضة والحيوان أوَّلهم وآخرهم، بدلالة قوله تعالىٰ : «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ 107» [الأنبياء: 107]، ويدلُّ علىٰ صحَّة ذلك قوله (عزوجل)في قصَّة نوح (علیه السلام): «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوارَبَّكُمْ

ص: 23

إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً 10 يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً 11 ...» الآية [نوح: 10 و11]. ثمّ من المدرار ما ينتفع به الإنسان وسائر الحيوان، وسبب ذلك الدعاة إلىٰ دين الله والهداة إلىٰ حقِّ الله، فمثوبته علىٰ أقداره، وعقوبته علىٰ من عانده بحسابه. ولهذا نقول: إنَّ الإمام يُحتاج إليه لبقاء العالم علىٰ صلاحه.

وقد أخرجت الأخبار التي رويتها في هذا المعنىٰ في هذا الكتاب في باب العلَّة التي يُحتاج من أجلها إلىٰ الإمام .

[ليس لأحد أنْ يختار الخليفة إلا الله (تبارک و تعالی)]:

وقول الله (تبارک و تعالی): «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً»، «جَاعِلٌ» منوَّن(1) صفة الله التي وصف بها نفسه، وميزانه قوله: «إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ 71» [ص: 71]، فنوَّنه ووصف به نفسه، فمن ادَّعىٰ أنَّه يختار الإمام وجب أنْ يخلق بشراً من طين، فلمَّا بطل هذا المعنىٰ بطل الآخر، إذ هما في حيِّز واحد.

ووجه آخر، وهو: أنَّ الملائكة في فضلهم وعصمتهم لم يصلحوا لاختيار الإمام حتَّىٰ تولَّىٰ الله ذلك بنفسه دونهم، واحتجَّ به علىٰ عامَّة خلقه أنَّه لا سبيل لهم إلىٰ اختياره لمَّا لم يكن للملائكة سبيل إليه مع صفائهم ووفائهم وعصمتهم، ومدح الله إيَّاهم في آيات كثيرة، مثل قوله سبحانه: «بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ 26 لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ 27» [الأنبياء: 26 و27]، وكقوله (تبارک و تعالی): «لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ 6» [التحريم: 6].ثمّ إنَّ الإنسان بما فيه من السفه والجهل كيف وأنَّىٰ يستتبُّ له(2) ذلك؟ فهذا والأحكام دون الإمامة مثل الصلاة والزكاة والحجِّ وغير ذلك لم يكل

ص: 24


1- يعني قوله تعالىٰ: «جَاعِلٌ» بالتنوين يفيد الحصر.
2- أي يُهيِّؤ ويستقيم له. وفى بعض النُّسَخ: (يستثبت له).

الله (عزوجل)شيئاً من ذلك إلىٰ خلقه، فكيف وكَّل إليهم الأهمَّ الجامع للأحكام كلِّها والحقائق بأسرها؟

[وجوب وحدة الخليفة في كلِّ عصر]:

وفي قوله (تبارک و تعالی): «خَلِيفَةً» إشارة إلىٰ خليفة واحدة ثبت به ومعه إبطال قول من زعم أنَّه يجوز أنْ تكون في وقت واحد أئمَّة كثيرة، وقد اقتصر الله (عزوجل)علىٰ الواحد، ولو كانت الحكمة ما قالوه وعبَّروا عنه لم يقتصر الله (عزوجل)علىٰ الواحد، ودعوانا مُحاذٍ لدعواهم. ثمّ إنَّ القرآن يُرجِّح قولنا دون قولهم، والكلمتان إذا تقابلتا ثمّ رُجِّح إحداهما علىٰ الأُخرىٰ بالقرآن، كان الرجحان أولىٰ.

[لزوم وجود الخليفة]:

ولقوله (تبارک و تعالی): «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ ...» الآية في الخطاب الذي خاطب الله (عزوجل)به نبيَّه (صلی الله علیه و آله) لمَّا قال: «رَبُّكَ» من أصحّ الدليل علىٰ أنَّه سبحانه يستعمل هذا المعنىٰ في أُمَّته إلىٰ يوم القيامة، فإنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة له عليهم، ولولا ذلك لما كان لقوله: «رَبُّكَ» حكمة، وكان يجب أنْ يقول: (ربُّهم)، وحكمة الله في السلف كحكمته في الخلف لا يختلف في مرِّ الأيَّام وكرِّ الأعوام، وذلك أنَّه (عزوجل)عدل حكيم لا يجمعه وأحد من خلقه نسب، جلَّ الله عن ذلك.

[وجوب عصمة الإمام]:

ولقوله (تبارک و تعالی): «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً ...» الآية [البقرة: 30] معنىٰ، وهو أنَّه (عزوجل)لا يستخلف إلَّا من له نقاء السريرة ليبعد عن الخيانة، لأنَّه لو اختار من لا نقاء له في السريرة كان قد خان خلقه، لأنَّه لو أنَّ دلَّالاً قدَّم حمَّالاً خائناً إلىٰ تاجر فحمل له حملاً فخان فيه كان

ص: 25

الدلَّال خائناً، فكيف تجوز الخيانة علىٰ الله (عزوجل)وهو يقول - وقوله الحقُّ -: «أَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ 52» [يوسف: 52]، وأدَّب محمّداً (صلی الله علیه و آله) بقوله (تبارک و تعالی): «وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً 105» [النساء: 105]؟ فكيف وأنَّىٰ يجوز أنْ يأتي ما ينهىٰ عنه، وقد عيَّر اليهود بسمة النفاق وقال: «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ 44» [البقرة: 44]؟

وفي قول الله (تبارک و تعالی): «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً»، حجَّة قويَّة في غيبة الإمام (علیه السلام)، وذلك أنَّه (عزوجل)لمَّا قال: «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً» أوجب بهذا اللفظ معنىٰ وهو أنْ يعتقدوا طاعته، فاعتقد عدوُّ الله إبليس بهذه الكلمة نفاقاً وأضمره حتَّىٰ صار به منافقاً، وذلك أنَّه أضمر أنَّه يخالفه متىٰ استُعبِدَ بالطاعة له، فكان نفاقه أنكر النفاق لأنَّه نفاق بظهر الغيب، ولهذا من الشأن صار أخزىٰ المنافقين كلِّهم. ولمَّا عرَّف الله (عزوجل)ملائكته ذلك أضمروا الطاعة له واشتاقوا إليه، فأضمروا نقيض ما أضمره الشيطان فصار لهم من الرتبة عشرة أضعاف ما استحقَّ عدوُّ الله من الخزي والخسار. فالطاعة والموالاة بظهر الغيب أبلغ في الثواب والمدح، لأنَّهأبعد من الشبهة والمغالطة، ولهذا روي عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «مَنْ دَعَا لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ نَادَاهُ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ: ولَكَ مِثْلَاهُ »(1).

وإنَّ الله تبارك وتعالىٰ أكَّد دينه بالإيمان بالغيب، فقال: «هُدًى لِلْمُتَّقِينَ 2 الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ...» الآية [البقرة: 2 و3]، فالإيمان بالغيب أعظم مثوبةً لصاحبه، لأنَّه خلوٌ من كلِّ عيب وريب، لأنَّ بيعة الخليفة وقت المشاهدة قد

ص: 26


1- روىٰ قريباً منه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 2/ ص 507/ باب الدعاء للإخوان بظهر الغيب/ ح 4، وج 4/ ص 465 و466/ باب الوقوف بعرفة وحدِّ الموقف/ ح 9)، والمفيد (رحمة الله) في الاختصاص (ص 84)، والطوسي (رحمة الله) في تهذيب الأحكام (ج 5/ ص 185/ ح 617/21).

يُتوهَّم علىٰ المبايَع أنَّه إنَّما يطيع رغبةً في خير أو مال، أو رهبةً من قتل، أو غير ذلك ممَّا هو عادات أبناء الدنيا في طاعة ملوكهم، وإيمان الغيب مأمون من ذلك كلِّه، ومحروس من معايبه بأصله، يدلُّ علىٰ ذلك قول الله (تبارک و تعالی): «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكينَ 84 فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا» [غافر: 84 و85].

ولمَّا حصل للمتعبِّد ما حصل من الإيمان بالغيب لم يحرم الله (عزوجل)ذلك ملائكته، فقد جاء في الخبر أنَّ الله سبحانه قال هذه المقالة للملائكة قبل خلق آدم بسبعمائة عام، وكان يحصل في هذه المدَّة الطاعة لملائكة الله علىٰ قدرها. ولو أنكر منكر هذا الخبر والوقت والأعوام لم يجد بُدًّا من القول بالغيبة ولو ساعة واحدة، والساعة الواحدة لا تتعرَّىٰ من حكمة ما، وما حصل من الحكمة في الساعة حصل فيالساعتين حكمتان، وفي الساعات حِكَم، وما زاد في الوقت إلَّا زاد في المثوبة، وما زاد في المثوبة إلَّا كشف عن الرحمة، ودلَّ علىٰ الجلالة، فصحَّ الخبر أنَّ فيه تأييد الحكمة وتبليغ الحجَّة.

وفي قول الله (تبارک و تعالی): «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً» حجَّة في غيبة الإمام (علیه السلام) من أوجه كثيرة:

أحدها: أنَّ الغيبة قبل الوجود أبلغ الغيبات كلِّها، وذلك أنَّ الملائكة ما شهدوا(1) قبل ذلك خليفة قطُّ، وأمَّا نحن فقد شاهدنا خلفاء كثيرين غير واحد قد نطق به القرآن وتواترت به الأخبار حتَّىٰ صارت كالمشاهدة، والملائكة لم يشهدوا(2) واحداً منهم، فكانت تلك الغيبة أبلغ.

وآخر: أنَّها كانت غيبة من الله (تبارک و تعالی)، وهذه الغيبة التي للإمام (علیه السلام) هي من

ص: 27


1- في بعض النُّسَخ: (ما شاهدوا).
2- في بعض النُّسَخ: (لم يعهدوا).

قِبَل أعداء الله تعالىٰ، فإذا كان في الغيبة التي هي من الله (عزوجل)عبادة لملائكته فما الظنُّ بالغيبة التي هي من أعداء الله؟ وفي غيبة الإمام (علیه السلام) عبادة مخلصة(1) لم تكن في تلك الغيبة، وذلك أنَّ الإمام الغائب (علیه السلام) مقموع مقهور مزاحَم في حقِّه، قد غُلِبَ قهراً، و[جرىٰ] علىٰ شيعته [قسراً] من أعداء الله ما جرىٰ من سفك الدماء ونهب الأموال وإبطال الأحكام والجور علىٰ الأيتام وتبديل الصدقات وغير ذلك ممَّا لا خفاء به، ومن اعتقد موالاته شاركه في أجره وجهاده وتبرَّأ من أعدائه، وكان له في براءة مواليه من أعدائه أجر، وفي ولاية أوليائه أجر يربو علىٰ أجر ملائكة الله (تبارک وتعالی) علىٰ الإيمان بالإمام المغيَّب في العدم، وإنَّما قصَّ الله (عزوجل)نبأه قبل وجوده توقيراً وتعظيماً له ليستعبد له الملائكة ويتشمَّروا لطاعته.

وإنَّما مثال ذلك تقديم المَلِك فيما بيننا بكتاب أو رسول إلىٰ أوليائه أنَّه قادم عليهم حتَّىٰ يتهيَّئوا لاستقباله وارتياد الهدايا له ما يقطع به ومعه عذرهم في تقصير إنْ قصَّروا في خدمته، كذلك بدأ الله (عزوجل)بذكر نبئه إبانةً عن جلالته ورتبته، وكذلك قضيَّته في السلف والخلف، فما قبض خليفة إلَّا عرَّف خلقه الخليفة الذي يتلوه، وتصديق ذلك قوله (تبارک و تعالی): «أَفَمَنْ كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ ...» الآية [هود: 17]، والذي علىٰ بيِّنة من ربِّه محمّد (صلی الله علیه و آله)، والشاهد الذي يتلوه عليُّ بن أبي طالب أمير المؤمنين (علیه السلام)، دلالته قوله (تبارک و تعالی): «وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَاماً وَرَحْمَةً»، والكلمة من كتاب موسىٰ المحاذية لهذا المعنىٰ حذو النعل بالنعل والقذَّة بالقذَّة، قوله: «وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ 142» [الأعراف: 142].

ص: 28


1- في بعض النُّسَخ: (عبادة محصَّلة).

[السرُّ في أمره تعالى الملائكة بالسجود لآدم (علیه السلام)]:

واستعبد الله (عزوجل)الملائكة بالسجود لآدم تعظيماً له لما غيَّبه عن أبصارهم، وذلك أنَّه (عزوجل)إنَّما أمرهم بالسجود لآدم لما أودع صلبه من أرواح حُجَج الله (تعالىٰ ذكره)، فكان ذلك السجود لله (عزوجل)عبوديَّة، ولآدم طاعة، ولما في صلبه تعظيماً، فأبىٰ إبليس أنْ يسجد لآدم حسداً له، إذ جُعِلَ صلبه مستودع أرواح حُجَج اللهدون صلبه، فكفر بحسده وتأبِّيه، وفسق عن أمر ربِّه، وطُرِدَ عن جواره، ولُعِنَ وسُمّي رجيماً لأجل إنكاره للغيبة، لأنَّه احتجَّ في امتناعه من السجود لآدم بأنْ قال: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ 12» [الأعراف: 12]، فجحد ما غُيِّب عن بصره ولم يُوقِع التصديق به، واحتجَّ بالظاهر الذي شاهده وهو جسد آدم (علیه السلام)، وأنكر أنْ يكون يعلم لما في صلبه وجوداً، ولم يؤمن بأنَّ آدم إنَّما جُعِلَ قبلةً للملائكة وأُمروا بالسجود له لتعظيم ما في صلبه. فمَثَل من آمن بالقائم (علیه السلام) في غيبته مَثَل الملائكة الذين أطاعوا الله (عزوجل)في السجود لآدم، ومَثَل من أنكر القائم (علیه السلام) في غيبته مَثَل إبليس في امتناعه من السجود لآدم، كذلك روي عن الصادق جعفر بن محمّد (علیهما السلام).

حَدَّثَنَا بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الله الْكُوفِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبَرْمَكِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الله الْكُوفِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَيْمَنَ بْنِ مُحْرِزٍ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام) «أَنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ عَلَّمَ آدَمَ (علیه السلام) أَسْمَاءَ حُجَجِ الله كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ - وهُمْ أَرْوَاحٌ - عَلَىٰ المَلَائِكَةِ، فَقالَ: «أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ 31» بِأَنَّكُمْ أَحَقُّ بِالْخِلَافَةِ فِي الْأَرْضِ لِتَسْبِيحِكُمْ وتَقْدِيسِكُمْ مِنْ آدَمَ (علیه السلام)، «قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ 32»، قَالَ الله تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ : «يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ

ص: 29

فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ» وَقَفُوا عَلَىٰ عَظِيمِ مَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَىٰ ذِكْرُهُ، فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِأَنْ يَكُونُوا خُلَفَاءَ اللهِ فِي أَرْضِهِ وحُجَجَهُ عَلَىٰ بَرِيَّتِهِ، ثُمَّ غَيَّبَهُمْ عَنْ أَبْصَارِهِمْ واسْتَعْبَدَهُمْ بِوَلَايَتِهِمْ ومَحَبَّتِهِمْ، وقَالَ لَهُمْ: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّيأَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ 33» [البقرة: 31 - 33]».

حدَّثنا بذلك أحمد بن الحسن القطَّان، قال: حدَّثنا الحسين بن عليٍّ السكّري، قال: حدَّثنا محمّد بن زكريَّا الجوهري، قال: حدَّثنا جعفر بن محمّد بن عمارة، عن أبيه، عن الصادق جعفر بن محمّد (علیهما السلام) .

وهذا استعباد الله (عزوجل)للملائكة بالغيبة والآية أوَّلها في قصَّة الخليفة، وإذا كان آخرها مثلها كان للكلام نظم، وفي النظم حجَّة، ومنه يُؤخَذ وجه الإجماع لأُمَّة محمّد (صلی الله علیه و آله) أوَّلهم وآخرهم، وذلك أنَّه سبحانه وتعالىٰ إذا علَّم آدم الأسماء كلَّها علىٰ ما قاله المخالفون، فلا محالة أنَّ أسماء الأئمَّة (علیهم السلام) داخلة في تلك الجملة، فصار ما قلناه في ذلك بإجماع الأُمَّة. ومن أصحّ الدليل عليه أنَّه لا محالة لمَّا دلَّ الملائكة علىٰ السجود لآدم فإنَّه حصل لهم عبادة، فلمَّا حصل لهم عبادة أوجب باب الحكمة أنْ يحصل لهم ما هو في حيِّزه، سواء كان في وقت أو في غير وقت فإنَّ الأوقات ما تُغيِّر الحكمة ولا تُبدِّل الحجَّة، أوَّلها كآخرها وآخرها كأوَّلها، لا يجوز في حكمة الله أنْ يحرمهم معنًى من معاني المثوبة، ولا أنْ يبخل بفضل من فضائل الأئمَّة، لأنَّهم كلُّهم شرع واحد.

دليل ذلك أنَّ الرُّسُل متىٰ آمن مؤمن بواحد منهم أو بجماعة وأنكر واحداً منهم، لم يقبل منه إيمانه، كذلك القضيَّة في الأئمَّة (علیهم السلام) أوَّلهم وآخرهم واحد، وقد قال الصادق (علیه السلام): «المُنْكِرُ لِآخِرِنَا كَالمُنْكِرِ لِأَوَّلِنَا»(1)، وَقَالَ (علیه السلام): «مَنْ أَنْكَرَ

ص: 30


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في الاعتقادات (ص 104).

وَاحِداً مِنَ الْأَحْيَاءِ فَقَدْ أَنْكَرَ الْأَمْوَاتَ »(1)، وسأُخرِّج ذلك في هذا الكتاب مسنداً في موضعه إنْ شاء الله.

فصحَّ أنَّ قوله (تبارک و تعالی): «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّها» [البقرة: 31]، أراد به أسماء الأئمَّة (علیهم السلام)، وللأسماء معانٍ كثيرة وليس أحد معانيها بأولىٰ من الآخر، وللأسماء أوصاف وليس أحد الأوصاف بأولىٰ من الآخر.

فمعنىٰ الأسماء أنَّه سبحانه علَّم آدم (علیه السلام) أوصاف الأئمَّة كلَّها أوَّلها وآخرها، ومن أوصافهم العلم والحلم والتقوىٰ والشجاعة والعصمة والسخاء والوفاء، وقد نطق بمثله كتاب الله (عزوجل)في أسماء الأنبياء (علیهم السلام)، كقوله (تبارک و تعالی): «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا 41» [مريم: 41]، «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا 54 وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا 55 وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا 56 وَرَفَعْنَاهُ مَكاناً عَلِيًّا 57» [مريم: 54 - 57]، وكقوله (تبارک و تعالی): «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا 51 وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا 52 وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا 53» [مريم: 51 - 53]، فوصف الرُّسُل (علیهم السلام) وحمدهم بما كان فيهم من الشِّيَم المرضيَّة والأخلاق الزكيَّة، وكان ذلك أوصافهم وأسماءهم كذلك علَّم الله (عزوجل)آدم الأسماء كلَّها.

والحكمة في ذلك أيضاً أنَّه لا وصول إلىٰ الأسماء ووجوه الاستعبادات إلَّا من طريق السماع، والعقل غير متوجِّه إلىٰ ذلك، لأنَّه لوأبصر عاقلٌ شخصاً من بعيد أو قريب لما توصَّل إلىٰ استخراج اسمه، ولا سبيل إليه إلَّا من طريق السماع، فجعل الله (عزوجل)العمدة في باب الخليفة السماع، ولمَّا كان كذلك أبطل به باب

ص: 31


1- سيأتي مسنداً تحت الرقم (344/1)، فانتظر.

الاختيار، إذ الاختيار من طريق الآراء، وقضيَّة الخليفة موضوعة علىٰ الأسماء، والأسماء موضوعة علىٰ السماع، فصحَّ به ومعه مذهبنا في الإمام أنَّه يصحُّ بالنصِّ والإشارة، فأمَّا باب الإشارة فمضمر في قوله (تبارک و تعالی): «ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَىٰ الْمَلَائِكَةِ» [البقرة: 31]، فباب العرض مبنيٌّ علىٰ الشخص والإشارة، وباب الاسم مبنيٌّ علىٰ السمع، فصحَّ معنىٰ الإشارة والنصِّ جميعاً.

وللعرض الذي قال الله (تبارک و تعالی): «ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَىٰ الْمَلَائِكَةِ» معنيان:

أحدهما: عرض أشخاصهم وهيئاتهم كما رويناه في باب أخبار أخذ الميثاق والذرِّ.

والوجه الآخر: أنْ يكون (عزوجل)عرضهم علىٰ الملائكة من طريق الصفة والنسبة كما يقوله قوم من مخالفينا.

فمن كلا المعنيين يحصل استعباد الله (عزوجل)الملائكة بالإيمان بالغيبة.

وفي قوله (تبارک و تعالی): «أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ 31» حِكَم كثيرة:

أحدها: أنَّ الله (عزوجل)أهَّل آدم (علیه السلام) لتعليم الملائكة أسماء الأئمَّة عن الله (تعالىٰ ذكره)، وأهَّل الملائكة لتعلُّم أسمائهم عن آدم (علیه السلام)، فالله (عزوجل)علَّم آدم وآدم علَّم الملائكة،فكان آدم في حيِّز المعلِّم وكانوا في حيِّز المتعلِّمين، هذا ما نصَّ عليه القرآن.

وقول الملائكة: «سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ 32» فيه أصحُّ دليل وأبين حجَّة لنا أنَّه لا يجوز لأحد أنْ يقول في أسماء الأئمَّة وأوصافهم (علیهم السلام) إلَّا عن تعليم الله (جل جلاله)، ولو جاز لأحد ذلك كان للملائكة أجوز، ولمَّا سبَّحوا الله دلَّ تسبيحهم علىٰ أنَّ الشرع فيه ممَّا ينافي التوحيد، وذلك أنَّ التسبيح تنزيه الله (تبارک و تعالی)، وباب التنزيه لا يوجد في القرآن إلَّا

ص: 32

عند قول جاحد أو ملحد أو متعرِّض لإبطال التوحيد والقدح فيه، فلم يستنكفوا إذ لم يعلموا أنْ يقولوا: «لَا عِلْمَ لَنَا»، فمن تكلَّف علم ما لا يعلم احتجَّ الله عليه بملائكته، وكانوا شهداء الله عليه في الدنيا والآخرة، وإنَّما أهَّل اللهُ الملائكةَ لإعلامهم علىٰ لسان آدم عند اعترافهم بالعجز وأنَّهم لا يعلمون، فقال (تبارک و تعالی): «يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ».

ولقد كلَّمني رجل بمدينة السلام(1)، فقال لي: إنَّ الغيبة قد طالت، والحيرة قد اشتدَّت، وقد رجع كثير عن القول بالإمامة لطول الأمد، فكيف هذا؟

فقلت له: إنَّ سُنَّة الأوَّلين في هذه الأُمَّة جارية حذو النعل بالنعل كما روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في غير خبر، وإنَّ موسىٰ (علیه السلام) ذهب إلىٰ ميقات ربِّه علىٰ أنْ يرجع إلىٰ قومه بعد ثلاثين ليلة فأتمَّها الله (عزوجل)بعشرة، «فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» [الأعراف: 142]، ولتأخُّره عنهم فضل عشرة أيَّام علىٰ ما واعدهماستطالوا المدَّة القصيرة وقست قلوبهم وفسقوا عن أمر ربِّهم (عزوجل)وعن أمر موسىٰ (علیه السلام) وعصوا خليفته هارون واستضعفوه وكادوا يقتلونه، وعبدوا عجلاً جسداً له خوار من دون الله (تبارک و تعالی)، وقال السامري لهم: «هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسَىٰ» [طه: 88]، وهارون يعظهم وينهاهم عن عبادة العجل، ويقول: «يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي 90 قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ 91» [طه: 90 و 91]، «وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَىٰ الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ» [الأعراف: 150]، والقصَّة في ذلك مشهورة، فليس بعجيب أنْ يستطيل الجُهَّال من هذه الأُمَّة مدَّة غيبة صاحب زماننا (علیه السلام)، ويرجع كثير منهم عمَّا كانوا دخلوا فيه بغير أصل وبصيرة،

ص: 33


1- يعني بغداد.

ثمّ لا يعتبرون بقول الله (تعالىٰ ذكره) حيث يقول: «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ 16» [الحديد: 16].

فقال(1): وما أنزل الله (عزوجل)في كتابه في هذا المعنىٰ؟

قلت: قوله (تبارک و تعالی): «الم 1 ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ 2 الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» [البقرة: 1 - 3]، يعني بالقائم (علیه السلام) وغيبته.

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رحمة الله)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ،عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ كَثِيرٍ الرَّقِّيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) فِي قَوْلِ اللهِ (تبارک و تعالی): «هُدًى لِلْمُتَّقِينَ 2 الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»، قَالَ: «مَنْ أَقَرَّ بِقِيَامِ الْقَائِمِ (علیه السلام) أَنَّهُ حَقٌّ»(2).

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَىٰ (رحمة الله)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَىٰ بْنُ عِمْرَانَ النَّخَعِيُّ، عَنْ عَمِّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ يَحْيَىٰ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ، قَالَ: سَأَلْتُ الصَّادِقَ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام) عَنْ قَوْلِ اللهِ (تبارک و تعالی): «الم 1 ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ 2 الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»، فَقَالَ: «المُتَّقُونَ شِيعَةُ عَلِيٍّ (علیه السلام)، وَالْغَيْبُ فَهُوَ الْحُجَّةُ الْغَائِبُ»(3)، وشاهد ذلك قول الله (تبارک و تعالی): «وَيَقُولُونَ لَوْ لَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ 20» [يونس: 20] ، فأخبر (عزوجل)أنَّ الآية هي الغيب، والغيب هو الحجَّة، وتصديق

ص: 34


1- يعني الرجل الذي كلَّمه بمدينة السلام.
2- سيأتي تحت الرقم (260/19)، فانتظر.
3- سيأتي تحت الرقم (261/20)، فانتظر.

ذلك قول الله (تبارک و تعالی): «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً» [المؤمنون: 50]، يعني حجَّة.

حَدَّثَنَا أَبِي (رحمة الله)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ ابْنِ أَبِي الْخَطَّابِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رِئَابٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ اللهِ (تبارک و تعالی): «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ» [الأنعام: 158]، فَقَالَ: «الْآيَاتُ هُمُ الْأَئِمَّةُ، وَالْآيَةُ المُنْتَظَرَةُ هُوَ الْقَائِمُ (علیه السلام)، فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلِ قِيَامِهِ بِالسَّيْفِ وَإِنْ آمَنَتْبِمَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ آبَائِهِ (علیهم السلام)»(1).

وقد سمَّىٰ اللهُ (عزوجل)يوسفَ (علیه السلام) غيباً حين قصَّ قصَّته علىٰ نبيِّه محمّد (صلی الله علیه و آله)، فقال (تبارک و تعالی): «ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ 102» [يوسف: 102]، فسمَّىٰ يوسف (علیه السلام) غيباً لأنَّ الأنباء التي قصَّها كانت أنباء يوسف فيما أخبر به من قصَّته وحاله وما آلت إليه أُموره.

ولقد كلَّمني بعض المخالفين في هذه الآية، فقال: معنىٰ قوله (تبارک و تعالی): «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» أي بالبعث والنشور وأحوال القيامة، فقلت له: لقد جهلت في تأويلك وضللت في قولك، فإنَّ اليهود والنصارىٰ وكثيراً من فِرَق المشركين والمخالفين لدين الإسلام يؤمنون بالبعث والنشور والحساب والثواب والعقاب، فلم يكن الله تبارك وتعالىٰ ليمدح المؤمنين بمدحة قد شركهم فيها فِرَق الكفر والجحود، بل وصفهم الله (عزوجل)ومدحهم بما هو لهم خاصَّةً، لم يشركهم فيه أحد غيرهم(2).

ص: 35


1- سيأتي ذكر مصادره تحت الرقم (249/8)، فانتظر.
2- هذا النكير من المصنِّف (رحمة الله) في غير مورده، ومخالف لما روي من طريق جابر عن الباقر (علیه السلام) في معنىٰ الغيب في الآية «أنَّه البعث والنشور وقيام القائم والرجعة» (تأويل الآيات الظاهرة: ج 1/ ص 31 و32/ ح 1)، وما روي عن الصادق (علیه السلام) أنَّ المراد بالغيب هنا ثلاثة أشياء: «قيام القائم، والكرَّة، ويوم القيامة».

[وجوب معرفة المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)]:

ولا يكون الإيمان صحيحاً من مؤمن إلَّا من بعد علمه بحال من يؤمن به، كما قال الله تبارك وتعالىٰ: «إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ 86» [الزخرف: 86]، فلم يوجب لهم صحَّة ما يشهدون به إلَّا من بعد علمهم،ثمّ كذلك لن ينفع إيمان من آمن بالمهدي القائم (علیه السلام) حتَّىٰ يكون عارفاً بشأنه في حال غيبته، وذلك أنَّ الأئمَّة (علیهم السلام) قد أخبروا بغيبته (علیه السلام)، ووصفوا كونها لشيعتهم فيما نُقِلَ عنهم واستُحفِظَ في الصُّحُف ودُوِّن في الكُتُب المؤلَّفة من قبل أنْ تقع الغيبة بمائتي سنة أو أقلّ أو أكثر، فليس أحد من أتباع الأئمَّة (علیهم السلام) إلَّا وقد ذكر ذلك في كثير من كُتُبه ورواياته ودوَّنه في مصنَّفاته، وهي الكُتُب التي تُعرَف بالأُصول مدوَّنة مستحفَظة عند شيعة آل محمّد (علیهم السلام) من قبل الغيبة بما ذكرنا من السنين، وقد أخرجت ما حضرني من الأخبار المسندة في الغيبة في هذا الكتاب في مواضعها، فلا يخلو حال هؤلاء الأتباع المؤلِّفين للكُتُب أنْ يكونوا علموا الغيب بما وقع الآن من الغيبة، فألَّفوا ذلك في كُتُبهم ودوَّنوه في مصنَّفاتهم من قبل كونها، وهذا محال عند أهل اللُّبِّ والتحصيل، أو أنْ يكونوا [قد] أسَّسوا في كُتُبهم الكذب فاتَّفق الأمر لهم كما ذكروا وتحقَّق كما وضعوا من كذبهم علىٰ بُعد ديارهم واختلاف آرائهم وتباين أقطارهم ومحالِّهم، وهذا أيضاً محال كسبيل الوجه الأوَّل، فلم يبقَ في ذلك إلَّا أنَّهم حفظوا عن أئمَّتهم المستحفظين للوصيَّة (علیهم السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) من ذكر الغيبة وصفة كونها في مقام بعد مقام إلىٰ آخر المقامات ما دوَّنوه في كُتُبهم وألَّفوه في أُصولهم، وبذلك وشبهه فلج الحقُّ «وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً 81» [الإسراء: 81].

وإنَّ خصومنا ومخالفينا من أهل الأهواء المضلَّة قصدوا(1) لدفع الحقِّ

ص: 36


1- في بعض النُّسَخ: (تصدَّوا).

وعناده بما وقع من غيبة صاحب زماننا القائم (علیه السلام)واحتجابه عن أبصار المشاهدين ليُلبِّسوا بذلك علىٰ من لم تكن معرفته متقنة(1) ولا بصيرته مستحكمة.

[إثبات الغيبة والحكمة فيها]:

فأقول - وبالله التوفيق -: إنَّ الغيبة التي وقعت لصاحب زماننا (علیه السلام) قد لزمت حكمتها وبان حقُّها وفلجت حجَّتها للذي شاهدناه وعرفناه من آثار حكمة الله (عزوجل)واستقامة تدبيره في حُجَجه المتقدِّمة في الأعصار السالفة مع أئمَّة الضلال وتظاهر الطواغيت واستعلاء الفراعنة في الحُقَب الخالية وما نحن بسبيله في زماننا هذا من تظاهر أئمَّة الكفر بمعونة أهل الإفك والعدوان والبهتان.

وذلك أنَّ خصومنا طالبونا بوجود صاحب زماننا (علیه السلام) كوجود من تقدَّمه من الأئمَّة (علیهم السلام)، فقالوا: إنَّه قد مضىٰ علىٰ قولكم من عصر وفاة نبيِّنا (علیه السلام) أحد عشر إماماً كلٌّ منهم كان موجوداً معروفاً باسمه وشخصه بين الخاصِّ والعامِّ، فإنْ لم يوجد كذلك فقد فسد عليكم أمر من تقدَّم من أئمَّتكم كفساد أمر صاحب زمانكم هذا في عدمه وتعذُّر وجوده.

فأقول - وبالله التوفيق -: إنَّ خصومنا قد جهلوا آثار حكمة الله تعالىٰ وأغفلوا مواقع الحقِّ ومناهج السبيل في مقامات حُجَج الله تعالىٰ مع أئمَّة الضلال في دُوَل الباطل في كلِّ عصر وزمان، إذ قد ثبت أنَّ ظهور حُجَج الله تعالىٰ في مقاماتهم في دُوَل الباطل علىٰ سبيل الإمكان والتدبير لأهل الزمان، فإنْ كانت الحال ممكنة في استقامة تدبير الأولياء

ص: 37


1- في بعض النُّسَخ: (مستقيمة).

لوجودالحجَّة بين الخاصِّ والعامِّ كان ظهور الحجَّة كذلك، وإنْ كانت الحال غير ممكنة من استقامة تدبير الأولياء لوجود الحجَّة بين الخاصِّ والعامِّ وكان استتاره ممَّا توجبه الحكمة ويقتضيه التدبير حَجَبَه اللهُ وستره إلىٰ وقت بلوغ الكتاب أجله، كما قد وجدنا من ذلك في حُجَج الله المتقدِّمة من عصر وفاة آدم (علیه السلام) إلىٰ حين زماننا هذا، منهم المستخفون ومنهم المستعلنون، بذلك جاءت الآثار ونطق الكتاب .

فمن ذلك ما:

حَدَّثَنَا بِهِ أَبِي (رحمة الله)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ خَالِدٍ الْبَرْقِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ أَبِي الدَّيْلَمِ، قَالَ: قَالَ الصَّادِقُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام): «يَا عَبْدَ الْحَمِيدِ، إِنَّ لِلهِ رُسُلاً مُسْتَعْلِنِينَ وَرُسُلاً مُسْتَخْفِينَ، فَإِذَا سَأَلْتَهُ بِحَقِّ المُسْتَعْلِنِينَ فَسَلْهُ بِحَقِّ المُسْتَخْفِينَ »(1).

وتصديق ذلك من الكتاب قوله تعالىٰ: «وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً 164» [النساء: 164]، فكانت حُجَج الله تعالىٰ كذلك من وقت وفاة آدم (علیه السلام) إلىٰ وقت ظهور إبراهيم (علیه السلام) أوصياء مستعلنين ومستخفين، فلمَّا كان وقت كون إبراهيم (علیه السلام) ستر الله شخصه وأخفىٰ ولادته، لأنَّ الإمكان في ظهور الحجَّة كان متعذِّراً في زمانه، وكان إبراهيم (علیه السلام) في سلطان نمرود مستتراً لأمره وكان غير مظهر نفسه، ونمرود يقتل أولاد رعيَّته وأهل مملكته في طلبه إلىٰ أنْ دلَّهم إبراهيم (علیه السلام) علىٰ نفسه، وأظهر لهم أمره بعد أنْ بلغت الغيبةأمدها ووجب إظهار ما أظهره للذي أراده الله في إثبات حجَّته وإكمال دينه، فلمَّا كان وقت وفاة إبراهيم (علیه السلام) كان له أوصياء حُجَجاً لله (عزوجل)في أرضه يتوارثون الوصيَّة كذلك مستعلنين ومستخفين إلىٰ وقت كون موسىٰ (علیه السلام)، فكان فرعون يقتل أولاد بني

ص: 38


1- سيأتي بسند آخر تحت الرقم (268/27)، فانتظر.

إسرائيل في طلب موسىٰ (علیه السلام) الذي قد شاع من ذكره وخبر كونه، فستر الله ولادته، ثمّ قذفت به أُمُّه في اليمِّ كما أخبر الله (عزوجل)في كتابه ، «فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ» [القَصص: 8]، وكان موسىٰ (علیه السلام) في حجر فرعون يُربِّيه وهو لا يعرفه، وفرعون يقتل أولاد بني إسرائيل في طلبه، ثمّ كان من أمره بعد أنْ أظهر دعوته ودلَّهم علىٰ نفسه ما قد قصَّه الله (عزوجل)في كتابه، فلمَّا كان وقت وفاة موسىٰ (علیه السلام) كان له أوصياء حُجَجاً لله كذلك مستعلنين ومستخفين إلىٰ وقت ظهور عيسىٰ (علیه السلام).

فظهر عيسىٰ (علیه السلام) في ولادته، معلناً لدلائله، مظهراً لشخصه، شاهراً لبراهينه، غير مخفٍ لنفسه، لأنَّ زمانه كان زمان إمكان ظهور الحجَّة كذلك.

ثمّ كان له من بعده أوصياء حُجَجاً لله (عزوجل)كذلك مستعلنين ومستخفين إلىٰ وقت ظهور نبيِّنا (صلی الله علیه و آله)، فقال الله (عزوجل)له في الكتاب: «مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ» [فُصِّلت: 43]، ثمّ قال (تبارک و تعالی): «سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا» [الإسراء: 77]، فكان ممَّا قيل له ولزم من سُنَّته علىٰ إيجاب سُنَن من تقدَّمه من الرُّسُل إقامة الأوصياء له كإقامة من تقدَّمه لأوصيائهم، فأقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) أوصياء كذلك، وأخبر بكون المهديخاتم الأئمَّة (علیهم السلام)، وأنَّه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً، نقلت الأُمَّة ذلك بأجمعها عنه، وأنَّ عيسىٰ (علیه السلام) ينزل في وقت ظهوره فيُصلِّي خلفه، فحُفِظَت ولادات الأوصياء ومقاماتهم في مقام بعد مقام إلىٰ وقت ولادة صاحب زماننا (علیه السلام) المنتظر للقسط والعدل، كما أوجبت الحكمة باستقامة التدبير غيبة من ذكرنا من الحُجَج المتقدِّمة بالوجود.

وذلك أنَّ المعروف المتسالم بين الخاصِّ والعامِّ من أهل هذه الملَّة أنَّ الحسن ابن عليٍّ والد صاحب زماننا (علیهما السلام) قد كان وكَّل به طاغية زمانه إلىٰ وقت وفاته، فلمَّا تُوفّي (علیه السلام) وكَّل بحاشيته وأهله، وحُبِسَت جواريه وطُلِبَ مولوده هذا أشدَّ

ص: 39

الطلب، وكان أحد المتولِّيين عليه عمُّه جعفر أخو(1) الحسن بن عليٍّ بما ادِّعاده لنفسه من الإمامة ورجا أنْ يتمَّ له ذلك بوجود ابن أخيه صاحب الزمان (علیه السلام)، فجرت السُّنَّة في غيبته بما جرىٰ من سُنَن غيبة من ذكرنا من الحُجَج المتقدِّمة، ولزم من حكمة غيبته (علیه السلام) ما لزم من حكمة غيبتهم.

[ردُّ إشكال]:

وكان من معارضة خصومنا أنْ قالوا: ولِمَ أوجبتم في الأئمَّة ما كان واجباً في الأنبياء؟ فما أنكرتم أنَّ ذلك كان جائزاً في الأنبياء وغير جائز في الأئمَّة؟ فإنَّ الأئمَّة ليسوا كالأنبياء، فغير جائز أنْ يشبه حال الأئمَّة بحال الأنبياء، فأوجدونا دليلاً مقنعاً علىٰ أنَّه جائز في الأئمَّة ما كان جائزاًفي الأنبياء والرُّسُل فيما شبَّهتم من حال الأئمَّة الذين ليسوا بأشباه الأنبياء والرُّسُل، وإنَّما يقاس الشكل بالشكل والمثل بالمثل، فلن تثبت دعواكم في ذلك، ولن يستقيم لكم قياسكم في تشبيهكم حال الأئمَّة بحال الأنبياء (علیهم السلام) إلَّا بدليل مقنع.

فأقول - وبالله أهتدي -: إنَّ خصومنا قد جهلوا فيما عارضونا به من ذلك، ولو أنَّهم كانوا من أهل التمييز والنظر والتفكُّر والتدبُّر بإطراح العناد وإزالة العصبيَّة لرؤسائهم ومن تقدَّم من أسلافهم، لعلموا أنَّ كلَّ ما كان جائزاً في الأنبياء فهو واجب لازم في الأئمَّة حذو النعل بالنعل والقذَّة بالقذَّة، وذلك أنَّ الأنبياء هم أُصول الأئمَّة ومغيضهم(2)، والأئمَّة هم خلفاء الأنبياء وأوصياؤهم والقائمون بحجَّة الله تعالىٰ علىٰ من يكون بعدهم كيلا تبطل حُجَج الله وحدود[ه و]شرائعه ما دام التكليف علىٰ العباد قائماً والأمر لهم لازماً.

ص: 40


1- كذا.
2- المغيض: مجتمع الماء ومدخله في الأرض، والمراد بالفارسيَّة: (أنبياء نسخهى أصل وسرچشمهى امامانند). وفى بعض النُّسَخ: (ومفيضهم) من الإفاضة.

ولو وجبت المعارضة لجاز لقائل أنْ يقول: إنَّ الأنبياء هم حُجَج الله، فغير جائز أنْ يكون الأئمَّة حُجَج الله، إذ ليسوا بالأنبياء ولا كالأنبياء.

وله أنْ يقول أيضاً: فغير جائز أنْ يُسَمُّوا أئمَّة، لأنَّ الأنبياء كانوا أئمَّة وهؤلاء ليسوا بأنبياء فيكونوا أئمَّة كالأنبياء. وغير جائز أيضاً أنْ يقوموا بما كان يقوم به الرسول من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلىٰ غير ذلك من أبواب الشريعة، إذ ليسوا كالرسول ولا هم برُسُل.

ثمّ يأتي بمثل هذا من المحال ممَّا يكثر تعداده ويطول الكتاب بذكره،فلمَّا فسد هذا كلُّه كانت هذه المعارضة من خصومنا فاسدة كفساده.

ثمّ نحن نُبيِّن الآن ونُوضِّح بعد هذا كلِّه أنَّ التشاكل بين الأنبياء والأئمَّة بيِّن واضح، فيلزمهم أنَّهم حُجَج الله علىٰ الخلق كما كانت الأنبياء حُجَجه علىٰ العباد، وفرض طاعتهم لازم كلزوم فرض طاعة الأنبياء، وذلك قول الله (تبارک و تعالی): «أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» [النساء: 59]، وقوله تعالىٰ: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَىٰ الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» [النساء: 83]، فولاة الأمر هم الأوصياء والأئمَّة بعد الرسول (صلی الله علیه و آله)، وقد قرن الله طاعتهم بطاعة الرسول، وأوجب علىٰ العباد من فرضهم ما أوجبه من فرض الرسول، كما أوجب علىٰ العباد من طاعة الرسول ما أوجبه عليهم من طاعته (عزوجل)في قوله: «أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ»، ثمّ قال: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ» [النساء: 80]، وإذا كانت الأئمَّة (علیهم السلام) حُجَج الله علىٰ من لم يلحق بالرسول ولم يشاهده وعلىٰ من خلفه من بعده، كما كان الرسول حجَّة علىٰ من لم يشاهده في عصره، لزم من طاعة الأئمَّة ما لزم من طاعة الرسول محمّد (صلی الله علیه و آله)، فقد تشاكلوا واستقام القياس فيهم، وإنْ كان الرسول أفضل من

ص: 41

الأئمَّة، فقد تشاكلوا في الحجَّة والاسم والفعل(1) والفرض، إذ كان الله (جلَّ ثناؤه) قد سمَّىٰ الرُّسُل أئمَّة بقوله لإبراهيم: «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً» [البقرة: 124]، وقد أخبرنا الله تبارك وتعالىٰ أنَّه قد فضَّل الأنبياء والرُّسُل بعضهم علىٰ بعض، فقال تبارك وتعالىٰ: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ ...» الآية [البقرة: 253]، وقال: «وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ ...» الآية [الإسراء: 55]، فتشاكل الأنبياء في النبوَّة وإنْ كان بعضهم أفضل من بعض، وكذلك تشاكل الأنبياء والأوصياء، فمن قاس حال الأئمَّة بحال الأنبياء واستشهد بفعل الأنبياء علىٰ فعل الأئمَّة فقد أصاب في قياسه واستقام له استشهاده بالذي وصفناه من تشاكل الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام).

[وجه آخر لإثبات المشاكلة]:

ووجه آخر من الدليل علىٰ حقيقة ما شرحنا من تشاكل الأئمَّة والأنبياء (علیهم السلام) أنَّ الله تبارك وتعالىٰ يقول في كتابه: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» [الأحزاب: 21]، وقال تعالىٰ : «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» [الحشر: 7]، فأمرنا الله (عزوجل)أنْ نهتدي بهدىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونُجري الأُمور [الجارية] علىٰ حدِّ ما أجراها رسول الله (صلی الله علیه و آله) من قول أو فعل، فكان من قول رسول الله (صلی الله علیه و آله) المحقِّق لما ذكرنا من تشاكل الأنبياء والأئمَّة أنْ قال: «مَنْزِلَةُ عَلِيٍّ (علیه السلام) مِنِّي كَمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَىٰ إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي »(2)

ص: 42


1- في بعض النُّسَخ: (والعقل).
2- حديث متواتر رواه الخاصَّة والعامَّة بألفاظ مختلفة، راجع علىٰ سبيل المثال: الكافي (ج 8/ ص 106 و107/ ح 80)، وصحيح مسلم (ج 7/ ص 120).

)، فأعلمنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّ عليًّا ليس بنبيٍّ وقد شبَّهه بهارون، وكان هارون نبيًّا ورسولاً، [و]كذلك شبَّهه بجماعة من الأنبياء (علیهم السلام).

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رحمة الله)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِالسَّعْدَآبَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبَرْقِيُّ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ المَلِكِ بْنُ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ(1)، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، فَقَالَ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَىٰ آدَمَ فِي عِلْمِهِ، وَإِلَىٰ نُوحٍ فِي سِلْمِهِ، وَإِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ فِي حِلْمِهِ، وَإِلَىٰ مُوسَىٰ فِي فِطَانَتِهِ، وَإِلَىٰ دَاوُدَ فِي زُهْدِهِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَىٰ هَذَا»، قَالَ: فَنَظَرْنَا فَإِذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَدْ أَقْبَلَ كَأَنَّمَا يَنْحَدِرُ مِنْ صَبَبٍ(2) (3).

فإذا استقام أنْ يُشبِّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) أحداً من الأئمَّة (علیهم السلام) بالأنبياء والرُّسُل استقام لنا أنْ نُشبِّه جميع الأئمَّة بجميع الأنبياء والرُّسُل. وهذا دليل مقنع، وقد ثبت شكل صاحب زماننا (علیه السلام) في غيبته بغيبة موسىٰ (علیه السلام) وغيره

ص: 43


1- هارون بن عنترة بن عبد الرحمن الشيباني عامّي ذكره ابن حبَّان في الثقات، وقال ابن سعد: ثقة، وقال أبو زرعة: لا بأس به، مستقيم الحديث. وابنه عبد المَلِك عنونه النجاشي وقال: كوفي ثقة، عين، روىٰ عن أصحابنا ورووا عنه، ولم يكن متحقِّقاً بأمرنا، له كتاب يرويه محمّد بن خالد. وأمَّا أبوه عنترة بن عبد الرحمن فعنونه العسقلاني في التقريب والتهذيب وقال: ذكره ابن حبَّان في الثقات، وذكر ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: أنَّه كوفي ثقة.
2- أي يرفع رجله رفعاً بيِّناً بقوَّة دون احتشام وتبختر. والصبب: ما انحدر من الأرض أو الطريق.
3- رواه محمّد بن أبي القاسم الطبري (رحمة الله) في بشارة المصطفىٰ (ص 428/ ح 8)، وروىٰ قريباً منه محمّد بن جرير الطبري الشيعي (رحمة الله) بسند آخر في المسترشد (ص 287/ ح 101)؛ وراجع ما رواه الطوسي (رحمة الله) في أماليه (ص 416 و417/ ح 938/86)، والعاصمي في العسل المصفَّىٰ (ج 1/ ص 124 - 126/ ح 30 - 32، وج 2/ ص 362 و363/ ح 498)، والخركوشي في مناحل الشفاء (ج 5/ ص 517/ ح 2499)، وابن مردويه في مناقب عليِّ بن أبي طالب (علیه السلام) (ص 147/ ح 179)، والحسكاني في شواهد التنزيل (ج 1/ ص 100 و103/ ح 116 و117).

ممَّن وقعت بهم الغيبة، وذلك أنَّ غيبة صاحب زماننا وقعت من جهة الطواغيت لعلَّة التدبير من الذي قدَّمنا ذكره في الفصل الأوَّل.

وممَّا يُفسِد معارضة خصومنا في نفي تشاكل الأئمَّة والأنبياء، أنَّ الرُّسُل الذين تقدَّموا قبل عصر نبيِّنا (صلی الله علیه و آله) كان أوصياؤهم أنبياء، فكلُّ وصيٍّ قام بوصيَّة حجَّة تقدَّمه من وقت وفاة آدم (علیه السلام) إلىٰ عصر نبيِّنا (صلی الله علیه و آله) كان نبيًّا، وذلك مثل وصيِّ آدم كان شيث ابنه، وهو هبة الله في علم آل محمّد (صلی الله علیه و آله) وكان نبيًّا، ومثل وصيِّ نوح (علیه السلام) كان سام ابنه وكان نبيًّا، ومثل إبراهيم (علیه السلام) كان وصيُّه إسماعيل(1) ابنه وكان نبيًّا، ومثل موسىٰ (علیه السلام) كان وصيُّه يوشع بن نون وكان نبيًّا، ومثل عيسىٰ (علیه السلام) كان وصيُّه شمعون الصفا وكان نبيًّا، ومثل داود (علیه السلام) كان وصيُّه سليمان (علیه السلام) ابنه وكان نبيًّا. وأوصياء نبيِّنا (علیهم السلام) لم يكونوا أنبياء، لأنَّ الله (عزوجل)جعل محمّداً خاتماً لهذه الأُمَم(2)، كرامةً له وتفضيلاً، فقد تشاكلت الأئمَّة والأنبياء بالوصيَّة كما تشاكلوا فيما قدَّمنا ذكره من تشاكلهم، فالنبيُّ وصيٌّ والإمام وصيٌّ، والوصيُّ إمام والنبيُّ إمام، والنبيُّ حجَّة والإمام حجَّة(3)، فليس في الأشكال أشبه من تشاكل الأئمَّة والأنبياء.

وكذلك أخبرنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بتشاكل أفعالالأوصياء فيمن تقدَّم وتأخَّر من قصَّة يوشع بن نون وصيِّ موسىٰ (علیه السلام) مع صفراء بنت شعيب زوجة موسىٰ، وقصَّة أمير المؤمنين (علیه السلام) وصيِّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) مع عائشة بنت أبي بكر. وإيجاب غسل الأنبياء أوصياءهم بعد وفاتهم.

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الدَّقَّاقُ (رحمة الله)، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمْزَةُ بْنُ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا

ص: 44


1- في بعض النُّسَخ: (إسحاق).
2- في بعض النُّسَخ: (لهذا الاسم)، أي النبوَّة.
3- في بعض النُّسَخ: (والوصيُّ حجَّة).

أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْجُنَيْدِ الرَّازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ(1)، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مِينَا مَوْلَىٰ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ (علیه السلام): يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ يُغَسِّلُكَ إِذَا مِتَّ؟ قَالَ: «يُغْسِّلُ كُلَّ نَبِيٍّ وَصِيُّهُ»، قُلْتُ: فَمَنْ وَصِيُّكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ»، قُلْتُ: كَمْ يَعِيشُ بَعْدَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَإِنَّ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ وَصِيَّ مُوسَىٰ عَاشَ بَعْدَ مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وخَرَجَتْ عَلَيْهِ صَفْرَاءُ بِنْتُ شُعَيْبٍ زَوْجَةُ مُوسَىٰ (علیه السلام)، فَقَالَتْ: أَنَا أَحَقُّ مِنْكَ بِالْأَمْرِ، فَقَاتَلَهَا، فَقَتَلَ مُقَاتِلِيهَا وَأَسَرَهَا فَأَحْسَنَ أَسْرَهَا، وَإِنَّ ابْنَةَ أَبِي بَكْرٍ سَتَخْرُجُ عَلَىٰ عَلِيٍّ فِي كَذَا وَكَذَا أَلْفاً مِنْ أُمَّتِي، فَتُقَاتِلُهُ، فَيَقْتُلُ مُقَاتِلِيهَا وَيَأْسِرُهَا فَيُحْسِنُ أَسْرَهَا، وَفِيهَا أَنْزَلَ اللهُ (تبارک و تعالی): «وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِالْأُولَىٰ» [الأحزاب: 33]، يَعْنِي صَفْرَاءَ بِنْتَ شُعَيْبٍ»(2).

فهذا الشكل قد ثبت بين الأئمَّة والأنبياء بالاسم والصفة والنعت والفعل، وكلُّ ما كان جائزاً في الأنبياء فهو جائز يجري في الأئمَّة حذو النعل بالنعل والقذَّة بالقذَّة، ولو جاز أنْ تُجحَد إمامة صاحب زماننا هذا لغيبته بعد وجود من تقدَّمه من الأئمَّة (علیهم السلام) لوجب أنْ تُدفَع نبوَّة موسىٰ بن عمران (علیه السلام) لغيبته، إذ لم يكن كلُّ الأنبياء كذلك، فلمَّا لم تسقط نبوَّة موسىٰ لغيبته وصحَّت

ص: 45


1- هو الحسن بن عليٍّ الخلال أبو عليٍّ - وقيل: أبو محمّد - الحلواني، نزيل مكَّة، ثقة ثبت، يروي عن عبد الرزَّاق بن همَّام بن نافع الحميري، مولاهم أبى بكر الصنعاني، قال أحمد بن صالح المصري: قلت لأحمد بن حنبل: رأيت أحداً أحسن حديثاً من عبد الرزَّاق؟ قال: لا. ويرموه القوم بالتشيُّع. يروي عن أبيه همَّام، وهو ثقة يروي عن مينا بن أبي مينا الزهري الخزَّاز مولىٰ عبد الرحمن بن عوف، وهو شيعي، جرحه العامَّة لتشيُّعه. وما في النُّسَخ من (الحسين بن عليِّ بن عبد الرزَّاق)، فهو تصحيف.
2- رواه محمّد بن أبي القاسم الطبري (رحمة الله) في بشارة المصطفىٰ (ص 428 و429/ ح 9).

نبوَّته مع الغيبة كما صحَّت نبوَّة الأنبياء الذين لم تقع بهم الغيبة، فكذلك صحَّت إمامة صاحب زماننا هذا مع غيبته كما صحَّت إمامة من تقدَّمه من الأئمَّة الذين لم تقع بهم الغيبة.

وكما جاز أنْ يكون موسىٰ (علیه السلام) في حجر فرعون يُربِّيه وهو لا يعرفه ويقتل أولاد بني إسرائيل في طلبه، فكذلك جائز أنْ يكون صاحب زماننا موجوداً بشخصه بين الناس، يدخل مجالسهم، ويطأ بُسُطهم، ويمشي في أسواقهم، وهم لا يعرفونه إلىٰ أنْ يبلغ الكتاب أجله.

فَقَدْ رُوِيَ عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام) أَنَّهُ قَالَ: «فِي الْقَائِمِ سُنَّةٌ مِنْ مُوسَىٰ، وَسُنَّةٌ مِنْ يُوسُفَ، وَسُنَّةٌ مِنْ عِيسَىٰ، وَسُنَّةٌ مِنْ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله)، فَأَمَّا سُنَّةُ مُوسَىٰ فَخَائِفٌ يَتَرَقَّبُ، وَأَمَّا سُنَّةُ يُوسُفَ فَإِنَّ إِخْوَتَهُ كَانُوا يُبَايِعُونَهُ وَيُخَاطِبُونَهُ وَلَا يَعْرِفُونَهُ، وَأَمَّا سُنَّةُ عِيسَىٰ فَالسِّيَاحَةُ، وَأَمَّا سُنَّةُ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) فَالسَّيْفُ »(1).

[ردُّ إشكال]:

فكان من الزيادة لخصومنا أنْ قالوا: ما أنكرتم إذ قد ثبت لكم ما ادَّعيتم من الغيبة كغيبة موسىٰ (علیه السلام) ومن حلَّ محلَّه من الأئمَّة(2) الذين وقعت بهم الغيبة أنْ تكون حجَّة موسىٰ لم تلزم أحداً إلَّا من بعد أنْ أظهر دعوته ودلَّ علىٰ نفسه، وكذلك لا تلزم حجَّة إمامكم هذا لخفاء مكانه وشخصه حتَّىٰ يُظهر دعوته ويدلَّ علىٰ نفسه [كذلك]، فحينئذٍ تلزم حجَّته وتجب طاعته، وما بقي في الغيبة فلا تلزم حجَّته، ولا تجب طاعته.

فأقول - وبالله أستعين -: إنَّ خصومنا غفلوا عمَّا يلزم من حجَّة حُجَج الله في ظهورهم واستتارهم، وقد ألزمهم الله تعالىٰ الحجَّة البالغة في كتابه، ولم

ص: 46


1- روىٰ قريباً منه الطبري (رحمة الله) في دلائل الإمامة (ص 532/ ح 511/115).
2- في بعض النُّسَخ: (من الأنبياء).

يتركهم سدًى في جهلهم وتخبُّطهم، ولكنَّهم كما قال الله (تبارک و تعالی): «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا 24» [محمّد: 24]. إنَّ الله (عزوجل)قد أخبرنا في قصَّة موسىٰ (علیه السلام) أنَّه كان له شيعة، وهم بأمره عارفون، وبولايته متمسِّكون، ولدعوته منتظرون قبل إظهار دعوته، ومن قبل دلالته علىٰ نفسه، حيث يقول : «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَىٰ الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ» [القَصص: 15]، وقال (عزوجل)حكايةً عن شيعته: «قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ...» الآية [الأعراف: 129]، فأعلمنا الله (عزوجل)في كتابه أنَّه قد كان لموسىٰ (علیه السلام) شيعة من قبل أنْ يُظهر من نفسه نبوَّة، وقبل أنْ يُظهر له دعوة، يعرفونه ويعرفهم بموالاة موسىٰ صاحب الدعوة، ولم يكونوا يعرفون أنَّ ذلك الشخص هو موسىٰ بعينه، وذلك أنَّ نبوَّة موسىٰ إنَّما ظهرت من بعد رجوعه من عند شعيب حين ساربأهله من بعد السنين التي رعىٰ فيها لشعيب حتَّىٰ استوجب بها أهله، فكان دخوله المدينة حين وجد فيها الرجلين قبل مسيره إلىٰ شعيب.

وكذلك وجدنا مثل نبيِّنا محمّد (صلی الله علیه و آله) قد عرف أقوام أمره قبل ولادته وبعد ولادته، وعرفوا مكان خروجه ودار هجرته من قبل أنْ يُظهر من نفسه نبوَّة ومن قبل ظهور دعوته، وذلك مثل سلمان الفارسي (رحمة الله)، ومثل قُسِّ بن ساعدة الأيادي، ومثل تُبَّع المَلِك، ومثل عبد المطَّلب، وأبي طالب، ومثل سيف بن ذي يزن، ومثل بحيرىٰ الراهب، ومثل كبير الرهبان في طريق الشام، ومثل أبي مويهب الراهب، ومثل سطيح الكاهن، ومثل يوسف اليهودي، ومثل ابن حوَّاش الحبر المقبل من الشام، ومثل زيد بن عمرو بن نفيل، ومثل هؤلاء كثير ممَّن قد عرف النبيَّ (صلی الله علیه و آله) بصفته ونعته واسمه ونسبه قبل مولده وبعد مولده،

ص: 47

والأخبار في ذلك موجودة عند الخاصِّ والعامِّ، وقد أخرجتها مسندة في هذا الكتاب في مواضعها، فليس من حجَّة الله (عزوجل)نبيٌّ ولا وصيٌّ إلَّا وقد حفظ المؤمنون وقت كونه وولادته وعرفوا أبويه ونسبه في كلِّ عصر وزمان حتَّىٰ لم يشتبه عليهم شي ء من أمر حُجَج الله (عزوجل)في ظهورهم وحين استتارهم، وأغفل ذلك أهل الجحود والضلال والكنود، فلم يكن عندهم [علم] شي ء من أمرهم.

وكذلك سبيل صاحب زماننا (علیه السلام) حفظ أولياؤه المؤمنون من أهل المعرفة والعلم وقته وزمانه وعرفوا علاماته وشواهد أيَّامه(1) وكونه ووقت ولادته ونسبه، فهم علىٰ يقين من أمره في حين غيبته ومشهده، وأغفل ذلك أهل الجحود والإنكار والعنود، وفي صاحب زماننا(علیه السلام) قال الله (تبارک و تعالی): «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ» [الأنعام: 158].

وَسُئِلَ الصَّادِقُ (علیه السلام) عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: «الْآيَاتُ هُمُ الْأَئِمَّةُ، والْآيَةُ المُنْتَظَرَةُ هُوَ الْقَائِمُ المَهْدِيُّ (علیه السلام)، فَإِذَا قَامَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلِ قِيَامِهِ بِالسَّيْفِ، وإِنْ آمَنَتْ بِمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ آبَائِهِ (علیهم السلام)»(2).

حدَّثنا بذلك أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني (رضی الله عنه)، قال: حدَّثنا عليُّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمّد بن أبي عمير. والحسن بن محبوب، عن عليِّ بن رئاب وغيره، عن الصادق جعفر بن محمّد (علیهما السلام).

وتصديق ذلك (أنَّ الآيات هم الحُجَج) من كتاب الله (عزوجل)قول الله تعالىٰ : «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً» [المؤمنون: 50]، يعني حجَّة. وقوله (عزوجل)لعُزَير(3) حين أحياه الله من بعد أنْ أماته مائة سنة: «وَانْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً

ص: 48


1- في بعض النُّسَخ: (وشواهد آياته).
2- سيأتي ذكر مصادره تحت الرقم (249/8)، فانتظر.
3- في بعض النُّسَخ: (لارميا).

لِلنَّاسِ» [البقرة: 259]، يعني حجَّة، فجعله (عزوجل)حجَّة علىٰ الخلق وسمَّاه آية. وإنَّ الناس لمَّا صحَّ لهم عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمر الغيبة الواقعة بحجَّة الله (تعالىٰ ذكره) علىٰ خلقه وضع كثير منهم الغيبة غير موضعها أوَّلهم عمر بن الخطَّاب، فإنَّه قال لمَّا قُبِضَ النبيُّ (صلی الله علیه و آله): (والله ما مات محمّد وإنَّما غاب كغيبة موسىٰ (علیه السلام) عن قومه، وإنَّه سيظهر لكم بعد غيبته).حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّقْرِ الصَّائِغُ الْعَدْلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ بَسَّامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَزْدَادَ، قَالَ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ سَيَّارِ بْنِ دَاوُدَ الْأَشْعَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ(1) وَعَبْدُ اللهِ بْنُ خَالِدٍ السَّلُولِيُّ أَنَّهُمَا قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ نَجِيحٌ المَدَنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَعُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ المَقْبُرِيُّ(2) وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مَلِيكَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ مَشِيخَةِ أَهْلِ المَدِينَةِ، قَالُوا:

لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) أَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: وَاللهِ مَا مَاتَ مُحَمَّدٌ وَإِنَّمَا غَابَ كَغَيْبَةِ مُوسَىٰ عَنْ قَوْمِهِ، وَإِنَّهُ سَيَظْهَرُ بَعْدَ غَيْبَتِهِ، فَمَا زَالَ يُرَدِّدُ هَذَا

ص: 49


1- محمّد بن يزداد الرازي، قال أبو النضر العيَّاشي: لا بأس به. ونصر بن سيَّار لم أجد من ذكره، وليس هو بنصر بن سيَّار والي خراسان من قِبَل هشام بن عبد المَلِك، ومحمّد بن عبد ربِّه الأنصاري أجاز التلعكبري جميع حديثه، وكان يروي عن سعد بن عبد الله وعبد الله بن جعفر الحميري ونظرائهما كما في منهج المقال. وأمَّا عبد الله بن خالد فلم أعرفه.
2- أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن السندي - بكسر المهملة وسكون النون - المدني مولىٰ بني هاشم مشهور بكنيته، وليس بقويٍّ في الحديث، ومحمّد بن قيس شيخه ضعيف كما في التقريب. وأمَّا محمّد بن كعب القرظي فثقة عالم وُلِدَ سنة أربعين على الصحيح ومات سنة (120ه)، وقيل: قبل ذلك. وأمَّا عمارة بن غزية المدني فوثَّقه أحمد وأبو زرعة، وقال يحيىٰ بن معين: صالح، وقال أبو حاتم: ما بحديثه بأس، وكان صدوقاً. وأمَّا سعيد بن أبي سعيد فاسمه كيسان المقبري أبو سعد المدني، والمقبري نسبة إلى مقبرة بالمدينة كان مجاوراً لها، فهو ثقة صدوق كما في التهذيب. وأمَّا عبد الله بن أبي مليكة فهو عبد الله بن عبيد الله، وأبو مليكة بالتصغير ثقة فقيه.

الْقَوْلَ وَيُكَرِّرُهُ حَتَّىٰ ظَنَّ النَّاسُ أَنَّ عَقْلَهُ قَدْ ذَهَبَ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ قَوْلِهِ،فَقَالَ: ارْبَعْ عَلَىٰ نَفْسِكَ يَا عُمَرُ(1) مِنْ يَمِينِكَ الَّتِي تَحْلِفُ بِهَا، فَقَدْ أَخْبَرَنَا اللهُ (عزوجل)فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ 30» [الزمر: 30]، فَقَالَ عُمَرُ: وإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَفِي كِتَابِ اللهِ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، أَشْهَدُ بِاللهِ لَقَدْ ذَاقَ مُحَمَّدٌ المَوْتَ. ولم يكن عمر جمع القرآن(2).

[الكيسانيَّة]:

ثمّ غلطت الكيسانيَّة بعد ذلك حتَّىٰ ادَّعت هذه الغيبة لمحمّد بن الحنفيَّة (قدَّس الله روحه)، حتَّىٰ إنَّ السيِّد بن محمّد الحميري (رضی الله عنه)(3) اعتقد ذلك وقال فيه:

ألَا إنَّ الأئمَّة من قريش *** ولاة الأمر أربعة سواءُ

عليٌّ والثلاثة من بنيه *** هم أسباطنا والأوصياءُ(4)

فسبط سبط إيمان وبرٍّ *** وسبط قد حوته كربلاءُ(5)

وسبط لا يذوق الموت حتَّىٰ *** يقود الجيش يقدمه اللواءُ(6)

ص: 50


1- أي ارفق بنفسك وكفَّ عن هذا القول واليمين.
2- أي لم يقرأ أو يحفظ جميع القرآن.
3- هو إسماعيل بن محمّد الحميري، سيِّد الشعراء، كان يقول أوَّلاً بإمامة محمّد بن الحنفيَّة، ثمّ رجع إلىٰ الحقِّ، وأمره في الجلالة والمجد ظاهر لمن تتبَّع كُتُب التراجم. قيل: تُوفّي ببغداد سنة (179ه) فبعثت الأكابر والشرفاء من الشيعة سبعين كفناً له، فكفَّنه الرشيد من ماله وردَّ الأكفان إلىٰ أهلها.
4- في الفَرْق بين الفِرَق: (هم الأسباط ليس بهم خفاء)، وكذا في المِلَل والنِّحَل.
5- في الفَرْق بين الفِرَق: (وسبط غيَّبته كربلاء)، وكذا في إعلام الورىٰ المنقول من كمال الدِّين.
6- في الفَرْق بين الفِرَق والمِلَل والنحل: (يقود الخيل يقدمها اللواء).

يغيب فلا يُرىٰ عنَّا زماناً(1) *** برضوىٰ عنده عسل وماءُ(2)

وقال فيه السيِّد (رحمة الله عليه) أيضاً:

أيا شعب رضوىٰ ما لمن بك لا يُرىٰ *** فحتَّىٰ متىٰ يخفىٰ وأنت قريبُ

فلو غاب عنَّا عمر نوح لأيقنت *** منَّا النفوس بأنَّه سيؤوبُ(3)(4)

وقال فيه السيِّد أيضاً:

ألَا حيِّ المقيم بشعب رضوىٰ *** واهد له بمنزله السلاما

وقل يا ابن الوصيِّ فدتك نفسي *** أطلت بذلك الجبل المقاما

فمرَّ بمعشر والوك منَّا *** وسمُّوك الخليفة والإماما

فما ذاق ابن خولة طعم موتٍ *** ولا وارت له أرض عظاما(5)

فلم يزل السيِّد ضالًّا في أمر الغيبة يعتقدها في محمّد بن الحنفيَّة حتَّىٰ لقي الصادق جعفر بن محمّد (علیهما السلام) ورأىٰ منه علامات الإمامة وشاهد فيه دلالات الوصيَّة، فسأله عن الغيبة، فذكر له أنَّها حقٌّ ولكنَّها تقع في الثاني عشر من الأئمَّة (علیهم السلام)، وأخبره بموت محمّد بن الحنفيَّة، وأنَّ أباه شاهد دفنه، فرجع السيِّد عن مقالته واستغفر من اعتقاده ورجع إلىٰ الحقِّ عند اتِّضاحه له، ودان بالإمامة.حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَطَّارُ النَّيْسَابُورِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ

ص: 51


1- في الفَرْق بين الفِرَق: (تغيب لا يُرىٰ فيهم زماناً).
2- راجع: ديوان السيِّد الحميري (ص 20 و21)، والفَرْق بين الفِرَق لعبد القاهر بن طاهر البغدادي الأسفراييني (ص 49)، والمِلَل والنِّحَل للشهرستاني (ج 1/ ص 150)، وإعلام الورىٰ (ج 1/ ص 541).
3- هذا المصراع في بعض النُّسَخ هكذا: (نفوس البرايا أنَّه سيؤوب).
4- ديوان السيِّد الحميري (ص 31)، وقبل هذا البيت قوله: يا ابن الوصيِّ ويا سميَّ محمّد *** وكنيِّه نفسي عليك تذوبُ
5- راجع: ديوان السيِّد الحميري (ص 177 و178).

مُحَمَّدِ [بْنِ ] قُتَيْبَةَ النَّيْسَابُورِيُّ، عَنْ حَمْدَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ، عَنْ حَيَّانَ السَّرَّاجِ، قَالَ: سَمِعْتُ السَّيِّدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْحِمْيَرِيَّ يَقُولُ: كُنْتُ أَقُولُ بِالْغُلُوِّ وأَعْتَقِدُ غَيْبَةَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ - ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ -، قَدْ ضَلَلْتُ فِي ذَلِكَ زَمَاناً، فَمَنَّ اللهُ عَلَيَّ بِالصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام) وَأَنْقَذَنِي بِهِ مِنَ النَّارِ، وَهَدَانِي إِلىٰ سَوَاءِ الصِّراطِ، فَسَأَلْتُهُ بَعْدَ مَا صَحَّ عِنْدِي بِالدَّلَائِلِ الَّتِي شَاهَدْتُهَا مِنْهُ أَنَّهُ حُجَّةُ اللهِ عَلَيَّ وَعَلَىٰ جَمِيعِ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَأَنَّهُ الْإِمَامُ الَّذِي فَرَضَ اللهُ طَاعَتَهُ وَأَوْجَبَ الْاِقْتِدَاءَ بِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، قَدْ رُوِيَ لَنَا أَخْبَارٌ عَنْ آبَائِكَ (علیهم السلام) فِي الْغَيْبَةِ وَصِحَّةِ كَوْنِهَا، فَأَخْبِرْنِي بِمَنْ تَقَعُ؟ فَقَالَ (علیه السلام): «إِنَّ الْغَيْبَةَ سَتَقَعُ بِالسَّادِسِ مِنْ وُلْدِي، وَهُوَ الثَّانِي عَشَرَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْهُدَاةِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، أَوَّلُهُمْ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَآخِرُهُمُ الْقَائِمُ بِالْحَقِّ بَقِيَّةُ اللهِ فِي الْأَرْضِ وَصَاحِبُ الزَّمَانِ، وَاللهِ لَوْ بَقِيَ فِي غَيْبَتِهِ مَا بَقِيَ نُوحٌ فِي قَوْمِهِ(1) لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّىٰ يَظْهَرَ فَيَمْلَأَ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»، قَالَ السَّيِّدُ: فَلَمَّا سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْ مَوْلَايَ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام) تُبْتُ إِلَىٰ اللهِ (تَعَالَىٰ ذِكْرُهُ) عَلَىٰ يَدَيْهِ، وَقُلْتُ قَصِيدَتِيَ الَّتِي أَوَّلُهَا:

فَلَمَّا رَأَيْتُ النَّاسَ فِي الدِّينِ قَدْ غَوُوا *** تَجَعْفَرْتُ بِاسْمِ اللهِ فِيمَنْ تَجَعْفَرُوا(2)

وَنَادَيْتُ بِاسْمِ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ *** وَأَيْقَنْتُ أَنَّ اللهَ يَعْفُو وَيَغْفِرُ

وَدِنْتُ بِدِينِ اللهِ مَا كُنْتُ دَيِّناً(3) *** بِهِ وَنَهَانِي سَيِّدُ النَّاسِ جَعْفَرُ

فَقُلْتُ فَهَبْنِي قَدْ تَهَوَّدْتُ بُرْهَةً *** وَإِلَّا فَدِينِي دِيْنُ مَنْ يَتَنَصَّرُ

ص: 52


1- في بعض النُّسَخ: (في الأرض).
2- في بعض النُّسَخ: (باسم الله والله أكبر).
3- في بعض النُّسَخ: (ودنت بدين غير ما كنت ديِّناً).

وَإِنِّي إِلَىٰ الرَّحْمَنِ مِنْ ذَاكَ تَائِبٌ *** وَإِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَاللهُ أَكْبَرُ

فَلَسْتُ بِغَالٍ مَا حَيِيتُ وَرَاجِعٍ *** إِلَىٰ مَا عَلَيْهِ كُنْتُ أُخْفِي وَأُظْهِرُ

وَلَا قَائِلٍ حَيٌّ بِرَضْوَىٰ مُحَمَّدٌ *** وَإِنْ عَابَ جُهَّالٌ مَقَالِي وَأَكْثَرُوا

وَلَكِنَّهُ مِمَّنْ مَضَىٰ لِسَبِيلِهِ *** عَلَىٰ أَفْضَلِ الْحَالَاتِ يُقْفَىٰ وَيُخْبَرُ

مَعَ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ الْأُولَىٰ لَهُمْ *** مِنَ المُصْطَفَىٰ فَرْعٌ زَكِيٌّ وَعُنْصُرٌ (1)

إِلَىٰ آخِرِ الْقَصِيدَةِ، [وهِيَ طَوِيلَةٌ]، وقُلْتُ بَعْدَ ذَلِكَ قَصِيدَةً أُخْرَىٰ:

أَيَا رَاكِباً نَحْوَ المَدِينَةِ جَسْرَةً *** عُذَافِرَةً يَطْوِي بِهَا كُلَّ سَبْسَبِ (2)

إِذَا مَا هَدَاكَ اللهُ عَايَنْتَ جَعْفَراً *** فَقُلْ لِوَلِيِّ اللهِ وَابْنِ المُهَذَّبِ

أَلَا يَا أَمِينَ اللهِ وَابْنَ أَمِينِهِ *** أَتُوبُ إِلَىٰ الرَّحْمَنِ ثُمَّ تَأَوُّبِي

إِلَيْكَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي كُنْتُ مُطْنِباً(3) *** أُحَارِبُ فِيهِ جَاهِداً كُلَّ مُعْرِبٍ

وَمَا كَانَ قَوْلِي فِي ابْنِ خَوْلَةَ مُطْنَباً *** مُعَانَدَةً مِنِّي لِنَسْلِ المُطَيَّبِ

وَلَكِنْ رُوِينَا عَنْ وَصِيِّ مُحَمَّدٍ *** وَمَا كَانَ فِيمَا قَالَ بِالمُتَكَذِّبِ

بِأَنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ يُفْقَدُ لَا يُرَىٰ *** سَتِيراً(4) كَفِعْلِ

الْخَائِفِ(5) المُتَرَقِّبِ

فَتُقْسَمُ أَمْوَالُ الْفَقِيدِ كَأَنَّمَا *** تَغَيَّبَهُ بَيْنَ الصَّفِيحِ المُنَصَّبِ(6)

ص: 53


1- الجسرة: البعير الذي أعيا وغلظ من السير. والعذافرة: العظمة الشديدة من الإبل، والناقة الصلبة القويَّة. والسبسب: المفازة، أو الأرض المستوية البعيدة.
2- راجع: ديوان السيِّد الحميري (ص 95 و96).
3- في بعض النُّسَخ: (كنت مبطناً).
4- في بعض النُّسَخ: (سنين).
5- في بعض النُّسَخ: (كمثل الخائف).
6- الصفيح: من أسماء السماء، ووجه كلِّ شيء عريض. والمنصَّب المرتفع. ولعلَّ المراد بالصفيح هنا موضع بين حنين وأنصاب الحرم، كما يظهر من بعض اللغات.

فَيَمْكُثُ حِيناً ثُمَّ يَنْبَعُ نَبْعَةً *** كَنَبْعَةِ جَدْيٍ مِنَ الْأُفُقِ كَوْكَبٍ(1)

يَسِيرُ بِنَصْرِ اللهِ مِنْ بَيْتِ رَبِّهِ *** عَلَىٰ سُؤْدَدٍ مِنْهُ وَأَمْرٍ مُسَبَّبٍ(2)

يَسِيرُ إِلَىٰ أَعْدَائِهِ بِلِوَائِهِ *** فَيَقْتُلُهُمْ قَتْلاً كَحَرَّانَ مُغْضَبٍ(3)

فَلَمَّا رَوَىٰ أَنَّ ابْنَ خَوْلَةَ غَائِبٌ *** صَرَفْنَا إِلَيْهِ قَوْلَنَا لَمْ نُكَذَّبِ

وَقُلْنَا هُوَ المَهْدِيُّ وَالْقَائِمُ الَّذِي *** يَعِيشُ بِهِ مِنْ عَدْلِهِ كُلُّ مُجْدِبٍ

فَإِنْ قُلْتَ لَا فَالْحَقُّ قَوْلُكَ وَالَّذِي *** أُمِرْتَ(4) فَحَتْمٌ غَيْرَ مَا مُتَعَصِّبٍ

وَأُشْهِدُ رَبِّي أَنَّ قَوْلَكَ حُجَّةٌ *** عَلَىٰ النَّاسِ طُرًّا مِنْ مُطِيعٍ وَمُذْنِبٍ

بِأَنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ وَالْقَائِمَ الَّذِي *** تَطَلَّعُ نَفْسِي نَحْوَهُ بِتَطَرُّبٍ

لَهُ غَيْبَةٌ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَغِيبَهَا *** فَصَلَّىٰ عَلَيْهِ اللهُ مِنْ مُتَغَيَّبٍ

فَيَمْكُثُ حِيناً ثُمَّ يَظْهَرُ حِينَهُ(5) *** فَيَمْلِكُ مَنْ فِي شَرْقِهَا وَالمُغَرَّب(6)

بِذَاكَ أَدِينُ اللهَ سِرًّا وَجَهْرَةً *** وَلَسْتُ وَإِنْ عُوتِبْتُ فِيهِ بِمُعْتِبٍ(7)(8)

ص: 54


1- كذا، وفى بعض نُسَخ الحديث: فيمكث حيناً ثمّ يشرق شخصه *** مضيئاً بنور العدل إشراق كوكب وهكذا في إعلام الورىٰ (ج 1/ ص 540) المنقول من (كمال الدِّين). وليس هذا البيت في إرشاد المفيد ولا كشف الغمَّة للإربلي.
2- في بعض النُّسَخ: (وأمر مسيب).
3- فرس حرون: الذي لا ينقاد، والاسم الحرَّان.
4- في الإرشاد وكشف الغمَّة: (تقول فحتم).
5- في الإرشاد: (يظهر أمره)، ولعلَّه هو الصواب.
6- في إعلام الورىٰ: (فيملأ عدلاَّ كلَّ شرق ومغرب).
7- (بمعتب) خبر (لست)، يعنى عتابهم إيَّاي ليس بموقع.
8- راجع: ديوان السيِّد الحميري (ص 48 و49)، والإرشاد (ج 2/ ص 207)، وكشف الغمَّة (ج 2/ ص 394)، وإعلام الورىٰ (ج 1/ ص 540).

وكان حيَّان السرَّاج الراوي لهذا الحديث من الكيسانيَّة، ومتىٰ صحَّ موت محمّد بن عليٍّ ابن الحنفيَّة بطل أنْ تكون الغيبة التي رُويت في الأخبار واقعة به.

فممَّا روي في وفاة محمّد بن الحنفيَّة (رضی الله عنه)(1):

مَا حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عِصَامٍ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكُلَيْنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَزْوِينِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ المُخْتَارِ(2)، قَالَ : دَخَلَ حَيَّانُ السَّرَّاجُ عَلَىٰ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام)، فَقَالَ لَهُ: «يَا حَيَّانُ، مَا يَقُولُ أَصْحَابُكَ فِي مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: إِنَّهُ حَيٌّ يُرْزَقُ، فَقَالَ الصَّادِقُ (علیه السلام): «حَدَّثَنِي أَبِي (علیه السلام) أَنَّهُ كَانَ فِيمَنْ عَادَهُ فِي مَرَضِهِ وَفِيمَنْ غَمَّضَهُ وَأَدْخَلَهُ حُفْرَتَهُ وَزَوَّجَ نِسَاءَهُ وَقَسَّمَ مِيرَاثَهُ»، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، إِنَّمَا مَثَلُمُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَثَلِ عِيسَىٰ ابْنِ مَرْيَمَ شُبِّهَ أَمْرُهُ لِلنَّاسِ، فَقَالَ الصَّادِقُ (علیه السلام): «شُبِّهَ أَمْرُهُ عَلَىٰ أَوْلِيَائِهِ أَوْ عَلَىٰ أَعْدَائِهِ؟»، قَالَ: بَلْ عَلَىٰ أَعْدَائِهِ، فَقَالَ: «أَتَزْعُمُ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ الْبَاقِرَ (علیه السلام) عَدُوُّ عَمِّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ؟»، فَقَالَ: لَا، فَقَالَ الصَّادِقُ (علیه السلام): «يَا حَيَّانُ، إِنَّكُمْ صَدَفْتُمْ عَنْ آيَاتِ اللهِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ : «سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ(3) 157» [الأنعام: 157]».

وقَالَ الصَّادِقُ (علیه السلام): «مَا مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ حَتَّىٰ أَقَرَّ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (علیه السلام)».

ص: 55


1- هذا العنوان للمصنِّف (رحمة الله)، وموجود في جميع النُّسَخ.
2- هو الحسين بن المختار القلانسي الكوفي، ثقة، واقفي، من أصحاب الكاظم (علیه السلام). وما في بعض النُّسَخ من (جعفر بن مختار) فهو تصحيف. وعليُّ بن إسماعيل الظاهر هو عليُّ بن السندي الثقة. وأمَّا حيَّان السرَّاج فهو كيساني متعصِّب.
3- الصدف: الرجوع عن الشيء.

وكانت وفاة محمّد بن الحنفيَّة سنة أربع وثمانين من الهجرة.

حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَىٰ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)، قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَىٰ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَقَدِ اعْتُقِلَ لِسَانُهُ، فَأَمَرْتُهُ بِالْوَصِيَّةِ، فَلَمْ يُجِبْ»، قَالَ: «فَأَمَرْتُ بِطَسْتٍ فَجُعِلَ فِيهِ الرَّمْلُ، فَوُضِعَ، فَقُلْتُ لَهُ: خُطَّ بِيَدِكَ، قَالَ: فَخَطَّ وَصِيَّتَهُ بِيَدِهِ فِي الرَّمْلِ، وَنَسَخْتُ أَنَا فِي صَحِيفَةٍ»(1)(2).

[إبطال قول الناووسيَّة والواقفة في الغيبة]:

ثمّ غلطت الناووسيَّة بعد ذلك في أمر الغيبة بعد ما صحَّ وقوعها عندهم بحجَّة الله علىٰ عباده، فاعتقدوها جهلاً منهم بموضعها في الصادق جعفر بن محمّد (علیهما السلام) حتَّىٰ أبطل الله قولهم بوفاته (علیه السلام) وبقيام كاظم الغيظ الأوَّاه الحليم الإمام أبي إبراهيم موسىٰ بن جعفر (علیهما السلام) بالأمر مقام الصادق (علیه السلام).

ص: 56


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في من لا يحضره الفقيه (ج 4/ ص 197/ ح 5454)، والطوسي (رحمة الله) في تهذيب الأحكام (ج 9/ ص 241/ ح 934/27).
2- قال المجلسي الأوَّل (رحمة الله) في روضة المتَّقين (ج 11/ ص 67): (يدلُّ الخبر علىٰ أنَّ ما افتراه الكيسانيَّة من أنَّ محمّد بن الحنفيَّة ذهب من خوف ابن الزبير إلىٰ اليمن وغاب في جبل رضوىٰ وهو حيٌّ يخرج في آخر الزمان باطل، وكان أنشد السيِّد الحميري في ذلك أبياتاً، ولمَّا رأىٰ المعجزات من الصادق (علیه السلام) تاب ورجع إلىٰ الحقِّ وأنشد أبياتاً في بطلان ما اعتقده أوَّلاً...، وأمثال هذه ليس ببعيد كما ذهب جماعة كثيرة إلىٰ أنَّ أبا الحسن موسىٰ بن جعفر (علیهما السلام) لم يمت مع أنَّه (علیه السلام) استُشهِدَ في حبس السندي بن شاهك علىٰ يده (لعنة الله عليه)، وكان في جنازته (علیه السلام) جميع أهل بغداد، ومع هذا قالوا ما قالوا. ورأيت أنا في الكوفة مزاراً عتيقاً وكان عليه لوحاً مكتوباً عليه اسم محمّد بن الحنفيَّة، فيمكن أنْ يكون أبو جعفر (علیه السلام) حال فوته هناك أو يكون جاء إليه بطيِّ الأرض كما روي متواتراً أنَّهم (علیهم السلام) كان لهم طيُّ الأرض وكانوا يذهبون إلىٰ ما أرادوه به).

وكذلك ادَّعت الواقفيَّة ذلك في موسىٰ بن جعفر (علیهما السلام)، فأبطل الله قولهم بإظهار موته وموضع قبره، ثمّ بقيام الرضا عليِّ بن موسىٰ (علیهما السلام) بالأمر بعده، وظهور علامات الإمامة فيه مع ورود النصوص عليه من آبائه (علیهم السلام).

فممَّا روي في وفاة موسىٰ بن جعفر (علیهما السلام)(1):

مَا حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقِطَعِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ النَّخَّاسِ الْعَدْلِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْخَزَّازِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عُمَرَ ابْنِ وَاقِدٍ، قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ السِّنْدِيُّ بْنُ شَاهَكَ فِيبَعْضِ اللَّيْلِ وَأَنَا بِبَغْدَادَ، فَاسْتَحْضَرَنِي، فَخَشِيتُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِسُوءٍ يُرِيدُهُ بِي، فَأَوْصَيْتُ عِيَالِي بِمَا احْتَجْتُ إِلَيْهِ، وَقُلْتُ: إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، ثُمَّ رَكِبْتُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَآنِي مُقْبِلاً قَالَ: يَا أَبَا حَفْصٍ، لَعَلَّنَا أَرْعَبْنَاكَ وَأَفْزَعْنَاكَ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ فَلَيْسَ هَاهُنَا إِلَّا خَيْرٌ، قُلْتُ: فَرَسُولٌ تَبْعَثُهُ إِلَىٰ مَنْزِلِي يُخْبِرُهُمْ خَبَرِي؟ فَقَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا حَفْصٍ، أَتَدْرِي لِمَ أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ؟ فَقُلْتُ: لَا، فَقَالَ: أَتَعْرِفُ مُوسَىٰ بْنَ جَعْفَرٍ؟ فَقُلْتُ: إِي وَاللهِ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ صَدَاقَةٌ مُنْذُ دَهْرٍ، فَقَالَ: مَنْ هَاهُنَا بِبَغْدَادَ يَعْرِفُهُ مِمَّنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ؟ فَسَمَّيْتُ لَهُ أَقْوَاماً، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهُ (علیه السلام) قَدْ مَاتَ، قَالَ: فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ، وَجَاءَ بِهِمْ كَمَا جَاءَ بِي، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ قَوْماً يَعْرِفُونَ مُوسَىٰ بْنَ جَعْفَرٍ فَسَمَّوْا لَهُ قَوْماً، فَجَاءَ بِهِمْ، فَأَصْبَحْنَا وَنَحْنُ فِي الدَّارِ نَيِّفٌ وَخَمْسُونَ رَجُلاً مِمَّنْ يَعْرِفُ مُوسَىٰ وَقَدْ صَحِبَهُ، قَالَ: ثُمَّ قَامَ وَدَخَلَ وَصَلَّيْنَا، فَخَرَجَ كَاتِبُهُ وَمَعَهُ طُومَارٌ، فَكَتَبَ أَسْمَاءَنَا وَمَنَازِلَنَا وَأَعْمَالَنَا وَخَلَّانَا، ثُمَّ دَخَلَ إِلَىٰ السِّنْدِيِّ، قَالَ: فَخَرَجَ السِّنْدِيُّ، فَضَرَبَ يَدَهُ إِلَيَّ، فَقَالَ: قُمْ يَا أَبَا حَفْصٍ، فَنَهَضْتُ وَنَهَضَ أَصْحَابُنَا وَدَخَلْنَا، وَقَالَ لِي: يَا أَبَا حَفْصٍ، اكْشِفِ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِ مُوسَىٰ بْنِ

ص: 57


1- العنوان من المصنِّف (رحمة الله).

جَعْفَرٍ، فَكَشَفْتُهُ، فَرَأَيْتُهُ مَيِّتاً، فَبَكَيْتُ وَاسْتَرْجَعْتُ، ثُمَّ قَالَ لِلْقَوْمِ: انْظُرُوا إِلَيْهِ، فَدَنَا وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: تَشْهَدُونَ كُلُّكُمْ أَنَّ هَذَا مُوسَىٰ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ نَشْهَدُ أَنَّهُ مُوسَىٰ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ قَالَ: يَا غُلَامُ، اطْرَحْ عَلَىٰ عَوْرَتِهِ مِنْدِيلاً وَاكْشِفْهُ، قَالَ: فَفَعَلَ، فَقَالَ: أَتَرَوْنَ بِهِ أَثَراً تُنْكِرُونَهُ؟ فَقُلْنَا: لَا مَا نَرَىٰ بِهِ شَيْئاً، وَلَا نَرَاهُ إِلَّا مَيِّتاً، قَالَ: لَا تَبْرَحُوا حَتَّىٰ تُغَسِّلُوهُ وَأُكَفِّنَهُ وَأَدْفِنَهُ، قَالَ: فَلَمْ نَبْرَحْ حَتَّىٰ غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَحُمِلَ، فَصَلَّىٰ عَلَيْهِ السِّنْدِيُّ بْنُ شَاهَكَ، وَدَفَنَّاهُ وَرَجَعْنَا، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ وَاقِدٍ يَقُولُ: مَا أَحَدٌ هُوَ أَعْلَمُبِمُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرٍ (علیهما السلام) مِنِّي، كَيْفَ تَقُولُونَ: إِنَّهُ حَيٌّ وَأَنَا دَفَنْتُهُ (1)؟

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَطَّارُ (رحمة الله)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَمْدَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ النَّيْسَابُورِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الصَّيْرَفِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: تُوُفِّيَ مُوسَىٰ بْنُ جَعْفَرٍ (علیهما السلام) فِي يَدِ السِّنْدِيِّ بْنِ شَاهَكَ، فَحُمِلَ عَلَىٰ نَعْشٍ، وَنُودِيَ عَلَيْهِ: هَذَا إِمَامُ الرَّافِضَةِ فَاعْرِفُوهُ، فَلَمَّا أُتِيَ بِهِ مَجْلِسَ الشُّرْطَةِ أَقَامَ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ، فَنَادَوْا: أَلَا مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَىٰ الْخَبِيثِ بْنِ الْخَبِيثِ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرٍ فَلْيَخْرُجْ، فَخَرَجَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ(2) مِنْ قَصْرِهِ إِلَىٰ الشَّطِّ، فَسَمِعَ الصِّيَاحَ وَالضَّوْضَاءَ(3)، فَقَالَ لِوُلْدِهِ وَغِلْمَانِهِ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: السِّنْدِيُّ بْنُ شَاهَكَ يُنَادِي عَلَىٰ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرٍ عَلَىٰ نَعْشٍ، فَقَالَ لِوُلْدِهِ وَغِلْمَانِهِ: يُوشِكُ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ هَذَا فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَإِذَا عُبِرَ بِهِ فَانْزِلُوا مَعَ غِلْمَانِكُمْ ، فَخُذُوهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَإِنْ مَانَعُوكُمْ فَاضْرِبُوهُمْ وَاخْرِقُوا مَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّوَادِ، قَالَ: فَلَمَّا عَبَرُوا بِهِ نَزَلُوا إِلَيْهِمْ

ص: 58


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 91 و92 / ح 3).
2- هم عمُّ الرشيد أحد أركان الدولة العبَّاسيَّة.
3- الضوضاء: الغوغاء - وزناً ومعنًى -، وأصوات الناس في الحرب.

فَأَخَذُوهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَضَرَبُوهُمْ وَخَرَقُوا عَلَيْهِمْ سَوَادَهُمْ وَوَضَعُوهُ فِي مَفْرَقِ أَرْبَعِ طُرُقٍ(1) وَأَقَامَ المُنَادِينَ يُنَادُونَ: أَلَا مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَىٰ الطَّيِّبِ بْنِ الطَّيِّبِ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرٍ فَلْيَخْرُجْ، وَحَضَرَ الْخَلْقُ وَغَسَّلَهُ وَحَنَّطَهُ بِحَنُوطٍ وَكَفَّنَهُ بِكَفَنٍ فِيهِ حِبَرَةٌ اسْتُعْمِلَتْ لَهُ بِأَلْفَيْ وَخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍمَكْتُوباً عَلَيْهَا الْقُرْآنُ كُلُّهُ، وَاحْتَفَىٰ(2) وَمَشَىٰ فِي جَنَازَتِهِ، مُتَسَلِّباً مَشْقُوقَ الْجَيْبِ إِلَىٰ مَقَابِرِ قُرَيْشٍ، فَدَفَنَهُ (علیه السلام) هُنَاكَ، وَكَتَبَ بِخَبَرِهِ إِلَىٰ الرَّشِيدِ، فَكَتَبَ إِلَىٰ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ: وَصَلْتَ رَحِمَكَ يَا عَمِّ وَأَحْسَنَ اللهُ جَزَاكَ، وَاللهِ مَا فَعَلَ السِّنْدِيُّ بْنُ شَاهَكَ (لَعَنَهُ اللهُ) مَا فَعَلَهُ عَنْ أَمْرِنَا(3)(4).

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادٍ الْهَمَدَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَدَقَةَ الْعَنْبَرِيِّ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ مُوسَىٰ بْنُ جَعْفَرٍ (علیهما السلام) جَمَعَ هَارُونُ الرَّشِيدُ شُيُوخَ الطَّالِبِيَّةِ وَبَنِي الْعَبَّاسِ وَسَائِرَ أَهْلِ المَمْلَكَةِ وَالْحُكَّامَ، وَأَحْضَرَ أَبَا إِبْرَاهِيمَ مُوسَىٰ بْنَ جَعْفَرٍ (علیهما السلام)، فَقَالَ: هَذَا مُوسَىٰ بْنُ جَعْفَرٍ قَدْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ(5) وَمَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مَا أَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْهُ فِي أَمْرِهِ - يَعْنِي فِي قَتْلِهِ -، فَانْظُرُوا إِلَيْهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَبْعُونَ رَجُلاً مِنْ شِيعَتِهِ، فَنَظَرُوا إِلَىٰ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرٍ (علیهما السلام) وَلَيْسَ بِهِ أَثَرُ جِرَاحَةٍ وَلَا سَمٍّ وَلَا خَنْقٍ، وَكَانَ

ص: 59


1- يعني الموضع الذي يتشعَّب منه الطُّرُق، ويقال له بالفارسيَّة: (چهار راه).
2- أي مشىٰ حافياً بلا نعل. وقوله: (متسلِّباً) أي بلا رداء ولا زينة.
3- رواه المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 93/ ح 5).
4- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 48/ ص 228): (بيان: شُرَط السلطان نخبة أصحابه الذين يُقدِّمهم علىٰ غيرهم من جنده. والضوضاء أصوات الناس وغلبتهم. والسلب خلع لباس الزينة ولبس أثواب المصيبة).
5- أي مات من غير قتل ولا ضرب، بل مات بأجله.

فِي رِجْلِهِ أَثَرُ الْحِنَّاءِ، فَأَخَذَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ وَتَوَلَّىٰ غُسْلَهُ وَتَكْفِينَهُ وَاحْتَفَىٰ وَتَحَسَّرَ فِي جَنَازَتِهِ (1)(2)(3).حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُورٍ (رحمة الله)، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ المُعَلَّىٰ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَصْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ رِبَاطٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيِّ ابْنِ مُوسَىٰ الرِّضَا (علیهما السلام): إِنَّ عِنْدَنَا رَجُلاً يَذْكُرُ أَنَّ أَبَاكَ (علیه السلام) حَيٌّ، وَأَنَّكَ تَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ مَا تَعْلَمُ، فَقَالَ (علیه السلام): «سُبْحَانَ اللهِ مَاتَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) وَلَمْ يَمُتْ مُوسَىٰ ابْنُ جَعْفَرٍ؟! بَلَىٰ وَاللهِ لَقَدْ مَاتَ وَقُسِمَتْ أَمْوَالُهُ وَنُكِحَتْ جَوَارِيهِ »(4).

[ادِّعاء الواقفة الغيبة على العسكري (علیه السلام)]:

ثمّ ادَّعت الواقفة علىٰ الحسن بن عليِّ بن محمّد (علیهم السلام) أنَّ الغيبة وقعت به، لصحَّة أمر الغيبة عندهم وجهلهم بموضعها وأنَّه القائم المهديُّ، فلمَّا صحَّت

ص: 60


1- تحسَّر، أي تلهَّف أو مشىٰ بلا رداء وعمامة.
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 97/ ح 8).
3- قال المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 97 و98): (إنَّما أوردت هذه الأخبار في هذا الكتاب ردًّا علىٰ الواقفيَّة علىٰ موسىٰ بن جعفر (علیهما السلام) فإنَّهم يزعمون أنَّه حيٌّ ويُنكِرون إمامة الرضا (علیه السلام) وإمامة من بعده من الأئمَّة (علیهم السلام)، وفي صحَّة وفاة موسىٰ بن جعفر إبطال مذهبهم. ولهم [في] هذه الأخبار كلام يقولون: إنَّ الصادق (علیه السلام) قال: الإمام لا يُغسِّله إلَّا الإمام، ولو كان الرضا (علیه السلام) إماماً كما ذكرتم لغسَّله، وفي هذه الأخبار أنَّ موسىٰ (علیه السلام) غسَّله غيره. ولا حجَّة لهم علينا في ذلك، لأنَّ الصادق (علیه السلام) إنَّما نهىٰ أنْ يُغسِّل الإمام إلَّا من يكون إماماً، فإنْ دخل من يُغسِّل الإمام في نهيه فغسَّله لم يبطل بذلك إمامة الإمام بعده، ولم يقل (علیه السلام): إنَّ الإمام لا يكون إلَّا الذي يُغسِّل من قبله من الأئمَّة (علیهم السلام)، فبطل تعلُّقهم علينا بذلك. علىٰ أنَّا قد روينا في بعض هذه الأخبار أنَّ الرضا (علیه السلام) قد غسَّل أباه موسىٰ بن جعفر (علیهما السلام) من حيث خفى علىٰ الحاضرين لغسله غير من اطَّلع عليه، ولا تُنكِر الواقفيَّة أنَّ الإمام يجوز أنْ يطوي الله تعالىٰ له البعد حتَّىٰ يقطع المسافة البعيدة في المدَّة اليسيرة).
4- رواه المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 98/ ح 9).

وفاته (علیه السلام) بطل قولهم فيه، وثبت بالأخبار الصحيحة التي قد ذكرناها في هذا الكتاب أنَّ الغيبة واقعة بابنه (علیه السلام) دونه.

فممَّا روي في صحَّة وفاة الحسن بن عليِّ بن محمّد العسكري (علیه السلام)(1):

مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْ حَضَرَ مَوْتَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَسْكَرِيِّ (علیهم السلام) وَدَفْنَهُ مِمَّنْ لَا يُوقَفُ عَلَىٰ إِحْصَاءِ عَدَدِهِمْ وَلَا يَجُوزُ عَلَىٰ مِثْلِهِمُ التَّوَاطُؤُ بِالْكَذِبِ. وَبَعْدُ فَقَدْ حَضَرْنَا فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْعَسْكَرِيِّ (علیهما السلام) بِثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ مَجْلِسَ أَحْمَدَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ يَحْيَىٰ بْنِ خَاقَانَ(2) وَهُوَ عَامِلُ السُّلْطَانِ يَوْمَئِذٍ عَلَىٰ الْخَرَاجِ وَالضِّيَاعِ بِكُورَةِ قُمَّ، وَكَانَ مِنْ أَنْصَبِ خَلْقِ اللهِ وَأَشَدِّهِمْ عَدَاوَةً لَهُمْ، فَجَرَىٰ ذِكْرُ المُقِيمِينَ مِنْ آلِ أَبِي طَالِبٍ بِسُرَّ مَنْ رَأَىٰ وَمَذَاهِبِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ وَأَقْدَارِهِمْ عِنْدَ السُّلْطَانِ، فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ: مَا رَأَيْتُ وَلَا عَرَفْتُ بِسُرَّ مَنْ رَأَىٰ رَجُلاً مِنَ الْعَلَوِيَّةِ مِثْلَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الرِّضَا (علیهم السلام)، وَلَا سَمِعْتُ بِهِ فِي هَدْيِهِ وَسُكُونِهِ وَعَفَافِهِ وَنُبْلِهِ وَكَرَمِهِ عِنْدَ أَهْلِ بَيْتِهِ وَالسُّلْطَانِ وَجَمِيعِ بَنِي هَاشِمٍ، وَتَقْدِيمِهِمْ إِيَّاهُ عَلَىٰ ذَوِي السِّنِّ مِنْهُمْ وَالْخَطَرِ، وَكَذَلِكَ الْقُوَّادُ وَالْوُزَرَاءُ وَالْكُتَّابُ وَعَوَامُّ النَّاسِ، فَإِنِّي كُنْتُ قَائِماً ذَاتَ يَوْمٍ عَلَىٰ رَأْسِ أَبِي وَهُوَ يَوْمُ مَجْلِسِهِ لِلنَّاسِ، إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ حُجَّابُهُ،فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ ابْنَ الرِّضَا عَلَىٰ الْبَابِ، فَقَالَ بِصَوْتٍ عَالٍ: ائْذَنُوا لَهُ(3)، فَدَخَلَ رَجُلٌ أَسْمَرُ أَعْيَنُ حَسَنُ الْقَامَةِ، جَمِيلُ الْوَجْهِ، جَيِّدُ الْبَدَنِ ، حَدَثُ السِّنِّ، لَهُ جَلَالَةٌ وَهَيْبَةٌ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ أَبِي قَامَ، فَمَشَىٰ

ص: 61


1- العنوان من المصنِّف (رحمة الله).
2- في إعلام الورىٰ: (أحمد بن عبد الله بن يحيىٰ بن خاقان).
3- زاد في الكافي (ج 1/ ص 503): (فتعجَّبت ممَّا سمعت منهم أنَّهم جسروا يُكَنُّون رجلاً علىٰ أبي بحضرته، ولم يُكَنَّ عنده إلَّا خليفة أو وليَّ عهد أو من أمر السلطان أنْ يُكَنَّىٰ).

إِلَيْهِ خُطًى، وَلَا أَعْلَمُهُ فَعَلَ هَذَا بِأَحَدٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَلَا بِالْقُوَّادِ وَلَا بِأَوْلِيَاءِ الْعَهْدِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ عَانَقَهُ وَقَبَّلَ وَجْهَهُ وَمَنْكِبَيْهِ وَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَجْلَسَهُ عَلَىٰ مُصَلَّاهُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، وَجَلَسَ إِلَىٰ جَنْبِهِ مُقْبِلاً عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ، وَجَعَلَ يُكَلِّمُهُ وَيُكَنِّيهِ، وَيَفْدِيهِ بِنَفْسِهِ وَبِأَبَوَيْهِ، وَأَنَا مُتَعَجِّبٌ مِمَّا أَرَىٰ مِنْهُ إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ الْحُجَّابُ، فَقَالُوا: المُوَفَّقُ قَدْ جَاءَ(1)، وَكَانَ المُوَفَّقُ إِذَا جَاءَ وَدَخَلَ عَلَىٰ أَبِي تَقَدَّمَ حُجَّابُهُ وَخَاصَّةُ قُوَّادِهِ، فَقَامُوا بَيْنَ مَجْلِسِ أَبِي وَبَيْنَ بَابِ الدَّارِ سِمَاطَيْنِ(2) إِلَىٰ أَنْ يَدْخُلَ وَيَخْرُجَ، فَلَمْ يَزَلْ أَبِي مُقْبِلاً عَلَيْهِ(3) يُحَدِّثُهُ حَتَّىٰ نَظَرَ إِلَىٰ غِلْمَانِ الْخَاصَّةِ، فَقَالَ حِينَئِذٍ: إِذَا شِئْتَ فَقُمْ جَعَلَنِيَ اللهُ فِدَاكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، ثُمَّ قَالَ لِغِلْمَانِهِ: خُذُوا بِهِ خَلْفَ السِّمَاطَيْنِ كَيْلَا يَرَاهُ الْأَمِيرُ - يَعْنِي المُوَفَّقَ -، فَقَامَ وَقَامَ أَبِي فَعَانَقَهُ وَقَبَّلَ وَجْهَهُ وَمَضَىٰ، فَقُلْتُ لِحُجَّابِ أَبِي وَغِلْمَانِهِ: وَيْلَكُمْ مَنْ هَذَا الَّذِي فَعَلَ بِهِ أَبِي هَذَا الَّذِي فَعَلَ؟ فَقَالُوا: هَذَا رَجُلٌ مِنَ الْعَلَوِيَّةِ يُقَالُ لَهُ: الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يُعْرَفُ بِابْنِ الرِّضَا، فَازْدَدْتُ تَعَجُّباً، فَلَمْ أَزَلْ يَوْمِي ذَلِكَ قَلِقاً مُتَفَكِّراً فِي أَمْرِهِ وَأَمْرِ أَبِي وَمَا رَأَيْتُ مِنْهُ حَتَّىٰ كَانَ اللَّيْلُ، وَكَانَتْ عَادَتُهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَتَمَةَ، ثُمَّ يَجْلِسَ فَيَنْظُرَ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ المُؤَامَرَاتِ وَمَا يَرْفَعُهُإِلَىٰ السُّلْطَانِ، فَلَمَّا صَلَّىٰ وَجَلَسَ(4) جِئْتُ فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَحْمَدُ، أَلَكَ حَاجَةٌ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا أَبَةِ إِنْ أَذِنْتَ سَأَلْتُكَ عَنْهَا، فَقَالَ: قَدْ أَذِنْتُ لَكَ يَا بُنَيَّ فَقُلْ مَا أَحْبَبْتَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَةِ، مَنْ كَانَ الرَّجُلُ الَّذِي أَتَاكَ بِالْغَدَاةِ وَفَعَلْتَ بِهِ مَا فَعَلْتَ مِنَ الْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَالتَّبْجِيلِ وَفَدَيْتَهُ بِنَفْسِكَ وَبَأَبَوَيْكَ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، ذَاكَ إِمَامُ الرَّافِضَةِ، ذَاكَ ابْنُ الرِّضَا، فَسَكَتَ سَاعَةً

ص: 62


1- الموفَّق هو أخو الخليفة المعتمد علىٰ الله أحمد بن المتوكِّل، وكان صاحب جيشه.
2- السماط: الصفُّ من الناس، يعني رديفين منظَّمين. وفي الكافي: (فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدار سماطين إلىٰ أنْ).
3- أي مقبلاً علىٰ أبي محمّد (علیه السلام).
4- في بعض النُّسَخ: (فلمَّا نظر وجلس).

، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، لَوْ زَالَتِ الْخِلَافَةُ عَنْ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ مَا اسْتَحَقَّهَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ غَيْرُ هَذَا، فَإِنَّ هَذَا يَسْتَحِقُّهَا فِي فَضْلِهِ وَعَفَافِهِ وَهَدْيِهِ وَصِيَانَةِ نَفْسِهِ وَزُهْدِهِ وَعِبَادَتِهِ وَجَمِيلِ أَخْلَاقِهِ وَصَلَاحِهِ، وَلَوْ رَأَيْتَ أَبَاهُ لَرَأَيْتَ رَجُلاً جَلِيلاً نَبِيلاً خَيِّراً فَاضِلاً، فَازْدَدْتُ قَلَقاً وَتَفَكُّراً وَغَيْظاً عَلَىٰ أَبِي مِمَّا سَمِعْتُ مِنْهُ فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِي هِمَّةٌ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا السُّؤَالَ عَنْ خَبَرِهِ، وَالْبَحْثَ عَنْ أَمْرِهِ، فَمَا سَأَلْتُ عَنْهُ أَحَداً مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَمِنَ الْقُوَّادِ وَالْكُتَّابِ وَالْقُضَاةِ وَالْفُقَهَاءِ وَسَائِرِ النَّاسِ إِلَّا وَجَدْتُهُ عِنْدَهُمْ فِي غَايَةِ الْإِجْلَالِ وَالْإِعْظَامِ وَالمَحَلِّ الرَّفِيعِ وَالْقَوْلِ الْجَمِيلِ وَالتَّقْدِيمِ لَهُ عَلَىٰ جَمِيعِ أَهْلِ بَيْتِهِ وَمَشَايِخِهِ وَغَيْرِهِمْ، وَكُلٌّ يَقُولُ: هُوَ إِمَامُ الرَّافِضَةِ، فَعَظُمَ قَدْرُهُ عِنْدِي، إِذْ لَمْ أَرَ لَهُ وَلِيًّا وَلَا عَدُوّاً إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الْقَوْلَ فِيهِ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ.

فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَهْلِ المَجْلِسِ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، فَمَا خَبَرُ أَخِيهِ جَعْفَرٍ؟ فَقَالَ: وَمَنْ جَعْفَرٌ فَيُسْئَلَ عَنْ خَبَرِهِ(1) أَوْ يُقْرَنَ بِهِ؟ إِنَّ جَعْفَراً مُعْلِنٌ بِالْفِسْقِ، مَاجِنٌ(2)، شِرِّيبٌ لِلْخُمُورِ، وَأَقَلُّ مَنْ رَأَيْتُهُ مِنَ الرِّجَالِ، وَأَهْتَكُهُمْ لِسَتْرِهِ، فَدْمٌ خَمَّارٌ(3)، قَلِيلٌ فِي نَفْسِهِ، خَفِيفٌ، وَاللهِ لَقَدْ وَرَدَ عَلَىٰ السُّلْطَانِوَأَصْحَابِهِ فِي وَقْتِ وَفَاةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام) مَا تَعَجَّبْتُ مِنْهُ، وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّهُ يَكُونُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اعْتَلَّ بَعَثَ إِلَىٰ أَبِي أَنَّ ابْنَ الرِّضَا قَدِ اعْتَلَّ، فَرَكِبَ مِنْ سَاعَتِهِ مُبَادِراً إِلَىٰ دَارِ الْخِلَافَةِ، ثُمَّ رَجَعَ مُسْتَعْجِلاً وَمَعَهُ خَمْسَةُ نَفَرٍ مِنْ خُدَّامِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ، كُلُّهُمْ مِنْ ثِقَاتِهِ وَخَاصَّتِهِ، فَمِنْهُمْ نِحْرِيرٌ(4)، وَأَمَرَهُمْ بِلُزُومِ دَارِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام) وَتَعَرُّفِ خَبَرِهِ وَحَالِهِ، وَبَعَثَ إِلَىٰ نَفَرٍ مِنَ المُتَطَبِّبِينَ، فَأَمَرَهُمْ بِالاخْتِلَافِ إِلَيْهِ(5)، وَتَعَاهُدِهِ صَبَاحاً

ص: 63


1- المراد به جعفر الكذَّاب.
2- الماجن: من لم يبالِ بما قال وما صنع. والشرِّيب - كسكِّين -: المولع بالشراب.
3- الفدم: العيى عن الكلام في رخاوة وقلَّة فهم، والأحمق، والمراد الثاني.
4- كان من خواصِّ خدم الخليفة، وكان شقيًّا من الأشقياء. والنحرير: الحاذق الفطن.
5- يعنى بالاختلاف: التردُّد للاطِّلاع علىٰ أحواله (علیه السلام).

وَمَسَاءً، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمَيْنِ جَاءَهُ مَنْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدْ ضَعُفَ، فَرَكِبَ حَتَّىٰ بَكَّرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ المُتَطَبِّبِينَ بِلُزُومِهِ، وَبَعَثَ إِلَىٰ قَاضِي الْقُضَاةِ فَأَحْضَرَهُ مَجْلِسَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَشَرَةً مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِ فِي دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ وَوَرَعِهِ، فَأَحْضَرَهُمْ، فَبَعَثَ بِهِمْ إِلَىٰ دَارِ الْحَسَنِ (علیه السلام)، وَأَمَرَهُمْ بِلُزُومِ دَارِهِ لَيْلاً وَنَهَاراً، فَلَمْ يَزَالُوا هُنَاكَ حَتَّىٰ تُوُفِّيَ (علیه السلام) لِأَيَّامٍ مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، فَصَارَتْ سُرَّ مَنْ رَأَىٰ ضَجَّةً وَاحِدَةً: مَاتَ ابْنُ الرِّضَا.

وَبَعَثَ السُّلْطَانُ إِلَىٰ دَارِهِ مَنْ يُفَتِّشُهَا وَيُفَتِّشُ حُجَرَهَا، وَخَتَمَ عَلَىٰ جَمِيعِ مَا فِيهَا، وَطَلَبُوا أَثَرَ وَلَدِهِ، وَجَاءُوا بِنِسَاءٍ يَعْرِفْنَ بِالْحَبْلِ، فَدَخَلْنَ عَلَىٰ جَوَارِيهِ، فَنَظَرْنَ إِلَيْهِنَّ، فَذَكَرَ بَعْضُهُنَّ أَنَّ هُنَاكَ جَارِيَةً بِهَا حَمْلٌ(1)، فَأَمَرَ بِهَا، فَجُعِلَتْ فِي حُجْرَةٍ، وَوُكِّلَ بِهَا نِحْرِيرٌ الْخَادِمُ وَأَصْحَابُهُ وَنِسْوَةٌ مَعَهُمْ، ثُمَّ أَخَذُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَهْيِئَتِهِ، وَعُطِّلَتِ الْأَسْوَاقُ، وَرَكِبَ أَبِي وَبَنُو هَاشِمٍ وَالْقُوَّادُ وَالْكُتَّابُ وَسَائِرُ النَّاسِ إِلَىٰ جَنَازَتِهِ (علیه السلام)، فَكَانَتْ سُرَّ مَنْرَأَىٰ يَوْمَئِذٍ شَبِيهاً بِالْقِيَامَةِ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ تَهْيِئَتِهِ بَعَثَ السُّلْطَانُ إِلَىٰ أَبِي عِيسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ، فَأَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا وُضِعَتِ الْجَنَازَةُ لِلصَّلَاةِ دَنَا أَبُو عِيسَىٰ مِنْهَا، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، فَعَرَضَهُ عَلَىٰ بَنِي هَاشِمٍ مِنَ الْعَلَوِيَّةِ وَالْعَبَّاسِيَّةِ وَالْقُوَّادِ وَالْكُتَّابِ وَالْقُضَاةِ وَالْفُقَهَاءِ وَالمُعَدَّلِينَ، وَقَالَ: هَذَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، ابْنُ الرِّضَا، مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ(2) عَلَىٰ فِرَاشِهِ، حَضَرَهُ مِنْ خَدَمِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ وَثِقَاتِهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَمِنَ المُتَطَبِّبِينَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَمِنَ الْقُضَاةِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، ثُمَّ غَطَّىٰ وَجْهَهُ وَقَامَ فَصَلَّىٰ عَلَيْهِ وَكَبَّرَ عَلَيْهِ خَمْساً وَأَمَرَ بِحَمْلِهِ، فَحُمِلَ مِنْ وَسَطِ دَارِهِ، وَدُفِنَ فِي الْبَيْتِ الَّذِي دُفِنَ فِيهِ أَبُوهُ (علیه السلام).

فَلَمَّا دُفِنَ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ اضْطَرَبَ السُّلْطَانُ وَأَصْحَابُهُ فِي طَلَبِ وَلَدِهِ، وَكَثُرَ

ص: 64


1- في بعض النُّسَخ: (لها حبل)، وفي بعضها: (بها حبل).
2- يعني مات من غير قتل ولا ضرب ولا خنق.

التَّفْتِيشُ فِي المَنَازِلِ وَالدُّورِ، وَتَوَقَّفُوا عَلَىٰ قِسْمَةِ مِيرَاثِهِ، وَلَمْ يَزَلِ الَّذِينَ وُكِّلُوا بِحِفْظِ الْجَارِيَةِ الَّتِي تَوَهَّمُوا عَلَيْهَا الْحَبَلَ مُلَازِمِينَ لَهَا سَنَتَيْنِ وَأَكْثَرَ حَتَّىٰ تَبَيَّنَ لَهُمْ بُطْلَانُ الْحَبَلِ، فَقَسَّمَ مِيرَاثَهُ بَيْنَ أُمِّهِ وأَخِيهِ جَعْفَرٍ، وَادَّعَتْ أُمُّهُ وَصِيَّتَهُ، وَثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي. وَالسُّلْطَانُ عَلَىٰ ذَلِكَ يَطْلُبُ أَثَرَ وَلَدِهِ، فَجَاءَ جَعْفَرٌ بَعْدَ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ إِلَىٰ أَبِي، وَقَالَ لَهُ: اجْعَلْ لِي مَرْتَبَةَ أَبِي وَأَخِي وَأُوصِلَ إِلَيْكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ مُسَلَّمَةً، فَزَبَرَهُ(1) أَبِي وَأَسْمَعَهُ، وَقَالَ لَهُ: يَا أَحْمَقُ، إِنَّ السُّلْطَانَ (أَعَزَّهُ اللهُ) جَرَّدَ سَيْفَهُ وَسَوْطَهُ فِي الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ أَبَاكَ وَأَخَاكَ أَئِمَّةٌ لِيَرُدَّهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ صَرْفُهُمْ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ فِيهِمَا، وَجَهَدَ أَنْ يُزِيلَ أَبَاكَ وَأَخَاكَ عَنْ تِلْكَ المَرْتَبَةِ فَلَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ كُنْتَ عِنْدَشِيعَةِ أَبِيكَ وَأَخِيكَ إِمَاماً فَلَا حَاجَةَ بِكَ إِلَىٰ السُّلْطَانِ يُرَتِّبُكَ مَرَاتِبَهُمْ وَلَا غَيْرِ السُّلْطَانِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُمْ بِهَذِهِ المَنْزِلَةِ لَمْ تَنَلْهَا بِنَا، وَاسْتَقَلَّهُ [أَبِي] عِنْدَ ذَلِكَ وَاسْتَضْعَفَهُ وَأَمَرَ أَنْ يُحْجَبَ عَنْهُ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ حَتَّىٰ مَاتَ أَبِي، وَخَرَجْنَا وَالْأَمْرُ عَلَىٰ تِلْكَ الْحَالِ، وَالسُّلْطَانُ يَطْلُبُ أَثَرَ وَلَدِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام) حَتَّىٰ الْيَوْمَ (2).

وكيف يصحُّ الموت إلَّا هكذا؟ وكيف يجوز ردُّ العيان وتكذيبه؟ وإنَّما كان السلطان لا يفتر عن طلب الولد لأنَّه قد كان وقع في مسامعه خبره، وَقَدْ كَانَ وُلِدَ (علیه السلام) قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ بِسِنِينَ، وَعَرَضَهُ عَلَىٰ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ لَهُمْ: «هَذَا إِمَامُكُمْ مِنْ بَعْدِي، وَخَلِيفَتِي عَلَيْكُمْ، أَطِيعُوهُ فَلَا تَتَفَرَّقُوا مِنْ بَعْدِي فَتَهْلِكُوا فِي أَدْيَانِكُمْ،

ص: 65


1- أي زجره.
2- راجع: الكافي (ج 1/ ص 503 - 506/ باب مولد أبي محمّد الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام)/ ح 1)، والإرشاد (ج 2/ ص 321 - 325)، وروضة الواعظين (ص 249 - 251)، وإعلام الورىٰ (ج 2/ ص 147 - 150).

أَمَا إِنَّكُمْ لَنْ تَرَوْهُ بَعْدَ يَوْمِكُمْ هَذَا»(1)(2)، فغيَّبه ولم يُظهِره، فلذلك لم يفتر السلطان عن طلبه.

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْأَمْرِ هُوَ الَّذِي تُخْفَىٰ وِلَادَتُهُ عَلَىٰ النَّاسِ،وَيَغِيبُ عَنْهُمْ شَخْصُهُ، لِئَلَّا يَكُونَ لِأَحَدٍ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ إِذَا خَرَجَ(3)، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُقْسَمُ مِيرَاثُهُ وَهُوَ حَيٌّ(4)، وقد أخرجت ذلك مسنداً في هذا الكتاب في موضعه.

وقد كان مرادنا بإيراد هذا الخبر تصحيحاً لموت الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام)، فلمَّا بطل وقوع الغيبة لمن ادُّعيت له من محمّد بن عليٍّ [ابن] الحنفيَّة، والصادق جعفر ابن محمّد، وموسىٰ بن جعفر، والحسن بن عليٍّ العسكري (علیهم السلام)، بما صحَّ من وفاتهم، فصحَّ وقوعها بمن نصَّ عليه النبيُّ والأئمَّة الأحد عشر (صلوات الله عليهم)، وهو الحجَّة بن الحسن بن عليِّ بن محمّد العسكري (علیهم السلام)، وقد أخرجت الأخبار المسندة في ذلك الكتاب في أبواب النصوص عليه (صلوات الله عليه).

وكلُّ من سألنا من المخالفين عن القائم (علیه السلام) لم يخل من أنْ يكون قائلاً بإمامة الأئمَّة الأحد عشر من آبائه (علیهم السلام) أو غير قائل بإمامتهم، فإنْ كان قائلاً بإمامتهم لزمه القول بإمامة الإمام الثاني عشر، لنصوص آبائه الأئمَّة (علیهم السلام) عليه باسمه ونسبه، وإجماع شيعتهم علىٰ القول بإمامته، وأنَّه القائم الذي يظهر بعد

ص: 66


1- رواه الطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 357/ ح 319).
2- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 52/ ص 26): (بيان: قوله (علیه السلام): «أمَا إنَّكم لا ترونه» أي أكثركم أو عن قريب، فإنَّ الظاهر أنَّ محمّد بن عثمان كان يراه في أيَّام سفارته، وهو الظاهر من الخبر الآتي. مع أنَّه يحتمل أنْ يكون في أيَّام سفارته تصل إليه الكُتُب من وراء حجاب أو بوسائط، وما أخبر به في الخبر الآتي يكون إخباراً عن هذه المرَّة لكنَّهما بعيدان). ومراده (رحمة الله) من الخبر الآتي ما سيأتي تحت الرقم (389/3).
3- سيأتي مسنداً تحت الرقم (210/2)، فانتظر.
4- سيأتي مسنداً تحت الرقم (212/2)، فانتظر.

غيبة طويلة فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً. وإنْ لم يكن السائل من القائلين بالأئمَّة الأحد عشر (علیهم السلام) لم يكن له علينا جواب في القائم الثاني عشر من الأئمَّة (علیهم السلام)، وكان الكلام بيننا وبينه في إثبات إمامة آبائه الأئمَّة الأحد عشر (علیهم السلام).

وهكذا لو سألنا يهودي فقال لنا: لِمَ صارت الظهر أربعاً والعصرأربعاً والعتمة أربعاً والغداة ركعتين والمغرب ثلاثاً؟ لم يكن له علينا في ذلك جواب، بل لنا أنْ نقول له: إنَّك منكر لنبوَّة النبيِّ الذي أتىٰ بهذه الصلوات وعدد ركعاتها، فكلِّمنا في نبوَّته وإثباتها، فإنْ بطلت بطلت هذه الصلوات وسقط السؤال عنها، وإنْ ثبتت نبوَّته (صلی الله علیه و آله) لزمك الإقرار بفرض هذه الصلوات علىٰ عدد ركعاتها، لصحَّة مجيئها عنه، واجتماع أُمَّته عليها، عرفت علَّتها أم لم تعرفها، وهكذا الجواب لمن سأل عن القائم (علیه السلام) حذو النعل بالنعل.

[جواب عن اعتراض]:

وقد يعترض معترض جاهل بآثار الحكمة، غافل عن مستقيم التدبير لأهل الملَّة، بأنْ يقول: ما بال الغيبة وقعت بصاحب زمانكم هذا دون من تقدَّم من آبائه الأئمَّة بزعمكم، وقد نجد شيعة آل محمّد (علیهم السلام) في زماننا هذا أحسن حالاً وأرغد عيشاً منهم في زمن بني أُميَّة، إذ كانوا في ذلك الزمان مطالبين بالبراءة من أمير المؤمنين (علیه السلام)، إلىٰ غير ذلك من أحوال القتل والتشريد. وهم في هذا الحال وادعون سالمون، قد كثرت شيعتهم وتوافرت أنصارهم وظهرت كلمتهم بموالاة كبراء أهل الدولة لهم وذوي السلطان والنجدة منهم.

فأقول - وبالله التوفيق -: إنَّ الجهل غير معدوم من ذوي الغفلة وأهل التكذيب والحيرة، وقد تقدَّم من قولنا: إنَّ ظهور حُجَج الله (علیهم السلام) واستتارهم

ص: 67

جرىٰ في وزن الحكمة(1) حسب الإمكان والتدبير لأهلالإيمان، وإذا كان ذلك كذلك فليقل ذوو النظر والتمييز: إنَّ الأمر الآن - وإنْ كان الحال كما وصفت - أصعب والمحنة أشدُّ ممَّا تقدَّم من أزمنة الأئمَّة السالفة (علیهم السلام)، وذلك أنَّ الأئمَّة الماضية أسرُّوا في جميع مقاماتهم إلىٰ شيعتهم والقائلين بولايتهم والمائلين من الناس إليهم حتَّىٰ تظاهر ذلك بين أعدائهم أنَّ صاحب السيف هو الثاني عشر من الأئمَّة (علیهم السلام)، وأنَّه (علیه السلام) لا يقوم حتَّىٰ تجي ء صيحة من السماء باسمه واسم أبيه، والأنفس منيتة(2) علىٰ نشر ما سمعت وإذاعة ما أحسَّت، فكان ذلك منتشراً بين شيعة آل محمّد (صلی الله علیه و آله) وعند مخالفيهم من الطواغيت وغيرهم، وعرفوا منزلة أئمَّتهم من الصدق ومحلَّهم من العلم والفضل، وكانوا يتوقَّفون عن التسرُّع إلىٰ إتلافهم، ويتحامون القصد لإنزال المكروه بهم مع ما يلزم من حال التدبير في إيجاب ظهورهم كذلك، ليصل كلُّ امرئ منهم إلىٰ ما يستحقُّه من هداية أو ضلالة، كما قال الله تعالىٰ: «مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً 17» [الكهف: 17]، وقال الله (تبارک و تعالی): «وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلَا تَأْسَ عَلَىٰ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ 68» [المائدة: 68]، وهذا الزمان قد استوفىٰ أهله كلَّ إشارة من نصٍّ وآثار، فتناهت بهم الأخبار واتَّصلت بهم الآثار إلىٰ أنَّ صاحب هذا الزمان (علیه السلام) هو صاحب السيف والأنفس منيتة علىٰ [ما وصفنا من] نشر ما سمعت وذكر ما رأت وشاهدت، فلو كان صاحب هذا الزمان (علیه السلام) ظاهراً موجوداً لنشر شيعته ذلك، ولتعدَّاهم إلىٰ مخالفيهمبحسن ظنِّ بعضهم بمن يدخل فيهم ويُظهِر الميل إليهم، وفي أوقات

ص: 68


1- كذا، يعني في ميزان الحكمة.
2- في بعض النُّسَخ: (مبنيَّة). والمنيتة أي المائلة كما في بعض اللغات. وفي بعض النُّسَخ: (منبعثة). وكذا ما يأتي.

الجدال بالدلالة علىٰ شخصه والإشارة إلىٰ مكانه، كفعل هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ مَعَ الشَّامِيِّ وَقَدْ نَاظَرَهُ بِحَضْرَةِ الصَّادِقِ (علیه السلام) فَقَالَ الشَّامِيُّ لِهِشَامٍ: مَنْ هَذَا الَّذِي تُشِيرُ إِلَيْهِ وتَصِفُهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ؟ قَالَ هِشَامٌ: هُوَ هَذَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَىٰ الصَّادِقِ (علیه السلام).

فكان يكون ذلك منتشراً في مجالسهم كانتشاره بينهم مع إشارتهم إليه بوجود شخصه ونسبه ومكانه، ثمّ لم يكونوا حينئذٍ يُمهَلون ولا يُنظَرون كفعل فرعون في قتل أولاد بني إسرائيل للذي قد كان ذاع منهم وانتشر بينهم من كون موسىٰ (علیه السلام) بينهم وهلاك فرعون ومملكته علىٰ يديه، وكذلك كان فعل نمرود قبله في قتل أولاد رعيَّته وأهل مملكته في طلب إبراهيم (علیه السلام) زمان انتشار الخبر بوقت ولادته وكون هلاك نمرود وأهل مملكته ودينه علىٰ يديه، كذلك طاغية زمان وفاة الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام) والد صاحب الزمان (علیه السلام) وطلب ولده والتوكيل بداره وحبس جواريه وانتظاره بهنَّ وضع الحمل الذي كان بهنَّ(1)، فلولا أنَّ إرادتهم كانت ما ذكرنا من حال إبراهيم وموسىٰ (علیهما السلام) لما كان ذلك منهم، وقد خلَّف (علیه السلام) أهله وولده وقد علموا من مذهبه ودينه أنْ لا يرث مع الولد والأبوين أحد إلَّا زوج أو زوجة، كلَّا ما يُتوهَّم غير هذا عاقل، ولا فهم غير هذا مع ما وجب من التدبير والحكمة المستقيمة ببلوغ غاية المدَّة في الظهور والاستتار، فإذا كان ذلك كذلك وقعت الغيبة فاستتر عنهم شخصه وضلُّوا عن معرفة مكانه، ثمّ نشرناشر من شيعته شيئاً من أمره بما وصفناه وصاحبكم في حال الاستتار فوردت عادية من طاغوت الزمان أو صاحب فتنة من العوامِّ تفحَّص عمَّا ورد من الاستتار وذُكِرَ من الأخبار، فلم يجد حقيقة يُشار إليها، ولا

ص: 69


1- في بعض النُّسَخ: (وضع حمل إنْ كان بهنَّ).

شبهة يتعلَّق بها، انكسرت العادية وسكنت الفتنة وتراجعت الحميَّة، فلا يكون حينئذٍ علىٰ شيعته ولا علىٰ شي ء من أشيائهم(1) لمخالفيهم متسلِّق ولا إلىٰ اصطلامهم سبيل متعلِّق(2)، وعند ذلك تخمد النائرة وترتدع العادية، فتظاهر أحوالهم عند الناظر في شأنهم، ويتَّضح للمتأمِّل أمرهم، ويتحقَّق المؤمن المفكِّر في مذهبهم، فيلحق بأولياء الحجَّة من كان في حيرة الجهل وينكشف عنهم ران الظلمة(3) عند مهلة التأمُّل للحقِّ(4) بيِّناته وشواهد علاماته كحال اتِّضاحه وانكشافه عند من يتأمَّل كتابنا هذا مريدا للنجاة، هارباً من سُبُل الضلالة، ملتحقاً بمن سبقت لهم من الله الحسنىٰ، فآثر علىٰ الضلالة الهدىٰ.

[جواب عن اعتراض آخر]:

وممَّا سأل عنه جُهَّال المعاندين للحقِّ أنْ قالوا: أخبرونا عن الإمام في هذا الوقت يدَّعي الإمامة أم لا يدَّعيها، ونحن نصير إليه فنسأله عن معالم الدِّين، فإنْ كان يجيبنا ويدَّعي الإمامة علمنا أنَّه الإمام، وإنْ كان لا يدَّعي الإمامة ولا يجيبنا إذا صرنا إليه، فهو ومن ليس بإمام سواء.فقيل لهم: قد دلَّ علىٰ إمام زماننا الصادق الذي قبله، وليست به حاجة إلىٰ أنْ يدَّعي هو أنَّه إمام إلَّا أنْ يقول ذلك علىٰ سبيل الاذِّكار والتأكيد، فأمَّا علىٰ سبيل الدعوىٰ التي تحتاج إلىٰ برهان فلا، لأنَّ الصادق الذي قبله قد نصَّ عليه وبيَّن أمره وكفاه مؤونة الادِّعاء، والقول في ذلك نظير قولنا في عليِّ بن أبي

ص: 70


1- في بعض النُّسَخ: (من أسبابهم).
2- تسلَّق الجدار: تسوَّره وصعد عليه، والمتسلِّق: آلة التسلُّق. والاصطلام: الاستيصال.
3- أي تغطية الظلمة. وفي بعض النُّسَخ: (درن الظلمة)، والدرن: الوسخ.
4- في بعض النُّسَخ: (المتأمِّل للحقِّ).

طالب (علیه السلام) في نصِّ النبيِّ (صلی الله علیه و آله) واستغنائه عن أنْ يدَّعي هو لنفسه أنَّه إمام. فأمَّا إجابته إيَّاكم عن معالم الدِّين، فإنْ جئتموه مسترشدين متعلِّمين، عارفين بموضعه، مقرِّين بإمامته عرَّفكم وعلَّمكم. وإنْ جئتموه أعداءً له، مرصدين بالسعاية إلىٰ أعدائه، منطوين علىٰ مكروهة عند أعداء الحقِّ، متعرِّفين مستور أُمور الدِّين لتذيعوه لم يجبكم، لأنَّه يخاف علىٰ نفسه منكم.

فمن لم يقنعه هذا الجواب قلبنا عليه السؤال في النبيِّ (صلی الله علیه و آله) وهو في الغار، أنْ لو أراد الناس أنْ يسألوه عن معالم الدِّين هل كانوا يلقونه ويصلون إليه أم لا؟ فإنْ كانوا يصلون إليه فقد بطل أنْ يكون استتاره في الغار، وإنْ كانوا لا يصلون إليه فسواء وجوده في العالم وعدمه علىٰ علَّتكم.

فإنْ قلتم: إنَّ النبيَّ (صلی الله علیه و آله) كان متوقّياً.

قيل: وكذلك الإمام (علیه السلام) في هذا الوقت متوقٍّ.

فإنْ قلتم: إنَّ النبيَّ (صلی الله علیه و آله) بعد ذلك قد ظهر ودعا إلىٰ نفسه.

قلنا: وما في ذلك من الفرق، أليس قد كان نبيًّا قبل أنْ يخرج من الغار ويظهر وهو في الغار مستتر ولم ينقض ذلك نبوَّته؟ وكذلك الإماميكون إماماً وإنْ كان يستتر بإمامته ممَّن يخافه علىٰ نفسه.

ويقال لهم: ما تقولون في أفاضل أصحاب محمّد (صلی الله علیه و آله) والمتقدِّم في الصدق منهم، لو لقيتهم كتيبة المشركين يطلبون نفس النبيِّ (صلی الله علیه و آله) فلم يعرفوه فسألوهم عنه: هل هو هذا؟ وهو بين أيديهم أو كيف أخفىٰ(1)؟ وأين هو؟ فقالوا: ليس نعرف موضعه، أو ليس هو هذا، هل كانوا في ذلك كاذبين مذمومين غير صادقين ولا محمودين أم لا؟ فإنْ قلتم: كاذبين، خرجتم من دين الإسلام

ص: 71


1- أي كيف أخفىٰ نفسه. وفي بعض النُّسَخ: (كيف أخذ).

بتكذيبكم أصحاب النبيِّ (صلی الله علیه و آله)، وإنْ قلتم: لا يكون ذلك كذلك، لأنَّهم يكونون قد حرَّفوا كلامهم وأضمروا معنىٰ أخرجهم من الكذب وإنْ كان ظاهره ظاهر كذب، فلا يكونون مذمومين بل محمودين، لأنَّهم دفعوا عن نفس النبيِّ (صلی الله علیه و آله) القتل.

قيل لهم: وكذلك الإمام، إذا قال: لست بإمام، ولم يُجب أعداءه عمَّا يسألونه عنه، لا يزيل ذلك إمامته، لأنَّه خائف علىٰ نفسه، وإنْ أبطل جحده لأعدائه أنَّه إمام في حال الخوف إمامته أبطل علىٰ أصحاب النبيِّ (صلی الله علیه و آله) أنْ يكونوا صادقين في إجابتهم المشركين بخلاف ما علموه عند الخوف، وإنْ لم يزل ذلك صدق الصحابة لم يزل أيضاً ستر الإمام نفسه إمامته، ولا فرق في ذلك، ولو أنَّ رجلاً مسلماً وقع في أيدي الكُفَّار وكانوا يقتلون المسلمين إذا ظفروا بهم فسألوه: هل أنت مسلم؟ فقال: لا، لم يكن ذلك بمخرج له من الإسلام، فكذلك الإمام إذا جحد عند أعدائه ومن يخافه علىٰ نفسه أنَّه إمام لم يُخرجه ذلك من الإمامة.فإنْ قالوا: إنَّ المسلم لم يُجعَل في العالم ليُعلِّم الناس ويقيم الحدود، فلذلك افترق حكماهما ووجب أنْ لا يستر الإمام نفسه.

قيل لهم: لم نقل: إنَّ الإمام يستر نفسه [عن جميع الناس](1)، لأنَّ الله (عزوجل)قد نصبه وعرَّف الخلق مكانه بقول الصادق الذي قبله فيه ونصبه له، وإنَّما قلنا: إنَّ الإمام لا يقرُّ عند أعدائه بذلك خوفاً منهم أنْ يقتلوه، فأمَّا أنْ يكون مستوراً عن جميع الخلق فلا، لأنَّ الناس جميعاً لو سألوا عن إمام الإماميَّة من هو؟ لقالوا: فلان بن فلان مشهور عند جميع الأُمَّة، وإنَّما تكلَّمنا في أنَّه هل يقرُّ عند أعدائه أم لا يقرُّ، وعارضناكم باستتار النبيِّ (صلی الله علیه و آله) في الغار وهو مبعوث معه المعجزات وقد أتىٰ بشرع مبتدع ونسخ كلِّ شرع قبله، وأريناكم أنَّه إذا خاف كان له أنْ

ص: 72


1- هذه الزيادة بين المعقوفتين كانت في بعض النُّسَخ دون بعض.

يجحد عند أعدائه أنَّه إمام ولا يجيبهم إذا سألوه، ولا يُخرجه ذلك من أنْ يكون إماماً، ولا فرق في ذلك.

فإنْ قالوا: فإذا جوَّزتم للإمام أنْ يجحد إمامته أعداءه عند الخوف، فهل يجوز للنبيِّ (صلی الله علیه و آله) أنْ يجحد نبوَّته عند الخوف من أعدائه؟

قيل لهم: قد فرَّق قوم من أهل الحقِّ بين النبيِّ (صلی الله علیه و آله) وبين الإمام، بأنْ قالوا: إنَّ النبيَّ (صلی الله علیه و آله) هو الداعي إلىٰ رسالته والمبيِّن للناس ذلك بنفسه، فإذا جحد ذلك وأنكره للتقيَّة بطلت الحجَّة، ولم يكن أحد يُبيِّن عنه، والإمام قد قام له النبيُّ (صلی الله علیه و آله) بحجَّته وأبان أمره، فإذا سكت أو جحد كان النبيُّ (صلی الله علیه وآله) قد كفاه ذلك.

وليس هذا جوابنا، ولكنَّا نقول: إنَّ حكم النبيِّ (صلی الله علیه و آله) وحكم الإمام سيَّان في التقيَّة إذا كان قد صدع بأمر الله (عزوجل)وبلَّغ رسالته وأقام المعجزات، فأمَّا قبل ذلك فلا، وَقَدْ مَحَا النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله) اسْمَهُ مِنَ الصَّحِيفَةِ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ أَنْكَرَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وحَفْصُ بْنُ الْأَحْنَفِ نُبُوَّتَهُ، فَقَالَ لِعَلِيٍّ (علیه السلام): «امْحُهُ، وَاكْتُبْ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ»(1)، فَلَمْ يُضِرَّ ذَلِكَ نُبُوَّتَهُ إِذَا كَانَتِ الْأَعْلَامُ فِي الْبَرَاهِينِ قَدْ قَامَتْ لَهُ بِذَلِكَ مِنْ قَبْلُ، وَقَدْ قَبِلَ اللهُ (عزوجل)عُذْرَ عَمَّارٍ حِينَ حَمَلَهُ المُشْرِكُونَ عَلَىٰ سَبِّ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَسَبَّهُ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَىٰ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله)، قَالَ: «قَدْ أَفْلَحَ الْوَجْهُ يَا عَمَّارُ»، قَالَ: مَا أَفْلَحَ وقَدْ سَبَبْتُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ (علیه السلام): «أَلَيْسَ قَلْبُكَ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ؟»، قَالَ: بَلَىٰ يَا رَسُولَ

ص: 73


1- راجع ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده (ص 97)، والمنقري في وقعة صفِّين (ص 509)، وابن هشام في سيرته (ج 3/ ص 782)، وأحمد بن حنبل في مسنده (ج 27/ ص 354/ ح 16800)، والنسائي في سُنَنه (ج 5/ ص 167/ ح 8575)، وأبو يعلىٰ في مسنده (ج 6/ ص 69 و70/ ح 3323).

اللهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ: «إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» [النحل: 106](1).

والقول في ذلك ينافي الشريعة من إجازة ذلك في وقت وحظره في وقت آخر، وإذا جاز للإمام أنْ يجحد إمامته ويستر أمره جاز أنْ يسترشخصه متىٰ أوجبت الحكمة غيبته، وإذا جاز أنْ يغيب يوماً لعلَّة موجبة جاز سنة، وإذا جاز سنة جاز مائة سنة، وإذا جاز مائة سنة جاز أكثر من ذلك إلىٰ الوقت الذي توجب الحكمة ظهوره كما أوجبت غيبته، ولا قوَّة إلَّا بالله.

ونحن نقول مع ذلك(2): إنَّ الإمام لا يأتي جميع ما يأتيه من اختفاء وظهور وغيرهما إلَّا بعهد معهود إليه من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، كما قد وردت به الأخبار عن أئمَّتنا (علیهم السلام).

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ صَالِحٍ الْهَرَوِيِّ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَىٰ الرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ عَلِيٍّ (علیه السلام)، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله): «وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ بَشِيراً، لَيَغِيبَنَّ الْقَائِمُ مِنْ وُلْدِي بِعَهْدٍ مَعْهُودٍ إِلَيْهِ مِنِّي حَتَّىٰ يَقُولَ أَكْثَرُ النَّاسِ مَا لِلهِ فِي آلِ مُحَمَّدٍ حَاجَةٌ، وَيَشُكُّ آخَرُونَ فِي وِلَادَتِهِ، فَمَنْ أَدْرَكَ زَمَانَهُ فَلْيَتَمَسَّكْ بِدِينِهِ، وَلَا يَجْعَلْ لِلشَّيْطَانِ إِلَيْهِ سَبِيلاً بِشَكِّهِ(3) فَيُزِيلَهُ عَنْ مِلَّتِي وَيُخْرِجَهُ مِنْ دِينِي، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّ اللهَ (عزوجل)جَعَلَ الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ».

ص: 74


1- راجع ما رواه الحميري (رحمة الله) في قرب الإسناد (ص 12 و13/ ح 38)، والكليني (علیه السلام) في الكافي (ج 2/ ص 219/ باب التقيَّة/ ح 10)، والطبراني في تفسيره (ج 4/ ص 84 و85)، والحاكم في مستدركه (ج 2/ ص 357).
2- في بعض النُّسَخ: (في ذلك).
3- في بعض النُّسَخ: (يُشكِّكه).

[اعتراضات لابن بشَّار]:

وقد تكلَّم علينا أبو الحسن عليُّ بن أحمد بن بشَّار في الغيبة، وأجابه أبو جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي(1)، وكان من كلام عليِّبن أحمد بن بشَّار علينا في ذلك أنْ قال في كتابه:

أقول: إنَّ كلَّ المبطلين أغنياء عن تثبيت إنّيَّة من يدَّعون له، وبه يتمسَّكون، وعليه يعكفون ويعطفون، لوجود أعيانهم وثبات إنّيَّاتهم، وهؤلاء - يعني أصحابنا - فقراء إلىٰ ما قد غني عنه كلُّ مبطل سلف من تثبيت إنّيَّة من يدَّعون له وجوب الطاعة، فقد افتقروا إلىٰ ما قد غني عنه سائر المبطلين، واختلفوا بخاصَّة ازدادوا بها بطلاناً، وانحطُّوا بها عن سائر المبطلين، لأنَّ الزيادة من الباطل تحطُّ والزيادة من الخير تعلو، والحمد لله ربِّ العالمين.

ثمّ قال: وأقول قولاً تعلم فيه الزيادة علىٰ الإنصاف منَّا وإنْ كان ذلك غير واجب علينا، أقول: إنَّه معلوم أنَّه ليس كلُّ مدَّعٍ ومدَّعىٰ له بمحقٍّ، وإنَّ كلَّ سائل لمدَّعٍ تصحيح دعواه بمنصف(2)، وهؤلاء القوم ادَّعوا أنَّ لهم من قد صحَّ عندهم أمره ووجب له علىٰ الناس الانقياد والتسليم، وقد قدَّمنا أنَّه ليس كلُّ مدَّعٍ ومدَّعىٰ له بواجب له التسليم، ونحن نُسلِّم لهؤلاء القوم الدعوىٰ، ونقرُّ علىٰ أنفسنا بالإبطال - وإنْ كان ذلك في غاية المحال - بعد أنْ يوجدونا إنّيَّة المدَّعىٰ له، ولا نسألهم تثبيت الدعوىٰ، فإنْ كان معلوماً أنَّ في هذا أكثر من

ص: 75


1- محمّد بن عبد الرحمن بن قبة - بالقاف المكسورة وفتح الباء الموحَّدة - الرازي، أبو جعفر، متكلِّم، عظيم القدر، حسن العقيدة، كان قديماً من المعتزلة وتبصَّر وانتقل، وكان شيخ الإماميَّة في زمانه، كما في رجال النجاشي (ص 375/ الرقم 1023)، وخلاصة الأقوال (ص 243/ الرقم 32).
2- في بعض النُّسخ: (ليس كلُّ مدَّعٍ ومدَّعىٰ له فمحقٌّ، وإنْ كان [كلُّ - خ ل] سائل للمدَّعىٰ تصحيح دعواه فمنصف).

الإنصاف فقد وفينا بما قلنا، فإنْ قدروا عليه فقد أبطلوا، وإنْ عجزوا عنه فقد وضح ما قلناه من زيادة عجزهم عنتثبيت ما يدَّعون علىٰ عجز كلِّ مبطل عن تثبيت دعواه. وأنَّهم مختصُّون من كلِّ نوع من الباطل بخاصَّة يزدادون بها انحطاطاً عن المبطلين أجمعين، لقدرة كلِّ مبطل سلف علىٰ تثبيت دعواه إنّيَّة من يدَّعون له وعجز هؤلاء عمَّا قدر عليه كلُّ مبطل إلَّا ما يرجعون إليه من قولهم: (إنَّه لا بدَّ ممَّن تجب به حجَّة الله (تبارک و تعالی)، وأجل لا بدَّ من وجوده فضلاً عن كونه، فأوجدونا الإنّيَّة من دون إيجاد الدعوىٰ.

وَلَقَدْ خُبِّرْتُ عَنْ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ أَبِي غَانِمٍ(1) أَنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ مَنْ سَأَلَهُ، فَقَالَ: بِمَ تُحَاجُّ الَّذِينَ(2) كُنْتَ تَقُولُ وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ شَخْصٍ قَائِمٍ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ؟ قَالَ لَهُ(3): أَقُولُ لَهُمْ: هَذَا جَعْفَرٌ.

فيا عجباً أيخصم الناس بمن ليس هو بمخصوم(4) وقد كان شيخ في هذه الناحية (رحمة الله) يقول: قد وسمت هؤلاء باللَّابدّيَّة، أي إنَّه لا مرجع لهم ولا معتمد إلَّا إلىٰ أنَّه لا بدَّ من أنْ يكون هذا الذي [ليس] في الكائنات، فوسمهم من أجل ذلك، ونحن نُسمِّيهم بها، أي إنَّهم دون كلِّ من له بُدٌّ يعكف عليه، إذ كان أهل الأصنام التي أحدها البدُّ قد عكفوا علىٰ موجود وإنْ كان باطلاً، وهم قد تعلَّقوا بعدم ليس وباطل محض، وهم اللَّابدّيَّة حقًّا، أي لا بدَّ لهم يعكفون عليه(5)، إذ

ص: 76


1- هو غير عليِّ بن أبي غانم الذي عنونه منتجب الدِّين في فهرسته (ص 95/ الرقم 330)، بل هو رجل آخر لم أعثر علىٰ عنوانه في كُتُب الرجال.
2- في بعض النُّسَخ: (الذي).
3- يعنى أبو جعفر قال للمعترض.
4- لمَّا كان جواب أبي جعفر ابن أبي غانم للمعترض: (أقول: إنَّه جعفر)، تعجَّب منه ابن بشَّار، لأنَّ جعفر ليس بقابل أنْ يُخاصَم فيه، أولم يكن مورداً لها.
5- كذا.

كان كلُّ مطاعٍ معبود، وقد وضح ما قلنا مناختصاصهم من كلِّ نوع الباطل بخاصَّة يزدادون بها انحطاطاً، والحمد لله.

ثمّ قال: نختم الآن هذا الكتاب بأنْ نقول: إنَّما نناظر ونخاطب من قد سبق منه الإجماع علىٰ أنَّه لا بدَّ من إمام قائم من أهل هذا البيت تجب به حجَّة الله ويسدُّ به فقر الخلق وفاقتهم، ومن لم يجتمع معنا علىٰ ذلك فقد خرج من النظر في كتابنا فضلاً عن مطالبتنا به، ونقول لكلِّ من اجتمع معنا علىٰ هذا الأصل من الذي قدَّمنا في هذا الموضع: كنَّا وإيَّاكم قد أجمعنا علىٰ أنَّه لا يخلو أحد من بيوت هذه الدار من سراج زاهر، فدخلنا الدار فلم نجد فيها إلَّا بيتاً واحداً، فقد وجب وصحَّ أنَّ في ذلك البيت سراجاً، والحمد لله ربِّ العالمين.

فأجابه أبو جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي بأنْ قال: إنَّا نقول - وبالله التوفيق -: ليس الإسراف في الادِّعاء والتقوُّل علىٰ الخصوم ممَّا يثبت بهما حجَّة، ولو كان ذلك كذلك لارتفع الحجاج بين المختلفين واعتمد كلُّ واحد علىٰ إضافة ما يخطر بباله من سوء القول إلىٰ مخالفه، وعلىٰ ضدِّ هذا بُنِيَ الحجاج ووضع النظر والإنصاف أولىٰ ما يعامل به أهل الدِّين، وليس قول أبي الحسن: ليس لنا ملجأ نرجع إليه، ولا قيِّماً نعطف عليه، ولا سنداً نتمسَّك بقوله حجَّة، لأنَّ دعواه هذا مجرَّد من البرهان، والدعوىٰ إذا انفردت عن البرهان كانت غير مقبول عند ذوي العقول والألباب، ولسنا نعجز عن أنْ نقول: بلىٰ لنا والحمد لله من نرجع إليه ونقف عند أمره ومن كان ثبتت حجَّته وظهرت أدلَّته.

فإنْ قلت: فأين ذلك؟ دلُّونا عليه.

قلنا: كيف تُحِبُّون أنْ ندلَّكم عليه؟ أتسألوننا أنْ نأمره أنْ يركب ويصيرإليكم ويعرض نفسه عليكم، أو تسألونا أنْ نبني له داراً ونُحوِّله إليها ونُعلِم بذلك أهل الشرق والغرب؟ فإنْ رمتم ذلك فلسنا نقدر عليه، ولا ذلك بواجب عليه.

ص: 77

فإنْ قلتم: من أيِّ وجه تلزمنا حجَّته وتجب علينا طاعته؟

قلنا: إنَّا نقرُّ أنَّه لا بدَّ من رجل من ولد أبي الحسن عليِّ بن محمّد العسكري (علیهما السلام) تجب به حجَّة الله دلَّلناكم علىٰ ذلك حتَّىٰ نضطرُّكم إليه إنْ أنصفتم من أنفسكم، وأوَّل ما يجب علينا وعليكم أنْ لا نتجاوز ما قد رضي به أهل النظر واستعملوه، ورأوا أنَّ من حادَّ عن ذلك فقد ترك سبيل العلماء، وهو أنَّا لا نتكلَّم في فرع لم يثبت أصله، وهذا الرجل الذي تجحدون وجوده فإنَّما يثبت له الحقُّ بعد أبيه، وأنتم قوم لا تخالفونا في وجود أبيه، فلا معنىٰ لترك النظر في حقِّ أبيه والاشتغال(1) بالنظر معكم في وجوده، فإنَّه إذا ثبت الحقُّ لأبيه، فهذا ثابت ضرورةً عند ذلك بإقراركم، وإنْ بطل أنْ يكون الحقُّ لأبيه فقد آل الأمر إلىٰ ما تقولون وقد أبطلنا، وهيهاتَ لن يزداد الحقُّ إلَّا قوَّة ولا الباطل إلَّا وهناً، وإنْ زخرفه المبطلون، والدليل علىٰ صحَّة أمر أبيه أنَّا وإيَّاكم مجمعون علىٰ أنَّه لا بدَّ من رجل من ولد أبي الحسن تثبت به حجَّة الله وينقطع به عذر الخلق، وأنَّ ذلك الرجل تلزم حجَّته من نأىٰ عنه من أهل الإسلام كما تلزم من شاهده وعاينه، ونحن وأكثر الخلق ممَّن قد لزمتنا الحجَّة من غير مشاهدة، فننظر في الوجه الذي لزمتنا منه الحجَّة ما هي، ثمّ ننظر من أولىٰ من الرجلين اللذين لا عقب لأبي الحسن غيرهما، فأيُّهما كان أولىٰ فهو الحجَّة والإمام، ولا حاجة بنا إلىٰ التطويل، ثمّ نظرنا من أيِّ وجه تلزمالحجَّة من نأىٰ عن الرُّسُل والأئمَّة (علیهم السلام)، فإذا ذلك بالأخبار التي توجب الحجَّة وتزول عن ناقليها تهمة التواطؤ عليها والإجماع علىٰ تخرُّصها ووضعها. ثمّ فحصنا عن الحال فوجدنا فريقين ناقلين يزعم أحدهما أنَّ الماضي نصَّ علىٰ الحسن (علیه السلام) وأشار إليه، ويروون مع الوصيَّة وما له من خاصَّة الكبر أدلَّة يذكرونها وعلماً يُثبتونه، ووجدنا الفريق الآخر

ص: 78


1- في بعض النُّسَخ: (والانتقال).

يروون مثل ذلك لجعفر لا يقول غير هذا، فإنَّه أولىٰ بنا، نظرنا فإذا الناقل لأخبار جعفر جماعة يسيرة، والجماعة اليسيرة يجوز عليها التواطؤ والتلاقي والتراسل، فوقع نقلهم موقع شبهة لا موقع حجَّة، وحُجَج الله لا تثبت بالشُّبُهات، ونظرنا في نقل الفريق الآخر فوجدناهم جماعات متباعدي الديار والأقطار، مختلفي الهمم والآراء، متغايرين، فالكذب لا يجوز عليهم لنأي بعضهم عن بعض ولا التواطؤ ولا التراسل والاجتماع علىٰ تخرُّص خبر ووضعه، فعلمنا أنَّ النقل الصحيح هو نقلهم، وأنَّ المحقَّ هؤلاء، ولأنَّه إنْ بطل ما قد نقله هؤلاء علىٰ ما وصفنا من شأنهم لم يصحّ خبر في الأرض وبطلت الأخبار كلُّها، فتأمَّل - وفَّقك الله - في الفريقين فإنَّك تجدهم كما وصفت، وفي بطلان الأخبار هدم الإسلام، وفي تصحيحها تصحيح خبرنا، وفي ذلك دليل علىٰ صحَّة أمرنا، والحمد لله ربِّ العالمين.

ثمّ رأيت الجعفريَّة(1) تختلف في إمامة جعفر من أيِّ وجهٍ تجب؟ فقال قوم: بعد أخيه محمّد، وقال قوم: بعد أخيه الحسن، وقال قوم: بعد أبيه. ورأيناهم لا يتجاوزون ذلك، ورأينا أسلافهم وأسلافنا قد رووا قبل الحادث ما يدلُّ علىٰ إمامة الحسن، وهو ما رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)،قَالَ : «إِذَا تَوَالَتْ ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ: مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ وَالْحَسَنُ فَالرَّابِعُ الْقَائِمُ »(2).

وغير ذلك من الروايات، وهذه وحدها توجب الإمامة للحسن، وليس إلَّا الحسن وجعفر. فإذا لم تثبت لجعفر حجَّة علىٰ من شاهده في أيَّام الحسن والإمام ثابت الحجَّة علىٰ من رآه ومن لم يرَه فهو الحسن اضطراراً، وإذا ثبت الحسن (علیه السلام) وجعفر عندكم مبرَّأ تبرَّأ منه والإمام لا يتبرَّأ من الإمام، والحسن قد

ص: 79


1- يعني القائلين بإمامة جعفر الكذَّاب.
2- سيأتي مسنداً تحت الرقم (244/3)، فانتظر.

مضىٰ، ولا بدَّ عندنا وعندكم من رجل من ولد الحسن (علیه السلام) تثبت به حجَّة الله، فقد وجب بالاضطرار للحسن ولد قائم (علیه السلام).

وقل يا أبا جعفر - أسعدك الله - لأبي الحسن (أعزَّه الله)(1): يقول محمّد ابن عبد الرحمن: قد أوجدناك إنّيَّة المدَّعىٰ له، فأين المهرب؟ هل تقرُّ علىٰ نفسك بالإبطال كما ضمنت أو يمنعك الهوىٰ من ذلك، فتكون كما قال الله تعالىٰ: «وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ» [الأنعام: 119]؟

فأمَّا ما وسم به أهل الحقِّ من اللَّابدّيَّة لقولهم: (لا بدَّ ممن تجب به حجَّة الله)، فيا عجباً فلا يقول أبو الحسن: لا بدَّ ممَّن تجب به حجَّة الله؟ وكيف لا يقول وقد قال عند حكايته عنَّا وتعييره إيَّانا: (أجل لا بدَّ من وجوده فضلاً عن كونه)، فإنْ كان يقول ذلك فهو وأصحابه من اللَّابدّيَّة، وإنَّما وسم نفسه وعاب إخوانه، وإنْ كان لا يقول ذلك فقد كفينا مؤونة تنظيره ومثله بالبيت والسراج، وكذا يكون حال من عاند أولياء الله يعيب نفسه من حيث يرىٰ أنَّه يعيب خصمه، والحمد لله المؤيِّد للحقِّ بأدلَّته. ونحن نُسمِّي هؤلاء بالبدّيَّة، إذ كانوا عبدة البدِّ، قد عكفوا علىٰ ما لا يسمعولا يبصر ولا يغني عنهم شيئاً. وهكذا هؤلاء، ونقول: يا أبا الحسن - هداك الله -، هذا حجَّة الله علىٰ الجنِّ والإنس ومن لا تثبت حجَّته علىٰ الخلق إلَّا بعد الدعاء والبيان محمّد (صلی الله علیه و آله) قد أخفىٰ شخصه في الغار حتَّىٰ لم يعلم بمكانه ممَّن احتجَّ الله عليهم به إلَّا خمسة نفر(2).

ص: 80


1- يعنى بأبي جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبة، وبأبي الحسن عليِّ بن أحمد بن بشَّار.
2- المراد بالخمسة: عليُّ بن أبي طالب، وأبو بكر، وعبد الله بن أريقط الليثي، وأسماء بنت أبي بكر، وعامر بن فهيرة. والقصَّة كما في إعلام الورىٰ (ج 1/ ص 148 و149) هكذا: (بقي رسول(صلی الله علیه و آله) في الغار ثلاثة أيَّام، ثمّ أذن الله له في الهجرة، وقال: «اخرج عن مكَّة يا محمّد، فليس لك بها ناصر بعد أبي طالب»، فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الغار، وأقبل راعٍ لبعض قريش يقال [ له: ابن أريقط، فدعاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال له: «يا ابن أريقط، أئتمنك علىٰ دمي؟»، قال: إذاً والله أحرسك وأحفظك ولا أدلُّ عليك، فأين تريد يا محمّد؟ قال: «يثرب»، قال: والله لأسلكنَّ بك مسلكاً لا يهتدي إليه أحد، قال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ائت عليًّا وبشِّره بأنَّ الله قد أذن لي في الهجرة، فيُهيِّئ لي زاداً وراحلةً»، وقال أبو بكر: ائت أسماء بنتي وقل لها: تُهيِّئ لي زاداً وراحلتين، وأعلم عامر بن فهيرة أمرنا - وكان من موالي أبى بكر، وقد كان أسلم -، قل له: ائتنا بالزاد والراحلتين، فجاء ابن أريقط إلىٰ عليٍّ (علیه السلام) فأخبره بذلك فبعث عليُّ بن أبي طالب إلىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بزاد وراحلة، وبعث ابن فهيرة بزاد وراحلتين. وخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الغار، وأخذ به ابن أريقط علىٰ طريق نخلة بين الجبال، فلم يرجعوا إلىٰ الطريق إلَّا بقديد).

فإنْ قلت: إنَّ تلك غيبة بعد ظهوره وبعد أنْ قام علىٰ فراشه من يقوم مقامه.

قلت لك: لسنا نحتجُّ عليك في حال ظهوره ولا استخلافه لمن يقوم مقامه من هذا في قبيل ولا دبير(1)، وإنَّما نقول لك: أليس تثبت حجَّته فينفسه في حال غيبته علىٰ من لم يعلم بمكانه لعلَّة من العلل؟ فلا بدَّ من أنْ تقول: نعم، قلنا: ونُثبِت حجَّة الإمام وإنْ كان غائباً لعلَّة أُخرىٰ، وإلَّا فما الفرق؟ ثمّ نقول: وهذا أيضاً لم يغب حتَّىٰ ملأ آباؤه (علیهم السلام) آذان شيعتهم بأنَّ غيبته تكون، وعرَّفوهم كيف يعملون عند غيبته.

فإنْ قلت: في ولادته، فهذا موسىٰ (علیه السلام) مع شدَّة طلب فرعون إيَّاه وما فعل بالنساء والأولاد لمكانه حتَّىٰ أذن الله في ظهوره، وَقَدْ قَالَ الرِّضَا (علیه السلام) فِي وَصْفِهِ : «بِأَبِي وَأُمِّي شَبِيهِي، وَسَمِيُّ جَدِّي، وَشَبِيهُ مُوسَىٰ بْنِ عِمْرَانَ »(2).

ص: 81


1- القبيل: ما أقبلت به إلىٰ صدرك. والدبير: ما أدبرت به عن صدرك. ويقال: فلان ما يعرف قبيلاً ولا دبيراً. والمراد ما أقبلت به المرأة من غزلها وما أدبرت. وهذا الكلام تعريض لابن بشَّار، يعنى أنَّه لا يدري ما يقول، ولسنا نحتج عليه في هذا الأمر.
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 2/ ص 9 و10/ ح 14)، والطبري (رحمة الله) في دلائل الإمامة (ص 460/ ح 441/45)، والخزَّاز في كفاية الأثر (ص 158 و159).

وحجَّة أُخرىٰ، نقول لك: يا أبا الحسن، أتقرُّ أنَّ الشيعة قد روت في الغيبة أخباراً؟ فإنْ قال: لا، أوجدناه الأخبار، وإنْ قال: نعم، قلنا له: فكيف تكون حالة الناس إذا غاب إمامهم؟ فكيف تلزمهم الحجَّة في وقت غيبته؟ فإنْ قال: يقيم من يقوم مقامه، فليس يقوم عندنا وعندكم مقام الإمام إلَّا الإمام، وإذا كان إماماً قائماً(1) فلا غيبة، وإنْ احتجَّ بشي ء آخر في تلك الغيبة فهو بعينه حجَّتنا في وقتنا لا فرق فيه ولا فصل.

ومن الدليل علىٰ فساد أمر جعفر موالاته وتزكيته فارس بن حاتم (لعنه الله)(2) وقد برئ منه أبوه، وشاع ذلك في الأمصار حتَّىٰ وقف عليهالأعداء فضلاً عن الأولياء.

ومن الدليل علىٰ فساد أمره استعانته بمن استعان في طلب الميراث من أُمِّ الحسن (علیه السلام)، وقد أجمعت الشيعة أنَّ آباءه (علیه السلام) أجمعوا أنَّ الأخ لا يرث مع الأُمِّ.

ومن الدليل علىٰ فساد أمره قوله: إنِّي إمام بعد أخي محمّد، فليت شعري متىٰ تثبت إمامة أخيه وقد مات قبل أبيه حتَّىٰ تثبت إمامة خليفته؟ ويا عجباً إذا كان محمّد يستخلف ويقيم إماماً بعده وأبوه حيٌّ قائم وهو الحجَّة والإمام، فما يصنع أبوه؟ ومتىٰ جرت هذه السُّنَّة في الأئمَّة وأولادهم حتَّىٰ نقبلها منكم؟ فدلُّونا علىٰ ما يوجب إمامة محمّد حتَّىٰ إذا ثبتت قبلنا إمامة خليفته؟

والحمد لله الذي جعل الحقَّ مؤيَّداً، والباطل مهتوكاً ضعيفاً زاهقاً.

فأمَّا ما حكىٰ عن ابن أبي غانم (رحمة الله) فلم يرد الرجل بقوله عندنا يثبت إمامة

ص: 82


1- يعني إذا كان من يقوم إماماً قائماً.
2- هو فارس بن حاتم بن ماهويه القزويني، نزيل العسكر، من أصحاب الرضا (علیه السلام)، غالٍ ملعون، أهدر أبو الحسن العسكري (علیه السلام) دمه، وضمن لمن يقتله الجنَّة، فقتله جنيد. راجع: اختيار معرفة الرجال (ج 2/ ص 807 و808/ ح 1006).

جعفر، وإنَّما أراد أنْ يعلم السائل أنَّ أهل هذه البيت لم يفنوا حتَّىٰ لا يوجد منهم أحداً.

وأمَّا قوله: (وكلُّ مطاعٍ معبود) فهو خطأ عظيم، لأنَّا لا نعرف معبوداً إلَّا الله، ونحن نطيع رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولا نعبده.

وأمَّا قوله: (نختم الآن هذا الكتاب بأنْ نقول: إنَّما نناظر ونخاطب من قد سبق منه الإجماع بأنَّه لا بدَّ من إمام قائم من أهل هذه البيت تجب به حجَّة الله...)، إلىٰ قوله: (وصحَّ أنَّ في ذلك البيت سراجاً، ولا حاجة بنا إلىٰ دخوله)، فنحن - وفَّقك الله - لا نخالفه، وأنَّه لا بدَّ من إمام قائم من أهل هذاالبيت تجب به حجَّة الله، وإنَّما نخالفه في كيفيَّة قيامه وظهوره وغيبته.

وأمَّا ما مثَّل به من البيت والسراج فهو مُنًى، وقد قيل: إنَّ المنىٰ رأس أموال المفاليس، ولكنَّا نضرب مثلاً علىٰ الحقيقة لا نميل فيه علىٰ خصم ولا نحيف فيه علىٰ ضدٍّ، بل نقصد فيه الصواب، فنقول: كنَّا ومن خالفنا قد أجمعنا علىٰ أنَّ فلاناً مضىٰ وله ولدان وله دار، وأنَّ الدار يستحقُّها منهما من قدر علىٰ أنْ يحمل بإحدىٰ يديه ألف رطل، وأنَّ الدار لا تزال في يدي عقب الحامل(1) إلىٰ يوم القيامة، ونعلم أنَّ أحدهما يحمل والآخر يعجز، ثمّ احتجنا أنْ نعلم مَن الحامل منهما؟ فقصدنا مكانهما لمعرفة ذلك، فعاق عنهما عائق منع عن مشاهدتهما، غير أنَّا رأينا جماعات كثيرة في بلدان نائية متباعدة بعضها عن بعض يشهدون أنَّهم رأوا أنَّ الأكبر منهما قد حمل ذلك، ووجدنا جماعة يسيرة في موضع واحد يشهدون أنَّ الأصغر منهما فعل ذلك، ولم نجد لهذه الجماعة خاصَّة يأتوا بها، فلم يجز في حكم النظر وحفيظة الإنصاف وما جرت به العادة وصحَّت به التجربة ردُّ شهادة تلك الجماعات وقبول شهادة هذه الجماعة، والتهمة تلحق هؤلاء وتبعد عن أُولئك.

ص: 83


1- يعني أولاده وأحفاده.

فإنْ قال خصومنا: فما تقولون في شهادة سلمان وأبي ذرٍّ وعمَّار والمقداد لأمير المؤمنين (علیه السلام)، وشهادة تلك الجماعات وأُولئك الخلق لغيره، أيُّهما كان أصوب؟

قلنا لهم: لأمير المؤمنين (علیه السلام) وأصحابه أُمور خُصَّ بها وخُصُّوا بها دون من بإزائهم، فإنْ أوجدتمونا مثل ذلك أو ما يقاربه لكم فأنتم المحقُّون:أوَّلها أنَّ أعداءه كانوا يقرُّون بفضله وطهارته وعلمه، وَقَدْ رُوِّينَا وَرَوَوْا لَهُ مَعَنَا أَنَّهُ (صلی الله علیه و آله) خَبَّرَ أَنَّ اللهَ يُوَالِي مَنْ يُوَالِيهِ وَيُعَادِي مَنْ يُعَادِيهِ (1)، فوجب لهذا أنْ يُتَّبع دون غيره.

والثاني أنَّ أعداءه لم يقولوا له: نحن نشهد أنَّ النبيَّ (صلی الله علیه و آله) أشار إلىٰ فلان بالإمامة ونصبه حجَّة للخلق، وإنَّما نصبوه لهم علىٰ جهة الاختيار كما قد بلغك.

والثالث أنَّ أعداءه كانوا يشهدون علىٰ أحد أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) أنَّه لا يكذب ، لِقَوْلِهِ (صلی الله علیه و آله): «مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ عَلَىٰ ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ»(2)، فكانت شهادته وحده أفضل من شهادتهم.

والرابع أنَّ أعداءه قد نقلوا ما نقله أولياؤه ممَّا تجب به الحجَّة، وذهبوا عنه بفساد التأويل.

والخامس أنَّ أعداءه رَوَوْا فِي الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ أَنَّهُمَا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ(3)، وَرَوَوْا أَيْضاً أَنَّهُ (صلی الله علیه و آله) قَالَ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»(4)، فلمَّا شهدا لأبيهما بذلك وصحَّ أنَّهما من أهل الجنَّة بشهادة الرسول،

ص: 84


1- حديث متواتر رواه الخاصَّة والعامَّة بألفاظ مختلفة، راجع علىٰ سبيل المثال: سُنَن ابن ماجة (ج 1/ ص 43/ ح 116)، وكتاب سُلَيم بن قيس (ص 198).
2- مسند أحمد (ج 11/ ص 70/ ح 6519).
3- سُنَن ابن ماجة (ج 1/ ص 44/ ح 118)، سُنَن الترمذي (ج 5/ ص 321/ ح 3856).
4- صحيح البخاري (ج 10/ ص 36/ ح 5495)، صحيح مسلم (ج 1/ ص 8).

وجب تصديقهما، لأنَّهما لو كذبا في هذا لم يكونا من أهل الجنَّة، وكانا من أهل النار، وحاشا لهما الزكيَّين الطيِّبين الصادقين.فليوجدنا أصحاب جعفر خاصَّة هي لهم دون خصومهم حتَّىٰ يُقبَل ذلك، وإلَّا فلا معنىٰ لترك خبر متواتر لا تهمة في نقله ولا علىٰ ناقليه وقبول خبر لا يؤمن علىٰ ناقليه تهمة التواطؤ عليه ولا خاصَّة معهم يُثبِتون بها، ولن يفعل ذلك إلَّا تائه حيران.

فتأمَّل - أسعدك الله - في النظر فيما كتبت به إليك ممَّا ينظر به الناظر لدينه، المفكِّر في معاده، المتأمِّل بعين الخيفة والحذار إلىٰ عواقب الكفر والجحود، موفَّقاً إنْ شاء الله تعالىٰ، أطال الله بقاءك وأعزَّك وأيَّدك وثبَّتك وجعلك من أهل الحقِّ وهداك له وأعاذك من أنْ تكون من «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً 104» [الكهف: 104]، ومن الذين يستزلُّهم الشيطان بخُدَعه وغروره وإملائه وتسويله، وأجرىٰ لك أجمل ما عوَّدك.

وكتب بعض الإماميَّة إلىٰ أبي جعفر بن قبة كتاباً يسأله فيه عن مسائل، فورد في جوابها:

أمَّا قولك - أيَّدك الله - حاكياً عن المعتزلة أنَّها زعمت أنَّ الإماميَّة تزعم أنَّ النصَّ علىٰ الإمام واجب في العقل، فهذا يحتمل أمرين، إنْ كانوا يريدون أنَّه واجب في العقل قبل مجي ء الرُّسُل (علیهم السلام) وشرع الشرائع فهذا خطأ، وإنْ أرادوا أنَّ العقول دلَّت علىٰ أنَّه لا بدَّ من إمام بعد الأنبياء (علیهم السلام) فقد علموا ذلك بالأدلَّة القطعيَّة وعلموه أيضاً بالخبر الذي ينقلونه عمَّن يقولون بإمامته.

وأمَّا قول المعتزلة: إنَّا قد علمنا يقيناً أنَّ الحسن بن عليٍّ (علیه السلام) مضىٰ ولم ينصَّ، فقد ادَّعوا دعوىٰ يخالفون فيها، وهم محتاجون إلىٰ أنْ يدلُّوا علىٰ صحَّتها،

ص: 85

وبأيِّ شي ء ينفصلون ممَّن زعم منمخالفيهم أنَّهم قد علموا من ذلك ضدَّ ما ادَّعوا أنَّهم علموه؟

ومن الدليل علىٰ أنَّ الحسن بن عليٍّ (علیه السلام) قد نصَّ علىٰ ثبات إمامته، وصحَّة النصِّ من النبيِّ (صلی الله علیه و آله)، وفساد الاختيار، ونقل الشيع عمَّن قد أوجبوا بالأدلَّة تصديقه أنَّ الإمام لا يمضي أو ينصَّ علىٰ إمام كما فعل رسول الله (صلی الله علیه و آله)، إذ كان الناس محتاجين في كلِّ عصر إلىٰ من يكون خبره لا يختلف ولا يتكاذب كما اختلفت أخبار الأُمَّة عند مخالفينا هؤلاء وتكاذبت، وأنْ يكون إذا أمر ائتمر بطاعته، ولا يد فوق يده، ولا يسهو ولا يغلط، وأنْ يكون عالماً ليُعلِّم الناس ما جهلوا، وعادلاً ليحكم بالحقِّ، ومن هذا حكمه فلا بدَّ من أنْ ينصَّ عليه علَّام الغيوب علىٰ لسان من يُؤدِّي ذلك عنه، إذ كان ليس في ظاهر خلقته ما يدلُّ علىٰ عصمته.

فإنْ قالت المعتزلة: هذه دعاوي تحتاجون إلىٰ أنْ تدلُّوا علىٰ صحَّتها.

قلنا: أجل لا بدَّ من الدلائل علىٰ صحَّة ما ادَّعيناه من ذلك، وأنتم فإنَّما سألتم عن فرع، والفرع لا يُدَلُّ عليه دون أنْ يُدَلَّ علىٰ صحَّة أصله، ودلائلنا في كُتُبنا موجودة علىٰ صحَّة هذه الأُصول، ونظير ذلك أنَّ سائلاً لو سألنا الدليل علىٰ صحَّة الشرائع لاحتجنا أنْ ندلَّ علىٰ صحَّة الخبر وعلىٰ صحَّة نبوَّة النبيِّ (صلی الله علیه و آله) وعلىٰ أنَّه أمر بها، وقبل ذلك أنَّ الله (عزوجل)واحد حكيم، وذلك بعد فراغنا من الدليل علىٰ أنَّ العالم محدَث، وهذا نظير ما سألونا عنه، وقد تأمَّلت في هذه المسألة فوجدت غرضها ركيكاً، وهو أنَّهم قالوا: لو كان الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام) قد نصَّ علىٰ من تدَّعون إمامته لسقطت الغيبة.

والجواب في ذلك: أنَّ الغيبة ليست هي العدم، فقد يغيب الإنسان إلىٰبلد يكون معروفاً فيه ومشاهداً لأهله، ويكون غائباً عن بلد آخر، وكذلك قد يكون

ص: 86

الإنسان غائباً عن قوم دون قوم، وعن أعدائه لا عن أوليائه، فيقال: إنَّه غائب، وإنَّه مستتر، وإنَّما قيل: غائب، لغيبته عن أعدائه وعمَّن لا يُوثَق بكتمانه من أوليائه، وأنَّه ليس مثل آبائه (علیهم السلام) ظاهراً للخاصَّة والعامَّة، وأولياؤه مع هذا ينقلون وجوده وأمره ونهيه، وهم عندنا ممَّن تجب بنقلهم الحجَّة إذا كانوا يقطعون العذر لكثرتهم واختلافهم في هممهم ووقوع الاضطرار مع خبرهم، ونقلوا ذلك كما نقلوا إمامة آبائه (علیهم السلام) وإنْ خالفهم مخالفوهم فيها، وكما تجب بنقل المسلمين صحَّة آيات النبيِّ (صلی الله علیه و آله) سوىٰ القرآن وإنْ خالفهم أعداؤهم من أهل الكتاب والمجوس والزنادقة والدهريَّة في كونها. وليست هذه مسألة تشتبه علىٰ مثلك مع ما أعرفه من حسن تأمُّلك.

وأمَّا قولهم(1): إذا ظهر فكيف يُعلَم أنَّه محمّد بن الحسن بن عليٍّ (علیهم السلام)؟

فالجواب في ذلك: أنَّه قد يجوز بنقل من تجب بنقله الحجَّة من أوليائه كما صحَّت إمامته عندنا بنقلهم.

وجواب آخر، وهو: أنَّه قد يجوز أنْ يُظهِر معجزاً يدلُّ علىٰ ذلك.

وهذا الجواب الثاني هو الذي نعتمد عليه ونجيب الخصوم به، وإنْ كان الأوَّل صحيحاً.

وأمَّا قول المعتزلة: فكيف لم يحتجّ عليهم عليُّ بن أبي طالب بإقامة المعجز يوم الشورىٰ؟

فإنَّا نقول: إنَّ الأنبياء والحُجَج (علیهم السلام) إنَّما يُظهِرون منالدلالات والبراهين حسب ما يأمرهم الله (عزوجل)به ممَّا يعلم الله أنَّه صالح للخلق، فإذا ثبتت الحجَّة عليهم بقول النبيِّ (صلی الله علیه و آله) فيه ونصِّه عليه، فقد استغنىٰ بذلك عن إقامة المعجزات، اللَّهُمَّ إلَّا أن يقول قائل: إنَّ إقامة المعجزات كانت أصلح في ذلك الوقت، فنقول

ص: 87


1- أي قول المعتزلة.

له: وما الدليل علىٰ صحَّة ذلك؟ وما يُنكِر الخصم من أنْ تكون إقامته لها ليس بأصلح، وأنْ يكون الله (عزوجل)لو أظهر معجزاً علىٰ يديه في ذلك الوقت لكفروا أكثر من كفرهم ذلك الوقت، ولادَّعوا عليه السحر والمخرقة، وإذا كان هذا جائزاً لم يُعلَم أنَّ إقامة المعجز كانت أصلح.

فإنْ قالت المعتزلة: فبأيِّ شي ء تعلمون أنَّ إقامة(1) من تدَّعون إمامته المعجز علىٰ أنَّه ابن الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام) أصلح؟

قلنا لهم: لسنا نعلم أنَّه لا بدَّ من إقامة المعجز في تلك الحال، وإنَّما نُجوِّز ذلك، اللَّهُمَّ إلَّا أنْ يكون لا دلالة غير المعجز، فيكون لا بدَّ منه لإثبات الحجَّة، وإذا كان لا بدَّ منه كان واجباً، وما كان واجباً كان صلاحاً لا فساداً، وقد علمنا أنَّ الأنبياء (علیهم السلام) قد أقاموا المعجزات في وقت دون وقت ولم يقيموها في كلِّ يوم ووقت ولحظة وطرفة وعند كلِّ محتجٍّ عليهم ممَّن أراد الإسلام، بل في وقت دون وقت علىٰ حسب ما يعلم الله (عزوجل)من الصلاح، وقد حكىٰ الله (عزوجل)عن المشركين أنَّهم سألوا نبيَّه (صلی الله علیه و آله) أنْ يرقىٰ في السماء، وأنْ يُسقِط السماء عليهم كسفاً، أو يُنزِّل عليهم كتابا يقرؤونه، وغير ذلك ممَّا في الآية(2)، فما فعل ذلك بهم، وسألوه أنْ يُحيي لهم قصيَّ بن كلاب، وأنْينقل عنهم جبال تهامة، فما أجابهم إليه، وإنْ كان (علیه السلام) قد أقام لهم غير ذلك من المعجزات، وكذا حكم ما سألت المعتزلة عنه، ويقال لهم كما قالوا لنا لم نترك أوضح الحُجَج وأبين الأدلَّة من تكرُّر المعجزات والاستظهار بكثرة الدلالات.

ص: 88


1- في بعض النُّسَخ: (أنْ أقام).
2- وهي قوله تعالىٰ: «وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرضِ يَنْبُوعاً 90 أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيراً 91 أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً 92 أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً 93» (الإسراء: 90 - 93).

وأمَّا قول المعتزلة: إنَّه احتجَّ بما يحتمل التأويل.

فيقال: فما احتجَّ عندنا علىٰ أهل الشورىٰ إلَّا بما عرفوا من نصِّ النبيِّ (صلی الله علیه و آله)، لأنَّ أُولئك الرؤساء لم يكونوا جُهَّالاً بالأمر، وليس حكمهم حكم غيرهم من الأتباع. ونقلب هذا الكلام علىٰ المعتزلة، فيقال لهم: لِمَ لم يبعث الله (عزوجل)بأضعاف من بعث من الأنبياء؟ ولِمَ لم يبعث في كلِّ قرية نبيًّا وفي كلِّ عصر ودهر نبيًّا أو أنبياء إلىٰ أنْ تقوم الساعة؟ ولِمَ لم يُبيِّن معاني القرآن حتَّىٰ لا يشكَّ فيه شاكٌّ؟ ولِمَ تركه محتملاً للتأويل؟ وهذه المسائل تضطرُّهم إلىٰ جوابنا.

إلىٰ هاهنا كلام أبي جعفر بن قبة (رحمة الله).

[كلام لأحد المشايخ في الردِّ على الزيديَّة]:

وقال غيره من متكلِّمي مشايخ الإماميَّة: إنَّ عامَّة مخالفينا قد سألونا في هذا الباب عن مسائل، ويجب عليهم أنْ يعلموا أنَّ القول بغيبة صاحب الزمان (علیه السلام) مبنيٌّ علىٰ القول بإمامة آبائه (علیهم السلام)، والقول بإمامة آبائه (علیهم السلام) مبنيٌّ علىٰ القول بتصديق محمّد (صلی اللهعلیه و آله) وإمامته، وذلك أنَّ هذا باب شرعيٌّ وليس بعقليٍّ محض، والكلام في الشرعيَّات مبنيٌّ علىٰ الكتاب والسُّنَّة كما قال الله (تبارک و تعالی): «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ» يعني في الشرعيَّات «فَرُدُّوهُ إِلَىٰ اللهِ وَالرَّسُولِ» [النساء: 59]، فمتىٰ شهد لنا الكتاب والسُّنَّة وحجَّة العقل فقولنا هو المجتبىٰ، ونقول:

إنَّ جميع طبقات الزيديَّة والْإِمَامِيَّةُ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَىٰ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) قَالَ : «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَهُمَا الْخَلِيفَتَانِ مِنْ بَعْدِي، وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ»، وتلقَّوا هذا الحديث بالقبول، فوجب أنَّ الكتاب لا يزال معه من العترة من يعرف التنزيل والتأويل علماً يقيناً يُخبر عن مراد الله (تبارک و تعالی)، كما كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يُخبر عن المراد، ولا يكون معرفته بتأويل الكتاب استنباطاً ولا استخراجاً، كما لم تكن معرفة الرسول (صلی الله علیه و آله) بذلك استخراجاً ولا

ص: 89

استنباطاً ولا استدلالاً، ولا علىٰ ما تجوز عليه اللغة وتجري عليه المخاطبة، بل يُخبر عن مراد الله ويُبيِّن عن الله بياناً تقوم بقوله الحجَّة علىٰ الناس، كذلك يجب أنْ يكون معرفة عترة الرسول (صلی الله علیه و آله) بالكتاب علىٰ يقين ومعرفة وبصيرة، قال الله (عزوجل)في صفة رسول الله (صلی الله علیه و آله): «قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَىٰ اللهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي» [يوسف: 108]، فأتباعه من أهله وذرّيَّته وعترته هم الذين يُخبرون عن الله (عزوجل)مراده من كتابه علىٰ يقين ومعرفة وبصيرة، ومتىٰ لم يكن المخبر عن الله (عزوجل)مراده ظاهراً مكشوفاً فإنَّه يجب علينا أنْ نعتقد أنَّ الكتاب لا يخلو من مقرون به من عترة الرسول (صلی الله علیه و آله) يعرف التأويل والتنزيل، إذ الحديثيوجب ذلك.

وقال علماء الإماميَّة: قال الله (تبارک و تعالی): «إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَىٰ الْعَالَمِينَ 33 ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» [آل عمران: 33 و34]، فوجب بعموم هذه الآية أنْ لا يزال في آل إبراهيم مصطفىٰ، وذلك أنَّ الله (عزوجل)جنَّس الناس في هذا الكتاب جنسين، فاصطفىٰ جنساً منهم وهم الأنبياء والرُّسُل والخلفاء (علیهم السلام)، وجنساً أُمروا باتِّباعهم، فما دام في الأرض من به حاجة إلىٰ مدبِّر وسائس ومعلِّم ومقوِّم يجب أنْ يكون بإزائهم مصطفىٰ من آل إبراهيم، ويجب أنْ يكون المصطفىٰ من آل إبراهيم ذرّيَّة بعضها من بعض، لقوله (تبارک و تعالی): «ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» ، وقد صحَّ أنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين والحسن والحسين (صلوات الله عليهم) المصطفون من آل إبراهيم، فوجب أنْ يكون المصطفىٰ بعد الحسين (علیه السلام) منه لقوله (تبارک و تعالی): «ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ»، ومتىٰ لم تكن الذرّيَّة منه لا تكون الذرّيَّة بعضها من بعض إلَّا أنْ تكون في بطن دون جميعهم، وكانت الإمامة قد انتقلت عن الحسن إلىٰ أخيه الحسين (علیه السلام) وجب أنْ يكون منه ومن صلبه من يقوم مقامه، وذلك معنىٰ قوله تعالىٰ: «ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 34»، فدلَّت الآية علىٰ ما دلَّت السُّنَّة عليه

ص: 90

[استدلال على وجود إمام غائب من العترة يظهر ويملأ الأرض عدلاً]:

وقال بعض علماء الإماميَّة: كان الواجب علينا وعلىٰ كلِّ عاقل يؤمن بالله وبرسوله وبالقرآن وبجميع الأنبياء الذين تقدَّم كونهم كون نبيِّنا محمّد (صلی الله علیه و آله)، أنْ يتأمَّل حال الأُمَم الماضية والقرون الخالية، فإذاتأمَّلنا وجدنا حال الرُّسُل والأُمَم المتقدِّمة شبيهة بحال أُمَّتنا، وذلك أنَّ قوَّة كلِّ دين كانت في زمن أنبيائهم (علیهم السلام) إنَّما كانت متىٰ قبلت الأُمَم الرُّسُل، فكثر أتباع الرسول في عصره ودهره، فلم تكن أُمَّة كانت أطوع لرسولها بعد أنْ قوي أمر الرسول من هذه الأُمَّة، لأنَّ الرُّسُل الذين عليهم دارت الرحىٰ قبل نبيِّنا محمّد (صلی الله علیه و آله) نوح وإبراهيم وموسىٰ وعيسىٰ (علیهم السلام)، هم الرُّسُل الذين في يد الأُمَم آثارهم وأخبارهم، ووجدنا حال تلك الأُمَم اعترض في دينهم الوهن في المتمسِّكين به، لتركهم كثيراً ممَّا كان يجب عليهم محافظته في أيَّام رُسُلهم وبعد مضيِّ رُسُلهم، وكذلك ما قال الله (تبارک و تعالی): «قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» [المائدة: 15].

وبذلك وصف الله (عزوجل)أمر تلك القرون، فقال (تبارک و تعالی): «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا 59» [مريم: 59]، وقال الله (عزوجل)لهذه الأُمَّة: «وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ» [الحديد: 16].

وَفِي الْأَثَرِ: «أَنَّهُ يَأْتِي عَلَىٰ النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَىٰ فِيهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا اسْمُهُ، وَمِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا رَسْمُهُ »(1)، وَقَالَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله): «إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيباً، وَسَيَعُودُ غَرِيباً، فَطُوبَىٰ لِلْغُرَبَاءِ»(2).

ص: 91


1- نهج البلاغة (ص 540/ ح 369).
2- سُنَن ابن ماجة (ج 2/ ص 1320/ ح 3987 و3988)، سُنَن الترمذي (ج 4/ ص 129/ ح 2764).

فكان الله (عزوجل)يبعث في كلِّ وقت رسولاً يُجدِّدلتلك الأُمَم ما انمحىٰ من رسوم الدِّين، واجتمعت الأُمَّة إلَّا من لا يُلتَفت إلىٰ اختلافه، ودلَّت الدلائل العقليَّة أنَّ الله (عزوجل)قد ختم الأنبياء بمحمّد (صلی الله علیه و آله)، فلا نبيَّ بعده، ووجدنا أمر هذه الأُمَّة في استعلاء الباطل علىٰ الحقِّ، والضلال علىٰ الهدىٰ، بحالٍ زعم كثير منهم أنَّ الدار اليوم دار كفر وليست بدار الإسلام، ثمّ لم يجرِ علىٰ شي ء من أُصول شرائع الإسلام ما جرىٰ في باب الإمامة، لأنَّ هذه الأُمَّة يقولون: لم يقم [لهم] بالإمامة منذ قتل الحسين (علیه السلام) إمام عادل لا من بني أُميَّة ولا من ولد عبَّاس الذين جارت أحكامهم علىٰ أكثر الخلق، ونحن والزيديَّة وعامَّة المعتزلة وكثير من المسلمين يقولون: إنَّ الإمام لا يكون إلَّا من ظاهره ظاهر العدالة، فالأُمَّة في يد الجائرين يلعبون بهم ويحكمون في أموالهم وأبدانهم بغير حكم الله، وظهر أهل الفساد علىٰ أهل الحقِّ وعدم اجتماع الكلمة، ثمّ وجدنا طبقات الأُمَّة كلَّهم يُكفِّر بعضهم بعضاً، ويبرأ بعضهم من بعض.

ثمّ تأمَّلنا أخبار الرسول (صلی الله علیه و آله)، فوجدناها قد وردت بأنَّ الأرض تُملَأ قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً برجل من عترته، فدلَّنا هذا الحديث علىٰ أنَّ القيامة لا تقوم علىٰ هذه الأُمَّة إلَّا بعد ما مُلِئَت الأرض عدلاً، فإنَّ هذا الدِّين الذي لا يجوز عليه النسخ ولا التبديل سيكون له ناصر يُؤيِّده الله (عزوجل)كما أيَّد الأنبياء والرُّسُل لمَّا بعثهم لتجديد الشرائع وإزالة ما فعله الظالمون، فوجب لذلك أنْ تكون الدلائل علىٰ من يقوم بما وصفناه موجودة غير معدومة، وقد علمنا عامَّة اختلاف الأُمَّة وسبرنا أحوال الفِرَق، فدلَّنا أنَّ الحقَّ مع القائلين بالأئمَّة الاثني عشر (علیهم السلام) دون من سواهم من فِرَق الأُمَّة، ودلَّنا ذلك علىٰ أنَّ الإماماليوم هو الثاني عشر منهم، وأنَّه الذي أخبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) به ونصَّ عليه، وسنورد في هذا الكتاب ما روي عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله) في عدد الأئمَّة (علیهم السلام) وأنَّهم

ص: 92

اثنا عشر والنصَّ علىٰ القائم الثاني عشر والإخبار بغيبته قبل ظهوره وقيامه بالسيف إنْ شاء الله تعالىٰ.

[اعتراضات للزيديَّة]:

قال بعض الزيديَّة: إنَّ الرواية التي دلَّت علىٰ أنَّ الأئمَّة اثنا عشر قول أحدثه الإماميَّة قريباً، وولَّدوا فيه أحاديث كاذبة.

فنقول - وبالله التوفيق -: إنَّ الأخبار في هذا الباب كثيرة، والمفزع والملجأ إلىٰ نقلة الحديث، وقد نقل مخالفونا من أصحاب الحديث نقلاً مستفيضاً من حديث عبد الله بن مسعود، مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَطَّانُ المعْرُوفُ بِأَبِي عَلِيِّ ابْنِ عَبْدِ رَبِّهِ الرَّازِيِّ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يَزِيدَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ بْنِ خَلَفِ بْنِ يَزِيدَ المرْوَزِيُّ بِالرَّيِّ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِمِائَةٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيِّ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ المعْرُوفِ بِإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، عَنْ يَحْيَىٰ بْنِ يَحْيَىٰ(1)، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُجَالِدٍ(2)، عَنِ الشَّعْبِيِّ،

ص: 93


1- هو يحيىٰ بن يحيىٰ بن بكر بن عبد الرحمن التميمي الحنظلي، أبو زكريَّا النيسابوري، ثقة. وأمَّا إسحاق بن راهويه فهو أبو يعقوب الحنظلي المروزي المحدِّث الفقيه، قال ابن حنبل: إسحاق عندنا إمام من أئمَّة المسلمين، وما عبر جسر أفضل منه. (راجع: تهذيب التهذيب: ج 1/ ص 190 - 192/ الرقم 408، وج 2/ ص 318/ الرقم 7696).
2- في بعض النُّسَخ: (هشام بن خالد)، وفي أكثرها: (هشام بن مجالد)، وفي مسند أحمد (ج 6/ ص 321/ ح 3781) هذا الحديث بعينه (عن حمَّاد بن زيد، عن المجالد، عن الشعبي)، وعليه فالمراد هشام بن سنبر الدستوائي الذي يأتي، يروي عن مجالد بن سعيد بن عمير أبى عمر، وهو كما قال ابن حجر ليس بالقوي. وفي كفاية الأثر (ص 24 و25) أيضاً (عن هشام الدستوائي، عن مجالد بن سعيد)، وهذا هو الصواب لما في طريق الشيخ في كتاب الغيبة (ص 133/ ح 97): (عن عيسىٰ بن يونس، عن مجالد بن سعيد). وقلنا: المراد بهشام أبو بكر البصري، واسم أبيه (سنبر)، وهو ثقة ثبت. وفى الخصال (ص 466 و467/ ح 6): (هيثم بن خالد)، وهو تصحيف. وأمَّا الشعبي فهو عامر بن شراحيل أبو عمرو، ثقة مشهور فقيه فاضل كما في تقريب التهذيب (ج 1/ ص 461/ الرقم 3103). وأمَّا مسروق فهو مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني الوادعي، ثقة فقيه عابد.

عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ نَعْرِضُ مَصَاحِفَنَا عَلَيْهِ إِذْ قَالَ لَهُ فَتَىٰ شَابٌّ: هَلْ عَهِدَ إِلَيْكُمْ نَبِيُّكُمْ (صلی الله علیه و آله) كَمْ يَكُونُ مِنْ بَعْدِهِ خَلِيفَةٌ؟ قَالَ: إِنَّكَ لَحَدَثُ السِّنِّ، وَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ [مِنْ] قَبْلِكَ، نَعَمْ عَهِدَ إِلَيْنَا نَبِيُّنَا (صلی الله علیه و آله) أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَعْدِهِ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً بِعَدَدِ نُقْبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ».

وقد أخرجت بعض طُرُق هذا الحديث في هذا الكتاب، وبعضها في كتاب النصِّ علىٰ الأئمَّة الاثني عشر (علیهم السلام) بالإمامة.

ونقل مخالفونا من أصحاب الحديث نقلاً ظاهراً مستفيضاً من حديث جابر بن سمرة، مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الدِّينَوَرِيُّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ(1)، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ شَاذَانَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ذَكْوَانَ(2)، قَالَ:حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ السُّوَائِيِّ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله) فَقَالَ: «يَلِي هَذِهِ الْأُمَّةَ اثْنَا عَشَرَ»، قَالَ: فَصَرَخَ النَّاسُ، فَلَمْ أَسْمَعْ مَا قَالَ، فَقُلْتُ لِأَبِي - وَكَانَ أَقْرَبَ إِلَىٰ رَسُولِ الله (صلی الله علیه و آله) مِنِّي -: مَا قَالَ رَسُولُ الله (صلی الله علیه و آله)؟ فَقَالَ: قَالَ: «كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكُلُّهُمْ لَا يُرَىٰ مِثْلُهُ ».

وقد أخرجت طُرُق هذا الحديث أيضاً، وبعضهم روىٰ: «اثنا عشر أميراً»، وبعضهم روىٰ: «اثنا عشر خليفة»، فدلَّ ذلك علىٰ أنَّ الأخبار التي في

ص: 94


1- في الخصال (ص 473/ ح 29): (أبو بكر بن أبي زواد)، ولم أظفر به.
2- في بعض النُّسَخ من الخصال: (مخول بن ذكوان)، ولم أجده.

يد الإماميَّة عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله) والأئمَّة (علیهم السلام) بذكر الأئمَّة الاثني عشر أخبار صحيحة(1).

قالت الزيديَّة: فإنْ كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد عرَّف أُمَّته أسماء الأئمَّة الاثني عشر، فلِمَ ذهبوا عنه يميناً وشمالاً وخبطوا هذا الخبط العظيم؟

فقلنا لهم: إنَّكم تقولون: إنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) استخلف عليًّا (علیه السلام) وجعله الإمام بعده ونصَّ عليه وأشار إليه وبيَّن أمره وشهَّره، فما بال أكثر الأُمَّة ذهبت عنه وتباعدت منه حتَّىٰ خرج من المدينة إلىٰ ينبع(2) وجرىٰ عليه ما جرىٰ، فإنْ قلتم: إنَّ عليًّا (علیه السلام) لم يستخلفه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فلِمَ أودعتم كُتُبكم ذلك وتكلَّمتم عليه؟ فإنَّ الناس قد يذهبون عن الحقِّ وإنْ كان واضحاً، وعن البيان وإنْ كان مشروحاً كما ذهبوا عن التوحيد إلىٰ التلحيد، ومن قوله (تبارک و تعالی): ]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[ [الشورىٰ: 11]، إلىٰ التشبيه.

[اعتراض آخر للزيديَّة]:

قالت الزيديَّة: وممَّا تكذب به دعوىٰ الإماميَّة أنَّهم زعموا أنَّ جعفر بن محمّد (علیهما السلام) نصَّ لهم علىٰ إسماعيل وأشار إليه في حياته، ثمّ إنَّ إسماعيل مات في حياته فَقَالَ: «مَا بَدَا لله فِي شَيْءٍ كَمَا بَدَا لَهُ فِي إِسْمَاعِيلَ ابْنِي »(3)، فإنْ كان الخبر

ص: 95


1- روىٰ أحمد في مسنده هذا الحديث ونحوه من أربع وثلاثين طريقاً عن جابر بن سمرة، راجع: المسند (ج 34/ ص 409 - 529). ورواه الخطيب البغدادي أيضاً في التاريخ (ج 14/ ص 354) من حديث جابر بن سمرة، ونحوه في (ج 6/ ص 261) من حديث عبد الله بن عمرو، وأخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإمارة بطُرُق عديدة من حديث جابر.
2- في بعض النُّسَخ: (البقيع).
3- رواه المصنِّف (رحمة الله) في التوحيد (ص 336/ ح 10 و11)، المفيد (رحمة الله) في الفصول المختارة (ص 309)، وتصحيح اعتقادات الإماميَّة (ص 66)، والمسائل العكبريَّة (ص 99 و100).

الاثنا عشر صحيحاً فكان لا أقلَّ من أنْ يعرفه جعفر بن محمّد (علیهما السلام) ويُعرِّف خواصَّ شيعته لئلَّا يغلط هو وهم هذا الغلط العظيم.

فقلنا لهم: بِمَ قلتم: إنَّ جعفر بن محمّد (علیهما السلام) نصَّ علىٰ إسماعيل بالإمامة؟ وما ذلك الخبر؟ ومن رواه؟ ومن تلقَّاه بالقبول؟ فلم يجدوا إلىٰ ذلك سبيلاً، وإنَّما هذه حكاية ولَّدها قوم قالوا بإمامة إسماعيل، ليس لها أصل، لأنَّ الخبر بذكر الأئمَّة الاثني عشر (علیهم السلام) قد رواه الخاصُّ والعامُّ عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله) والأئمَّة (علیهم السلام)، وقد أخرجت ما روي عنهم في ذلك في هذا الكتاب. فأمَّا قَوْلُهُ: «مَا بَدَا لله فِي شَيْءٍ كَمَا بَدَا لَهُ فِي إِسْمَاعِيلَ ابْنِي »، فإنَّه يقول: ما ظهر لله أمر كماظهر له في إسماعيل ابني إذ اخترمه في حياتي(1) ليعلم بذلك أنَّه ليس بإمام بعدي(2). وعندنا من زعم أنَّ الله (عزوجل)يبدو له اليوم في شيء لم يعلمه أمس فهو كافر والبراءة منه واجبة، كما روي عن الصادق (علیه السلام).

ص: 96


1- اخترمه: أهلكه واستأصله.
2- قال الطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 429 و430) بعد إيراد الأخبار المشتملة علىٰ البداء في قيام القائم (علیه السلام): (فالوجه في هذه الأخبار أنْ نقول - إنْ صحَّت -: إنَّه لا يمتنع أنْ يكون الله تعالىٰ قد وقَّت هذا الأمر في الأوقات التي ذُكِرَت، فلمَّا تجدَّد ما تجدَّد تغيَّرت المصلحة واقتضت تأخيره إلىٰ وقت آخر، وكذلك فيما بعد، ويكون الوقت الأوَّل وكلُّ وقت يجوز أنْ يُؤخَّر مشروطاً بأنْ لا يتجدَّد ما يقتضي المصلحة تأخيره إلىٰ أنْ يجيء الوقت الذي لا يُغيِّره شيء فيكون محتوماً. وعلىٰ هذا يتأوَّل ما روي في تأخير الأعمار عن أوقاتها والزيادة فيها عند الدعاء والصدقات وصلة الأرحام، وما روي في تنقيص الأعمار عن أوقاتها إلىٰ ما قبله عند فعل الظلم وقطع الرحم وغير ذلك، وهو تعالىٰ وإنْ كان عالماً بالأمرين، فلا يمتنع أنْ يكون أحدهما معلوماً بشرط والآخر بلا شرط، وهذه الجملة لا خلاف فيها بين أهل العدل. وعلىٰ هذا يتأوَّل أيضاً ما روي من أخبارنا المتضمِّنة للفظ البداء ويُبيَّن أنَّ معناها النسخ علىٰ ما يريده جميع أهل العدل فيما يجوز فيه النسخ، أو تغيُّر شروطها إنْ كان طريقها الخبر عن الكائنات، لأنَّ البداء في اللغة هو الظهور، فلا يمتنع أنْ يظهر لنا من أفعال الله تعالىٰ ما كنَّا نظنُّ خلافه، أو نعلم ولا نعلم شرطه).

حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ الْعَطَّارِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَىٰ بْنِ عِمْرَانَ الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الله الرَّازِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ اللُّؤْلُؤِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ وسَمَاعَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله الصَّادِقِ (علیه السلام)، قَالَ: «مَنْ زَعَمَأَنَّ اللهَ يَبْدُو لَهُ فِي شَيْءٍ الْيَوْمَ لَمْ يَعْلَمْهُ أَمْسِ فَابْرَؤُوا مِنْهُ »(1).

وإنَّما البداء الذي يُنسَب إلىٰ الإماميَّة القول به هو ظهور أمره، يقول العرب: (بدا لي شخص)، أي ظهر لي، لا بداء ندامة، تعالىٰ الله عن ذلك علوًّا كبيراً.

وكيف ينصُّ الصادق (علیه السلام) علىٰ إسماعيل بالإمامة مع قَوْلِهِ فِيهِ: «إِنَّهُ عَاصٍ لَا يُشْبِهُنِي ولَا يُشْبِهُ أَحَداً مِنْ آبَائِي »؟

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَىٰ بْنِ عِمْرَانَ الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ رَاشِدٍ، قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (علیه السلام) عَنْ إِسْمَاعِيلَ، فَقَالَ: «عَاصٍ، لَا يُشْبِهُنِي وَلَا يُشْبِهُ أَحَداً مِنْ آبَائِي ».

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِدْرِيسَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ وَالْبَرْقِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ: ذَكَرْتُ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السلام)، فَقَالَ: «وَاللهِ لَا يُشْبِهُنِي وَلَا يُشْبِهُ أَحَداً مِنْ آبَائِي ».

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ الله، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ المخْتَارِ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ صَبِيحٍ، قَالَ: جَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ لِي: تَعَالَ حَتَّىٰ أُرِيَكَ ابْنَ الرَّجُلِ، قَالَ

ص: 97


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في الاعتقادات (ص 41).

: فَذَهَبْتُ مَعَهُ، قَالَ: فَجَاءَ بِي إِلَىٰ قَوْمٍ يَشْرَبُونَ فِيهِمْ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: فَخَرَجْتُ مَغْمُوماً، فَجِئْتُ إِلَىٰ الْحَجَرِ فَإِذَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ مُتَعَلِّقٌ بِالْبَيْتِ يَبْكِي قَدْ بَلَّ أَسْتَارَ الْكَعْبَةِبِدُمُوعِهِ، قَالَ: فَخَرَجْتُ أَشْتَدُّ فَإِذَا إِسْمَاعِيلُ جَالِسٌ مَعَ الْقَوْمِ، فَرَجَعْتُ فَإِذَا هُوَ آخِذٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ قَدْ بَلَّهَا بِدُمُوعِهِ، قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي عَبْدِ الله (علیه السلام) فَقَالَ: «لَقَدِ ابْتُلِيَ ابْنِي بِشَيْطَانٍ يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِهِ»(1).

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَةِ نَبِيٍّ وَلَا فِي صُورَةِ وَصِيِّ نَبِيٍ(2) ّ، فكيف يجوز أنْ ينصَّ عليه بالإمامة مع صحَّة هذا القول منه فيه.

[اعتراض آخر]:

قالت الزيديَّة: بأيِّ شيء تدفعون إمامة إسماعيل؟ وما حجَّتكم علىٰ الإسماعيليَّة القائلين بإمامته؟

قلنا لهم: ندفع إمامته بما ذكرنا من الأخبار، وبالأخبار الواردة بالنصِّ علىٰ الأئمَّة الاثني عشر (علیهم السلام)، وبموته في حياة أبيه.

فأمَّا الأخبار الواردة بالنصِّ علىٰ الأئمَّة الاثني عشر فقد ذكرناها في هذا الكتاب.

وأمَّا الأخبار الواردة بموته في حياة الصادق (علیه السلام) مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ الله، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ أَيُّوبَ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الله الْأَعْرَجِ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (علیه السلام): «لَمَّا مَاتَ إِسْمَاعِيلُ أَمَرْتُ بِهِ وَهُوَ مُسَجَّىٰ أَنْ يُكْشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، فَقَبَّلْتُ جَبْهَتَهُ وَذَقَنَهُ وَنَحْرَهُ، ثُمَّ

ص: 98


1- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 71/ ح 59)، وابن شهرآشوب (رحمة الله) في مناقب آل أبي طالب (ج 1/ ص 229).
2- راجع: اختيار معرفة الرجال (ج 2/ ص 581 و582 و593/ ح 516 و548).

أَمَرْتُ بِهِ فَغُطِّيَ،ثُمَّ قُلْتُ: اكْشِفُوا عَنْهُ، فَقَبَّلْتُ أَيْضاً جَبْهَتَهُ وَذَقَنَهُ وَنَحْرَهُ، ثُمَّ أَمَرْتُهُمْ فَغَطَّوْهُ، ثُمَّ أَمَرْتُ بِهِ فَغُسِّلَ، ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَقَدْ كُفِّنَ، فَقُلْتُ: اكْشِفُوا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَبَّلْتُ جَبْهَتَهُ وَذَقَنَهُ وَنَحْرَهُ وَعَوَّذْتُهُ، ثُمَّ قُلْتُ: دَرِّجُوهُ»، فَقُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ عَوَّذْتَهُ؟ قَالَ: «بِالْقُرْآنِ »(1).

قال مصنِّف هذا الكتاب: في هذا الحديث فوائد:

أحدها الرخصة بتقبيل جبهة الميِّت وذقنه ونحره قبل الغسل وبعده إلَّا أنَّه من مسَّ ميِّتاً قبل الغسل بحرارته فلا غسل عليه، فإنَّ مسَّه بعد ما يبرد فعليه الغسل، وإنْ مسَّه بعد الغسل فلا غسل عليه، فلو ورد في الخبر أنَّ الصادق (علیه السلام) اغتسل بعد ذلك أو لم يغتسل لعلمنا بذلك أنَّه مسَّه قبل الغسل بحرارته أو بعد ما برد.

وللخبر فائدة أُخرىٰ، وهي: أنَّه قال: «أَمَرْتُ بِهِ فَغُسِّلَ»، ولم يقل: غسَّلته، وفي هذا الحديث أيضاً ما يُبطِل إمامة إسماعيل، لأنَّ الإمام لا يُغسِّله إلَّا إمام إذا حضره(2).

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رحمة الله)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُالْحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ ويَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي كَهْمَسٍ، قَالَ: حَضَرْتُ مَوْتَ إِسْمَاعِيلَ وَأَبُو عَبْدِ الله (علیه السلام)

ص: 99


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في من لا يحضره الفقيه (ج 1/ ص 161/ ح 449).
2- فيه نظر، لأنَّه يمكن أنْ يقال: الأخبار التي وردت بأنَّ الإمام لا يُغسِّله إلَّا الإمام مع ضعف سندها لا تدلُّ علىٰ وجوب المباشرة، إنَّما دلالته علىٰ أنَّ وليَّ الإمام في التجهيز هو الإمام الذي بعده، سواء باشر ذلك بنفسه أو أمر من يفعل بإذنه أو برضاه إنْ غاب، وفى التهذيب (ج 1/ ص 303/ ح 885/50)، والاستبصار (ج 1/ ص 207/ باب كيفيَّة غسل الميِّت/ ح 729/4) بطريق صحيح أعلائي عن معاوية بن عمَّار، قال: «أمرني أبو عبد الله (علیه السلام) أنْ أغمز بطنه، ثمّ أُوضِّيه بالأشنان، ثمّ أغسل رأسه بالسدر ولحييه، ثمّ أفيض علىٰ جسده منه، ثمّ أدلك به جسده، ثمّ أفيض عليه ثلاثاً، ثمّ أغسله بالماء القراح، ثمّ أفيض عليه الماء بالكافور، وبالماء القراح، وأطرح فيه سبع ورقات سدر».

جَالِسٌ عِنْدَهُ، فَلَمَّا حَضَرَهُ المَوْتُ شَدَّ لَحْيَيْهِ وَغَطَّاهُ بِالْمِلْحَفَةِ ثُمَّ أَمَرَ بِتَهْيِئَتِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ أَمْرِهِ دَعَا بِكَفَنِهِ وَكَتَبَ فِي حَاشِيَةِ الْكَفَنِ: «إِسْمَاعِيلُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»(1).

حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَهْزِيَارَ، عَنْ أَخِيهِ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ مُرَّةَ مَوْلَىٰ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: لَمَّا مَاتَ إِسْمَاعِيلُ فَانْتَهَىٰ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) إِلَىٰ الْقَبْرِ أَرْسَلَ نَفْسَهُ فَقَعَدَ عَلَىٰ جَانِبِ الْقَبْرِ لَمْ يَنْزِلْ فِي الْقَبْرِ، ثُمَّ قَالَ: «هَكَذَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) بِإِبْرَاهِيمَ وَلَدِهِ»(2).

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبَانٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، قَالَ: لَمَّا مَاتَ إِسْمَاعِيلُ خَرَجَ إِلَيْنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) فَتَقَدَّمَ السَّرِيرَ بِلَا حِذَاءٍ وَلَا رِدَاءٍ.

حَدَّثَنَا أَبِي (رحمة الله)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ الله، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَهْزِيَارَ، عَنْ أَخِيهِ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ والْأَرْقَطِ ابْنِ عَمِّ أَبِي عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كَانَ أَبُو عَبْدِ الله (علیه السلام) عِنْدَ إِسْمَاعِيلَ حِينَ قُبِضَ، فَلَمَّا رَأَىٰ الْأَرْقَطُ جَزَعَهُ قَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الله قَدْمَاتَ رَسُولُ الله (صلی الله علیه و آله)، قَالَ: فَارْتَدَعَ، ثُمَّ قَالَ: «صَدَقْتَ أَنَا لَكَ الْيَوْمَ أَشْكُرُ».

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ (رحمة الله)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ الله، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ الثَّقَفِيِ ، عَنْ أَبِي كَهْمَسٍ، قَالَ: حَضَرْتُ مَوْتَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، فَرَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) وَقَدْ سَجَدَ سَجْدَةً فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ

ص: 100


1- رواه الطوسي (رحمة الله) في تهذيب الأحكام (ج 1/ ص 289 و309/ ح 842/10 و898/66).
2- روىٰ قريباً منه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 3/ ص 193/ باب من يدخل القبر ومن لا يدخل/ ح 3).

فَنَظَرَ إِلَيْهِ قَلِيلاً ونَظَرَ إِلَىٰ وَجْهِهِ، [قَالَ]: ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَةً أُخْرَىٰ أَطْوَلَ مِنَ الْأُولَىٰ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وقَدْ حَضَرَهُ الموْتُ فَغَمَّضَهُ وَرَبَطَ لَحْيَيْهِ وَغَطَّىٰ عَلَيْهِ مِلْحَفَةً، ثُمَّ قَامَ وَقَدْ رَأَيْتُ وَجْهَهُ وَقَدْ دَخَلَهُ مِنْهُ شَيْءٌ اللهُ أَعْلَمُ بِهِ، قَالَ: ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَمَكَثَ سَاعَةً، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا مُدَّهِناً مُكْتَحِلاً عَلَيْهِ ثِيَابٌ غَيْرُ الثِّيَابِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ وَوَجْهُهُ غَيْرُ الَّذِي دَخَلَ بِهِ، فَأَمَرَ وَنَهَىٰ فِي أَمْرِهِ(1) حَتَّىٰ إِذَا فَرَغَ مِنْهُ دَعَا بِكَفَنِهِ فَكَتَبَ فِي حَاشِيَةِ الْكَفَنِ: «إِسْمَاعِيلُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ».

حَدَّثَنَا أَبِي (رحمة الله)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ الله، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ ظَرِيفِ بْنِ نَاصِحٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: مَاتَتِ ابْنَةٌ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) فَنَاحَ عَلَيْهَا سَنَةً، ثُمَّ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ آخَرُ فَنَاحَ عَلَيْهِ سَنَةً، ثُمَّ مَاتَ إِسْمَاعِيلُ فَجَزِعَ عَلَيْهِ جَزَعاً شَدِيداً فَقَطَعَ النَّوْحَ، قَالَ: فَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): أَصْلَحَكَ اللهُ أَيُنَاحُ فِي دَارِكَ؟ فَقَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیهو آله) قَالَ لَمَّا مَاتَ حَمْزَةُ: ليبكينَّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ (2)».

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رحمة الله)، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مَتِّيلٍ الدَّقَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْكُوفِيِّ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْوَفَاةُ جَزِعَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) جَزَعاً شَدِيداً، قَالَ: فَلَمَّا غَمَّضَهُ دَعَا بِقَمِيصٍ غَسِيلٍ أَوْ جَدِيدٍ فَلَبِسَهُ ثُمَّ تَسَرَّحَ وَخَرَجَ يَأْمُرُ وَيَنْهَىٰ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، لَقَدْ ظَنَنَّا أَنْ لَا يُنْتَفَعَ بِكَ زَمَاناً لِمَا رَأَيْنَا مِنْ جَزَعِكَ، قَالَ: «إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ نَجْزَعُ مَا لَمْ تَنْزِلِ المصِيبَةُ، فَإِذَا نَزَلَتْ صَبَرْنَا»(3).

ص: 101


1- يعني في تجهيز إسماعيل.
2- في بعض النُّسَخ: (لكنَّ حمزة لا بواكي له).
3- روىٰ قريباً منه المصنِّف (رحمة الله) في من لا يحضره الفقيه (ج 1/ ص 187/ ح 567).

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّقَّاقُ (رحمة الله)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْهَيْثَمِ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَسَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ بْنُ بِجَّادٍ الْعَابِدُ، قَالَ: لَمَّا مَاتَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَفَرَغْنَا مِنْ جَنَازَتِهِ جَلَسَ الصَّادِقُ جَعْفَرُ ابْنُ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام) وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ وَهُوَ مُطْرِقٌ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا دَارُ فِرَاقٍ ودَارُ الْتِوَاءٍ(1) لَا دَارُ اسْتِوَاءٍ عَلَىٰ أَنَّ فِرَاقَ المأْلُوفِ حُرْقَةٌ لَا تُدْفَعُ وَلَوْعَةٌ لَا تُرَدُّ(2) وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُ النَّاسُ بِحُسْنِ الْعَزَاءِ وَصِحَّةِ الْفِكْرِ، فَمَنْ لَمْ يَثْكَلْ أَخَاهُ ثَكِلَهُ أَخُوهُ، وَمَنْ لَمْ يُقَدِّمْ وَلَداً كَانَ هُوَ المقَدَّمَ دُونَ الْوَلَدِ»، ثُمَّ تَمَثَّلَ (علیه السلام) بِقَوْلِ أَبِي خِرَاشٍ الْهُذَلِيِّ يَرْثِي أَخَاهُ:وَلَا

تَحْسَبِي أَنِّي تَنَاسَيْتُ عَهْدَهُ *** وَلَكِنَّ صَبْرِي يَا أُمَامُ جَمِيلٌ(3)(4)

ص: 102


1- التواء: الاعوجاج.
2- اللوعة: حرقة الحزن.
3- في بعض النُّسَخ: (يا أميم جميل)، والأميم هو المضروب علىٰ أُمِّ رأسه.
4- رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 309/ ح 356/4)، والفتَّال (رحمة الله) في روضة الواعظين (ص 444)، والراوندي (رحمة الله) في مكارم أخلاق النبيِّ والأئمَّة (علیهم السلام) (ص 317)، وورَّام في تنبيه الخواطر (ج 2/ ص 484). قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 79/ ص 74): (بيان: قال الفيروزآبادي: لواه فتله وثنَّاه فالتوىٰ وتلوَّىٰ، وعن الأمر تثاقل كالتوىٰ، وفلاناً علىٰ فلان آثره، وتلوَّىٰ انعطف كالتوىٰ، والبقل ذوي، وبه ذهب وبما في الإناء استأثر به وغلب علىٰ غيره، وبه العقاب طارت به، وبهم الدهر أهلكهم، وبكلامه خالف به عن جهته. انتهىٰ. والأكثر مناسب كما لا يخفىٰ أي دار ذهاب وانعطاف إلىٰ دار أُخرىٰ، ودار استيثار واستبداد وبوار وهلاك ويتلوَّىٰ فيها للمصائب، لأدار استواء أي اعتدال واستقامة، أو استيلاء علىٰ المطلوب. واللوعة حرقة في القلب، والثكل - بالضمِّ - الموت والهلاك، وفقدان الجيب أو الولد، وقد ثكله كفرح، وأُمام - بالضمِّ - مرخَّم أُمامة اسم امرأة).

اعتراض آخر:

قالت الزيديَّة: لو كان خبر الأئمَّة الاثني عشر صحيحاً لما كان الناس يشكُّون بعد الصادق جعفر بن محمّد (علیهما السلام) في الإمامة حتَّىٰ يقول طائفة من الشيعة بعبد الله وطائفة بإسماعيل وطائفة تتحيَّر حتَّىٰ إِنَّ الشِّيعَةَ مِنْهُمْ مَنِ امْتَحَنَ عَبْدَ الله بْنَ الصَّادِقِ (علیه السلام) فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ مَا أَرَادَ خَرَجَ وهُوَ يَقُولُ: إِلَىٰ أَيْنَ؟ إِلَىٰ المرْجِئَةِ أَمْ إِلَىٰ الْقَدَرِيَّةِ أَمْ إِلَىٰ الْحَرُورِيَّةِ؟ وَإِنَّ مُوسَىٰ بْنَ جَعْفَرٍ سَمِعَهُ يَقُولُ هَذَا، فَقَالَ لَهُ: «لَا إِلَىٰ المرْجِئَةِ، وَلَا إِلَىٰ الْقَدَرِيَّةِ، وَلَا إِلَىٰ الْحَرُورِيَّةِ، وَلَكِنْ إِلَيَّ»(1)، فانظروامن كم وجه يبطل خبر الاثني عشر: أحدها جلوس عبد الله للإمامة، والثاني إقبال الشيعة إليه، والثالث حيرتهم عند امتحانه، والرابع أنَّهم لم يعرفوا أنَّ إمامهم موسىٰ بن جعفر (علیهما السلام) حتَّىٰ دعاهم موسىٰ إلىٰ نفسه وفي هذه المدَّة مات فقيههم زُرَارَةُ بْنُ أَعْيَنَ وَهُوَ يَقُولُ وَالمُصْحَفُ عَلَىٰ صَدْرِهِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَئْتَمُّ بِمَنْ أَثْبَتَ إِمَامَتَهُ هَذَا المصْحَفُ )(2).

فقلنا لهم: إنَّ هذا كلَّه غرور من القول وزخرف، وذلك أنَّا لم ندَّعِ أنَّ َّ جميع الشيعة عرف في ذلك العصر الأئمَّة الاثني عشر (علیهم السلام) بأسمائهم، وإنَّما قلنا: إنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخبر أنَّ الأئمَّة بعده الاثنا عشر، الذين هم خلفاؤه وأنَّ علماء الشيعة قد رووا هذا الحديث بأسمائهم، ولا يُنكَر أنْ يكون فيهم واحد أو اثنان أو أكثر لم يسمعوا بالحديث، فأمَّا زرارة بن أعين فإنَّه مات قبل انصراف من كان

ص: 103


1- راجع ما رواه الصفَّار (رحمة الله) في بصائر الدرجات (ص 270 و271/ ج 5/ باب 12/ ح 1)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 351 و352/ باب ما يُفصَل به بين دعوىٰ المحق والمبطل في أمر الإمامة/ ح 7)، والمسعودي في إثبات الوصيَّة (ص 197 و198)، وأبو غالب الزراري في تاريخ آل زرارة (ص 75 و76)، والمفيد (رحمة الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 221 و222)، والطوسي (رحمة الله) في اختيار معرفة الرجال (ج 2/ ص 565 و566/ ح 502).
2- روىٰ قريباً منه أبو غالب الزراري في تاريخ آل زرارة (ص 79).

وفده ليعرف الخبر ولم يكن سمع بالنصِّ علىٰ موسىٰ بن جعفر (علیهما السلام) من حيث قطع الخبر عذره، فَوَضَعَ المُصْحَفَ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ عَلَىٰ صَدْرِهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَئْتَمُّ بِمَنْ يُثْبِتُ هَذَا المصْحَفُ إِمَامَتَهُ . وهل يفعل الفقيه المتديِّن عند اختلاف الأمر عليه إلَّا ما فعله زرارة؟ علىٰ أنَّه قد قيل: إنَّ زرارة قد كان علم بأمر موسىٰ ابن جعفر (علیهما السلام) وبإمامته، وإنَّما بعث ابنه عبيداً ليتعرَّف من موسىٰ بن جعفر (علیهما السلام) هل يجوز له إظهار ما يعلم من إمامته أو يستعمل التقيَّة في كتمانه؟ وهذا أشبهبفضل زرارة بن أعين وأليق بمعرفته.

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْهَمَدَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ هَاشِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَىٰ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْهَمْدَانِيِّ (رضی الله عنه)، قَالَ: قُلْتُ لِلرِّضَا (علیه السلام): يَا ابْنَ رَسُولِ الله، أَخْبِرْنِي عَنْ زُرَارَةَ هَلْ كَانَ يَعْرِفُ حَقَّ أَبِيكَ (علیه السلام)؟ فَقَالَ: «نَعَمْ»، فَقُلْتُ لَهُ: فَلِمَ بَعَثَ ابْنَهُ عُبَيْداً لِيَتَعَرَّفَ الْخَبَرَ إِلَىٰ مَنْ أَوْصَىٰ الصَّادِقُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام)؟ فَقَالَ: «إِنَّ زُرَارَةَ كَانَ يَعْرِفُ أَمْرَ أَبِي (علیه السلام) وَنَصَّ أَبِيهِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا بَعَثَ ابْنَهُ لِيَتَعَرَّفَ مِنْ أَبِي (علیه السلام) هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ التَّقِيَّةَ فِي إِظْهَارِ أَمْرِهِ وَنَصِّ أَبِيهِ عَلَيْهِ؟ وَأَنَّهُ لَمَّا أَبْطَأَ عَنْهُ ابْنُهُ طُولِبَ بِإِظْهَارِ قَوْلِهِ فِي أَبِي (علیه السلام)، فَلَمْ يُحِبَّ أَنْ يُقْدِمَ عَلَىٰ ذَلِكَ دُونَ أَمْرِهِ، فَرَفَعَ المصْحَفَ وقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ إِمَامِي مَنْ أَثْبَتَ هَذَا المصْحَفُ إِمَامَتَهُ مِنْ وُلْدِ جَعْفَرِ ابْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام)»(1).

والخبر الذي احتجَّت به الزيديَّة ليس فيه أنَّ زرارة لم يعرف إمامة موسىٰ ابن جعفر (علیهما السلام)، وإنَّما فيه أنَّه بعث ابنه عبيداً ليسأل عن الخبر.

حَدَّثَنَا أَبِي (رحمة الله)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَىٰ بْنِ عِمْرَانَ الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ زُرَارَةَ،

ص: 104


1- رواه أبو غالب الزراري (رحمة الله) في تاريخ آل زرارة (ص 82 و83).

عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا بَعَثَ زُرَارَةُ عُبَيْداً ابْنَهُ إِلَىٰ المَدِينَةِ لِيَسْأَلَ عَنِ الْخَبَرِ بَعْدَ مُضِيِّ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السلام)، فَلَمَّا اشْتَدَّ بِهِ الْأَمْرُأَخَذَ المصْحَفَ وَقَالَ: مَنْ أَثْبَتَ إِمَامَتَهُ هَذَا المُصْحَفُ فَهُوَ إِمَامِي(1) . وهذا الخبر لا يوجب أنَّه لم يعرف. علىٰ أنَّ راوي هذا الخبر أحمد بن هلال(2) وهو مجروح عند مشايخنا (رضی الله عنهم).

حَدَّثَنَا شَيْخُنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عَبْدِ الله يَقُولُ: مَا رَأَيْنَا وَلَا سَمِعْنَا بِمُتَشَيِّعٍ رَجَعَ عَنِ التَّشَيُّعِ إِلَىٰ النَّصْبِ إِلَّا أَحْمَدَ بْنَ هِلَالٍ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مَا تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ أَحْمَدُ بْنُ هِلَالٍ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ وَالْأَئِمَّةَ (صلوات الله عليهم) لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضىٰ اللهُ دِينَهُ، وَالشَّاكُّ فِي الْإِمَامِ عَلَىٰ غَيْرِ دِينِ اللهِ.

وَقَدْ ذَكَرَ مُوسَىٰ بْنُ جَعْفَرٍ (علیهما السلام) أَنَّهُ سَيَسْتَوْهِبُهُ مِنْ رَبِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الصُّهْبَانِ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنْ مَرْوَكِ ابْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ دُرُسْتَ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرٍ (علیهما السلام)، قَالَ: ذُكِرَ بَيْنَ يَدَيْهِ زُرَارَةُ بْنُ أَعْيَنَ، فَقَالَ: «وَاللهِ إِنِّي سَأَسْتَوْهِبُهُ مِنْ رَبِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَهَبُهُ لِي، وَيْحَكَ إِنَّ زُرَارَةَ بْنَ أَعْيَنَ أَبْغَضَ عَدُوَّنَا فِي اللهِ وَأَحَبَّ وَلِيَّنَا فِي اللهِ».

حَدَّثَنَا أَبِي ومُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنهما)، قَالا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ جَمِيعاً، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِأَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعَةٌ

ص: 105


1- رواه أبو غالب الزراري (رحمة الله) في تاريخ آل زرارة (ص 79).
2- هو أحمد بن هلال العبرتائي، روىت فيه ذموم عن الإمام العسكري (علیه السلام)، كما في اختيار معرفة الرجال (ج 2/ ص 816).

أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً: بُرَيْدٌ الْعِجْلِيُّ، وَزُرَارَةُ بْنُ أَعْيَنَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَالْأَحْوَلُ(1)، أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً»(2).

فالصادق (علیه السلام) لا يجوز أنْ يقول لزرارة: إنَّه من أحبّ الناس إليه وهو لا يعرف إمامه موسىٰ بن جعفر (علیهما السلام).

[اعتراض آخر]:

قالت الزيديَّة: لا يجوز أنْ يكون من قول الأنبياء: إنَّ الأئمَّة اثنا عشر، لأنَّ الحجَّة باقية علىٰ هذه الأُمَّة إلىٰ يوم القيامة، والاثنا عشر بعد محمّد (صلی الله علیه و آله) قد مضىٰ منهم أحد عشر، وقد زعمت الإماميَّة أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة.

فيقال لهم: إنَّ عدد الأئمَّة (علیهم السلام) اثنا عشر، والثاني عشر هو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ثمّ يكون بعده ما يذكره من كون إمام بعده أو قيام القيامة ولسنا مستعبدين في ذلك إلَّا بالإقرار باثني عشر إماماً واعتقاد كون ما يذكره الثاني عشر (علیه السلام) بعده.

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَىٰ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ فَهْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُوسَىٰالْوَجِيهِيِّ(3)، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ (علیه السلام): يَا أَمِيرَ المؤْمِنِينَ، أَخْبِرْنِي بِمَا يَكُونُ مِنَ الْأَحْدَاثِ بَعْدَ قَائِمِكُمْ، قَالَ: «يَا ابْنَ الْحَارِثِ، ذَلِكَ شَيْءٌ ذِكْرُهُ مَوْكُولٌ إِلَيْهِ، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) عَهِدَ إِلَيَّ أَنْ لَا أُخْبِرَ بِهِ إِلَّا الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ (علیهما السلام)».

ص: 106


1- يعني محمّد بن النعمان البجلي مؤمن الطاق.
2- رواه الطوسي (رحمة الله) في اختيار معرفة الرجال (ج 1/ ص 347/ ح 215).
3- عمر بن موسىٰ الوجيهي، زيدي، له كتاب قراءة زيد بن عليٍّ (علیه السلام)، وقال: سمعت زيد بن عليٍّ يقول: هذا قراءة أمير المؤمنين (علیه السلام).

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَىٰ الْجَلُودِيُّ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ يُونُسَ ابْنِ أَرْقَمَ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ الشَّيْبَانِيِّ(1)، عَنِ الضَّحَاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، عَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ، عَنْ أَمِيرِ المؤْمِنِينَ (علیه السلام) فِي حَدِيثٍ يَذْكُرُ فِيهِ أَمْرَ الدَّجَّالِ وَيَقُولُ فِي آخِرِهِ: «لَا تَسْأَلُونِّي عَمَّا يَكُونُ بَعْدَ هَذَا فَإِنَّهُ عَهِدَ إِلَيَّ حَبِيبِي (علیه السلام) أَنْ لَا أُخْبِرَ بِهِ غَيْرَ عِتْرَتِي»، قَالَ النَّزَّالُ بْنُ سَبْرَةَ، فَقُلْتُ لِصَعْصَعَةَ بْنِ صُوحَانَ: مَا عَنَىٰ أَمِيرُ المؤْمِنِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ؟ فَقَالَصَعْصَعَةُ: يَا ابْنَ سَبْرَةَ، إِنَّ الَّذِي يُصَلِّي عِيسَىٰ بْنُ مَرْيَمَ خَلْفَهُ هُوَ الثَّانِي عَشَرَ مِنَ الْعِتْرَةِ، التَّاسِعُ مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام)، وهُوَ الشَّمْسُ الطَّالِعَةُ مِنْ مَغْرِبِهَا، يَظْهَرُ عِنْدَ الرُّكْنِ وَالمقَامِ، فَيُطَهِّرُ الْأَرْضَ وَيَضَعُ الْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ فَلَا يَظْلِمُ أَحَدٌ أَحَداً، فَأَخْبَرَ أَمِيرُ المؤْمِنِينَ (علیه السلام) أَنَّ حَبِيبَهُ رَسُولَ الله (صلی الله علیه و آله) عَهِدَ إِلَيْهِ أَنْ لَا يُخْبِرَ بِمَا يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرَ عِتْرَتِهِ الْأَئِمَّةِ.

ويقال للزيديَّة: أفيكذب رسول الله (صلی الله علیه و آله) في قوله: «إنَّ الأئمَّة اثنا عشر»؟ فإنْ قالوا: إنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يقل هذا القول، قيل لهم: إنْ جاز لكم دفع هذا الخبر مع شهرته واستفاضته وتلقِّي طبقات الإماميَّة إيَّاه بالقبول، فما أنكرتم ممَّن يقول: إنَّ قَوْلَ رَسُولِ الله (صلی الله علیه و آله): «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ » ليس من قول الرسول (علیه السلام)؟

ص: 107


1- أمَّا الحسين بن معاذ فالظاهر هو الحسين بن معاذ بن خليف البصري الذي ذكره ابن حبَّان في الثقات (ج 8/ ص 187). وأمَّا قيس بن حفص فالظاهر هو قيس بن حفص بن القعقاع التميمي الدارمي مولاهم أبو محمّد البصري المتوفَّىٰ (227ه) الذي ذكره العجلي في معرفة الثقات (ج 1/ ص 45/ الرقم 48). وأمَّا يونس بن أرقم فلم أجد من ذكره. وأمَّا أبو سنان الشيباني المصحَّف في نُسَخ الكتاب بأبي سيَّار فهو سعيد بن سنان البرجمي الشيباني الكوفي الذي ذكره ابن حبَّان في الثقات (ج 6/ ص 356)، وقال: (كان عابداً فاضلاً) انتهىٰ، يروي عن ضحَّاك بن مزاحم الهلالي أبي القاسم، ويقال: أبو محمّد، قال عبد الله بن أحمد: ثقة مأمون، وقال ابن معين وكذا أبو زرعة: ثقة. وهو يروي عن النزَّال بن سبرة - بفتح المهملة وسكون الموحَّدة - الهلالي، وهو كوفي تابعي من كبار التابعين ذكره ابن حبَّان في الثقات كما في التهذيب.

[اعتراض آخر]:

قالت الزيديَّة: اختلفت الإماميَّة في الوقت الذي مضىٰ فيه الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام)، فمنهم من زعم أنَّ ابنه كان ابن سبع سنين، ومنهم من قال: إنَّه كان صبيًّا(1) أو رضيعاً، وكيف كان فإنَّه في هذه الحال لا يصلح للإمامة ورئاسة الأُمَّة، وأنْ يكون خليفة الله في بلاده وقيِّمه في عباده وفئة المسلمين إذا عضَّتهم الحروب، ومدبِّر جيوشهم، والمقاتل عنهم، والذابُّ عن حوزتهم، والدافع عن حريمهم، لأنَّ الصبيَّ الرضيع والطفل لا يصلحان لمثل هذه الأُمور، ولم تجرِ العادة فيما سلف قديماً وحديثاً أنْ تلقىٰ الأعداء بالصبيان، ومن لا يحسن الركوب، ولا يثبت علىٰالسرج، ولا يعرف كيف يصرف العنان، ولا ينهض بحمل الحمائل، ولا بتصريف القناة، ولا يمكنه الحمل علىٰ الأعداء في حومة الوغا، فإنَّ أحد أوصاف الإمام أنْ يكون أشجع الناس.

[الجواب]:

يقال لمن خطب بهذه الخطبة: إنَّكم نسيتم كتاب الله (تبارک و تعالی)، ولولا ذلك لم ترموا الإماميَّة بأنَّهم لا يحفظون كتاب الله، وقد نسيتم قصَّة عيسىٰ (علیه السلام) وهو في المهد حين يقول: «إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا 30 وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ ...» الآية [مريم: 30 و31]، أخبرونا لو آمن به بنو إسرائيل ثمّ حزبهم أمر من العدوِّ(2) كيف كان يفعل المسيح (علیه السلام)؟ وكذلك القول في يحيىٰ (علیه السلام)، وقد أعطاه الله الحكم صبيًّا، فإنْ جحدوا ذلك فقد جحدوا كتاب الله، ومن لم يقدر علىٰ دفع خصمه إلَّا بعد أنْ يجحد كتاب الله فقد وضح بطلان قوله.

ص: 108


1- في بعض النُّسَخ: (جنيناً).
2- حزبه أمر، أي أصابه.

ونقول في جواب هذا الفصل: إنَّ الأمر لو أفضىٰ بأهل هذا العصر إلىٰ ما وصفوا لنقض الله العادة فيه، وجعله رجلاً بالغاً كاملاً فارساً شجاعاً بطلاً قادراً علىٰ مبارزة الأعداء والحفظ لبيضة الإسلام والدفع عن حوزتهم. وهذا جواب لبعض الإماميَّة علىٰ أبي القاسم البلخي.

[اعتراض آخر]:

قالت الزيديَّة: قد شكَّ الناس في صحَّة نسب هذا المولود، إذ أكثر الناس يدفعون أنْ يكون للحسن بن عليٍّ (علیهما السلام) ولد.

فيقال لهم: قد شكَّ بنو إسرائيل في المسيح ورموا مريم بما قالوا:«لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا 27» [مريم: 27](1)، فتكلَّم المسيح ببراءة أُمِّه (علیها السلام) فقال: «إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا 30» [مريم: 30]، فعلم أهل العقول أنَّ الله (عزوجل)لا يختار لأداء الرسالة مغمور النَّسَب ولا غير كريم المنصب، كذلك الإمام (علیه السلام) إذا ظهر كان معه من الآيات الباهرات والدلائل الظاهرات ما يُعلَم به أنَّه بعينه دون الناس هو خلف الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام).

قال بعضهم: ما الدليل علىٰ أنَّ الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام) تُوفِّي؟

قيل له: الأخبار التي وردت في موته هي أوضح وأشهر وأكثر من الأخبار التي وردت في موت أبي الحسن موسىٰ بن جعفر (علیهما السلام)، لأنَّ أبا الحسن (علیه السلام) مات في يد الأعداء ومات أبو محمّد الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام) في داره علىٰ فراشه، وجرىٰ في أمره ما قد أوردت الخبر به مسنداً في هذا الكتاب.

فقال قائل منهم: فهلَّا دلَّكم تنازع أُمِّ الحسن وجعفر في ميراثه أنَّه لم يكن له ولد؟ لأنَّا بمثل هذا نعرف من يموت ولا عقب له أنْ لا يظهر ولده ويُقسَّم ميراثه بين ورثته؟

ص: 109


1- وقوله: «فَرِيًّا» أي عظيماً بديعاً أو قبيحاً منكراً، من الافتراء وهو الكذب.

فقيل له: هذه العادة مستفيضة، وذلك أنَّ تدبير الله في أنبيائه ورُسُله وخلفائه ربَّما جرىٰ علىٰ المعهود المعتاد وربَّما جرىٰ بخلاف ذلك، فلا يُحمَل أمرهم في كلِّ الأحوال علىٰ العادات كما لا يُحمَل أمر المسيح (علیه السلام) علىٰ العادات.قال: فإنْ جاز له أنْ يُشَكَّ(1) في هذا لِمَ لا يجوز أنْ نشكَّ في كلِّ من يموت ولا عقب له ظاهر؟

قيل له: لا نشكُّ في أنَّ الحسن (علیه السلام) كان له خلف من عقبه بشهادة من أثبت له ولداً من فضلاء ولد الحسن والحسين (علیهما السلام) والشيعة الأخيار، لأنَّ الشهادة التي يجب قبولها هي شهادة المثبت لا شهادة النافي، وإنْ كان عدد النافين أكثر من عدد المثبتين، ووجدنا لهذا الباب فيما مضىٰ مثالاً وهو قصَّة موسىٰ (علیه السلام)، لأنَّ الله سبحانه لمَّا أراد أنْ يُنجِّي بني إسرائيل من العبوديَّة ويُصيِّر دينه علىٰ يديه غضًّا طريًّا أوحىٰ إلىٰ أُمِّه: «فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ 7» [القَصص: 7]، فلو أنَّ أباه عمران مات في ذلك الوقت لما كان الحكم في ميراثه إلَّا كالحكم في ميراث الحسن (علیه السلام)، ولم يكن في ذلك دلالة علىٰ نفي الولد.

وخفي علىٰ مخالفينا فقالوا: إنَّ موسىٰ في ذلك الوقت لم يكن بحجَّة والإمام عندكم حجَّة، ونحن إنَّما شبَّهنا الولادة والغيبة بالولادة والغيبة، وغيبة يوسف (علیه السلام) أعجب من كلِّ عجب لم يقف علىٰ خبره أبوه وكان بينهما من المسافة ما يجب أنْ لا ينقطع لولا تدبير الله (عزوجل)في خلقه أنْ ينقطع خبره عن أبيه وهؤلاء إخوته دخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون.

وشبَّهنا أمر حياته بقصَّة أصحاب الكهف، فإنَّهم لَبِثُوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً، وهم أحياء.

ص: 110


1- في بعض النُّسَخ: (فإنْ جاز لنا أنْ نشكَّ).

فإنْ قال قائل: إنَّ هذه أُمور قد كانت، ولا دليل معنا علىٰصحَّة ما تقولون.

قيل له: أخرجنا بهذه الأمثلة أقوالنا من حدِّ الإحالة إلىٰ حدِّ الجواز، وأقمنا الأدلَّة علىٰ صحَّة قولنا بأنَّ الكتاب لا يزال معه من عترة الرسول (صلی الله علیه و آله) من يعرف حلاله وحرامه ومحكمه ومتشابهه، وبما أسندناه في هذا الكتاب من الأخبار عن النبيِّ والأئمَّة (صلوات الله عليهم).

فإنْ قال: فكيف التمسُّك به ولا نهتدي إلىٰ مكانه ولا يقدر أحد علىٰ إتيانه؟

قيل له: نتمسَّك بالإقرار بكونه وبإمامته وبالنجباء الأخيار والفضلاء الأبرار القائلين بإمامته، المثبتين لولادته وولايته، المصدِّقين للنبيِّ والأئمَّة (علیهم السلام) في النصِّ عليه باسمه ونَسَبه من أبرار شيعته، العالمين بالكتاب والسُّنَّة، العارفين بوحدانيَّة الله (تعالىٰ ذكره)، النافين عنه شُبَه المحدِّثين المحرِّمين للقياس، المسلِّمين لما يصحُّ وروده عن النبيِّ والأئمَّة (علیهم السلام).

فإنْ قال قائل: فإنْ جاز أنْ يكون نتمسَّك بهؤلاء الذين وصفتهم ويكون تمسُّكنا بهم تمسُّكاً بالإمام الغائب، فلِمَ لا يجوز أنْ يموت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولا يُخلِّف أحداً فيقتصر أُمَّته علىٰ حُجَج العقول والكتاب والسُّنَّة؟

قيل له: ليس الاقتراح علىٰ الله (عزوجل)علينا، وإنَّما علينا فعل ما نُؤمَر به، وقد دلَّت الدلائل علىٰ فرض طاعة هؤلاء الأئمَّة الأحد عشر (علیهم السلام) الذين مضوا ووجب القعود معهم إذا قعدوا والنهوض معهم إذا نهضوا، والإسماع منهم إذا نطقوا، فعلينا أنْ نفعل في كلِّ وقت ما دلَّت الدلائل علىٰ أنَّ علينا أنْ نفعله.

[اعتراض آخر لبعضهم]:

قال بعض الزيديَّة: فإنَّ للواقفة ولغيرهم أنْ يعارضوكم في ادِّعائكم أنَّ

ص: 111

موسىٰ بن جعفر (علیهما السلام) مات، وأنَّكم وقفتم علىٰ ذلك بالعرف والعادة والمشاهدة، وذلك أنَّ الله (عزوجل)قد أخبر في شأن المسيح (علیه السلام) فقال: «وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» [النساء: 157]، وكان عند القوم في حكم المشاهدة والعادة الجارية أنَّهم قد رأوه مصلوباً مقتولاً، فليس بمنكر مثل ذلك في سائر الأئمَّة الذين قال بغيبتهم طائفة من الناس.

الجواب: يقال لهم: ليس سبيل الأئمَّة (علیهم السلام) في ذلك سبيل عيسىٰ بن مريم (علیهما السلام)، وذلك أنَّ عيسىٰ بن مريم ادَّعت اليهود قتله، فكذَّبهم الله (تعالىٰ ذكره) بقوله: «وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ»، وأئمَّتنا (علیهم السلام) لم يرد في شأنهم الخبر عن الله أنَّهم شُبِّهوا وإنَّما قال ذلك قوم من طوائف الغلاة، وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله) بِقَتْلِ أَمِيرِ المؤْمِنِينَ (علیه السلام) بِقَوْلِهِ: «إِنَّهُ سَتُخْضَبُ هَذِهِ مِنْ هَذَا» يعني لحيته من دم رأسه، وأخبر من بعده من الأئمَّة (علیهم السلام) بقتله، وكذلك الحسن والحسين (علیهما السلام) قد أخبر النبيُّ (صلی الله علیه و آله) عن جبرئيل بأنَّهما سيقتلان، وأخبرا عن أنفسهما بأنَّ ذلك سيجري عليهما، وأخبر من بعدهما من الأئمَّة (علیهم السلام) بقتلهما، وكذلك سبيل كلِّ إمام بعدهما من عليِّ بن الحسين إلىٰ الحسن بن عليٍّ العسكري (علیهم السلام) قد أخبر الأوَّل بما يجري علىٰ من بعده وأخبر من بعده بما جرىٰ علىٰ من قبله، فالمخبرون بموت الأئمَّة (علیهم السلام) هم النبيُّ والأئمَّة(علیهم السلام) واحد بعد واحد، والمخبرون بقتل عيسىٰ (علیه السلام) كانت اليهود، فلذلك قلنا: إنَّ ذلك جرىٰ عليهم علىٰ الحقيقة والصحَّة لا علىٰ الحسبان والحيلولة ولا علىٰ الشكِّ والشبهة، لأنَّ الكذب علىٰ المخبرين بموتهم غير جائز، لأنَّهم معصومون وهو علىٰ اليهود جائز.

[شُبُهات من المخالفين ودفعها]:

قال مخالفونا: إنَّ العادات والمشاهدات تدفع قولكم بالغيبة.

ص: 112

فقلنا: إنَّ البراهمة(1) تقدر أنْ تقول مثل ذلك في آيات النبيِّ (صلی الله علیه و آله)، وتقول للمسلمين: إنَّكم بأجمعكم لم تشاهدوها، فلعلَّكم قلَّدتم من لم يجب تقليده أو قبلتم خبراً لم يقطع العذر، ومن أجل هذه المعارضة قالت عامَّة المعتزلة - علىٰ ما يُحكىٰ عنهم -: إنَّه لم تكن للرسول (صلی الله علیه و آله) معجزة غير القرآن، فأمَّا من اعترف بصحَّة الآيات التي هي غير القرآن احتاج إلىٰ أنْ يُطلِق الكلام في جواز كونها بوصف الله (تعالىٰ ذكره) بالقدرة عليها، ثمّ في صحَّة وجود كونها علىٰ أُمور قد وقفنا عليها وهي غير كثيرة الرواة.

فقالت الإماميَّة: فارضوا منَّا بمثل ذلك، وهو أنْ نُصحِّح هذه الأخبار التي تفرَّدنا بنقلها عن أئمَّتنا (علیهم السلام) بأنْ تدلَّ علىٰ جواز كونها بوصف الله (تعالىٰ ذكره) بالقدرة عليها وصحَّة كونها بالأدلَّة العقليَّة والكتابيَّة والأخبار المرويَّة المقبولة عند نقلة العامَّة.

قال الجدليُّ: فنقول: إنَّه ليس بإزائنا جماعة تروي عن نبيِّنا (صلی الله علیه و آله) ضدَّ ما نروي ممَّا يُبطِله ويناقضه، أو يدَّعون أنَّ أوَّلنا ليسكآخرنا؟

فيقال له: ما أنكرت من برهمي قال لك: إنَّ العادات والمشاهدات والطبيعيَّات تمنع أنْ يتكلَّم ذراع مسموم مشوي، وتمنع من انشقاق القمر، وأنَّه لو انشقَّ القمر وانفلق لبطل نظام العالم؟

وأمَّا قوله: (ليس بإزائهم من يدفع أنَّ أوَّلنا ليس كآخرنا)، فإنَّه يقال له: إنَّكم تدفعون عن ذلك أشدّ الدفع، ولو شهد هذه الآيات الخلق الكثير لكان حكمه حكم القرآن، فقد بان أنَّ الجدليَّ مستعمل للمغالطة، مستفرق فيما لم يستفرق.

قال الجدليُّ: أوَتدفعونا عن قولنا: إنَّه كان لنبيِّنا (صلی الله علیه و آله) من الأتباع في حياته وبعد وفاته جماعة لا يحصرهم العدد يروون آياته ويُصحِّحونها؟

ص: 113


1- البراهمة: قوم لا يُجوِّزون علىٰ الله تعالىٰ بعثة الرُّسُل.

فيقال له: إنَّ جماعة لم يحصرهم العدد قد عاينوا آيات رسول الله (صلی الله علیه و آله) التي هي تظليل الغمامة وكلام الذراع المسمومة وحنين الجذع وما في بابه، ولكن هذه عامَّة الأُمَّة تقول: إنَّ هذه آيات رواها نفر يسير في الأصل، فلِمَ ادَّعيت أنَّ أحداً لا يدفعك عن هذه الدعوىٰ؟

قال الجدليُّ: ولمَّا كان هذا هكذا كانت أخبارنا عن آيات نبيِّنا (صلی الله علیه و آله) كالأخبار عن آيات موسىٰ والأخبار عن آيات المسيح التي ادَّعتها النصارىٰ لها ومن أجلها ما ادَّعوا، وكأخبار المجوس والبراهمة عن أيَّام آبائهم وأسلافهم.

قلنا: قد عرفنا أنَّ البراهمة تزعم أنَّ لآبائهم وأسلافهم أمثالاً موجودة ونظائر مشاهدة، فلذلك قبلوه علىٰ طريق الإقناع، وليس هذا ممَّا تُنكِره، وإنَّما عرفناه للوجه الذي من أجله عورض بما عورض به، فليكن منوراء الفصل من حيث طولب(1).

قال الجدليُّ: وبإزاء هذه الفرقة من القطعيَّة جماعات تفضلها وجماعات في مثل حالها تروي عمَّن يسندون إليه الخبر خبرهم في النصِّ ضدَّ ما يروون.

فيقال له: ومن هذه الجماعات التي تفضلها؟ وأين هم في ديار الله؟ وأين يسكنون من بلاد الله؟ أوَما وجب عليك أنْ تعلم أنَّ كتابك يُقرَأ؟ ومن ليس من أهل الصناعة يعلم استعمالك للمغالطة.

قال الجدليُّ: وما كنت أحسب أنَّ امرءاً مسلماً تسمح نفسه بأنْ يجعل الأخبار عن آيات رسول الله (صلی الله علیه و آله) عَروضاً(2) للأخبار في غيبة ابن الحسن بن عليِّ ابن محمّد بن عليِّ بن موسىٰ بن جعفر (علیهم السلام) ويدَّعي تكافؤ التواتر فيهما، والله المستعان.

ص: 114


1- في بعض النُّسَخ: (فليكن من ذكر الفضل...) إلخ.
2- العروض من الكلام، فحواه، يقال: (هذه مسألة عروض هذه)، أي نظيره.

فيقال له: إنَّا قد بيَّنَّا الوجه الذي من أجله ادَّعينا التساوي في هذا الباب وعرَّفناك أنَّ الذي نُسمِّيه الخبر المتواتر هو الذي يرويه ثلاثة أنفس فما فوقهم، وأنَّ الأخبار عن آيات رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الأصل إنَّما يرويها العدد القليل، والمحنة(1) بيننا وبينك أنْ نرجع إلىٰ أصحاب الحديث فنطلب منهم من روىٰ انشقاق القمر وكلام الذراع المسمومة وما يجانس ذلك من آياته، فإنْ أمكنه أنْ يروي كلَّ آية من هذه الآيات عن عشرة أنفس من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) عاينوا أو شاهدوا فالقول قوله، وإلَّا فإنَّ الموافق ادَّعىٰ التكافؤ فيما همامثلان ونظيران ومشبهان، والحمد لله.

وأقول - وبالله التوفيق -: إنَّا قد استُعبدنا بالإقرار بعصمة الإمام كما استُعبدنا بالقول به، والعصمة ليست في ظاهر الخليقة فتُرىٰ وتُشاهَد، ولو أقررنا بإمامة إمام وأنكرنا أنْ يكون معصوماً لم نكن أقررنا به، فإذا جاز أنْ نكون مستعبدين من كلِّ إمام بالإقرار بشيء غائب عن أبصارنا فيه جاز أنْ نُستَعبد بالإقرار بإمامة إمام غائب عن أبصارنا لضرب من ضروب الحكمة يعلمه الله تبارك وتعالىٰ اهتدينا إلىٰ وجهه أو لم نهتدِ ولا فرق.

وأقول أيضاً: إنَّ حال إمامنا (علیه السلام) اليوم في غيبته حال النبيِّ (صلی الله علیه و آله) في ظهوره، وذلك أنَّه (علیه السلام) لمَّا كان بمكَّة لم يكن بالمدينة، ولمَّا كان بالمدينة لم يكن بمكَّة، ولمَّا سافر لم يكن بالحضر، ولمَّا حضر لم يكن في السفر، وكان (علیه السلام) في جميع أحواله حاضراً بمكان غائباً عن غيره من الأماكن، ولم تسقط حجَّته (صلی الله علیه و آله) عن أهل الأماكن التي غاب عنها، فهكذا الإمام (علیه السلام) لا تسقط حجَّته وإنْ كان غائباً عنَّا كما لم تسقط حجَّة النبيِّ (صلی الله علیه و آله) عمَّن غاب عنه، وأكثر ما استُعبد به الناس من شرائط الإسلام وشرائعه فهو مثل ما استُعبدوا به من الإقرار بغيبة

ص: 115


1- في بعض النُّسَخ: (والمجنَّة)، وهي الترس.

الإمام، وذلك أنَّ الله تبارك وتعالىٰ مدح المؤمنين علىٰ إيمانهم بالغيب قبل مدحه لهم علىٰ إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان بسائر ما أنزل الله (عزوجل)علىٰ نبيِّه وعلىٰ من قبله من الأنبياء (صلوات الله عليهم أجمعين) وبالآخرة، فقال: «هُدًى لِلْمُتَّقِينَ 2 الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ 3 وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَوَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ 4 أُولَئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 5» [البقرة: 2 - 5]، وإنَّ النبيَّ (صلی الله علیه و آله) كان يكون بين أصحابه فيُغمىٰ عليه وهو يتصابُّ عرقاً، فإذا أفاق قال: قال الله (عزوجل)كذا وكذا، أمركم بكذا، ونهاكم عن كذا. وأكثر مخالفينا يقولون: إنَّ ذلك كان يكون عند نزول جبرئيل (علیه السلام) عليه، فَسُئِلَ الصَّادِقُ (علیه السلام) عَنِ الْغَشْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَأْخُذُ النَّبِيَّ (صلی الله علیه و آله) أَكَانَتْ تَكُونُ عِنْدَ هُبُوطِ جَبْرَئِيلَ (علیه السلام) فَقَالَ: «لَا، إِنَّ جَبْرَئِيلَ كَانَ إِذَا أَتَىٰ النَّبِيَّ (صلی الله علیه و آله) لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنَهُ، وَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ قَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ قِعْدَةَ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عِنْدَ مُخَاطَبَةِ الله (عزوجل)إِيَّاهُ بِغَيْرِ تَرْجُمَانٍ وَوَاسِطَةٍ».

حَدَّثَنَا بِذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِدْرِيسَ (رضی الله عنه)، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ زَيْدٍ(1)، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عُلْوَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام).

فالناس لم يشاهدوا الله تبارك وتعالىٰ يناجي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويخاطبه، ولا شاهدوا الوحي، ووجب عليهم الإقرار بالغيب الذي لم يشاهدوه وتصديق رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ذلك، وقد أخبرنا الله (عزوجل)في محكم كتابه أنَّه ليس منَّا أحد «يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ 18» [ق: 18]، وقال (تبارک و تعالی): «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ 10 كِرَاماً كاتِبِينَ 11 يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ 12» [الانفطار: 10 - 12]،

ص: 116


1- هو أبو جعفر الزيَّات. وفي بعض النُّسَخ: (محمّد بن الحسين بن يزيد)، ولم أجده.

ونحن لم نرَهم ولم نشاهدهم، ولو لم نوقع التصديق بذلك لكنَّا خارجينمن الإسلام، رادِّين علىٰ الله (تعالىٰ ذكره) قوله، وقد حذَّرنا الله تبارك وتعالىٰ من فتنة الشيطان، فقال: «يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ» [الأعراف: 27]، ونحن لا نراه، ويجب علينا الإيمان بكونه والحذر منه، وقال النبيُّ (صلی الله علیه و آله) في ذكر المسألة في القبر: «إِنَّهُ إِذَا سُئِلَ المَيِّتُ فَلَمْ يَجِبْ بِالصَّوَابِ ضَرَبَهُ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ ضَرْبَةً مِنْ عَذَابِ اللهِ، مَا خَلَقَ اللهُ مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا تَذْعَرُ لَهَا(1) مَا خَلَا الثَّقَلَيْنِ»(2)، ونحن لا نرىٰ شيئاً من ذلك، ولا نشاهده ولا نسمعه، وأخبرنا عنه (علیه السلام) أنَّه عُرِجَ به إلىٰ السماء. ونحن لم نرَ [شيئاً من] ذلك [ولا نشاهده ولا نسمعه].

وأخبرنا (علیه السلام): «مَنْ زَارَ أَخَاهُ فِي اللهِ (عزوجل)شَيَّعَهُ سَبْعُونَ أَلْف مَلَكٍ يَقُولُونَ: أَلَا طِبْتَ وَطَابَتْ لَكَ الْجَنَّةُ»(3)(4)، ونحنلا نراهم ولا نسمع كلامهم ولو لم

ص: 117


1- أي تفزع. وذعرته ذعراً: أفزعته، وقد ذعر فهو مذعور.
2- راجع ما رواه العيَّاشي (رحمة الله) في تفسيره (ج 2/ ص 227 و228/ ح 20)، والطوسي (رحمة الله) في أماليه (ص 347 - 349/ ح 719/59).
3- راجع ما رواه المصنِّف (رحمة الله) في ثواب الأعمال (ص 186)، ومصادقة الإخوان (ص 56/ باب زيارة الإخوان)، والمقنع (ص 229)، وحسين بن سعيد الكوفي (رحمة الله) في كتاب المؤمن (ص 58 و60/ ح 148 و152 - 154)، والحميري (رحمة الله) في قرب الإسناد (ص 36/ ح 116)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 2/ ص 175/ باب زيارة الإخوان)، والمفيد (رحمة الله) في الاختصاص (ص 188).
4- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 71/ ص 342): (قوله: «طبت وطابت لك الجنَّة» أي طهرت من الذنوب والأدناس الروحانيَّة وحلَّت لك الجنَّة ونعيمها، أو دعاء له بالطهارة من الذنوب وتيسُّر الجنَّة له سالماً من الآفات والعقوبات المتقدِّمة عليها، قال في النهاية: قد يرد الطيِّب بمعنىٰ الطاهر، ومنه حديث عليٍّ (علیه السلام) لمَّا مات رسول الله (صلی الله علیه و آله): «بأبي أنت وأُمِّي طبت حيًّا وميِّتاً» أي طهرت، انتهىٰ. وقال الطيِّبي في (شرح المشكاة) في قوله(صلی الله علیه و آله): «طبت وطاب ممشاك»: أصل الطيِّب ما تستلذُّه الحواسُّ والنفس، والطيِّب من الإنسان من تزكَّىٰ عن نجاسة الجهل والفسق، وتحلَّىٰ بالعلم ومحاسن الأفعال. وطبت إمَّا دعاء له بأنْ يطيب عيشه في الدنيا. وطاب ممشاك كناية عن سلوك طريق الآخرة بالتعرِّي عن الرذائل أو خبره بذلك).

نُسلِّم الأخبار الواردة في مثل ذلك وفيما يشبهه من أُمور الإسلام لكنَّا كافرين بها، خارجين من الإسلام.

[مناظرة المؤلِّف مع ملحد عند ركن الدولة]:

ولقد كلَّمني بعض الملحدين في مجلس الأمير السعيد ركن الدولة (رضی الله عنه)، فقال لي: وجب علىٰ إمامكم أنْ يخرج فقد كاد أهل الروم يغلبون علىٰ المسلمين.

فقلت له: إنَّ أهل الكفر كانوا في أيَّام نبيِّنا (صلی الله علیه و آله) أكثر عدداً منهم اليوم، وقد أسرَّ (علیه السلام) أمره وكتمه أربعين سنة بأمر الله (جلَّ ذكره)، وبعد ذلك أظهره لمن وثق به وكتمه ثلاث سنين عمَّن لم يثق به، ثمّ آل الأمر إلىٰ أنْ تعاقدوا علىٰ هجرانه وهجران جميع بني هاشم والمحامين عليه لأجله، فخرجوا إلىٰ الشعب وبقوا فيه ثلاث سنين، فلو أنَّ قائلاً قال في تلك السنين: لِمَ لا يخرج محمّد (صلی الله علیه و آله)، فإنَّه واجب عليه الخروج لغلبة المشركين علىٰ المسلمين، ما كان يكون جوابنا له إِلَّا أَنَّهُ (علیه السلام) بِأَمْرِ الله (تَعَالَىٰ ذِكْرُهُ) خَرَجَ إِلَىٰ الشِّعْبِ حِينَ خَرَجَ، وَبِإِذْنِهِ غَابَ(1)، وَمَتَىٰ أَمَرَهُ بِالظُّهُورِ وَالْخُرُوجِ خَرَجَ وَظَهَرَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ (صلی الله علیه و آله) بَقِيَ فِي الشِّعْبِ هَذِهِ المدَّةَ حَتَّىٰ أَوْحَىٰ الله (عزوجل)إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ بَعَثَ أَرَضَةً عَلَىٰ الصَّحِيفَةِ المكْتُوبَةِ بَيْنَ قُرَيْشٍ فِي هِجْرَانِ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله) وَجَمِيعِ بَنِي هَاشِمٍالمَخْتُومَةِ بِأَرْبَعِينَ خَاتَماً، المعَدَّلَةِ(2) عِنْدَ زَمَعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ، فَأَكَلَتْ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ وَتَرَكَتْ مَا كَانَ فِيهَا مِنِ اسْمِ الله (تبارک و تعالی)، فَقَامَ أَبُو طَالِبٍ فَدَخَلَ مَكَّةَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قُرَيْشٌ قَدَّرُوا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ لِيُسَلِّمَ إِلَيْهِمُ النَّبِيَّ (صلی الله علیه و آله) حَتَّىٰ يَقْتُلُوهُ أَوْ يُرْجِعُوهُ عَنْ نُبُوَّتِهِ، فَاسْتَقْبَلُوهُ وَعَظَّمُوهُ فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ ابْنَ أَخِي محمّد لَمْ أُجَرِّبْ عَلَيْهِ كَذِباً قَطُّ،

ص: 118


1- مثل قوله تعالىٰ: «وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً 10» [المزَّمِّل: 10].
2- كذا، ولعلَّ الصواب: (المحفوظة) أو (المودعة).

وَإِنَّهُ قَدْ أَخْبَرَنِي أَنَّ رَبَّهُ أَوْحَىٰ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ بَعَثَ عَلَىٰ الصَّحِيفَةِ المكْتُوبَةِ بَيْنَكُمْ الْأَرَضَةَ، فَأَكَلَتْ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ وَتَرَكَتْ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ (تبارک و تعالی). فَأَخْرَجُوا الصَّحِيفَةَ وَفَكُّوهَا فَوَجَدُوهَا كَمَا قَالَ، فَآمَنَ بَعْضٌ وَبَقِيَ بَعْضٌ عَلَىٰ كُفْرِهِ، وَرَجَعَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله) وَبَنُو هَاشِمٍ إِلَىٰ مَكَّةَ. هكذا الإمام (علیه السلام) إذا أذن الله له في الخروج خرج.

وشيء آخر، وهو: أنَّ الله (تعالىٰ ذكره) أقدر علىٰ أعدائه الكُفَّار من الإمام، فلو أنَّ قائلاً قال: لِمَ يمهل اللهُ أعداءَه ولا يبيدهم وهم يكفرون به ويشركون؟ لكان جوابنا له: أنَّ الله (تعالىٰ ذكره) لا يخاف الفوت فيعاجلهم بالعقوبة، و«لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ 23» [الأنبياء: 23]، ولا يقال له: لِمَ ولا كيف، وهكذا إظهار الإمام إلىٰ الله الذي غيَّبه فمتىٰ أراده أذن فيه فظهر.

فقال الملحد: لست أُومن بإمام لا أراه ولا تلزمني حجَّته ما لم أرَه.

فقلت له: يجب أنْ تقول: إنَّه لا تلزمك حجَّة الله (تعالىٰ ذكره) لأنَّك لا تراه، ولا تلزمك حجَّة الرسول (صلی الله علیه و آله) لأنَّك لم ترَه.فقال للأمير السعيد ركن الدولة (رضی الله عنه): أيُّها الأمير راع ما يقول هذا الشيخ فإنَّه يقول: إنَّ الإمام إنَّما غاب ولا يُرىٰ لأنَّ الله (عزوجل)لا يُرىٰ.

فقال له الأمير (رحمة الله): لقد وضعت كلامه غير موضعه وتقوَّلت عليه، وهذا انقطاع منك وإقرار بالعجز.

وهذا سبيل جميع المجادلين لنا في أمر صاحب زماننا (علیه السلام) ما يلفظون في دفع ذلك وجحوده إلَّا بالهذيان والوساوس والخرافات المموَّهة.

وذكر أبو سهل إسماعيل بن عليٍّ النوبختي(1) في آخر كتاب (التنبيه):

ص: 119


1- هو إسماعيل بن عليِّ بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت، كان شيخ المتكلِّمين من أصحابنا الإماميَّة ببغداد ووجههم، متقدِّم النوبختيِّين في زمانه، له جلالة في الدِّين والدنيا، يجري مجرىٰ الوزراء، صنَّف كُتُباً كثيرة جملة منها في الردِّ علىٰ أرباب المقالات الفاسدة، وله كتاب (الأنوار في تواريخ الأئمَّة الأطهار (علیهم السلام)، رأىٰ مولانا الحجَّة (علیه السلام) عند وفاة أبيه الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام)، وله احتجاج علىٰ الحلَّاج صار ذلك سبباً لفضيحة الحلَّاج وخذلانه. (الكنىٰ والألقاب للمحدَّث القمِّي (رحمة الله): ج 1/ ص 93 و94).

وكثيراً ما يقول خصومنا: لو كان ما تدَّعون من النصِّ حقًّا لادَّعاه عليٌّ (علیه السلام) بعد مضيِّ النبيِّ (صلی الله علیه و آله).

فيقال لهم: كيف يدَّعيه فيقيم نفسه مقام مدَّعٍ يحتاج إلىٰ شهود علىٰ صحَّة دعواه وهم لم يقبلوا قول النبيِّ (صلی الله علیه و آله)، فكيف يقبلون دعواه لنفسه؟ وتخلُّفه عن بيعة أبي بكر ودفنه فاطمة (علیها السلام) من غير أنْيُعرِّفهم جميعاً خبرها حتَّىٰ دفنها سرًّا أدلّ دليل علىٰ أنَّه لم يرضَ بما فعلوه.

فإنْ قالوا: فلِمَ قبلها بعد عثمان؟

قيل لهم: أعطوه بعض ما وجب له فقبله، وكان في ذلك مثل النبيِّ (صلی الله علیه و آله) حين قبل المنافقين والمؤلِّفة قلوبهم.

وربَّما قال خصومنا - إذا عضَّهم الحجاج(1) ولزمتهم الحجَّة في أنَّه لا بدَّ من إمام منصوص عليه، عالم بالكتاب والسُّنَّة، مأمون عليهما، لا ينساهما ولا يغلط فيهما، ولا تجوز مخالفته، واجب الطاعة بنصِّ الأوَّل عليه -: فمن هو هذا الإمام سمُّوه لنا ودلُّونا عليه؟

فيقال لهم: هذا كلام في الأخبار وهو انتقال من الموضع الذي تكلَّمنا فيه، لأنَّا إنَّما تكلَّمنا فيما توجبه العقول إذا مضىٰ النبيُّ (علیه السلام)، وهل يجوز أنْ لا يستخلف وينصَّ علىٰ إمام بالصفة التي ذكرناها؟ فإذا ثبت ذلك بالأدلَّة فعلينا وعليهم التفتيش عن عين الإمام في كلِّ عصر من قِبَل الأخبار ونقل الشيع النصَّ

ص: 120


1- عضَّ الرجل بصاحبه يعضُّ عضيضاً، أي لزمه. (الصحاح: ج 3/ ص 1092/ مادَّة عضض).

علىٰ عليٍّ (علیه السلام) وهم الآن من الكثرة واختلاف الأوطان والهمم علىٰ ما هم عليه يوجب العلم والعمل لاسيّما وليس بإزائهم فرقة تدَّعي النصَّ لرجل بعد النبيِّ (صلی الله علیه و آله) غير عليٍّ (علیه السلام)، فإنْ عارضونا بما يدَّعيه أصحاب زرادشت(1) وغيرهم من المبطلين.

قيل لهم: هذه المعارضة تلزمكم في آيات النبيِّ (صلی الله علیه و آله)،فإذا انفصلتم بشيء فهو فصلنا، لأنَّ صورة الشيع في هذا الوقت كصورة المسلمين في الكثرة، فإنَّهم لا يتعارفون وأنَّ أسلافهم يجب أنْ يكونوا كذلك(2)، بل أخبار الشيع أوكد لأنَّه ليس معهم دولة ولا سيف ولا رهبة ولا رغبة وإنَّما تُنقَل الأخبار الكاذبة لرغبة أو رهبة أو حمل عليها بالدُّوَل، وليس في أخبار الشيعة شيء من ذلك، وإذا صحَّ بنقل الشيعة النصَّ من النبيِّ (صلی الله علیه و آله) علىٰ عليٍّ (علیه السلام) صحَّ بمثل ذلك نقلها النصَّ من عليٍّ علىٰ الحسن، ومن الحسن علىٰ الحسين، ثمّ علىٰ إمام إمام إلىٰ الحسن بن عليٍّ، ثمّ علىٰ الغائب الإمام بعده (علیهم السلام)، لأنَّ رجال أبيه الحسن (علیه السلام) الثقات كلُّهم قد شهدوا له بالإمامة، وغاب (علیه السلام) لأنَّ السلطان طلبه طلباً ظاهراً، ووكَّل بمنازله وحرمه سنتين.

فلو قلت: إنَّ غيبة الإمام (علیه السلام) في هذا العصر من أدلّ الأدلَّة علىٰ صحَّة الإمامة.

قلت: صدقاً لصدق الأخبار المتقدِّمة في ذلك وشهرتها.

وقد ذكر بعض الشيعة ممَّن كان في خدمة الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام) وأحد ثقاته أنَّ السبب بينه وبين ابن الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام) متَّصل، وكان يخرج من كُتُبه وأمره ونهيه علىٰ يده إلىٰ شيعته إلىٰ أنْ تُوفِّي وأوصىٰ إلىٰ رجل من الشيعة مستور، فقام مقامه في هذا الأمر.

ص: 121


1- كناية عن المخالفين للحقِّ. وزرادشت رئيس مذهب المجوس.
2- في بعض النُّسَخ: (وإنَّ إسلامهم يجب أنْ يكون كذلك).

وقد سألونا في هذه الغيبة(1) وقالوا: إذا جاز أنْ يغيب الإمام ثلاثين سنة وما أشبهها فما تُنكِرون من رفع عينه عن العالم؟

فيقال لهم: في ارتفاع عينه ارتفاع الحجَّة من الأرض وسقوطالشرائع إذا لم يكن لها من يحفظها، وأمَّا إذا استتر الإمام للخوف علىٰ نفسه بأمر الله (عزوجل)وكان له سبب معروف متَّصل به وكانت الحجَّة قائمة إذ كانت عينه موجودة في العالم وبابه وسببه معروفان وإنَّما عُدِمَ إفتائه وأمره ونهيه ظاهراً وليس في ذلك بطلان للحجَّة، ولذلك نظائر قد أقام النبيُّ (صلی الله علیه و آله) في الشعب مدَّة طويلة وكان يدعو الناس في أوَّل أمره سرًّا إلىٰ أنْ أمن وصارت له فئة، وهو في كلِّ ذلك نبيٌّ مبعوث مرسَل فلم يُبطِل توقِّيه وتستُّره من بعض الناس بدعوته نبوَّته ولا أدحض ذلك حجَّته، ثمّ دخل (علیه السلام) الغار فأقام فيه فلا يعرف أحد موضعه ولم يُبطِل ذلك نبوَّته، ولو ارتفعت عينه لبطلت نبوَّته، وكذلك الإمام يجوز أنْ يحبسه السلطان المدَّة الطويلة ويمنع من لقائه حتَّىٰ لا يفتي ولا يُعلِّم ولا يُبيِّن، والحجَّة قائمة ثابتة واجبة وإنْ لم يفتِ ولم يُبيِّن، لأنَّه موجود العين في العالم، ثابت الذات، ولو أنَّ نبيًّا أو إماماً لم يُبيِّن ويُعلِّم ويفتِ(2) لم تبطل نبوَّته ولا إمامته ولا حجَّته، ولو ارتفعت ذاته لبطلت الحجَّة، وكذلك يجوز أنْ يستتر الإمام المدَّة الطويلة إذا خاف ولا تبطل حجَّة الله (تبارک و تعالی).

فإنْ قالوا: فكيف يصنع من احتاج إلىٰ أنْ يسأل عن مسألة؟

قيل له: كما كان يصنع والنبيُّ (صلی الله علیه و آله) في الغار من جاء إليه ليسلم وليتعلَّم منه، فإنْ كان ذلك سائغاً في الحكمة كان هذا مثله سائغاً.

ومن أوضح الأدلَّة علىٰ الإمامة أنَّ الله (عزوجل)جعل آية النبيِّ (صلی الله علیه و آله) أنَّه أتىٰ

ص: 122


1- في بعض النُّسَخ: (وقد سألونا في ذلك).
2- في بعض النُّسَخ: (ويقل).

بقَصص الأنبياء الماضين(علیهم السلام) وبكلِّ علم [من] توراة وإنجيل وزبور من غير أنْ يكون يعلم الكتابة ظاهراً، أو لقي نصرانيًّا أو يهوديًّا، فكان ذلك أعظم آياته، وقُتِلَ الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) وخلَّف عليَّ بن الحسين (علیهما السلام) متقارب السنِّ كانت سنُّه أقلّ من عشرين سنة، ثمّ انقبض عن الناس فلم يلقَ أحداً ولا كان يلقاه إلَّا خواصّ أصحابه وكان في نهاية العبادة ولم يخرج عنه من العلم إلَّا يسيراً لصعوبة الزمان وجور بني أُميَّة، ثمّ ظهر ابنه محمّد بن عليٍّ المسمَّىٰ بالباقر (علیه السلام) لفتقه العلم(1) فأتىٰ من علوم الدِّين والكتاب والسُّنَّة والسِّيَر والمغازي بأمر عظيم، وأتىٰ جعفر بن محمّد (علیهما السلام) من بعده من ذلك بما كثر وظهر وانتشر، فلم يبقَ فنٌّ في فنون العلم إلَّا أتىٰ فيه بأشياء كثيرة، وفسَّر القرآن والسُّنَن، ورُويت عنه المغازي وأخبار الأنبياء من غير أنْ يرىٰ هو وأبوه محمّد بن عليٍّ أو عليُّ بن الحسين (علیهم السلام) عند أحد من رواة العامَّة أو فقهائهم يتعلَّمون منهم شيئاً، وفي ذلك أدلّ دليل علىٰ أنَّهم إنَّما أخذوا ذلك العلم عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله)، ثمّ عن عليٍّ (علیه السلام)، ثمّ عن واحد واحد من الأئمَّة، وكذلك جماعة الأئمَّة (علیهم السلام) هذه سنَّتهم في العلم(2) يُسئَلون عن الحلال والحرام فيجيبون جوابات متَّفقة من غير أنْ يتعلَّموا ذلك من أحد من الناس، فأيُّ دليل أدلّ من هذا علىٰ إمامتهم وأنَّ النبيَّ (صلی الله علیه و آله) نصبهم وعلَّمهم وأودعهم علمه وعلوم الأنبياء (علیهم السلام) قبله؟ وهل رأينا في العادات من ظهر عنه مثل ما ظهر عن محمّد بن عليٍّ وجعفر بن محمّد (علیهم السلام) من غير أنْ يتعلَّمواذلك من أحد من الناس؟

فإنْ قال قائل: لعلَّهم كانوا يتعلَّمون ذلك سرًّا.

قيل لهم: قد قال مثل ذلك الدهريَّة في النبيِّ (صلی الله علیه و آله) أنَّه كان يتعلَّم الكتابة

ص: 123


1- في بعض النُّسَخ: (لبقره العلم).
2- في بعض النُّسَخ: (سبيلهم في العلم).

ويقرأ الكتاب سرًّا. وكيف يجوز أنْ يُظَنَّ ذلك بمحمّد بن عليٍّ وجعفر بن محمّد ابن عليٍّ (علیهم السلام) وأكثر ما أتوا به لا يُعرَف إلَّا منهم، ولا سُمِعَ من غيرهم؟

وقد سألونا فقالوا: ابن الحسن لم يظهر ظهوراً تامًّا للخاصَّة والعامَّة، فمن أين علمتم وجوده في العالم؟ وهل رأيتموه أو أخبرتكم جماعة [قد] تواترت أخبارها أنَّها شاهدته وعاينته؟

فيقال لهم: إنَّ أمر الدِّين كلَّه بالاستدلال يُعلَم، فنحن عرفنا الله (عزوجل)بالأدلَّة ولم نشاهده، ولا أخبرنا عنه من شاهده، وعرفنا النبيَّ (صلی الله علیه و آله) وكونه في العالم بالأخبار، وعرفنا نبوَّته وصدقه بالاستدلال، وعرفنا أنَّه استخلف عليَّ بن أبي طالب (علیه السلام) بالاستدلال، وعرفنا أنَّ النبيَّ (صلی الله علیه و آله) وسائر الأئمَّة (علیهم السلام) بعده عالمون بالكتاب والسُّنَّة ولا يجوز عليهم في شيء من ذلك الغلط ولا النسيان ولا تعمُّد الكذب بالاستدلال، وكذلك عرفنا أنَّ الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام) إمام مفترض الطاعة، وعلمنا بالأخبار المتواترة عن الأئمَّة الصادقين (علیهم السلام) أنَّ الإمامة لا تكون بعد كونها في الحسن والحسين (علیهما السلام) إلَّا في ولد الإمام ولا يكون في أخ ولا قرابة، فوجب من ذلك أنَّ الإمام لا يمضي إلَّا أنْ يُخلِّف من ولده إماماً(1)، فلمَّاصحَّت إمامة الحسن (علیه السلام) وصحَّت وفاته ثبت أنَّه قد خلَّف من ولده إماماً، هذا وجه من الدلالة عليه.

ووجه آخر: وهو أنَّ الحسن (علیه السلام) خلَّف جماعة من ثقاته ممَّن يروي(2) عنه الحلال والحرام ويُؤدِّي كُتُب شيعته وأموالهم ويُخرجون الجوابات، وكانوا بموضع من الستر(3) والعدالة بتعديله إيَّاهم في حياته، فلمَّا مضىٰ أجمعوا جميعاً علىٰ

ص: 124


1- في بعض النُّسَخ: (من بعده إماماً).
2- في بعض النُّسَخ: (يُؤدِّي عنه الحلال).
3- في بعض النُّسَخ: (في الستر).

أنَّه قد خلَّف ولداً هو الإمام وأمروا الناس أنْ لا يسألوا عن اسمه وأنْ يستروا ذلك من أعدائه، وطلبه السلطان أشدّ طلب ووكَّل بالدور والحبالىٰ من جواري الحسن (علیه السلام)، ثمّ كانت كُتُب ابنه الخلف بعده تخرج إلىٰ الشيعة بالأمر والنهي علىٰ أيدي رجال أبيه الثقات أكثر من عشرين سنة، ثمّ انقطعت المكاتبة ومضىٰ أكثر رجال الحسن (علیه السلام) الذين كانوا شهدوا بأمر الإمام بعده وبقي منهم رجل واحد قد أجمعوا علىٰ عدالته وثقته، فأمر الناس بالكتمان وأنْ لا يذيعوا شيئاً من أمر الإمام، وانقطعت المكاتبة، فصحَّ لنا ثبات عين الإمام بما ذكرت من الدليل، وبما وصفت عن أصحاب الحسن (علیه السلام) ورجاله ونقلهم خبره، وصحَّة غيبته بالأخبار المشهورة في غيبة الإمام (علیه السلام) وأنَّ له غيبتين إحداهما أشدّ من الأُخرىٰ.

ومذهبنا في غيبة الإمام في هذا الوقت لا يشبه مذهب الممطورة(1)في موسىٰ بن جعفر، لأنَّ موسىٰ مات ظاهراً ورآه الناس ميِّتاً ودُفِنَ دفناً مكشوفاً ومضىٰ لموته أكثر من مائة سنة وخمسين سنة لا يدَّعي أحد أنَّه يراه ولا يكاتبه ولا يراسله، ودعواهم أنَّه حيٌّ فيه إكذاب الحواسِّ التي شاهدته ميِّتاً، وقد قام بعده عدَّة أئمَّة، فأتوا من العلوم بمثل ما أتىٰ به موسىٰ (علیه السلام).

ص: 125


1- المراد بالممطورة: الواقفيَّة. كما في مجمع البحرين (ج 3/ ص 483)، قال فيه: والممطر - كمنبر - ما يُلبَس في المطر يُتوقَّىٰ به. والممطورة: الكلاب المبتلَّة بالمطر. وقال أبو محمّد الحسن بن موسىٰ النوبختي في كتابه فِرَق الشيعة (ص 81 و82): (وقد لقَّب الواقفة بعض مخالفيها ممَّن قال بإمامة عليِّ بن موسىٰ (الممطورة)، وغلب عليها هذا الاسم وشاع لها. وكان سبب ذلك أنَّ عليَّ بن إسماعيل الميثمي ويونس بن عبد الرحمن ناظرا بعضهم، فقال له عليُّ بن إسماعيل - وقد اشتدَّ الكلام بينهم -: ما أنتم إلَّا كلاب ممطورة. أراد أنَّكم أنتن من جيف، لأنَّ الكلاب إذا أصابها المطر فهي أنتن من الجيف. فلزمهم هذا اللقب، فهم يُعرَفون به اليوم، لأنَّه إذا قيل للرجل: إنَّه ممطور فقد عُرِفَ أنَّه من الواقفة علىٰ موسىٰ بن جعفر (علیهما السلام) خاصَّة، لأنَّ كلَّ من مضىٰ منهم فله واقفة قد وقفت عليه، وهذا اللقب لأصحاب موسىٰ خاصَّة) انتهىٰ.

وليس في دعوانا هذه - غيبة الإمام - إكذاب للحسِّ، ولا محال، ولا دعوىٰ تُنكِرها العقول، ولا تخرج من العادات، وله إلىٰ هذا الوقت من يدَّعي من شيعته الثقات المستورين أنَّه باب إليه وسبب يُؤدِّي عنه إلىٰ شيعته أمره ونهيه، ولم تطل المدَّة في الغيبة طولاً يخرج من عادات من غاب، فالتصديق بالأخبار يوجب اعتقاد إمامة ابن الحسن (علیه السلام) علىٰ ما شرحت، وأنَّه قد غاب كما جاءت الأخبار في الغيبة، فإنَّها جاءت مشهورة متواترة، وكانت الشيعة تتوقَّعها وتترجَّاها(1) كما ترجون بعد هذا من قيام القائم (علیه السلام) بالحقِّ وإظهار العدل. ونسأل الله (عزوجل)توفيقاً وصبراً جميلاً برحمته.

وقال أبو جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي في نقضكتاب (الإشهاد) لأبي زيد العلوي: قال صاحب الكتاب بعد أشياء كثيرة ذكرها لا منازعة فيها: وقالت الزيديَّة والمؤتمَّة(2): الحجَّة من ولد فاطمة بِقَوْلِ الرَّسُولِ المُجْمَعِ عَلَيْهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَيَوْمَ خَرَجَ إِلَىٰ الصَّلَاةِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ : «أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمْ كِتَابَ الله وعِتْرَتِي، أَلَا إِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، أَلَا وَإِنَّكُمْ لَنْ تَضِلُّوا مَا اسْتَمْسَكْتُمْ بِهِمَا». ثمّ أكَّد صاحب الكتاب هذا الخبر وقال فيه قولاً لا مخالفة فيه، ثمّ قال بعد ذلك: إنَّ المؤتمَّة خالفت الإجماع وادَّعت الإمامة في بطن من العترة ولم توجبها لسائر العترة(3)، ثمّ لرجل من ذلك البطن في كلِّ عصر.

فأقول - وبالله الثقة -: إنَّ في قول النبيِّ (صلی الله علیه و آله) علىٰ ما يقول الإماميَّة دلالة واضحة، وذلك أَنَّ النَّبِيَّ (صلی الله علیه و آله) قَالَ: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا،

ص: 126


1- في بعض النُّسَخ: (تتوخَّاها).
2- يعني الإماميَّة - الاثني عشريَّة -.
3- يريد أنَّ لفظ (العترة) عامٌّ يشملهم جميعاً، فجميع العترة داخل.

كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي »، دلَّ علىٰ أنَّ الحجَّة من بعده ليس من العجم ولا من سائر قبائل العرب، بل من عترته أهل بيته، ثمّ قرن قوله بما دلَّ [به] علىٰ مراده فقال: «ألَا وإنَّهما لن يفترقا حتَّىٰ يردا عليَّ الحوض»، فأعلمنا أنَّ الحجَّة من عترته لا تفارق الكتاب، وإنَّا متىٰ تمسَّكنا بمن لا يفارق الكتاب لن نضلَّ، ومن لا يفارق الكتاب ممَّن فرض علىٰ الأُمَّة أنْ يتمسَّكوا به، ويجب في العقول أنْ يكون عالماً بالكتاب، مأموناً عليه، يعلم ناسخه من منسوخه، وخاصَّه من عامِّه، وحتمه من ندبه، ومحكمه من متشابهه، ليضع كلَّشيء من ذلك موضعه الذي وضعه الله (تبارک و تعالی)، لا يُقدِّم مؤخَّراً ولا يُؤخِّر مقدَّماً. ويجب أنْ يكون جامعاً لعلم الدِّين كلِّه ليمكن التمسُّك به والأخذ بقوله فيما اختلفت فيه الأُمَّة وتنازعته من تأويل الكتاب والسُّنَّة، ولأنَّه إنْ بقي منه شيء لا يعلمه لم يمكن التمسُّك به، ثمّ متىٰ كان بهذا المحلِّ أيضاً لم يكن مأموناً علىٰ الكتاب، ولم يؤمن أنْ يغلط فيضع الناسخ منه مكان المنسوخ، والمحكم مكان المتشابه، والندب مكان الحتم، إلىٰ غير ذلك ممَّا يكثر تعداده، وإذا كان [هذا] هكذا صار الحجَّة والمحجوج سواء، وإذا فسد هذا القول صحَّ ما قالت الإماميَّة من أنَّ الحجَّة من العترة لا يكون إلَّا جامعاً لعلم الدِّين معصوماً مؤتمنا علىٰ الكتاب، فإنْ وجدت الزيديَّة في أئمَّتها من هذه صفته فنحن أوَّل من ينقاد له، وإنْ تكن الأُخرىٰ فالحقُّ أولىٰ ما اتُّبع.

وقال شيخ من الإماميَّة: إنَّا لم نقل: إنَّ الحجَّة من ولد فاطمة (علیها السلام) قولاً مطلقاً، وقلناه بتقييد وشرائط، ولم نحتجّ لذلك بهذا الخبر فقط، بل احتججنا به وبغيره، فأوَّل ذلك أنَّا وجدنا النبيَّ (صلی الله علیه و آله) قد خصَّ من عترته أهل بيته أمير المؤمنين والحسن والحسين (علیهم السلام) بما خصَّ به ودلَّ علىٰ جلالة خطرهم وعظم شأنهم وعلوِّ حالهم عند الله (عزوجل)بما فعله بهم في الموطن بعد الموطن والموقف بعد الموقف ممَّا شهرته تُغني عن ذكره بيننا وبين الزيديَّة، ودلَّ الله تبارك وتعالىٰ علىٰ ما

ص: 127

وصفناه من علوِّ شأنهم بقوله: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً 33» [الأحزاب: 33]، وبسورة هل أتىٰ وما يشاكل ذلك، فلمَّا قدَّم (علیه السلام) هذه الأُمور وقرَّر عند أُمَّته أنَّه ليس في عترته من يتقدَّمهم في المنزلة والرفعة ولم يكن (علیه السلام) ممَّن يُنسَبإلىٰ المحاباة ولا ممَّن يُولِّي ويُقدِّم إلَّا علىٰ الدِّين علمنا أنَّهم (علیهم السلام) نالوا ذلك منه استحقاقاً بما خصَّهم به، فلمَّا قال بعد ذلك كلّه: «قَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمْ كِتَابَ الله وَعِتْرَتِي » علمنا أنَّه عنىٰ هؤلاء دون غيرهم، لأنَّه لو كان هناك من عترته من له هذه المنزلة لخصَّه (علیه السلام) ونبَّه علىٰ مكانه، ودلَّ علىٰ موضعه لئلَّا يكون فعله بأمير المؤمنين والحسن والحسين (علیهم السلام) محاباةً، وهذا واضح، والحمد لله، ثمّ دلَّنا علىٰ أنَّ الإمام بعد أمير المؤمنين الحسن باستخلاف أمير المؤمنين (علیه السلام) إيَّاه واتِّباع أخيه له طوعاً.

وأمَّا قوله: (إنَّ المؤتمَّة خالفت الإجماع وادَّعت الإمامة في بطن من العترة)، فيقال له: ما هذا الإجماع السابق الذي خالفناه فإنَّا لا نعرفه، اللَّهُمَّ إلَّا أنْ تُجعَل مخالفة الإماميَّة للزيديَّة خروجاً من الإجماع، فإنْ كنت إلىٰ هذا تومئ فليس يتعذَّر علىٰ الإماميَّة أنْ تنسبك إلىٰ مثل ما نسبتها إليه وتدَّعي عليك من الإجماع مثل الذي ادَّعيته عليها. وبعد فأنت تقول: إنَّ الإمامة لا تجوز(1) إلَّا لولد الحسن والحسين (علیهما السلام)، فبيِّن لنا لِمَ خصَّصت ولدهما دون سائر العترة لنُبيِّن لك بأحسن من حجَّتك ما قلناه، وسيأتي البرهان في موضعه إنْ شاء الله.

ثمّ قال صاحب الكتاب: وقالت الزيديَّة: الإمامة جائزة للعترة وفيهم لدلالة رسول الله (صلی الله علیه و آله) عليهم عامًّا لم يُخصِّص بها بعضاً دون بعض، ولقول الله (عزوجل)لهم دون غيرهم بإجماعهم: «أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ...» الآية [فاطر: 32].

ص: 128


1- في بعض النُّسَخ: (لا تكون).

فأقول - وبالله التوفيق -: قد غلط صاحب الكتاب فيما حكىٰ،لأنَّ الزيديَّة إنَّما تُجيز الإمامة لولد الحسن والحسين (علیهما السلام)(1) خاصَّة، والعترة في اللغة العمُّ وبنو العمِّ، الأقرب فالأقرب، وما عرف أهل اللغة قطُّ ولا حكىٰ عنهم أحد أنَّهم قالوا: العترة لا تكون إلَّا ولد الابنة من ابن العمِّ، هذا شيء تمنَّته الزيديَّة وخدعت به أنفسها وتفرَّدت بادِّعائه بلا بيان ولا برهان، لأنَّ الذي تدَّعيه ليس في العقل ولا في الكتاب ولا في الخبر ولا في شيء من اللغات، وهذه اللغة وهؤلاء أهلها فاسألوهم يُبيَّن لكم أنَّ العترة في اللغة الأقرب فالأقرب من العمِّ وبني العمِّ.

فإنْ قال صاحب الكتاب: فلِمَ زعمت أنَّ الإمامة لا تكون(2) لفلان وولده، وهم من العترة عندك؟

قلنا له: نحن لم نقل هذا قياساً وإنَّما قلناه اتِّباعاً لما فعله (صلی الله علیه و آله) بهؤلاء الثلاثة(3) دون غيرهم من العترة، ولو فعل بفلان(4) ما فعله بهم لم يكن عندنا إلَّا السمع والطاعة.

وأمَّا قوله: إنَّ الله تبارك وتعالىٰ قال: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ...» الآية.

فيقال له: قد خالفك خصومك من المعتزلة وغيرهم في تأويل هذه الآية، وخالفتك الإماميَّة وأنت تعلم من السابق بالخيرات عند الإماميَّة، وأقلّ ما كان

ص: 129


1- في مقولة المترجم في الكتاب المسمَّىٰ بنامهى دانشوران (ج 4/ ص 278): (الزيديَّة إنَّما تُجيز الإمامة لولد الحسين (علیه السلام).
2- في بعض النُّسَخ: (لا تجوز).
3- يعني أمير المؤمنين والسبطين (علیهم السلام).
4- أي لو فعل رسول الله (صلی الله علیه و آله) مثلاً بعبَّاس وولديه عبد الله والفضل ما فعل بهؤلاء الثلاثة لم يكن... إلخ.

يجب عليك - وقد ألَّفت كتابك هذا لتُبيِّن الحقَّ وتدعوإليه - أنْ تُؤيِّد الدعوىٰ بحجَّة، فإنْ لم تكن فإقناع، فإنْ لم يكن فترك الاحتجاج(1) بما لم يمكنك أنْ تُبيِّن أنَّه حجَّة لك دون خصومك، فإنَّ تلاوة القرآن وادِّعاء تأويله بلا برهان أمر لا يعجز عنه أحد، وقد ادَّعىٰ خصومنا وخصومك أنَّ قول الله (تبارک و تعالی): «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ...» الآية [آل عمران: 110]، هم جميع علماء الأُمَّة، وأنَّ سبيل علماء العترة وسبيل علماء المرجئة سبيل واحد، وأنَّ الإجماع لا يتمُّ والحجَّة لا تثبت بعلم العترة، فهل بينك وبينها فصل؟ وهل تقنع منها بما ادَّعت أو تسألها البرهان؟ فإنْ قال: بل أسألها البرهان، قيل له: فهاتِ برهانك أوَّلاً علىٰ أنَّ المعنيَّ بهذه الآية التي تلوتها هم العترة، وأنَّ العترة هم الذرّيَّة، وأنَّ الذرّيَّة هم ولد الحسن والحسين (علیهما السلام) دون غيرهم من ولد جعفر وغيره ممَّن أُمَّهاتهم فاطميَّات.

ثمّ قال: ويقال للمؤتمَّة: ما دليلكم علىٰ إيجاب الإمامة لواحد دون الجميع وحظرها علىٰ الجميع، فإنْ اعتلُّوا بالوارثة والوصيَّة، قيل لهم: هذه المغيريَّة(2)

ص: 130


1- يعني إنْ لم تكن حجَّة فبدليل إقناعي، وإنْ لم يكن دليل إقناعي فترك الاحتجاج بما ليس لك حجَّة، بل يمكن أنْ يكون حجَّة لخصومك.
2- المغيريَّة هم أصحاب المغيرة بن سعيد العجلي مولىٰ بجيلة الذي خرج بظاهر الكوفة في إمارة خالد بن عبد الله القسري، فظفر به وأحرقه وأحرق أصحابه سنة (119ه) كما في تاريخ الطبري (ج 5/ ص 456)، وقد تظافرت الروايات بكونه كذَّاباً، وروىٰ الكشِّي (رحمة الله) روايات كثيرة في ذمِّه. (راجع: اختيار معرفة الرجال: ج 2/ ص 489 - 494). وهو وأصحابه أنكروا إمامة أبي عبد الله جعفر بن محمّد (علیهما السلام)، وقالوا بإمامة محمّد بن عبد الله بن الحسن، فلمَّا قُتِلَ صاروا لا إمام لهم ولا وصيَّ ولا يُثبِتون لأحد إمامة بعد. وفي بعض النُّسَخ المصحَّحة (المفترية)، وفى هامشه: (اعلم أنَّ الفرق بين المفترية والزيديَّة أنَّ المفترية لا يقولون بإمامة الحسين بعد أخيه الحسن (علیهما السلام)، بل يقولون: إنَّ الإمام بعد الحسن (علیه السلام) ابنه الحسن المثنَّىٰ، والزيديَّة قائلون بإمامة عليِّ بن الحسين من بعد أبيه، لكن لم يقولوا بإمامة محمّد بن عليِّ بن الحسين (علیهم السلام)، بل قائلون بإمامة زيد بن عليِّ بن الحسين (علیهما السلام) بعد أبيه، وأيضاً قائلون بإمامة ولد الحسن من كان منهم ادَّعىٰ الإمامة. انتهىٰ. وفى بعض النُّسَخ: (المعترية).

تدَّعي الإمامة لولد الحسن ثمّ في بطن من ولد الحسن بنالحسن في كلِّ عصر وزمان بالوارثة والوصيَّة من أبيه وخالفوكم بعد فيما تدَّعون كما خالفتم غيركم فيما يدَّعي.

فأقول - وبالله الثقة -: الدليل علىٰ أنَّ الإمامة لا تكون إلَّا لواحد أنَّ الإمام لا يكون إلَّا الأفضل، والأفضل يكون علىٰ وجهين: إمَّا أنْ يكون أفضل من الجميع أو أفضل من كلِّ واحد من الجميع، فكيف كانت القصَّة فليس يكون الأفضل إلَّا واحداً لأنَّه من المحال أنْ يكون أفضل من جميع الأُمَّة أو من كلِّ واحد من الأُمَّة وفي الأُمَّة من هو أفضل منه، فلمَّا لم يجز هذا وصحَّ بدليل تعترف الزيديَّة بصحَّته أنَّ الإمام لا يكون إلَّا الأفضل صحَّ أنَّها لا تكون إلَّا لواحد في كلِّ عصر، والفصل فيما بيننا وبين المغيريَّة سهل واضح قريب والمنَّة لله، وهو أنَّ النبيَّ (صلی الله علیه و آله) دلَّ علىٰ الحسن والحسين (علیهما السلام) دلالة بيِّنة وبان بهما من سائر العترة بما خصَّهما به ممَّا ذكرناه ووصفناه، فلمَّا مضىٰ الحسن كان الحسين أحقّ وأولىٰ بدلالة الحسن لدلالة الرسول (صلی الله علیه و آله) عليه واختصاصه إيَّاه وإشارته إليه، فلو كان الحسن أوصىٰ بالإمامة إلىٰ ابنه لكان مخالفاً للرسول (صلی الله علیه و آله) وحاشا له من ذلك. وبعد فلسنا نشكُّ ولا نرتاب في أنَّ الحسين (علیه السلام) أفضل من الحسن بن الحسن بن عليٍّ، والأفضل هو الإمام علىٰ الحقيقة عندنا وعند الزيديَّة، فقدتبيَّن لنا بما وصفنا كذب المغيريَّة وانتقض الأصل الذي بنوا عليه مقالتهم، ونحن لم نخصّ عليَّ بن الحسين بن عليٍّ (علیهم السلام) بما خصَّصناه به محاباةً، ولا قلَّدنا في ذلك أحداً، ولكنَّ الأخبار قرعت سمعنا فيه بما لم تقرع في الحسن بن الحسن.

ودلَّنا علىٰ أنَّه أعلم منه ما نُقِلَ(1) من علم الحلال والحرام عنه، وعن

ص: 131


1- في بعض النُّسَخ: (ما فضل).

الخلف من بعده، وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، ولم نسمع للحسن بن الحسن بشيء يمكننا أنْ نقابل بينه وبين من سمعناه من علم عليِّ بن الحسين (علیهما السلام)، والعالم بالدِّين أحقّ بالإمامة ممَّن لا علم له، فإنْ كنتم يا معشر الزيديَّة عرفتم للحسن بن الحسن علماً بالحلال والحرام فأظهروه، وإنْ لم تعرفوا له ذلك فتفكَّروا في قول الله (تبارک و تعالی): «أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَىٰ الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ 35» [يونس: 35]، فلسنا ندفع الحسن بن الحسن عن فضل وتقدُّم وطهارة وزكاة وعدالة، والإمامة لا يتمُّ أمرها إلَّا بالعلم بالدِّين والمعرفة بأحكام ربِّ العالمين وبتأويل كتابه، وما رأينا إلىٰ يومنا هذا ولا سمعنا بأحد قالت الزيديَّة بإمامته إلَّا وهو يقول في التأويل - أعني تأويل القرآن - علىٰ الاستخراج وفي الأحكام علىٰ الاجتهاد والقياس، وليس يمكن معرفة تأويل القرآن بالاستنباط(1) لأنَّ ذلك كان ممكناً لو كان القرآن إنَّما أُنزل بلغة واحدة، وكان علماء أهل تلك اللغة يعرفون المراد، فأمَّا القرآن قد نزل بلغات كثيرة، وفيه أشياء لا يُعرَف المراد منها إلَّا بتوقيف مثل الصلاةوالزكاة والحجِّ(2) وما في هذا الباب منه، وفيه أشياء لا يُعرَف المراد منها إلَّا بتوقيف ممَّا نعلم وتعلمون أنَّ المراد منه إنَّما عُرِفَ بالتوقيف دون غيره، فليس يجوز حمله علىٰ اللغة لأنَّك تحتاج أوَّلاً أنْ تعلم أنَّ الكلام الذي تريد أنْ تتأوَّله ليس فيه توقيف أصلاً، لا في جمله ولا في تفصيله.

فإنْ قال منهم قائل: لم يُنكَر أنْ يكون ما كان سبيله أنْ يُعرَف بالتوقيف فقد وقَّف اللهُ رسولَه (صلی الله علیه و آله) عليه، وما كان سبيله أنْ يُستَخرج فقد وكل إلىٰ العلماء وجعل بعض القرآن دليلاً علىٰ بعض فاستغنينا بذلك عمَّا تدَّعون من التوقيف والموقّف.

ص: 132


1- في بعض النُّسَخ: (بالاستخراج).
2- يعني لفظ (الصلاة) و(الزكاة) و(الحجّ).

قيل له: لا يجوز أنْ يكون ذلك علىٰ ما وصفتم لأنَّا نجد للآية الواحدة تأويلين متضادَّين كلُّ واحد منهما يجوز في اللغة ويحسن أنْ يتعبَّد الله به، وليس يجوز أنْ يكون للمتكلِّم الحكيم كلام يحتمل مرادين متضادَّين.

فإنْ قال: ما يُنكَر أنْ يكون في القرآن دلالة علىٰ أحد المرادين وأنْ يكون العلماء بالقرآن متىٰ تدبَّروه علموا المراد بعينه دون غيره؟

فيقال للمعترض بذلك: أنكرنا هذا الذي وصفته لأمر نُخبِرك به: ليس تخلو تلك الدلالة التي في القرآن علىٰ أحد المرادين من أنْ تكون محتملة للتأويل أو غير محتملة، فإنْ كانت محتملة للتأويل فالقول فيها كالقول في هذه الآية، وإنْ كانت لا تحتمل التأويل فهي إذاً توقيف ونصٌّ علىٰ المراد بعينه ويجب أنْ لا يشكل علىٰ أحد علم اللغة معرفة المراد، وهذا ما لا تُنكِره العقول، وهو من فعل الحكيم جائز حسن، ولكنَّا إذا تدبَّرنا آي القرآن لم نجد هكذا ووجدنا الاختلاف في تأويلها قائماً بين أهل العلم بالدِّينواللغة، ولو كان هناك آيات تُفسِّر آيات تفسيراً لا يحتمل التأويل لكان فريق من المختلفين في تأويله من العلماء باللغة معاندين، ولأمكن كشف أمرهم بأهون السعي، ولكان من تأوَّل الآية خارجاً من اللغة ومن لسان أهلها، لأنَّ الكلام إذا لم يحتمل التأويل فحملته علىٰ ما لا يحتمله خرجت عن اللغة التي وقع الخطاب بها، فدلُّونا يا معشر الزيديَّة علىٰ آية واحدة اختلف أهل العلم في تأويلها في القرآن ما يدلُّ نصًّا وتوقيفاً علىٰ تأويلها، وهذا أمر متعذِّر وفي تعذُّره دليل علىٰ أنَّه لا بدَّ للقرآن من مترجم يعلم مراد الله تعالىٰ فيُخبِر به، وهذا عندي واضح.

ثمّ قال صاحب الكتاب: وهذه الخطَّابيَّة تدَّعي الإمامة لجعفر بن محمّد من أبيه (علیهما السلام) بالوراثة والوصيَّة، ويقفون علىٰ رجعته، ويخالفون كلَّ من قال بالإمامة، ويزعمون أنَّكم وافقتموهم في إمامة جعفر (علیه السلام) وخالفوكم فيمن سواه.

ص: 133

فأقول - وبالله الثقة -: ليس تصحُّ الإمامة بموافقة موافق ولا مخالفة مخالف، وإنَّما تصحُّ بأدلَّة الحقِّ وبراهينه، وأحسب أنَّ صاحب الكتاب غلط والخطَّابيَّة قوم غلاة، وليس بين الغلوِّ والإمامة(1) نسبة، فإنْ قال: فإنِّي أردت الفرقة التي وقفت(2) عليه، قيل له: فيقال لتلك الفرقة: نعلم أنَّ الإمام بعد جعفر موسىٰ بمثل ما علمتم أنتم به أنَّ الإمام بعد محمّد بن عليٍّ جعفر، ونعلم أنَّ جعفراً مات كما نعلم أنَّ أباه مات، والفصل بيننا وبينكم هو الفصل بينكم وبين السبائيَّة والواقفة علىٰ أمير المؤمنين(صلوات الله عليه)، فقولوا كيف شئتم(3).

ويقال لصاحب الكتاب: وأنت فما الفصل بينك وبين من اختار الإمامة لولد العبَّاس وجعفر وعقيل - أعني لأهل العلم والفضل منهم -، واحتجَّ باللغة في أنَّهم من عترة الرسول، وقال: إنَّ الرسول (صلی الله علیه و آله) عمَّ جميع العترة ولم يخصّ إلَّا ثلاثة(4) هم أمير المؤمنين والحسن والحسين (صلوات الله عليهم)، عرِّفناه وبيِّن لنا.

ثمّ قال صاحب الكتاب: وهذه الشمطيَّة تدَّعي إمامة عبد الله بن جعفر ابن محمّد من أبيه(5) بالوراثة والوصيَّة، وهذه الفطحيَّة تدَّعي إمامة إسماعيل بن

ص: 134


1- في بعض النُّسَخ: (والإماميَّة).
2- يعني علىٰ جعفر بن محمّد (علیهما السلام).
3- يعني كلَّ ما قلتم في ردِّ السبائيَّة، فنحن عارضناكم بمثله.
4- كذا، وفي هامش بعض النُّسَخ: الظاهر (ولم يخصّ بالثلاثة). أقول: ويمكن أنْ يكون (إلَّا) في قوله: (إلَّا ثلاثة) زائداً من النُّسَّاخ.
5- كذا، وفى فِرَق الشيعة للنوبختي (ص 77 و78): السمطيَّة هم الذين جعلوا الإمامة في محمّد بن جعفر وولده من بعده، وهذه الفرقة تُسمَّىٰ (السمطيَّة) نسبةً إلىٰ رئيس لهم يقال له: يحيىٰ بن أبي السميط، انتهىٰ. وفى المحكي عن المقريزي: يحيىٰ بن شميط الأحمسي، ويُذكَر أنَّه كان قائداً من قوَّاد مختار بن أبي عبيدة الثقفي. (المواعظ والاعتبار: ج 4/ ص 180). والظاهر التعدُّد، لتقدُّم المختار عن محمّد بتسعين سنة.

جعفر(1) عن أبيه بالوراثة والوصيَّة، وقبل ذلك [إنَّ]ما قالوا بإمامة عبد الله بن جعفر ويُسمَّون اليوم إسماعيليَّة لأنَّه لم يبقَ للقائلين بإمامة عبد الله بن جعفر خلف ولا بقيَّة، وفرقة من الفطحيَّة يقال لهم: القرامطة(2) قالوا بإمامة محمّد بن إسماعيل بن جعفر بالوراثة والوصيَّة.وهذه الواقفة علىٰ موسىٰ بن جعفر تدَّعي الإمامة لموسىٰ وترتقب لرجعته.

وأقول: الفرق بيننا وبين هؤلاء سهل واضح قريب:

أمَّا الفطحيَّة فالحجَّة عليها أوضح من أنْ تخفىٰ، لأنَّ إسماعيل مات قبل أبي عبد الله (علیه السلام)، والميِّت لا يكون خليفة الحيِّ، وإنَّما يكون الحيُّ خليفة الميِّت، ولكنَّ القوم عملوا علىٰ تقليد الرؤساء وأعرضوا عن الحجَّة وما في بابها. وهذا أمر لا يحتاج فيه علىٰ إكثار لأنَّه ظاهر الفساد، بيِّن الانتقاد.

وأمَّا القرامطة فقد نقضت الإسلام حرفاً حرفاً، لأنَّها أبطلت أعمال الشريعة وجاءت بكلِّ سوفسطائيَّة، وإنَّ الإمام إنَّما يُحتاج إليه للدِّين وإقامة حكم

ص: 135


1- كذا، وفي كتاب النوبختي: الفطحيَّة فرقة يقولون بإمامة عبد الله بن جعفر، وسمُّوا بذلك لأنَّ عبد الله كان أفطح الرأس، وقال بعضهم: كان أفطح الرجلين، وقال بعض الرواة: نُسبوا إلىٰ رئيس لهم من أهل الكوفة يقال له: عبد الله بن فطيح. (فِرَق الشيعة: ص 78).
2- هم فرقة من المباركيَّة، وإنَّما سمُّوا بهذا برئيس لهم من أهل السواد من الأنباط كان يُلقَّب (قرمطويه)، كانوا في الأصل علىٰ مقالة المباركيَّة، ثمّ خالفوهم فقالوا: لا يكون بعد محمّد(صلی الله علیه و آله) إلَّا سبعة أئمَّة: عليُّ بن أبي طالب إلىٰ جعفر بن محمّد ثمّ محمّد بن إسماعيل، وهو الإمام القائم المهدى، وهو رسول. وزعموا أنَّ النبيَّ(صلی الله علیه و آله) انقطعت عنه الرسالة في حياته في اليوم الذي أُمِرَ فيه بنصب عليِّ بن أبي طالب (علیه السلام) للناس في غدير خُمٍّ، فصارت الرسالة في ذلك اليوم في عليِّ ابن أبي طالب، واعتلُّوا في ذلك بقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه»، وأنَّ هذا القول منه خروج من الرسالة والنبوَّة والتسليم منه في ذلك لعليٍّ (علیه السلام) بأمر الله (تبارک و تعالی)، وأنَّ النبيَّ(صلی الله علیه و آله) بعد ذلك كان مأموماً لعليٍّ محجوجاً به. (قاله النوبختي في فِرَق الشيعة: ص 72 و73). وفى تلبيس إبليس لابن الجوزي (ص 633) تحقيق لسبب تسمية القرامطة بهذا الاسم.

الشريعة، فإذا جاءت القرامطة تدَّعي أنَّ جعفر بن محمّد أو وصيَّه استخلف رجلاً دعا إلىٰ نقض الإسلام والشريعة والخروج عمَّا عليه طبائع الأُمَّة لم نحتج في معرفة كذبهم إلىٰ أكثر من دعواهم المتناقض الفاسد الركيك.

وأمَّا الفصل بيننا وبين سائر الفِرَق، فهو أنَّ لنا نقلة أخبار وحملةآثار قد طبَّقوا البلدان كثرةً، ونقلوا عن جعفر بن محمّد (علیهما السلام) من علم الحلال والحرام ما يُعلَم بالعادة الجارية والتجربة الصحيحة أنَّ ذلك كلَّه لا يجوز أنْ يكون كذباً مولَّداً، وحكوا مع نقل ذلك عن أسلافهم أنَّ أبا عبد الله (علیه السلام) أوصىٰ بالإمامة إلىٰ موسىٰ (علیه السلام)، ثمّ نُقِلَ إلينا من فضل موسىٰ (علیه السلام) وعلمه ما هو معروف عند نقلة الأخبار، ولم نسمع لهؤلاء بأكثر من الدعوىٰ، وليس سبيل التواتر وأهله سبيل الشذوذ وأهله، فتأمَّلوا الأخبار الصادقة تعرفوا بها فصل ما بين موسىٰ (علیه السلام) ومحمّد وعبد الله بني جعفر، وتعالَوا نمتحن هذا الأمر بخمس مسائل من الحلال والحرام ممَّا قد أجاب فيه موسىٰ (علیه السلام) فإنْ وجدنا لهذين فيه جواباً عند أحد من القائلين بإمامتهما فالقول كما يقولون، وقد روت الإماميَّة أنَّ عبد الله بن جعفر سُئِلَ: كم في مائتي درهم؟ قال: خمسة دراهم، قيل له: وكم في مائة درهم؟ فقال: درهمان ونصف(1)(2).

ولو أنَّ معترضاً اعترض علىٰ الإسلام وأهله فادَّعىٰ أنَّ هاهنا من قد عارض القرآن(3) وسألنا أنْ نفصل بين تلك المعارضة والقرآن، لقلنا له: أمَّا القرآن فظاهر، فأظهر تلك المعارضة حتَّىٰ نفصل بينها وبين القرآن. وهكذا

ص: 136


1- يعني لم يعلم عبد الله أنَّ نصاب الدرهم في الزكاة مائتان، ولا زكاة فيما دون ذلك، فأجاب في المسألة بالقياس، وأخطأ.
2- راجع: الكافي (ج 1/ ص 351 و352/ باب ما يفصل به بين دعوىٰ المحقِّ والمبطل في أمر الإمامة/ ح 7).
3- يعني ادَّعىٰ أنَّه جاء رجل وأتىٰ بمثل هذا القرآن.

نقول لهذه الفِرَق، أمَّا أخبارنا فهي مرويَّة محفوظة عند أهل الأمصار من علماء الإماميَّة، فأظهروا تلك الأخبار التي تدَّعونها حتَّىٰنفصل بينها وبين أخبارنا، فأمَّا أنْ تدَّعوا خبراً لم يسمعه سامع ولا عرفه أحد ثمّ تسألونا الفصل بين [هذا] الخبر، فهذا ما لا يعجز عن دعوىٰ مثله أحد، ولو أبطل مثل هذه الدعوىٰ أخبار أهل الحقِّ من الإماميَّة لأبطل مثل هذه الدعوىٰ من البراهمة أخبار المسلمين، وهذا واضح، ولله المنَّة.

وقد ادَّعت الثنويَّة أنَّ ماني أقام المعجزات، وأنَّ لهم خبراً يدلُّ علىٰ صدقهم، فقال لهم الموحِّدون: هذه دعوىٰ لا يعجز عنها أحد، فأظهروا الخبر لندلَّكم علىٰ أنَّه لا يقطع عذراً ولا يوجب حجَّةً، وهذا شبيه بجوابنا لصاحب الكتاب.

ويقال لصاحب الكتاب: قد ادَّعت البكريَّة والأباضيَّة(1) أنَّ النبيَّ (صلی الله علیه و آله) نصَّ علىٰ أبي بكر، وأنكرت أنت ذلك كما أنكرنا نحن أنَّ أبا عبد الله (علیه السلام) أوصىٰ إلىٰ هذين، فبيِّن لنا حجَّتك ودلَّنا علىٰ الفصل بينك وبين البكريَّة والأباضيَّة لندلَّك بمثله علىٰ الفصل بيننا وبين من سمَّيت.

ويقال لصاحب الكتاب: أنت رجل تدَّعي أنَّ جعفر بن محمّد كان علىٰ مذهب الزيديَّة، وأنَّه لم يدَّعِ الإمامة من الجهة التي تذكرها الإماميَّة، وقد ادَّعىٰ القائلون بإمامة محمّد بن إسماعيل بن جعفر بن محمّد خلاف ما تدَّعيه أنت وأصحابك، ويذكرون أنَّ أسلافهم رووا ذلك عنه، فعرِّفنا الفصل بينكم وبينهم لنأتيك بأحسن منه، وأنصف من نفسك فإنَّه أولىٰ بك.

وفرق آخر: وهو أنَّ أصحاب محمّد بن جعفر وعبد الله بن جعفر معترفون بأنَّ الحسين نصَّ علىٰ عليٍّ، وأنَّ عليًّا نصَّ علىٰ محمّد، وأنَّ محمّداً نصَّ علىٰ جعفر،

ص: 137


1- الأباضيَّة: فرقة من الخوارج أصحاب عبد الله بن أباض التميمي.

ودليلنا أنَّ جعفراً نصَّ علىٰ موسىٰ (علیهمالسلام) هو بعينه دون غيره دليل هؤلاء علىٰ أنَّ الحسين نصَّ علىٰ عليٍّ. وبعد فإنَّ الإمام إذا كان ظاهراً واختلفت إليه(1) شيعته ظهر علمه وتبيَّن معرفته بالدِّين، ووجدنا رواة الأخبار وحملة الآثار قد نقلوا عن موسىٰ من علم الحلال والحرام ما هو مدوَّن مشهور، وظهر من فضله في نفسه ما هو بيِّن عند الخاصَّة والعامَّة، وهذه هي أمارات الإمامة، فلمَّا وجدناها لموسىٰ دون غيره علمنا أنَّه الإمام بعد أبيه دون أخيه.

وشي ء آخر، وهو: أنَّ عبد الله بن جعفر مات ولم يُعقِّب ذَكَراً، ولا نصَّ علىٰ أحد، فرجع القائلون بإمامته عنها إلىٰ القول بإمامة موسىٰ (علیه السلام)، والفصل بعد ذلك بين أخبارنا وأخبارهم هو أنَّ الأخبار لا توجب العلم حتَّىٰ يكون في طُرُقه وواسطته قوم يقطعون العذر إذا أخبروا، ولسنا نشاحُّ(2) هؤلاء في أسلافهم بل نقتصر علىٰ أنْ يوجدونا في دهرنا من حملة الأخبار ورواة الآثار ممَّن يذهب مذهبهم عدداً يتواتر بهم الخبر كما نوجدهم نحن ذلك، فإنْ قدروا علىٰ هذا فليُظهِروه، وإنْ عجزوا فقد وضح الفرق بيننا وبينهم في الطرف الذي يلينا ويليهم(3)، وما بعد ذلك موهوب لهم، وهذا واضح، والحمد لله.

وأمَّا الواقفة علىٰ موسىٰ (علیه السلام) فسبيلهم سبيل الواقفة علىٰ أبي عبد الله (علیه السلام)، ونحن فلم نشاهد موت أحد من السلف وإنَّما صحَّ موتهم عندنا بالخبر، فإنْ وقف واقف علىٰ بعضهم سألناه الفصل بينه وبين من وقف علىٰ سائرهم، وهذا ما لا حيلة لهم فيه.ثمّ قال صاحب الكتاب: ومنهم فرقة قطعت علىٰ موسىٰ وائتمُّوا بعده

ص: 138


1- يعني بالاختلاف الإياب والذهاب.
2- أي لا ننازع.
3- في بعض النُّسَخ: (بيننا وبينهم).

بابنه عليِّ بن موسىٰ (علیهما السلام) دون سائر ولد موسىٰ (علیه السلام)، وزعموا أنَّه استحقَّها بالوراثة والوصيَّة، ثمّ في ولده حتَّىٰ انتهوا إلىٰ الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام)، فادَّعوا له ولداً وسمُّوه الخلف الصالح، فمات قبل أبيه(1)، ثمّ إنَّهم رجعوا إلىٰ أخيه الحسن وبطل في محمّد ما كانوا توهَّموا - وقالوا: بدا لله من محمّد إلىٰ الحسن كما بدا له من إسماعيل بن جعفر إلىٰ موسىٰ وقد مات إسماعيل في حياة جعفر - إلىٰ أنْ مات الحسن بن عليٍّ في سنة ثلاث وستِّين ومائتين، فرجع بعض أصحابه إلىٰ إمامة جعفر بن عليٍّ، كما رجع أصحاب محمّد بن عليٍّ بعد وفاة محمّد إلىٰ الحسن، وزعم بعضهم أنَّ جعفر بن عليٍّ استحقَّ الإمامة من أبيه عليِّ بن محمّد بالوراثة والوصيَّة دون أخيه الحسن، ثمّ نقلوها في ولد جعفر بالوراثة والوصيَّة، وكلُّ هذه الفِرَق يتشاحُّون علىٰ الإمامة ويُكفِّر بعضهم بعضاً، ويُكذِّب بعضهم بعضاً، ويبرأ بعضهم من إمامة بعض، وتدَّعي كلُّ فرقة الإمامة لصاحبها بالوراثة والوصيَّة وأشياء من علوم الغيب، الخرافات أحسن منها، ولا دليل لكلِّ فرقة فيما تدَّعي وتخالف الباقين غير الوراثة والوصيَّة، دليلهم شهادتهم لأنفسهم دون غيرهم قولاً بلا حقيقة ودعوىٰ بلا دليل، فإنْ كان هاهنا دليل فيما يدَّعي كلُّ طائفة غير الوراثة والوصيَّة وجب إقامته، وإنْ لم يكن غير الدعوىٰ للإمامة بالوراثة والوصيَّة فقد بطلت الإمامة لكثرة من يدَّعيها بالوراثة والوصيَّة، ولا سبيل إلىٰ قبول دعوىٰ طائفة دون الأُخرىٰ إنْ كانت الدعوىٰ واحدة، ولاسيّماوهم في إكذاب بعضهم بعضاً مجتمعون، وفيما يدَّعي كلُّ فرقة منهم منفردون.

فأقول - والله الموفِّق للصواب -: لو كانت الإمامة تبطل لكثرة من يدَّعيها لكان سبيل النبوَّة سبيلها، لأنَّا نعلم أنَّ خلقاً قد ادَّعاها وقد حكىٰ

ص: 139


1- في بعض النُّسَخ بعد قوله: (وسمُّوه الخلف الصالح) هكذا: (ومنهم فرقة قالت بإمامة محمّد بن عليٍّ، فمات قبل أبيه، ثمّ إنَّهم رجعوا إلىٰ أخيه الحسن...) إلخ.

صاحب الكتاب عن الإماميَّة حكايات مضطربة وأوهم أنَّ تلك مقالة الكلِّ وأنَّه ليس فيهم إلَّا من يقول بالبداء.

ومن قال: إنَّ الله يبدو له من إحداث رأي وعلم مستفاد فهو كافر بالله. وما كان غير هذا فهو قول المغيريَّة، ومن ينحل للأئمَّة علم الغيب، فهذا كفر بالله وخروج عن الإسلام عندنا.

وأقلُّ ما كان يجب عليه أنْ يذكر مقالة أهل الحقِّ، وأنْ لا يقتصر علىٰ أنَّ القوم اختلفوا حتَّىٰ يدلَّ علىٰ أنَّ القول بالإمامة فاسد.

وبعد فإنَّ الإمام عندنا يُعرَف من وجوه سنذكرها ثمّ نعتبر ما يقول هؤلاء، فإنْ لم نجد بيننا وبينهم فصلاً حكمنا بفساد المذهب، ثمّ عدنا نسأل صاحب الكتاب عن أنَّ أيَّ قول هو الحقُّ من بين الأقاويل.

أمَّا قوله: (إنَّ منهم فرقة قطعت علىٰ موسىٰ وائتمُّوا بعده بابنه عليِّ بن موسىٰ)، فهو قول رجل لا يعرف أخبار الإماميَّة(1)، لأنَّ كلَّ الإماميَّة - إلَّا شرذمة وقفت وشذوذ قالوا بإمامة إسماعيل وعبد الله بن جعفر - قالوا بإمامة عليِّ بن موسىٰ ورووا فيه ما هو مدوَّن في الكُتُب، وما يذكر من حملة الأخبار ونقلة الآثار خمسة مالوا إلىٰ هذه المذاهب في أوَّل حدوث الحادث، وإنَّما كثر من كثر منهم بعد، فكيف استحسن صاحب الكتاب أنْيقول: (ومنهم فرقة قطعت علىٰ موسىٰ)؟ وأعجب من هذا قوله: (حتَّىٰ انتهوا إلىٰ الحسن فادَّعوا له ابناً)، وقد كانوا في حياة عليِّ بن محمّد وسمُّوا للإمامة ابنه محمّداً إلَّا طائفة من أصحاب فارس بن حاتم، وليس يحسن بالعاقل أنْ يشنع علىٰ خصمه بالباطل الذي لا أصل له.

ص: 140


1- في بعض النُّسَخ: (أخبار الناس).

والذي يدلُّ علىٰ فساد قول القائلين بإمامة محمّد هو بعينه ما وصفناه في باب إسماعيل بن جعفر، لأنَّ القصَّة واحدة وكلُّ واحد منهما مات قبل أبيه، ومن المحال أنْ يستخلف الحيُّ الميِّتَ ويوصي إليه بالإمامة، وهذا أبين فساداً من أنْ يحتاج في كسره إلىٰ كثرة القول.

والفصل بيننا وبين القائلين بإمامة جعفر أنَّ حكاية القائلين بإمامته عنه اختلفت وتضادَّت، لأنَّ منهم ومنَّا من حكىٰ عنه أنَّه قال: (إنِّي إمام بعد أخي محمّد)، ومنهم من حكىٰ عنه أنَّه قال: (إنِّي إمام بعد أخي الحسن)، ومنهم من قال: إنَّه قال: (إنِّي إمام بعد أبي عليِّ بن محمّد).

وهذه أخبار كما ترىٰ يُكذِّب بعضها بعضاً، وخبرنا في أبي محمّد الحسن بن عليٍّ خبر متواتر لا يتناقض، وهذا فصل بيِّن، ثمّ ظهر لنا من جعفر ما دلَّنا علىٰ أنَّه جاهل بأحكام الله (تبارک و تعالی)، وهو أنَّه جاء يطالب أُمَّ أبي محمّد بالميراث، وفي حكم آبائه (أنَّ الأخ لا يرث مع الأُمِّ)، فإذا كان جعفر لا يحسن هذا المقدار من الفقه حتَّىٰ تبيَّن فيه نقصه وجهله، كيف يكون إماماً؟ وإنَّما تعبَّدنا الله بالظاهر من هذه الأُمور، ولو شئنا أنْ نقول لقلنا، وفيما ذكرناه كفاية ودلالة علىٰ أنَّ جعفراً ليس بإمام.

وأمَّا قوله: (إنَّهم ادَّعوا للحسن ولداً)، فالقوم لم يدَّعوا ذلك إلَّا بعد أنْ نقل إليهم أسلافهم حاله وغيبته وصورة أمره واختلاف الناس فيه عند حدوث ما يحدث، وهذه كُتُبهم فمن شاء أنْ ينظر فيها فلينظر.وأمَّا قوله: (إنَّ كلَّ هذه الفِرَق يتشاحُّون(1) ويُكفِّر بعضهم بعضاً)، فقد صدق في حكايته، وحال المسلمين في تكفير بعضهم بعضاً هذه الحال فليقل كيف أحبّ، وليطعن كيف شاء، فإنَّ البراهمة تتعلَّق به فتطعن بمثله في الإسلام،

ص: 141


1- أي يتنازعون. وتشاحَّ القوم أو الخصمان في الجدل: أراد كلٌّ أنْ يكون هو الغالب.

من سأل خصمه عن مسألة يريد بها نقض مذهبه إذا رُدَّت عليه كان فيها من نقض مذهبه مثل الذي قدر أنْ يلزمه خصمه، فإنَّما هو رجل يسأل نفسه وينقض قوله، وهذه قصَّة صاحب الكتاب، والنبوَّة أصل والإمامة فرع، فإذا أقرَّ صاحب الكتاب بالأصل لم يحسن به أنْ يطعن في الفرع بما رجع علىٰ الأصل، والله المستعان.

ثمّ قال: ولو جازت الإمامة بالوراثة والوصيَّة لمن يُدَّعىٰ له بلا دليل متَّفق عليه لكانت المغيريَّة أحقّ بها، لإجماع الكلِّ معها علىٰ إمامة الحسن بن عليٍّ الذي هو أصلها المستحقُّ للإمامة من أبيه بالوراثة والوصيَّة وامتناعها بعد إجماع الكلِّ معها علىٰ إمامة الحسن من إجازتها لغيره.

هذا مع اختلاف المؤتمَّة في دينهم، منهم من يقول بالجسم، ومنهم من يقول بالتناسخ، ومنهم من تجرَّد التوحيد، ومنهم من يقول بالعدل ويُثبِت الوعيد، ومنهم من يقول بالقدر ويُبطِل الوعيد، ومنهم من يقول بالرؤية، ومنهم من ينفيها مع القول بالبداء، وأشياء يطول الكتاب بشرحها، يُكفِّر بها بعضهم بعضاً، ويتبرَّأ بعضهم من دين بعض، ولكلِّ فرقة من هذه الفِرَق بزعمها رجال ثقات عند أنفسهم، أدُّوا إليهم عن أئمَّتهم ما هم متمسِّكون به.

ثمّ قال صاحب الكتاب: وإذا جاز كذا جاز كذا، شيء لا يجوز عندنا ولم نأتِ بأكثر من الحكاية، فلا معنىٰ لتطويل الكتاب بذكر ما ليس فيهحجَّة ولا فائدة.

فأقول - وبالله الثقة -: لو كان الحقُّ لا يثبت إلَّا بدليل متَّفق عليه ما صحَّ حقٌّ أبداً، ولكان أوَّل مذهب يبطل مذهب الزيديَّة، لأنَّ دليلها ليس بمتَّفق عليه، وأمَّا ما حكاه عن المغيريَّة فهو شيء أخذته عن اليهود، لأنَّها تحتجُّ أبداً بإجماعنا وإيَّاهم علىٰ نبوَّة موسىٰ (علیه السلام) ومخالفتهم إيَّانا في نبوَّة محمّد (صلی الله علیه و آله).

ص: 142

وأمَّا تعييره إيَّانا بالاختلاف في المذاهب، وبأنَّه كلُّ فرقة منَّا تروي ما تدين به عن إمامها، فهو مأخوذ من البراهمة، لأنَّها تطعن به - بعينه دون غيره - علىٰ الإسلام، ولولا الإشفاق من أنْ يتعلَّق بعض هؤلاء المجان(1) بما أحكيه عنهم لقلت كما يقولون.

والإمامة - أسعدكم الله - إنَّما تصحُّ عندنا بالنصِّ وظهور الفضل والعلم بالدِّين مع الإعراض عن القياس والاجتهاد في الفرائض السمعيَّة وفي فروعها، ومن هذا الوجه عرفنا إمامة الإمام، وسنقول في اختلاف الشيعة قولاً مقنعاً.

قال صاحب الكتاب: ثمّ لم يخل اختلافهم من أنْ يكون مولَّداً من أنفسهم أو من عند الناقلين إليهم أو من عند أئمَّتهم، فإنْ كان اختلافهم من قِبَل أئمَّتهم فالإمام من جمع الكلمة، لا من كان سبباً للاختلاف بين الأُمَّة لاسيّما وهم أولياؤه دون أعدائه، ومن لا تقيَّة بينهم وبينه، وما الفرق بينالمؤتمَّة والأُمَّة إذ كانوا(2) مع أئمَّتهم وحُجَج الله عليهم في أكثر ما عابوا علىٰ الأُمَّة التي لا إمام لها من المخالفة في الدِّين وإكفار بعضهم بعضاً، وإنْ يكن اختلافهم من قِبَل الناقلين إليهم دينهم فما يؤمنهم من أنْ يكون هذا سبيلهم معهم فيما ألقوا إليه من الإمامة، لاسيّما إذا كان المدَّعىٰ له الإمامة معدوم العين غير مرئيِّ الشخص، وهو حجَّة عليهم فيما يدَّعون لإمامهم من علم الغيب إذا كان خيرته والتراجمة بينه وبين شيعته كذَّابين يكذبون عليه، ولا علم له بهم، وإنْ يكن اختلاف المؤتمَّة في دينها من قِبَل أنفسها دون أئمَّتها فما حاجة المؤتمَّة إلىٰ الأئمَّة إذ كانوا بأنفسهم مستغنين وهو بين أظهرهم ولا ينهاهم وهو الترجمان لهم من الله والحجَّة عليهم؟

ص: 143


1- مجن الشيء غلظ وصلب. مزح وقلَّ حياء، كأنَّه صلب وجهه فهو ما جن والجمع مجان. وفي بعض النُّسَخ: (الفُجَّار)، وفى بعضها: (المخالفين). والإشفاق: الخوف.
2- في بعض النُّسَخ: (بين المؤتمَّة والأئمَّة إذا كانوا).

هذا أيضاً من أدلّ الدليل علىٰ عدمه وما يُدَّعىٰ من علم الغيب له، لأنَّه لو كان موجودا لم يسعه ترك البيان لشيعته كما قال الله (تبارک و تعالی): «وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ...» الآية [النحل: 64]، فكما بيَّن الرسول (صلی الله علیه و آله) لأُمَّته وجب علىٰ الإمام مثله لشيعته.

فأقول - وبالله الثقة -: إنَّ اختلاف الإماميَّة إنَّما هو من قِبَل كذَّابين دلَّسوا أنفسهم فيهم في الوقت بعد الوقت، والزمان بعد الزمان، حتَّىٰ عظم البلاء، وكان أسلافهم قوم يرجعون إلىٰ ورع واجتهاد وسلامة ناحية، ولم يكونوا أصحاب نظر وتميُّز، فكانوا إذا رأوا رجلاً مستوراً يروي خبراً أحسنوا به الظنَّ وقبلوه، فلمَّا كثر هذا وظهر شكوا إلىٰ أئمَّتهم فأمرهم الأئمَّة (علیهم السلام) بأنْ يأخذوا بما يُجمَع عليه، فلم يفعلوا وجروا علىٰ عادتهم، فكانت الخيانة من قِبَلهم لا من قِبَل أئمَّتهم، والإمام أيضاً لم يقفعلىٰ كلِّ هذه التخاليط التي رُويت، لأنَّه لا يعلم الغيب(1) وإنَّما هو عبد صالح يعلم الكتاب والسُّنَّة، ويعلم من أخبار شيعته ما ينهىٰ إليه.

وأمَّا قوله: (فما يؤمنهم أنْ يكون هذا سبيلهم فيما ألقوا إليهم من أمر الإمامة)، فإنَّ الفصل بين ذلك أنَّ الإمامة تُنقَل إليهم بالتواتر، والتواتر لا ينكشف عن كذب، وهذه الأخبار فكلُّ واحد منها إنَّما خبر واحد لا يوجب خبره العلم، وخبر الواحد قد يصدق ويكذب، وليس هذا سبيل التواتر، هذا جوابنا، وكلُّ ما أتىٰ به سوىٰ هذا فهو ساقط.

ثمّ يقال له: أخبرنا عن اختلاف الأُمَّة هل تخلو من الأقسام التي قسمتها؟ فإذا قال: لا، قيل له: أفليس الرسول إنَّما بُعِثَ لجمع الكلمة؟ فلا بدَّ من نعم، فيقال له: أوَليس قد قال الله (تبارک و تعالی): «وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ» [النحل: 64]؟ فلا بدَّ من نعم،

ص: 144


1- أي لا يعلمه بذاته ومن عند نفسه، بل يعلم الغيب من جانب الله تعالىٰ متىٰ أراد إذا أراد الله أنْ يُعلِمه.

فيقال له: فهل بيَّن؟ فلا بدَّ من نعم، فيقال له: فما سبب الاختلاف؟ عرِّفناه واقنع منَّا بمثله.

وأمَّا قوله: (فما حاجة المؤتمَّة إلىٰ الأئمَّة إذ كانوا بأنفسهم مستغنين وهو بين أظهرهم لا ينهاهم...) إلىٰ آخر الفصل. فيقال له: أولىٰ الأشياء بأهل الدِّين الإنصاف، أيُّ قول قلناه وأومأنا به إلىٰ أنَّا بأنفسنا مستغنين حتَّىٰ يقرعنا به صاحب الكتاب ويحتجَّ علينا؟ أو أيُّ حجَّة توجَّهت له علينا توجب ما أوجبه؟ ومن لم يبالِ بأيِّ شيء قابل خصومه كثرت مسائله وجواباته.وأمَّا قوله: (وهذا من أدلّ دليل علىٰ عدمه، لأنَّه لو كان موجوداً لم يسعه ترك البيان لشيعته كما قال الله (تبارک و تعالی): «وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ»)، فيقال لصاحب الكتاب: أخبرنا عن العترة الهادية يسعهم أنْ لا يُبيِّنوا للأُمَّة الحقَّ كلَّه؟ فإنْ قال: نعم، حجَّ نفسه وعاد كلامه وبالاً عليه، لأنَّ الأُمَّة قد اختلفت وتباينت وكفَّر بعضها بعضاً، فإنْ قال: لا، قيل: هذا من أدلّ دليل علىٰ عدم العترة وفساد ما تدَّعيه الزيديَّة، لأنَّ العترة لو كانوا كما تصف الزيديَّة لبيَّنوا للأُمَّة ولم يسعهم السكوت والإمساك، كما قال الله (تبارک و تعالی): «وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ»، فإنْ ادَّعىٰ أنَّ العترة قد بيَّنوا الحقَّ للأُمَّة غير أنَّ الأُمَّة لم تقبل ومالت إلىٰ الهوىٰ، قيل له: هذا بعينه قول الإماميَّة في الإمام وشيعته، ونسأل الله التوفيق.

ثمّ قال صاحب الكتاب: ويقال لهم: [لِمَ] استتر إمامكم عن مسترشده؟ فإنْ قالوا: تقيَّةً علىٰ نفسه، قيل لهم: فالمسترشد أيضاً يجوز له أنْ يكون في تقيَّة من طلبه لاسيّما إذا كان المسترشد يخاف ويرجو ولا يعلم ما يكون قبل كونه فهو في تقيَّة، وإذا جازت التقيَّة للإمام فهي للمأموم أجوز، وما بال الإمام في تقيَّة من

ص: 145

إرشادهم وليس هو في تقيَّة من تناول أموالهم، والله يقول: «اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً ...» الآية [يس: 21]، وقال: «إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ» [التوبة: 34]، فهذا ممَّا يدلُّ علىٰ أنَّ أهل الباطل عرض الدنيا يطلبون، والذين يتمسَّكون بالكتاب لا يسألون الناس أجراً وهم مهتدون. ثمّ قال: وإنْ قالوا كذا قيل كذا، فشيء لا يقوله إلَّا جاهل منقوص.والجواب عمَّا سأل: أنَّ الإمام لم يستتر عن مسترشده إنَّما استتر خوفاً علىٰ نفسه من الظالمين. فأمَّا قوله: (فإذا جازت التقيَّة للإمام فهي للمأموم أجوز)، فيقال له: إنْ كنت تريد أنَّ المأموم يجوز له أنْ يتَّقي من الظالم ويهرب عنه متىٰ خاف علىٰ نفسه كما جاز للإمام، فهذا لعمري جائز، وإنْ كنت تريد أنَّ المأموم يجوز له أنْ لا يعتقد إمامة الإمام للتقيَّة، فذلك لا يجوز إذا قرعت الأخبار سمعه وقطعت عذره، لأنَّ الخبر الصحيح يقوم مقام العيان وليس علىٰ القلوب تقيَّة، ولا يعلم ما فيها إلَّا الله.

وأمَّا قوله: (وما بال الإمام في تقيَّة من إرشادهم وليس في تقيَّة من تناول أموالهم والله يقول: «اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً»)، فالجواب عن ذلك إلىٰ آخر الفصل يقال له: إنَّ الإمام ليس في تقيَّة من إرشاد من يريد الإرشاد، وكيف يكون في تقيَّة وقد بيَّن لهم الحقَّ وحثَّهم عليه ودعاهم إليه، وعلَّمهم الحلال والحرام حتَّىٰ شهروا بذلك وعرفوا به؟ وليس يتناول أموالهم وإنَّما يسألهم الخُمُس الذي فرضه الله (عزوجل)ليضعه حيث أُمِرَ أنْ يضعه، والذي جاء بالخُمُس هو الرسول وقد نطق القرآن بذلك، قال الله (تبارک و تعالی): «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ ...» الآية [الأنفال: 41]، وقال: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ...» الآية [التوبة: 103]، فإنْ كان في أخذ المال عيب أو طعن فهو علىٰ من ابتدأ به، والله المستعان.

ص: 146

ويقال لصاحب الكتاب: أخبرنا عن الإمام منكم إذا خرج وغلب هل يأخذ الخُمُس؟ وهل يُجبي(1) الخراج؟ وهل يأخذ الحقَّ من الفيء والمغنم والمعادن وما أشبه ذلك؟ فإنْ قال: لا، فقد خالف حكم الإسلام، وإنْ قال: نعم، قيل له: فإنْ احتجَّ عليه رجل مثلك بقول الله(تبارک و تعالی): «اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً»، وبقوله: «إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ ...» الآية، بأيِّ شيء تجيبه حتَّىٰ تجيبك الإماميَّة بمثله، وهذا وفَّقكم الله شيء كان الملحدون يطعنون به علىٰ المسلمين، وما أدري من دلَّسه لهؤلاء. واعلم - علَّمك الله الخير وجعلك من أهله - إنَّما يعمل بالكتاب والسُّنَّة ولا يخالفهما، فإنْ أمكن خصومنا أنْ يدلُّونا علىٰ أنَّه خالف في أخذ ما أخذ الكتاب والسُّنَّة، فلعمري أنَّ الحجَّة واضحة لهم، وإنْ لم يمكنهم ذلك فليعلموا أنَّه ليس في العمل بما يوافق الكتاب والسُّنَّة عيب، وهذا بيِّن.

ثمّ قال صاحب الكتاب: ويقال لهم: نحن لا نجيز الإمامة لمن لا يعرف، فهل توجدونا سبيلاً إلىٰ معرفة صاحبكم الذي تدَّعون حتَّىٰ نُجيز له الإمامة كما نُجوِّز للموجودين من سائر العترة؟ وإلَّا فلا سبيل إلىٰ تجويز الإمامة للمعدومين، وكلُّ من لم يكن موجوداً فهو معدوم، وقد بطل تجويز الإمامة لمن تدَّعون.

فأقول - وبالله أستعين -: يقال لصاحب الكتاب: هل تشكُّ في وجود عليِّ بن الحسين وولده (علیهم السلام) الذين نأتمُّ بهم؟ فإذا قال: لا، قيل له: فهل يجوز أنْ يكونوا أئمَّة؟ فإنْ قال: نعم، قيل له: فأنت لا تدري لعلَّنا علىٰ صواب في اعتقاد إمامتهم وأنت علىٰ خطأ، وكفىٰ بهذا حجَّة عليك. وإنْ قال: لا، قيل له: فما ينفع من إقامة الدليل علىٰ وجود إمامنا وأنت لا تعترف بإمامة مثل عليِّ بن الحسين (علیهما السلام) مع محلِّه من العلم والفضل عند المخالف والموافق؟ ثمّ يقال له: إنَّا

ص: 147


1- من الجباية، وهي أخذ الخراج أو الزكاة وجمعها.

إنَّما علمنا أنَّ في العترة من يعلم التأويل ويعرف الأحكام بخبر النبيِّ (صلی الله علیه و آله) الذي قدَّمناه، وبحاجتنا إلىٰ من يُعرِّفنا المراد من القرآن ومن يفصل بينأحكام الله وأحكام الشيطان، ثمّ علمنا أنَّ الحقَّ في هذه الطائفة من ولد الحسين (علیهم السلام) لما رأينا كلَّ من خالفهم من العترة يعتمد في الحكم والتأويل علىٰ ما يعتمد عليه علماء العامَّة من الرأي والاجتهاد والقياس في الفرائض السمعيَّة التي لا علَّة في التعبُّد بها إلَّا المصلحة، فعلمنا بذلك أنَّ المخالفين لهم مبطلون. ثمّ ظهر لنا من علم هذه الطائفة بالحلال والحرام والأحكام ما لم يظهر من غيرهم، ثمّ ما زالت الأخبار ترد بنصِّ واحد علىٰ آخر حتَّىٰ بلغ الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام)، فلمَّا مات ولم يظهر النصُّ والخلف بعده رجعنا إلىٰ الكُتُب التي كان أسلافنا رووها قبل الغيبة، فوجدنا فيها ما يدلُّ علىٰ أمر الخلف من بعد الحسن (علیه السلام)، وأنَّه يغيب عن الناس ويخفىٰ شخصه، وأنَّ الشيعة تختلف، وأنَّ الناس يقعون في حيرة من أمره، فعلمنا أنَّ أسلافنا لم يعلموا الغيب، وأنَّ الأئمَّة أعلموهم ذلك بخبر الرسول، فصحَّ عندنا من هذا الوجه بهذه الدلالة كونه ووجوده وغيبته، فإنْ كان هاهنا حجَّة تدفع ما قلناه فلتظهرها الزيديَّة، فما بيننا وبين الحقِّ معاندة، والشكر لله.

ثمّ رجع صاحب الكتاب إلىٰ أنْ يعارضنا بما تدَّعيه الواقفة علىٰ موسىٰ بن جعفر، ونحن(1) فلم نقف علىٰ أحد ونسأل الفصل بين الواقفين، وقد بيَّنَّا أنَّا علمنا أنَّ موسىٰ (علیه السلام) قد مات بمثل ما علمنا أنَّ جعفراً مات، وأنَّ الشكَّ في موت أحدهما يدعو إلىٰ الشكِّ في موت الآخر، وأنَّه قد وقف علىٰ جعفر (علیه السلام) قوم أنكرت الواقفة علىٰ موسىٰ عليهم، وكذلك أنكرت قول الواقفة علىٰ(2) أمير المؤمنين (علیه السلام).

ص: 148


1- من كلام أبي جعفر ابن قبة في دفع المعارضة.
2- في هامش بعض النُّسَخ: (الظاهر أنَّ الصواب: الواقفة علىٰ محمّد بن أمير المؤمنين).

فقلنا لهم: يا هؤلاء حجَّتكم علىٰ أُولئك هي حجَّتنا عليكم، فقولوا كيف شئتم تحجُّوا أنفسكم.

ثمّ حكىٰ(1) عنَّا أنَّا كنَّا نقول للواقفة: إنَّ الإمام لا يكون إلَّا ظاهراً موجوداً. وهذه حكاية من لا يعرف أقاويل خصمه، وما زالت الإماميَّة تعتقد أنَّ الإمام لا يكون إلَّا ظاهراً مكشوفاً أو باطناً مغموراً، وأخبارهم في ذلك أشهر وأظهر من أنْ تخفىٰ، ووضع الأُصول الفاسدة للخصوم أمر لا يعجز عنه أحد، ولكنَّه قبيح بذي الدِّين والفضل والعلم، ولو لم يكن في هذا المعنىٰ إلَّا خبر كميل بن زياد(2) لكفىٰ.

ثمّ قال: فإنْ قالوا كذا قيل لهم كذا - لشي ء لا نقوله -، وحجَّتنا ما سمعتم، وفيها كفاية، والحمد لله.

ثمّ قال: ليس الأمر كما تتوهَّمون في بني هاشم، لأنَّ النبيَّ (صلی الله علیه و آله) دلَّ أُمَّته علىٰ عترته بإجماعنا وإجماعكم التي هي خاصَّته التي لا يقرب أحد منه (علیه السلام) كقربهم، فهي لهم دون الطلقاء وأبناء الطلقاء، ويستحقُّها واحد منهم في كلِّ زمان، إذ كان الإمام لا يكون إلَّا واحداً بلزوم الكتاب والدعاء إلىٰ إقامته بدلالة الرسول (صلی الله علیه و آله) عليهم «أَنَّهُمْ لَا يُفَارِقُونَ الْكِتَابَ حَتَّىٰ يَرِدُوا عَلَيَّ الْحَوْضَ »، وهذا إجماع، والذي اعتللتم به من بني هاشم ليس هم من ذرّيَّة الرسول (صلی الله علیه و آله) وإنْ كانت لهم ولادة، لأنَّ كلَّ بني ابنة ينتمون إلىٰ عصبتهم(3) ما خلا ولد فاطمة، فإنَّ

ص: 149


1- يعني أبا زيد العلوي.
2- سيجيء الخبر في باب ما أخبر به أمير المؤمنين (علیه السلام) من وقوع الغيبة.
3- أي ينتسبون. وعصبة الرجل - محرَّكة -: بنوه وقرابته لأبيه، وإنَّما سمُّوا عصبة لأنَّهم عصبوا به أي أحاطوا به، فالأب طرف والابن طرف، والعمُّ جانب والأخ جانب. (الصحاح للجوهري: ج 1/ ص 182/ مادَّة عصب). والعصبة اسم جنس يُطلَق علىٰ الواحد والكثير. وقال الفيروزآبادي: (العصبة: الذين يرثون الرجل عن كلالة من غير والد ولا ولد، فأمَّا في الفرائض فكلُّ من لم يكن له فريضة مسمَّاة فهو عصبة) (القاموس المحيط: ج 1/ ص 105).

رسول الله (صلی الله علیه وآله) عصبتهم وأبوهم، والذرّيَّة هم الولد لقول الله (تبارک و تعالی): «إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ 36» [آل عمران: 36].

فأقول - وبالله أعتصم -: إنَّ هذا الأمر لا يصحُّ بإجماعنا وإيَّاكم عليه، وإنَّما يصحُّ بالدليل والبرهان، فما دليلك علىٰ ما ادَّعيت، وعلىٰ أنَّ الإجماع بيننا إنَّما هو في ثلاثة: أمير المؤمنين والحسن والحسين (علیهم السلام)، ولم يذكر الرسول (صلی الله علیه و آله) ذرّيَّته وإنَّما ذكر عترته، فملتم أنتم إلىٰ بعض العترة دون بعض بلا حجَّة وبيان أكثر من الدعوىٰ، واحتججنا نحن بما رواه أسلافنا عن جماعة حتَّىٰ انتهىٰ خبرهم إلىٰ نصِّ الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) علىٰ عليٍّ ابنه، ونصَّ عليٌّ علىٰ محمّد، ونصَّ محمّد علىٰ جعفر، ثمّ استدللنا علىٰ صحَّة إمامة هؤلاء دون غيرهم ممَّن كان في عصرهم من العترة بما ظهر من علمهم بالدِّين وفضلهم في أنفسهم، وقد حمل العلم عنهم الأولياء والأعداء، وذلك مبثوث في الأمصار، معروف عند نقلة الأخبار، وبالعلم تتبيَّن الحجَّة من المحجوج، والإمام من المأموم، والتابع من المتبوع، وأين دليلكم يا معشر الزيديَّة علىٰ ما تدَّعون؟

ثمّ قال صاحب الكتاب: ولو جازت الإمامة لسائر بني هاشم مع الحسن والحسين (علیهما السلام) لجازت لبني عبد مناف مع بني هاشم، ولو جازت لبني عبد مناف مع بني هاشم لجازت لسائر ولد قصيّ، ثمّ مدَّفي هذا القول.

فيقال له: أيُّها المحتجُّ عن الزيديَّة إنَّ هذا لشي ء لا يُستَحقُّ بالقرابة وإنَّما يُستَحقُّ بالفضل والعلم، ويصحُّ بالنصِّ والتوقيف، فلو جازت الإمامة لأقرب رجل من العترة لقرابته لجازت لأبعدهم فافصل بينك وبين من ادَّعىٰ ذلك وأظهر حجَّتك وافصل الآن بينك وبين من قال: ولو جازت لولد الحسن لجازت لولد جعفر، ولو جازت لهم لجازت لولد العبَّاس، وهذا فصل لا تأتي به الزيديَّة أبداً إلَّا أنْ تفزع إلىٰ فصلنا وحجَّتنا وهو النصُّ من واحد علىٰ واحد وظهور العلم بالحلال والحرام.

ص: 150

ثمّ قال صاحب الكتاب: وإنْ اعتلُّوا بعليٍّ (علیه السلام) فقالوا: ما تقولون فيه أهو من العترة أم لا؟ قيل لهم: ليس هو من العترة، ولكنَّه بان من العترة ومن سائر القرابة بالنصوص عليه يوم الغدير بإجماع.

فأقول - وبالله أستعين -: يقال لصاحب الكتاب: أمَّا النصوص يوم الغدير فصحيح، وأمَّا إنكارك أنْ يكون أمير المؤمنين من العترة فعظيم، فدلَّنا علىٰ أيِّ شيء تُعوِّل فيما تدَّعي؟ فإنَّ أهل اللغة يشهدون أنَّ العمَّ وابن العمِّ من العترة. ثمّ أقول: إنَّ صاحب الكتاب نقض بكلامه هذا مذهبه، لأنَّه معتقد أنَّ أمير المؤمنين ممَّن خلَّفه الرسول في أُمَّته، ويقول في ذلك: إنَّ النبيَّ (صلی الله علیه و آله) خلَّف في أُمَّته الكتاب والعترة، وإنَّ أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ليس من العترة، وإذا لم يكن من العترة فليس ممَّن خلَّفه الرسول (صلی الله علیه و آله)، وهذا متناقض كما ترىٰ. اللَّهُمَّ إلَّا أنْ يقول: إنَّه (صلی الله علیه و آله) خلَّف العترة فينا بعد أنْ قُتِلَ أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، فنسأله أنْ يفصل بينه وبين من قال: وخلَّف الكتاب فينا منذ ذلك الوقت، لأنَّ الكتاب والعترة خُلِّفا معاً، والخبر ناطقبذلك شاهد به، ولله المنَّة.

ثمّ أقبل صاحب الكتاب بما هو حجَّة عليه، فقال: ونسأل من ادَّعىٰ الإمامة لبعض دون بعض إقامة الحجَّة، ونسي نفسه وتفرُّده بادِّعائها لولد الحسن والحسين (علیهما السلام) دون غيرهم، ثمّ قال: فإنْ أحالوا علىٰ الأباطيل من علم الغيب وأشباه ذلك من الخرافات وما لا دليل لهم عليه دون الدعوىٰ عورضوا بمثل ذلك لبعض، فجاز أنَّ العترة من الظالمين لأنفسهم إنْ كان الدعوىٰ هو الدليل.

فيقال لصاحب الكتاب: قد أكثرت في ذكر علم الغيب، والغيب لا يعلمه إلَّا الله، وما ادَّعاه لبشر إلَّا مشرك كافر، وقد قلنا لك ولأصحابك: دليلنا علىٰ ما ندَّعي الفهم والعلم، فإنْ كان لكم مثله فأظهروه، وإنْ لم يكن إلَّا التشنيع والتقوُّل وتقريع الجميع بقول قوم غلاة فالأمر سهل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ص: 151

ثمّ قال صاحب الكتاب: ثمّ رجعنا إلىٰ إيضاح حجَّة الزيديَّة بقول الله تبارك وتعالىٰ: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ...» الآية [فاطر: 32].

فيقال له: نحن نُسلِّم لك أنَّ هذه الآية نزلت في العترة، فما برهانك علىٰ أنَّ السابق بالخيرات هم ولد الحسن والحسين دون غيرهم من سائر العترة؟ فإنَّك لست تريد إلَّا التشنيع علىٰ خصومك وتدَّعي لنفسك.

ثمّ قال: قال الله (عزوجل)وذكر الخاصَّة والعامَّة من أُمَّة نبيِّه: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً ...» الآية [آل عمران: 103]، ثمّ قال: انقضت مخاطبة العامَّة، ثمّ استأنف مخاطبة الخاصَّة فقال: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَىٰ الْخَيْرِ ...» إلىٰ قوله للخاصَّة: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْلِلنَّاسِ» [آل عمران: 104 - 110]، فقال: هم ذرّيَّة إبراهيم (علیه السلام) دون سائر الناس، ثمّ المسلمون دون من أشرك من ذرّيَّة إبراهيم (علیه السلام) قبل إسلامه وجعلهم شهداء علىٰ الناس فقال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا ...» إلىٰ قوله: «وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَىٰ النَّاسِ» [الحجّ: 77 و78]، وهذا سبيل الخاصَّة من ذرّيَّة إبراهيم (علیه السلام)، ثمّ اعتلَّ بآيات كثيرة تشبه هذه الآيات من القرآن.

فيقال له: أيُّها المحتجُّ أنت تعلم أنَّ المعتزلة وسائر فِرَق الأُمَّة تنازعك في تأويل هذه الآيات أشدّ منازعة، وأنت فليس تأتي بأكثر من الدعوىٰ، ونحن نُسلِّم لك ما ادَّعيت ونسألك الحجَّة فيما تفرَّدت به من أنَّ هؤلاء هم ولد الحسن والحسين (علیهما السلام) دون غيرهم، فإلىٰ متىٰ تأتي بالدعوىٰ وتعرض عن الحجَّة؟ وتُهوِّل علينا بقراءة القرآن وتوهم أنَّ لك في قراءته حجَّة ليست لخصومك؟ والله المستعان.

ثمّ قال صاحب الكتاب: فليس من دعا إلىٰ الخير من العترة - كمن

ص: 152

أمر بالمعروف ونهىٰ عن المنكر وجاهد فِي الله حقَّ جهاده - سواء وسائر العترة ممَّن لم يدع إلىٰ الخير ولم يجاهد فِي الله حقَّ جهاده ، كما لم يجعل الله من هذا سبيله من أهل الكتاب سواء وسائر أهل الكتاب، وإنْ كان تارك ذلك فاضلاً عابداً، لأنَّ العبادة نافلة والجهاد فريضة لازمة كسائر الفرائض صاحبها يمشي بالسيف إلىٰ السيف، ويُؤثِر علىٰ الدعة الخوف، ثمّ قرأ سورة الواقعة وذكر الآيات التي ذكر الله (عزوجل)فيها الجهاد، وأتبع الآيات بالدعاوي، ولم يحتجّ لشي ء من ذلك بحجَّة فنطالبه بصحَّتها [أ]و نقابله بما نسأله فيه الفصل.

فأقول - وبالله أستعين -: إنْ كان كثرة الجهاد هو الدليل علىٰ الفضلوالعلم والإمامة فالحسين (علیه السلام) أحقُّ بالإمامة من الحسن (علیه السلام)، لأنَّ الحسن وادع معاوية والحسين (علیه السلام) جاهد حتَّىٰ قُتِلَ، وكيف يقول صاحب الكتاب؟ وبأيِّ شيء يدفع هذا؟ وبعد فلسنا نُنكِر فرض الجهاد ولا فضله ولكنَّا رأينا الرسول (صلی الله علیه و آله) لم يحارب أحداً حتَّىٰ وجد أعواناً وأنصاراً وإخواناً فحينئذٍ حارب، ورأينا أمير المؤمنين (علیه السلام) فعل مثل ذلك بعينه، ورأينا الحسن (علیه السلام) قد همَّ بالجهاد فلمَّا خذله أصحابه وادع ولزم منزله، فعلمنا أنَّ الجهاد فرض في حال وجود الأعوان والأنصار، والعالم - بإجماع العقول - أفضل من المجاهد الذي ليس بعالم، وليس كلُّ من دعا إلىٰ الجهاد يعلم كيف حكم الجهاد، ومتىٰ يجب القتال، ومتىٰ تحسن الموادعة، وبما ذا يستقبل أمر هذه الرعيَّة، وكيف يصنع في الدماء والأموال والفروج. وبعد فإنَّا نرضىٰ من إخواننا بشيء واحد، وهو أنْ يدلُّونا علىٰ رجل من العترة ينفي التشبيه والجبر عن الله ولا يستعمل الاجتهاد والقياس في الأحكام السمعيَّة ويكون مستقلًّا كافياً حتَّىٰ نخرج معه فإنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة علىٰ قدر الطاقة وحسب الإمكان، والعقول تشهد أنَّ تكليف ما لا يُطاق فاسد والتغرير بالنفس قبيح، ومن التغرير أنْ تخرج

ص: 153

جماعة قليلة لم تشاهد حرباً ولا تدرَّبت بدربة أهله(1) إلىٰ قوم متدرِّبين بالحروب تمكَّنوا في البلاد وقتلوا العباد وتدرَّبوا بالحروب، ولهم العُدَد والسلاح والكُراع(2) ومن نصرهم من العامَّة - ويعتقدوا أنَّ الخارجعليهم مباح الدم - مثل جيشهم أضعافاً مضاعفة، فكيف يسومنا(3) صاحب الكتاب أنْ نلقىٰ بالأغمار(4) المتدرِّبين بالحروب؟ وكم عسىٰ أنْ يحصل في يد داعٍ إنْ دعا من هذا العدد(5)؟ هيهاتَ هيهاتَ، هذا أمر لا يزيله إلَّا نصر الله العزيز العليم الحكيم.

قال صاحب الكتاب بعد آيات من القرآن تلاها يُنازَع في تأويلها أشدّ منازعة، ولم يُؤيِّد تأويله بحجَّة عقل ولا سمع: فافهم - رحمك الله - مَنْ أحقّ أنْ يكون لله شهيداً؟ مَنْ دعا إلىٰ الخير كما أُمِرَ، ونهىٰ عن المنكر وأمر بالمعروف وجاهد فِي الله حقَّ جهاده حتَّىٰ استُشهِدَ، أم مَنْ لم يُرَ وجهه ولا عُرِفَ شخصه؟! أم كيف يتَّخذه الله شهيداً علىٰ من لم يرَهم ولا نهاهم ولا أمرهم فإنْ أطاعوه أدُّوا ما عليهم وإنْ قتلوه مضىٰ إلىٰ الله (عزوجل)شهيداً؟! ولو أنَّ رجلاً استشهد قوماً علىٰ حقٍّ يطالب به لم يروه ولا شهدوه هل كان شهيداً؟ وهل يستحقُّ بهم حقًّا إلَّا أنْ يشهدوا علىٰ ما لم يروه فيكونوا كذَّابين وعند الله مبطلين؟! وإذا لم يجز ذلك من العباد فهو غير جائز عند الحَكَم العدل الذي لا يجور، ولو أنَّه استشهد قوماً قد عاينوا وسمعوا فشهدوا له والمسألة علىٰ حالها، أليس كان يكون محقًّا وهم صادقون وخصمه مبطل وتمضي الشهادة ويقع الحكم، وكذلك قال الله تعالىٰ :

ص: 154


1- دَرَبَ به - كفَرَحَ - درباً ودُربةً - بالضمِّ -: ضرىٰ، كتدرَّب. والدُّربة - بالضمِّ -: عادة وجرأة علىٰ الأمر والحرب.
2- الكُراع - بالضمِّ -: اسم لجمع الخيل.
3- سامه الأمر: كلَّفه إيَّاه.
4- الغمر - مثلَّثة الغين -: من لم يُجرِّب الأُمور والجاهل، جمعه أغمار.
5- يعني إنْ دعا الإمام أو غيره مثلاً المتدرِّبين بالحروب كم يجتمع له منهم.

«إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» [الزخرف: 86]، أوَلا ترىٰ أنَّ الشهادة لا تقع بالغيب دون العيان؟ وكذلك قول عيسىٰ : «وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ ...» الآية [المائدة: 117].فأقول - وبالله أعتصم -: يقال لصاحب الكتاب: ليس هذا الكلام لك بل هو للمعتزلة وغيرهم علينا وعليك، لأنَّا نقول: إنَّ العترة غير ظاهرة، وإنَّ من شاهدنا منها لا يصلح أنْ يكون إماماً، وليس يجوز أنْ يأمرنا الله (عزوجل)بالتمسُّك بمن لا نعرف منهم ولا نشاهده ولا شاهده أسلافنا، وليس في عصرنا ممَّن شاهدناه منهم ممَّن يصلح أنْ يكون إماماً للمسلمين، والذين غابوا لا حجَّة لهم علينا، وفي هذا أدلّ دليل علىٰ أنَّ معنىٰ قَوْلِ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله): «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي » ليس ما يسبق إلىٰ قلوب الإماميَّة والزيديَّة، وللنظَّام(1) وأصحابه أنْ يقولوا: وجدنا الذي لا يفارق الكتاب هو الخبر القاطع للعذر، فإنَّه ظاهر كظهور الكتاب يُنتَفع به، ويمكن اتِّباعه والتمسُّك به.

فأمَّا العترة فلسنا نشاهد منهم عالماً يمكن أنْ نقتدي به، وإنْ بلغنا عن واحد منهم مذهب بلغنا عن آخر أنَّه يخالفه، والاقتداء بالمختلفين فاسد، فكيف يقول صاحب الكتاب؟

ثمّ اعلم أنَّ النبيَّ (صلی الله علیه و آله) لمَّا أمرنا بالتمسُّك بالعترة كان بالعقل والتعارف والسيرة ما يدلُّ علىٰ أنَّه أراد علماءهم دون جُهَّالهم، والبررة الأتقياء دون غيرهم، فالذي يجب علينا ويلزمنا أنْ ننظر إلىٰ من يجتمع له العلم بالدِّين مع العقل

ص: 155


1- هو أبو إسحاق إبراهيم بن سيَّار بن هانئ البصري ابن أُخت أبي هذيل العلَّاف شيخ المعتزلة. وكان النظَّام صاحب المعرفة بالكلام أحد رؤساء المعتزلة، أُستاذ الجاحظ. ولُقِّب بالنظَّام - كشدَّاد - لأنَّه كان يُنظِّم الخرز في سوق البصرة ويبيعها. وقالت المعتزلة: إنَّما سُمِّي ذلك لحسن كلامه نثراً ونظماً. (راجع: الكنىٰ والألقاب للمحدِّث القمِّي: ج 3/ ص 253 و254).

والفضل والحلم والزهد في الدنياوالاستقلال بالأمر فنقتدي به ونتمسَّك بالكتاب وبه.

وإنْ قال: فإنْ اجتمع ذلك في رجلين وكان أحدهما ممَّن يذهب إلىٰ مذهب الزيديَّة والآخر إلىٰ مذهب الإماميَّة بمن يُقتدىٰ منهما ولمن يُتَّبع؟ قلنا له: هذا لا يتَّفق، فإنْ اتَّفق فرق بينهما دلالة واضحة إمَّا نصٌّ من إمام تقدَّمه وإمَّا شيء يظهر في علمه كما ظهر في أَمِيرِ المؤْمِنِينَ يَوْمَ النَّهَرِ حِينَ قَالَ: «وَاللهِ مَا عَبَرُوا النَّهَرَ وَلَا يَعْبُرُوا، وَاللهِ مَا يُقْتَلُ مِنْكُمْ عَشَرَةٌ وَلَا يَنْجُوا مِنْهُمْ عَشَرَةٌ»(1)، وإمَّا أنْ يظهر من أحدهما مذهب يدلُّ علىٰ أنَّ الاقتداء به لا يجوز كما ظهر من علم الزيديَّة القول بالاجتهاد والقياس في الفرائض السمعيَّة والأحكام، فيُعلَم بهذا أنَّهم غير أئمَّة. ولست أُريد بهذا القول زيد بن عليٍّ وأشباهه، لأنَّ أُولئك لم يُظهِروا ما يُنكَر ولا ادَّعوا أنَّهم أئمَّة وإنَّما دعوا إلىٰ الكتاب والرضا من آل محمّد، وهذه دعوة حقٍّ.

وأمَّا قوله: (كيف يتَّخذه الله شهيداً علىٰ من لم يرَهم ولا أمرهم ولا نهاهم؟)، فيقال له: ليس معنىٰ الشهيد عند خصومك ما تذهب إليه، ولكن إنْ عبت الإماميَّة بأنَّ من لم يُرَ وجهه ولا عُرِفَ شخصه لا يكون بالمحلِّ الذي يدَّعونه له، فأخبرنا عنك مَن الإمام الشهيد من العترة في هذا الوقت، فإنْ ذكر أنَّه لا يعرفه دخل فيما عاب ولزمه ما قدَّر أنَّه يلزم خصومه، فإنْ قال: هو فلان، قلنا له: فنحن لم نرَ وجهه ولا عرفنا شخصه، فكيف يكون إماماً لنا وشهيداً علينا؟! فإنْ قال: إنَّكم وإنْ لم تعرفوه فهو موجود الشخصمعروف علمه من

ص: 156


1- راجع ما رواه ابن أبي شيبة في المصنَّف (ج 8/ ص 732/ ح 13)، والمسعودي في مروج الذهب (ج 2/ ص 405)، والدارقطني في سُنَنه (ج 3/ ص 99/ ح 3223)، والبيهقي في سُنَنه (ج 8/ ص 185)، وابن المغازلي في مناقب عليِّ بن أبي طالب (ص 69 و70 و79/ ح 83 و87)، والخوارزمي في المناقب (ص 262 و263/ ح 245).

علمه وجهله من جهله، قلنا: سألناك بالله هل تظنُّ أنَّ المعتزلة والخوارج والمرجئة والإماميَّة تعرف هذا الرجل أو سمعت به أو خطر ذكره ببالها؟ فإنْ قال: هذا ما لا يضرُّه ولا يضرُّنا، لأنَّ السبب في ذلك إنَّما هو غلبة الظالمين علىٰ الدار وقلَّة الأعوان والأنصار، قلت له: لقد دخلت فيما عبت وحججت نفسك من حيث قدَّرت أنَّك تحاجُّ خصومك، وما أقرب هذه الغيبة من غيبة الإماميَّة غير أنَّكم لا تنصفون.

ثمّ يقال: قد أكثرت في ذكر الجهاد ووصف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتَّىٰ أوهمت أنَّ من لم يخرج فليس بمحقٍّ، فما بال أئمَّتك والعلماء من أهل مذهبك لا يخرجون؟ وما لهم قد لزموا منازلهم واقتصروا علىٰ اعتقاد المذهب فقط؟ فإنْ نطق بحرف فتقابله الإماميَّة بمثله. ثمّ قيل له برفق ولين: هذا الذي عبته علىٰ الإماميَّة وهتفت بهم من أجله وشنَّعت به علىٰ أئمَّتهم بسببه وتوصَّلت بذكره إلىٰ ما ضمَّنته كتابك، قد دخلت فيه وملت إلىٰ صحَّته، وعوَّلت عند الاحتجاج عليه، والحمد لله الذي هدانا لدينه.

ثمّ يقال له: أخبرنا هل في العترة اليوم من يصلح للإمامة؟ فلا بدَّ من أنْ يقول: نعم، فيقال له: أفليس إمامته لا تصحُّ إلَّا بالنصِّ علىٰ ما تقوله الإماميَّة ولا معه دليل معجز يُعلَم به أنَّه إمام وليس سبيله عندكم سبيل من يجتمع أهل الحلِّ والعقد من الأُمَّة فيتشاورون في أمره ثمّ يختارونه ويبايعونه؟ فإذا قال: نعم، قيل له: فكيف السبيل إلىٰ معرفته؟ فإنْ قالوا: يُعرَف بإجماع العترة عليه، قلنا لهم: كيف تجتمع عليه؟ فإنْ كان إماميًّا لم ترضَ به الزيديَّة، وإنْ كان زيديًّا لم ترضَ به الإماميَّة، فإنْ قال: لا يُعتَبر بالإماميَّة في مثل هذا، قيل له: فالزيديَّة علىٰ قسمين: قسم معتزلة وقسممثبِّتة، فإنْ قال: لا يُعتَبر بالمثبِّتة في مثل هذا، قيل له: فالمعتزلة قسمان: قسم يجتهد في الأحكام بآرائها، وقسم يعتقد أنَّ الاجتهاد ضلال، فإنْ

ص: 157

قال: لا يُعتَبر بمن نفىٰ الاجتهاد، قيل له: فإنْ بقي - ممَّن يرىٰ الاجتهاد - منهم أفضلهم وبقي - ممَّن يُبطِل الاجتهاد - منهم أفضلهم، ويبرأ بعضهم من بعض بمن نتمسَّك؟ وكيف نعلم المحقَّ منهما هو من تومئ أنت وأصحابك إليه دون غيره؟ فإنْ قال: بالنظر في الأُصول، قلنا: فإنْ طال الاختلاف واشتبه الأمر كيف نصنع وبما نتفصَّىٰ من قَوْلِ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله): «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي »؟ والحجَّة من عترته لا يمكن أحداً(1) أنْ يعرفه إلَّا بعد النظر في الأُصول والوقوف علىٰ أنَّ مذاهبه كلَّها صواب، وعلىٰ أنَّ من خالفه فقد أخطأ، وإذا كان هكذا فسبيله وسبيل كلِّ قائل من أهل العلم سبيل واحد، فما تلك الخاصَّة التي هي للعترة دلَّنا عليها وبيِّن لنا جميعها لنعلم أنَّ بين العالم من العترة وبين العالم من غير العترة فرقاً وفصلاً.

وأُخرىٰ يقال لهم: أخبرونا عن إمامكم اليوم أعنده الحلال والحرام؟ فإذا قالوا: نعم، قلنا لهم: وأخبرونا عمَّا عنده ممَّا ليس في الخبر المتواتر هل هو مثل ما عند الشافعي وأبي حنيفة ومن جنسه أو هو خلاف ذلك؟ فإنْ قال: بل عنده الذي عندهما ومن جنسه، قيل لهم: وما حاجة الناس إلىٰ علم إمامكم الذي لم يُسمَع به، وكُتُب الشافعي وأبي حنيفة ظاهرة مبثوثة موجودة؟ وإنْ قال: بل عنده خلاف ما عندهما، قلنا: فخلاف ما عندهما هو النصُّ المستخرَج الذي تدَّعيه جماعة من مشايخ المعتزلة وإنَّ الأشياء كلَّها علىٰ إطلاق العقول إلَّا ما كان في الخبر القاطع للعذر علىٰ مذهب النظَّاموأتباعه، أو مذهب الإماميَّة أنَّ الأحكام منصوصة، واعلموا أنَّا لا نقول منصوصة علىٰ الوجه الذي يسبق إلىٰ القلوب، ولكنَّ المنصوص عليه بالجمل التي من فهمها فهم الأحكام من غير قياس ولا اجتهاد، فإنْ قالوا: عنده ما يخالف هذا كلّه، خرجوا من التعارف،

ص: 158


1- أي لأحد.

وإنْ تعلَّقوا بمذهب من المذاهب، قيل لهم: فأين ذلك العلم؟ هل نقله عن إمامكم أحد يُوثَق بدينه وأمانته؟ فإنْ قالوا: نعم، قيل لهم: قد عاشرناكم الدهر الأطول فما سمعنا بحرف واحد من هذا العلم، وأنتم قوم لا ترون التقيَّة ولا يراها إمامكم، فأين علمه؟ وكيف لم يظهر ولم ينتشر؟ ولكن أخبرونا ما يؤمنَّا أنْ تكذبوا فقد كذبتم علىٰ إمامكم كما تدَّعون أنَّ الإماميَّة كذبت علىٰ جعفر بن محمّد (علیهما السلام)، وهذا ما لا فصل فيه.

مسألة أُخرىٰ: ويقال لهم: أليس جعفر بن محمّد عندكم كان لا يذهب إلىٰ ما تدَّعيه الإماميَّة، وكان علىٰ مذهبكم ودينكم؟ فلا بدَّ من [أنْ يقولوا]: نعم، اللَّهُمَّ إلَّا أنْ تبرؤوا منه، فيقال لهم: وقد كذبت الإماميَّة فيما نقلته عنه، وهذه الكُتُب المؤلَّفة التي في أيديهم إنَّما هي من تأليف الكذَّابين؟ فإذا قالوا: نعم، قيل لهم: فإذا جاز ذلك فلِمَ لا يجوز أنْ يكون إمامكم يذهب مذهب الإماميَّة ويدين بدينها وأنْ يكون ما يحكي سلفكم ومشايخكم عنه مولّداً موضوعاً لا أصل له؟ فإنْ قالوا: ليس لنا في هذا الوقت إمام نعرفه بعينه نروي عنه علم الحلال والحرام، ولكنَّا نعلم أنَّ في العترة من هو موضع هذا الأمر وأهله، قلنا لهم: دخلتم فيما عبتموه علىٰ الإماميَّة بما معها من الأخبار من أئمَّتها بالنصِّ علىٰ صاحبهم والإشارة إليه والبشارة به، وبطل جميع ما قصصتم به من ذكر الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فصار إمامكم بحيث لا يُرىٰ ولا يُعرَف، فقولوا كيف شئتم، ونعوذبالله من الخذلان.

ثمّ قال صاحب الكتاب: وكما أمر الله العترة بالدعاء إلىٰ الخير(1) وصف سبق السابقين منهم وجعلهم شهداء وأمرهم بالقسط، فقال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ» [المائدة: 8]، ثمّ أتبع ذلك بضرب من

ص: 159


1- في قوله (تبارک و تعالی): «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَىٰ الْخَيْرِ» [آل عمران: 104].

التأويل وقراءة آيات من القرآن ادَّعىٰ أنَّها في العترة، ولم يحتجّ لشي ء منها بحجَّة أكثر من أنْ يكون الدعوىٰ، ثمّ قال: وقد أوجب الله تعالىٰ علىٰ نبيِّه (صلی الله علیه و آله) ترك الأمر والنهي إلىٰ أنْ هيَّأ له أنصاراً فقال: «وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا ...» إلىٰ قوله: «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» [الأنعام: 68 و69]، فمن لم يكن من السابقين بالخيرات، المجاهدين في الله ولا من المقتصدين الواعظين بالأمر والنهي عند إعواز الأعوان(1) فهو من الظالمين لأنفسهم، وهذا سبيل من كان قبلنا من ذراري الأنبياء (علیهم السلام)، ثمّ تلا آيات من القرآن.

فيقال له: ليس علينا، لمن(2) أراد بهذا الكلام؟ ولكن أخبرنا عن الإمام من العترة عندك من أيِّ قسم هو؟ فإنْ قال: من المجاهدين، قيل له: فمن هو؟ ومن جاهد ويعلم من خرج؟ وأين خيله ورجله؟ فإنْ قال: هو ممَّن يعظ بالأمر والنهي عند إعواز الأعوان، قيل له: فمن سمع أمره ونهيه؟ فإنْ قال: أولياؤه وخاصَّته، قلنا: فإنْ اتُّبِعَ هذا وسقط فرض ما سوىٰذلك عنه لإعواز الأعوان وجاز أنْ لا يسمع أمره ونهيه إلَّا أولياؤه، فأيُّ شيء عبته علىٰ الإماميَّة؟ ولِمَ ألَّفت كتابك هذا؟ وبمن عرَّضت؟ وليت شعري وبمن قرَّعت بآي القرآن وألزمته فرض الجهاد؟

ثمّ يقال له وللزيديَّة جميعاً: أخبرونا لو خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الدنيا ولم ينصّ علىٰ أمير المؤمنين (علیه السلام) ولا دلَّ عليه ولا أشار إليه أكان يكون ذلك من فعله صواباً وتدبيراً حسناً جائزاً؟ فإنْ قالوا: نعم، فقلنا لهم: ولو لم يدلّ علىٰ

ص: 160


1- اعوزَّ اعوزازاً الرجل: افتقر وساءت حاله فهو معوزٌّ، وأعوزه المطلوب: أعجزه وصعب عليه نيله. أعوز في الشيء: احتجت إليه، لم أقدر عليه. وفى بعض النُّسَخ: (اعوزاز الأعوان)، وأعوز اعوزازاً احتال، اختلَّت حاله.
2- لعلَّ اللَّام في قوله: (لمن) مفتوحة، والجملة تتضمَّن معنىٰ الاستفهام، وقوله: (ليس علينا) جملة مستقلَّة، أي ليس ما قلت علينا. وفى بعض النُّسَخ: (لمن المراد).

العترة أكان يكون ذلك جائزاً؟ فإنْ قالوا: نعم، قلنا: ولو لم يدلّ فأيُّ شيء أنكرتم علىٰ المعتزلة والمرجئة والخوارج وقد كان يجوز أنْ لا يقع النصُّ فيكون الأمر شورىٰ بين أهل الحلِّ والعقد؟ وهذا ما لا حيلة فيه، فإنْ قالوا: لا ولا بدَّ من النصِّ علىٰ أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ومن الأدلَّة علىٰ العترة، قيل لهم: لِمَ؟ حتَّىٰ إذا ذكروا الحجَّة الصحيحة فننقلها إلىٰ الإمام في كلِّ زمان، لأنَّ النصَّ إنْ وجب في زمن وجب في كلِّ زمان، لأنَّ العلل الموجبة له موجودة أبداً، ونعوذ بالله من الخذلان.

مسألة أُخرىٰ: يقال لهم: إذا كان الخبر المتواتر حجَّة رواه العترة والأُمَّة، وكان الخبر الواحد من العترة كخبر الواحد من الأُمَّة يجوز علىٰ الواحد منهم من تعمُّد الباطل ومن السهو والزلل ما يجوز علىٰ الواحد من الأُمَّة وما ليس في الخبر المتواتر ولا خبر الواحد فسبيله عندكم الاستخراج، وكان يجوز علىٰ المتأوِّل منكم ما يجوز علىٰ المتأوِّل من الأُمَّة، فمن أيِّ وجه صارت العترة حجَّة؟ فإنْ قال صاحب الكتاب: إذا أجمعوا فإجماعهم حجَّة، قيل له: فإذا أجمعت الأُمَّة فإجماعها حجّة، وهذا يوجب أنَّه لا فرق بين العترة والأُمَّة، وإنْ كان هكذا فليس في قَوْلِهِ:«خَلَّفْتُ فِيكُمْ كِتَابَ الله وعِتْرَتِي » فائدة إلَّا أنْ يكون فيها من هو حجَّة في الدِّين، وهذا قول الإماميَّة.

واعلموا - أسعدكم الله - أنَّ صاحب الكتاب أشغل نفسه بعد ذلك بقراءة القرآن وتأويله علىٰ من أحبّ ولم يقل في شيء من ذلك: (الدليل علىٰ صحَّة تأويلي كيت كيت)، وهذا شي ء لا يعجز عنه الصبيان، وإنَّما أراد أنْ يعيب الإماميَّة بأنَّها لا ترىٰ الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد غلط فإنَّها ترىٰ ذلك علىٰ قدر الطاقة، ولا ترىٰ أنْ تُلقي بأيديها إلىٰ التهلكة، ولا أنْ تخرج مع من لا يعرف الكتاب والسُّنَّة ولا يحسن أنْ يسير في الرعيَّة بسيرة العدل والحقِّ.

ص: 161

وأعجب من هذا أنَّ أصحابنا من الزيديَّة في منازلهم لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر ولا يجاهدون، وهم يعيبوننا بذلك، وهذا نهاية من نهايات التحامل ودليل من أدلَّة العصبيَّة، نعوذ بالله من اتِّباع الهوىٰ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

مسألة أُخرىٰ: ويقال لصاحب الكتاب: هل تعرف في أئمَّة الحقِّ أفضل من أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)؟ فمن قوله: لا، فيقال له: فهل تعرف من المنكر بعد الشرك والكفر شيئاً أقبح وأعظم ممَّا كان من أصحاب السقيفة؟ فمن قوله: لا، فيقال له: فأنت أعلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد أو أمير المؤمنين (علیه السلام)؟ فلا بدَّ من أنْ يقول: أمير المؤمنين، فيقال له: فما باله لم يجاهد القوم؟ فإنْ اعتذر بشيء، قيل له: فاقبل مثل هذا العذر من الإماميَّة، فإنَّ الناس جميعاً يعلمون أنَّ الباطل اليوم أقوىٰ منه يومئذٍ وأعوان الشيطان أكثر ولا تُهوِّل علينا بالجهاد وذكره، فإنَّ الله تعالىٰ إنَّما فرضه لشرائط لو عرفتها لقلَّ كلامكوقصر كتابك، ونسأل الله التوفيق.

مسألة أُخرىٰ: يقال لصاحب الكتاب: أتُصوِّبون الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام) في موادعته معاوية أم تُخطِّئونه؟ فإذا قالوا: نُصوِّبه، قيل لهم: أتُصوِّبونه وقد ترك الجهاد وأعرض عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علىٰ الوجه الذي تؤمُّون إليه؟ فإنْ قالوا: نُصوِّبه لأنَّ الناس خذلوه، ولم يأمنهم علىٰ نفسه، ولم يكن معه من أهل البصائر من يمكنه أنْ يقاوم بهم معاوية وأصحابه، فإذا عرفوا صحَّة ذلك قيل لهم: فإذا كان الحسن (علیه السلام) مبسوط العذر ومعه جيش أبيه وقد خطب له الناس علىٰ المنابر وسلَّ سيفه وسار إلىٰ عدوِّ الله وعدوِّه للجهاد لما وصفتم وذكرتم، فلِمَ لا تعذرون جعفر بن محمّد (علیهما السلام) في تركه الجهاد وقد كان أعداؤه في عصره أضعاف من كان مع معاوية، ولم يكن معه من شيعته [مائة نفر] قد تدرَّبوا

ص: 162

بالحروب، وإنَّما كان قوم من أهل السرِّ لم يشاهدوا حرباً ولا عاينوا وقعةً، فإنْ بسطوا عذره فقد أنصفوا، وإنْ امتنع منهم ممتنع فسُئِلَ الفصل، ولا فصل.

وبعد فإنْ كان قياس الزيديَّة صحيحاً فزيد بن عليٍّ أفضل من الحسن بن عليٍّ، لأنَّ الحسن وادع وزيد حارب حتَّىٰ قُتِلَ، وكفىٰ بمذهب يُؤدِّي إلىٰ تفضيل زيد بن عليٍّ علىٰ الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام) قبحاً، والله المستعان، وحسبنا الله ونعم الوكيل(1).

وإنَّما ذكرنا هذه الفصول في أوَّل كتابنا هذا لأنَّها غاية ما يتعلَّق بها الزيديَّة وما ردَّ عليهم وهي أشدّ الفِرَق علينا. وقد ذكرنا الأنبياء والحُجَج الذين وقعت بهم الغيبة (صلوات الله عليهم)، وذكرنا في آخر الكتابالمعمَّرين، ليخرج بذلك ما نقوله في الغيبة وطول العمر من حدِّ الإحالة إلىٰ حدِّ الجواز، ثمّ صحَّحنا النصوص علىٰ القائم الثاني عشر من الأئمَّة (عليه وعليهم السلام) من الله (تعالىٰ ذكره) ومن رسوله والأئمَّة الأحد عشر (صلوات الله عليهم) مع إخبارهم بوقوع الغيبة، ثمّ ذكرنا مولده (علیه السلام)، ومن شاهده، وما صحَّ من دلالاته وأعلامه، وما ورد من توقيعاته لتأكيد الحجَّة علىٰ المنكرين لوليِّ الله والمغيَّب في ستر الله، والله الموفِّق للصواب، وهو خير مستعان .

* * *

ص: 163


1- هذا آخر ما نقله عن كتاب ابن قبة.

ص: 164

الباب الأوّل

الباب الأوّل(1): في غيبة إدريس النبيِّ (علیه السلام)

ص: 165


1- النُّسَخ مختلفة في عنوان الأبواب، وهنا في بعضها: (الباب الأوَّل)، وفى بعضها: (الباب الثاني)، وفى بعضها: (باب) فقط، وفى بعضها: (باب) مع الرقم الهندسي.

ص: 166

فأوَّل الغيبات غيبة إدريس النبيِّ (علیه السلام) المشهورة حتَّىٰ آل الأمر بشيعته إلىٰ أنْ تعذَّر عليهم القوت، وقتل الجبَّار من قتل منهم وأفقر وأخاف باقيتهم، ثمّ ظهر (علیه السلام) فوعد شيعته بالفرج وبقيام القائم من ولده، وهو نوح (علیه السلام)، ثمّ رفع الله (عزوجل)إدريس (علیه السلام) إليه، فلم تزل الشيعة يتوقَّعون قيام نوح (علیه السلام) قرناً بعد قرن، وخلفاً عن سلف، صابرين من الطواغيت علىٰ العذاب المهين حتَّىٰ ظهرت نبوَّة نوح (علیه السلام).

[1/1] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ ابْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنهما)، قَالُوا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ جَمِيعاً، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي الْبِلَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ (علیهما السلام)، قَالَ : «كَانَ بَدْءُ نُبُوَّةِ إِدْرِيسَ (علیه السلام) أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَانِهِ مَلِكٌ جَبَّارٌ، وَأَنَّهُ رَكِبَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي بَعْضِ نُزَهِهِ، فَمَرَّ بِأَرْضٍ خَضِرَةٍ نَضِرَةٍ لِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِنَ الرَّافِضَةِ(1)، فَأَعْجَبَتْهُ، فَسَأَلَ وُزَرَاءَهُ: لِمَنْ هَذِهِ الْأَرْضُ؟ قَالُوا: لِعَبْدٍ مُؤْمِنٍمِنْ عَبِيدِ المَلِكِ فُلَانٍ الرَّافِضِيِّ، فَدَعَا بِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَمْتِعْنِي بِأَرْضِكَ هَذِهِ(2)، فَقَالَ: عِيَالِي أَحْوَجُ إِلَيْهَا مِنْكَ، قَالَ: فَسُمْنِي بِهَا(3) أُثْمِنْ لَكَ، قَالَ: لَا أُمْتِعُكَ بِهَا

ص: 167


1- الرافضة هم الدين تركوا مذهب سلطانهم. والرفض في اللغة: الترك، والروافض جنود تركوا قائدهم وانصرفوا وذهبوا عنه. أو المراد الذين رفضوا الشرك والمعاصي أو مذهب المَلِك أو الدنيا ونعيمها. وفي إثبات الوصيَّة (ص 26): (فقيل: إنَّها لرجل من الرافضة كان لا يتبعه علىٰ كفره ويرفضه يُسمَّىٰ رافضيًّا فدُعِيَ به...) إلخ.
2- أي اجعلها لي أنتفع بها وألتذّ بها.
3- السوم طلب الشراء، أي بعني. و(أثمن لك)، أي أُعطيك الثمن.

وَلَا أَسُومُكَ، دَعْ عَنْكَ ذِكْرَهَا، فَغَضِبَ المَلِكُ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَسِفَ وَانْصَرَفَ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَهُوَ مَغْمُومٌ مُتَفَكِّرٌ فِي أَمْرِهِ، وَكَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَزَارِقَةِ(1) وَكَانَ بِهَا مُعْجَباً يُشَاوِرُهَا فِي الْأَمْرِ إِذَا نَزَلَ بِهِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي مَجْلِسِهِ بَعَثَ إِلَيْهَا لِيُشَاوِرَهَا فِي أَمْرِ صَاحِبِ الْأَرْضِ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ، فَرَأَتْ فِي وَجْهِهِ الْغَضَبَ، فَقَالَتْ: أَيُّهَا المَلِكُ مَا الَّذِي دَهَاكَ(2) حَتَّىٰ بَدَا الْغَضَبُ فِي وَجْهِكَ قَبْلَ فِعْلِكَ(3)؟ فَأَخْبَرَهَا بِخَبَرِ الْأَرْضِ وَمَا كَانَ مِنْ قَوْلِهِ لِصَاحِبِهَا وَمِنْ قَوْلِ صَاحِبِهَا لَهُ، فَقَالَتْ: أَيُّهَا المَلِكُ إِنَّمَا يَهْتَمُّ بِهِ(4) مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ التَّغْيِيرِ وَالْاِنْتِقَامِ، فَإِنْ كُنْتَ تَكْرَهُ أَنْ تَقْتُلَهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ فَأَنَا أَكْفِيكَ أَمْرَهُ وَأُصَيِّرُ أَرْضَهُ بِيَدَيْكَ بِحُجَّةٍ لَكَ فِيهَا الْعُذْرُ عِنْدَ أَهْلِ مَمْلَكَتِكَ، قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَتْ: أَبْعَثُ إِلَيْهِ أَقْوَاماً مِنْ أَصْحَابِيَ الْأَزَارِقَةِ حَتَّىٰ يَأْتُوكَ بِهِ فَيَشْهَدُوا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْ دِينِكَ، فَيَجُوزَ لَكَ قَتْلُهُ وَأَخْذُ أَرْضِهِ، قَالَ: فَافْعَلِي ذَلِكِ».

قَالَ: «وَكَانَ لَهَا أَصْحَابٌ مِنَ الْأَزَارِقَةِ عَلَىٰ دِينِهَا يَرَوْنَ قَتَلَالرَّوَافِضِ مِنَ المُؤْمِنِينَ، فَبَعَثَتْ إِلَىٰ قَوْمٍ مِنَ الْأَزَارِقَةِ(5)، فَأَتَوْهَا، فَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَىٰ فُلَانٍ الرَّافِضِيِّ عِنْدَ المَلِكِ أَنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْ دِينِ المَلِكِ، فَشَهِدُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْ دِينِ المَلِكِ، فَقَتَلَهُ وَاسْتَخْلَصَ أَرْضَهُ، فَغَضِبَ اللهُ تَعَالَىٰ لِلْمُؤْمِنِ عِنْدَ ذَلِكَ، فَأَوْحَىٰ اللهُ إِلَىٰ إِدْرِيسَ أَنِ ائْتِ عَبْدِي هَذَا الْجَبَّارَ، فَقُلْ لَهُ: أَمَا رَضِيتَ أَنْ قَتَلْتَ عَبْدِيَ المُؤْمِنَ ظُلْماً حَتَّىٰ اسْتَخْلَصْتَ أَرْضَهُ خَالِصَةً لَكَ؟ فَأَحْوَجْتَ عِيَالَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَأَجَعْتَهُمْ، أَمَا وَعِزَّتِي لَأَنْتَقِمَنَّ لَهُ مِنْكَ فِي الْآجِلِ، وَلَأَسْلُبَنَّكَ مُلْكَكَ فِي الْعَاجِلِ، وَلَأُخَرِّبَنَّ

ص: 168


1- المراد بهم أهل الروم أو الديلم، لأنَّ زرقة العيون غالبة فيهم. والأزارقة أيضاً هم الذين يبيحون مال من علىٰ غير عقيدتهم ويستحلُّون دمه، نظير عقيدة الخوارج في الإسلام، والمراد هنا المعنىٰ الثاني.
2- دهىٰ فلاناً، أي أصابه بداهية.
3- أي قبل إتيانك بما غضبت له.
4- في بعض النُّسَخ: (يغتمُّ ويأسف).
5- في بعض النُّسَخ: (إلىٰ قوم منهم).

مَدِينَتَكَ، وَلَأُذِلَّنَّ عِزَّكَ، وَلَأُطْعِمَنَّ الْكِلَابَ لَحْمَ امْرَأَتِكَ، فَقَدْ غَرَّكَ يَا مُبْتَلَىٰ حِلْمِي عَنْكَ.

فَأَتَاهُ إِدْرِيسُ (علیه السلام) بِرِسَالَةِ رَبِّهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْجَبَّارُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ، وَهُوَ يَقُولُ لَكَ: أَمَا رَضِيتَ أَنْ قَتَلْتَ عَبْدِيَ المُؤْمِنَ ظُلْماً حَتَّىٰ اسْتَخْلَصْتَ أَرْضَهُ خَالِصَةً لَكَ وَأَحْوَجْتَ عِيَالَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَأَجَعْتَهُمْ، أَمَا وَعِزَّتِي لَأَنْتَقِمَنَّ لَهُ مِنْكَ فِي الْآجِلِ، وَلَأَسْلُبَنَّكَ مُلْكَكَ فِي الْعَاجِلِ، وَلَأُخَرِّبَنَّ مَدِينَتَكَ، وَلَأُذِلَّنَّ عِزَّكَ، وَلَأُطْعِمَنَّ الْكِلَابَ لَحْمَ امْرَأَتِكَ.

فَقَالَ الْجَبَّارُ: اخْرُجْ عَنِّي يَا إِدْرِيسُ، فَلَنْ تَسْبِقَنِي بِنَفْسِكَ(1). ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَىٰ امْرَأَتِهِ فَأَخْبَرَهَا بِمَا جَاءَ بِهِ إِدْرِيسُ، فَقَالَتْ: لَا تَهُولَنَّكَ رِسَالَةُ إِلَهِ إِدْرِيسَ، أَنَا أَكْفِيكَ أَمْرَ إِدْرِيسَ، أُرْسِلُ إِلَيْهِ مَنْ يَقْتُلُهُ فَتَبْطُلُ رِسَالَةُ إِلَهِهِ وَكُلُّ مَا جَاءَكَ بِهِ، قَالَ: فَافْعَلِي، وَكَانَ لِإِدْرِيسَ أَصْحَابٌ مِنَ الرَّافِضَةِ مُؤْمِنُونَيَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ فِي مَجْلِسٍ لَهُ فَيَأْنَسُونَ بِهِ وَيَأْنَسُ بِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ إِدْرِيسُ بِمَا كَانَ مِنْ وَحْيِ اللهِ (عزوجل)إِلَيْهِ وَرِسَالَتِهِ إِلَىٰ الْجَبَّارِ، وَمَا كَانَ مِنْ تَبْلِيغِهِ رِسَالَةَ اللهِ (عزوجل)إِلَىٰ الْجَبَّارِ، فَأَشْفَقُوا عَلَىٰ إِدْرِيسَ وَأَصْحَابِهِ، وَخَافُوا عَلَيْهِ الْقَتْلَ.

وَبَعَثَتِ امْرَأَةُ الْجَبَّارِ إِلَىٰ إِدْرِيسَ أَرْبَعِينَ رَجُلاً مِنَ الْأَزَارِقَةِ لِيَقْتُلُوهُ، فَأَتَوْهُ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي كَانَ يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ فِيهِ أَصْحَابُهُ، فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَانْصَرَفُوا وَقَدْ رَآهُمْ أَصْحَابُ إِدْرِيسَ، فَحَسِبُوا أَنَّهُمْ أَتَوْا إِدْرِيسَ لِيَقْتُلُوهُ، فَتَفَرَّقُوا فِي طَلَبِهِ، فَلَقُوهُ، فَقَالُوا لَهُ: خُذْ حِذْرَكَ يَا إِدْرِيسُ فَإِنَّ الْجَبَّارَ قَاتِلُكَ قَدْ بَعَثَ الْيَوْمَ أَرْبَعِينَ رَجُلاً مِنَ الْأَزَارِقَةِ لِيَقْتُلُوكَ، فَاخْرُجْ مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، فَتَنَحَّىٰ إِدْرِيسُ عَنِ الْقَرْيَةِ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّحَرِ نَاجَىٰ إِدْرِيسُ رَبَّهُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ،

ص: 169


1- أي لا يمكنك الفرار بنفسك والتقدُّم بحيث لا يمكنني اللحوق بك لإهلاكها، أو لا تغلبني في أمر نفسك بأنْ تتخلَّصها منِّي.

بَعَثْتَنِي إِلَىٰ جَبَّارٍ فَبَلَّغْتُ رِسَالَتَكَ، وَقَدْ تَوَعَّدَنِي هَذَا الْجَبَّارُ بِالْقَتْلِ، بَلْ هُوَ قَاتِلي إِنْ ظَفِرَ بِي، فَأَوْحَىٰ اللهُ (عزوجل)أَنْ تَنَحَّ عَنْهُ، وَاخْرُجْ مِنْ قَرْيَتِهِ، وَخَلِّنِي وَإِيَّاهُ، فَوَعِزَّتِي لَأُنْفِذَنَّ فِيهِ أَمْرِي، وَلَأُصَدِّقَنَّ قَوْلَكَ فِيهِ، وَمَا أَرْسَلْتُكَ بِهِ إِلَيْهِ، فَقَالَ إِدْرِيسُ: يَا رَبِّ، إِنَّ لِي حَاجَةً، قَالَ اللهُ (تبارک و تعالی): سَلْ تُعْطَهَا، قَالَ: أَسْأَلُكَ أَنْ لَا تُمْطِرَ السَّمَاءَ عَلَىٰ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَمَا حَوْلَهَا وَمَا حَوَتْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ أَسْأَلَكَ ذَلِكَ، قَالَ اللهُ (تبارک و تعالی): يَا إِدْرِيسُ، إِذاً تَخْرُبُ الْقَرْيَةُ وَيَشْتَدُّ جَهْدُ أَهْلِهَا وَيَجُوعُونَ، قَالَ إِدْرِيسُ: وَإِنْ خَرِبَتْ وَجَهَدُوا وَجَاعُوا، قَالَ اللهُ (تبارک و تعالی): فَإِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُكَ مَا سَأَلْتَ، وَلَنْ أُمْطِرَ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ حَتَّىٰ تَسْأَلَنِي ذَلِكَ، وَأَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَىٰ بِوَعْدِهِ.

فَأَخْبَرَ إِدْرِيسُ أَصْحَابَهُ بِمَا سَأَلَ اللهُ مِنْ حَبْسِ المَطَرِ عَنْهُمْ، وَبِمَا أَوْحَىٰ اللهُ إِلَيْهِ وَوَعَدَهُ أَنْ لَا يُمْطِرَ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ حَتَّىٰ يَسْأَلَهُ ذَلِكَ. فَاخْرُجُواأَيُّهَا المُؤْمِنُونَ مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِلَىٰ غَيْرِهَا مِنَ الْقُرَىٰ، فَخَرَجُوا مِنْهَا، وَعِدَّتُهُمْ يَوْمَئِذٍ عِشْرُونَ رَجُلاً، فَتَفَرَّقُوا فِي الْقُرَىٰ، وَشَاعَ خَبَرُ إِدْرِيسَ فِي الْقُرَىٰ بِمَا سَأَلَ رَبَّهُ تَعَالَىٰ، وَتَنَحَّىٰ إِدْرِيسُ إِلَىٰ كَهْفٍ فِي جَبَلٍ شَاهِقٍ، فَلَجَأَ إِلَيْهِ، وَوَكَّلَ اللهُ (عزوجل)بِهِ مَلَكاً يَأْتِيهِ بِطَعَامِهِ عِنْدَ كُلِّ مَسَاءٍ، وَكَانَ يَصُومُ النَّهَارَ، فَيَأْتِيهِ المَلَكُ بِطَعَامِهِ عِنْدَ كُلِّ مَسَاءٍ، وَسَلَبَ اللهُ (عزوجل)عِنْدَ ذَلِكَ مُلْكَ الْجَبَّارِ وَقَتَلَهُ وَأَخْرَبَ مَدِينَتَهُ وَأَطْعَمَ الْكِلَابَ لَحْمَ امْرَأَتِهِ غَضَباً لِلْمُؤْمِنِ، فَظَهَرَ فِي المَدِينَةِ جَبَّارٌ آخَرُ عَاصٍ، فَمَكَثُوا بِذَلِكَ بَعْدَ خُرُوجِ إِدْرِيسَ مِنَ الْقَرْيَةِ عِشْرِينَ سَنَةً لَمْ تُمْطِرِ السَّمَاءُ عَلَيْهِمْ قَطْرَةً مِنْ مَائِهَا عَلَيْهِمْ، فَجَهَدَ الْقَوْمُ وَاشْتَدَّتْ حَالُهُمْ وَصَارُوا يَمْتَارُونَ الْأَطْعِمَةَ(1) مِنَ الْقُرَىٰ مِنْ بُعْدٍ، فَلَمَّا جَهَدُوا مَشَىٰ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ، فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي نَزَلَ بِنَا مِمَّا تَرَوْنَ بِسُؤَالِ إِدْرِيسَ رَبَّهُ أَنْ لَا يُمْطِرَ السَّمَاءَ عَلَيْنَا حَتَّىٰ يَسْأَلَهُ هُوَ، وَقَدْ خَفِيَ إِدْرِيسُ عَنَّا وَلَا عِلْمَ لَنَا بِمَوْضِعِهِ، وَاللهُ أَرْحَمُ بِنَا مِنْهُ، فَأَجْمَعَ أَمْرُهُمْ عَلَىٰ أَنْ يَتُوبُوا إِلَىٰ اللهِ وَيَدْعُوهُ

ص: 170


1- أي يجمعون الأطعمة من أطراف القرىٰ.

وَيَفْزَعُوا إِلَيْهِ وَيَسْأَلُوهُ أَنْ يُمْطِرَ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ وَعَلَىٰ مَا حَوَتْ قَرْيَتُهُمْ، فَقَامُوا عَلَىٰ الرَّمَادِ، وَلَبِسُوا المُسُوحَ، وَحَثَوْا عَلَىٰ رُؤُوسِهِمُ التُّرَابَ، وَعَجُّوا(1) إِلَىٰ اللهِ تَعَالَىٰ بِالتَّوْبَةِ وَالْاِسْتِغْفَارِ وَالْبُكَاءِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ، فَأَوْحَىٰ اللهُ (عزوجل)إِلَىٰ إِدْرِيسَ: يَا إِدْرِيسُ، إِنَّ أَهْلَ قَرْيَتِكَ قَدْ عَجُّوا إِلَيَّ بِالتَّوْبَةِ وَالْاِسْتِغْفَارِ وَالْبُكَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، وَأَنَا اللهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ أَقْبَلُ التَّوْبَةَ وأَعْفُو عَنِ السَّيِّئَةِ، وَقَدْ رَحِمْتُهُمْ، وَلَمْ يَمْنَعْنِي إِجَابَتَهُمْ إِلَىٰ مَا سَأَلُونِي مِنَ المَطَرِ إِلَّا مُنَاظَرَتُكَ فِيمَا سَأَلْتَنِي أَنْ لَا أُمْطِرَ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ حَتَّىٰ تَسْأَلَنِي، فَسَلْنِي يَا إِدْرِيسُ حَتَّىٰأُغِيثَهُمْ وَأُمْطِرَ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ، قَالَ إِدْرِيسُ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أَسْأَلُكَ ذَلِكَ(2)، قَالَ اللهُ (تبارک و تعالی): أَلَمْ تَسْأَلْنِي يَا إِدْرِيسُ فَأَجَبْتُكَ إِلَىٰ مَا سَأَلْتَ، وَأَنَا أَسْأَلُكَ أَنْ تَسْأَلَنِي فَلِمَ لَا تَجِبُ مَسْأَلَتِي؟ قَالَ إِدْرِيسُ: اللَّهُمَّ لَا أَسْأَلُكَ، فَأَوْحَىٰ اللهُ (عزوجل)إِلَىٰ المَلَكِ الَّذِي أَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ إِدْرِيسَ بِطَعَامِهِ كُلَّ مَسَاءٍ أَنِ احْبِسْ عَنْ إِدْرِيسَ طَعَامَهُ وَلَا تَأْتِهِ بِهِ، فَلَمَّا أَمْسَىٰ إِدْرِيسُ فِي لَيْلَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَلَمْ يُؤْتَ بِطَعَامِهِ حَزِنَ وَجَاعَ فَصَبَرَ، فَلَمَّا كَانَ فِي [لَيْلَةِ] الْيَوْمِ الثَّانِي فَلَمْ يُؤْتَ بِطَعَامِهِ اشْتَدَّ حُزْنُهُ وَجُوعُهُ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ مِنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَلَمْ يُؤْتَ بِطَعَامِهِ اشْتَدَّ جُهْدُهُ وَجُوعُهُ وَحُزْنُهُ وَقَلَّ صَبْرُهُ، فَنَادَىٰ رَبَّهُ: يَا رَبِّ، حَبَسْتَ عَنِّي رِزْقِي مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْبِضَ رُوحِي، فَأَوْحَىٰ اللهُ (عزوجل)إِلَيْهِ: يَا إِدْرِيسُ، جَزِعْتَ أَنْ حَبَسْتُ عَنْكَ طَعَامَكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا وَلَمْ تَجْزَعْ وَلَمْ تَذْكُرْ(3) جُوعَ أَهْلِ قَرْيَتِكَ وَجُهْدَهُمْ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ سَأَلْتُكَ عَنْ جُهْدِهِمْ وَرَحْمَتِي إِيَّاهُمْ أَنْ تَسْأَلَنِي أَنْ أُمْطِرَ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ تَسْأَلْنِي وَبَخِلْتَ عَلَيْهِمْ بِمَسْأَلَتِكَ إِيَّايَ، فَأَدَّبْتُكَ بِالْجُوعِ(4)، فَقَلَّ عِنْدَ ذَلِكَ

ص: 171


1- المسح - بالكسر -: البلاس معرَّب پلاس. والحثُّ: الصبُّ. والعجُّ: رفع الصوت. وفى نسخة: (ورجعوا).
2- أمره تعالىٰ إيَّاه بالدعاء علىٰ سبيل الندب أو التخيير، وعرض إدريس (علیه السلام) عن التأخير زجرهم عن الفساد وتنبيههم لئلَّا يخالفوا ربَّهم بعد دخوله فيهم.
3- في بعض النُّسَخ: (ولم تُنكِر).
4- في البحار: (فأذقتك الجوع).

صَبْرُكَ وَظَهَرَ جَزَعُكَ، فَاهْبِطْ مِنْ مَوْضِعِكَ فَاطْلُبِ المَعَاشَ لِنَفْسِكَ فَقَدْ وَكَلْتُكَ فِي طَلَبِهِ إِلَىٰ حِيلَتِكَ.

فَهَبَطَ إِدْرِيسُ (علیه السلام) مِنْ مَوْضِعِهِ إِلَىٰ قَرْيَةٍ يَطْلُبُ أُكْلَةً مِنْ جُوعٍ، فَلَمَّا دَخَلَ الْقَرْيَةَ نَظَرَ إِلَىٰ دُخَانٍ فِي بَعْضِ مَنَازِلِهَا، فَأَقْبَلَ نَحْوَهُ، فَهَجَمَ عَلَىٰ عَجُوزٍ كَبِيرَةٍ وَهِيَ تُرَقِّقُ قُرْصَتَيْنِ لَهَا عَلَىٰ مِقْلَاةٍ، فَقَالَ لَهَا: أَيَّتُهَا المَرْأَةُ أَطْعِمِينِي فَإِنِّي مَجْهُودٌ مِنَ الْجُوعِ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ مَا تَرَكَتْ لَنَا دَعْوَةُإِدْرِيسَ فَضْلاً نُطْعِمُهُ أَحَداً، وَحَلَفَتْ أَنَّهَا مَا تَمْلِكُ غَيْرَهُ شَيْئاً، فَاطْلُبِ المَعَاشَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، فَقَالَ لَهَا: أَطْعِمِينِي مَا أُمْسِكُ بِهِ رُوحِي وَتَحْمِلُنِي بِهِ رِجْلِي إِلَىٰ أَنْ أَطْلُبَ، قَالَتْ: إِنَّمَا هُمَا قُرْصَتَانِ وَاحِدَةٌ لِي وَالْأُخْرَىٰ لِابْنِي، فَإِنْ أَطْعَمْتُكَ قُوتِي مِتُّ، وَإِنْ أَطْعَمْتُكَ قُوتَ ابْنِي مَاتَ، وَمَا هَاهُنَا فَضْلٌ أُطْعِمُكَهُ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّ ابْنَكَ صَغِيرٌ يُجْزِيهِ نِصْفُ قُرْصَةٍ فَيَحْيَا بِهِ وَيُجْزِينِي النِّصْفُ الْآخَرُ فَأَحْيَا بِهِ وَفِي ذَلِكِ بُلْغَةٌ لِي وَلَهُ، فَأَكَلَتِ المَرْأَةُ قُرْصَتَهَا وَكَسَرَتِ الْأُخْرَىٰ بَيْنَ إِدْرِيسَ وَبَيْنَ ابْنِهَا، فَلَمَّا رَأَىٰ ابْنُهَا إِدْرِيسَ يَأْكُلُ مِنْ قُرْصَتِهِ اضْطَرَبَ حَتَّىٰ مَاتَ، قَالَتْ أُمُّهُ: يَا عَبْدَ اللهِ، قَتَلْتَ عَلَيَّ ابْنِي جَزَعاً عَلَىٰ قُوتِهِ، قَالَ [لَهَا] إِدْرِيسُ: فَأَنَا أُحْيِيهِ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَىٰ فَلَا تَجْزَعِي، ثُمَّ أَخَذَ إِدْرِيسُ بِعَضُدَيِ الصَّبِيِّ، ثُمَّ قَالَ: أَيَّتُهَا الرُّوحُ الْخَارِجَةُ عَنْ بَدَنِ هَذَا الْغُلَامِ بِأَمْرِ اللهِ ارْجِعِي إِلَىٰ بَدَنِهِ بِإِذْنِ اللهِ، وَأَنَا إِدْرِيسُ النَّبِيُّ. فَرَجَعَتْ رُوحُ الْغُلَامِ إِلَيْهِ بِإِذْنِ اللهِ، فَلَمَّا سَمِعَتِ المَرْأَةُ كَلَامَ إِدْرِيسَ وَقَوْلَهُ: أَنَا إِدْرِيسُ، وَنَظَرَتْ عَلَىٰ ابْنِهَا قَدْ عَاشَ بَعْدَ المَوْتِ، قَالَتْ: أَشْهَدُ أَنَّكَ إِدْرِيسُ النَّبِيُّ، وَخَرَجَتْ تُنَادِي بِأَعْلَىٰ صَوْتِهَا فِي الْقَرْيَةِ: أَبْشِرُوا بِالْفَرَجِ فَقَدْ دَخَلَ إِدْرِيسُ قَرْيَتَكُمْ.

وَمَضَىٰ إِدْرِيسُ حَتَّىٰ جَلَسَ عَلَىٰ مَوْضِعِ مَدِينَةِ الْجَبَّارِ الْأَوَّلِ، فَوَجَدَهَا وَهِيَ تَلٌّ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ قَرْيَتِهِ، فَقَالُوا لَهُ: يَا إِدْرِيسُ، أَمَا رَحِمْتَنَا فِي هَذِهِ الْعِشْرِينَ سَنَةً الَّتِي جُهِدْنَا فِيهَا وَمَسَّنَا الْجُوعُ وَالْجُهْدُ فِيهَا؟ فَادْعُ اللهَ لَنَا أَنْ يُمْطِرَ السَّمَاءَ عَلَيْنَا، قَالَ: لَا حَتَّىٰ يَأْتِيَنِي جَبَّارُكُمْ هَذَا وَجَمِيعُ أَهْلِ قَرْيَتِكُمْ مُشَاةً حُفَاةً فَيَسْأَلُونِي ذَلِكَ، فَبَلَغَ الْجَبَّارَ قَوْلُهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَرْبَعِينَ رَجُلاً يَأْتُوهُ بِإِدْرِيسَ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ الْجَبَّارَ بَعَثَنَا إِلَيْكَ لِنَذْهَبَ بِكَ إِلَيْهِ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ فَمَاتُوا، فَبَلَغَ الْجَبَّارَ ذَلِكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ خَمْسَمِائَةِ رَجُلٍ لِيَأْتُوهُ بِهِ، فَأَتَوْهُ

ص: 172

فَقَالُوا لَهُ: يَا إِدْرِيسُ، إِنَّ الْجَبَّارَ بَعَثَنَا إِلَيْكَ لِنَذْهَبَ بِكَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ إِدْرِيسُ: انْظُرُوا إِلَىٰ مَصَارِعِ أَصْحَابِكُمْ، فَقَالُوا لَهُ: يَا إِدْرِيسُ قَتَلْتَنَابِالْجُوعِ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ تُرِيدُ أَنْ تَدْعُوَ عَلَيْنَا بِالمَوْتِ، أَمَا لَكَ رَحْمَةٌ؟ فَقَالَ: مَا أَنَا بِذَاهِبٍ إِلَيْهِ، وَمَا أَنَا بِسَائِلِ اللهَ أَنْ يُمْطِرَ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَنِي جَبَّارُكُمْ مَاشِياً حَافِياً وَأَهْلُ قَرْيَتِكُمْ.

فَانْطَلَقُوا إِلَىٰ الْجَبَّارِ فَأَخْبَرُوهُ بِقَوْلِ إِدْرِيسَ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يَمْضِيَ مَعَهُمْ وَجَمِيعُ أَهْلِ قَرْيَتِهِمْ إِلَىٰ إِدْرِيسَ مُشَاةً حُفَاةً، فَأَتَوْهُ حَتَّىٰ وَقَفُوا بَيْنَ يَدَيْهِ خَاضِعِينَ لَهُ طَالِبِينَ إِلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ اللهَ (عزوجل)لَهُمْ أَنْ يُمْطِرَ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ إِدْرِيسُ: أَمَّا الْآنَ فَنَعَمْ، فَسَأَلَ اللهَ (عزوجل)إِدْرِيسُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يُمْطِرَ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ وَعَلَىٰ قَرْيَتِهِمْ وَنَوَاحِيهَا، فَأَظَلَّتْهُمْ سَحَابَةٌ مِنَ السَّمَاءِ وَأَرْعَدَتْ وَأَبْرَقَتْ وَهَطَلَتْ عَلَيْهِمْ(1) مِنْ سَاعَتِهِمْ حَتَّىٰ ظَنُّوا أَنَّهُ الْغَرَقُ، فَمَا رَجَعُوا إِلَىٰ مَنَازِلِهِمْ حَتَّىٰ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ مِنَ المَاءِ»(2)(3).

* * *

ص: 173


1- هطلت السماء: نزلت عليهم متتابعاً، وهطل المطر إذا تتابع.
2- رواه الراوندي (رحمة الله) في قَصص الأنبياء (ص 77 - 80/ ح 58).
3- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 11/ ص 276): (بيان: فسمني أي بعني. أثمن لك: أُعطيك الثمن. قبل فعلك أي إتيانك بما غضبت له. فلن تسبقني بنفسك هو تهديد بالقتل، أي لا يمكنك الفرار بنفسك والتقدُّم بحيث لا يمكنني اللحوق بك لإهلاكها، أو لا تغلبني في أمر نفسك بأنْ تتخلَّصها منِّي، ويحتمل أنْ يكون المراد: لا تغلبني متفرِّداً بنفسك من غير معاون فلم تتعرَّض لي. حتَّىٰ أهمَّتهم أنفسهم أي خوف أنفسهم أوقعهم في الهموم، أو لم يهتمّهم إلَّا هم أنفسهم وطلب خلاصها. ثمّ اعلم أنَّ الظاهر أنَّ أمره تعالىٰ إدريس (علیه السلام) بالدعاء لهم لم يكن علىٰ سبيل الحتم والوجوب، بل علىٰ الندب والاستحباب، وكان غرضه (علیه السلام) في التأخير وفي طلب القوم أنْ يأتوه متذلِّلين تنبيههم وزجرهم عن الطغيان والفساد، ولئلَّا يخالفوا ربَّهم بعد دخوله بينهم، وأنَّ أولياء الله يغضبون لربِّهم أكثر من سخطه تعالىٰ لنفسه، لسعة رحمته وعظم حلمه تعالىٰ شأنه).

ص: 174

الباب الثاني

في ذكر ظهور نوح (علیه السلام) بالنبوَّة بعد ذلك

ص: 175

ص: 176

[1/2] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَمَّامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زِيَادٍ الْكُوفِيُّ(1)، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمَاعَةَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الْمِيثَمِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْفَضْلِ الْهَاشِمِيِّ، قَالَ: قَالَ الصَّادِقُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام): «لَمَّا أَظْهَرَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ نُبُوَّةَ نُوحٍ (علیه السلام) وَأَيْقَنَ الشِّيعَةُ بِالْفَرَجِ اشْتَدَّتِ الْبَلْوَىٰ وَعَظُمَتِ الْفِرْيَةُ إِلَىٰ أَنْ آلَ الْأَمْرُ إِلَىٰ شِدَّةٍ شَدِيدَةٍ نَالَتِ الشِّيعَةَ وَالْوُثُوبِ عَلَىٰ نُوحٍ بِالضَّرْبِ المُبَرِّحِ(2) حَتَّىٰ مَكَثَ (علیه السلام) فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، يَجْرِي الدَّمُ مِنْ أُذُنِهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، وَذَلِكَ بَعْدَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ مَبْعَثِهِ، وَهُوَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ يَدْعُوهُمْ لَيْلاً وَنَهَاراً فَيَهْرَبُونَ، وَيَدْعُوهُمْ سِرًّا فَلَا يُجِيبُونَ، وَيَدْعُوهُمْ عَلَانِيَةً فَيُوَلُّونَ، فَهَمَّ بَعْدَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، وَجَلَسَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ لِلدُّعَاءِ، فَهَبَطَ إِلَيْهِ وَفْدٌ مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَهُمْ ثَلَاثَةُ أَمْلَاكٍ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالُوا لَهُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، لَنَا حَاجَةٌ، قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالُوا: تُؤَخِّرُ الدُّعَاءَ عَلَىٰ قَوْمِكَ فَإِنَّهَا أَوَّلُ سَطْوَةٍ لِلهِ (عزوجل)فِي الْأَرْضِ، قَالَ: قَدْ أَخَّرْتُ الدُّعَاءَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ أُخْرَىٰ، وَعَادَ إِلَيْهِمْ فَصَنَعَ مَا كَانَ يَصْنَعُ، ويَفْعَلُونَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ حَتَّىٰ إِذَا انْقَضَتْ ثَلَاثُمِائَةِ سَنَةٍ أُخْرَىٰ وَيَئِسَ مِنْ إِيمَانِهِمْ جَلَسَ فِي وَقْتِ ضُحَىٰ النَّهَارِ لِلدُّعَاءِ، فَهَبَطَ عَلَيْهِ وَفْدٌ مِنَ السَّمَاءِ السَّادِسَةِ [وَهُمْ ثَلَاثَةُأَمْلَاكٍ] فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَقَالُوا: نَحْنُ وَفْدٌ مِنَ السَّمَاءِ السَّادِسَةِ خَرَجْنَا بُكْرَةً وَجِئْنَاكَ ضَحْوَةً، ثُمَّ سَأَلُوهُ مِثْلَ مَا سَأَلَهُ وَفْدُ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَأَجَابَهُمْ إِلَىٰ مِثْلِ مَا

ص: 177


1- في بعض النُّسَخ: (محمّد بن هشام، قال: حدَّثنا أحمد بن زياد الكوفي).
2- في النهاية (ج 1/ ص 113): (برح به: إذا شقَّ عليه، ومنه الحديث: «ضرباً غير مبرِّح» أي غير شاقٍّ).

أَجَابَ أُولَئِكَ إِلَيْهِ، وَعَادَ (علیه السلام) إِلَىٰ قَوْمِهِ يَدْعُوهُمْ فَلَا يَزِيدُهُمْ دُعَاؤُهُ إِلَّا فِرَاراً، حَتَّىٰ انْقَضَتْ ثَلَاثُمِائَةِ سَنَةٍ تَتِمَّةُ تِسْعِمِائَةِ سَنَةٍ، فَصَارَتْ إِلَيْهِ الشِّيعَةُ وَشَكَوْا مَا يَنَالُهُمْ مِنَ الْعَامَّةِ وَالطَّوَاغِيتِ، وَسَأَلُوهُ الدُّعَاءَ بِالْفَرَجِ، فَأَجَابَهُمْ إِلَىٰ ذَلِكَ، وَصَلَّىٰ وَدَعَا، فَهَبَطَ جَبْرَئِيلُ (علیه السلام)، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ أَجَابَ دَعْوَتَكَ، فَقُلْ لِلشِّيعَةِ: يَأْكُلُوا التَّمْرَ وَيَغْرِسُوا النَّوَىٰ وَيُرَاعُوهُ حَتَّىٰ يُثْمِرَ، فَإِذَا أَثْمَرَ فَرَّجْتُ عَنْهُمْ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَىٰ عَلَيْهِ وَعَرَّفَهُمْ ذَلِكَ فَاسْتَبْشَرُوا بِهِ، فَأَكَلُوا التَّمْرَ وَغَرَسُوا النَّوَىٰ وَرَاعُوهُ حَتَّىٰ أَثْمَرَ(1)، ثُمَّ صَارُوا إِلَىٰ نُوحٍ (علیه السلام) بِالتَّمْرِ وَسَأَلُوهُ أَنْ يُنْجِزَ لَهُمُ الْوَعْدَ، فَسَأَلَ اللهَ (عزوجل)فِي ذَلِكَ، فَأَوْحَىٰ اللهُ إِلَيْهِ: قُلْ لَهُمْ: كُلُوا هَذَا التَّمْرَ وَاغْرِسُوا النَّوَىٰ فَإِذَا أَثْمَرَ فَرَّجْتُ عَنْكُمْ، فَلَمَّا ظَنُّوا أَنَّ الْخُلْفَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهِمْ ارْتَدَّ مِنْهُمُ الثُّلُثُ وَثَبَتَ الثُّلُثَانِ، فَأَكَلُوا التَّمْرَ وَغَرَسُوا النَّوَىٰ حَتَّىٰ إِذَا أَثْمَرَ أَتَوْا بِهِ نُوحاً (علیه السلام) فَأَخْبَرُوهُ وَسَأَلُوهُ أَنْ يُنْجِزَ لَهُمُ الْوَعْدَ، فَسَأَلَ اللهَ (عزوجل)فِي ذَلِكَ، فَأَوْحَىٰ اللهُ إِلَيْهِ: قُلْ لَهُمْ: كُلُوا هَذَا التَّمْرَ واغْرِسُوا النَّوَىٰ، فَارْتَدَّ الثُّلُثُ الْآخَرُ وَبَقِيَ الثُّلُثُ، فَأَكَلُوا التَّمْرَ وَغَرَسُوا النَّوَىٰ، فَلَمَّا أَثْمَرَ أَتَوْا بِهِ نُوحاً (علیه السلام)، ثُمَّ قَالُوا لَهُ: لَمْ يَبْقَ مِنَّا إِلَّا الْقَلِيلُ، وَنَحْنُ نَتَخَوَّفُ عَلَىٰ أَنْفُسِنَا بِتَأَخُّرِ الْفَرَجِ أَنْ نَهْلِكَ، فَصَلَّىٰ نُوحٌ (علیه السلام)، ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ، لَمْ يَبْقَ مِنْ أَصْحَابِي إِلَّا هَذِهِ الْعِصَابَةُ، وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْهِمُ الْهَلَاكَ إِنْ تَأَخَّرَ عَنْهُمُ الْفَرَجُ، فَأَوْحَىٰ اللهُ(عزوجل)إِلَيْهِ: قَدْ أَجَبْتُ دُعَاءَكَ، فَاصْنَعِ الْفُلْكَ، وَكَانَ بَيْنَ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَبَيْنَ الطُّوفَانِ خَمْسُونَ سَنَةً».

[2/3] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ (رضی الله عنهما)، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ ابْنِ أَبَانٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أُورَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ وَعَبْدِ الْكَرِيمِ

ص: 178


1- في بعض النُّسَخ: (فرَّجت عنهم، فأخبرهم نوح بما أوحىٰ الله إليه، ففعلوا ذلك وراعوه حتَّىٰ أثمر).

ابْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ أَبِي الدَّيْلَمِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ الصَّادِقِ (علیه السلام)، قَالَ: «عَاشَ نُوحٌ بَعْدَ النُّزُولِ مِنَ السَّفِينَةِ خَمْسِينَ سَنَةً(1)، ثُمَّ أَتَاهُ جَبْرَئِيلُ (علیه السلام)، فَقَالَ لَهُ: يَا نُوحُ، قَدِ انْقَضَتْ نُبُوَّتُكَ وَاسْتَكْمَلْتَ أَيَّامَكَ، فَانْظُرِ الْاِسْمَ الْأَكْبَرَ وَمِيرَاثَ الْعِلْمِ وَآثَارَ عِلْمِ النُّبُوَّةِ الَّتِي مَعَكَ، فَادْفَعْهَا إِلَىٰ ابْنِكَ سَامٍ، فَإِنِّي لَا أَتْرُكُ الْأَرْضَ إِلَّا وَفِيهَا عَالِمٌ تُعْرَفُ بِهِ طَاعَتِي وَيَكُونُ نَجَاةً فِيمَا بَيْنَ قَبْضِ النَّبِيِّ وَمَبْعَثِ النَّبِيِّ الْآخَرِ، وَلَمْ أَكُنْ أَتْرُكُ النَّاسَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَدَاعٍ إِلَيَّ وَهَادٍ إِلَىٰ سَبِيلي وَعَارِفٍ بِأَمْرِي، فَإِنِّي قَدْ قَضَيْتُ أَنْ أَجْعَلَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادِياً أَهْدِي بِهِ السُّعَدَاءَ، وَيَكُونُ حُجَّةً عَلَىٰ الْأَشْقِيَاءِ».

قَالَ: «فَدَفَعَ نُوحٌ (علیه السلام) الْاِسْمَ الْأَكْبَرَ وَمِيرَاثَ الْعِلْمِ وَآثَارَ عِلْمِ النُّبُوَّةِ إِلَىٰ ابْنِهِ سَامٍ، فَأَمَّا حَامٌ وَيَافِثُ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمَا عِلْمٌ يَنْتَفِعَانِ بِهِ».

قَالَ: «وَبَشَّرَهُمْ نُوحٌ بِهُودٍ، وَأَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِهِ، وَأَنْ يَفْتَحُوا الْوَصِيَّةَ كُلَّ عَامٍ فَيَنْظُرُوا فِيهَا، وَيَكُونَ عِيداً لَهُمْ كَمَا أَمَرَهُمْ آدَمُ (علیه السلام)».

قَالَ: «فَظَهَرَتِ الْجَبَرِيَّةُ فِي وُلْدِ حَامٍ وَيَافِثَ، فَاسْتَخْفَىٰ وُلْدُ سَامٍ بِمَاعِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، وجَرَتْ عَلَىٰ سَامٍ بَعْدَ نُوحٍ الدَّوْلَةُ لِحَامٍ وَيَافِثَ، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ (تبارک و تعالی): [/وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ 78] [الصافَّات: 78]، يَقُولُ: تَرَكْتُ عَلَىٰ نُوحٍ دَوْلَةَ الْجَبَّارِينَ، وَيُعِزُّ اللهُ مُحَمَّداً (صلی الله علیه و آله) بِذَلِكَ».

قَالَ: «وَوُلِدَ لِحَامٍ السِّنْدُ وَالْهِنْدُ وَالْحَبَشُ، وَوُلِدَ لِسَامٍ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ، وَجَرَتْ عَلَيْهِمُ الدَّوْلَةُ، وَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ الْوَصِيَّةَ عَالِمٌ بَعْدَ عَالِمٍ حَتَّىٰ بَعَثَ اللهُ (عزوجل)هُوداً (علیه السلام)»(2).

ص: 179


1- أورده العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 11/ ص 288 و289/ باب جُمَل أحوال نوح (علیه السلام)/ ح 11)، وقال: (ذُكِرَ في (ص) - يعنى قَصص الأنبياء - بهذا الإسناد إلىٰ قوله: «كما أمرهم آدم (علیه السلام)»، إلَّا أنَّ فيه: (خمسمائة سنة) بدل (خمسين سنة)، وهو الصواب كما يدلُّ عليه ما مرَّ من الأخبار. ورواه في الكافي أيضاً... وفيه: خمسمائة سنة).
2- رواه بتفاوت الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 8/ 285/ ح 430)، والراوندي (رحمة الله) في قَصص الأنبياء (ص 90 و91/ ح 79).

[3/4] وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ الدَّقَّاقُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْكُوفِيُّ، عَنْ مُوسَىٰ بْنِ عِمْرَانَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَمِّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ النَّوْفَلِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ الصَّادِقُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام): «لَمَّا حَضَرَتْ نُوحاً (علیه السلام) الْوَفَاةُ دَعَا الشِّيعَةَ، فَقَالَ لَهُمْ: اعْلَمُوا أَنَّهُ سَتَكُونُ مِنْ بَعْدِي غَيْبَةٌ تَظْهَرُ فِيهَا الطَّوَاغِيتُ، وَأَنَّ اللهَ (عزوجل)يُفَرِّجُ عَنْكُمْ بِالْقَائِمِ مِنْ وُلْدِي، اسْمُهُ هُودٌ، لَهُ سَمْتٌ وَسَكِينَةٌ وَوَقَارٌ، يُشْبِهُنِي فِي خَلْقِي وَخُلُقِي، وَسَيُهْلِكُ اللهُ أَعْدَاءَكُمْ عِنْدَ ظُهُورِهِ بِالرِّيحِ، فَلَمْ يَزَالُوا يَتَرَقَّبُونَ هُوداً (علیه السلام) وَيَنْتَظِرُونَ ظُهُورَهُ حَتَّىٰ طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ وَقَسَتْ قُلُوبُ أَكْثَرِهِمْ، فَأَظْهَرَ اللهُ تَعَالَىٰ ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ هُوداً (علیه السلام) عِنْدَ الْيَأْسِ مِنْهُمْ وَتَنَاهِي الْبَلَاءِ بِهِمْ، وَأَهْلَكَ الْأَعْدَاءَ بِالرِّيحِ الْعَقِيمِ الَّتِي وَصَفَهَا اللهُ تَعَالَىٰ ذِكْرُهُ فَقَالَ: [/مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ 42] [الذاريات: 42]، ثُمَّ وَقَعَتِ الْغَيْبَةُ [بِهِ] بَعْدَ ذَلِكَ إِلَىٰ أَنْ ظَهَرَ صَالِحٌ (علیه السلام)»(1).

ص: 180


1- قال الطبرسي (رحمة الله) في مجمع البيان (ج 4/ ص 287): (جملة ما ذكره السُّدِّي ومحمّد بن إسحاق وغيرهما من المفسِّرين في قصَّة هود أنَّ عاداً كانوا ينزلون اليمن، وكانت مساكنهم منها بالشحر والأحقاف، وهي رمال يقال لها: رمل عالج والدهناء ويبرين ما بين عمان إلىٰ حضرموت. وكان لهم زرع ونخل، ولهم أعمار طويلة، وأجساد عظيمة، وكانوا أصحاب أصنام يعبدونها، فبعث الله تعالىٰ إليهم هوداً نبيًّا، وكان من أوسطهم نسباً، وأفضلهم حسباً، فدعاهم إلىٰ التوحيد وخلع الأنداد، فأبوا عليه وكذَّبوه وآذوه، فأمسك الله عنهم المطر سبع سنين، وقيل: ثلاث سنين، حتَّىٰ قحطوا. وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء أو جهد التجأوا إلىٰ بيت الله الحرام بمكَّة، مسلمهم وكافرهم، وأهل مكَّة يومئذٍ العماليق من ولد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وكان سيِّد العماليق إذ ذاك بمكَّة رجلاً يقال له: معاوية بن بكر، وكانت أُمُّه من عاد، فبعث عاد وفداً إلىٰ مكَّة ليستسقوا لهم، فنزلوا علىٰ معاوية بن بكر وهو بظاهر مكَّة خارجاً من الحرم، فأكرمهم وأنزلهم، وأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر. فلمَّا رأىٰ معاوية طول مقامهم وقد بعثهم قومهم يتغوَّثون من البلاء الذي نزل بهم شقَّ ذلك عليه، وقال: هلك أخوالي، وهؤلاء مقيمون عندي، وهم ضيفي، أستحي أنْ آمرهم بالخروج إلىٰ ما بُعِثُوا إليه. وشكا ذلك إلىٰ قينتيه اللتين كانتا تُغنّيانهم، وهما الجرادتان، فقالتا: قل شعرا نُغنِّيهم به لا يدرون من قاله، فقال معاوية بن بكر: ألَا يا قيل ويحك قم فهينم *** لعلَّ الله يصبحنا غماما فيسقي أرض عاد إنَّ عاداً *** قد أمسوا ما يبينون الكلاما وإنَّ الوحش تأتيهم جهاراً *** ولا تخشىٰ لعادي سهاما وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم *** نهاركم وليلكم التماما فقبح وفدكم من وفد قوم *** ولا لقوا التحيَّة والسلاما فلمَّا غنَّتهم الجرادتان بهذا، قال بعضهم لبعض: إنَّما بعثكم قومكم يتغوَّثون بكم من هذا البلاء، فادخلوا هذا الحرم، واستسقوا لهم. فقال رجل منهم قد آمن هود سرًّا: والله لا تُسْقَون بدعائكم، ولكن إنْ أطعتم نبيَّكم سُقيتم، فزجروه، وخرجوا إلىٰ مكَّة يستسقون بها لعاد، وكان قيل بن عنزر رأس وفد عاد، فقال: يا إلهنا، إنْ كان هود صادقاً فاسقنا، فإنَّا قد هلكنا. فأنشأ الله سبحانه سحاباً ثلاثاً: بيضاء، وحمراء، وسوداء. ثمّ ناداه منادٍ من السماء: يا قيل، اختر لنفسك ولقومك. فاختار السحابة السوداء التي فيها العذاب، فساق الله سبحانه تلك السحابة بما فيها من النقمة إلىٰ عاد. فلمَّا رأوها استبشروا بها وقالوا: [/هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا]، يقول الله (تبارک و تعالی): [/بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ 24] [الأحقاف: 24]، فسخَّرها الله تعالىٰ عليهم [/سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً] [الحاقَّة: 7]، أي: دائمة، فلم تدع من عاد أحداً إلَّا هلك. واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة، وما يصيبه ومن معه إلَّا ما تلين عليه الجلود، وتلتذُّ النفوس).

[4/5] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ وَكَرَّامِ بْنِ عَمْرٍو(1)، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ أَبِي الدَّيْلَمِ، عَنِ الصَّادِقِ أَبِي عَبْدِ اللهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام)، قَالَ: «لَمَّا بَعَثَ اللهُ (عزوجل)هُوداً (علیه السلام) أَسْلَمَ لَهُ الْعَقِبُ مِنْ وُلْدِ سَامٍ، وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَقَالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً، فَأُهْلِكُوا بِالرِّيحِ الْعَقِيمِ، وَأَوْصَاهُمْ هُودٌ وَبَشَّرَهُمْ بِصَالِحٍ (علیه السلام)»(2) .

* * *[4/5] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ وَكَرَّامِ بْنِ عَمْرٍو(3)، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ أَبِي الدَّيْلَمِ، عَنِ الصَّادِقِ أَبِي عَبْدِ اللهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام)، قَالَ: «لَمَّا بَعَثَ اللهُ (عزوجل)هُوداً (علیه السلام) أَسْلَمَ لَهُ الْعَقِبُ مِنْ وُلْدِ سَامٍ، وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَقَالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً، فَأُهْلِكُوا بِالرِّيحِ الْعَقِيمِ، وَأَوْصَاهُمْ هُودٌ وَبَشَّرَهُمْ بِصَالِحٍ (علیه السلام)»(4) .

* * *

ص: 181


1- كذا، وهو لقب عبد الكريم بن عمرو.
2- رواه الراوندي (رحمة الله) في قَصص الأنبياء (ص 94/ ح 83).
3- كذا، وهو لقب عبد الكريم بن عمرو.
4- رواه الراوندي (رحمة الله) في قَصص الأنبياء (ص 94/ ح 83).

ص: 182

الباب الثالث

ذكر غيبة صالح النبيِّ (علیه السلام)

ص: 183

ص: 184

[1/6] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ وَسَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ، عَنْ زَيْدٍ الشَّحَّامِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «إِنَّ صَالِحاً (علیه السلام) غَابَ عَنْ قَوْمِهِ زَمَاناً(1)، وكَانَ يَوْمَ غَابَ عَنْهُمْ كَهْلاً، مُبْدَحَ الْبَطْنِ، حَسَنَ الْجِسْمِ، وَافِرَ اللِّحْيَةِ، خَمِيصَ الْبَطْنِ(2)، خَفِيفَ الْعَارِضَيْنِ مُجْتَمِعاً، رَبْعَةً مِنَ الرِّجَالِ(3)، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَىٰ قَوْمِهِ لَمْ يَعْرِفُوهُ بِصُورَتِهِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ عَلَىٰ ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ: طَبَقَةٌ جَاحِدَةٌ لَا تَرْجِعُ أَبَداً، وَأُخْرَىٰ شَاكَّةٌ فِيهِ، وَأُخْرَىٰ عَلَىٰ يَقِينٍ، فَبَدَأَ (علیه السلام) حَيْثُ رَجَعَ بِالطَّبَقَةِ الشَّاكَّةِ(4)، فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا صَالِحٌ، فَكَذَّبُوهُ وَشَتَمُوهُ وَزَجَرُوهُ، وَقَالُوا: بَرِئَ اللهُ مِنْكَ، إِنَّ صَالِحاً كَانَ فِي غَيْرِ صَورَتِكَ».

قَالَ: «فَأَتَىٰ الْجُحَّادَ، فَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ الْقَوْلَ وَنَفَرُوا مِنْهُ أَشَدَّ النُّفُورِ، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَىٰ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ، وَهُمْ أَهْلُ الْيَقِينِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا صَالِحٌ، فَقَالُوا أَخْبِرْنَا خَبَراً لَا نَشُكُّ فِيكَ مَعَهُ أَنَّكَ صَالِحٌ، فَإِنَّا لَا نَمْتَرِي أَنَّ اللهَ تَبَارَكَوَتَعَالَىٰ الْخَالِقُ يَنْقُلُ وَيُحَوِّلُ فِي أَيِّ صُورَةٍ شَاءَ، وَقَدْ أُخْبِرْنَا وَتَدَارَسْنَا فِيمَا بَيْنَنَا بِعَلَامَاتِ الْقَائِمِ إِذَا جَاءَ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ عِنْدَنَا إِذَا أَتَىٰ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، فَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: أَنَا صَالِحٌ

ص: 185


1- غيبته (علیه السلام) كانت بعد هلاك قومه، ورجوعه كان إلىٰ من آمن به ونجا من العذاب.
2- مبدح البطن: لعلَّ المراد به واسع البطن عظيمه، وأمَّا خميص البطن أي ضامره، والمراد به ما تحت البطن حيث يشدُّ المنطقة، فلا منافاة.
3- الربعة: المتوسِّط بين الطول والقصر.
4- في بعض النُّسَخ: (بطبقة الشاكَّة).

الَّذِي أَتَيْتُكُمْ بِالنَّاقَةِ، فَقَالُوا: صَدَقْتَ، وَهِيَ الَّتِي نَتَدَارَسُ، فَمَا عَلَامَتُهَا؟ فَقَالَ: «لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ 155» [الشعراء: 155]، قَالُوا: آمَنَّا بِاللهِ وَبِمَا جِئْتَنَا بِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ : «أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ»، فَقَالَ أَهْلُ الْيَقِينِ: «إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ 75 قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا» وَهُمُ الشُّكَّاكُ وَالْجُحَّادُ: «إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ 76» [الأعراف: 75 و76]»، قُلْتُ: هَلْ كَانَ فِيهِمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَالِمٌ بِهِ؟ قَالَ: «اللهُ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يَتْرُكَ الْأَرْضَ بِلَا عَالِمٍ(1) يَدُلُّ عَلَىٰ اللهِ (تبارک و تعالی)، وَلَقَدْ مَكَثَ الْقَوْمُ بَعْدَ خُرُوجِ صَالِحٍ سَبْعَةَ أَيَّامٍ عَلَىٰ فَتْرَةٍ لَا يَعْرِفُونَ إِمَاماً، غَيْرَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ دِينِ اللهِ (تبارک و تعالی)، كَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةٌ، فَلَمَّا ظَهَرَ صَالِحٌ (علیه السلام) اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْقَائِمِ (علیه السلام) مَثَلُ صَالِحٍ ».

* * *

ص: 186


1- في بعض النُّسَخ: (بغير عالم).

الباب الرابع

في غيبة إبراهيم (علیه السلام)

ص: 187

ص: 188

وأمَّا غيبة إبراهيم خليل الرحمن (صلوات الله عليه) فإنَّها تشبه غيبة قائمنا (صلوات الله عليه)، بل هي أعجب منها، لأنَّ الله (عزوجل)غيَّب أثر إبراهيم (علیه السلام) وهو في بطن أُمِّه حتَّىٰ حوَّله (عزوجل)بقدرته من بطنها إلىٰ ظهرها، ثمّ أخفىٰ أمر ولادته إلىٰ وقت بلوغ الكتاب أجله .

[1/7] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ(1)، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «كَانَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ (علیه السلام) مُنَجِّماً لِنُمْرُودَ بْنِ كَنْعَانَ(2)، وَكَانَ نُمْرُودُ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ رَأْيِهِ، فَنَظَرَ فِي النُّجُومِ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي، فَأَصْبَحَ، فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ فِي لَيْلَتِي هَذِهِ عَجَباً(3)، فَقَالَ لَهُ نُمْرُودُ: وَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُ مَوْلُوداً يُولَدُ فِي أَرْضِنَاهَذِهِ، فَيَكُونُ هَلَاكُنَا عَلَىٰ يَدَيْهِ، وَلَا يَلْبَثُ إِلَّا قَلِيلاً حَتَّىٰ يُحْمَلَ بِهِ، فَعَجِبَ مِنْ ذَلِكَ نُمْرُودُ، وَقَالَ لَهُ: هَلْ حَمَلَتْ بِهِ النِّسَاءُ؟ فَقَالَ:

ص: 189


1- كأنَّ فيه سقطاً لما رواه الكليني في الكافي بإسناده عن ابن أبي عمير، عن هشام، عن أبي أيُّوب الخزَّاز، عن أبي بصير.
2- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي: (هو نمرود بن كنعان من أحفاد سام بن نوح، وكان بينه وبين نوح سبعة آباء، وكان مَلِك الشرق والغرب، وادَّعىٰ الأُلوهيَّة، وأمر بعمل الأصنام علىٰ صورته ونشرها علىٰ بلاده وأمرهم بعبادتها والسجود لها، ولم يكن في عهده مؤمن ظاهراً حتَّىٰ بعث الله تعالىٰ خليل الرحمن).
3- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي: (العجب إنكار ما يرد عليك، وقد يتعجَّب الإنسان من الشيء لعظم موقعه عنده لحسنه أو لقبحه مع خفاء سببه). وقال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول: (لا يدلُّ علىٰ جواز النظر فيها والحكم بها لغير من أحاط بها علماً).

لَا، وَكَانَ فِيمَا أُوتِيَ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ أَنَّهُ سَيُحْرَقُ بِالنَّارِ، وَلَمْ يَكُنْ أُوتِيَ أَنَّ اللهَ تَعَالَىٰ سَيُنْجِيهِ».

قَالَ: «فَحَجَبَ النِّسَاءَ عَنِ الرِّجَالِ، فَلَمْ يَتْرُكْ امْرَأَةً إِلَّا جُعِلَتْ بِالمَدِينَةِ حَتَّىٰ لَا يَخْلُصَ إِلَيْهِنَّ الرِّجَالُ(1)».

قَالَ: «وَوَقَعَ(2) أَبُو إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ امْرَأَتِهِ، فَحَمَلَتْ بِهِ(3)، وَظَنَّ أَنَّهُصَاحِبُهُ،

ص: 190


1- أي لا يصل إليهنَّ، وفي الصحاح (ج 3/ ص 1037/ مادَّة خلص): (خلص إليه الشيء: وصل). وقال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي: (خلص فلان إلىٰ فلان وصل إليه. وفي معراج النبوَّة جعلهنَّ في المدينة ومنع الرجال من الدخول فيها ووكل علىٰ أبواب المدينة أُمناء منهم آزر، فحضرت زوجته عنده، فواقعها، فحملت بإبراهيم (علیه السلام). وقال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول: (علىٰ بناء المجهول، يقال: خلص إليه، أي وصل).
2- في بعض النُّسَخ: (وباشر بدون علىٰ).
3- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي: (قال الفاضل الأمين الأسترآبادي: هذا الحديث صريح في أنَّ آزر كان أبا إبراهيم (علیه السلام)، وقد انعقد إجماع الفرقة المحقَّة علىٰ أنَّ أجداد نبيِّنا(صلی الله علیه و آله) كانوا مسلمين إلىٰ آدم (علیه السلام)، وقد تواترت عنهم (علیهم السلام): نحن من الأصلاب الطاهرات والأرحام المطهَّرات لم تُدنِّسهم الجاهليَّة بأدناسها. وفي كُتُب الشافعيَّة كالقاموس وكشرح الهمزيَّة لابن حجر المكّي تصريح بأنَّ آزر كان عمُّ إبراهيم (علیه السلام)، وكان أبوه تارخ. ويمكن حمل هذا الحديث علىٰ التقيَّة بأنْ يكون هذا مذهب أبي حنيفة. انتهىٰ. أقول: تارخ غير آزر كما صرَّح به بعض العامَّة، وعلىٰ هذا لا يرد أنَّ تارخ هو آزر، وأكثرهم علىٰ الاتِّحاد). وقال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول: (اعلم أنَّ العامَّة اختلفوا في أبي إبراهيم، قال الرازي في تفسير قوله تعالىٰ: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ» [الأنعام: 74]: ظاهر هذه الآية تدلُّ علىٰ أنَّ اسم والد إبراهيم هو آزر، ومنهم من قال: اسمه تارخ، قال الزجَّاج: لا خلاف بين النسَّابين أنَّ اسمه تارخ، ومن الملحدة من جعل هذا طعناً في القرآن. أقول: ثمّ ذكر لتوجيه ذلك وجوها...، إلىٰ أنْ قال: والوجه الرابع: أنَّ والد إبراهيم (علیه السلام) كان تارخ، وآزر كان عمًّا له، والعمُّ قد يُطلَق عليه لفظ الأب كما حكىٰ الله عن أولاد يعقوب أنَّهم قالوا: «نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ» [البقرة: 133]، ومعلوم أنَّ إسماعيل كان عمًّا ليعقوب، وقد أطلقوا عليه لفظ الأب فكذا هاهنا. أقول: ثمّ قال بعد كلام: قالت الشيعة: إنَّ أحداً من آباء الرسول وأجداده ما كان كافراً، وأنكروا أنَّ والد إبراهيم كان كافراً، وذكروا أنَّ آزر كان عمُّ إبراهيم وما كان والداً له، واحتجُّوا علىٰ قولهم بوجوه: الحجَّة الأُولىٰ: أنَّ آباء نبيِّنا ما كانوا كُفَّاراً، ويدلُّ عليه وجوه منها قوله تعالىٰ: «الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ 218 وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ 219» [الشعراء: 218 و219]، قيل : معناه أنَّه كان ينقل روحه عن ساجد إلىٰ ساجد، وبهذا التقدير فالآية دالَّة علىٰ أنَّ جميع آباء محمّد(صلی الله علیه و آله) كانوا مسلمين، وحينئذٍ يجب القطع بأنَّ والد إبراهيم كان مسلماً. ثمّ قال: وممَّا يدلُّ أيضاً علىٰ أنَّ أحداً من آباء محمّد(صلی الله علیه و آله) ما كانوا مشركين قوله(صلی الله علیه و آله): «لم أزل أُنقل من أصلاب الطاهرين إلىٰ أرحام الطاهرات»، وقال تعالىٰ: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» [التوبة: 28]، وذلك يوجب أنْ يقال: إنَّ أحداً من أجداده ما كان من المشركين. انتهىٰ. وقال الشيخ الطبرسي (رحمة الله) بعد نقل ما مرَّ من كلام الزجَّاج: وهذا الذي قاله الزجاج يقوِّي ما قاله أصحابنا أنَّ آزر كان جدُّ إبراهيم لأُمِّه، أو كان عمُّه من حيث صحَّ عندهم أنَّ آباء النبيِّ(صلی الله علیه و آله) إلىٰ آدم كلُّهم كانوا موحِّدين، وأجمعت الطائفة علىٰ ذلك. انتهىٰ. أقول: الأخبار الدالَّة على إسلام آباء النبيِّ(صلی الله علیه و آله) من طُرُق الشيعة مستفيضة بل متواترة، وكذا في خصوص والد إبراهيم قد وردت بعض الأخبار، وقد عرفت إجماع الفرقة المحقَّة علىٰ ذلك بنقل المخالف والمؤالف، وهذا الخبر صريح في كون والده (علیه السلام) آزر، فلعلَّه ورد تقيَّةً).

فَأَرْسَلَ إِلَىٰ نِسَاءٍ مِنَ الْقَوَابِلِ لَا يَكُونُ فِي الْبَطْنِ شَيْ ءٌ إِلَّا عَلِمْنَ بِهِ، فَنَظَرْنَ إِلَىٰ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ، فَأَلْزَمَ اللهُ تَعَالَىٰ ذِكْرُهُ مَا فِي الرَّحِمِ الظَّهْرَ، فَقُلْنَ: مَا نَرَىٰ شَيْئاً فِي بَطْنِهَا، فَلَمَّا وَضَعَتْ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ [بِهِ] أَرَادَأَبُوهُ أَنْ يَذْهَبَ بِهِ إِلَىٰ نُمْرُودَ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: لَا تَذْهَبْ بِابْنِكَ إِلَىٰ نُمْرُودَ فَيَقْتُلَهُ، دَعْنِي أَذْهَبْ بِهِ إِلَىٰ بَعْضِ الْغِيرَانِ(1) أَجْعَلْهُ فِيهِ حَتَّىٰ يَأْتِيَ عَلَيْهِ أَجَلُهُ وَلَا تَكُونَ أَنْتَ تَقْتُلُ ابْنَكَ، فَقَالَ لَهَا: فَاذْهَبِي بِهِ، فَذَهَبَتْ بِهِ إِلَىٰ غَارٍ، ثُمَّ أَرْضَعَتْهُ، ثُمَّ جَعَلَتْ عَلَىٰ بَابِ الْغَارِ صَخْرَةً، ثُمَّ انْصَرَفَتْ عَنْهُ، فَجَعَلَ اللهُ (عزوجل)رِزْقَهُ فِي إِبْهَامِهِ، فَجَعَلَ يَمُصُّهَا فَيَشْرَبُ لَبَناً(2)،

ص: 191


1- جمع الغار، وهو الكهف في الجبل.
2- في الكافي: (فيشخب لبنها).

وَجَعَلَ يَشِبُّ(1) فِي الْيَوْمِ كَمَا يَشِبُّ غَيْرُهُ فِي الْجُمْعَةِ، وَيَشِبُّ فِي الْجُمْعَةِ كَمَا يَشِبُّ غَيْرُهُ فِي الشَّهْرِ، وَيَشِبُّ فِي الشَّهْرِ كَمَا يَشِبُّ غَيْرُهُ فِي السَّنَةِ، فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ إِنَّ أُمَّهُ قَالَتْ لِأَبِيهِ: لَوْ أَذِنْتَ لِي حَتَّىٰ أَذْهَبَ إِلَىٰ ذَلِكَ الصَّبِيِّ فَأَرَاهُ فَعَلْتُ، قَالَ: فَافْعَلِي، فَأَتَتِ الْغَارَ، فَإِذَا هِيَ بِإِبْرَاهِيمَ (علیه السلام)، وَإِذَا عَيْنَاهُ تَزْهَرَانِ كَأَنَّهُمَا سِرَاجَانِ، فَأَخَذَتْهُ وَضَمَّتْهُ إِلَىٰ صَدْرِهَا وَأَرْضَعَتْهُ ثُمَّ انْصَرَفَتْ عَنْهُ، فَسَأَلَهَا أَبُوهُ عَنِ الصَّبِيِّ، فَقَالَتْ لَهُ: قَدْ وَارَيْتُهُ فِي التُّرَابِ، فَمَكَثَتْ تَعْتَلُّ وَتَخْرُجُ فِي الْحَاجَةِ وَتَذْهَبُ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (علیه السلام) فَتَضُمُّهُ إِلَيْهَا وَتُرْضِعُهُ ثُمَّ تَنْصَرِفُ، فَلَمَّا تَحَرَّكَأَتَتْهُ أُمُّهُ كَمَا كَانَتْ تَأْتِيهِ وصَنَعَتْ كَمَا كَانَتْ تَصْنَعُ، فَلَمَّا أَرَادَتِ الْاِنْصِرَافَ أَخَذَ بِثَوْبِهَا(2)،

ص: 192


1- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي: (يشبُّ فلان بالكسر ويُضَمُّ: يرتفع ويكبر). وقال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول: (قوله (علیه السلام): «يشبُّ في اليوم» بكسر الشين: أي ينمو، لعلَّ المراد أنَّ في الأُسبوع الأوَّل يشبُّ كلَّ يوم كما يشبُّ غيره في الجمعة، أي الأُسبوع تسمية للكلِّ باسم الجزء، ثمّ في بقيَّة الشهر يشبُّ في كلِّ أُسبوع كما يشبُّ غيره في شهر، ثمّ في بقية السنة يشبُّ في كلِّ شهر كما يشبُّ غيره في السنة. ويحتمل أنْ لا تكون هذه التشبيهات مبنيَّة علىٰ المساواة الحقيقيَّة، بل علىٰ محض الإسراع في النموِّ، وهذا شائع في المحاورات).
2- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي: (في معارج النبوَّة: قال لأُمِّه: هل غير هذه البقعة منزل آخر؟ قالت: نعم أوسع وأحسن وأزين، وهذه البقعة ضيِّقة، وانَّما أسكنتك فيها خوفاً من العدوِّ وتحُّرزاً من قتلك، فالتمسها أنْ تُخرجه معها، فلمَّا أخرجته ليلاً رأىٰ (علیه السلام) أرضاً موضوعة مبسوطة وسماء مرفوعة مزيَّنة بزينة الكواكب، فقال ما حكاه عنه (جلَّ شأنه) بقوله: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأىٰ كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي ...» الآية [الأنعام: 76]، والمراد بالكوكب الجنس أو الزهرة كما قيل: «هَذَا رَبِّي» أي علىٰ زعمكم، وقيل: تقديره: أهذا ربِّي بحذف حرف الاستفهام، قاله علىٰ سبيل الإنكار. وقيل: إنَّه (علیه السلام) كان في مقام الاستدلال علىٰ وجود الصانع والمستدلّ، قيل: إتمام الاستدلال لا يحصل له العلم بالمطلوب، فلمَّا تمَّ استدلاله حصل له اليقين بالربِّ الحقيقي فقال: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ» [الأنعام: 79]. وهذا ليس بشيء، لأنَّه كان له علم بالربِّ بحسب الفطرة، وقيل غير ذلك).

فَقَالَتْ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ لَهَا: اذْهَبِي بِي مَعَكِ، فَقَالَتْ لَهُ: حَتَّىٰ أَسْتَأْمِرَ أَبَاكَ»(1).

فَلَمْ(2) يَزَلْ إِبْرَاهِيمُ (علیه السلام) فِي الْغَيْبَةِ مَخْفِيًّا لِشَخْصِهِ، كَاتِماً لِأَمْرِهِ، حَتَّىٰ ظَهَرَ فَصَدَعَ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَىٰ ذِكْرُهُ، وَأَظْهَرَ اللهُ قُدْرَتَهُ فِيهِ. ثُمَّ غَابَ (علیه السلام) الْغَيْبَةَ الثَّانِيَةَ، وَذَلِكَ حِينَ نَفَاهُ الطَّاغُوتُ عَنْ مِصْرَ، فَقَالَ: «وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا 48»، قَالَ اللهُ (تبارک و تعالی): «فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا 49 وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْرَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا 50» [مريم: 48 - 50]، يَعْنِي بِهِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام)، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَدْ كَانَ دَعَا اللهَ (عزوجل)أَنْ يَجْعَلَ لَهُ لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ، فَجَعَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ لَهُ وَلِإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا، فَأَخْبَرَ عَلِيٌّ (علیه السلام) بِأَنَّ الْقَائِمَ هُوَ الْحَادِي عَشَرَ(3) مِنْ وُلْدِهِ، وَأَنَّهُ المَهْدِيُّ الَّذِي يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً، وَأَنَّهُ تَكُونُ لَهُ غَيْبَةٌ وَحَيْرَةٌ يَضِلُّ فِيهَا أَقْوَامٌ وَيَهْتَدِي فِيهَا آخَرُونَ، وَأَنَّ هَذَا كَائِنٌ كَمَا أَنَّهُ مَخْلُوقٌ .

وَأَخْبَرَ (علیه السلام) فِي حَدِيثِ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِ «أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ قَائِمٍ بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِرٍ مَشْهُورٍ أَوْ خَافٍ مَغْمُورٍ، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَبَيِّنَاتُهُ »(4).

وقد أخرجت هذين الخبرين في هذا الكتاب بإسنادهما في باب ما أخبر به

ص: 193


1- تتمَّة الحديث في الكافي (ج 8/ ص 366 - 368/ ح 558)، فليُراجَع. وراجع: شرح أُصول الكافي للمازندراني (ج 12/ ص 529 و530)، ومرآة العقول (ج 26/ ص 548 - 551).
2- من هنا كلام المصنِّف (رحمة الله) لا بقيَّة الحديث.
3- كذا، ولعلَّه وهم من الراوي، والصواب العاشر.
4- سيأتي مسنداً تحت الرقم (186/2)، فانتظر.

أمير المؤمنين (علیه السلام) من وقوع الغيبة، وكرَّرت ذكرهما للاحتياج إليه علىٰ أثر ما ذكرت من قصَّة إبراهيم (علیه السلام).

ولإبراهيم (علیه السلام) غيبة أُخرىٰ سار فيها في البلاد وحده للاعتبار.

[2/8] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)، قَالَ: خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ (علیه السلام) ذَاتَ يَوْمٍ يَسِيرُ فِي الْبِلَادِ لِيَعْتَبِرَ، فَمَرَّ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ يُصَلِّي قَدْ قَطَعَ إِلَىٰالسَّمَاءِ صَوْتَهُ(1)، وَلِبَاسُهُ شَعَرٌ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ (علیه السلام)، فَعَجِبَ مِنْهُ، وَجَلَسَ يَنْتَظِرُ فَرَاغَهُ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَرَّكَهُ بِيَدِهِ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ لِي حَاجَةً، فَخَفِّفْ».

قَالَ: «فَخَفَّفَ الرَّجُلُ، وَجَلَسَ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (علیه السلام): لِمَنْ تُصَلِّي؟ فَقَالَ: لِإِلَهِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: وَمَنْ إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: الَّذِي خَلَقَكَ وَخَلَقَنِي، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: لَقَدْ أَعْجَبَنِي نَحْوُكَ(2)، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُوَاخِيَكَ فِي اللهِ (تبارک و تعالی)، فَأَيْنَ مَنْزِلُكَ إِذَا أَرَدْتُ زِيَارَتَكَ وَلِقَاءَكَ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: مَنْزِلِي خَلْفَ هَذِهِ النُّطْفَةِ(3) - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَىٰ الْبَحْرِ -، وَأَمَّا مُصَلَّايَ فَهَذَا المَوْضِعُ تُصِيبُنِي فِيهِ إِذَا أَرَدْتَنِي إِنْ شَاءَ اللهُ، ثُمَّ قَالَ الرَّجُلُ لِإِبْرَاهِيمَ: لَكَ حَاجَةٌ؟ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: نَعَمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ لَهُ: تَدْعُو اللهَ وَأُؤَمِّنُ أَنَا عَلَىٰ دُعَائِكَ، أَوْ أَدْعُو أَنَا وَتُؤَمِّنُ أَنْتَ عَلَىٰ دُعَائِي، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: وَفِيمَ نَدْعُو اللهَ؟ فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: لِلْمُذْنِبِينَ المُؤْمِنِينَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَا، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَلِمَ؟ فَقَالَ: لِأَنِّي دَعَوْتُ اللهَ مُنْذُ ثَلَاثِ سِنِينَ

ص: 194


1- كذا، وفي الكافي: (طوله). والقطع كما في الوافي: العمود. ولعلَّه تصحيف: (رفع).
2- أي طريقتك في العبادة، والنحو: الطريق.
3- النطفة: الماء الصافي، قلَّ أو كثر.

بِدَعْوَةٍ لَمْ أَرَ إِجَابَتَهَا إِلَىٰ السَّاعَةِ، وَأَنَا أَسْتَحْيِي مِنَ اللهِ (عزوجل)أَنْ أَدْعُوَهُ بِدَعْوَةٍ حَتَّىٰ أَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَجَابَنِي، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَفِيمَا دَعَوْتَهُ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إِنِّي لَفِي مُصَلَّايَ هَذَا ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ مَرَّ بِي غُلَامٌ أَرْوَعُ(1) النُّورُ يَطْلُعُ مِنْ جَبْهَتِهِ، لَهُ ذُؤَابَةٌ مِنْ خَلْفِهِ، وَمَعَهُ بَقَرٌ يَسُوقُهَاكَأَنَّمَا دُهِنَتْ دَهْناً، وَغَنَمٌ يَسُوقُهَا كَأَنَّمَا دُخِسَتْ دَخْساً(2)، قَالَ: فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: يَا غُلَامُ، لِمَنْ هَذِهِ الْبَقَرُ والْغَنَمُ؟ فَقَالَ: لِي(3)، فَقُلْتُ : وَمَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ (تبارک و تعالی)، فَدَعَوْتُ اللهَ (عزوجل)عِنْدَ ذَلِكَ وَسَأَلْتُهُ أَنْ يُرِيَنِي خَلِيلَهُ، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (علیه السلام): فَأَنَا إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، وَذَلِكَ الْغُلَامُ ابْنِي، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ عِنْدَ ذَلِكَ: الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي أَجَابَ دَعْوَتِي».

قَالَ: «ثُمَّ قَبَّلَ الرَّجُلُ صَفْحَتَيْ وَجْهِ إِبْرَاهِيمَ وَعَانَقَهُ، ثُمَّ قَالَ: الْآنَ فَنَعَمْ، وَادْعُ(4) حَتَّىٰ أُؤَمِّنَ عَلَىٰ دُعَائِكَ، فَدَعَا إِبْرَاهِيمُ (علیه السلام) لِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ المُذْنِبِينَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِالمَغْفِرَةِ وَالرِّضَا عَنْهُمْ».

قَالَ: «وَأَمَّنَ الرَّجُلُ عَلَىٰ دُعَائِهِ».

[قَالَ]: فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (علیه السلام): «فَدَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ بَالِغَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ المُذْنِبِينَ مِنْ شِيعَتِنَا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(5)(6).

ص: 195


1- الأروع - كجعفر - من الرجال: الذي يُعجبك حسنه.
2- الدخس - بالمعجمة بين المهملتين -: الورم والسمن.
3- في الكافي: (فقال: لإبراهيم).
4- في الكافي: (فقم وادعُ).
5- رواه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 8/ ص 392 - 394/ ح 591).
6- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي (ج 12/ ص 573): (قوله: «منزلي خلف هذه النطفة» النطفة البحر، ويقال للماء القليل والكثير نطفة، وهي بالقليل أخصّ. «إذ مرَّ بي غلام أروع» الأروع من يعجبك بحسنه ونضرة منظرة أو بشجاعته. «ومعه بقر يسوقها كأنَّما دُهِنَت دهناً» دهنه دهناً ودهنة بلَّه، والاسم الدُّهن بالضمِّ، وهو كناية عن سمنها وطراوة جسدها، ولفظة (ما) كافَّة. «وغنم يسوقها كأنَّما دُخِسَت دخساً» أي مُلِئَت جلدها باللحم والشحم، وكلُّ شيء ملأته فقد خسته، وكلُّ ذي سمن دخيس). وقال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول (ج 26/ ص 603): (قوله (علیه السلام): «نحوك» أي طريقتك في العبادة أو مثلك. قوله: «خلف هذه النطفة»، قال الفيروزآبادي: النطفة - بالضمِّ - الماء الصافي قلَّ أو كثر. وقال المطرزي: النطفة البحر. قوله: «أروع»، قال الجوهري: الأروع من الرجال الذي يُعجبك حسنه. قوله (علیه السلام): «كأنَّما دُهِنَت دهناً»، يقال: دهنه أي طلاه بالدُّهن، وهو كناية عن سمنها، أي مُلِئَت دهناً، أو صفائها، أي طُلِيَت به. قوله (علیه السلام): «كأنَّما دُخِسَت دخساناً» في أكثر النُّسَخ بالخاء المعجمة، وفي بعضها بالمهملة. قال الجوهري: الدخيس اللحم المكتنز، وكلُّ ذي سمن دخيس. وقال الجزري: كلُّ شيء ملأته فقد دخسته، والدخاس الامتلاء والزحام. قوله (علیه السلام): «من يومه ذلك» أي إلىٰ القيامة).

ص: 196

الباب الخامس

في غيبة يوسف (علیه السلام)

ص: 197

ص: 198

وأمَّا غيبة يوسف (علیه السلام) فإنَّها كانت عشرين سنة لم يُدهِّن فيها ولم يكتحل ولم يتطيَّب ولم يمسّ النساء حتَّىٰ جمع الله ليعقوب شمله وجمع بين يوسف وإخوته وأبيه وخالته، كان منها ثلاثة أيَّام في الجُبِّ، وفي السجن بضع سنين، وفي الملك باقي سنيه. وكان هو بمصر ويعقوب بفلسطين، وكان بينهما مسيرة تسعة أيَّام، فاختلفت عليه الأحوال في غيبته من إجماع إخوته علىٰ قتله، ثمّ إلقائهم إيَّاه في غيابت الجُبِّ، ثمّ بيعهم إيَّاه بثمن بخس دراهم معدودة، ثمّ بلواه بفتنة امرأة العزيز، ثمّ بالسجن بضع سنين، ثمّ صار إليه بعد ذلك ملك مصر(1) وجمع الله (تعالىٰ ذكره) شمله وأراه تأويل رؤياه .

[1/9] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أُورَمَةَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الْمِيثَمِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «قَدِمَ أَعْرَابِيٌّ عَلَىٰ يُوسُفَ لِيَشْتَرِيَ مِنْهُ طَعَاماً فَبَاعَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَهُ يُوسُفُ: أَيْنَ مَنْزِلُكَ؟ قَالَ لَهُ: بِمَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا».

قَالَ: «فَقَالَ لَهُ: فَإِذَا مَرَرْتَ بِوَادِي كَذَا وَكَذَا فَقِفْ فَنَادِ: يَا يَعْقُوبُ، يَا يَعْقُوبُ، فَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ إِلَيْكَ رَجُلٌ عَظِيمٌ جَمِيلٌ جَسِيمٌ وَسِيمٌ، فَقُلْ لَهُ: لَقِيتُرَجُلاً بِمِصْرَ وَهُوَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ: إِنَّ وَدِيعَتَكَ عِنْدَ اللهِ (عزوجل)لَنْ تَضِيعَ».

ص: 199


1- الذي يظهر من القرآن وبعض الأخبار أنَّه صار عزيز مصر لا مَلِكه، والعزيز رئيس الدولة، والمَلِك هو فرعون مصر.

قَالَ: «فَمَضَىٰ الْأَعْرَابِيُّ حَتَّىٰ انْتَهَىٰ إِلَىٰ المَوْضِعِ، فَقَالَ لِغِلْمَانِهِ: احْفَظُوا عَلَيَّ الْإِبِلَ، ثُمَّ نَادَىٰ: يَا يَعْقُوبُ، يَا يَعْقُوبُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَعْمَىٰ طَوِيلٌ جَسِيمٌ جَمِيلٌ يَتَّقِي الْحَائِطَ بِيَدِهِ حَتَّىٰ أَقْبَلَ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَنْتَ يَعْقُوبُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَبْلَغَهُ مَا قَالَ لَهُ يُوسُفُ».

قَالَ: «فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: يَا أَعْرَابِيُّ، أَلَكَ حَاجَةٌ إِلَىٰ اللهِ (تبارک و تعالی)؟ فَقَالَ لَهُ: نَعَمْ، إِنِّي رَجُلٌ كَثِيرُ المَالِ وَلِي ابْنَةُ عَمٍّ لَيْسَ يُولَدُ لِي مِنْهَا، وَأُحِبُّ أَنْ تَدْعُوَ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنِي وَلَداً».

قَالَ: «فَتَوَضَّأَ يَعْقُوبُ وَصَلَّىٰ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ دَعَا اللهَ (تبارک و تعالی)، فَرُزِقَ أَرْبَعَةَ أَبْطُنٍ - أَوْ قَالَ سِتَّةَ أَبْطُنٍ - فِي كُلِّ بَطْنٍ اثْنَانِ. فَكَانَ يَعْقُوبُ (علیه السلام) يَعْلَمُ أَنَّ يُوسُفَ (علیه السلام) حَيٌّ لَمْ يَمُتْ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَىٰ ذِكْرُهُ سَيُظْهِرُهُ لَهُ بَعْدَ غَيْبَتِهِ، وَكَانَ يَقُولُ لِبَنِيهِ: «إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ 96» [يوسف: 96]، وَكَانَ أَهْلُهُ وَأَقْرِبَاؤُهُ يُفَنِّدُونَهُ عَلَىٰ ذِكْرِهِ لِيُوسُفَ حَتَّىٰ إِنَّهُ لَمَّا وَجَدَ رِيحَ يُوسُفَ قَالَ : «إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لَا أَنْ تُفَنِّدُونِ 94 قَالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ 95 فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ» وهُوَ يَهُودَا ابْنُهُ وَأَلْقَىٰ قَمِيصَ يُوسُفَ «عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ 96» [يوسف: 94 - 96]»(1).

[2/10] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أُورَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ، عَنْ أَبِي إِسْمَاعِيلَ السَّرَّاجِ، عَنْ بِشْرِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنِ المُفَضَّلِ

ص: 200


1- قال العلَّامة المجلسي في بحار الأنوار (ج 12/ ص 286): (بيان: الوسامة: أثر الحسن. ويظهر من هذا الخبر أنَّ يهودا لم يذهب مع إخوته في المرَّة الأخيرة، وهو خلاف المشهور كما عرفت، وذكر المفسِّرون أنَّ قائل هذا القول كان أولاد أولاده).

- الْجُعْفِيِّ أَظُنُّهُ(1) - عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «أَتَدْرِي مَا كَانَ قَمِيصُ يُوسُفَ (علیه السلام)؟»، قُلْتُ: لَا، قَالَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ (علیه السلام) لَمَّا أُوقِدَتْ لَهُ النَّارُ أَتَاهُ جَبْرَئِيلُ (علیه السلام) بِثَوْبٍ مِنْ ثِيَابِ الْجَنَّةِ وَأَلْبَسَهُ إِيَّاهُ فَلَمْ يَضُرَّهُ مَعَهُ حَرٌّ وَلَا بَرْدٌ، فَلَمَّا حَضَرَ إِبْرَاهِيمَ المَوْتُ جَعَلَهُ فِي تَمِيمَةٍ(2) وَعَلَّقَهُ عَلَىٰ إِسْحَاقَ، وَعَلَّقَهُ إِسْحَاقُ عَلَىٰ يَعْقُوبَ، فَلَمَّا وُلِدَ لِيَعْقُوبَ يُوسُفُ عَلَّقَهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ فِي عَضُدِهِ حَتَّىٰ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ، فَلَمَّا أَخْرَجَ يُوسُفُ الْقَمِيصَ مِنَ التَّمِيمَةِ وَجَدَ يَعْقُوبُ رِيحَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ : «إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (3) 94» [يوسف: 94]، فَهُوَ ذَلِكَ الْقَمِيصُ الَّذِي أُنْزِلَ مِنَ الْجَنَّةِ»، قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَإِلَىٰ مَنْ صَارَ ذَلِكَ الْقَمِيصُ؟ قَالَ: «إِلَىٰ أَهْلِهِ، ثُمَّ قَالَ: كُلُّ نَبِيٍّ وَرَّثَ عِلْماً أَوْ غَيْرَهُ فَقَدِ انْتَهَىٰ إِلَىٰ [آلِ] مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله)» (4)(5).

ص: 201


1- في الكافي: (عن المفضَّل بن عمر، عن أبي عبد الله (علیه السلام).
2- التميمة: الخرزة التي تُعلَّق علىٰ الإنسان وغيره من الحيوانات، ويقال لكلِّ عوذة تُعلَّق عليه.
3- التفنيد: النسبة إلىٰ الفند، وهو نقصان عقل يحدث من الهرم.
4- رواه المصنِّف (رحمة الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 53/ باب 45/ ح 2)، الصفَّار (رحمة الله) في بصائر الدرجات (ص 209 و210/ ج 4/ باب 5/ ح 58)، والعيَّاشي (رحمة الله) في تفسيره (ج 2/ ص 193 و194/ ح 71)، والقمِّي (رحمة الله) في تفسيره (ج 1/ ص 354 و355)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 232/ باب ما عند الأئمَّة من آيات الأنبياء (علیهم السلام)/ ح 5)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 693/ ح 6).
5- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي (ج 5/ ص 322): (قوله: «جعله في تميمة»: التميمة عوذة تُعلَّق علىٰ الإنسان. قوله: «لولا أنْ تُفنِّدون»: أي تنبسوني إلىٰ الفند، وهو نقصان يحدث من هرم، وفي القاموس: فنَّده تفنيداً كذَّبه وعجَّزه وخطَّأ رأيه كأفنده). وقال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول (ج 3/ ص 40): (التميمة: عوذة تُعلَّق علىٰ الإنسان، من باب التفعيل أي عقده. «وجد يعقوب ريحه»: أي في كنعان وبينهما مسيرة تسعة أيَّام من البدو حين أقبل به إليه يهود، أو قيل: كان بينهما ثمانون فرسخاً. «لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ» بكسر النون وحذف الياء: أي تنسبوني إلىٰ الفند، وهو بالتحريك: نقصان عقل يحدث من هرم، قيل: وجواب (لو) محذوف تقديره لصدَّقتموني، أو لقلت إنَّه قريب). وقال (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 12/ ص 249): (بيان: قصَّة القميص علىٰ ما ورد في الخبر ذكرها العامَّة والخاصَّة بطُرُق كثيرة، وقال الطبرسي (رحمة الله): قوله: «لولا أنْ تُفنِّدون» معناه: لولا أنْ تُسِّفهوني، عن ابن عبَّاس ومجاهد. وقيل: لولا أنْ تُضعِّفوني في الرأي، عن ابن إسحاق. وقيل: لولا أنْ تُكذِّبوني. والفند: الكذب، عن سعيد بن جبير والسُّدِّي والضحَّاك، وروي ذلك أيضاً عن ابن عبَّاس. وقيل: لولا أنْ تُهرِّموني ، عن الحسن وقتادة).

فَرُوِيَ «أَنَّ الْقَائِمَ (علیه السلام) إِذَا خَرَجَ يَكُونُ عَلَيْهِ قَمِيصُ يُوسُفَ، وَمَعَهُ عَصَا مُوسَىٰ، وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ (علیهم السلام)» .

والدليل علىٰ أنَّ يعقوب (علیه السلام) علم بحياة يوسف (علیه السلام) وأنَّه إنَّما غُيِّب عنه لبلوىٰ واختبار: أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ بَنُوهُ يَبْكُونَ، قَالَ لَهُمْ: يَا بَنِيَّ، لِمَ تَبْكُونَ وَتَدْعُونَ بِالْوَيْلِ؟ وَمَا لِي مَا أَرَىٰ فِيكُمْ حَبِيبِي يُوسُفَ؟ قالُوا: «يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ 17» [يوسف: 17]، وهَذَا قَمِيصُهُ قَدْ أَتَيْنَاكَ بِهِ، قَالَ: أَلْقُوهُ إِلَيَّ، فَأَلْقَوْهُ إِلَيْهِ وَأَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَخَرَّمَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ لَهُمْ: يَا بَنِيَّ، أَلَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ الذِّئْبَ قَدْ أَكْلَ حَبِيبِي يُوسُفَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: مَا لِي لَا أَشَمُّ رِيحَ لَحْمِهِ؟! وَمَا لِي أَرَىٰ قَمِيصَهُ صَحِيحاً؟ هَبُوا أَنَّ الْقَمِيصَ(1) انْكَشَفَ مِنْ أَسْفَلِهِ، أَرَأَيْتُمْ مَا كَانَ فِي مَنْكِبَيْهِ وعُنُقِهِ كَيْفَ خَلَصَ إِلَيْهِ الذِّئْبُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْرِقَهُ؟ إِنَّ هَذَا الذِّئْبَ لَمَكْذُوبٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّ ابْنِي لَمَظْلُومٌ، «بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ 18» [يوسف: 18]، وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ لَيْلَتَهُمْ تِلْكَ لَا يُكَلِّمُهُمْ، وَأَقْبَلَ يَرْثِي يُوسُفَ وَيَقُولُ: حَبِيبِي يُوسُفُ الَّذِي كُنْتُ أُوثِرُهُ عَلَىٰ جَمِيعِ أَوْلَادِي فَاخْتُلِسَ مِنِّي، حَبِيبِي يُوسُفُ الَّذِي كُنْتُ أَرْجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَوْلَادِي فَاخْتُلِسَ مِنِّي، حَبِيبِي يُوسُفُ الَّذِي أُوَسِّدُهُ يَمِينِي وَأُدَثِّرُهُ بِشِمَالِي

ص: 202


1- أي احسبوا. تقول: هب زيداً منطلقاً، بمعنىٰ أحسب، يتعدَّىٰ إلىٰ مفعولين، ولا يُستَعمل منه ماضٍ ولا مستقبل في هذا المعنىٰ. (الصحاح للجوهري: ج 1/ ص 235/ مادَّة وهب).

فَاخْتُلِسَ مِنِّي، حَبِيبِي يُوسُفُ الَّذِي كُنْتُ أُونِسُ بِهِ وَحْدَتِي فَاخْتُلِسَ مِنِّي، حَبِيبِي يُوسُفُ لَيْتَ شِعْرِي فِي أَيِّ الْجِبَالِ طَرَحُوكَ، أَمْ فِي أَيِّ الْبِحَارِ غَرَّقُوكَ، حَبِيبِي يُوسُفُ لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَكَ فَيُصِيبُنِي الَّذِي أَصَابَكَ .

ومن الدليل علىٰ أنَّ يعقوب (علیه السلام) علم بحياة يوسف (علیه السلام) وأنَّه في الغيبة قوله: «عَسَىٰ اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً» [يوسف: 83]، وقوله لبنيه: «يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ 87» [يوسف: 87].

وَقَالَ الصَّادِقُ (علیه السلام): «إِنَّ يَعْقُوبَ (علیه السلام) قَالَ لِمَلَكِ المَوْتِ: أَخْبِرْنِي عَنِ الْأَرْوَاحِ تَقْبِضُهَا مُجْتَمِعَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً؟ قَالَ: بَلْ مُتَفَرِّقَةً،قَالَ فَهَلْ قَبَضْتَ رُوحَ يُوسُفَ فِي جُمْلَةِ مَا قَبَضْتَ مِنَ الْأَرْوَاحِ؟ قَالَ: لَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ لِبَنِيهِ: «يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ» »(1)(2).

فحال العارفين في وقتنا هذا بصاحب زماننا الغائب (علیه السلام) حال يعقوب (علیه السلام) في معرفته بيوسف وغيبته، وحال الجاهلين به وبغيبته والمعاندين

ص: 203


1- راجع ما رواه المصنِّف (رحمة الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 52/ باب 44/ ح 1)، والعيَّاشي (رحمة الله) في تفسيره (ج 2/ ص 189 و190/ ح 64)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 8/ ص 199/ ح 238).
2- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي (ج 12/ ص 263): (قوله: « فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ» أي استمعوا لحديث القوم منهما واطلبوا خبرهما، تقول: تحسَّست من الشيء إذا تخبَّرت خبره). وقال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول (ج 26/ ص 103 و104): (قوله تعالىٰ: «فَتَحَسَّسُوا»، التحسُّس: طلب الإحساس، أي تعرفوا منهما وتفحصوا عن حالهما. قوله (علیه السلام): «تقبضها مجتمعة»، لعلَّ السؤال عن الاجتماع والتفرُّق في الأخذ لأنَّه إذا قبضها مجتمعة يمكن أنْ يغفل عن خصوص كلِّ واحد بخلاف ما إذا أخذ روحاً روحاً، أو لأنَّه إذا قبضها مجتمعة يمكن أنْ تسلم إليه بعد مرور الأيَّام ليجتمع عدد كثير منها، ولما يصل روح يوسف (علیه السلام) إليه بعد لذلك، وهذا المَلَك إمَّا عزرائيل ويقبض الأرواح من أعوانه وإمَّا غيره ويقبض منه، والأخير أظهر).

في أمره حال أهله وأقربائه(1) الذين بلغ من جهلهم بأمر يوسف وغيبته حتَّىٰ قالوا لأبيهم يعقوب: «تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ 95» [يوسف: 95]. وقول يعقوب لمَّا ألقىٰ البشير قميص يوسف علىٰ وجهه فارتدَّ بصيراً: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ 96» [يوسف: 96]، دليل علىٰ أنَّه قد كان علم أنَّ يوسف حيٌّ، وأنَّه إنَّما غُيِّب عنه للبلوىٰ والامتحان .[3/11] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ سَدِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ فِي الْقَائِمِ سُنَّةً مِنْ يُوسُفَ»، قُلْتُ: كَأَنَّكَ تَذْكُرُ خَبَرَهُ أَوْ غَيْبَتَهُ، فَقَالَ لِي: «وَمَا تُنْكِرُ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَشْبَاهُ الْخَنَازِيرِ، إِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ كَانُوا أَسْبَاطاً أَوْلَادَ أَنْبِيَاءَ تَاجَرُوا يُوسُفَ وَبَايَعُوهُ وَهُمْ إِخْوَتُهُ وَهُوَ أَخُوهُمْ فَلَمْ يَعْرِفُوهُ حَتَّىٰ قَالَ لَهُمْ: «أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي» [يوسف: 90]؟ فَمَا تُنْكِرُ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَنْ يَكُونَ اللهُ (عزوجل)فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ يُرِيدُ أَنْ يَسْتُرَ حُجَّتَهُ عَنْهُمْ؟ لَقَدْ كَانَ يُوسُفُ يَوْماً مَلِكَ مِصْرَ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِهِ مَسِيرَةُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْماً(2)، فَلَوْ أَرَادَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ أَنْ يُعَرِّفَهُ مَكَانَهُ لَقَدَرَ عَلَىٰ ذَلِكَ، وَاللهِ لَقَدْ سَارَ يَعْقُوبُ وَوُلْدُهُ عِنْدَ الْبِشَارَةِ فِي تِسْعَةِ أَيَّامٍ إِلَىٰ مِصْرَ، فَمَا تُنْكِرُ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَنْ يَكُونَ اللهُ (عزوجل)يَفْعَلُ بِحُجَّتِهِ مَا فَعَلَ بِيُوسُفَ أَنْ يَكُونَ يَسِيرُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَيَمْشِي فِي أَسْوَاقِهِمْ وَيَطَأُ بُسُطَهُمْ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ حَتَّىٰ يَأْذَنَ اللهُ (عزوجل)لَهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ نَفْسَهُ كَمَا أَذِنَ لِيُوسُفَ (علیه السلام) حِينَ قَالَ لَهُمْ: «هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ 89 قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي» [يوسف: 89 و90]؟»(3).

ص: 204


1- في بعض النُّسَخ: (حال إخوة يوسف).
2- قد مرَّ ويأتي أنَّه مسيرة تسعة أيَّام، ولعلَّه مبنيٌّ علىٰ سرعة السير عند البشارة.
3- رواه المصنِّف (رحمة الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 244/ باب 179/ ح 3)، وابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 121 و122/ ح 117).

الباب السادس

في غيبة موسى (علیه السلام)

ص: 205

ص: 206

وأمَّا غيبة موسىٰ النبيِّ (علیه السلام) فإنَّه:

[1/12] حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِدْرِيسَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ الْآدَمِيُّ الرَّازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ النَّسَائِيُّ(1)، عَنْ أَبِيهِ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا المُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ سَعِيدِ ابْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَيِّدِ الْعَابِدِينَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ سَيِّدِ الشُّهَدَاءِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ سَيِّدِ الْوَصِيِّينَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (صلوات الله عليهم)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «لَمَّا حَضَرَتْ يُوسُفَ (علیه السلام) الْوَفَاةُ جَمَعَ شِيعَتَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَىٰ عَلَيْهِ، ثُمَّ حَدَّثَهُمْ بِشِدَّةٍ تَنَالُهُمْ، يُقْتَلُ فِيهَا الرِّجَالُ، وَتُشَقُّ بُطُونُ الْحَبَالَىٰ، وَتُذْبَحُ الْأَطْفَالُ، حَتَّىٰ يُظْهِرَ اللهُ الْحَقَّ فِي الْقَائِمِ مِنْ وُلْدِ لَاوَىٰ بْنِ يَعْقُوبَ، وَهُوَ رَجُلٌ أَسْمَرُ طُوَالُ، وَنَعَتَهُ لَهُمْ بِنَعْتِهِ، فَتَمَسَّكُوا بِذَلِكَ، وَوَقَعَتِ الْغَيْبَةُ وَالشِّدَّةُ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ مُنْتَظِرُونَ قِيَامَ الْقَائِمِ أَرْبَعَ مِائَةِ سَنَةٍ، حَتَّىٰ إِذَا بُشِّرُوا بِوِلَادَتِهِ، وَرَأَوْا عَلَامَاتِ ظُهُورِهِ، وَاشْتَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْبَلْوَىٰ، وَحُمِلَ عَلَيْهِمْ بِالْخَشَبِ وَالْحِجَارَةِ، وَطُلِبَ الْفَقِيهُ الَّذِي كَانُوا يَسْتَرِيحُونَ إِلَىٰ أَحَادِيثِهِ فَاسْتَتَرَ، وَرَاسَلُوهُ فَقَالُوا: كُنَّا مَعَ الشِّدَّةِ نَسْتَرِيحُ إِلَىٰ حَدِيثِكَ، فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَىٰ بَعْضِ الصَّحَارِي، وَجَلَسَ يُحَدِّثُهُمْ حَدِيثَ الْقَائِمِ وَنَعْتَهُ وَقُرْبَ الْأَمْرِ، وَكَانَتْ لَيْلَةً قَمْرَاءَ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ مُوسَىٰ(علیه السلام)، وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَدِيثَ السِّنِّ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ دَارِ فِرْعَوْنَ يُظْهِرُ النُّزْهَةَ، فَعَدَلَ عَنْ مَوْكِبِهِ ،

ص: 207


1- كذا، والظاهر أنَّه عبيد بن آدم بن إياس العسقلاني، فصُحِّف، وليس هو محمّد بن آدم بن سليمان الجهني المصيِّصي الذي روىٰ عن سعيد بن جبير.

وَأَقْبَلَ إِلَيْهِمْ وَتَحْتَهُ بَغْلَةٌ وَعَلَيْهِ طَيْلَسَانُ خَزٍّ، فَلَمَّا رَآهُ الْفَقِيهُ عَرَفَهُ بِالنَّعْتِ، فَقَامَ إِلَيْهِ وَانْكَبَّ عَلَىٰ قَدَمَيْهِ فَقَبَّلَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّىٰ أَرَانِيَكَ.

فَلَمَّا رَأَىٰ الشِّيعَةُ ذَلِكَ عَلِمُوا أَنَّهُ صَاحِبُهُمْ، فَأَكَبُّوا عَلَىٰ الْأَرْضِ شُكْراً لِلهِ (تبارک و تعالی)، فَلَمْ يَزِدْهُمْ عَلَىٰ أَنْ قَالَ: أَرْجُو أَنْ يُعَجِّلَ اللهُ فَرَجَكُمْ(1)، ثُمَّ غَابَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَخَرَجَ إِلَىٰ مَدِينَةِ مَدْيَنَ، فَأَقَامَ عِنْدَ شُعَيْبٍ مَا أَقَامَ، فَكَانَتِ الْغَيْبَةُ الثَّانِيَةُ أَشَدَّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأُولَىٰ، وَكَانَتْ نَيِّفاً وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَاشْتَدَّتِ الْبَلْوَىٰ عَلَيْهِمْ، وَاسْتَتَرَ الْفَقِيهُ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا صَبْرَ لَنَا عَلَىٰ اسْتِتَارِكَ عَنَّا، فَخَرَجَ إِلَىٰ بَعْضِ الصَّحَارِي وَاسْتَدْعَاهُمْ، وَطَيَّبَ نُفُوسَهُمْ(2)، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ اللهَ (عزوجل)أَوْحَىٰ إِلَيْهِ أَنَّهُ مُفَرِّجٌ عَنْهُمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَقَالُوا بِأَجْمَعِهِمْ: الْحَمْدُ لِلهِ، فَأَوْحَىٰ اللهُ (عزوجل)إِلَيْهِ(3): قُلْ لَهُمْ: قَدْ جَعَلْتُهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً لِقَوْلِهِمْ: الْحَمْدُ لِلهِ، فَقَالُوا: كُلُّ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ، فَأَوْحَىٰ اللهُ إِلَيْهِ: قُلْ لَهُمْ: قَدْ جَعَلْتُهَا عِشْرِينَ سَنَةً، فَقَالُوا: لَا يَأْتِي بِالْخَيْرِ إِلَّا اللهُ، فَأَوْحَىٰ اللهُ إِلَيْهِ: قُلْ لَهُمْ: قَدْ جَعَلْتُهَا عَشْراً، فَقَالُوا لَا يَصْرِفُ السُّوءَ إِلَّا اللهُ، فَأَوْحَىٰ اللهُ إِلَيْهِ: قُلْ لَهُمْ: لَا تَبْرَحُوا، فَقَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي فَرَجِكُمْ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ مُوسَىٰ (علیه السلام) رَاكِباً حِمَاراً.

فَأَرَادَ الْفَقِيهُ أَنْ يُعَرِّفَ الشِّيعَةَ مَا يَسْتَبْصِرُونَ بِهِ فِيهِ، وَجَاءَ مُوسَىٰحَتَّىٰ وَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُ الْفَقِيهُ: مَا اسْمُكَ؟ فَقَالَ: مُوسَىٰ، قَالَ: ابْنُ مَنْ؟ قَالَ: ابْنُ عِمْرَانَ، قَالَ: ابْنُ مَنْ ؟ قَالَ: ابْنُ قَاهِثِ بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ، قَالَ: بِمَا ذَا جِئْتَ؟ قَالَ: جِئْتُ بِالرِّسَالَةِ مِنْ عِنْدِ اللهِ (تبارک و تعالی)، فَقَامَ إِلَيْهِ، فَقَبَّلَ يَدَهُ، ثُمَّ

ص: 208


1- أي قال موسىٰ (علیه السلام): أرجو أنْ يُعجِّل الله تعالىٰ فرجكم، ولم يزد علىٰ هذا الدعاء، ولم يتكلَّم بشيء آخر سوىٰ ذلك، ثمّ غاب عنهم.
2- في بعض النُّسَخ: (وطيَّب قلوبهم).
3- أي إلىٰ الفقيه، ولعلَّه كان نبيًّا، أو المراد الإلهام كما كان لأُمِّ موسىٰ (علیه السلام).

جَلَسَ بَيْنَهُمْ، فَطَيَّبَ نُفُوسَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ أَمْرَهُ، ثُمَّ فَرَّقَهُمْ، فَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَبَيْنَ فَرَجِهِمْ بِغَرْقِ فِرْعَوْنَ أَرْبَعُونَ سَنَةً»(1).

[2/13] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ وَأَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ جَمِيعاً، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ الْبَزَنْطِيِّ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدٍ الْحَلَبِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «إِنَّ يُوسُفَ بْنَ يَعْقُوبَ (صلوات الله عليهما) حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ جَمَعَ آلَ يَعْقُوبَ وَهُمْ ثَمَانُونَ رَجُلاً، فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْقِبْطَ سَيَظْهَرُونَ عَلَيْكُمْ وَيَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، وَإِنَّمَا يُنْجِيكُمُ اللهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ بِرَجُلٍ مِنْ وُلْدِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ اسْمُهُ مُوسَىٰ بْنُ عِمْرَانَ (علیه السلام)، غُلَامٌ طُوَالٌ جَعْدٌ آدَمُ. فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُسَمِّي ابْنَهُ عِمْرَانَ وَيُسَمِّي عِمْرَانُ ابْنَهُ مُوسَىٰ ».فَذَكَرَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ(2)، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «مَا خَرَجَ مُوسَىٰ حَتَّىٰ خَرَجَ قَبْلَهُ خَمْسُونَ كَذَّاباً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلُّهُمْ يَدَّعِي أَنَّهُ مُوسَىٰ بْنُ عِمْرَانَ.

فَبَلَغَ فِرْعَوْنَ أَنَّهُمْ يُرْجِفُونَ بِهِ وَيَطْلُبُونَ هَذَا الْغُلَامَ(3)، وقَالَ لَهُ كَهَنَتُهُ وَسَحَرَتُهُ: إِنَّ هَلَاكَ دِينِكَ وَقَوْمِكَ عَلَىٰ يَدَيْ هَذَا الْغُلَامِ الَّذِي يُولَدُ الْعَامَ مِنْ بَنِي

ص: 209


1- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 13/ ص 37): (بيان: قوله (علیه السلام): «وكانت نيِّفاً وخمسين سنة» أي كان المقدَّر أوَّلاً هكذا، ولذا أخبرهم بعد مضيِّ نيِّف وعشر سنين ببقاء أربعين سنة، ثمّ خفَّف الله عنهم مرَّات حتَّىٰ أظهر لهم موسىٰ (علیه السلام) في الساعة بعد رجوعه عن مدين، وكان بقاؤه فيها عشر سنين ومدَّة ذهابه وإيابه نيِّفاً).
2- في بعض النُّسَخ: (أبي الحصين).
3- في بعض النُّسَخ: (يرجعون به ويظنُّون هذا الغلام). وأرجف القوم بالأخبار: أي خاضوا فيها وافتتنوا.

إِسْرَائِيلَ. فَوَضَعَ الْقَوَابِلَ عَلَىٰ النِّسَاءِ، وَقَالَ: لَا يُولَدُ الْعَامَ وَلَدٌ إِلَّا ذُبِحَ، وَوَضَعَ عَلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ قَابِلَةً، فَلَمَّا رَأَىٰ ذَلِكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَالُوا: إِذَا ذُبِحَ الْغِلْمَانُ وَاسْتُحْيِيَ النِّسَاءُ هَلَكْنَا، فَلَمْ نَبْقَ، فَتَعَالَوْا: لَا نَقْرَبِ النِّسَاءَ، فَقَالَ عِمْرَانُ أَبُو مُوسَىٰ (علیه السلام): بَلْ بَاشِرُوهُنَّ فَإِنَّ أَمْرَ اللهِ وَاقِعٌ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ، اللَّهُمَّ مَنْ حَرَّمَهُ فَإِنِّي لَا أُحَرِّمُهُ، وَمَنْ تَرَكَهُ فَإِنِّي لَا أَتْرُكُهُ، وَوَقَعَ عَلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ(1)، فَحَمَلَتْ، فَوَضَعَ عَلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ قَابِلَةً تَحْرُسُهَا، فَإِذَا قَامَتْ قَامَتْ وَإِذَا قَعَدَتْ قَعَدَتْ، فَلَمَّا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَقَعَتْ عَلَيْهَا المَحَبَّةُ، وَكَذَلِكَ حُجَجُ اللهِ عَلَىٰ خَلْقِهِ، فَقَالَتْ لَهَا الْقَابِلَةُ: مَا لَكِ يَا بُنَيَّةُ تَصْفَرِّينَ وَتَذُوبِينَ؟ قَالَتْ: لَا تَلُومِينِي فَإِنِّي إِذَا وَلَدْتُ أُخِذَ وَلَدِي فَذُبِحَ، قَالَتْ: لَا تَحْزَنِي فَإِنِّي سَوْفَ أَكْتُمُ عَلَيْكِ، فَلَمْ تُصَدِّقْهَا، فَلَمَّا أَنْ وَلَدَتْ الْتَفَتَتْ إِلَيْهَا وَهِيَ مُقْبِلَةٌ، فَقَالَتْ: مَا شَاءَ اللهُ، فَقَالَتْ لَهَا: أَلَمْ أَقُلْ إِنِّي سَوْفَ أَكْتُمُ عَلَيْكِ؟ ثُمَّ حَمَلَتْهُ فَأَدْخَلَتْهُ الْمِخْدَعَ(2) وَأَصْلَحَتْ أَمْرَهُ، ثُمَّ خَرَجَتْ إِلَىٰ الْحَرَسِ، فَقَالَتِ: انْصَرِفُوا - وَكَانُوا عَلَىٰ الْبَابِ -، فَإِنَّمَا خَرَجَ دَمٌ مُنْقَطِعٌ، فَانْصَرَفُوا،فَأَرْضَعَتْهُ، فَلَمَّا خَافَتْ عَلَيْهِ الصَّوْتَ أَوْحَىٰ اللهُ إِلَيْهَا أَنِ اعْمَلِي التَّابُوتَ، ثُمَّ اجْعَلِيهِ فِيهِ، ثُمَّ أَخْرِجِيهِ لَيْلاً فَاطْرَحِيهِ فِي نِيلِ مِصْرَ، فَوَضَعَتْهُ فِي التَّابُوتِ، ثُمَّ دَفَعَتْهُ فِي الْيَمِّ، فَجَعَلَ يَرْجِعُ إِلَيْهَا وَجَعَلَتْ تَدْفَعُهُ فِي الْغَمْرِ، وَإِنَّ الرِّيحَ ضَرَبَتْهُ فَانْطَلَقَتْ بِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَدْ ذَهَبَ بِهِ المَاءُ هَمَّتْ أَنْ تَصِيحَ، فَرَبَطَ اللهُ عَلَىٰ قَلْبِهَا».

قَالَ: «وَكَانَتِ المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَهِيَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَتْ لِفِرْعَوْنَ: إِنَّهَا أَيَّامُ الرَّبِيعِ، فَأَخْرِجْنِي وَاضْرِبْ لِي قُبَّةً عَلَىٰ شَطِّ النِّيلِ حَتَّىٰ أَتَنَزَّهَ هَذِهِ الْأَيَّامَ، فَضُرِبَتْ لَهَا قُبَّةٌ عَلَىٰ شَطِّ النِّيلِ إِذْ أَقْبَلَ التَّابُوتُ يُرِيدُهَا، فَقَالَتْ: هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَىٰ عَلَىٰ المَاءِ؟ قَالُوا: إِي وَاللهِ يَا سَيِّدَتَنَا إِنَّا لَنَرَىٰ شَيْئاً، فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا

ص: 210


1- في بعض النُّسَخ: (وباشر أُمَّ موسىٰ).
2- المِخدع والمُخدع - بالكسر والضمِّ -: الخزانة والبيت الداخل.

ثَارَتْ إِلَىٰ المَاءِ، فَتَنَاوَلَتْهُ بِيَدِهَا، وَكَادَ المَاءُ يَغْمُرُهَا حَتَّىٰ تَصَايَحُوا عَلَيْهَا، فَجَذَبَتْهُ وَأَخْرَجَتْهُ مِنَ المَاءِ، فَأَخَذَتْهُ، فَوَضَعَتْهُ فِي حَجْرِهَا، فَإِذَا هُوَ غُلَامٌ أَجْمَلُ النَّاسِ وَأَسْتَرُهُمْ، فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ مِنْهَا مَحَبَّةٌ، فَوَضَعَتْهُ فِي حَجْرِهَا، وَقَالَتْ: هَذَا ابْنِي، فَقَالُوا: إِي وَاللهِ يَا سَيِّدَتَنَا، وَاللهِ مَا لَكِ وَلَدٌ وَلَا لِلْمَلِكِ، فَاتَّخِذِي هَذَا وَلَداً، فَقَامَتْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ، وَقَالَتْ: إِنِّي أَصَبْتُ غُلَاماً طَيِّباً حُلْواً نَتَّخِذُهُ وَلَداً، فَيَكُونُ قُرَّةَ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، فَلَا تَقْتُلْهُ، قَالَ: وَمِنْ أَيْنَ هَذَا الْغُلَامُ؟ قَالَتْ: وَاللهِ مَا أَدْرِي إِلَّا أَنَّ المَاءَ جَاءَ بِهِ، فَلَمْ تَزَلْ بِهِ حَتَّىٰ رَضِيَ، فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ أَنَّ المَلِكَ قَدْ تَبَنَّىٰ ابْناً لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ رُؤُوسِ مَنْ كَانَ مَعَ فِرْعَوْنَ إِلَّا بَعَثَ إِلَيْهِ امْرَأَتَهُ لِتَكُونَ لَهُ ظِئْراً أَوْ تَحْضُنَهُ، فَأَبَىٰ أَنْ يَأْخُذَ مِنِ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ ثَدْياً، قَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ: اطْلُبُوا لِابْنِي ظِئْراً وَلَا تُحَقِّرُوا أَحَداً، فَجَعَلَ لَا يَقْبَلُ مِنِ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ، فَقَالَتْ أُمُّمُوسَىٰ لِأُخْتِهِ: قُصِّيهِ(1) انْظُرِي أَتَرَيْنَ لَهُ أَثَراً؟ فَانْطَلَقَتْ حَتَّىٰ أَتَتْ بَابَ المَلِكِ، فَقَالَتْ: قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَطْلُبُونَ ظِئْراً، وَهَاهُنَا امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ تَأْخُذُ وَلَدَكُمْ وَتَكْفُلُهُ لَكُمْ، فَقَالَتْ: أَدْخِلُوهَا، فَلَمَّا دَخَلَتْ قَالَتْ لَهَا امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ: مِمَّنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَتِ: اذْهَبِي يَا بُنَيَّةِ فَلَيْسَ لَنَا فِيكِ حَاجَةٌ، فَقُلْنَ لَهَا النِّسَاءُ: انْظُرِي عَافَاكِ اللهُ يَقْبَلُ أَوْ لَا يَقْبَلُ، فَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ قَبِلَ هَلْ يَرْضَىٰ فِرْعَوْنُ أَنْ يَكُونَ الْغُلَامُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالمَرْأَةُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ - يَعْنِي الظِّئْرَ -؟ فَلَا يَرْضَىٰ، قُلْنَ: فَانْظُرِي يَقْبَلُ أَوْ لَا يَقْبَلُ، قَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ: فَاذْهَبِي فَادْعِيهَا، فَجَاءَتْ إِلَىٰ أُمِّهَا وَقَالَتْ: إِنَّ امْرَأَةَ المَلِكِ تَدْعُوكِ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهَا، فَدُفِعَ إِلَيْهَا مُوسَىٰ، فَوَضَعَتْهُ فِي حَجْرِهَا، ثُمَّ أَلْقَمَتْهُ ثَدْيَهَا، فَازْدَحَمَ اللَّبَنُ فِي حَلْقِهِ، فَلَمَّا رَأَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ أَنَّ ابْنَهَا قَدْ قَبِلَ قَامَتْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ، فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَصَبْتُ لِابْنِي ظِئْراً،

ص: 211


1- يعنى اتبعيه، يقال: قصَّ الأثر واقتصَّه إذا تبعه.

وَقَدْ قَبِلَ مِنْهَا، فَقَالَ: مِمَّنْ هِيَ؟ قَالَتْ: مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ فِرْعَوْنُ: هَذَا مِمَّا لَا يَكُونُ أَبَداً، الْغُلَامُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالظِّئْرُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمْ تَزَلْ تُكَلِّمُهُ فِيهِ وَتَقُولُ: مَا تَخَافُ مِنْ هَذَا الْغُلَامِ؟ إِنَّمَا هُوَ ابْنُكَ يَنْشَؤُ فِي حَجْرِكَ، حَتَّىٰ قَلَبَتْهُ عَنْ رَأْيِهِ وَرَضِيَ. فَنَشَأَ مُوسَىٰ (علیه السلام) فِي آلِ فِرْعَوْنَ، وَكَتَمَتْ أُمُّهُ خَبَرَهُ وَأُخْتُهُ وَالْقَابِلَةُ، حَتَّىٰ هَلَكَتْ أُمُّهُ وَالْقَابِلَةُ الَّتِي قَبِلَتْهُ، فَنَشَأَ (علیه السلام) لَا يَعْلَمُ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ».

قَالَ: «وَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَطْلُبُهُ وَتَسْأَلُ عَنْهُ فَيَعْمَىٰ عَلَيْهِمْ خَبَرُهُ».

قَالَ: «فَبَلَغَ فِرْعَوْنَ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَهُ وَيَسْأَلُونَ عَنْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَزَادَ فِي الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمْ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الْإِخْبَارِ بِهِ وَالسُّؤَالِ عَنْهُ».قَالَ: «فَخَرَجَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ذَاتَ لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ إِلَىٰ شَيْخٍ لَهُمْ عِنْدَهُ عِلْمٌ، فَقَالُوا: قَدْ كُنَّا نَسْتَرِيحُ إِلَىٰ الْأَحَادِيثِ، فَحَتَّىٰ مَتَىٰ وَإِلَىٰ مَتَىٰ نَحْنُ فِي هَذَا الْبَلَاءِ؟ قَالَ: وَاللهِ إِنَّكُمْ لَا تَزَالُونَ فِيهِ حَتَّىٰ يَجِي ءَ اللهُ تَعَالَىٰ ذِكْرُهُ بِغُلَامٍ مِنْ وُلْدِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ اسْمُهُ مُوسَىٰ بْنُ عِمْرَانَ غُلَامٌ طُوَالٌ جَعْدٌ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ مُوسَىٰ يَسِيرُ عَلَىٰ بَغْلَةٍ حَتَّىٰ وَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَرَفَعَ الشَّيْخُ رَأْسَهُ فَعَرَفَهُ بِالصِّفَةِ، فَقَالَ لَهُ: مَا اسْمُكَ يَرْحَمُكَ اللهُ؟ قَالَ: مُوسَىٰ، قَالَ: ابْنُ مَنْ؟ قَالَ: ابْنُ عِمْرَانَ.

قَالَ: «فَوَثَبَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَقَبَّلَهَا، وَثَارُوا إِلَىٰ رِجْلِهِ فَقَبَّلُوهَا، فَعَرَفَهُمْ وَعَرَفُوهُ وَاتَّخَذَ شِيعَةً. فَمَكَثَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ خَرَجَ فَدَخَلَ مَدِينَةً لِفِرْعَوْنَ فِيهَا رَجُلٌ مِنْ شِيعَتِهِ يُقَاتِلُ رَجُلاً مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ مِنَ الْقِبْطِ، فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَىٰ الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ الْقِبْطِيِّ، فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ، وَكَانَ مُوسَىٰ (علیه السلام) قَدْ أُعْطِيَ بَسْطَةً فِي الْجِسْمِ وَشِدَّةً فِي الْبَطْشِ، فَذَكَرَهُ النَّاسُ وَشَاعَ أَمْرُهُ، وَقَالُوا: إِنَّ مُوسَىٰ قَتَلَ رَجُلاً مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، فَأَصْبَحَ فِي المَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا مِنَ الْغَدِ إِذَا الرَّجُلُ الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ

ص: 212

يَسْتَصْرِخُهُ عَلَىٰ آخَرَ، فَقَالَ لَهُ مُوسىٰ: «إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ 18» [القَصص: 18]، بِالْأَمْسِ رَجُلٌ وَالْيَوْمَ رَجُلٌ، «فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسىٰ أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ 19 وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَىٰ الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ 20 فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاًيَتَرَقَّبُ» [القَصص: 19 - 21]، فَخَرَجَ مِنْ مِصْرَ بِغَيْرِ ظَهْرٍ(1) وَلَا دَابَّةٍ وَلَا خَادِمٍ، تَخْفِضُهُ أَرْضٌ وَتَرْفَعُهُ أُخْرَىٰ حَتَّىٰ انْتَهَىٰ إِلَىٰ أَرْضِ مَدْيَنَ، فَانْتَهَىٰ إِلَىٰ أَصْلِ شَجَرَةٍ، فَنَزَلَ فَإِذَا تَحْتَهَا بِئْرٌ وَإِذَا عِنْدَهَا «أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ»، وَإِذَا جَارِيَتَانِ ضَعِيفَتَانِ، وَإِذَا مَعَهُمَا غُنَيْمَةٌ لَهُمَا، قَالَ: «مَا خَطْبُكُمَا»؟ قَالَتَا: «أَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ 23» [القَصص: 23]، وَنَحْنُ جَارِيَتَانِ ضَعِيفَتَانِ لَا نَقْدِرُ أَنْ نُزَاحِمَ الرِّجَالَ، فَإِذَا سَقَىٰ النَّاسُ سَقَيْنَا، فَرَحِمَهُمَا مُوسَىٰ (علیه السلام)، فَأَخَذَ دَلْوَهُمَا وَقَالَ لَهُمَا: قَدِّمَا غَنَمَكُمَا، فَسَقَىٰ لَهُمَا، ثُمَّ رَجَعَتَا بُكْرَةً قَبْلَ النَّاسِ، ثُمَّ تَوَلَّىٰ مُوسَىٰ إِلَىٰ الشَّجَرَةِ فَجَلَسَ تَحْتَهَا، فَقالَ: «رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ 24» [القَصص: 24]، - فَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَىٰ شِقِّ تَمْرَةٍ -، فَلَمَّا رَجَعَتَا إِلَىٰ أَبِيهِمَا قَالَ: مَا أَعْجَلَكُمَا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ؟ قَالَتَا: وَجَدْنَا رَجُلاً صَالِحاً رَحِمَنَا فَسَقَىٰ لَنَا، فَقَالَ لِإِحْدَاهُمَا: اذْهَبِي فَادْعِيهِ لِي، فَجَاءَتْهُ «تَمْشِي عَلَىٰ اسْتِحْيَاءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا» [القَصص: 25]»، - فَرُوِيَ أَنَّ مُوسَىٰ (علیه السلام) قَالَ لَهَا: وَجِّهِينِي إِلَىٰ الطَّرِيقِ وَامْشِي خَلْفِي فَإِنَّا بَنُو يَعْقُوبَ لَا نَنْظُرُ فِي أَعْجَازِ النِّسَاءِ -، «فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 25 قَالَتْ إِحْدَاهُما يَا أَبَتِ

ص: 213


1- أي بلا رفيق ومعين، أو بغير زاد وراحلة.

اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ 26 قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَىٰ ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ» [القَصص: 25 - 27]، - فَرُوِيَ أَنَّهُ قَضَىٰ أَتَمَّهُمَا، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ (علیهم السلام) لَا يَأْخُذُونَ إِلَّا بِالْفَضْلِ وَالتَّمَامِ -، فَلَمَّا قَضىٰ مُوسَىٰ الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ نَحْوَ بَيْتِالمَقْدِسِ أَخْطَأَ عَنِ الطَّرِيقِ لَيْلاً، فَرَأَىٰ نَاراً، فَقالَ لِأَهْلِهِ: امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ بِخَبَرٍ مِنَ الطَّرِيقِ، فَلَمَّا انْتَهَىٰ إِلَىٰ النَّارِ إِذَا شَجَرَةٌ تَضْطَرِمُ(1) مِنْ أَسْفَلِهَا إِلَىٰ أَعْلَاهَا، فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا تَأَخَّرَتْ عَنْهُ، فَرَجَعَ وَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً، ثُمَّ دَنَتْ مِنْهُ الشَّجَرَةُ، فَ «نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ 30 وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ» [القَصص: 30 و31]، فَإِذَا حَيَّةٌ مِثْلُ الْجِذْعِ، لِأَسْنَانِهَا(2) صَرِيرٌ، يَخْرُجُ مِنْهَا مِثْلُ لَهَبِ النَّارِ، فَوَلَّىٰ مُوسَىٰ مُدْبِراً، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ (تبارک و تعالی): ارْجِعْ، فَرَجَعَ وَهُوَ يَرْتَعِدُ وَرُكْبَتَاهُ تَصْطَكَّانِ، فَقَالَ: يَا إِلَهِي هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي أَسْمَعُ كَلَامُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَلَا تَخَفْ، فَوَقَعَ عَلَيْهِ الْأَمَانُ، فَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَىٰ ذَنَبِهَا، ثُمَّ تَنَاوَلَ لَحْيَيْهَا، فَإِذَا يَدُهُ فِي شُعْبَةِ الْعَصَا قَدْ عَادَتْ عَصاً، وَقِيلَ لَهُ: «اخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوَىٰ 12» [طه: 12]، - فَرُوِيَ أَنَّهُ أُمِرَ بِخَلْعِهِمَا لِأَنَّهُمَا كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ -.

[وَرُوِيَ فِي قَوْلِهِ (تبارک و تعالی): «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ» أَيْ خَوْفَيْكَ: خَوْفَكَ مِنْ ضِيَاعِ أَهْلِكَ، وَخَوْفَكَ مِنْ فِرْعَوْنَ].

ص: 214


1- الضرام: اشتعال النار، واضطرمت النار إذا التهبت. (الصحاح).
2- في بعض النُّسَخ: (لأنيابها). والجذع من الدوابِّ الشابُّ الفتىٰ، فمن الإبل ما دخل في السنة الخامسة، ومن البقر والمعز ما في الثانية، ومن الضأن ما تمَّت له سنة.

ثُمَّ أَرْسَلَهُ اللهُ (عزوجل)إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَتَيْنِ بِيَدِهِ وَالْعَصَا»(1)(2).

ص: 215


1- رواه الراوندي (رحمة الله) في قَصص الأنبياء (ص 151 - 155/ ح 160).
2- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 13/ ص 42 - 44): (بيان: الغمر: الماء الكثير ومعظم البحر. والتبنِّي: اتِّخاذ ولد الغير ابناً. «فإذا قحم اللبن» لعلَّه كناية عن كثرة سيلان اللبن من قولهم: قحم في الأمر: رمىٰ بنفسه فيه فجاءةً من غير رويَّة. وفي بعض النُّسَخ: (يجمُّ) أي يكثر، وفي بعضها: (فازدحم). قوله تعالىٰ: «وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَىٰ الْمَدِينَةِ» أي آخرها، واختصر طريقاً قريباً حتَّىٰ سبقهم إلىٰ موسىٰ. «يَسْعَىٰ» أي يُسرع في المشي، فأخبره بذلك وأنذره، وكان الرجل خربيل مؤمن آل فرعون، وقيل: رجل اسمه شمعون، وقيل: شمعان. «قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ» أي الأشراف من آل فرعون، «يَأْتَمِرُونَ بِكَ» أي يتشاورون فيك، وقيل: يأمر بعضهم بعضاً. قوله تعالىٰ: «تَهْتَزُّ» أي تتحرَّك. قوله تعالىٰ: «كَأَنَّها جَانٌّ» قال السيِّد المرتضىٰ (رحمة الله) في كتاب (الغُرَر والدُّرَر): فإنْ سأل سائل فقال: ما تقولون في قوله تعالىٰ: «فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ 107» [الأعراف: 107]، وقوله: «كَأَنَّها جَانٌّ»، والثعبان هي الحيَّة العظيمة الخلقة، والجانُّ الصغير من الحيَّات، وبأيِّ شيء تزبلون التناقض عن هذا الكلام؟ والجواب: أوَّل ما نقوله: إنَّ الحالتين مختلفتان، فحالة كونها كالجانِّ كانت في ابتداء النبوَّة وقبل مسير موسىٰ (علیه السلام) إلىٰ فرعون، وحالة كونها ثعباناً كانت عند لقائه فرعون وإبلاغه الرسالة، والتلاوة تدلُّ علىٰ ذلك، وقد ذكر المفسِّرون وجهين: أحدهما أنَّه تعالىٰ إنَّما شبَّهها بالثعبان في إحدى الآيتين لعظم خلقها وكبر جسمها وهول منظرها، وشبَّهها في الآية الأُخرىٰ بالجانِّ لسرعة حركتها ونشاطها وخفَّتها، فاجتمع لها مع أنَّها في جسم الثعبان وكبر خلقه نشاط الجانِّ وسرعة حركته، وهذا أبهر في باب الإعجاز وأبلغ في خرق العادة. والثاني أنَّه تعالىٰ لم يرد بذكر الجانِّ في الآية الأُخرىٰ الحيَّة، وإنَّما أراد أحد الجنِّ، فكأنَّه تعالىٰ أخبر بأنَّ العصا صارت ثعباناً في الخلقة وعظم الجسم، وكانت مع ذلك كأحد الجنِّ في هول المنظر وإفزاعها لمن شاهدها. ويمكن أنْ يكون للآية تأويل آخر وهو أنَّ العصا لمَّا انقلبت حيَّة صارت أوَّلاً بصفة الجانِّ وعلىٰ صورته، ثمّ صارت بصفة الثعبان علىٰ تدريج، ولم تصر كذلك ضربة واحدة. وقال (رحمة الله) في كتاب تنزيه الأنبياء: فإنْ قيل: ما معنىٰ قول شعيب (علیه السلام): «إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَىٰ ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ ...» الآية؟ وكيف يجوز في الصداق هذا التخيير والتفويض؟ وأيُّ فائدة للبنت فيما شرطه هو لنفسه وليس يعود عليها من ذلك نفع؟ قلنا: يجوز أنْ تكون الغنم كانت لشعيب (علیه السلام) Z [ وكانت الفائدة باستيجار من يرعيها عائدة عليه إلَّا أنَّه أراد أنْ يُعوِّض بنته عن قيمة رعيها فيكون ذلك مهراً لها. فأمَّا التخيير فلم يكن إلَّا فيما زاد علىٰ الثماني حجج ولم يكن فيما شرطه مقترحاً تخيير وإنَّما كان فيما تجاوزه وتعدَّاه. ووجه آخر: وهو أنَّه يجوز أنْ تكون الغنم كانت للبنت وكان الأب المتولِّي لأمرها والقابض لصداقها، لأنَّه لا خلاف أنَّ قبض الأب مهر بنته البكر البالغ جائز، وليس لأحد من الأولياء ذلك غيره، وأجمعوا علىٰ أنَّ بنت شعيب (علیه السلام) كانت بكراً. ووجه آخر: وهو أنَّه حذف ذكر الصداق وذكر ما شرطه لنفسه مضافاً إلىٰ الصداق، لأنَّه جائز أنْ يشرط الوليُّ لنفسه ما يخرج عن الصداق، وهذا يخالف الظاهر. ووجه آخر: وهو أنَّه يجوز أنْ يكون من شريعته (علیه السلام) العقد بالتراضي من غير صداق معيَّن، ويكون قوله: «عَلَىٰ أَنْ تَأْجُرَنِي» علىٰ غير وجه الصداق، وما تقدَّم من الوجوه أقوىٰ).

فَرُوِيَ عَنِ الصَّادِقِ (علیه السلام) أَنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: «كُنْ لِمَا لَا تَرْجُو أَرْجَىٰ مِنْكَ لِمَا تَرْجُو، فَإِنَّ مُوسَىٰ بْنَ عِمْرَانَ (علیه السلام) خَرَجَ لِيَقْتَبِسَ لِأَهْلِهِ نَاراً، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ وَهُوَ رَسُولٌ نَبِيٌّ»(1)(2)، فَأَصْلَحَ اللهُ تَبَارَكَفَرُوِيَ عَنِ الصَّادِقِ (علیه السلام) أَنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: «كُنْ لِمَا لَا تَرْجُو أَرْجَىٰ مِنْكَ لِمَا تَرْجُو، فَإِنَّ مُوسَىٰ بْنَ عِمْرَانَ (علیه السلام) خَرَجَ لِيَقْتَبِسَ لِأَهْلِهِ نَاراً، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ وَهُوَ رَسُولٌ نَبِيٌّ»(3)(4)، فَأَصْلَحَ اللهُ تَبَارَكَوَتَعَالَىٰ أَمْرَ عَبْدِهِ وَنَبِيِّهِ

ص: 216


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 243 و244/ ح 261/9)، وفي من لا يحضره الفقيه (ج 3/ ص 165/ ح 3609، وج 4/ ص 399/ ح 5854)، وابن بابويه (رحمة الله) في فقه الرضا (ص 359)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 5/ ص 83/ باب الرزق من حيث لا يُحتسَب/ ح 2)، وابن شعبة (رحمة الله) في تُحَف العقول (ص 208).
2- قال المجلسي الأوَّل (رحمة الله) في روضة المتَّقين (ج 6/ ص 444): (« كن لما لا ترجو أرجىٰ منك ممَّا ترجو» أي ينبغي أنْ يكون رجاؤك ممَّا لا ترجو منه أكثر ممَّا ترجو فإنَّ كثيراً ما يُشاهَد أنْ لا يحصل من المرجوِّ ويحصل من جانب لا يرجوه، بل لم يكن يحتمل أنْ يكون يحصل من ذاك شيء. «فإنَّ موسى (علیه السلام)» ذهب ليلتمس ناراً لأهله عند الولادة في الصحراء عندما شاهد ناراً فلمَّا قرب عنده خاطبه الله تعالىٰ وجعله نبيًّا، ومتىٰ كان يخطر بباله ذلك؟). وقال (رحمة الله) في (ج 13/ ص 108 و109): («كن لما لا ترجو أرجىٰ منك لما ترجو» أي إذا نظرت إلىٰ نفسك تجدها أنَّ رجاءها من مواضع اعتادت النفع منها، فينبغي أنْ تعارضها بأنْ تقول: إنَّه كثيراً ما كان رجاء من موضع ولم يحصل منه ووقع من موضع لم تكن ترجوها، فيجب عليك أنْ يكون رجاؤك من فضل الله تعالىٰ ولا يكون إلىٰ موضع أكثر من غيره، بل إذا كنت ترجو لله فهو تعالىٰ يحصل مطلوبك في أيِّ موضع يريد، والغالب أنَّه لا يحصل من موضع ترجوه لئلَّا تتوجَّه إلىٰ الأسباب، بل لتتوجَّه إلىٰ مسبِّب الأسباب، بل إذا كان الرجاء من غيره فحاصله الخيبة والحرمان كما تقدَّم في خبر الحسين بن علوان وغيره من الأخبار).
3- رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 243 و244/ ح 261/9)، وفي من لا يحضره الفقيه (ج 3/ ص 165/ ح 3609، وج 4/ ص 399/ ح 5854)، وابن بابويه (رحمة الله) في فقه الرضا (ص 359)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 5/ ص 83/ باب الرزق من حيث لا يُحتسَب/ ح 2)، وابن شعبة (رحمة الله) في تُحَف العقول (ص 208).
4- قال المجلسي الأوَّل (رحمة الله) في روضة المتَّقين (ج 6/ ص 444): (« كن لما لا ترجو أرجىٰ منك ممَّا ترجو» أي ينبغي أنْ يكون رجاؤك ممَّا لا ترجو منه أكثر ممَّا ترجو فإنَّ كثيراً ما يُشاهَد أنْ لا يحصل من المرجوِّ ويحصل من جانب لا يرجوه، بل لم يكن يحتمل أنْ يكون يحصل من ذاك شيء. «فإنَّ موسى (علیه السلام)» ذهب ليلتمس ناراً لأهله عند الولادة في الصحراء عندما شاهد ناراً فلمَّا قرب عنده خاطبه الله تعالىٰ وجعله نبيًّا، ومتىٰ كان يخطر بباله ذلك؟). وقال (رحمة الله) في (ج 13/ ص 108 و109): («كن لما لا ترجو أرجىٰ منك لما ترجو» أي إذا نظرت إلىٰ نفسك تجدها أنَّ رجاءها من مواضع اعتادت النفع منها، فينبغي أنْ تعارضها بأنْ تقول: إنَّه كثيراً ما كان رجاء من موضع ولم يحصل منه ووقع من موضع لم تكن ترجوها، فيجب عليك أنْ يكون رجاؤك من فضل الله تعالىٰ ولا يكون إلىٰ موضع أكثر من غيره، بل إذا كنت ترجو لله فهو تعالىٰ يحصل مطلوبك في أيِّ موضع يريد، والغالب أنَّه لا يحصل من موضع ترجوه لئلَّا تتوجَّه إلىٰ الأسباب، بل لتتوجَّه إلىٰ مسبِّب الأسباب، بل إذا كان الرجاء من غيره فحاصله الخيبة والحرمان كما تقدَّم في خبر الحسين بن علوان وغيره من الأخبار).

مُوسَىٰ (علیه السلام) فِي لَيْلَةٍ، وَهَكَذَا يَفْعَلُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ بِالْقَائِمِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنَ الْأَئِمَّةِ (علیهم السلام)، يَصْلُحُ لَهُ أَمْرَهُ فِي لَيْلَةٍ كَمَا أَصْلَحَ أَمْرَ نَبِيِّهِ مُوسَىٰ (علیه السلام)، وَيُخْرِجُهُ مِنَ الْحَيْرَةِ وَالْغَيْبَةِ إِلَىٰ نُورِ الْفَرَجِ وَالظُّهُورِ.

[3/14] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا المُعَلَّىٰ ابْنُ مُحَمَّدٍ الْبَصْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُمْهُورٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ : «فِي الْقَائِمِ (علیه السلام) سُنَّةٌ مِنْ مُوسَىٰ بْنِ عِمْرَانَ (علیه السلام)»، فَقُلْتُ: وَمَا سُنَّتُهُ مِنْ مُوسَىٰ بْنِ عِمْرَانَ؟ قَالَ: «خَفَاءُ مَوْلِدِهِ، وَغَيْبَتُهُ عَنْ قَوْمِهِ»، فَقُلْتُ: وَكَمْ غَابَ مُوسَىٰ عَنْ أَهْلِهِ وَقَوْمِهِ؟ فَقَالَ: «ثَمَانِي وَعِشْرِينَ سَنَةً»(1).

[4/15] وَحَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ المُكَتِّبُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الْهَاشِمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَىٰ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرُّهَاوِيُّ(2)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ،عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «المَهْدِيُّ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ، يُصْلِحُ اللهُ لَهُ أَمْرَهُ فِي لَيْلَةٍ».

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَىٰ: «يُصْلِحُهُ اللهُ فِي لَيْلَةٍ».

[5/16] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ(3)، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ:

ص: 217


1- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 109/ ح 95).
2- الظاهر هو أحمد بن سليمان بن عبد المَلِك بن أبي شيبة الجزري أبو الحسين الرُّهاوي الحافظ المعنون في تهذيب التهذيب (ج 1/ ص 29/ الرقم 60)، فقيه صدوق. والرُّهاوي - بضمِّ الراء المهملة - كما في خلاصة تهذيب تهذيب الكمال (ص 6).
3- يعني المنقري.

سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (علیه السلام) يَقُولُ : «فِي صَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ أَرْبَعُ سُنَنٍ مِنْ أَرْبَعَةِ أَنْبِيَاءَ: سُنَّةٌ مِنْ مُوسَىٰ، وَسُنَّةٌ مِنْ عِيسَىٰ، وَسُنَّةٌ مِنْ يُوسُفَ، وَسُنَّةٌ مِنْ مُحَمَّدٍ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ)، فَأَمَّا مِنْ مُوسَىٰ فَخَائِفٌ يَتَرَقَّبُ، وَأَمَّا مِنْ يُوسُفَ فَالسِّجْنُ، وَأَمَّا مِنْ عِيسَىٰ فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّهُ مَاتَ، وَلَمْ يَمُتْ، وَأَمَّا مِنْ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) فَالسَّيْفُ »(1)(2).

* * *

ص: 218


1- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 93 و94/ ح 84)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 60/ ح 57).
2- قال الطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 60): (فما تضمَّن هذا الخبر من الخصال كلُّها حاصلة في صاحبنا. فإنْ قيل: صاحبكم لم يُسجَن في الحبس. قلنا: لم يُسجَن في الحبس وهو في معنىٰ المسجون، لأنَّه بحيث لا يُوصَل إليه ولا يُعرَف شخصه علىٰ التعيين، فكأنَّه مسجون).

الباب السابع

ذكر مضيِّ موسى (علیه السلام) و وقوع الغيبة بالأوصياء والحُجَج من بعده إلى أيَّام المسيح (علیه السلام)

ص: 219

ص: 220

[1/17] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ السُّكَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ لِلصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام): أَخْبِرْنِي بِوَفَاةِ مُوسَىٰ ابْنِ عِمْرَانَ (علیه السلام)، فَقَالَ: «إِنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ أَجَلُهُ وَاسْتَوْفَىٰ مُدَّتَهُ وَانْقَطَعَ أُكُلُهُ أَتَاهُ مَلَكُ المَوْتِ (علیه السلام)، فَقَالَ لَهُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا كَلِيمَ اللهِ، فَقَالَ مُوسَىٰ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا مَلَكُ المَوْتِ، قَالَ: مَا الَّذِي جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: جِئْتُ لِأَقْبِضَ رُوحَكَ، فَقَالَ لَهُ مُوسَىٰ (علیه السلام): مِنْ أَيْنَ تَقْبِضُ رُوحِي؟ قَالَ: مِنْ فَمِكَ؟ قَالَ مُوسَىٰ (علیه السلام): كَيْفَ وَقَدْ كَلَّمْتُ بِهِ رَبِّي (جل جلاله)؟ قَالَ: فَمِنْ يَدَيْكَ، قَالَ: كَيْفَ وَقَدْ حَمَلْتُ بِهِمَا التَّوْرَاةَ؟ قَالَ: فَمِنْ رِجْلَيْكَ، قَالَ: كَيْفَ وَقَدْ وَطِئْتُ بِهِمَا طُورَ سَيْنَاءَ؟ قَالَ: فَمِنْ عَيْنِكَ، قَالَ: كَيْفَ وَلَمْ تَزَلْ إِلَىٰ رَبِّي بِالرَّجَاءِ مَمْدُودَةً؟ قَالَ: فَمِنْ أُذُنَيْكَ، قَالَ: كَيْفَ وَقَدْ سَمِعْتُ بِهِمَا كَلَامَ رَبِّي (تبارک و تعالی)؟ قَالَ: فَأَوْحَىٰ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ إِلَىٰ مَلَكِ المَوْتِ: لَا تَقْبِضْ رُوحَهُ حَتَّىٰ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُرِيدُ ذَلِكَ، وَخَرَجَ مَلَكُ المَوْتِ، فَمَكَثَ مُوسَىٰ (علیه السلام) مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَمْكُثَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَدَعَا يُوشَعَ بْنَ نُونٍ فَأَوْصَىٰ إِلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِكِتْمَانِ أَمْرِهِ وَبِأَنْ يُوصِيَ بَعْدَهُ إِلَىٰ مَنْ يَقُومُ بِالْأَمْرِ، وَغَابَ مُوسَىٰ (علیه السلام) عَنْ قَوْمِهِ، فَمَرَّ فِي غَيْبَتِهِ بِرَجُلٍ وَهُوَ يَحْفِرُ قَبْراً، فَقَالَ لَهُ: أَلَا أُعِينُكَ عَلَىٰ حَفْرِ هَذَا الْقَبْرِ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: بَلَىٰ، فَأَعَانَهُ حَتَّىٰ حَفَرَ الْقَبْرَ وَسَوَّىٰ اللَّحْدَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ فِيهِ مُوسَىٰ (علیه السلام) لِيَنْظُرَ كَيْفَ هُوَ، فَكَشَفَ اللهُ لَهُ الْغِطَاءَ، فَرَأَىٰ مَكَانَهُ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ اقْبِضْنِي إِلَيْكَ، فَقَبَضَ مَلَكُالمَوْتِ رُوحَهُ مَكَانَهُ وَدَفَنَهُ فِي الْقَبْرِ وَسَوَّىٰ عَلَيْهِ التُّرَابَ، وَكَانَ الَّذِي يَحْفِرُ الْقَبْرَ مَلَكُ المَوْتِ(1) فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ

ص: 221


1- لفظة (الموت) ليست في الأمالي، ولا في بعض نُسَخ الكتاب.

، وَكَانَ ذَلِكَ فِي التِّيهِ، فَصَاحَ صَائِحٌ مِنَ السَّمَاءِ: مَاتَ مُوسَىٰ كَلِيمُ اللهِ، وَأَيُّ نَفْسٍ لَا تَمُوتُ؟

فَحَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ أَبِيهِ (علیهم السلام) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) سُئِلَ عَنْ قَبْرِ مُوسَىٰ أَيْنَ هُوَ؟ فَقَالَ: «هُوَ عِنْدَ الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ»(1).

ثُمَّ إِنَّ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ (علیه السلام) قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَ مُوسَىٰ (علیه السلام) صَابِراً مِنَ الطَّوَاغِيتِ عَلَىٰ اللَّأْوَاءِ(2) وَالضَّرَّاءِ وَالْجَهْدِ وَالْبَلَاءِ حَتَّىٰ مَضَىٰ مِنْهُمْ ثَلَاثُ طَوَاغِيتَ، فَقَوِيَ بَعْدَهُمْ أَمْرُهُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ مِنْ مُنَافِقِي قَوْمِ مُوسَىٰ (علیه السلام) بِصَفْرَاءَ بِنْتِ شُعَيْبٍ امْرَأَةِ مُوسَىٰ (علیه السلام) فِي مِائَةِ أَلْفِ رَجُلٍ، فَقَاتَلُوا يُوشَعَ بْنَ نُونٍ (علیه السلام)، فَقَتَلَهُمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً وَهَزَمَ الْبَاقِينَ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَىٰ ذِكْرُهُ، وَأَسَرَ صَفْرَاءَ بِنْتَ شُعَيْبٍ، وَقَالَ لَهَا: قَدْ عَفَوْتُ عَنْكِ فِي الدُّنْيَا إِلَىٰ أَنْ أَلْقَىٰ نَبِيَّ اللهِ مُوسَىٰ (علیه السلام) فَأَشْكُوَ إِلَيْهِ مَا لَقِيتُ مِنْكِ وَمِنْ قَوْمِكِ.

فَقَالَتْ صَفْرَاءُ: وَا وَيْلَاهْ، وَاللهِ لَوْ أُبِيحَتْ لِيَ الْجَنَّةُ لَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَرَىٰ فِيهَا رَسُولَ اللهِ وَقَدْ هَتَكْتُ حِجَابَهُ، وَخَرَجْتُ عَلَىٰ وَصِيِّهِ بَعْدَهُ، فَاسْتَتَرَ الْأَئِمَّةُ بَعْدَ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ إِلَىٰ زَمَانِ دَاوُدَ (علیه السلام) أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانُوا أَحَدَ عَشَرَ، وَكَانَ قَوْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَخْتَلِفُونَ إِلَيْهِ فِي وَقْتِهِ وَيَأْخُذُونَعَنْهُ مَعَالِمَ دِينِهِمْ، حَتَّىٰ انْتَهَىٰ الْأَمْرُ إِلَىٰ آخِرِهِمْ، فَغَابَ عَنْهُمْ، ثُمَّ ظَهَرَ [لَهُمْ] فَبَشَّرَهُمْ بِدَاوُدَ (علیه السلام)، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ دَاوُدَ (علیه السلام) هُوَ الَّذِي يُطَهِّرُ الْأَرْضَ مِنْ جَالُوتَ وَجُنُودِهِ، وَيَكُونُ فَرَجُهُمْ فِي ظُهُورِهِ، فَكَانُوا يَنْتَظِرُونَهُ، فَلَمَّا كَانَ زَمَانُ دَاوُدَ (علیه السلام) كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ إِخْوَةٍ وَلَهُمْ أَبٌ شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَكَانَ دَاوُدُ (علیه السلام) مِنْ بَيْنِهِمْ حَامِلَ الذِّكْرِ، وَكَانَ أَصْغَرَ إِخْوَتِهِ لَا يَعْلَمُونَ

ص: 222


1- راجع ما رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 304/ ح 343/2)، وفي علل الشرائع (ج 1/ ص 70/ باب 61/ ح 1)، والقمِّي (رحمة الله) في تفسيره (ج 1/ ص 165).
2- اللَّأواء: الشدَّة.

أَنَّهُ دَاوُدُ النَّبِيُّ المُنْتَظَرُ الَّذِي يُطَهِّرُ الْأَرْضَ مِنْ جَالُوتَ وَجُنُودِهِ، وَكَانَتِ الشِّيعَةُ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَدْ وُلِدَ وَبَلَغَ أَشُدَّهُ، وَكَانُوا يَرَوْنَهُ وَيُشَاهِدُونَهُ وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ هُوَ.

فَخَرَجَ دَاوُدُ (علیه السلام) وَإِخْوَتُهُ وَأَبُوهُمْ لَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ، وَتَخَلَّفَ عَنْهُمْ دَاوُدُ، وَقَالَ: مَا يُصْنَعُ بِي فِي هَذَا الْوَجْهِ؟ فَاسْتَهَانَ بِهِ إِخْوَتُهُ وَأَبُوهُ، وَأَقَامَ فِي غَنَمِ أَبِيهِ يَرْعَاهَا، فَاشْتَدَّ الْحَرْبُ وَأَصَابَ النَّاسَ جَهْدٌ، فَرَجَعَ أَبُوهُ وَقَالَ لِدَاوُدَ: احْمِلْ إِلَىٰ إِخْوَتِكَ طَعَاماً يَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَىٰ الْعَدُوِّ، وكَانَ (علیه السلام) رَجُلاً قَصِيراً قَلِيلَ الشَّعْرِ طَاهِرَ الْقَلْبِ، أَخْلَاقُهُ نَقِيَّةٌ، فَخَرَجَ وَالْقَوْمُ مُتَقَارِبُونَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ قَدْ رَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَىٰ مَرْكَزِهِ، فَمَرَّ دَاوُدُ (علیه السلام) عَلَىٰ حَجَرٍ، فَقَالَ الْحَجَرُ لَهُ بِنِدَاءٍ رَفِيعٍ: يَا دَاوُدُ، خُذْنِي فَاقْتُلْ بِي جَالُوتَ فَإِنِّي إِنَّمَا خُلِقْتُ لِقَتْلِهِ، فَأَخَذَهُ وَوَضَعَهُ فِي مِخْلَاتِهِ الَّتِي كَانَتْ تَكُونُ فِيهَا حِجَارَتُهُ الَّتِي كَانَ يَرْمِي بِهَا غَنَمَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ الْعَسْكَرَ سَمِعَهُمْ يُعَظِّمُونَ أَمْرَ جَالُوتَ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا تُعَظِّمُونَ مِنْ أَمْرِهِ فَوَاللهِ لَئِنْ عَايَنْتُهُ لَأَقْتُلَنَّهُ، فَتَحَدَّثُوا بِخَبَرِهِ حَتَّىٰ أُدْخِلَ عَلَىٰ طَالُوتَ، فَقَالَ لَهُ: يَا فَتَىٰ، مَا عِنْدَكَ مِنَ الْقُوَّةِ؟ وَمَا جَرَّبْتَ مِنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ: قَدْ كَانَ الْأَسَدُ يَعْدُو عَلَىٰ الشَّاةِ مِنْ غَنَمِي فَأُدْرِكُهُ فَآخُذُ بِرَأْسِهِ وَأَفُكُّ لَحْيَيْهِ عَنْهَا فَآخُذُهَا مِنْ فِيهِ، وَكَانَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ أَوْحَىٰ إِلَىٰ طَالُوتَ أَنَّهُ لَا يَقْتُلُجَالُوتَ إِلَّا مَنْ لَبِسَ دِرْعَكَ فَمَلَأَهَا، فَدَعَا بِدِرْعِهِ، فَلَبِسَهَا دَاوُدُ (علیه السلام) فَاسْتَوَتْ عَلَيْهِ، فَرَاعَ(1) ذَلِكَ طَالُوتَ وَمَنْ حَضَرَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ: عَسَىٰ اللهُ أَنْ يَقْتُلَ بِهِ جَالُوتَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا وَالْتَقَىٰ النَّاسُ قَالَ دَاوُدُ (علیه السلام): أَرُونِي جَالُوتَ، فَلَمَّا رَآهُ أَخَذَ الْحَجَرَ فَرَمَاهُ بِهِ فَصَكَّ بِهِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَدَمَغَهُ(2) وَتَنَكَّسَ عَنْ دَابَّتِهِ، فَقَالَ النَّاسُ: قَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ، وَمَلَّكَهُ النَّاسُ(3)

ص: 223


1- أي أعجب، من راعه يروعه، أي أفزعه وأعجبه.
2- دمغه، أي شجَّه حتَّىٰ بلغت الشجَّة الدماغ.
3- أي عدُّوه مَلِكاً لهم. وفي بعض النُّسَخ: (وملَّكه اللهُ (عزوجل)الناسَ).

حَتَّىٰ لَمْ يَكُنْ يُسْمَعُ لِطَالُوتَ ذِكْرٌ، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَأَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ عَلَيْهِ الزَّبُورَ، وَعَلَّمَهُ صَنْعَةَ الْحَدِيدِ فَلَيَّنَهُ لَهُ(1)، وأَمَرَ الْجِبَالَ وَالطَّيْرَ أَنْ تُسَبِّحَ مَعَهُ، وَأَعْطَاهُ صَوْتاً لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ حُسْناً، وَأَعْطَاهُ قُوَّةً فِي الْعِبَادَةِ، وَأَقَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيًّا».

وَهَكَذَا(2) يَكُونُ سَبِيلُ الْقَائِمِ (علیه السلام) لَهُ عَلَمٌ إِذَا حَانَ وَقْتُ خُرُوجِهِ انْتَشَرَ ذَلِكَ الْعَلَمُ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنْطَقَهُ اللهُ (عزوجل)فَنَادَاهُ: اخْرُجْ يَا وَلِيَّ اللهِ فَاقْتُلْ أَعْدَاءَ اللهِ، وَلَهُ سَيْفٌ مُغْمَدٌ إِذَا حَانَ وَقْتُ خُرُوجِهِ اقْتَلَعَ ذَلِكَ السَّيْفُ مِنْ غِمْدِهِ(3)، وَأَنْطَقَهُ اللهُ (تبارک و تعالی)، فَنَادَاهُ السَّيْفُ: اخْرُجْ يَا وَلِيَّ اللهِ فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَقْعُدَ عَنْ أَعْدَاءِ اللهِ، فَيَخْرُجُ (علیه السلام) ويَقْتُلُ أَعْدَاءَ اللَّهِ حَيْثُ ثَقِفَهُمْ(4)، وَيُقِيمُ حُدُودَ اللهِ، وَيَحْكُمُ بِحُكْمِ اللهِ(تبارک و تعالی).

حدَّثني بذلك أبو الحسن أحمد بن ثابت الدواليني بمدينة السلام، عن محمّد بن الفضل النحوي، عن محمّد بن عليِّ بن عبد الصمد الكوفي، عن عليِّ بن عاصم، عن محمّد بن عليِّ بن موسىٰ، عن أبيه، عن آبائه، عن الحسين بن عليٍّ (علیهم السلام)، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في آخر حديث طويل - قد أخرجته في هذا الكتاب في باب ما روي عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله) من النصِّ علىٰ القائم (علیه السلام) وأنَّه الثاني عشر من الأئمَّة (علیهم السلام) -.

«ثُمَّ(5) إِنَّ دَاوُدَ (علیه السلام) أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ سُلَيْمَانَ (علیه السلام)، لِأَنَّ اللهَ (عزوجل)أَوْحَىٰ

ص: 224


1- قالوا: إنَّما كُشِفَ ذوب الحديد قبل ميلاد المسيح بألف سنة، وهو زمان داود (علیه السلام)، ويُسَمُّونه عصر الحديد، وفي التنزيل: «وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ 10» [سبأ: 10].
2- كلام المصنِّف (رحمة الله).
3- الغِمد - بكسر المعجمة -: غلاف السيف.
4- أي حيث وجدهم وصادفهم.
5- تتمَّة الخبر.

إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا أَخْبَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ضَجُّوا مِنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا: يَسْتَخْلِفُ عَلَيْنَا حَدَثاً وَفِينَا مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، فَدَعَا أَسْبَاطَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ بَلَغَنِي مَقَالَتُكُمْ فَأَرُونِي عِصِيَّكُمْ، فَأَيُّ عَصاً أَثْمَرَتْ فَصَاحِبُهَا وَلِيُّ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِي، فَقَالُوا: رَضِينَا، فَقَالَ: لِيَكْتُبْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمُ اسْمَهُ عَلَىٰ عَصَاهُ، فَكَتَبُوهُ، ثُمَّ جَاءَ سُلَيْمَانُ (علیه السلام) بِعَصَاهُ فَكَتَبَ عَلَيْهَا اسْمَهُ، ثُمَّ أُدْخِلَتْ بَيْتاً وَأُغْلِقَ الْبَابُ وَحَرَسَتْهُ رُؤُوسُ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ صَلَّىٰ بِهِمُ الْغَدَاةَ، ثُمَّ أَقْبَلَ فَفَتَحَ الْبَابَ فَأَخْرَجَ عِصِيَّهُمْ وَقَدْ أَوْرَقَتْ وَعَصَا سُلَيْمَانَ قَدْ أَثْمَرَتْ، فَسَلَّمُوا ذَلِكَ لِدَاوُدَ (علیه السلام)، فَاخْتَبَرَهُ بِحَضْرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ، أَيُّ شَيْ ءٍ أَبْرَدُ؟ قَالَ: عَفْوُ اللهِ عَنِ النَّاسِ وَعَفْوُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، قَالَ: يَا بُنَيَّ، فَأَيُّ شَيْ ءٍ أَحْلَىٰ؟ قَالَ: المَحَبَّةُ، وَهُوَ رَوْحُ اللهِ فِي عِبَادِهِ، فَافْتَرَّدَاوُدُ ضَاحِكاً(1)، فَسَارَ بِهِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ: هَذَا خَلِيفَتِي فِيكُمْ مِنْ بَعْدِي، ثُمَّ أَخْفَىٰ سُلَيْمَانُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرَهُ، وَتَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَاسْتَتَرَ مِنْ شِيعَتِهِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسْتَتِرَ، ثُمَّ إِنَ امْرَأَتَهُ قَالَتْ لَهُ ذَاتَ يَوْمٍ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا أَكْمَلَ خِصَالَكَ وَأَطْيَبَ رِيحَكَ، وَلَا أَعْلَمُ لَكَ خَصْلَةً أَكْرَهُهَا، إِلَّا أَنَّكَ فِي مَؤُونَةِ أَبِي، فَلَوْ دَخَلْتَ السُّوقَ فَتَعَرَّضْتَ لِرِزْقِ اللهِ رَجَوْتُ أَنْ لَا يُخَيِّبَكَ، فَقَالَ لَهَا سُلَيْمَانُ (علیه السلام): إِنِّي وَاللهِ مَا عَمِلْتُ عَمَلاً قَطُّ وَلَا أُحْسِنُهُ، فَدَخَلَ السُّوقَ، فَجَالَ يَوْمَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَمْ يُصِبْ شَيْئاً، فَقَالَ لَهَا: مَا أَصَبْتُ شَيْئاً، قَالَتْ: لَا عَلَيْكَ، إِنْ لَمْ يَكُنِ الْيَوْمَ كَانَ غَداً، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ خَرَجَ إِلَىٰ السُّوقِ فَجَالَ يَوْمَهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَىٰ شَيْءٍ، وَرَجَعَ فَأَخْبَرَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: يَكُونُ غَداً إِنْ شَاءَ اللهُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مَضَىٰ حَتَّىٰ انْتَهَىٰ إِلَىٰ سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَإِذَا هُوَ بِصَيَّادٍ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ أَنْ أُعِينَكَ وَتُعْطِيَنَا شَيْئاً؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَعَانَهُ، فَلَمَّا

ص: 225


1- افترَّ، أي ضحك ضحكاً حسناً.

فَرَغَ أَعْطَاهُ الصَّيَّادُ سَمَكَتَيْنِ، فَأَخَذَهُمَا وَحَمِدَ اللهَ (تبارک و تعالی)، ثُمَّ إِنَّهُ شَقَّ بَطْنَ إِحْدَاهُمَا فَإِذَا هُوَ بِخَاتَمٍ فِي بَطْنِهَا، فَأَخَذَهُ فَصَرَّهُ فِي ثَوْبِهِ(1)، فَحَمِدَ اللهَ وَأَصْلَحَ السَّمَكَتَيْنِ وَجَاءَ بِهِمَا إِلَىٰ مَنْزِلِهِ، فَفَرِحَتِ امْرَأَتُهُ بِذَلِكَ، وَقَالَتْ لَهُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَدْعُوَ أَبَوَيَّ حَتَّىٰ يَعْلَمَا أَنَّكَ قَدْ كَسَبْتَ، فَدَعَاهُمَا، فَأَكَلَا مَعَهُ، فَلَمَّا فَرَغُوا قَالَ لَهُمْ: هَلْ تَعْرِفُونِّي؟ قَالُوا: لَا وَاللهِ إِلَّا أَنَّا لَمْ نَرَ إِلَّا خَيْراً مِنْكَ، قَالَ: فَأَخْرَجَ خَاتَمَهُ فَلَبِسَهُ فَحَنَّ عَلَيْهِ الطَّيْرُ وَالرِّيحُ وَغَشِيَهُ المُلْكُ، وَحَمَلَ الْجَارِيَةَ وَأَبَوَيْهَا إِلَىٰ بِلَادِ إِصْطَخْرَ، وَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ الشِّيعَةُ وَاسْتَبْشَرُوا بِهِ، فَفَرَّجَ اللهُ عَنْهُمْمِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنْ حَيْرَةِ غَيْبَتِهِ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَىٰ إِلَىٰ آصَفَ بْنِ بَرْخِيَا بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَىٰ ذِكْرُهُ، فَلَمْ يَزَلْ بَيْنَهُمْ تَخْتَلِفُ إِلَيْهِ الشِّيعَةُ وَيَأْخُذُونَ عَنْهُ مَعَالِمَ دِينِهِمْ، ثُمَّ غَيَّبَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ آصَفَ غَيْبَةً طَالَ أَمَدُهَا، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُمْ فَبَقِيَ بَيْنَ قَوْمِهِ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ إِنَّهُ وَدَّعَهُمْ، فَقَالُوا لَهُ: أَيْنَ المُلْتَقَىٰ؟ قَالَ: عَلَىٰ الصِّرَاطِ، وَغَابَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللهُ، فَاشْتَدَّتِ الْبَلْوَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِغَيْبَتِهِ، وَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ بُخْتَنَصَّرُ، فَجَعَلَ يَقْتُلُ مَنْ يَظْفَرُ بِهِ مِنْهُمْ وَيَطْلُبُ مَنْ يَهْرُبُ وَيَسْبِي ذَرَارِيَّهُمْ، فَاصْطَفَىٰ مِنَ السَّبْيِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ يَهُودَا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ فِيهِمْ دَانِيَالُ، وَاصْطَفَىٰ مِنْ وُلْدِ هَارُونَ عُزَيْراً، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ صِبْيَةٌ صِغَارٌ، فَمَكَثُوا فِي يَدِهِ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْعَذَابِ المُهِينِ، وَالْحُجَّةُ دَانِيَالُ (علیه السلام) أَسِيرٌ فِي يَدِ بُخْتَنَصَّرَ تِسْعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا عَرَفَ فَضْلَهُ وَسَمِعَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَهُ وَيَرْجُونَ الْفَرَجَ فِي ظُهُورِهِ وَعَلَىٰ يَدِهِ أَمَرَ أَنْ يُجْعَلَ فِي جُبٍّ عَظِيمٍ وَاسِعٍ وَيُجْعَلَ مَعَهُ الْأَسَدُ لِيَأْكُلَهُ، فَلَمْ يَقْرَبْهُ، وَأَمَرَ أَنْ لَا يُطْعَمَ، فَكَانَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ يَأْتِيهِ بِطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ عَلَىٰ يَدِ نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ، فَكَانَ دَانِيَالُ يَصُومُ النَّهَارَ وَيُفْطِرُ بِاللَّيْلِ عَلَىٰ مَا يُدْلَىٰ إِلَيْهِ مِنَ

ص: 226


1- أي ربطه في ثوبه.

الطَّعَامِ، فَاشْتَدَّتِ الْبَلْوَىٰ عَلَىٰ شِيعَتِهِ وَقَوْمِهِ وَالمُنْتَظِرِينَ لَهُ وَلِظُهُورِهِ وَشَكَّ أَكْثَرُهُمْ فِي الدِّينِ لِطُولِ الْأَمَدِ.

فَلَمَّا تَنَاهَىٰ الْبَلَاءُ بِدَانِيَالَ (علیه السلام) وَبِقَوْمِهِ رَأَىٰ بُخْتَنَصَّرُ فِي المَنَامِ كَأَنَّ مَلَائِكَةً مِنَ السَّمَاءِ قَدْ هَبَطَتْ إِلَىٰ الْأَرْضِ أَفْوَاجاً إِلَىٰ الْجُبِّ الَّذِي فِيهِ دَانِيَالُ مُسَلِّمِينَ عَلَيْهِ يُبَشِّرُونَهُ بِالْفَرَجِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ نَدِمَ عَلَىٰ مَا أَتَىٰ إِلَىٰ دَانِيَالَ، فَأَمَرَ بِأَنْ يُخْرَجَ مِنَ الْجُبِّ، فَلَمَّا أُخْرِجَ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ مِمَّا ارْتَكَبَ مِنْهُمِنَ التَّعْذِيبِ، ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْهِ النَّظَرَ فِي أُمُورِ مَمَالِكِهِ وَالْقَضَاءَ بَيْنَ النَّاسِ، فَظَهَرَ مَنْ كَانَ مُسْتَتِراً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَرَفَعُوا رُؤُوسَهُمْ واجْتَمَعُوا إِلَىٰ دَانِيَالَ (علیه السلام) مُوقِنِينَ بِالْفَرَجِ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا الْقَلِيلَ عَلَىٰ تِلْكَ الْحَالِ حَتَّىٰ مَاتَ وَأَفْضَىٰ الْأَمْرُ بَعْدَهُ إِلَىٰ عُزَيْرٍ (علیه السلام)، فَكَانُوا يَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ وَيَأْنَسُونَ بِهِ وَيَأْخُذُونَ عَنْهُ مَعَالِمَ دِينِهِمْ، فَغَيَّبَ اللهُ عَنْهُمْ شَخْصَهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ، وَغَابَتِ الْحُجَجُ بَعْدَهُ، وَاشْتَدَّتِ الْبَلْوَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّىٰ وُلِدَ يَحْيَىٰ بْنُ زَكَرِيَّا (علیه السلام) وَتَرَعْرَعَ، فَظَهَرَ ولَهُ سَبْعُ سِنِينَ، فَقَامَ فِي النَّاسِ خَطِيباً، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَىٰ عَلَيْهِ، وَذَكَّرَهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ مِحَنَ الصَّالِحِينَ إِنَّمَا كَانَتْ لِذُنُوبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ، وَوَعَدَهُمُ الْفَرْجَ بِقِيَامِ المَسِيحِ (علیه السلام) بَعْدَ نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، فَلَمَّا وُلِدَ المَسِيحُ (علیه السلام) أَخْفَىٰ اللهُ (عزوجل)وِلَادَتَهُ وَغَيَّبَ شَخْصَهُ، لِأَنَّ مَرْيَمَ (علیها السلام) لَمَّا حَمَلَتْهُ انْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيًّا، ثُمَّ إِنَّ زَكَرِيَّا وَخَالَتَهَا أَقْبَلَا يَقُصَّانِ أَثَرَهَا حَتَّىٰ هَجَمَا عَلَيْهَا وَقَدْ وَضَعَتْ مَا فِي بَطْنِهَا، وَهِيَ تَقُولُ: «يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا 23» [مريم: 23]، فَأَطْلَقَ اللهُ تَعَالَىٰ ذِكْرُهُ لِسَانَهُ بِعُذْرِهَا وَإِظْهَارِ حُجَّتِهَا، فَلَمَّا ظَهَرَتْ اشْتَدَّتِ الْبَلْوَىٰ وَالطَّلَبُ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَكَبَّ الْجَبَابِرَةُ وَالطَّوَاغِيتُ عَلَيْهِمْ حَتَّىٰ كَانَ مِنْ أَمْرِ المَسِيحِ مَا قَدْ أَخْبَرَ اللهُ (عزوجل)بِهِ، وَاسْتَتَرَ شَمْعُونُ بْنُ حَمُّونَ وَالشِّيعَةُ حَتَّىٰ أَفْضَىٰ بِهِمُ الْاِسْتِتَارُ إِلَىٰ جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ، فَأَقَامُوا بِهَا، فَفَجَّرَ اللهُ لَهُمُ الْعُيُونَ الْعَذْبَةَ، وَأَخْرَجَ لَهُمْ مِنْ كُلِّ

ص: 227

الثَّمَرَاتِ، وَجَعَلَ لَهُمْ فِيهَا المَاشِيَةَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ سَمَكَةً تُدْعَىٰ الْقُمُدَّ لَا لَحْمٌ لَهَا وَلَا عَظْمٌ، وَإِنَّمَا هِيَ جِلْدٌ وَدَمٌ، فَخَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ، فَأَوْحَىٰ اللهُ (عزوجل)إِلَىٰ النَّحْلِ أَنْ تَرْكَبَهَا، فَرَكِبَتْهَا، فَأَتَتِ النَّحْلُ إِلَىٰ تِلْكَالْجَزِيرَةِ، وَنَهَضَ النَّحْلُ وَتَعَلَّقَ بِالشَّجَرِ فَعَرَشَ وَبَنَىٰ وَكَثُرَ الْعَسَلُ، وَلَمْ يَكُونُوا يَفْقِدُونَ شَيْئاً مِنْ أَخْبَارِ المَسِيحِ (علیه السلام)»(1).

* * *

ص: 228


1- راجع ما رواه العيَّاشي (رحمة الله) في تفسيره (ج 1/ ص 134 و135/ ح 445)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 955).

الباب الثامن

بشارة عيسى بن مريم (علیه السلام)بالنبيِّ محمّد المصطفى (صلی الله علیه و آله)

ص: 229

ص: 230

[1/18] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَىٰ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَىٰ الْجَلُودِيِّ الْبَصْرِيُّ بِالْبَصْرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَطِيَّةَ الشَّامِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سُلَيْمَانَ(1)، وَكَانَ قَارِئاً لِلْكُتُبِ، قَالَ: قَرَأْتُ فِي الْإِنْجِيلِ: «يَا عِيسَىٰ جِدَّ فِي أَمْرِي وَلَا تَهْزَلْ، وَاسْمَعْ وَأَطِعْ، يَا ابْنَ الطَّاهِرَةِ الطُّهْرِ الْبِكْرِ الْبَتُولِ، أَنْتَ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ، أَنَا خَلَقْتُكَ آيَةً لِلْعَالَمِينَ، فَإِيَّايَ فَاعْبُدْ، وَعَلَيَّ فَتَوَكَّلْ، خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ، فَسِّرْ لِأَهْلِ سُورِيَا بِالسُّرْيَانِيَّةِ، بَلِّغْ مَنْ بَيْنَ يَدَيْكَ، أَنِّي أَنَا اللهُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا أَزُولُ، صَدِّقُوا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ صَاحِبَ الْجَمَلِ وَالْمِدْرَعَةِ وَالتَّاجِ - وَهِيَ الْعِمَامَةُ - وَالنَّعْلَيْنِ وَالْهِرَاوَةِ - وَهِيَ الْقَضِيبُ - الْأَنْجَلَ الْعَيْنَيْنِ، الصَّلْتَ الْجَبِينِ، الْوَاضِحَ الْخَدَّيْنِ، الْأَقْنَىٰ الْأَنْفِ(2)، مُفَلَّجَ الثَّنَايَا، كَأَنَّ عُنُقَهُ إِبْرِيقُ فِضَّةٍ، كَأَنَّ الذَّهَبَ يَجْرِي فِي تَرَاقِيهِ، لَهُ شَعَرَاتٌ مِنْ صَدْرِهِ إِلَىٰ سُرَّتِهِ، لَيْسَ عَلَىٰ بَطْنِهِ وَلَا عَلَىٰ صَدْرِهِ شَعْرٌ، أَسْمَرَ اللَّوْنِ، دَقِيقَ المَسْرُبَةِ(3)، شَثْنَ الْكَفِّ[1/18] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَىٰ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَىٰ الْجَلُودِيِّ الْبَصْرِيُّ بِالْبَصْرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَطِيَّةَ الشَّامِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سُلَيْمَانَ(4)، وَكَانَ قَارِئاً لِلْكُتُبِ، قَالَ: قَرَأْتُ فِي الْإِنْجِيلِ: «يَا عِيسَىٰ جِدَّ فِي أَمْرِي وَلَا تَهْزَلْ، وَاسْمَعْ وَأَطِعْ، يَا ابْنَ الطَّاهِرَةِ الطُّهْرِ الْبِكْرِ الْبَتُولِ، أَنْتَ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ، أَنَا خَلَقْتُكَ آيَةً لِلْعَالَمِينَ، فَإِيَّايَ فَاعْبُدْ، وَعَلَيَّ فَتَوَكَّلْ، خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ، فَسِّرْ لِأَهْلِ سُورِيَا بِالسُّرْيَانِيَّةِ، بَلِّغْ مَنْ بَيْنَ يَدَيْكَ، أَنِّي أَنَا اللهُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا أَزُولُ، صَدِّقُوا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ صَاحِبَ الْجَمَلِ وَالْمِدْرَعَةِ وَالتَّاجِ - وَهِيَ الْعِمَامَةُ - وَالنَّعْلَيْنِ وَالْهِرَاوَةِ - وَهِيَ الْقَضِيبُ - الْأَنْجَلَ الْعَيْنَيْنِ، الصَّلْتَ الْجَبِينِ، الْوَاضِحَ الْخَدَّيْنِ، الْأَقْنَىٰ الْأَنْفِ(5)، مُفَلَّجَ الثَّنَايَا، كَأَنَّ عُنُقَهُ إِبْرِيقُ فِضَّةٍ، كَأَنَّ الذَّهَبَ يَجْرِي فِي تَرَاقِيهِ، لَهُ شَعَرَاتٌ مِنْ صَدْرِهِ إِلَىٰ سُرَّتِهِ، لَيْسَ عَلَىٰ بَطْنِهِ وَلَا عَلَىٰ صَدْرِهِ شَعْرٌ، أَسْمَرَ اللَّوْنِ، دَقِيقَ المَسْرُبَةِ(6)، شَثْنَ الْكَفِّوَالْقَدَمِ(7)، إِذَا

ص: 231


1- كذا، والصواب: حدَّثنا هشام بن سنبر أبو عبد الله، عن حمَّاد بن أبي سليمان.
2- المدرعة - كمكنسة -: ثوب كالدراعة، ولا تكون إلَّا من صوف. والهراوة: العصا. وفي القاموس (ج 4/ ص 55): النَّجَل - بالتحريك -: سعة العين، فهو أنجل. والصلت الجبين: أي واسعة. وأقنىٰ الأنف: محدبه، أي ارتفع وسط قصبة أنفه وضاق منخراه.
3- مفلج الثنايا: أي منفرجها. وقوله: (كأنَّ الذهب يجري في تراقيه): التراقي جمع الترقوة، وهو العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق، ولعلَّه كناية عن حمرة ترقوته. والمسرُبة - بضمِّ الراء -: ما دُقَّ من شعر الصدر سائلاً إلىٰ الجوف.
4- كذا، والصواب: حدَّثنا هشام بن سنبر أبو عبد الله، عن حمَّاد بن أبي سليمان.
5- المدرعة - كمكنسة -: ثوب كالدراعة، ولا تكون إلَّا من صوف. والهراوة: العصا. وفي القاموس (ج 4/ ص 55): النَّجَل - بالتحريك -: سعة العين، فهو أنجل. والصلت الجبين: أي واسعة. وأقنىٰ الأنف: محدبه، أي ارتفع وسط قصبة أنفه وضاق منخراه.
6- مفلج الثنايا: أي منفرجها. وقوله: (كأنَّ الذهب يجري في تراقيه): التراقي جمع الترقوة، وهو العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق، ولعلَّه كناية عن حمرة ترقوته. والمسرُبة - بضمِّ الراء -: ما دُقَّ من شعر الصدر سائلاً إلىٰ الجوف.
7- شثن الكفَّين والقدمين: أي إنَّهما يميلان إلى الغلظ والقصر. وقيل: هو الذي في أنامله غلظ بلا قصر، ويُحمَد ذلك في الرجال لأنَّه أشدّ لقبضهم، ويُذَمُّ في النساء. (النهاية: ج 2/ ص 444).

الْتَفَتَ الْتَفَتَ جَمِيعاً، وَإِذَا مَشَىٰ فَكَأَنَّمَا يَتَقَلَّعُ مِنَ الصَّخْرِ، وَيَنْحَدِرُ مِنْ صَبَبٍ(1)، وَإِذَا جَاءَ مَعَ الْقَوْمِ بَذَّهُمْ(2)، عَرَقُهُ فِي وَجْهِهِ كَاللُّؤْلُؤِ، وَرِيحُ الْمِسْكِ تَنْفَحُ مِنْهُ، لَمْ يُرَ قَبْلَهُ مِثْلُهُ وَلَا بَعْدَهُ، طَيِّبُ الرِّيحِ، نَكَّاحٌ لِلنِّسَاءِ، ذُو النَّسْلِ الْقَلِيلِ، إِنَّمَا نَسْلُهُ مِنْ مُبَارَكَةٍ(3) لَهَا بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ لَا صَخَبٌ فِيهِ وَلَا نَصَبٌ(4)، يُكَفِّلُهَا فِي آخِرِ الزَّمَانِ كَمَا كَفَّلَ زَكَرِيَّا أُمَّكَ، لَهَا فَرْخَانِ مُسْتَشْهَدَانِ، كَلَامُهُ الْقُرْآنُ، وَدِينُهُ الْإِسْلَامُ، وَأَنَا السَّلَامُ، فَطُوبَىٰ لِمَنْ أَدْرَكَ زَمَانَهُ، وَشَهِدَ أَيَّامَهُ، وَسَمِعَ كَلَامَهُ.

قَالَ عِيسَىٰ: «يَا رَبِّ، وَمَا طُوبَىٰ؟ قَالَ: شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ أَنَا غَرَسْتُهَا بِيَدِي تُظِلُّ الْجِنَانَ، أَصْلُهَا مِنْ رِضْوَانٍ، مَاؤُهَا مِنْ تَسْنِيمٍ(5)، بَرْدُهُ بَرْدُ الْكَافُورِ، وَطَعْمُهُ طَعْمُ الزَّنْجَبِيلِ، مَنْ شَرِبَ مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ شَرْبَةً لَا يَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَداً.

فَقَالَ عِيسَىٰ (علیه السلام): اللَّهُمَّ اسْقِنِي مِنْهَا، قَالَ: حَرَامٌ يَا عِيسَىٰ عَلَىٰ الْبَشَرِ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْهَا حَتَّىٰ يَشْرَبَ ذَلِكَ النَّبِيُّ، وَحَرَامٌ عَلَىٰ الْأُمَمِ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْهَا حَتَّىٰ تَشْرَبَ مِنْهَا أُمَّةُ ذَلِكَ النَّبِيِّ. يَا عِيسَىٰ، أَرْفَعُكَ إِلَيَّ ثُمَّأُهْبِطُكَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ لِتَرَىٰ مِنْ أُمَّةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ الْعَجَائِبَ، وَلِتُعِينَهُمْ عَلَىٰ اللَّعِينِ الدَّجَّالِ، أُهْبِطُكَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ لِتُصَلِّيَ مَعَهُمْ، إِنَّهُمْ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ»(6).

ص: 232


1- أي يرفع رجليه من الأرض رفعاً بيِّناً بقوَّة دون احتشام، لا كمن يمشى اختيالاً ويقارب خطاه لأنَّ ذلك من مشي النساء. والصبب ما انحدر من الأرض أو الطريق.
2- في النهاية (ج 1/ ص 110): (في الحديث: «بذَّ القائلين»، أي سبقهم وغلبهم).
3- يعني الزهراء (سلام الله عليها).
4- الصخب - بالتحريك -: الضجَّة والصياح والجبلة. والنصب: التعب والداء.
5- اسم عين في الجنَّة، ويقال: هو أرفع شراب أهلها، تسنمهم من فوقهم.
6- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 16/ ص 145 و146): (بيان: لا يبعد أنْ يكون سوريا في تلك اللغة اسم سورىٰ، قال في القاموس: السورىٰ كطوبىٰ موضع بالعراق، وهو من بلد السريانيِّين. وقال: المدرعة كمكنسة: ثوب كالدرَّاعة، ولا تكون إلَّا من صوف. وقال: [ النجل - بالتحريك -: سعة العين فهو أنجل. قوله: «صلت الجبين»، قال الجزري: أي واسعة. وقال الفيروزآبادي: رجل مفجل الثنايا: منفرجها. قوله: «كأنَّ الذهب يجري في تراقيه»، لعلَّه كناية عن حمرة ترقوته (صلی الله علیه و آله)، أو سطوع النور منها. قوله: «بذَّهم»، قال الجزري: فيه بذَّ العالمين، أي سبقهم وغلبهم. أقول: فالمعنىٰ أنَّه كان يغلبهم في الحسن والبهاء، ويمتاز بينهم، أو يسبقهم في المشي، والأوَّل أظهر، إذ سيأتي ما يخالف الثاني. والصخب - بالتحريك -: الصياح والجلبة).

وَكَانَتْ(1) لِلْمَسِيحِ (علیه السلام) غَيْبَاتٌ يَسِيحُ فِيهَا فِي الْأَرْضِ، فَلَا يَعْرِفُ قَوْمُهُ وَشِيعَتُهُ خَبَرَهُ، ثُمَّ ظَهَرَ فَأَوْصَىٰ إِلَىٰ شَمْعُونَ بْنِ حَمُّونَ (علیه السلام)، فَلَمَّا مَضَىٰ شَمْعُونُ غَابَتِ الْحُجَجُ بَعْدَهُ، وَاشْتَدَّتِ الطَّلَبُ، وَعَظُمَتِ الْبَلْوَىٰ، وَدَرَسَ الدِّينُ، وَضُيِّعَتِ الْحُقُوقُ، وَأُمِيتَتِ الْفُرُوضُ وَالسُّنَنُ، وَذَهَبَ النَّاسُ يَمِيناً وَشِمَالاً لَا يَعْرِفُونَ أَيًّا مِنْ أَيٍّ، فَكَانَتِ الْغَيْبَةُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً.

[2/19] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ وَسَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ جَمِيعاً، عَنِ أَيُّوبَ بْنِنُوحٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ المُغِيرَةِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «بَقِيَ النَّاسُ بَعْدَ عِيسَىٰ بْنِ مَرْيَمَ (علیه السلام) خَمْسِينَ وَمِائَتَيْ سَنَةٍ بِلَا حُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ».

[3/20] حَدَّثَنَا أَبِي (رحمة الله)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ، عَنْ يَعْقُوبَ ابْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «كَانَ بَيْنَ عِيسَىٰ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام) خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، مِنْهَا مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ عَاماً لَيْسَ فِيهَا نَبِيٌّ وَلَا عَالِمٌ ظَاهِرٌ»، قُلْتُ: فَمَا كَانُوا؟ قَالَ: «كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِ عِيسَىٰ (علیه السلام)»، قُلْتُ: فَمَا كَانُوا؟ قَالَ: «كَانُوا مُؤْمِنِينَ»، ثُمَّ قَالَ (علیه السلام): «وَلَا يَكُونُ الْأَرْضُ إِلَّا وَفِيهَا عَالِمٌ».

وكان ممَّن ضرب في الأرض لطلب الحجَّة سلمان الفارسي (رضی الله عنه)، فلم يزل

ص: 233


1- من كلام المصنِّف (رحمة الله).

ينتقل من عالم إلىٰ عالم ومن فقيه إلىٰ فقيه، ويبحث عن الأسرار ويستدلُّ بالأخبار منتظراً لقيام القائم سيِّد الأوَّلين والآخرين محمّد (صلی الله علیه و آله) أربعمائة سنة حتَّىٰ بُشِّر بولادته، فلمَّا أيقن بالفرج خرج يريد تهامة فسُبِيَ.

* * *

ص: 234

الباب التاسع

خبر سلمان الفارسي (رحمة الله عليه) في ذلك

ص: 235

ص: 236

[1/21] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ وَأَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ جَمِيعاً، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ، عَنْ أَبِيهِ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرٍ (علیهما السلام)، قَالَ: قُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، أَلَا تُخْبِرُنَا كَيْفَ كَانَ سَبَبُ إِسْلَامِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ؟ قَالَ: «حَدَّثَنِي أَبِي (صلوات الله عليه) أَنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (صلوات الله عليه) وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ وَأَبَا ذَرٍّ وَجَمَاعَةً مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله)، فَقَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) لِسَلْمَانَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، أَلَا تُخْبِرُنَا بِمَبْدَإِ أَمْرِكَ؟ فَقَالَ سَلْمَانُ: وَاللهِ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ لَوْ أَنَّ غَيْرَكَ سَأَلَنِي مَا أَخْبَرْتُهُ.

أَنَا كُنْتُ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ شِيرَازَ مِنْ أَبْنَاءِ الدَّهَاقِينِ، وَكُنْتُ عَزِيزاً عَلَىٰ وَالِدَيَّ، فَبَيْنَا أَنَا سَائِرٌ مَعَ أَبِي فِي عِيدٍ لَهُمْ إِذَا أَنَا بِصَوْمَعَةٍ، وَإِذَا فِيهَا رَجُلٌ يُنَادِي: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ عِيسَىٰ رُوحُ اللهِ، وَأَنَّ مُحَمَّداً حَبِيبُ اللهِ، فَرَسَخَ وَصْفُ مُحَمَّدٍ(1) فِي لَحْمِي وَدَمِي، فَلَمْ يَهْنِئْنِي طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ، فَقَالَتْ لِي أُمِّي: يَا بُنَيَّ، مَا لَكَ الْيَوْمَ لَمْ تَسْجُدْ لِمَطْلَعِ الشَّمْسِ؟

قَالَ: فَكَابَرْتُهَا حَتَّىٰ سَكَتَتْ، فَلَمَّا انْصَرَفْتُ إِلَىٰ مَنْزِلِي إِذَا أَنَا بِكِتَابٍ مُعَلَّقٍ فِي السَّقْفِ، فَقُلْتُ لِأُمِّي: مَا هَذَا الْكِتَابُ؟ فَقَالَتْ: يَا رُوزْبِهُ، إِنَّ هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِيدِنَا رَأَيْنَاهُ مُعَلَّقاً، فَلَا تَقْرَبْ ذَلِكَ المَكَانَ فَإِنَّكَ إِنْ قَرِبْتَهُ قَتَلَكَ أَبُوكَ.قَالَ: فَجَاهَدْتُهَا حَتَّىٰ جُنَّ اللَّيْلُ فَنَامَ أَبِي وَأُمِّي، فَقُمْتُ وَأَخَذْتُ الْكِتَابَ، وَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا عَهْدٌ مِنَ اللَّهِ إِلَىٰ آدَمَ أَنَّهُ خَالِقٌ مِنْ صُلْبِهِ

ص: 237


1- في بعض النُّسَخ: (فرصف حُبُّ محمّد).

نَبِيًّا يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدٌ، يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَيَنْهَىٰ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. يَا رُوزْبِهُ، ائْتِ وَصِيَّ عِيسَىٰ وَآمِنْ وَاتْرُكِ المَجُوسِيَّةَ.

قَالَ: فَصَعِقْتُ صَعْقَةً وَزَادَنِي شِدَّةً.

قَالَ: فَعَلِمَ بِذَلِكَ أَبِي وَأُمِّي، فَأَخَذُونِي وَجَعَلُونِي فِي بِئْرٍ عَمِيقَةٍ، وَقَالُوا لِي: إِنْ رَجَعْتَ وَإِلَّا قَتَلْنَاكَ، فَقُلْتُ لَهُمْ: افْعَلُوا بِي مَا شِئْتُمْ، حُبُّ مُحَمَّدٍ لَا يَذْهَبُ مِنْ صَدْرِي.

قَالَ سَلْمَانُ: مَا كُنْتُ أَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ قَبْلَ قِرَاءَتِيَ الْكِتَابَ، وَلَقَدْ فَهَّمَنِي اللهُ (عزوجل)الْعَرَبِيَّةَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ.

قَالَ: فَبَقِيتُ فِي الْبِئْرِ، فَجَعَلُوا يُنْزِلُونَ فِي الْبِئْرِ إِلَيَّ أَقْرَاصاً صِغَاراً.

قَالَ: فَلَمَّا طَالَ أَمْرِي رَفَعْتُ يَدِي إِلَىٰ السَّمَاءِ، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، إِنَّكَ حَبَّبْتَ مُحَمَّداً وَوَصِيَّهُ إِلَيَّ، فَبِحَقِّ وَسِيلَتِهِ عَجِّلْ فَرَجِي وَأَرِحْنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ، فَأَتَانِي آتٍ عَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ، فَقَالَ: قُمْ يَا رُوزْبِهُ، فَأَخَذَ بِيَدِي وَأَتَىٰ بِي إِلَىٰ الصَّوْمَعَةِ، فَأَنْشَأْتُ أَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ عِيسَىٰ رُوحُ اللهِ، وَأَنَّ مُحَمَّداً حَبِيبُ اللهِ، فَأَشْرَفَ عَلَيَّ الدَّيْرَانِيُّ، فَقَالَ: أَنْتَ رُوزْبِهُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: اصْعَدْ، فَأَصْعَدَنِي إِلَيْهِ، وَخَدَمْتُهُ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: إِنِّي مَيِّتٌ، فَقُلْتُ لَهُ: فَعَلَىٰ مَنْ تُخْلِفُنِي؟ فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ أَحَداً يَقُولُ بِمَقَالَتِي هَذِهِ إِلَّا رَاهِباً بِأَنْطَاكِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَادْفَعْ إِلَيْهِ هَذَا اللَّوْحَ، وَنَاوَلَنِي لَوْحاً، فَلَمَّا مَاتَ غَسَّلْتُهُ وَكَفَّنْتُهُ وَدَفَنْتُهُ وَأَخَذْتُ اللَّوْحَ وَسِرْتُ بِهِ إِلَىٰ أَنْطَاكِيَةَ وَأَتَيْتُ الصَّوْمَعَةَ وَأَنْشَأَتُ أَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ عِيسَىٰ رُوحُ اللهِ، وَأَنَّ مُحَمَّداً حَبِيبُ اللهِ، فَأَشْرَفَ عَلَيَّ الدَّيْرَانِيُّ،فَقَالَ: أَنْتَ رُوزْبِهُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: اصْعَدْ، فَصَعِدْتُ إِلَيْهِ، فَخَدَمْتُهُ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِي: إِنِّي مَيِّتٌ، فَقُلْتُ: عَلَىٰ مَنْ تُخْلِفُنِي؟ فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ أَحَداً يَقُولُ بِمَقَالَتِي هَذِهِ إِلَّا رَاهِباً بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ ،

ص: 238

فَإِذَا أَتَيْتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ وَادْفَعْ إِلَيْهِ هَذَا اللَّوْحَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ غَسَّلْتُهُ وَكَفَّنْتُهُ وَدَفَنْتُهُ وَأَخَذْتُ اللَّوْحَ وَأَتَيْتُ الصَّوْمَعَةَ وَأَنْشَأْتُ أَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ عِيسَىٰ رُوحُ اللهِ، وَأَنَّ مُحَمَّداً حَبِيبُ اللهِ، فَأَشْرَفَ عَلَيَّ الدَّيْرَانِيُّ، فَقَالَ: أَنْتَ رُوزْبِهُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: اصْعَدْ، فَصَعِدْتُ إِلَيْهِ، وَخَدَمْتُهُ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِي: إِنِّي مَيِّتٌ، فَقُلْتُ: عَلَىٰ مَنْ تُخْلِفُنِي؟ فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ أَحَداً يَقُولُ بِمَقَالَتِي هَذِهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ قَدْ حَانَتْ وِلَادَتُهُ، فَإِذَا أَتَيْتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَادْفَعْ إِلَيْهِ هَذَا اللَّوْحَ.

قَالَ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ غَسَّلْتُهُ وَكَفَّنْتُهُ وَدَفَنْتُهُ وَأَخَذْتُ اللَّوْحَ وَخَرَجْتُ، فَصَحِبْتُ قَوْماً، فَقُلْتُ لَهُمْ: يَا قَوْمُ، اكْفُونِيَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ أَكْفِكُمُ الْخِدْمَةَ؟ قَالُوا: نَعَمْ.

قَالَ: فَلَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَأْكُلُوا شَدُّوا عَلَىٰ شَاةٍ فَقَتَلُوهَا بِالضَّرْبِ، ثُمَّ جَعَلُوا بَعْضَهَا كَبَاباً وَبَعْضَهَا شِوَاءً، فَامْتَنَعْتُ مِنَ الْأَكْلِ، فَقَالُوا: كُلْ، فَقُلْتُ: إِنِّي غُلَامٌ دَيْرَانِيٌّ، وَإِنَّ الدَّيْرَانِيِّينَ لَا يَأْكُلُونَ اللَّحْمَ، فَضَرَبُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَمْسِكُوا عَنْهُ حَتَّىٰ يَأْتِيَكُمْ شَرَابُكُمْ، فَإِنَّهُ لَا يَشْرَبُ، فَلَمَّا أَتَوْا بِالشَّرَابِ قَالُوا: اشْرَبْ، فَقُلْتُ: إِنِّي غُلَامٌ دَيْرَانِيٌّ، وَإِنَّ الدَّيْرَانِيِّينَ لَا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَشَدُّوا عَلَيَّ وَأَرَادُوا قَتْلِي، فَقُلْتُ لَهُمْ: يَا قَوْمِ، لَا تَضْرِبُونِي وَلَا تَقْتُلُونِي فَإِنِّي أُقِرُّ لَكُمْ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَأَقْرَرْتُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَأَخْرَجَنِي وَبَاعَنِي بِثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ رَجُلٍ يَهُودِيٍّ.قَالَ: فَسَأَلَنِي عَنْ قِصَّتِي، فَأَخْبَرْتُهُ، وَقُلْتُ لَهُ: لَيْسَ لِي ذَنْبٌ إِلَّا أَنِّي أَحْبَبْتُ مُحَمَّداً وَوَصِيَّهُ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَإِنِّي لَأُبْغِضُكَ وَأُبْغِضُ مُحَمَّداً، ثُمَّ أَخْرَجَنِي إِلَىٰ خَارِجِ دَارِهِ، وَإِذَا رَمْلٌ كَثِيرٌ عَلَىٰ بَابِهِ، فَقَالَ: وَاللهِ يَا رُوزْبِهُ لَئِنْ أَصْبَحْتُ وَلَمْ تَنْقُلْ هَذَا الرَّمْلَ كُلَّهُ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ لَأَقْتُلَنَّكَ.

قَالَ: فَجَعَلْتُ أَحْمِلُ طُولَ لَيْلَتِي، فَلَمَّا أَجْهَدَنِي التَّعَبُ رَفَعْتُ يَدِي إِلَىٰ

ص: 239

السَّمَاءِ، وَقُلْتُ: يَا رَبِّ، إِنَّكَ حَبَّبْتَ مُحَمَّداً وَوَصِيَّهُ إِلَيَّ، فَبِحَقِّ وَسِيلَتِهِ عَجِّلْ فَرَجِي وَأَرِحْنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ، فَبَعَثَ اللهُ (عزوجل)رِيحاً فَقَلَعَتْ ذَلِكَ الرَّمْلَ مِنْ مَكَانِهِ إِلَىٰ المَكَانِ الَّذِي قَالَ الْيَهُودِيُّ، فَلَمَّا أَصْبَحَ نَظَرَ إِلَىٰ الرَّمْلِ قَدْ نُقِلَ كُلُّهُ، فَقَالَ: يَا رُوزْبِهُ، أَنْتَ سَاحِرٌ وَأَنَا لَا أَعْلَمُ، فَلَأُخْرِجَنَّكَ مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ لِئَلَّا تُهْلِكَهَا.

قَالَ: فَأَخْرَجَنِي وَبَاعَنِي مِنِ امْرَأَةٍ سُلَمِيَّةٍ، فَأَحَبَّتْنِي حُبًّا شَدِيداً، وَكَانَ لَهَا حَائِطٌ، فَقَالَتْ: هَذَا الْحَائِطُ لَكَ كُلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ وَهَبْ وَتَصَدَّقْ.

قَالَ: فَبَقِيتُ فِي ذَلِكَ الْحَائِطِ مَا شَاءَ اللهُ، فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ فِي الْحَائِطِ إِذَا أَنَا بِسَبْعَةِ رَهْطٍ قَدْ أَقْبَلُوا تُظِلُّهُمْ غَمَامَةٌ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللهِ مَا هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ أَنْبِيَاءَ، وَلَكِنَّ فِيهِمْ نَبِيًّا.

قَالَ: فَأَقْبَلُوا حَتَّىٰ دَخَلُوا الْحَائِطَ وَالْغَمَامَةُ تَسِيرُ مَعَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا إِذَا فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) وَأَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) وَأَبُو ذَرٍّ وَالْمِقْدَادُ وعَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ(1) وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ وَزَيْدُ بْنُحَارِثَةَ، فَدَخَلُوا الْحَائِطَ، فَجَعَلُوا يَتَنَاوَلُونَ مِنْ حَشَفِ النَّخْلِ وَرَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) يَقُولُ لَهُمْ: كُلُوا الْحَشَفَ وَلَا تُفْسِدُوا عَلَىٰ الْقَوْمِ شَيْئاً، فَدَخَلْتُ عَلَىٰ مَوْلَاتِي، فَقُلْتُ لَهَا: يَا مَوْلَاتِي، هَبِي لِي طَبَقاً مِنْ رُطَبٍ، فَقَالَتْ: لَكَ سِتَّةُ أَطْبَاقٍ.

ص: 240


1- فيه وهم كما لا يخفىٰ، لأنَّ إسلام عقيل علىٰ ما ذكروه قبل الحديبيَّة، وهو لم يشهد المواقف التي قبلها، وقد أُخرج مع المشركين كرهاً إلىٰ بدر، وأُسِرَ وفداه عمُّه العبَّاس بن عبد المطَّلب، وكان حمزة 2 استُشهِدَ يوم أُحُد، وإسلام سلمان كان بقباء حين قدوم النبيِّ(صلی الله علیه و آله) المدينة مهاجراً، وعدُّه ابن عبد البرِّ فيمن شهد بدراً، فإنْ لم نقبل ذلك فلا أقلَّ من حضوره في غزوة الأحزاب، فإنَّ المسلمين حفروا الخندق بمشورته، فكيف يُجمَع بين حمزة وعقيل مع النبيِّ(صلی الله علیه و آله) في حائط من حيطان المدينة قبل إسلام سلمان 2؟ ولا يقال: لعلَّ عقيل تصحيف جعفر، لأنَّ جعفر حينذاك في الحبشة، وقَدِمَ المدينة بعد فتح خيبر. ثمّ اعلم أنَّ الأمر في الخبر سهل، لأنَّه مرسَل، وهو كما ترىٰ يشبه القَصص والأساطير، والله العالم.

قَالَ: فَجِئْتُ، فَحَمَلْتُ طَبَقاً مِنْ رُطَبٍ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنْ كَانَ فِيهِمْ نَبِيٌّ فَإِنَّهُ لَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ وَيَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، فَوَضَعْتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقُلْتُ: هَذِهِ صَدَقَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): كُلُوا، وَأَمْسَكَ رَسُولُ اللهِ وَأَمِيرُ المُؤْمِنِينَ وَعَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَقَالَ لِزَيْدٍ: مُدَّ يَدَكَ وَكُلْ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ عَلَامَةٌ، فَدَخَلْتُ إِلَىٰ مَوْلَاتِي، فَقُلْتُ لَهَا: هَبِي لِي طَبَقاً آخَرَ، فَقَالَتْ: لَكَ سِتَّةُ أَطْبَاقٍ.

قَالَ: فَجِئْتُ، فَحَمَلْتُ طَبَقاً مِنْ رُطَبٍ، فَوَضَعْتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقُلْتُ: هَذِهِ هَدِيَّةٌ، فَمَدَّ يَدَهُ، وَقَالَ: بِسْمِ اللهِ كُلُوا، وَمَدَّ الْقَوْمُ جَمِيعاً أَيْدِيَهُمْ فَأَكَلُوا، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ أَيْضاً عَلَامَةٌ.

قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا أَدُورُ خَلْفَهُ إِذْ حَانَتْ مِنَ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله) الْتِفَاتَةٌ، فَقَالَ: يَا رُوزْبِهُ تَطْلُبُ خَاتَمَ النُّبُوَّةِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَكَشَفَ عَنْ كَتِفَيْهِ، فَإِذَا أَنَا بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ مَعْجُومٌ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ.

قَالَ: فَسَقَطْتُ عَلَىٰ قَدَمِ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) أُقَبِّلُهَا، فَقَالَ لِي: يَا رُوزْبِهُ، ادْخُلْ إِلَىٰ هَذِهِ المَرْأَةِ وَقُلْ لَهَا: يَقُولُ لَكِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ:تَبِيعِينَا هَذَا الْغُلَامَ؟ فَدَخَلْتُ، فَقُلْتُ لَهَا: يَا مَوْلَاتِي، إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ لَكِ: تَبِيعِينَا هَذَا الْغُلَامَ؟ فَقَالَتْ: قُلْ لَهُ: لَا أَبِيعُكَ إِلَّا بِأَرْبَعِمِائَةِ نَخْلَةٍ، مِائَتَيْ نَخْلَةٍ مِنْهَا صَفْرَاءَ، وَمِائَتَيْ نَخْلَةٍ مِنْهَا حَمْرَاءَ.

قَالَ: فَجِئْتُ إِلَىٰ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله) فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: وَمَا أَهْوَنَ مَا سَأَلَتْ، ثُمَّ قَالَ: قُمْ يَا عَلِيُّ فَاجْمَعْ هَذَا النَّوَىٰ كُلَّهُ، فَجَمَعَهُ وَأَخَذَهُ فَغَرَسَهُ، ثُمَّ قَالَ: اسْقِهِ، فَسَقَاهُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، فَمَا بَلَغَ آخِرَهُ حَتَّىٰ خَرَجَ النَّخْلُ وَلَحِقَ بَعْضُهُ بَعْضاً، فَقَالَ لِي: ادْخُلْ إِلَيْهَا وَقُلْ لَهَا: يَقُولُ لَكِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: خُذِي شَيْئَكِ وَادْفَعِي إِلَيْنَا شَيْئَنَا.

قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهَا، وَقُلْتُ ذَلِكَ لَهَا، فَخَرَجَتْ وَنَظَرَتْ إِلَىٰ النَّخْلِ، فَقَالَتْ: وَاللهِ لَا أَبِيعُكَهُ إِلَّا بِأَرْبَعِمِائَةِ نَخْلَةٍ كُلُّهَا صَفْرَاءُ.

ص: 241

قَالَ: فَهَبَطَ جَبْرَئِيلُ (علیه السلام)، فَمَسَحَ جَنَاحَيْهِ عَلَىٰ النَّخْلِ، فَصَارَ كُلُّهُ أَصْفَرَ.

قَالَ: ثُمَّ قَالَ لِي: قُلْ لَهَا: إِنَّ مُحَمَّداً يَقُولُ لَكِ: خُذِي شَيْئَكِ وَادْفَعِي إِلَيْنَا شَيْئَنَا.

قَالَ: فَقُلْتُ لَهَا ذَلِكَ، فَقَالَتْ: وَاللهِ لَنَخْلَةٌ مِنْ هَذِهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مُحَمَّدٍ وَمِنْكَ، فَقُلْتُ لَهَا: وَاللهِ لَيَوْمٌ وَاحِدٌ مَعَ مُحَمَّدٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ وَمِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ أَنْتِ فِيهِ، فَأَعْتَقَنِي رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) وَسَمَّانِي سَلْمَانَ »(1).

قال مصنِّف هذا الكتاب (رضی الله عنه): كان اسم سلمان روزبه بن خشبوذان، وما سجد قطُّ لمطلع الشمس، وإنَّما كان يسجد لله (تبارک و تعالی)، وكانت القبلة التي أُمِرَ بالصلاة إليها شرقيَّة، وكان أبواه يظنَّان أنَّهإنَّما يسجد لمطلع الشمس كهيأتهم، وكان سلمان وصيُّ وصيِّ عيسىٰ (علیه السلام) في أداء ما حُمِّل إلىٰ من انتهت إليه الوصيَّة من المعصومين، وهو آبي (علیه السلام)، وقد ذكر قوم أنَّ (آبي)(2) هو أبو طالب، وإنَّما اشتبه الأمر به لأنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) سُئِلَ عَنْ آخِرِ أَوْصِيَاءِ عِيسَىٰ (علیه السلام) فَقَالَ: «آبِي»(3)، فَصَحَّفَهُ النَّاسُ وَقَالُوا: أَبِي ، ويقال له: بردة، أيضاً.

* * *

ص: 242


1- رواه الفتَّال (رحمة الله) في روضة الواعظين (ص 275 - 278).
2- آبي - بمدِّ الهمزة وإمالة الياء - من ألقاب علماء النصارىٰ. وسيأتي في باب نوادر الكتاب أواخر الجزء الثاني أنَّ آخر أوصياء عيسىٰ (علیه السلام) رجل يقال له: بالط. وكأنَّ اسم ذلك الرجل (آبي بالط).
3- كذا، ولعلَّ النكتة في عدم النصب حفظ صورة الكلمة لئلَّا يشتبه ب (أبي).

الباب العاشر

في خبر قُسِّ بن ساعدة الأيادي

ص: 243

ص: 244

ومثل قُسِّ بن ساعدة الأياديِّ في علمه وحكمته، كان يعرف النبيَّ (صلی الله علیه و آله) وينتظر ظهوره، ويقول: إنَّ لله ديناً خير من الدِّين الذي أنتم عليه، وَكَانَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله) يَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: «يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ (1)».

[1/22] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ رَزِينٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)، قَالَ: «بَيْنَا رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) ذَاتَ يَوْمٍ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ يَوْمَ افْتَتَحَ مَكَّةَ، إِذْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ وَفْدٌ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): مَنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: وَفْدُ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، قَالَ: فَهَلْ عِنْدَكُمْ عِلْمٌ مِنْ خَبَرِ قُسِّ بْنِ سَاعِدِةَ الْأَيَادِيِّ؟ قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَمَا فَعَلَ؟ قَالُوا: مَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ المَوْتِ وَرَبِّ الْحَيَاةِ، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَىٰ قُسِّ بْنِ سَاعِدِةَ الْأَيَادِيِّ وَهُوَ بِسُوقِ عُكَاظٍ عَلَىٰ جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ وَيَقُولُ: اجْتَمِعُوا أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِذَا اجْتَمَعْتُمْ فَأَنْصِتُوا، فَإِذَا أَنْصَتُّمْ فَاسْمَعُوا، فَإِذَا سَمِعْتُمْ فَعُوا، فَإِذَا وَعَيْتُمْ فَاحْفَظُوا، فَإِذَا حَفِظْتُمْ فَاصْدُقُوا، أَلَا إِنَّهُ مَنْ عَاشَ مَاتَ، وَمَنْ مَاتَ فَاتَ، وَمَنْ فَاتَ فَلَيْسَ بِآتٍ، إِنَّ فِي السَّمَاءِ خَبَراً، وَفِي الْأَرْضِ عِبَراً، سَقْفٌ مَرْفُوعٌ، وَمِهَادٌ مَوْضُوعٌ، وَنُجُومٌ تَمُورُ(2)، وَلَيْلٌ يَدُورُ، وَبِحَارُ مَاءٍ [لَا] تَغُورُ، يَحْلِفُ قُسٌّمَا هَذَا بِلَعِبٍ، وَإِنَّ مِنْ وَرَاءِ هَذَا لَعَجَباً، مَا لِي أَرَىٰ النَّاسَ يَذْهَبُونَ فَلَا يَرْجِعُونَ، أَرَضُوا بِالمُقَامِ فَأَقَامُوا، أَمْ تَرَكُوا فَنَامُوا؟ يَحْلِفُ قُسٌّ يَمِيناً غَيْرَ كَاذِبَةٍ أَنَّ لِلهِ دِيناً هُوَ خَيْرٌ مِنَ الدِّينِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ

ص: 245


1- المراد أنَّه علىٰ دين الحقِّ والتوحيد، وليس في زمانه من يدين بدين الحقِّ غيره.
2- مار الشيء يمور موراً، أي تحرَّك وجاء وذهب.

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): رَحِمَ اللهُ قُسًّا يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ، قَالَ: هَلْ فِيكُمْ أَحَدٌ يُحْسِنُ مِنْ شِعْرِهِ شَيْئاً؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ:

فِي الْأَوَّلِينَ الذَّاهِبِينَ *** مِنَ الْقُرُونِ لَنَا بَصَائِرُ

لَمَّا رَأَيْتُ مَوَارِداً *** لِلْمَوْتِ لَيْسَ لَهَا مَصَادِرُ

وَرَأَيْتُ قَوْمِي نَحْوَهَا *** تَمْضِي الْأَكَابِرُ وَالْأَصَاغِرُ

لَا يَرْجِعُ المَاضِي إِلَيَ *** وَلَا مِنَ الْبَاقِينَ غَابِرٌ(1)

أَيْقَنْتُ أَنِّي لَا مَحَالَةَ *** حَيْثُ صَارَ الْقَوْمُ صَائِرٌ

وبلغ من حكمة قُسِّ بن ساعدة ومعرفته أنَّ النبيَّ (صلی الله علیه و آله) كان يسأل من يقدم عليه من أياد من حِكَمه ويصغي إليه سمعه .

[2/23] حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ ابْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الضَّحَّاكِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ(2)، أَنَّ وَفْداً مِنْ أَيَادٍ قَدِمُوا عَلَىٰ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، فَسَأَلَهُمْ عَنْ حِكَمِ قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ، فَقَالُوا: قَالَ قُسٌّ:

يَا نَاعِيَ المَوْتِ وَالْأَمْوَاتِ فِي جَدَثٍ *** عَلَيْهِمُ مِنْ بَقَايَا بَزِّهِمْ خِرَقٌ

دَعْهُمْ فَإِنَّ لَهُمْ يَوْماً يُصَاحُ بِهِمْ *** كَمَا يُنَبَّهُ مِنْ نَوْمَاتِهِ(3) الصَّعِقُ

مِنْهُمْ عُرَاةٌ وَمِنْهُمْ فِي ثِيَابِهِمُ *** مِنْهَا الْجَدِيدُ وَمِنْهَا الْأَوْرَقُ الْخَلَقُ(4)

حَتَّىٰ يَعُودُوا بِحَالٍ غَيْرِ حَالَتِهِمْ *** خَلْقٌ جَدِيدٌ وَخَلْقٌ بَعْدَهُمْ خُلِقُوا

ص: 246


1- كذا، وفي بعض نُسَخ الحديث هكذا: لا يرجع الماضي ولا ***يبقىٰ من الباقين غابر
2- المراد بهشام هشام بن محمّد بن السائب الكلبي، كما يظهر من كتاب مقتضب الأثر (ص 37).
3- في بعض نُسَخ الحديث: (من رقداته).
4- في بعض النُّسَخ: (ومنها الرثُّ والخلق). والرثُّ: البالي كالخلق.

مَطَرٌ وَنَبَاتٌ، وَآبَاءٌ وَأُمَّهَاتٌ، وَذَاهِبٌ وَآتٍ، وَآيَاتٌ فِي أَثَرِ آيَاتٍ، وَأَمْوَاتٌ بَعْدَ أَمْوَاتٍ، ضَوْءٌ وَظَلَامٌ، وَلَيَالٍ وَأَيَّامٌ، وَفَقِيرٌ وَغَنِيٌّ، وَسَعِيدٌ وَشَقِيٌّ، وَمُحْسِنٌ وَمُسِيءٌ، نَبَأٌ لِأَرْبَابِ الْغَفْلَةِ(1) لِيُصْلِحَنَّ كُلُّ عَامِلٍ عَمَلَهُ، كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ وَاحِدٌ، لَيْسَ بِمَوْلُودٍ وَلَا وَالِدٍ، أَعَادَ وَأَبْدَا، وَإِلَيْهِ المَآبُ غَداً.

وَأَمَّا بَعْدُ، يَا مَعْشَرَ أَيَادٍ أَيْنَ ثَمُودُ وَعَادٌ؟ وَأَيْنَ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ؟ أَيْنَ الْحَسَنُ الَّذِي لَمْ يُشْكَرْ، وَالْقَبِيحُ الَّذِي لَمْ يُنْقَمْ، كَلَّا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ لَيَعُودَنَّ مَا بَدَا، وَلَئِنْ ذَهَبَ يَوْمٌ لَيَعُودَنَّ يَوْمٌ .

وهو قُسُّ بن ساعدة بن حذاقة بن زهر بن أياد بن نزار، أوَّل من آمن بالبعث من أهل الجاهليَّة، وأوَّل من توكَّأ علىٰ عصا(2)، ويقال: إنَّه عاش ستّمائة سنة، وكان يعرف النبيَّ (صلی الله علیه و آله) باسمه ونسبه ويُبشِّر الناس بخروجه، وكان يستعمل التقيَّة، ويأمر بها في خلال ما يعظبه الناس .

[3/24] حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ ابْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَهْدِيُّ بْنُ سَابِقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَمَعَ قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ وُلْدَهُ فَقَالَ: إِنَّ الْمِعَا تَكْفِيهِ الْبَقْلَةُ وَتَرْوِيهِ المَذْقَةُ(3)، وَمَنْ عَيَّرَكَ شَيْئاً فَفِيهِ مِثْلُهُ، وَمَنْ ظَلَمَكَ وُجِدَ مَنْ يَظْلِمُهُ، مَتَىٰ عَدَلْتَ عَلَىٰ نَفْسِكَ عُدِلَ عَلَيْكَ مِنْ فَوْقِكَ، فَإِذَا نَهَيْتَ عَنْ شَيْءٍ فَابْدَأْ بِنَفْسِكَ، وَلَا تَجْمَعْ مَا لَا تَأْكُلُ، وَلَا تَأْكُلْ مَا لَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَإِذَا ادَّخَرْتَ فَلَا يَكُونَنَّ كَنْزُكَ إِلَّا فِعْلَكَ، وَكُنْ عَفَّ الْعَيْلَةِ مُشْتَرَكَ الْغِنَىٰ تَسُدُّ

ص: 247


1- في بعض النُّسَخ: (أين الأرباب الغفلة)، وفي بعضها: (الفعلة).
2- أي أوَّل من توكَّأ علىٰ عصا من أهل الجاهليَّة، أو لضعف كثرة السنِّ أو نحوها، ذلك لئلَّا يُنتَقض بما حكاه الله سبحانه عن موسىٰ (علیه السلام): «قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا ...» الآية [طه: 18].
3- المَذقة - بفتح الميم والقاف وسكون الدال -: الشربة من اللبن الممذوق. والمذق: المزج والخلط، يقال: مذقت اللبن فهو مذيق إذا خلطته بالماء.

قَوْمَكَ، وَلَا تُشَاوِرَنَّ مَشْغُولاً وَإِنْ كَانَ حَازِماً، وَلَا جَائِعاً وَإِنْ كَانَ فَهِماً، وَلَا مَذْعُوراً وَإِنْ كَانَ نَاصِحاً، وَلَا تَضَعَنَّ فِي عُنُقِكَ طَوْقاً لَا يُمْكِنُكَ نَزْعُهُ إِلَّا بِشِقِّ نَفْسِكَ، وَإِذَا خَاصَمْتَ فَاعْدِلْ، وَإِذَا قُلْتَ فَاقْتَصِدْ، وَلَا تَسْتَوْدِعَنَّ أَحَداً دِينَكَ وَإِنْ قَرُبَتْ قَرَابَتُهُ، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ لَمْ تَزَلْ وَجِلاً وَكَانَ المُسْتَوْدَعُ بِالْخِيَارِ فِي الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَكُنْتَ لَهُ عَبْداً مَا بَقِيتَ، فَإِنْ جَنَىٰ عَلَيْكَ كُنْتَ أَوْلَىٰ بِذَلِكَ، وَإِنْ وَفَىٰ كَانَ المَمْدُوحُ دُونَكَ، عَلَيْكَ بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّهَا تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ(1).

فَكَانَ قُسٌّ لَا يَسْتَوْدِعُ دِينَهُ أَحَداً، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ بِمَا يَخْفَىٰ مَعْنَاهُ عَلَىٰ الْعَوَامِّ، وَلَا يَسْتَدْرِكُهُ إِلَّا الْخَوَاصُّ.

* * *

ص: 248


1- راجع: المصون في الأدب لأبي أحمد العسكري (ص 179 و180)، والأوائل لأبي هلال العسكري (ص 68)، وجمهرة الأمثال له (ج 1/ ص 249)، والحكمة الخالدة لابن مسكويه (ص 155 و156).

الباب الحادي عشر

في خبر تُبَّع

ص: 249

ص: 250

وكان تُبَّع المَلِك أيضاً ممَّن عرف النبيَّ (صلی الله علیه و آله) وانتظر خروجه، لأنَّه قد وقع إليه خبره، فعرفه أنَّه سيخرج من مكَّة نبيٌّ يكون مهاجرته إلىٰ يثرب .

[1/25] مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ أَبَانٍ رَفَعَهُ أَنَّ تُبَّعَ قَالَ فِي مَسِيرِهِ:

حَتَّىٰ أَتَانِي مِنْ قُرَيْظَةَ عَالِمٌ *** حِبْرٌ لَعَمْرُكَ فِي الْيَهُودِ مُسَوَّد

قَالَ ازْدَجِرْ عَنْ قَرْيَةٍ مَحْجُوبَةٍ *** لِنَبِيِّ مَكَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ مُهْتَد

فَعَفَوْتُ عَنْهُمْ عَفْوَ غَيْرِ مُثَرَّبٍ (1) *** وَتَرَكْتُهُمْ لِعِقَابِ(2) يَوْمٍ سَرْمَد

وَتَرَكْتُهَا لِلهِ أَرْجُو عَفْوَهُ *** يَوْمَ الْحِسَابِ مِنَ الْجَحِيمِ المُوقَد

وَلَقَدْ تَرَكْتُ لَهُ بِهَا مِنْ قَوْمِنَا *** نَفَراً أُولِي حَسَبٍ وَمِمَّنْ يُحْمَد

نَفَراً يَكُونُ النَّصْرُ فِي أَعْقَابِهِمْ *** أَرْجُو بِذَاكَ ثَوَابَ رَبِّ مُحَمَّد

مَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ بَيْتاً ظَاهِراً *** لِلهِ فِي بَطْحَاءِ مَكَّةَ يُعْبَد

قَالُوا بِمَكَّةَ بَيْتُ مَالٍ دَاثِرٍ(3) *** وَكُنُوزُهُ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَد

فَأَرَدْتُ أَمْراً حَالَ رَبِّي دُونَهُ *** وَاللهُ يَدْفَعُ عَنْ خَرَابِ المَسْجِد

فَتَرَكْتُ مَا أَمَّلْتُهُ فِيهِ لَهُمْ *** وَتَرَكْتُهُمْ مَثَلًا لِأَهْلِ المَشْهَد(4)(5)

ص: 251


1- ثربه وثرب عليه: لامه، قبَّح عليه فعله، وعيَّره بذنبه.
2- أي لخوف العقاب.
3- الدَّثر - بالفتح -: المال الكثير.
4- أي من كان ذا قلب حاضر.
5- راجع: سيرة ابن إسحاق (ج 1/ ص 29 و30/ ح 35)، وتاريخ الطبري (ج 1/ ص 531 - 534)، وتفسير الثعلبي (ج 9/ ص 96 و97).

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «قَدْ أُخْبِرَ أَنَّهُ(1) سَيَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ - يَعْنِي مَكَّةَ - نَبِيٌّ يَكُونُ مُهَاجَرَتُهُ إِلَىٰ يَثْرِبَ، فَأَخَذَ قَوْماً مِنَ الْيَمَنِ فَأَنْزَلَهُمْ مَعَ الْيَهُودِ لِيَنْصُرُوهُ إِذَا خَرَجَ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ:

شَهِدْتُ عَلَىٰ أَحْمَدَ أَنَّهُ *** رَسُولٌ مِنَ اللهِ بَارِئِ النَّسَم

فَلَوْ مُدَّ عُمْرِي إِلَىٰ عُمْرِهِ *** لَكُنْتُ وَزِيراً لَهُ وَابْنَ عَمّ

وَكُنْتُ عَذَاباً عَلَىٰ المُشْرِكِينَ *** أَسْقِيهِمْ كَأْسَ حَتْفٍ(2) وَغَم»(3)

[2/26] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ صَبِيحٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «إِنَّ تُبَّعاً قَالَ لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ: كُونُوا هَاهُنَا حَتَّىٰ يَخْرُجَ هَذَا النَّبِيُّ، أَمَّا أَنَا فَلَوْ أَدْرَكْتُهُ لَخَدَمْتُهُ وَلَخَرَجْتُ مَعَهُ »(4).

[3/27] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَزَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَصَمُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْعُطَارِدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَايُونُسُ ابْنُ بُكَيْرٍ الشَّيْبَانِيُّ(5)، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَىٰ المَدَنِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: (لَا يَشْتَبِهَنَّ عَلَيْكُمْ أَمْرُ تُبَّعٍ فَإِنَّهُ كَانَ مُسْلِماً)(6).

* * *

ص: 252


1- في بعض النُّسَخ: (كان الخبر أنَّه).
2- الحتف: الموت.
3- راجع: مناقب آل أبي طالب (ج 2/ ص 93).
4- رواه الطبرسي (رحمة الله) في مجمع البيان (ج 9/ ص 111)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1074/ ح 9)، وابن شهرآشوب (رحمة الله) في مناقب آل أبي طالب (ج 1/ ص 17).
5- هو يونس بن بكير الشيباني المعنون في تهذيب التهذيب (ج 11/ ص 382/ الرقم 745)، قال ابن معين: صدوق.
6- تاريخ مدينة دمشق (ج 11/ ص 6)، الدُّرُّ المنثور (ج 6/ ص 31).

الباب الثاني عشر

في خبر عبد المطَّلب وأبي طالب

ص: 253

ص: 254

وكان عبد المطَّلب وأبو طالب من أعرف العلماء وأعلمهم بشأن النبيِّ (صلی الله علیه و آله)، وكانا يكتمان ذلك عن الجُهَّال وأهل الكفر والضلال .

[1/28] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَىٰ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَىٰ ابْنِ زَكَرِيَّا الْقَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي الْهَيْثَمُ بْنُ عَمْرٍو المُزَنِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَقِيلٍ الْهُذَلِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ يُوضَعُ لِعَبْدِ المُطَّلِبِ فِرَاشٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ لَا يَجْلِسُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا هُوَ إِجْلَالاً لَهُ، وَكَانَ بَنُوهُ يَجْلِسُونَ حَوْلَهُ حَتَّىٰ يَخْرُجَ عَبْدُ المُطَّلِبِ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) يَخْرُجُ وَهُوَ غُلَامٌ، فَيَمْشِي حَتَّىٰ يَجْلِسَ عَلَىٰ الْفِرَاشِ، فَيَعْظُمُ ذَلِكَ عَلَىٰ أَعْمَامِهِ(1)، وَيَأْخُذُونَهُ لِيُؤَخِّرُوهُ، فَيَقُولُ لَهُمْ عَبْدُ المُطَّلِبِ إِذَا رَأَىٰ ذَلِكَ مِنْهُمْ: دَعُوا ابْنِي، فَوَاللهِ إِنَّ لَهُ لَشَأْناً عَظِيماً، إِنِّي أَرَىٰ أَنَّهُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ يَوْمٌ وَهُوَ سَيِّدُكُمْ، إِنِّي أَرَىٰ غُرَّتَهُ غُرَّةً تَسُودُ النَّاسَ، ثُمَّ يَحْمِلُهُ فَيُجْلِسُهُ مَعَهُ وَيَمْسَحُ ظَهْرَهُ وَيُقَبِّلُهُ وَيَقُولُ: مَا رَأَيْتُ قُبْلَةً أَطْيَبَ مِنْهُ وَلَا أَطْهَرَ قَطُّ، وَلَا جَسَداً أَلْيَنَ مِنْهُ وَلَا أَطْيَبَ مِنْهُ، ثُمَّ يَلْتَفِتُ إِلَىٰ أَبِي طَالِبٍ، وَذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ وَأَبَا طَالِبٍ لِأُمٍّ وَاحِدَةٍ، فَيَقُولُ: يَا أَبَا طَالِبٍ، إِنَّ لِهَذَا الْغُلَامِ لَشَأْناً عَظِيماً، فَاحْفَظْهُ وَاسْتَمْسِكْ بِهِ، فَإِنَّهُ فَرْدٌ وَحِيدٌ، وَكُنْ لَهُ كَالْأُمِّ، لَا يَصِلُ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ، ثُمَّ يَحْمِلُهُ عَلَىٰ عُنُقِهِ فَيَطُوفُ بِهِ أُسْبُوعاً، فَكَانَعَبْدُ المُطَّلِبِ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يَكْرَهُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ، فَلَا يُدْخِلُهُ عَلَيْهِمَا.

فَلَمَّا تَمَّتْ لَهُ سِتُّ سِنِينَ مَاتَتْ أُمُّهُ آمِنَةُ بِالْأَبْوَاءِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ، وَكَانَتْ

ص: 255


1- في بعض النُّسَخ: (فيُعظِّمان ذلك أعمامه).

قَدِمَتْ بِهِ عَلَىٰ أَخْوَالِهِ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ، فَبَقِيَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) يَتِيماً لَا أَبَ لَهُ وَلَا أُمَّ، فَازْدَادَ عَبْدُ المُطَّلِبِ لَهُ رِقَّةً وَحِفْظاً، وَكَانَتْ هَذِهِ حَالَهُ حَتَّىٰ أَدْرَكَتْ عَبْدَ المُطَّلِبِ الْوَفَاةُ، فَبَعَثَ إِلَىٰ أَبِي طَالِبٍ وَمُحَمَّدٌ عَلَىٰ صَدْرِهِ وَهُوَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ وَهُوَ يَبْكِي وَيَلْتَفِتُ إِلَىٰ أَبِي طَالِبٍ وَيَقُولُ: يَا أَبَا طَالِبٍ، انْظُرْ أَنْ تَكُونَ حَافِظاً لِهَذَا الْوَحِيدِ الَّذِي لَمْ يَشَمَّ رَائِحَةَ أَبِيهِ وَلَا ذَاقَ شَفَقَةَ أُمِّهِ، انْظُرْ يَا أَبَا طَالِبٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَسَدِكَ بِمَنْزِلَةِ كَبِدِكَ فَإِنِّي قَدْ تَرَكْتُ بَنِيَّ كُلَّهُمْ وَأَوْصَيْتُكَ بِهِ لِأَنَّكَ مِنْ أُمِّ أَبِيهِ. يَا أَبَا طَالِبٍ، إِنْ أَدْرَكْتَ أَيَّامَهُ فَاعْلَمْ أَنِّي كُنْتُ مِنْ أَبْصَرِ النَّاسِ وَأَعْلَمِ النَّاسِ بِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَتَّبِعَهُ فَافْعَلْ، وَانْصُرْهُ بِلِسَانِكَ وَيَدِكَ وَمَالِكَ، فَإِنَّهُ وَاللهِ سَيَسُودُكُمْ وَيَمْلِكُ مَا لَمْ يَمْلِكْ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آبَائِي. يَا أَبَا طَالِبٍ، مَا أَعْلَمُ أَحَداً مِنْ آبَائِكَ مَاتَ عَنْهُ أَبُوهُ عَلَىٰ حَالِ أَبِيهِ وَلَا أُمُّهُ عَلَىٰ حَالِ أُمِّهِ، فَاحْفَظْهُ لِوَحْدَتِهِ، هَلْ قَبِلْتَ وَصِيَّتِي فِيهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ قَدْ قَبِلْتُ، وَاللهُ عَلَيَّ بِذَلِكَ شَهِيدٌ، فَقَالَ عَبْدُ المُطَّلِبِ: فَمُدَّ يَدَكَ إِلَيَّ، فَمَدَّ يَدَهُ إِلَيْهِ، فَضَرَبَ يَدَهُ عَلَىٰ يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ عَبْدُ المُطَّلِبِ: الْآنَ خُفِّفَ عَلَيَّ المَوْتُ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يُقَبِّلُهُ وَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنِّي لَمْ أُقَبِّلْ أَحَداً مِنْ وُلْدِي أَطْيَبَ رِيحاً مِنْكَ، وَلَا أَحْسَنَ وَجْهاً مِنْكَ، وَيَتَمَنَّىٰ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَقِيَ حَتَّىٰ يُدْرِكَ زَمَانَهُ، فَمَاتَ عَبْدُ المُطَّلِبِ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ، فَضَمَّهُ أَبُو طَالِبٍ إِلَىٰ نَفْسِهِ لَا يُفَارِقُهُ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ، وكَانَ يَنَامُ مَعَهُ حَتَّىٰ لَا يَأْتَمِنُ عَلَيْهِ أَحَداً(1).

[2/29] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَزَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُبْنُ يَعْقُوبَ الْأَصَمُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْعُطَارِدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ ابْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ المَدَنِيِّ(2)، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللهِ

ص: 256


1- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 1/ ص 61 و62)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1069 - 1071/ ح 5).
2- هو محمّد بن إسحاق بن يسار أبو بكر المطَّلبي، مولاهم المدني، نزيل العراق، إمام المغازي. (تقريب التهذيب: ج 2/ ص 54/ الرقم 5743).

ابْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، قَالَ: كَانَ يُوضَعُ لِعَبْدِ المُطَّلِبِ جَدِّ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) فِرَاشٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَكَانَ لَا يَجْلِسُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ بَنِيهِ إِجْلَالاً لَهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) يَأْتِي حَتَّىٰ يَجْلِسَ عَلَيْهِ، فَيَذْهَبُ أَعْمَامُهُ لِيُؤَخِّرُوهُ، فَيَقُولُ جَدُّهُ عَبْدُ المُطَّلِبِ: دَعُوا ابْنِي، فَيَمْسَحُ عَلَىٰ ظَهْرِهِ وَيَقُولُ: إِنَّ لِابْنِي هَذَا لَشَأْناً(1).

فتُوفِّي عبد المطَّلب والنبيُّ (صلی الله علیه و آله) ابن ثمان سنين بعد عام الفيل بثمان سنين .

[3/30] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَىٰ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ خَالِدِ بْنِ إِلْيَاسَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي جَهْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا طَالِبٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ المُطَّلِبِ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ فِي الْحِجْرِ(2) إِذْ رَأَيْتُ رُؤْيَا هَالَتْنِي، فَأَتَيْتُ كَاهِنَةَ قُرَيْشٍ وَعَلَيَّ مِطْرَفُ خَزٍّ، وَجُمَّتِي(3) تَضْرِبُ مَنْكِبِي، فَلَمَّا نَظَرَتْ إِلَيَّ عَرَفَتْ فِيوَجْهِيَ التَّغَيُّرَ فَاسْتَوَتْ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ قَوْمِي، فَقَالَتْ: مَا شَأْنُ سَيِّدِ الْعَرَبِ مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ؟ هَلْ رَابَهُ مِنْ حَدَثَانِ الدَّهْرِ رَيْبٌ(4)؟ فَقُلْتُ لَهَا: بَلَىٰ، إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ وَأَنَا قَائِمٌ فِي الْحِجْرِ كَأَنَّ شَجَرَةً قَدْ نَبَتَتْ عَلَىٰ ظَهْرِي قَدْ نَالَ رَأْسُهَا السَّمَاءَ وَضَرَبَتْ أَغْصَانُهَا الشَّرْقَ وَالْغَرْبَ، وَرَأَيْتُ نُوراً يَظْهَرُ مِنْهَا أَعْظَمَ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ سَبْعِينَ ضِعْفاً، وَرَأَيْتُ الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ سَاجِدَةً لَهَا، وَهِيَ كُلَّ يَوْمٍ تَزْدَادُ عِظَماً وَنُوراً، وَرَأَيْتُ رَهْطاً مِنْ قُرَيْشٍ يُرِيدُونَ قَطْعَهَا، فَإِذَا دَنَوْا مِنْهَا أَخَذَهُمْ شَابٌّ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهاً وَأَنْظَفِهِمْ ثِيَاباً فَيَأْخُذُهُمْ و

ص: 257


1- سيرة ابن إسحاق (ج 1/ ص 42 و43/ ح 47).
2- يعنى حجر إسماعيل (علیه السلام).
3- المطرف - بضمِّ الميم وكسرها وفتحها -: الثوب الذي في طرفيه علمان. والجُمَّة - بالضمِّ والشدِّ - : مجتمع شعر الرأس وما سقط علىٰ المنكبين منها، وهي أكثر من الوفرة، ويقال للرجل الطويل الجُمَّة: الجماني بالنون علىٰ غير قياس. (راجع: الصحاح للجوهري: ج 5/ ص 1890/ مادَّة جمم).
4- رابه أمر يريبه: رأىٰ منه ما يكرهه ويزعجه. والريب: نازلة الدهر.

َيَكْسِرُ

ظُهُورَهُمْ وَيَقْلَعُ أَعْيُنَهُمْ، فَرَفَعْتُ يَدِي لِأَتَنَاوَلَ غُصْناً مِنْ أَغْصَانِهَا، فَصَاحَ بِيَ الشَّابُّ وَقَالَ: مَهْلاً لَيْسَ لَكَ مِنْهَا نَصِيبٌ، فَقُلْتُ: لِمَنِ النَّصِيبُ وَالشَّجَرَةُ مِنِّي؟ فَقَالَ: النَّصِيبُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَدْ تَعَلَّقُوا بِهَا، وَسَتَعُودُ(1) إِلَيْهَا، فَانْتَبَهْتُ مَذْعُوراً فَزِعاً مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ، فَرَأَيْتُ لَوْنَ الْكَاهِنَةِ قَدْ تَغَيَّرَ، ثُمَّ قَالَتْ: لَئِنْ صَدَقَتْ رُؤْيَاكَ لَيَخْرُجَنَّ مِنْ صُلْبِكَ وَلَدٌ يَمْلِكُ الشَّرْقَ وَالْغَرْبَ، يَنْبَأُ فِي النَّاسِ، فَسَرَىٰ عَنِّي غَمِّي(2)، فَانْظُرْ يَا أَبَا طَالِبٍ لَعَلَّكَ تَكُونُ أَنْتَ، فَكَانَ أَبُو طَالِبٍ يُحَدِّثُ النَّاسَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَالنَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله) قَدْ خَرَجَ وَيَقُولُ: كَانَتِ الشَّجَرَةُ وَاللهِ أَبَا الْقَاسِمِ الْأَمِينَ، فَقِيلَ لَهُ: فَلِمَ لَمْ تُؤْمِنْ بِهِ؟ فَقَالَ: لِلسُّبَّةِ وَالْعَارِ(3)(4).

ص: 258


1- في بعض النُّسَخ: (سيعود).
2- سرىٰ الغمُّ: ذهب وزال.
3- السبَّة: العار، وقال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 15/ ص 255): (توضيح: قال الجزري: المطرف بكسر الميم وفتحها وضمِّها: الثوب الذي في طرفيه علمان، وقال: الجُمَّة من شعر الرأس: ما سقط علىٰ المنكبين، وقال الجوهري: هي بالضمِّ مجتمع شعر الرأس. أقول: لعلَّ ذكر هذا إمَّا لبيان شرافته بأنْ يكون إرسال الجمَّة من خواصِّ الشرفاء، أو اضطرابه وارتعاده، والريب: نازلة الدهر. ورابه أمر: رأىٰ منه ما يُكرَه، قوله: (وسيعود إليها)، يحتمل أنْ يكون المراد بالذين تعلَّقوا بها الذين يريدون قلعها، ويكون قوله: وستعود بالتاء، أي ستعود تلك الجماعة بعد منازعتهم ومحاربتهم إلىٰ هذه الشجرة، ويؤمنون بها، فيكون لهم النصيب منها، أو بالياء فيكون المستتر راجعاً إلىٰ الرسول(صلی الله علیه و آله)، والبارز في (منها) إلىٰ الجماعة، أي سيعود النبيُّصلی الله علیه و آله إليهم بعد إخراجهم له فيؤمنون به، فيكون إشارة إلىٰ فتح مكَّة، أو يكون المستتر راجعاً إلىٰ الشابِّ، والبارز إلىٰ الشجرة، أي سيرجع هذا الشاب إلىٰ الشجرة في اليقظة، كما تعلَّق بها في النوم، وعلىٰ هذا يحتمل أنْ يكون المراد بالذين تعلَّقوا بها أبا طالب وأضرابه ممَّن لم يُذكروا قبل، ويحتمل أنْ يكون المستتر راجعاً إلىٰ النصيب، والبارز إلىٰ الشجرة، أي يكون لهصلی الله علیه و آله ثواب إسلامهم، ويحتمل أنْ يكون (ستعود) بصيغة الخطاب، أي ستعود يا عبد المطَّلب إليهصلی الله علیه و آله عند ولادته، لكن لا تبلغ ولا تُدرك وقت نبوَّته. قوله: (لعلك تكون أنت)، أي ذلك الشابُّ، ويحتمل أنْ يكون الشابُّ أمير المؤمنين (علیه السلام).
4- رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 334 و335/ ح 391/1)، والفتَّال في روضة الواعظين (ص 64)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1064 - 1066/ ح 2)، وابن كثير في السيرة النبويَّة (ج 1/ ص 309 و310)، وفي البداية والنهاية (ج 2/ ص 387 و388)، والمقريزي في إمتاع الأسماع (ج 3/ ص 368)، والسيوطي في كفاية الطالب (ج 1/ ص 39 و40).

قال أبو جعفر محمّد بن عليٍّ مصنِّف هذا الكتاب (رضی الله عنه): إنَّ أبا طالب كان مؤمناً، ولكنَّه يُظهِر الشرك، ويستتر الإيمان، ليكون أشدّ تمكُّناً من نصرة رسول الله (صلی الله علیه و آله).

[4/31] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي سَارَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «إِنَّ أَبَا طَالِبٍ أَظْهَرَ الْكُفْرَ وَأَسَرَّ الْإِيمَانَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْحَىٰ اللهُ (عزوجل)إِلَىٰ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله): اخْرُجْ مِنْهَا فَلَيْسَلَكَ بِهَا نَاصِرٌ، فَهَاجَرَ إِلَىٰ المَدِينَةِ»(1).

[5/32] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّائِغُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ أَسْبَاطٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ مُحَمَّدٍ المُسْلِيِّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ) يَقُولُ: «وَاللهِ مَا عَبَدَ أَبِي وَلَا جَدِّي عَبْدُ المُطَّلِبِ وَلَا هَاشِمٌ وَلَا عَبْدُ مَنَافٍ صَنَماً قَطُّ»، قِيلَ لَهُ: فَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ؟ قَالَ: «كَانُوا يُصَلُّونَ إِلَىٰ الْبَيْتِ عَلَىٰ دِينِ إِبْرَاهِيمَ (علیه السلام) مُتَمَسِّكِينَ بِهِ »(2).

[6/33] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَىٰ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ

ص: 259


1- رواه الراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1078/ ح 12).
2- رواه أبو العبَّاس الحسني في المصابيح (ص 170/ ح 54).

سَعِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ قَمَّارٍ مَوْلًى لِبَنِي مَخْزُومٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ(1)، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي الْعَبَّاسَ يُحَدِّثُ، قَالَ: وُلِدَ لِأَبِي عَبْدِ المُطَّلِبِ عَبْدُ اللهِ، فَرَأَيْنَا فِي وَجْهِهِ نُوراً يَزْهَرُ كَنُورِ الشَّمْسِ، فَقَالَ أَبِي: إِنَّ لِهَذَا الْغُلَامِ شَأْناً عَظِيماً، قَالَ: فَرَأَيْتُ فِي مَنَامِي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مَنْخِرِهِ طَائِرٌ أَبْيَضُ فَطَارَ فَبَلَغَ المَشْرِقَ وَالمَغْرِبَ ثُمَّ رَجَعَ رَاجِعاً حَتَّىٰ سَقَطَ عَلَىٰ بَيْتِ الْكَعْبَةِ، فَسَجَدَتْ لَهُ قُرَيْشٌ كُلُّهَا، فَبَيْنَمَا النَّاسُ يَتَأَمَّلُونَهُ إِذَا صَارَ نُوراً بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَامْتَدَّ حَتَّىٰ بَلَغَ المَشْرِقَوَالمَغْرِبَ، فَلَمَّا انْتَبَهْتُ سَأَلْتُ كَاهِنَةَ بَنِي مَخْزُومٍ، فَقَالَتْ لِي: يَا عَبَّاسُ، لَئِنْ صَدَقَتْ رُؤْيَاكَ لَيَخْرُجَنَّ مِنْ صُلْبِهِ وَلَدٌ يَصِيرُ أَهْلُ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ تَبَعاً لَهُ، قَالَ أَبِي: فَهَمَّنِي أَمْرُ عَبْدِ اللهِ إِلَىٰ أَنْ تَزَوَّجَ بِآمِنَةَ، وَكَانَتْ مِنْ أَجْمَلِ نِسَاءِ قُرَيْشٍ وَأَتَمِّهَا خَلْقاً، فَلَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللهِ وَوَلَدَتْ آمِنَةُ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) أَتَيْتُ فَرَأَيْتُ النُّورَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ يَزْهَرُ، فَحَمَلْتُهُ وَتَفَرَّسْتُ فِي وَجْهِهِ، فَوَجَدْتُ مِنْهُ رِيحَ الْمِسْكِ، وَصِرْتُ كَأَنِّي قِطْعَةُ مِسْكٍ مِنْ شِدَّةِ رِيحِي، فَحَدَّثَتْنِي آمِنَةُ وَقَالَتْ لِي: إِنَّهُ لَمَّا أَخَذَنِي الطَّلْقُ وَاشْتَدَّ بِيَ الْأَمْرُ سَمِعْتُ جَلَبَةً(2) وَكَلَاماً لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ، فَرَأَيْتُ عَلَماً مِنْ سُنْدُسٍ عَلَىٰ قَضِيبٍ مِنْ يَاقُوتٍ قَدْ ضُرِبَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَرَأَيْتُ نُوراً يَسْطَعُ مِنْ رَأْسِهِ حَتَّىٰ بَلَغَ السَّمَاءَ، وَرَأَيْتُ قُصُورَ الشَّامَاتِ كُلَّهَا شُعْلَةَ نُورٍ(3)، وَرَأَيْتُ حَوْلِي مِنَ الْقَطَاةِ أَمْراً عَظِيماً قَدْ نَشَرَتْ مِنْ أَجْنِحَتِهَا حَوْلِي، وَرَأَيْتُ تَابِعَ شَعِيرَةَ الْأَسَدِيَّةَ قَدْ مَرَّتْ وَهِيَ تَقُولُ: آمِنَةُ مَا لَقِيَتِ الْكُهَّانُ وَالْأَصْنَامُ مِنْ وَلَدِكِ، وَرَأَيْتُ رَجُلاً شَابًّا مِنْ أَتَمِّ النَّاسِ طُولاً وَأَشَدِّهِمْ بَيَاضاً وَأَحْسَنِهِمْ ثِيَاباً مَا ظَنَنْتُهُ

ص: 260


1- أبو صالح الذي يروي عن ابن عبَّاس اسمه ميزان، بصري، وثَّقه ابن معين، لكن لم أظفر علىٰ سعيد في كُتُب الرجال، وكذا راويه قمَّار أو قصَّار، والسند كما ترىٰ عامّي مجهول مقطوع.
2- الجلبة: اختلاط الأصوات.
3- في بعض النُّسَخ: (شعلة نار).

إِلَّا عَبْدَ المُطَّلِبِ قَدْ دَنَا مِنِّي، فَأَخَذَ المَوْلُودَ، فَتَفَلَ فِي فِيهِ، وَمَعَهُ طَسْتٌ مِنْ ذَهَبٍ مَضْرُوبٍ بِالزُّمُرُّدِ، وَمُشْطٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَشَقَّ بَطْنَهُ شَقًّا، ثُمَّ أَخْرَجَ قَلْبَهُ فَشَقَّهُ فَأَخْرَجَ مِنْهُ نُكْتَةً سَوْدَاءَ فَرَمَىٰ بِهَا، ثُمَّ أَخْرَجَ صُرَّةً مِنْ حَرِيرَةٍ خَضْرَاءَ فَفَتَحَهَا فَإِذَا فِيهَا كَالذَّرِيرَةِ الْبَيْضَاءِ فَحَشَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُ إِلَىٰ مَا كَانَ، وَمَسَحَ عَلَىٰ بَطْنِهِ وَاسْتَنْطَقَهُ فَنَطَقَ، فَلَمْ أَفْهَمْ مَا قَالَ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: فِي أَمَانِ اللهِ وَحِفْظِهِ وَكِلَاءَتِهِ، وَقَدْ حَشَوْتُ قَلْبَكَ إِيمَاناً وَعِلْماً وَحِلْماً وَيَقِيناً وَعَقْلاً وَحُكْماً، فَأَنْتَ خَيْرُ الْبَشَرِ، طُوبَىٰ لِمَنِاتَّبَعَكَ، وَوَيْلٌ لِمَنْ تَخَلَّفَ عَنْكَ، ثُمَّ أَخْرَجَ صُرَّةً أُخْرَىٰ مِنْ حَرِيرَةٍ بَيْضَاءَ فَفَتَحَهَا فَإِذَا فِيهَا خَاتَمٌ، فَضَرَبَ بِهِ عَلَىٰ كَتِفَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَرَنِي رَبِّي أَنْ أَنْفُخَ فِيكَ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ، فَنَفَخَ فِيهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصاً، وَقَالَ: هَذَا أَمَانُكَ مِنْ آفَاتِ الدُّنْيَا، فَهَذَا مَا رَأَيْتُ يَا عَبَّاسُ بِعَيْنِي. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: وَأَنَا يَوْمَئِذٍ أَقْرَأُ، فَكَشَفْتُ عَنْ ثَوْبِهِ فَإِذَا خَاتَمُ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَلَمْ أَزَلْ أَكْتُمُ شَأْنَهُ وَنَسِيتُ الْحَدِيثَ فَلَمْ أَذْكُرْهُ إِلَىٰ يَوْمِ إِسْلَامِي حَتَّىٰ ذَكَّرَنِي رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله)(1)(2) .

ص: 261


1- في بعض النُّسَخ هنا حديث كعب، وهو موجود في الأمالي، ولا حاجة إلىٰ ذكره بعد ما لم يكن في أكثر النُّسَخ.
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 335 - 337/ ح 392/2)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1067 - 1069/ ح 4)، والسيوطي في كفاية الطالب (ج 1/ ص 48 و49).

ص: 262

* * *

الباب الثالث عشر

في خبر سيف بن ذي يزن

ص: 263

ص: 264

وكان سيف بن ذي يزن عارفاً بأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وقد بشَّر به عبد المطَّلب لمَّا وفد عليه .

[1/34] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي مُحَمَّدُ ابْنُ أَبِي الْقَاسِمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْكُوفِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُكَيْمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ بَكَّارٍ الْعَبْسِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ الْبُوفَكِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَزْهَرَ بِهَرَاةَ(1)، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو ابْنُ بَكْرٍ(2)، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا ظَفِرَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ بِالْحَبَشَةِ وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْلِدِ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله) بِسَنَتَيْنِ أَتَاهُ وَفْدُ الْعَرَبِ وَأَشْرَافُهَا وَشُعَرَاؤُهَا بِالتَّهْنِئَةِ وَتَمْدَحُهُ وَتَذْكُرُ مَا كَانَ مِنْ بَلَائِهِ وَطَلَبِهِ بِثَأْرِ قَوْمِهِ، فَأَتَاهُ وَفْدٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَمَعَهُمْ عَبْدُ المُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ وَأُمَيَّةُابْنُ عَبْدِ شَمْسٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جُذْعَانَ وَأَسَدُ بْنُ خُوَيْلِدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّىٰ وَوَهْبُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ فِي أُنَاسٍ مِنْ وُجُوهِ قُرَيْشٍ، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ صَنْعَاءَ، فَاسْتَأْذَنُوا، فَإِذَا هُوَ فِي رَأْسِ قَصْرٍ يُقَالُ لَهُ: غُمْدَانُ، وهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ :

ص: 265


1- هو الأزهري اللغوي الشافعي المترجَم في الوافي بالوفيات (ج 2/ ص 34). وأمَّا راويه فلم أجده فيما عندي من كُتُب التراجم. وبوفك قرية من قرىٰ نيسابور. وفي بعض النُّسَخ: (محمّد بن عليِّ بن حاتم البرمكي)، وفي بعضها: (النوفلي). ثمّ اعلم أنَّ أكثر رجال السندين مجاهيل أو ضعفاء.
2- متروك كما في تقريب التهذيب (ج 1/ ص 730/ الرقم 5009). وفي بعض النُّسَخ: (بكير)، وهو تصحيف.

اشْرَبْ هَنِيئاً عَلَيْكَ التَّاجُ مُرْتَفِعاً *** فِي رَأْسِ غُمْدَانَ دَاراً مِنْكَ مِحْلَالاً

فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْآذِنُ فَأَخْبَرَهُ بِمَكَانِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ دَنَا عَبْدُ المُطَّلِبِ مِنْهُ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْكَلَامِ، فَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ بَيْنَ يَدَيِ المُلُوكِ فَقَدْ أَذِنَّا لَكَ، قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ المُطَّلِبِ: إِنَّ اللهَ قَدْ أَحَلَّكَ أَيُّهَا المَلِكُ مَحَلًّا رَفِيعاً صَعْباً مَنِيعاً شَامِخاً بَاذِخاً، وَأَنْبَتَكَ مَنْبِتاً طَابَتْ أَرُومَتُهُ، وَعَذُبَتْ جُرْثُومَتُهُ(1)، وَثَبَتَ أَصْلُهُ، وَبَسَقَ فَرْعُهُ(2) فِي أَكْرَمِ مَوْطِنٍ وَأَطْيَبِ [مَوْضِعٍ وَأَحْسَنِ] مَعْدِنٍ، وَأَنْتَ أَبَيْتَ اللَّعْنَ(3)، مَلِكَ الْعَرَبِ وَرَبِيعَهَا الَّذِي تُخْصِبُ بِهِ. وَأَنْتَ أَيُّهَا المَلِكُ رَأْسُ الْعَرَبِ الَّذِي لَهُ تَنْقَادُ، وَعَمُودُهَا الَّذِي عَلَيْهِ الْعِمَادُ، وَمَعْقِلُهَا الَّذِي يَلْجَأُ إِلَيْهِ الْعِبَادُ، سَلَفُكَ خَيْرُ سَلَفٍ، وَأَنْتَ لَنَا مِنْهُمْ خَيْرُ خَلَفٍ، فَلَنْ يَخْمُلَ مَنْ أَنْتَ سَلَفُهُ، وَلَنْ يَهْلِكَ مَنْ أَنْتَ خَلَفُهُ، نَحْنُ أَيُّهَا المَلِكُ أَهْلُ حَرَمِ اللهِ وَسَدَنَةُ بَيْتِهِ أَشْخَصَنَا إِلَيْكَ الَّذِي أَبْهَجَنَا مِنْ كَشْفِ الْكَرْبِ الَّذِي فَدَحَنَا(4)، فَنَحْنُ وَفْدُ التَّهْنِئَةِ لَا وَفْدُ المَرْزِئَةِ(5).قَالَ: وَأَيُّهُمْ أَنْتَ أَيُّهَا المُتَكَلِّمُ؟ قَالَ: أَنَا عَبْدُ المُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ، قَالَ: ابْنُ أُخْتِنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ادْنُ، فَدَنَا مِنْهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَىٰ الْقَوْمِ وَعَلَيْهِ فَقَالَ: مَرْحَباً وَأَهْلاً، وَنَاقَةً وَرَحْلاً، وَمُسْتَنَاخاً سَهْلاً، وَمَلِكاً وَرَبْحَلاً(6)، قَدْ سَمِعَ المَلِكُ

ص: 266


1- الباذخ: الشامخ. والأرومة: الأصل. والجرثومة بمعناها.
2- الباسق: المرتفع، وبسق النخل: طال.
3- قال الجوهري: قولهم في تحيَّة الملوك في الجاهليَّة: أبيت اللعن، قال ابن السكِّيت: أي أبيت أنْ تأتي من الأُمور ما تُلعَن عليه. (الصحاح: ج 6/ ص 2260/ مادَّة أبا).
4- البهج: السرور. وفدحنا: أي أثقلنا وبهظنا.
5- المرزئة: المصيبة العظيمة.
6- في أكثر النُّسَخ وكنز الفوائد للكراجكي بدون الواو. لكن في بحار الأنوار: (وربحلاً)، وقال في بيانه: (في النهاية: الربحل - بكسر الراء وفتح الباء الموحَّدة -: الواسع العطاء). وفى بعض النُّسَخ: (ونجلاً)، والنجل: النسل.

مَقَالَتَكُمْ، وَعَرَفَ قَرَابَتَكُمْ، وَقَبِلَ وَسِيلَتَكُمْ، فَأَنْتُمْ أَهْلُ اللَّيْلِ وَأَهْلُ النَّهَارِ، وَلَكُمُ الْكَرَامَةُ مَا أَقَمْتُمْ، وَالْحَبَاءُ إِذَا ظَعَنْتُمْ(1).

قَالَ: ثُمَّ أُنْهِضُوا إِلَىٰ دَارِ الضِّيَافَةِ وَالْوُفُودِ، فَأَقَامُوا شَهْراً لَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ وَلَا يَأْذَنُ لَهُمْ بِالْاِنْصِرَافِ، ثُمَّ انْتَبَهَ لَهُمْ انْتِبَاهَةً(2)، فَأَرْسَلَ إِلَىٰ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَأَدْنَىٰ مَجْلِسَهُ وَأَخْلَاهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ المُطَّلِبِ، إِنِّي مُفَوِّضٌ إِلَيْكَ(3) مِنْ سِرِّ عِلْمِي أَمْراً مَا لَوْ كَانَ غَيْرُكَ لَمْ أَبُحْ لَهُ بِهِ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُكَ مَعْدِنَهُ، فَأُطْلِعُكَ طِلْعَةً(4)، فَلْيَكُنْ عِنْدَكَ مَطْوِيًّا حَتَّىٰ يَأْذَنَ اللهُ فِيهِ، فَإِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ، إِنِّي أَجِدُ فِي الْكِتَابِ المَكْنُونِ وَالْعِلْمِ المَخْزُونِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ لِأَنْفُسِنَا وَاحْتَجَنَّا دُونَ غَيْرِنَا خَبَراً عَظِيماً وَخَطَراً جَسِيماً، فِيهِ شَرَفُ الْحَيَاةِ وَفَضِيلَةُ الْوَفَاةِ، لِلنَّاسِ عَامَّةً، وَلِرَهْطِكَ كَافَّةً، وَلَكَ خَاصَّةً، فَقَالَ عَبْدُ المُطَّلِبِ: مِثْلُكَ أَيُّهَا المَلِكُ مَنْ سَرَّ وَبَرَّ، فَمَا هُوَ فِدَاكَ أَهْلُ الْوَبَرِ زُمَراً بَعْدَ زُمَرٍ؟ فَقَالَ: إِذَا وُلِدَ بِتِهَامَةَ غُلَامٌ بَيْنَ كَتِفَيْهِ شَامَةٌ، كَانَتْ لَهُ الْإِمَامَةُ وَلَكُمْ بِهِالدِّعَامَةُ(5) إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ المُطَّلِبِ: أَبَيْتَ اللَّعْنَ، لَقَدْ أُبْتُ بِخَبَرٍ مَا آبَ بِمِثْلِهِ وَافِدٌ، وَلَوْ لَا هَيْبَةُ المَلِكِ وَإِجْلَالُهُ وَإِعْظَامُهُ لَسَأَلْتُهُ عَنْ مَسَارِّهِ إِيَّايَ مَا أَزْدَادُ(6) بِهِ سُرُوراً، فَقَالَ ابْنُ ذِي يَزَنَ: هَذَا حِينُهُ الَّذِي يُولَدُ فِيهِ أَوْ قَدْ وُلِدَ فِيهِ، اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، يَمُوتُ أَبُوهُ وَأُمُّهُ وَيَكْفُلُهُ جَدُّهُ وَعَمُّهُ، وقَدْ وُلِدَ سِرَاراً، وَاللهُ بَاعِثُهُ جِهَاراً، وَجَاعِلٌ لَهُ مِنَّا أَنْصَاراً، لِيُعِزَّ بِهِمْ أَوْلِيَاءَهُ، وَيُذِلَّ بِهِمْ أَعْدَاءَهُ، يَضْرِبُ

ص: 267


1- قوله: (وأنتم أهل الليل والنهار) أي نصحبكم ونأنس بكم فيهما. والحباء: العطاء. والظعن: الارتحال.
2- أي ذكرهم مفاجأة.
3- في بعض النُّسخ: (إنِّي مفض إليك)، وهو الأصوب.
4- في بعض النُّسَخ: (فأُطلعك عليه).
5- في بعض النُّسَخ: (الزعامة) أي الرئاسة. والدعامة: عماد البيت.
6- في بحار الأنوار وبعض نُسَخ الكتاب: (لسألته من أسراره ما أراد...) إلخ.

بِهِمُ النَّاسَ عَنْ عُرْضٍ(1)، وَيَسْتَفْتِحُ بِهِمْ كَرَائِمَ الْأَرْضِ، يَكْسِرُ الْأَوْثَانَ، وَيُخْمِدُ النِّيرَانَ، وَيَعْبُدُ الرَّحْمَنَ، وَيَدْحَرُ الشَّيْطَانَ، قَوْلُهُ فَصْلٌ، وَحُكْمُهُ عَدْلٌ، يَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ وَيَفْعَلُهُ، وَيَنْهَىٰ عَنِ المُنْكَرِ وَيُبْطِلُهُ.

فَقَالَ عَبْدُ المُطَّلِبِ: أَيُّهَا المَلِكُ عَزَّ جَدُّكَ، وَعَلَا كَعْبُكَ(2)، وَدَامَ مُلْكُكَ، وَطَالَ عُمُرُكَ، فَهَلِ المَلِكُ سَارِّي بِإِفْصَاحٍ فَقَدْ أَوْضَحَ لِي بَعْضَ الْإِيضَاحِ، فَقَالَ ابْنُ ذِي يَزَنَ: وَالْبَيْتِ ذِي الْحُجُبِ، وَالْعَلَامَاتِ عَلَىٰ النُّصُبِ(3)، إِنَّكَ يَا عَبْدَ المُطَّلِبِ لَجَدُّهُ غَيْرُ كَذِبٍ.قَالَ: فَخَرَّ عَبْدُ المُطَّلِبِ سَاجِداً، فَقَالَ لَهُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ ثَلِجَ صَدْرُكَ(4) وَعَلَا أَمْرُكَ، فَهَلْ أَحْسَسْتَ شَيْئاً مِمَّا ذَكَرْتُهُ؟ فَقَالَ: كَانَ لِي ابْنٌ وَكُنْتُ بِهِ مُعْجَباً وَعَلَيْهِ رَفِيقاً، فَزَوَّجْتُهُ بِكَرِيمَةٍ مِنْ كَرَائِمِ قَوْمِي اسْمُهَا آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ، فَجَاءَتْ بِغُلَامٍ سَمَّيْتُهُ مُحَمَّداً، مَاتَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ وَكَفَلْتُهُ أَنَا وَعَمُّهُ.

فَقَالَ ابْنُ ذِي يَزَنَ: إِنَّ الَّذِي قُلْتُ لَكَ كَمَا قُلْتُ لَكَ، فَاحْتَفِظْ بِابْنِكَ وَاحْذَرْ عَلَيْهِ الْيَهُودَ، فَإِنَّهُمْ لَهُ أَعْدَاءٌ، وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُمْ عَلَيْهِ سَبِيلاً، واطْوِ مَا ذَكَرْتُ لَكَ دُونَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطِ الَّذِينَ مَعَكَ، فَإِنِّي لَسْتُ آمَنُ أَنْ تَدْخُلَهُمُ النَّفَاسَةُ مِنْ أَنْ

ص: 268


1- العُرض - بضمِّ العين المهملة والضاد المعجمة بينهما راء مهملة -، قال في القاموس المحيط (ج 2/ ص 335): (يضربون الناس عن عُرض: لا يبالون من ضربوا).
2- قال الجزري: (في حديث قيلة: والله لا يزال كعبك عالياً، هو دعاء لها بالشرف والعلوِّ، والأصل فيه: كعب القناة...، وكلُّ شيء علا وارتفع فهو كعب. ومنه سُمّيت الكعبة للبيت الحرام، وقيل: سُمّيت لتكعيبها أي تربيعها) (النهاية: ج 4/ ص 179). والمعنىٰ: لا تزال كنت شريفاً مرتفعاً علىٰ من يعاديك. والجدُّ: البخت والنصيب.
3- في بعض النُّسَخ: (علىٰ البيت). والنُّصُب فُسِّر بحجارة كانوا يذبحون عليها للأصنام، ويمكن أنْ يكون المراد أنصاب الحرم.
4- في النهاية (ج 1/ ص 219): (ثلجت نفسي بالأمر...: إذا اطمأنَّت إليه وسكنت وثبتت فيها ووثقت به. ومنه حديث ابن ذي يزن: وثلج صدرك).

تَكُونَ لَهُ الرِّئَاسَةُ، فَيَطْلُبُونَ لَهُ الْغَوَائِلَ(1)، وَيَنْصِبُونَ لَهُ الْحَبَائِلَ، وَهُمْ فَاعِلُونَ أَوْ أَبْنَاؤُهُمْ، وَلَوْ لَا عِلْمِي بِأَنَّ المَوْتَ مُجْتَاحِي(2) قَبْلَ مَبْعَثِهِ لَسِرْتُ بِخَيْلي وَرَجِلِي حَتَّىٰ صِرْتُ بِيَثْرِبَ دَارِ مُلْكِهِ نُصْرَةً لَهُ، لَكِنِّي أَجِدُ فِي الْكِتَابِ النَّاطِقِ وَالْعِلْمِ السَّابِقِ أَنَّ يَثْرِبَ دَارُ مُلْكِهِ، وَبِهَا اسْتِحْكَامُ أَمْرِهِ وَأَهْلُ نُصْرَتِهِ وَمَوْضِعُ قَبْرِهِ، وَلَوْ لَا أَنِّي أَخَافُ فِيهِ الْآفَاتِ وَأَحْذَرُ عَلَيْهِ الْعَاهَاتِ لَأَعْلَنْتُ عَلَىٰ حَدَاثَةِ سِنِّهِ أَمْرَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَلَأُوطِئَنَّ أَسْنَانَ الْعَرَبِ عَقِبَهُ(3)، وَلَكِنِّي صَارِفٌ إِلَيْكَ عَنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ مِنِّي بِمَنْ مَعَكَ.قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنَ الْقَوْمِ بِعَشَرَةِ أَعْبُدٍ وَعَشْرِ إِمَاءٍ وَحُلَّتَيْنِ مِنَ الْبُرُودِ، وَمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَخَمْسَةِ أَرْطَالِ ذَهَبٍ وَعَشَرَةِ أَرْطَالِ فِضَّةٍ وَكَرِشٍ مَمْلُوءَةٍ عَنْبَراً.

قَالَ: وَأَمَرَ لِعَبْدِ المُطَّلِبِ بِعَشَرَةِ أَضْعَافِ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِذَا حَالَ الْحَوْلُ فَائْتِنِي، فَمَاتَ ابْنُ ذِي يَزَنَ قَبْلَ أَنْ يَحُولَ الْحَوْلُ.

قَالَ: فَكَانَ عَبْدُ المُطَّلِبِ كَثِيراً مَا يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لَا يَغْبِطُنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ بِجَزِيلِ عَطَاءِ المَلِكِ وَإِنْ كَثُرَ فَإِنَّهُ إِلَىٰ نَفَادٍ، وَلَكِنْ يَغْبِطُنِي بِمَا يَبْقَىٰ لِي وَلِعَقِبِي مِنْ بَعْدِي ذِكْرُهُ وَفَخْرُهُ وَشَرَفُهُ، وَإِذَا قِيلَ مَتَىٰ ذَلِكَ؟ قَالَ: سَتَعْلَمُنَّ نَبَأَ مَا أَقُولُ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ.

وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ يَذْكُرُ مَسِيرَهُمْ إِلَىٰ ابْنِ ذِي يَزَنَ:

ص: 269


1- المراد بالنفاسة: الحسد، وفى الأصل بمعنىٰ البخل والاستبداد بالشيء والرغبة فيه. والغوائل جمع الغائلة وهي الشرُّ. والحبائل: المصائد.
2- الاجتياح: الإهلاك والاستيصال.
3- كذا، وفى النهاية (ج 2/ ص 413): (في حديث ابن ذي يزن: لأُوطئنَّ أسنان العرب كعبه، يريد ذوي أسنانهم وهم الأكابر والأشراف). وقال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) بعد ذكره: (أي لرفعته علىٰ أشرافهم وجملتهم موضع قدمه) (بحار الأنوار: ج 15/ ص 193).

جَلَبْنَا الضِّحَّ تَحْمِلُهُ المَطَايَا *** عَلَىٰ أَكْوَارِ أَجْمَالٍ وَنُوقِ (1)

مُغَلْغَلَةً مَغَالِقُهَا تُغَالَىٰ (2) *** إِلَىٰ صَنْعَاءَ مِنْ فَجٍّ عَمِيقِ

يَؤُمُّ بِنَا ابْنُ ذِي يَزَنَ ويَهْدِي (3) *** ذَوَاتُ بُطُونِهَا أُمَّ الطَّرِيقِ (4)

وَتُزْجِي مِنْ مَخَائِلِهِ بُرُوقاً *** مُوَاصَلَةَ الْوَمِيضِ إِلَىٰ بُرُوقِ (5)

فَلَمَّا وَافَقَتْ صَنْعَاءَ صَارَتْ *** بِدَارِ المُلْكِ وَالْحَسَبِ الْعَرِيقِ (6)

إِلَىٰ مَلِكٍ يَدُرُّ لَنَا الْعَطَايَا *** بِحُسْنِ بَشَاشَةِ الْوَجْهِ الطَّلِيقِ (7)

* * *

ص: 270


1- قال الجزري: (في حديث أبي خيثمة: يكون رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الضحِّ والريح...، وذكره الهروي فقال: أراد كثرة الخيل والجيش، يقال: جاء فلان بالضحِّ والريح، أي بما طلعت عليه الشمس. وهبَّت عليه الريح. يعنون المال الكثير) (النهاية: ج 3/ ص 75). وقال: (الأكوار جمع كور - بالضمِّ -، وهو رحل الناقة بأداته) (النهاية: ج 4/ ص 208).
2- المغلغلة - بفتح الغينين المعجمتين -: الرسالة المحمولة من بلد إلى بلد. و- بكسر الثانية -: المسرعة من الغلغلة: سرعة السير. وقوله: (تُغالىٰ) من الغلوِّ. وفى أكثر النُّسَخ بالعين المهملة، وفي بحار الأنوار أيضاً، أي تتصاعد وتذهب.
3- في بعض النُّسَخ وأكثر الروايات: (وتغري) أي تقطع.
4- أُمُّ الطريق: معظمه.
5- الإزجاء: السوق والدفع. والمخائل: جمع المخيلة وهي السحابة التي تحسبها ماطرة. والوميض: لمعان البرق.
6- أعرق الرجل أي صار عريقاً، وهو الذي له عرق في الكرم. (الصحاح للجوهري: ج 4/ ص 1524).
7- راجع: أخبار مكَّة للأزرقي (ج 1/ ص 149 - 154)، والعقد الفريد (ج 1/ ص 289 - 293)، والأغاني (ج 17/ ص 198 - 201)، وكنز الفوائد (ص 82 - 84)، وأعلام النبوَّة للماوردي (ص 176 - 179)، ودلائل النبوَّة للبيهقي (ج 2/ ص 9 - 14)، وتاريخ مدينة دمشق (ج 3/ ص 445 - 450)، وبحار الأنوار (ج 15/ ص 186 - 191/ ح 11).

الباب الرابع عشر

في خبر بحيرى الراهب

ص: 271

ص: 272

وكان بحيرىٰ الراهب(1) ممَّن قد عرف النبيَّ (صلی الله علیه و آله) بصفته ونعته ونسبه واسمه قبل ظهوره بالنبوَّة، وكان من المنتظرين لخروجه .

[1/35] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَطَّانُ وَعَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيُّ(2)، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ بْنِ زَكَرِيَّا الْقَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الْهَيْثَمِ(3)، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، عَنْ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: خَرَجْتُ إِلَىٰ الشَّامِ تَاجِراً سَنَةَ ثَمَانٍ مِنْ مَوْلِدِ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله)، وَكَانَ فِي أَشَدِّ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَرِّ، فَلَمَّا أَجْمَعْتُ عَلَىٰ السَّيْرِ قَالَ لِي رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي: مَا تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ بِمُحَمَّدٍ وَعَلَىٰ مَنْ تُخَلِّفُهُ؟ فَقُلْتُ: لَا أُرِيدُ أَنْ أُخَلِّفَهُ عَلَىٰ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، أُرِيدُ أَنْ يَكُونَ مَعِي، فَقِيلَ: غُلَامٌ صَغِيرٌ فِي حَرٍّ مِثْلِ هَذَا تُخْرِجُهُ مَعَكَ؟ فَقُلْتُ: وَاللهِ لَا يُفَارِقُنِي حَيْثُمَاتَوَجَّهْتُ أَبَداً، فَإِنِّي لَأُوَطِّئُ لَهُ الرَّحْلَ، فَذَهَبْتُ فَحَشَوْتُ لَهُ حَشِيَّةً [كِسَاءً وَكَتَّاناً(4)] وكُنَّا رُكْبَاناً كَثِيراً، فَكَانَ وَاللهِ الْبَعِيرُ الَّذِي عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ أَمَامِي لَا يُفَارِقُنِي، وَكَانَ يَسْبِقُ

ص: 273


1- بحيرىٰ - بفتح الموحَّدة وكسر الحاء -. كذا ضبطه الدياربكري في تاريخ الخميس (ج 1/ ص 257).
2- في بعض النُّسَخ: (الشامي)، ولعلَّه السناني المكتِّب.
3- مجهول، والظاهر الصواب: (هشيم) لما ذُكِرَ هو فيمن يروي عن محمّد بن السائب الكلبي كما في تهذيب التهذيب (ج 9/ ص 157)، لكن تقدَّمت وتأتي رواية عبد الله بن محمّد عن أبيه عن الهيثم بن عمرو. وأمَّا عبد الله بن محمد فيحتمل أنْ يكون هو ابن محمّد بن مروان السدِّي الأصغر المتَّهم بالكذب، والعلم عند الله.
4- في بعض النُّسَخ: (ريشاً وكتَّاناً)، ولعلَّه هو الصواب.

الرَّكْبَ كُلَّهُمْ، فَكَانَ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ جَاءَتْ سَحَابَةٌ بَيْضَاءُ مِثْلَ قِطْعَةِ ثَلْجٍ فَتُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَتَقِفُ عَلَىٰ رَأْسِهِ لَا تُفَارِقُهُ، وَكَانَتْ رُبَّمَا أَمْطَرَتْ عَلَيْنَا السَّحَابَةُ بِأَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ، وَهِيَ تَسِيرُ مَعَنَا، وَضَاقَ المَاءُ بِنَا فِي طَرِيقِنَا حَتَّىٰ كُنَّا لَا نُصِيبُ قِرْبَةً إِلَّا بِدِينَارَيْنِ، وَكُنَّا حَيْثُ مَا نَزَلْنَا تَمْتَلِئُ الْحِيَاضُ وَيَكْثُرُ المَاءُ وَتَخْضَرُّ الْأَرْضُ، فَكُنَّا فِي كُلِّ خِصْبٍ وَطِيبٍ مِنَ الْخَيْرِ، وَكَانَ مَعَنَا قَوْمٌ قَدْ وَقَفَتْ جِمَالُهُمْ، فَمَشَىٰ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) وَمَسَحَ يَدَهُ عَلَيْهَا فَسَارَتْ، فَلَمَّا قَرُبْنَا مِنْ بُصْرَىٰ الشَّامِ(1) إِذَا نَحْنُ بِصَوْمَعَةٍ قَدْ أَقْبَلَتْ تَمْشِي كَمَا تَمْشِي الدَّابَّةُ السَّرِيعَةُ حَتَّىٰ إِذَا قَرُبَتْ مِنَّا وَقَفَتْ وَإِذَا فِيهَا رَاهِبٌ، وَكَانَتِ السَّحَابَةُ لَا تُفَارِقُ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) سَاعَةً وَاحِدَةً، وَكَانَ الرَّاهِبُ لَا يُكَلِّمُ النَّاسَ وَلَا يَدْرِي مَا الرَّكْبُ وَلَا مَا فِيهِ مِنَ التِّجَارَةِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَىٰ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله) عَرَفَهُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ فَأَنْتَ أَنْتَ.

قَالَ: فَنَزَلْنَا تَحْتَ شَجَرَةٍ عَظِيمَةٍ قَرِيبَةٍ مِنَ الرَّاهِبِ قَلِيلَةِ الْأَغْصَانِ لَيْسَ لَهَا حَمْلٌ، وَكَانَتِ الرُّكْبَانُ تَنْزِلُ تَحْتَهَا، فَلَمَّا نَزَلَهَا رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) اهْتَزَّتِ الشَّجَرَةُ وَأَلْقَتْ أَغْصَانَهَا(2)عَلَىٰ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) وَحَمَلَتْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْفَاكِهَةِ فَاكِهَتَانِ لِلصَّيْفِ وَفَاكِهَةٌ لِلشِّتَاءِ، فَتَعَجَّبَ جَمِيعُ مَنْ مَعَنَا مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَىٰ بَحِيرَىٰ الرَّاهِبُ ذَلِكَ ذَهَبَ فَاتَّخَذَ لِرَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) طَعَاماً بِقَدْرِ مَا يَكْفِيهِ.

ص: 274


1- بُصرىٰ - بضمِّ الموحَّدة -: مدينة حوران، فُتِحَت صلحاً لخمس بقين من ربيع الأوَّل سنة ثلاث عشرة، وهي أوَّل مدينة فُتِحَت بالشام. وقد وردها رسول الله (صلی الله علیه و آله) مرَّتين كما في المواهب اللدنّيَّة (ج 1/ ص 114 و116).
2- في بعض نُسِخَ الحديث: (وتهصَّرت أغصان الشجرة علىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله)...) إلخ. وقال الجزري: (أصل الهصر أنْ تأخذ برأس العود فتثنيه إليك وتعطفه، ومنه الحديث: «إنَّهصلی الله علیه و آله كان مع أبي طالب فنزل تحت شجرة فتهصَّرت أغصان الشجرة» أي تهدَّلت عليه) (النهاية: ج 5/ ص 264).

ثُمَّ جَاءَ وَقَالَ: مَنْ يَتَوَلَّىٰ أَمْرَ هَذَا الْغُلَامِ؟ فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ تَكُونُ مِنْهُ؟ فَقُلْتُ: أَنَا عَمُّهُ، فَقَالَ: يَا هَذَا، إِنَّ لَهُ أَعْمَام، فَأَيُّ الْأَعْمَامِ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: أَنَا أَخُو أَبِيهِ مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ هُوَ، وَإِلَّا فَلَسْتُ بَحِيرَىٰ، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا هَذَا، تَأْذَنُ لِي أَنْ أُقَرِّبَ هَذَا الطَّعَامَ مِنْهُ لِيَأْكُلَهُ؟ فَقُلْتُ لَهُ: قَرِّبْهُ إِلَيْهِ، وَرَأَيْتُهُ كَارِهاً لِذَلِكَ، وَالْتَفَتُّ إِلَىٰ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله)، فَقُلْتُ: يَا بُنَيَّ، رَجُلٌ أَحَبَّ أَنْ يُكْرِمَكَ فَكُلْ، فَقَالَ: هُوَ لِي دُونَ أَصْحَابِي؟ فَقَالَ بَحِيرَىٰ: نَعَمْ هُوَ لَكَ خَاصَّةً، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله): فَإِنِّي لَا آكُلُ دُونَ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ بَحِيرَىٰ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدِي أَكْثَرُ مِنْ هَذَا، فَقَالَ: أَفَتَأْذَنُ يَا بَحِيرَىٰ إِلَىٰ أَنْ يَأْكُلُوا مَعِي؟ فَقَالَ: بَلَىٰ، فَقَالَ: كُلُوا بِسْمِ اللهِ، فَأَكَلَ وَأَكَلْنَا مَعَهُ، فَوَاللهِ لَقَدْ كُنَّا مِائَةً وَسَبْعِينَ رَجُلاً وَأَكَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا حَتَّىٰ شَبِعَ وَتَجَشَّأَ، وَبَحِيرَىٰ قَائِمٌ عَلَىٰ رَأْسِ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) يَذُبُّ عَنْهُ وَيَتَعَجَّبُ مِنْ كَثْرَةِ الرِّجَالِ وَقِلَّةِ الطَّعَامِ، وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ يُقَبِّلُ رَأْسَهُ وَيَافُوخَهُ، وَيَقُولُ: هُوَ هُوَ وَرَبِّ المَسِيحِ، وَالنَّاسُ لَا يَفْقَهُونَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الرَّكْبِ: إِنَّ لَكَ لَشَأْناً، قَدْ كُنَّا نَمُرُّ بِكَ قَبْلَ الْيَوْمِ فَلَا تَفْعَلُ بِنَا هَذَا الْبِرَّ، فَقَالَ بَحِيرَىٰ: وَاللهِ إِنَّ لِي لَشَأْناً وَشَأْناً، وَإِنِّي لَأَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَعْلَمُ مَا لَاتَعْلَمُونَ، وَإِنَّ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ لَغُلَاماً لَوْ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْهُ مَا أَعْلَمُ لَحَمَلْتُمُوهُ عَلَىٰ أَعْنَاقِكُمْ حَتَّىٰ تَرُدُّوهُ إِلَىٰ وَطَنِهِ، وَاللهِ مَا أَكْرَمْتُكُمْ إِلَّا لَهُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ لَهُ - وَقَدْ أَقْبَلَ - نُوراً أَضَاءَ لَهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ رِجَالاً فِي أَيْدِيهِمْ مَرَاوِحُ الْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ يُرَوِّحُونَهُ، وَآخَرِينَ يَنْثُرُونَ عَلَيْهِ أَنْوَاعَ الْفَوَاكِهِ، ثُمَّ هَذِهِ السَّحَابَةُ لَا تُفَارِقُهُ، ثُمَّ صَوْمَعَتِي مَشَتْ إِلَيْهِ كَمَا تَمْشِي الدَّابَّةُ عَلَىٰ رِجْلِهَا، ثُمَّ هَذِهِ الشَّجَرَةُ لَمْ تَزَلْ يَابِسَةً قَلِيلَةَ الْأَغْصَانِ وَلَقَدْ كَثُرَتْ أَغْصَانُهَا وَاهْتَزَّتْ وَحَمَلَتْ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْفَوَاكِهِ، فَاكِهَتَانِ لِلصَّيْفِ وَفَاكِهَةٌ لِلشِّتَاءِ، ثُمَّ هَذِهِ الْحِيَاضُ الَّتِي غَارَتْ وَذَهَبَ مَاؤُهَا أَيَّامَ

ص: 275

تَمَرُّجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ(1) بَعْدَ الْحَوَارِيِّينَ حِينَ وَرَدُوا عَلَيْهِمْ فَوَجَدْنَا فِي كِتَابِ شَمْعُونَ الصَّفَا أَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِمْ فَغَارَتْ وَذَهَبَ مَاؤُهَا، ثُمَّ قَالَ: مَتَىٰ مَا رَأَيْتُمْ قَدْ ظَهَرَ فِي هَذِهِ الْحِيَاضِ المَاءُ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ لِأَجْلِ نَبِيٍّ يَخْرُجُ فِي أَرْضِ تِهَامَةَ مُهَاجِراً إِلَىٰ المَدِينَةِ اسْمُهُ فِي قَوْمِهِ الْأَمِينُ وَفِي السَّمَاءِ أَحْمَدُ، وَهُوَ مِنْ عِتْرَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ لِصُلْبِهِ، فَوَاللهِ إِنَّهُ لَهُوَ.

ثُمَّ قَالَ بَحِيرَىٰ: يَا غُلَامُ، أَسْأَلُكَ عَنْ ثَلَاثِ خِصَالٍ بِحَقِّ اللَّاتِ وَالْعُزَّىٰ إِلَّا [مَا] أَخْبَرْتَنِيهَا، فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) عِنْدَ ذِكْرِ اللَّاتِ وَالْعُزَّىٰ، وَقَالَ: لَا تَسْأَلْنِي بِهِمَا، فَوَاللهِ مَا أَبْغَضْتُ شَيْئاً كَبُغْضِهِمَا، وَإِنَّمَا هُمَا صَنَمَانِ مِنْ حِجَارَةٍ لِقَوْمِي، فَقَالَ بَحِيرَىٰ: هَذِهِ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ قَالَ: فَبِاللهِ إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي، فَقَالَ: سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ فَإِنَّكَ قَدْ سَأَلْتَنِي بِإِلَهِي وَإِلَهِكَ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَقَالَ: أَسْأَلُكَ عَنْ نَوْمِكَ وَيَقَظَتِكَ، فَأَخْبَرَهُ عَنْ نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ وَأُمُورِهِ وَجَمِيعِ شَأْنِهِ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَا عِنْدَ بَحِيرَىٰ مِنْ صِفَتِهِالَّتِي عِنْدَهُ، فَانْكَبَّ عَلَيْهِ بَحِيرَىٰ، فَقَبَّلَ رِجْلَيْهِ وَقَالَ: يَا بُنَيَّ، مَا أَطْيَبَكَ وَأَطْيَبَ رِيحَكَ، يَا أَكْثَرَ النَّبِيِّينَ أَتْبَاعاً، يَا مَنْ بَهَاءُ نُورِ الدُّنْيَا مِنْ نُورِهِ، يَا مَنْ بِذِكْرِهِ تُعْمَرُ المَسَاجِدُ، كَأَنِّي بِكَ قَدْ قُدْتَ الْأَجْنَادَ وَالْخَيْلَ وَقَدْ تَبِعَكَ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ طَوْعاً وَكَرْهاً، وَكَأَنِّي بِاللَّاتِ وَالْعُزَّىٰ وَقَدْ كَسَرْتَهُمَا وَقَدْ صَارَ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ لَا يَمْلِكُهُ غَيْرُكَ تَضَعُ مَفَاتِيحَهُ حَيْثُ تُرِيدُ، كَمْ مِنْ بَطَلٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ تَصْرَعُهُ، مَعَكَ مَفَاتِيحُ الْجِنَانِ وَالنِّيرَانِ، مَعَكَ الذَّبْحُ الْأَكْبَرُ وَهَلَاكُ الْأَصْنَامِ، أَنْتَ الَّذِي لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّىٰ تَدْخُلَ المُلُوكُ كُلُّهَا فِي دِينِكَ صَاغِرَةً قَمِيئَةً(2)، فَلَمْ يَزَلْ يُقَبِّلُ يَدَيْهِ مَرَّةً وَرِجْلَيْهِ مَرَّةً وَيَقُولُ: لَئِنْ أَدْرَكْتُ زَمَانَكَ لَأَضْرِبَنَّ بَيْنَ يَدَيْكَ بِالسَّيْفِ ضَرْبَ الزَّنْدِ بِالزَّنْدِ(3)، أَنْتَ سَيِّدُ وُلْدِ آدَمَ، وَسَيِّدُ

ص: 276


1- المَرَج - بالتحريك -: الفساد والغلق والاضطراب.
2- أي ذليلة.
3- الزند: الذي يُقدَح به النار.

المُرْسَلِينَ، وَإِمَامُ المُتَّقِينَ، وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَاللهِ لَقَدْ ضَحِكَتِ الْأَرْضُ يَوْمَ وُلِدْتَ، فَهِيَ ضَاحِكَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَرَحاً بِكَ، وَاللهِ لَقَدْ بَكَتِ الْبِيَعُ وَالْأَصْنَامُ وَالشَّيَاطِينُ، فَهِيَ بَاكِيَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَنْتَ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَىٰ عِيسَىٰ، أَنْتَ المُقَدَّسُ المُطَهَّرُ مِنْ أَنْجَاسِ الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَىٰ أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ: مَا يَكُونُ هَذَا الْغُلَامُ مِنْكَ؟ فَإِنِّي أَرَاكَ لَا تُفَارِقُهُ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: هُوَ ابْنِي، فَقَالَ مَا هُوَ بِابْنِكَ، وَمَا يَنْبَغِي لِهَذَا الْغُلَامِ أَنْ يَكُونَ وَالِدُهُ الَّذِي وَلَدَهُ حَيًّا وَلَا أُمُّهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ ابْنُ أَخِي وَقَدْ مَاتَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ حَامِلَةٌ بِهِ، وَمَاتَتْ أُمُّهُ وَهُوَ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ، فَقَالَ: صَدَقْتَ هَكَذَا هُوَ، وَلَكِنْ أَرَىٰ لَكَ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَىٰ بَلَدِهِ عَنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَإِنَّهُ مَا بَقِيَ عَلَىٰ ظَهْرِ الْأَرْضِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ وَلَا صَاحِبُ كِتَابٍ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ بِوِلَادَةِ هَذَا الْغُلَامِ، وَلَئِنْ رَأَوْهُ وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا قَدْ عَرَفْتُ أَنَا مِنْهُ لَيَبْغِيَنَّهُ شَرًّا،وَأَكْثَرُ ذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَلِمَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ كَائِنٌ لِابْنِ أَخِيكَ هَذِهِ النُّبُوَّةُ وَالرِّسَالَةُ، وَيَأْتِيهِ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: كَلَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيُضَيِّعَهُ.

ثُمَّ خَرَجْنَا بِهِ إِلَىٰ الشَّامِ، فَلَمَّا قَرُبْنَا مِنَ الشَّامِ رَأَيْتُ وَاللهِ قُصُورَ الشَّامَاتِ كُلَّهَا قَدِ اهْتَزَّتْ وَعَلَا مِنْهَا نُورٌ أَعْظَمُ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطْنَا الشَّامَ مَا قَدَرْنَا أَنْ نَجُوزَ سُوقَ الشَّامِ مِنْ كَثْرَةِ مَا ازْدَحَمُوا النَّاسُ وَيَنْظُرُونَ إِلَىٰ وَجْهِ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، وَذَهَبَ الْخَبَرُ فِي جَمِيعِ الشَّامَاتِ حَتَّىٰ مَا بَقِيَ فِيهَا حِبْرٌ وَلَا رَاهِبٌ إِلَّا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ، فَجَاءَ حِبْرٌ عَظِيمٌ كَانَ اسْمُهُ نَسْطُورَا، فَجَلَسَ حِذَاهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَلَا يُكَلِّمُهُ بِشَيْءٍ حَتَّىٰ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةً، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ لَمْ يَصْبِرْ حَتَّىٰ قَامَ إِلَيْهِ فَدَارَ خَلْفَهُ كَأَنَّهُ يَلْتَمِسُ مِنْهُ شَيْئاً، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَاهِبُ، كَأَنَّكَ تُرِيدُ مِنْهُ شَيْئاً، فَقَالَ: أَجَلْ إِنِّي أُرِيدُ مِنْهُ شَيْئاً، مَا اسْمُهُ؟ قُلْتُ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، فَتَغَيَّرَ وَاللهِ لَوْنُهُ، ثُمَّ قَالَ: فَتَرَىٰ أَنْ تَأْمُرَهُ أَنْ يَكْشِفَ لِي عَنْ ظَهْرِهِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَكَشَفَ

ص: 277

عَنْ ظَهْرِهِ، فَلَمَّا رَأَىٰ الْخَاتَمَ انْكَبَّ عَلَيْهِ يُقَبِّلُهُ وَيَبْكِي، ثُمَّ قَالَ: يَا هَذَا، أَسْرِعْ بِرَدِّ هَذَا الْغُلَامِ إِلَىٰ مَوْضِعِهِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ، فَإِنَّكَ لَوْ تَدْرِي كَمْ عَدُوٍّ لَهُ فِي أَرْضِنَا لَمْ تَكُنْ بِالَّذِي تُقَدِّمُهُ مَعَكَ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَعَاهَدُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَيَحْمِلُ إِلَيْهِ الطَّعَامَ، فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْهَا أَتَاهُ بِقَمِيصٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالَ لِي: أَتَرَىٰ أَنْ يَلْبَسَ هَذَا الْقَمِيصَ لِيَذْكُرَنِي بِهِ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ، وَرَأَيْتُهُ كَارِهاً لِذَلِكَ، فَأَخَذْتُ أَنَا الْقَمِيصَ مَخَافَةَ أَنْ يَغْتَمَّ، وَقُلْتُ: أَنَا أَلْبَسُهُ، وَعَجَّلْتُ بِهِ حَتَّىٰ رَدَدْتُهُ إِلَىٰ مَكَّةَ، فَوَاللهِ مَا بَقِيَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ امْرَأَةٌ وَلَا كَهْلٌ وَلَا شَابٌّ وَلَا صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ إِلَّا اسْتَقْبَلُوهُ شَوْقاً إِلَيْهِ مَا خَلَا أَبُو جَهْلٍ (لَعَنَهُ اللهُ)، فَإِنَّهُ كَانَ فَاتِكاً مَاجِناً(1) قَدْثَمِلَ مِنَ السُّكْرِ(2).

[2/36] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي. وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ [مُحَمَّدِ بْنِ](3) عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ: لَمَّا فَارَقَهُ بَحِيرَىٰ بَكَىٰ بُكَاءً شَدِيداً، وَأَخَذَ يَقُولُ: يَا ابْنَ آمِنَةَ، كَأَنِّي بِكَ وَقَدْ رَمَتْكَ الْعَرَبُ بِوَتْرِهَا، وَقَدْ قَطَعَكَ الْأَقَارِبُ، وَلَوْ عَلِمُوا لَكُنْتَ لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَوْلَادِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ وَقَالَ: أَمَّا أَنْتَ يَا

ص: 278


1- الفاتك: الذي يرتكب ما دعت إليه النفس. والجري الشجاع. والماجن: الذي لا يبالي قولاً وفعلاً. والثمل: السكر، يقال: ثَمَل - كفَرَح -، والمراد هنا شدَّته، أو السكر - بالتحريك - وهو الخمر ونبيذ يُتَّخذ من التمر.
2- اعلم أنَّ هذه القصَّة مع ضعف سندها وانقطاعها واشتمالها علىٰ الغرائب التي كانت شأن الأساطير نقلها جمع من المؤرِّخين باختلافات في متنها وألفاظها، راجع: سيرة ابن هشام (ج 1/ ص 116 - 118)، والمواهب اللدنّيَّة (ج 1/ ص 114 - 116)، وتاريخ الطبري (ج 2/ ص 32 و33)، وتاريخ الخميس (ج 1/ ص 257 و258)، وغيرها.
3- ما بين المعقوفتين زائد من النُّسَّاخ، ولا يخفىٰ علىٰ من له معرفة بالرجال. والمراد بعبد الرحمن عبد الرحمن بن محمّد بن أبي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم. وبعبد الله عبد الله بن أبي بكر بن محمّد ابن عمرو بن حزم الأنصاري، كما يظهر من تهذيب التهذيب (ج 5/ ص 114/ الرقم 281، وج 6/ ص 237/ الرقم 522).

عَمُّ فَارْعَ فِيهِ قَرَابَتَكَ المَوْصُولَةَ، وَاحْتَفِظْ فِيهِ وَصِيَّةَ أَبِيكَ، فَإِنَّ قُرَيْشاً سَتَهْجُرُكَ فِيهِ فَلَا تُبَالِ، وَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ لَا تُؤْمِنُ بِهِ ظَاهِراً وَلَكِنْ سَتُؤْمِنُ بِهِ بَاطِناً، وَلَكِنْ سَيُؤْمِنُ بِهِ وَلَدٌ تَلِدُهُ، وَسَيَنْصُرُهُ نَصْراً عَزِيزاً، اسْمُهُ فِي السَّمَاوَاتِ الْبَطَلُ الْهَاصِرُ، وَ[فِي الْأَرْضِ] الشُّجَاعُ الْأَنْزَعُ(1)، مِنْهُ الْفَرْخَانِ المُسْتَشْهَدَانِ، وَهُوَ سَيِّدُ الْعَرَبِ وَرَئِيسُهَا وَذُو قَرْنَيْهَا، وَهُوَ فِي الْكُتُبِ أَعْرَفُ مِنْ أَصْحَابِ عِيسَىٰ (علیه السلام)، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَاللهِ قَدْ رَأَيْتُ كُلَّ الَّذِي وَصَفَهُ بَحِيرَىٰ وَأَكْثَرَ.

[3/37] حَدَّثَنَا أَبِي (رحمة الله)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ يَرْفَعُهُ، قَالَ: لَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) أَرَادَ أَبُو طَالِبٍ أَنْ يَخْرُجَ إِلَىٰ الشَّامِ فِي عِيرِ قُرَيْشٍ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) وَتَشَبَّثَ بِالزِّمَامِ، وَقَالَ: «يَا عَمِّ، عَلَىٰ مَنْ تُخَلِّفُنِي لَا عَلَىٰ أُمٍّ وَلَا عَلَىٰ أَبٍ»، وَقَدْ كَانَتْ أُمُّهُ تُوُفِّيَتْ، فَرَقَّ لَهُ أَبُو طَالِبٍ وَرَحِمَهُ وَأَخْرَجَهُ مَعَهُ، وَكَانُوا إِذَا سَارُوا تَسِيرُ إِلَىٰ رَأْسِ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ مِنَ الشَّمْسِ، فَمَرُّوا فِي طَرِيقِهِمْ بِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: بَحِيرَىٰ، فَلَمَّا رَأَىٰ الْغَمَامَةَ تَسِيرُ مَعَهُمْ نَزَلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ، وَاتَّخَذَ لِقُرَيْشٍ طَعَاماً، وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ يَسْأَلُهُمْ أَنْ يَأْتُوهُ، وَقَدْ كَانُوا نَزَلُوا تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ طَعَامِهِ، فَقَالُوا لَهُ: يَا بَحِيرَىٰ، وَاللهِ مَا كُنَّا نَعْهَدُ هَذَا مِنْكَ، قَالَ: قَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ تَأْتُونِي، فَأَتَوْهُ وَخَلَّفُوا رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) فِي الرَّحْلِ، فَنَظَرَ بَحِيرَىٰ إِلَىٰ الْغَمَامَةِ قَائِمَةً، فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ بَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدٌ لَمْ يَأْتِنِي؟ فَقَالُوا: مَا بَقِيَ مِنَّا إِلَّا غُلَامٌ حَدَثٌ خَلَّفْنَاهُ فِي الرَّحْلِ، فَقَالَ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ طَعَامِي أَحَدٌ مِنْكُمْ، فَبَعَثُوا إِلَىٰ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، فَلَمَّا أَقْبَلَ أَقْبَلَتِ الْغَمَامَةُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ بَحِيرَىٰ قَالَ: مَنْ هَذَا الْغُلَامُ؟ قَالُوا: ابْنُ هَذَا وَأَشَارُوا إِلَىٰ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لَهُ بَحِيرَىٰ: هَذَا ابْنُكَ؟ قَالَ أَبُو طَالِبٍ: هَذَا ابْنُ أَخِي، قَالَ: مَا فَعَلَ أَبُوهُ؟ قَالَ: تُوُفِّيَ، وَهُوَ حَمْلٌ، فَقَالَ بَحِيرَىٰ لِأَبِي

ص: 279


1- البطل: الشجاع. والهاصر: الأسد الشديد الذي يفترس ويكسر. والأنزع: الذي ينحسر شعر مقدَّم رأسه ممَّا فوق الجبين. وفي بعض النُّسَخ: (الأقرع)، والمراد: الأصلع.

طَالِبٍ: رُدَّ هَذَا الْغُلَامَ إِلَىٰ بِلَادِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ عَلِمَتْ بِهِ الْيَهُودُ مَا أَعْلَمُ مِنْهُ قَتَلُوهُ، فَإِنَّ لِهَذَا شَأْناً مِنَ الشَّأْنِ، هَذَا نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، هَذَا نَبِيُّ السَّيْفِ .

* * *

ص: 280

الباب الخامس عشر

ذكر ما حكاه خالد بن أسيد بن أبي العيص وطليق بن سفيان بن أُميَّة عن كبير الرهبان في طريق الشام من معرفته بأمر النبيِّ (صلی الله علیه و آله)

ص: 281

ص: 282

[1/38] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَطَّانُ وَعَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيُّ (رضی الله عنهما)، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَىٰ بْنِ زَكَرِيَّا الْقَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي الْهَيْثَمُ بْنُ عَمْرٍو المُزَنِيُّ (1)، عَنْ عَمِّهِ، عَنْ يَعْلَىٰ النَّسَّابَةِ، قَالَ: خَرَجَ خَالِدُ بْنُ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ، وَطَلِيقُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، تُجَّاراً إِلَىٰ الشَّامِ سَنَةَ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) فِيهَا، فَكَانَا مَعَهُ، وَكَانَا يَحْكِيَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَا فِي مَسِيرِهِ وَرُكُوبِهِ مِمَّا يَصْنَعُ الْوَحْشُ وَالطَّيْرُ، فَلَمَّا تَوَسَّطْنَا سُوقَ بُصْرَىٰ إِذَا نَحْنُ بِقَوْمٍ مِنَ الرُّهْبَانِ قَدْ جَاؤُوا مُتَغَيِّرِي الْأَلْوَانِ كَأَنَّ عَلَىٰ وُجُوهِهِمُ الزَّعْفَرَانَ تُرَىٰ مِنْهُمُ الرِّعْدَةُ، فَقَالُوا: نُحِبُّ أَنْ تَأْتُوا كَبِيرَنَا، فَإِنَّهُ هَاهُنَا قَرِيبٌ فِي الْكَنِيسَةِ الْعُظْمَىٰ، فَقُلْنَا: مَا لَنَا وَلَكُمْ؟ فَقَالُوا: لَيْسَ يَضُرُّكُمْ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، وَلَعَلَّنَا نُكْرِمُكُمْ، وَظَنُّوا أَنَّ وَاحِداً مِنَّا مُحَمَّدٌ، فَذَهَبْنَا مَعَهُمْ حَتَّىٰ دَخَلْنَا مَعَهُمُ الْكَنِيسَةَ الْعَظِيمَةَ الْبُنْيَانِ، فَإِذَا كَبِيرُهُمْ قَدْ تَوَسَّطَهُمْ وَحَوْلَهُ تَلَامِذَتُهُ، وَقَدْ نَشَرَ كِتَاباً بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَخَذَ يَنْظُرُ إِلَيْنَا مَرَّةً وَفِي الْكِتَابِ مَرَّةً، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا صَنَعْتُمْ شَيْئاً، لَمْ تَأْتُونِي بِالَّذِي أُرِيدُ، وَهُوَ الْآنَ هَاهُنَا.

ثُمَّ قَالَ لَنَا: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقُلْنَا: رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: مِنْ أَيِّ قُرَيْشٍ؟ فَقُلْنَا: مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، فَقَالَ لَنَا: مَعَكُمْ غَيْرُكُمْ؟ فَقُلْنَا: نَعَمْ شَابٌّ مِنْ بَنِيهَاشِمٍ نُسَمِّيهِ يَتِيمَ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَوَاللهِ لَقَدْ نَخَرَ نَخْرَةً (2) كَادَ أَنْ يُغْشَىٰ عَلَيْهِ، ثُمَّ وَثَبَ

ص: 283


1- تقدَّم الكلام فيه (ص 273)، فراجع.
2- نخر الإنسان: مدَّ الصوت والنفس في خياشيمه.

فَقَالَ: أَوْهِ أَوْهِ هَلَكَتِ النَّصْرَانِيَّةُ وَالمَسِيحُ، ثُمَّ قَامَ وَاتَّكَأَ عَلَىٰ صَلِيبٍ مِنْ صُلْبَانِهِ وَهُوَ مُفَكِّرٌ وَحَوْلَهُ ثَمَانُونَ رَجُلاً مِنَ الْبَطَارِقَةِ وَالتَّلَامِذَةِ، فَقَالَ لَنَا: فَيَخِفُّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُرُونِيهِ؟ فَقُلْنَا لَهُ: نَعَمْ، فَجَاءَ مَعَنَا، فَإِذَا نَحْنُ بِمُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) قَائِمٌ فِي سُوقِ بُصْرَىٰ، وَاللهِ لَكَأَنَّا لَمْ نَرَ وَجْهَهُ إِلَّا يَوْمَئِذٍ، كَأَنَّ هِلَالاً يَتَلَأْلَأُ مِنْ وَجْهِهِ، وَقَدْ رَبِحَ الْكَثِيرَ وَاشْتَرَىٰ الْكَثِيرَ، فَأَرَدْنَا أَنْ نَقُولَ لِلْقُسِّ: هُوَ هَذَا، فَإِذَا هُوَ قَدْ سَبَقَنَا، فَقَالَ: هُوَ هُوَ، قَدْ عَرَفْتُهُ وَالمَسِيحِ، فَدَنَا مِنْهُ وَقَبَّلَ رَأْسَهُ، وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ المُقَدَّسُ، ثُمَّ أَخَذَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ عَلَامَاتِهِ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله) يُخْبِرُهُ، فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ: لَئِنْ أَدْرَكْتُ زَمَانَكَ لَأُعْطِيَنَّ السَّيْفَ حَقَّهُ، ثُمَّ قَالَ لَنَا: أَتَعْلَمُونَ مَا مَعَهُ؟ مَعَهُ الْحَيَاةُ وَالمَوْتُ، مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَيِيَ طَوِيلاً، وَمَنْ زَاغَ عَنْهُ مَاتَ مَوْتاً لَا يَحْيَىٰ بَعْدَهُ أَبَداً، هُوَ هَذَا الَّذِي مَعَهُ الذَّبْحُ الْأَعْظَمُ (1)، ثُمَّ قَبَّلَ رَأْسَهُ وَرَجَعَ رَاجِعاً (2).

* * *

ص: 284


1- في بعض النُّسَخ: (الربح الأعظم).
2- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 15/ ص 202): (بيان: قوله: للقين: ألقين العبد، ولعلَّهم أرادوا أنْ يُغلِّطوه ويُكذِّبوه، فأرادوا أنْ يشيروا إلىٰ عبد أنَّه هو فعرفه قبل ذلك، وفي بعض النُّسَخ: للقسِّ، وهو الظاهر).

الباب السادس عشر

في خبر أبي المويهب الراهب

ص: 285

ص: 286

وكان أبو المويهب الراهب من العارفين بأمر النبيِّ (صلی الله علیه و آله) وبصفته، وبوصيِّه أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب (صلوات الله عليه).

[1/39] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَطَّانُ وَعَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيُّ (رضی الله عنهما)، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَىٰ بْنِ زَكَرِيَّا الْقَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ الدَّيْلَمِيُّ (1)، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَحِيرٍ الْفَقْعَسِيِّ (2)، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ آبَائِهِ، قَالُوا: خَرَجَ سَنَةً رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) وَعَبْدُ مَنَاةِ بْنُ كِنَانَةَ وَنَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ صَخْرِ بْنِ يَعْمُرِ بْنِ نُعْمَامَةِ بْنِ عَدِيٍّ تُجَّاراً إِلَىٰ الشَّامِ، فَلَقِيَهُمَا أَبُو المُوَيْهِبِ الرَّاهِبُ، فَقَالَ لَهُمَا: مَنْ أَنْتُمَا؟ قَالَا: نَحْنُ تُجَّارٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمَا: مِنْ أَيِّ قُرَيْشٍ؟ فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ لَهُمَا: هَلْ قَدِمَ مَعَكُمَا مِنْ قُرَيْشٍ غَيْرُكُمَا؟ قَالَا: نَعَمْ شَابٌّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، فَقَالَ أَبُو المُوَيْهِبِ: إِيَّاهُ وَاللهِ أَرَدْتُ، فَقَالَا: وَاللهِ مَا فِي قُرَيْشٍ أَخْمَلُ ذِكْراً مِنْهُ، إِنَّمَا يُسَمُّونَهُ يَتِيمَ قُرَيْشٍ، وَهُوَ أَجِيرٌ لِامْرَأَةٍ مِنَّا يُقَالُ لَهَا: خَدِيجَةُ، فَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ؟ فَأَخَذَ يُحَرِّكُ رَأْسَهُ وَيَقُولُ: هُوَ هُوَ، فَقَالَ لَهُمَا: تَدُلَّانِي عَلَيْهِ؟ فَقَالَا: تَرَكْنَاهُ فِي سُوقِ بُصْرَىٰ،فَبَيْنَمَا هُمْ فِي الْكَلَامِ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، فَقَالَ: هُوَ هَذَا، فَخَلَا بِهِ سَاعَةً يُنَاجِيهِ وَيُكَلِّمُهُ، ثُمَّ أَخَذَ يُقَبِّلُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَأَخْرَجَ شَيْئاً مِنْ كُمِّهِ لَا نَدْرِي مَا هُوَ وَرَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) يَأْبَىٰ

ص: 287


1- في بعض النُّسَخ: (قيس بن سعيد الديلمي)، وفي بعضها: (قيس بن سعد الديلي).
2- في بعض النُّسَخ: (عبد الله بن يحيىٰ الفقعسي)، وفي بعضها: (عبد الله بن بحير الثقفي). وفقعس أبو قبيلة من بني أسد. (الصحاح للجوهري: ج 3/ ص 959/ مادَّة فقعس).

أَنْ يَقْبَلَهُ، فَلَمَّا فَارَقَهُ قَالَ لَنَا: تَسْمَعَانِ مِنِّي هَذَا، وَاللهِ نَبِيُّ آخِرِ الزَّمَانِ، وَاللهِ سَيَخْرُجُ قَرِيبٍ فَيَدْعُو النَّاسَ إِلَىٰ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاتَّبِعُوهُ، ثُمَّ قَالَ: هَلْ وُلِدَ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَلَدٌ يُقَالُ لَهُ: عَلِيٌّ؟ فَقُلْنَا: لَا، قَالَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وُلِدَ أَوْ يُولَدُ فِي سَنَتِهِ هُوَ، أَوَّلُ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، نَعْرِفُهُ، وَإِنَّا لَنَجِدُ صِفَتَهُ عِنْدَنَا بِالْوَصِيَّةِ كَمَا نَجِدُ صِفَةَ مُحَمَّدٍ بِالنُّبُوَّةِ، وَإِنَّهُ سَيِّدُ الْعَرَبِ وَرَبَّانِيُّهَا وَذُو قَرْنَيْهَا، يُعْطِي السَّيْفَ حَقَّهُ، اسْمُهُ فِي المَلَإِ الْأَعْلَىٰ عَلِيٌّ، هُوَ أَعْلَىٰ الْخَلَائِقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ ذِكْراً، وَتُسَمِّيهِ المَلَائِكَةُ الْبَطَلَ الْأَزْهَرَ المُفَلِّجَ، لَا يَتَوَجَّهُ إِلَىٰ وَجْهٍ إِلَّا أَفْلَجَ وَظَفِرَ، وَاللهِ لَهُوَ أَعْرَفُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي السَّمَاءِ مِنَ الشَّمْسِ الطَّالِعَةِ (1).

* * *

ص: 288


1- رواه الراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1093 - 1095).

الباب السابع عشر

خبر سطيح الكاهن(1)

ص: 289


1- سطيح - كأمير - الكاهن الذئبي، من بنى ذئب، كان يتكهَّن في الجاهليَّة، سُمِّي بذلك لأنَّه كان إذا غضب قعد منبسطاً فيما زعموا. وقيل: سُمِّي بذلك لأنَّه لم يكن له بين مفاصله قضب تعمده، فكان أبداً منبسطاً منسطحاً علىٰ الأرض لا يقدر علىٰ قيام ولا قعود، ويقال: كان لا عظم له فيه سوىٰ رأسه. (راجع: لسان العرب: ج 2/ ص 483/ مادَّة سطح).

ص: 290

[1/40] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ رُزْمَةَ الْقَزْوِينِيُّ(1)، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ ابْنُ عَلِيِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَنْصُورٍ الطُّوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ المَوْصِلِيُّ الطَّائِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَيُّوبَ يَعْلَىٰ بْنُ عِمْرَانَ مِنْ وُلْدِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَخْزُومُ بْنُ هَانِئٍ(2) المَخْزُومِيُّ، عَنْ أَبِيهِ وَقَدْ أَتَتْ لَهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، قَالَ: لَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) ارْتَجَسَ إِيوَانُ كِسْرَىٰ، وَسَقَطَتْ مِنْهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ شرَافَةً، وَغَاضَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَهَ، وَخَمَدَتْ نَارُ فَارِسَ، وَلَمْ تَخْمُدْ قَبْلَ ذَلِكَ أَلْفَ سَنَةٍ(3)، وَرَأَىٰ المُوبَذَانُ(4) إِبِلاً صِعَاباً تَقُودُ خَيْلاً عِرَاباً قَدْ قَطَعَتِ الدِّجْلَةَ وَانْتَشَرَتْ فِي بِلَادِهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ كِسْرَىٰ هَالَهُ مَا رَأَىٰ، فَتَصَبَّرَ عَلَيْهَا تَشَجُّعاً، ثُمَّ رَأَىٰ أَنْ لَا يُسِرَّ ذَلِكَ عَنْ وُزَرَائِهِ، فَلَبِسَ تَاجَهُ وَقَعَدَ عَلَىٰ سَرِيرِهِ وَجَمَعَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا رَأَىٰ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ وَرَدَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ بِخُمُودِ نَارِ فَارِسَ، فَازْدَادَ غَمًّا إِلَىٰ غَمِّهِ، وَقَالَ المُوبَذَانُ: وَأَنَا أَصْلَحَ اللهُ المَلِكَ قَدْرَأَيْتُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، ثُمَّ قَصَّ عَلَيْهِ رُؤْيَاهُ فِي الْإِبِلِ وَالْخَيْلِ، فَقَالَ: أَيَّ شَيْءٍ يَكُونُ هَذَا يَا مُوبَذَانُ؟ - وَكَانَ أَعْلَمَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ -، فَقَالَ: حَادِثٌ يَكُونُ فِي نَاحِيَةِ الْعَرَبِ ،

ص: 291


1- ترجمه الرافعي في التدوين في أخبار قزوين (ج 2/ ص 235)، وقال: (أحمد بن محمّد بن رومة القزويني المعدَّل).
2- في لسان العرب (ج 2/ ص 483 و484/ مادَّة سطح)، قال: (روىٰ الأزهري بإسناده عن مخزوم ابن هانئ المخزومي، عن أبيه...)، وساق كما في المتن إلىٰ قوله: (إلىٰ زمن عثمان) في آخر الخبر.
3- في لسان العرب: (مائة عام).
4- في القاموس المحيط (ج 1/ ص 360): (المُوبذان - بضمِّ الميم وفتح الباء -: فقيه الفرس، وحاكم المجوس كالموبذ. والجمع الموابذة، واللهاء للعجمة).

فَكَتَبَ عِنْدَ ذَلِكَ: مِنْ كِسْرَىٰ مَلِكِ المُلُوكِ إِلَىٰ نُعْمَانِ بْنِ المُنْذِرِ، أَمَّا بَعْدُ فَوَجِّهْ إِلَيَّ بِرَجُلٍ عَالِمٍ بِمَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْهُ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ بِعَبْدِ المَسِيحِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَيَّانَ بْنِ نُفَيْلَةَ الْغَسَّانِيِّ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ قَالَ: عِنْدَكَ عِلْمُ مَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهُ؟ قَالَ: لِيَسْأَلْنِي المَلِكُ أَوْ لِيُخْبِرْنِي، فَإِنْ كَانَ عِنْدِي مِنْهُ عِلْمٌ وَإِلَّا أَخْبَرْتُهُ بِمَنْ يَعْلَمُهُ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا رَأَىٰ، فَقَالَ: عِلْمُ ذَلِكَ عِنْدَ خَالٍ لِي يَسْكُنُ بِمَشَارِفِ الشَّامِ(1) يُقَالُ لَهُ: سَطِيحٌ، قَالَ: فَأْتِهِ فَاسْأَلْهُ، وَأَخْبِرْنِي بِمَا يَرُدُّ عَلَيْكَ، فَخَرَجَ عَبْدُ المَسِيحِ حَتَّىٰ وَرَدَ عَلَىٰ سَطِيحٍ وَقَدْ أَشْرَفَ عَلَىٰ المَوْتِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَحَيَّاهُ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ سَطِيحٌ جَوَاباً، فَأَنْشَأَ عَبْدُ المَسِيحِ يَقُولُ:

أَصَمَّ أَمْ يَسْمَعُ غِطْرِيفُ الْيَمَنِ *** أَمْ فَازَ فَازْلَمَّ بِهِ شَأْوُ الْعَنَن(2)

يَا فَاصِلَ الْخُطَّةِ أَعْيَتْ مَنْ وَمَنْ *** وَكَاشِفَ الْكُرْبَةِ فِي الْوَجْهِ الْغَضَن(3)

أَتَاكَ شَيْخُ الْحَيِّ مِنْ آلِ سَنَنٍ *** وَأُمُّهُ مِنْ آلِ ذِئْبِ بْنِ حَجَن(4)

أَرْوَقُ ضَخْمِ النَّابِ صَرَّارُ الْأُذُنِ *** أَبْيَضُ فَضْفَاضُ الرِّدَاءِ وَالْبَدَن(5)

ص: 292


1- المشارف: القرىٰ التي تقرب من المُدُن، وقيل: القرىٰ التي بين بلاد الريف وجزيرة العرب.
2- الغطريف - بالكسر -: السيِّد. وقوله: (فاز) أي مات. وفى بعض النُّسَخ: (فاد) بالدال وهو بمعناه. وأزلمَّ: أي ذهب مسرعاً، وأصله: أزلام، فحُذِفَت الهمزة تخفيفاً. والشأو: السبق والغاية. والعنن: الاعتراض، وشأو العنن: اعتراض الموت وسبقه.
3- الفاصل: المبين، الحاكم. والخُطَّة - بضم الخاء وشدِّ الطاء -: الخطب، والأمر والحال، أي يا من يبين ويظهر أُموراً أعيت وأعجزت. من ومن: أي جماعة كثيرة. والوجه الغضن هو الوجه الذي فيه تكسُّر وتجعُّد من شدَّة الهمِّ والكرب الذي نزل به. (النهاية: ج 3/ ص 372).
4- السَّنَن - محرَّكة -: الإبل تسنن في عدوها. وفى بعض النُّسَخ: (شتن) - بالمعجمة والتاء المثنَّاة الفوقانيَّة -، وفى القاموس المحيط (ج 4/ ص 238): (الشتن: النسج والحياكة). وفى تاريخ اليعقوبي: (آل يزن).
5- أروق في بعض النُّسَخ: (أزرق)، وهو صفة للبعير ولونه، وأروق أيضاً بمعناه. وفي بعض الكُتُب: (أصك) أي الذي يصطكُّ قدماه. وقوله: (ضخم الناب) كذا في جميع النُّسَخ، وفي النهاية (ج 4/ ص 375): (في حديث سطيح: أزرق مهم الناب صرار الأُذُن، أي حديد الناب، قال الأزهري: هكذا روي، وأظنُّه مهو الناب بالواو، يقال: سيف مهو أي حديد ماضٍ، وأورده الزمخشري: أزرق ممهى الناب صرار الأُذُن، وقال: الممهى: المحدَّد، من أمهيت الحديدة إذا أحددتها، شبَّه بعيره بالنمر لزرقة عينيه وسرعة سيره). وقال: (صرَّ أُذُنه وصررها: أي نصبها وسوَّاها) (النهاية: ج 3/ ص 23). والأصوب كون هذا المصرع بعد ذلك في سياق ذكر البعير كما في سائر الكُتُب فإنَّه فيها بعد قوله: (والقطن). والفضفاض: الواسع. والبدن: الدرع، قال الجزري: (يريد به كثرة العطاء) (النهاية: ج 1/ ص 108). وقال غيره: كناية عن سعة الصدر.

رَسُولُ قَيْلِ الْعُجْمِ كِسْرَىٰ لِلْوَسَنِ *** لَا يَرْهَبُ الْرَّعْدَ وَلَا رَيْبَ الزَّمَن(1)

تَجُوبُ فِي الْأَرْضِ عَلَنْدَاةٌ شَجَنٌ *** تَرْفَعُنِي طَوْراً وَتَهْوِي بِي وَجَن(2)

حَتَّىٰ أَتَىٰ عَارِي الْجَآجِي وَالْقَطَنِ *** تَلُفُّهُ فِي الرِّيحِ بَوْغَاءُ الدَّمَن(3)

كَأَنَّمَا حَثْحَثَ مِنْ حِضْنَيْ ثَكَن(4)

ص: 293


1- القَيْل - بالفتح -: المَلِك، وقيل: الملك من ملوك حمير، وقيل: هو الرئيس دون المَلِك الأعلىٰ، راجع (ق ول) من أقرب الموارد. وقوله: (كسرىٰ)، في بعض الكُتُب: (يسري) أي يجري. وللوسن: أي لشأن الرؤيا التي رآها الموبذان أو الَملِك. و(الرعد) في بعض النُّسَخ: (الوعد)، وفي بعض الكُتُب: (الدهر).
2- تجوب أي تقطع. والعلنداة: الناقة القويَّة. والشجن - بالتحريك -: الناقة المتداخلة الخلق. وفي اللسان: (علنداة شرن) أي تمشي من نشاطها علىٰ جانب. وفيه أيضاً: (ترفعني وجناً وتهوي بي وجن)، والوجن: الأرض الغليظة. والوجناء: الناقة الشديدة، أي لم تزل الناقة التي هذه صفتها ترفعني مرَّة في الأرض بهذه الصفة وتخفضني أُخرىٰ. وفي أكثر نُسَخ الكتاب: (تهوي بي دجن) - بالدال المهملة -، والظاهر أنَّه تصحيف. ودجن بالمكان دجناً أقام به واستأنس، والدجنة: الظلمة.
3- الجآجي جمع الجؤجؤ وهو الصدر. والقَطَن - بالتحريك -: ما بين الوركين، يعني أنَّ السير قد هزلها وذهب بلحمها. وفي بعض الكُتُب: (عالي الجآجي) وهو قريب من العاري، لأنَّ العظم إذا عرىٰ عن اللحم يُرىٰ مرتفعاً عالياً. والبوغاء: التراب الناعم. والدمن جمع دمنة - بكسر الدال وفتح الميم -: ما تدمن منه أي تجمع وتلبد. كذا في النهاية (ج 1/ ص 162)، وقال: (كأنَّه من المقلوب تقديره: تلفُّه الريح في بوغاء الدمن، ويشهد له الرواية الأُخرىٰ: تلفُّه الريح ببوغاء الدمن).
4- حثحث: أسرع وحثَّ. والحضن: الجانب. وثَكَن - بفتح أوَّله وثانيه -: جبل بالبادية. يعني من كثرة التراب والغبار الذي أصابه في سرعة سيره كأنَّما أعجل من هذا الموضع الذي اجتمع فيه التراب الكثير.

فَلَمَّا سَمِعَ سَطِيحٌ شِعْرَهُ فَتَحَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: عَبْدُ المَسِيحِ عَلَىٰ جَمَلٍ يَسِيحُ إِلَىٰ سَطِيحٍ، وَقَدْ أَوْفَىٰ عَلَىٰ الضَّرِيحِ(1)، بَعَثَكَ مَلِكُ بَنِي سَاسَانَ لِارْتِجَاسِ الْإِيوَانِ، وَخُمُودِ النِّيرَانِ، وَرُؤْيَا المُوبَذَانِ، رَأَىٰ إِبِلاً صِعَاباً تَقُودُ خَيْلًاعِرَاباً، قَدْ قَطَعَتِ الدِّجْلَةَ، وَانْتَشَرَتْ فِي بِلَادِهَا، وَغَاضَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَهَ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ المَسِيحِ، إِذَا كَثُرَتِ التِّلَاوَةُ، وَبُعِثَ صَاحِبُ الْهِرَاوَةِ(2)، وَفَاضَ وَادِي سَمَاوَةَ، وَغَاضَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَهَ، فَلَيْسَ الشَّامُ لِسَطِيحٍ شَاماً(3)، يَمْلِكُ مِنْهُمْ مُلُوكٌ وَمَلِكَاتٌ عَلَىٰ عَدَدِ الشُّرُفَاتِ، وَكُلَّمَا هُوَ آتٍ آتٍ، ثُمَّ قَضَىٰ سَطِيحٌ مَكَانَهُ، فَنَهَضَ عَبْدُ المَسِيحِ إِلَىٰ رَحْلِهِ وَيَقُولُ:

شَمِّرْ فَإِنَّكَ مَاضِي الْعَزْمِ شِمِّيرُ *** لَايُفْزِعَنَّكَ تَفْرِيقٌ وَتَغْيِيرُ(4)

إِنْ يُمْسِ مُلْكُ بَنِي سَاسَانَ أَفْرَطَهُمْ *** فَإِنَّ ذَا الدَّهْرَ أَطْوَارٌ دَهَارِيرُ(5)

وَرُبَّمَا كَانَ قَدْ أَضْحَوْا بِمَنْزِلَةٍ *** تَهَابُ صَوْلَهُمُ الْأُسْدُ المَهَاصِيرُ(6)

مِنْهُمْ أَخُو الصَّرْحِ بَهْرَامُ وَإِخْوَتُهُ *** وَالْهُرْمُزَانُ وَسَابُورٌ وَسَابُورُ(7)

ص: 294


1- (يسيح) كذا في النُّسَخ، وفي لسان العرب (ج 2/ ص 500/ مادَّة شيح)، والعقد الفريد (ج 1/ ص 294)، والنهاية (ج 2/ ص 517): (مُشيح)، والمُشيح - بضمِّ الميم وكسر المعجمة والحاء المهملة -: الجادُّ المسرع. (وقد أوفىٰ) أي أشرف. والضريح: القبر، أي قرب أنْ يدخل القبر.
2- المراد بالتلاوة تلاوة القرآن. والهراوة: العصا، وصاحب الهراوة هو النبيُّ الأكرم 9، لأنَّه يأخذ العنزة بيده.
3- أي لم يبقَ سطيح، أو يتغيَّر أحوال الشام.
4- الشمِّير: الشديد التشمير، وفي لسان العرب (ج 2/ ص 484): (شمِّر فإنَّك ما عمَّرت شمِّير).
5- (أفرطهم) أي تركهم وزال عنهم. والأطوار: الحالات. والدهارير: الشديد جمع الدهر، يعني أنَّ الدهر ذو تصاريف ونوائب.
6- المهاصير جمع المهصار، وهو الشديد الذي يفترس.
7- الصرح: القصر. وفي بعض النُّسَخ: (وهرمزان) بدون اللَّام.

وَالنَّاسُ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ فَمَنْ عَلِمُوا *** أَنْ قَدْ أَقَلَّ فَمَحْقُورٌ وَمَهْجُورٌ(1)

وَهُمْ بَنُو الْأُمِّ لَمَّا أَنْ رَأَوْا نَشَباً *** فَذَاكَ بِالْغَيْبِ مَحْفُوظٌ وَمَنْصُورُ(2)

وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مَقْرُونَانِ فِي قَرَنٍ *** فَالْخَيْرُ مُتَّبَعٌ وَالشَّرُّ مَحْذُورُ

قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ عَلَىٰ كِسْرَىٰ أَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ سَطِيحٌ، فَقَالَ: إِلَىٰ أَنْ يَمْلِكَ مِنَّا أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَلِكاً قَدْ كَانَتْ أُمُورٌ، قَالَ: فَمَلَكَ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ فِي أَرْبَعِ سِنِينَ، وَمَلَكَ الْبَاقُونَ إِلَىٰ إِمَارَةِ عُثْمَانَ (3).

وكان سطيح وُلِدَ في سيل العرم، فعاش إلىٰ ملك ذي نواس، وذلك أكثر من ثلاثين قرناً، وكان مسكنه بالبحرين، فيزعم عبد القيس أنَّه منهم، وتزعم الأزد أنَّه منهم، وأكثر المحدِّثين قالوا: هو من الأزد، ولا يُدرىٰ ممَّن هو، غير أنَّ عقبه يقولون: نحن من الأزد.

* * *

ص: 295


1- أولاد علَّات: أي لأُمَّهات شتَّىٰ، كناية عن عدم الأُلفة بينهم. وقوله: (أنْ قد أقلَّ) أي افتقر وقلَّ ما في يده.
2- (وهم بنو أُمٍّ) أي يعطف بعضهم علىٰ بعض. والنَّشَب - بالتحريك -: المال والعقار.
3- راجع: تاريخ اليعقوبي (ج 2/ ص 8 و9)، وتاريخ الطبري (ج 1/ ص 579 - 581)، وأعلام النبوَّة لأبي حاتم الرازي (ص 199 و200)، والعقد الفريد (ج 1/ ص 293 - 295)، ومناحل الشفاء للخركوشي (ج 1/ ص 121 - 127)، وأعلام النبوَّة للماوردي (ص 182 - 184)، ودلائل النبوَّة للبيهقي (ج 1/ ص 126 - 129).

ص: 296

الباب الثامن عشر

خبر يوسف اليهودي بالنبيِّ (صلی الله علیه و آله) وبصفاته وعلاماته

ص: 297

ص: 298

[1/41] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، رَفَعَهُ بِإِسْنَادِهِ، قَالَ: لَمَّا بَلَغَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ زَوَّجَهُ عَبْدُ المُطَّلِبِ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ الزُّهْرِيِّ، فَلَمَّا تَزَوَّجَ بِهَا حَمَلَتْ بِرَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، فَرُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا حَمَلْتُ بِهِ لَمْ أَشْعُرْ بِالْحَمْلِ، وَلَمْ يُصِبْنِي مَا يُصِيبُ النِّسَاءَ مِنْ ثِقَلِ الْحَمْلِ، فَرَأَيْتُ فِي نَوْمِي كَأَنَّ آتٍ أَتَانِي فَقَالَ لِي: قَدْ حَمَلْتِ بِخَيْرِ الْأَنَامِ، فَلَمَّا حَانَ وَقْتُ الْوِلَادَةِ خَفَّ عَلَيَّ ذَلِكَ حَتَّىٰ وَضَعْتُهُ، وَهُوَ يَتَّقِي الْأَرْضَ بِيَدِهِ وَرُكْبَتَيْهِ، وَسَمِعْتُ قَائِلاً يَقُولُ: وَضَعْتِ خَيْرَ الْبَشَرِ، فَعَوِّذِيهِ بِالْوَاحِدِ الصَّمَدِ، مِنْ شَرِّ كُلِّ بَاغٍ وَحَاسِدٍ.

(فَوُلِدَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) عَامَ الْفِيلِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ(1) مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ).

فَقَالَتْ آمِنَةُ: لَمَّا سَقَطَ إِلَىٰ الْأَرْضِ اتَّقَىٰ الْأَرْضَ بِيَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ، وَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَىٰ السَّمَاءِ، وَخَرَجَ مِنِّي نُورٌ أَضَاءَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَرُمِيَتِ الشَّيَاطِينُ بِالنُّجُومِ، وَحُجِبُوا عَنِ السَّمَاءِ، وَرَأَتْ قُرَيْشٌ الشُّهُبَ وَالنُّجُومَ تَسِيرُ فِي السَّمَاءِ، فَفَزِعُوا لِذَلِكَ، وَقَالُوا: هَذَا قِيَامُ السَّاعَةِ، فَاجْتَمَعُوا إِلَىٰ الْوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ، فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ، وَكَانَ شَيْخاً كَبِيراً مُجَرَّباً، فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَىٰ هَذِهِ النُّجُومِ الَّتِي تَهْتَدُونَ بِهَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ زَالَتْ فَهُوَ قِيَامُ السَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ ثَابِتَةً فَهُوَ لِأَمْرٍ قَدْ حَدَثَ.

وَأَبْصَرَتِ الشَّيَاطِينُ ذَلِكَ، فَاجْتَمَعُوا إِلَىٰ إِبْلِيسَ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْمُنِعُوا مِنَ السَّمَاءِ وَرُمُوا بِالشُّهُبِ، فَقَالَ: اطْلُبُوا فَإِنَّ أَمْراً قَدْ حَدَثَ، فَجَالُوا فِي الدُّنْيَا

ص: 299


1- كذا، ولعلَّه يكون: (بقيت) فصُحِّف. وهذا من كلام المصنِّف (رحمة الله).

وَرَجَعُوا وَقَالُوا: لَمْ نَرَ شَيْئاً، فَقَالَ: أَنَا لِهَذَا، فَخَرَقَ مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، فَلَمَّا انْتَهَىٰ إِلَىٰ الْحَرَمِ وَجَدَ الْحَرَمَ مَحْفُوفاً بِالمَلَائِكَةِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ صَاحَ بِهِ جَبْرَئِيلُ (علیه السلام) فَقَالَ: اخْسَأْ يَا مَلْعُونُ، فَجَاءَ مِنْ قِبَلِ حِرَاءَ فَصَارَ مِثْلَ الصُّرَدِ، قَالَ: يَا جَبْرَئِيلُ، مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا نَبِيٌّ قَدْ وُلِدَ، وَهُوَ خَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ، قَالَ: هَلْ لِي فِيهِ نَصِيبٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَفِي أُمَّتِهِ؟ قَالَ: بَلَىٰ، قَالَ: قَدْ رَضِيتُ.

قَالَ: وَكَانَ بِمَكَّةَ يَهُودِيٌّ يُقَالُ لَهُ: يُوسُفُ، فَلَمَّا رَأَىٰ النُّجُومَ يُقْذَفُ بِهَا وَتَتَحَرَّكُ قَالَ: هَذَا نَبِيٌّ قَدْ وُلِدَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَهُوَ الَّذِي نَجِدُهُ فِي كُتُبِنَا أَنَّهُ إِذَا وُلِدَ - وَهُوَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ - رُجِمَتِ الشَّيَاطِينُ وَحُجِبُوا عَنِ السَّمَاءِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَىٰ نَادِي قُرَيْشٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَلْ وُلِدَ فِيكُمُ اللَّيْلَةَ مَوْلُودٌ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: أَخْطَأْتُمْ وَالتَّوْرَاةِ، وُلِدَ إِذاً بِفِلَسْطِينَ وَهُوَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَفْضَلُهُمْ، فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ، فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَىٰ مَنَازِلِهِمْ أَخْبَرَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَهْلَهُ بِمَا قَالَ الْيَهُودِيُّ، فَقَالُوا: لَقَدْ وُلِدَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ ابْنٌ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، فَأَخْبَرُوا بِذَلِكَ يُوسُفَ الْيَهُودِيَّ، فَقَالَ لَهُمْ: قَبْلَ أَنْ أَسْأَلَكُمْ أَوْ بَعْدَهُ؟ قَالُوا: قَبْلَ ذَلِكَ، قَالَ: فَاعْرِضُوهُ عَلَيَّ، فَمَشَوْا إِلَىٰ بَابِ آمِنَةَ، فَقَالُوا: أَخْرِجِي ابْنَكِ يَنْظُرْ إِلَيْهِ هَذَا الْيَهُودِيُّ، فَأَخْرَجَتْهُ فِي قِمَاطِهِ، فَنَظَرَ فِي عَيْنَيْهِ، وَكَشَفَ عَنْ كَتِفَيْهِ، فَرَأَىٰ شَامَةً سَوْدَاءَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَعَلَيْهَا شَعَرَاتٌ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ وَقَعَ عَلَىٰ الْأَرْضِ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَتَعَجَّبَ مِنْهُ قُرَيْشٌ وَضَحِكُوا مِنْهُ، فَقَالَ: أَتَضْحَكُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ؟ هَذَا نَبِيُّ السَّيْفِ، لَيُبِيرَنَّكُمْ(1)، وَقَدْ ذَهَبَتِ النُّبُوَّةُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَىٰ آخِرِ الْأَبَدِ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ وَيَتَحَدَّثُونَ بِخَبَرِ الْيَهُودِيِّ، وَنَشَأَ رَسُولُ اللهِ (صلیالله علیه و آله) فِي الْيَوْمِ كَمَا يَنْشَأُ غَيْرُهُ فِي الْجُمْعَةِ، وَيَنْشَأُ فِي الْجُمْعَةِ كَمَا يَنْشَأُ غَيْرُهُ فِي الشَّهْرِ(2).

* * *

ص: 300


1- أي ليُهلكنَّكم. وفي بعض النُّسَخ: (ليتبرنَّكم).
2- راجع ما رواه القمِّي (رحمة الله) في تفسيره (ج 1/ ص 373 و374)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1066 و1067).

الباب التاسع عشر

خبر [دواس] بن حواش المقبل من الشام

ص: 301

ص: 302

[1/42] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ هَاشِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ وَأَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ الْبَزَنْطِيِّ جَمِيعاً، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ الْأَحْمَرِ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا دَعَا رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) بِكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ(1) لِيَضْرِبَ عُنُقَهُ فَأُخْرِجَ وَذَلِكَ فِي غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ نَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) فَقَالَ لَهُ: «يَا كَعْبُ، أَمَا نَفَعَكَ وَصِيَّةُ ابْنِ حَوَّاشٍ الْحِبْرِ الَّذِي أَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ، فَقَالَ: تَرَكْتُ الْخَمْرَ وَالْخَمِيرَ، وَجِئْتُ إِلَىٰ المُوسِ وَالتُّمُورِ(2)، لِنَبِيٍّ يُبْعَثُ، هَذَا أَوَانُ خُرُوجِهِ، يَكُونُ مَخْرَجُهُ بِمَكَّةَ، وَهَذِهِ دَارُ هِجْرَتِهِ، وَهُوَ الضَّحُوكُ الْقَتَّالُ، يَجْتَزِي بِالْكُسَيْرَاتِ وَالتَّمَرَاتِ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ، فِي عَيْنَيْهِ حُمْرَةٌ، وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، يَضَعُ سَيْفَهُ عَلَىٰ عَاتِقِهِ، وَلَا يُبَالِي بِمَنْ لَاقَىٰ، يَبْلُغُ سُلْطَانُهُ مُنْقَطَعَ الْخُفِّ وَالْحَافِرِ؟»، قَالَ كَعْبٌ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ يَا مُحَمَّدُ، وَلَوْلَا أَنَّ الْيَهُودَ تُعَيِّرُنِي أَنِّي جَبُنْتُ عِنْدَ الْقَتْلِ لَآمَنْتُ بِكَ وَصَدَّقْتُكَ، وَلَكِنِّي عَلَىٰ دِينِ الْيَهُودِيَّةِ عَلَيْهِ أَحْيَا وَعَلَيْهِ أَمُوتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «فَقَدِّمُوهُ وَاضْرِبُوا عُنُقَهُ»، فَقُدِّمَ وَضُرِبَ عُنُقُهُ (3).

* * *

ص: 303


1- هو رئيس بني قريظة.
2- كذا، وفي بعض النُّسَخ: (جئت إلىٰ البؤس والتمور).
3- رواه القمِّي (رحمة الله) في تفسيره (ج 2/ ص 191)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1082 و1083/ ح 15).

ص: 304

الباب العشرون

خبر زيد بن عمرو بن نفيل

ص: 305

ص: 306

وكان زيد بن عمر بن نفيل(1) يطلب الدِّين الحنيف ويعرف أمر النبيِّ (صلی الله علیه و آله).

[1/43] وَحَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَزَّازُ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْعُطَارِدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ المَدَنِيِّ، قَالَ: كَانَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَجْمَعَ عَلَىٰ الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ يَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ وَيَطْلُبُ الْحَنِيفِيَّةَ - دِينَ إِبْرَاهِيمَ (علیه السلام) -، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ الْحَضْرَمِيِّ كُلَّمَا أَبْصَرَتْهُ قَدْ نَهَضَ إِلَىٰ الْخُرُوجِ وَأَرَادَهُ آذَنَتْ بِهِ الْخَطَّابَ بْنَ نُفَيْلٍ(2)، فَخَرَجَ زَيْدٌ إِلَىٰ الشَّامِ يَلْتَمِسُ وَيَطْلُبُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ دِيْنَ إِبْرَاهِيمَ (علیه السلام) وَيَسْأَلُ عَنْهُ، فَلَمْ يَزَلْ فِي ذَلِكَ فِيمَا يَزْعُمُونَ حَتَّىٰ أَتَىٰ المَوْصِلَ وَالْجَزِيرَةَ كُلَّهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّىٰ أَتَىٰ الشَّامَ فَجَالَ فِيهَا حَتَّىٰ أَتَىٰ رَاهِباً بِمَيْفَعَةٍ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ كَانَ يَنْتَهِىٰ إِلَيْهِ عِلْمُ النَّصْرَانِيَّةِ فِيمَا يَزْعُمُونَ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَنِيفِيَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ (علیه السلام)، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: إِنَّكَ لَتَسْأَلُ عَنْ دِينٍ مَا أَنْتَ بِوَاجِدٍ لَهُ الْآنَ مَنْيَحْمِلُكَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ، لَقَدْ دَرَسَ عِلْمُهُ وَذَهَبَ مَنْ كَانَ يَعْرِفُهُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ خُرُوجُ نَبِيٍّ يُبْعَثُ بِأَرْضِكَ الَّتِي خَرَجْتَ مِنْهَا بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةِ، فَعَلَيْكَ بِبِلَادِكَ فَإِنَّهُ مَبْعُوثٌ الْآنَ، هَذَا

ص: 307


1- في المعارف لابن قتيبة الدينوري (ص 59): (زيد بن عمرو بن نفيل هو أبو سعيد بن زيد أحد العشرة المسمِّين للجنَّة، وكان رغب عن عبادة الأوثان، وطلب الدِّين، فقتله النصارىٰ بالشام. وقال النبيُّ 9: «يُبعَث أُمَّة وحده»).
2- (وكان الخطَّاب بن نُفيل عمَّه وأخاه لأُمِّه، وكان يعاتبه علىٰ فراق دين قومه، وكان الخطَّاب قد وكَّل صفيَّة به، وقال: إذا رأيتيه قد همَّ بأمر فآذنيني به). قاله ابن هشام في السيرة النبويَّة (ج 1/ ص 150).

زَمَانُهُ، وَلَقَدْ كَانَ سَئِمَ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، فَلَمْ يَرْضَ شَيْئاً مِنْهُمَا، فَخَرَجَ مُسْرِعاً حِينَ قَالَ لَهُ الرَّاهِبُ مَا قَالَ يُرِيدُ مَكَّةَ، حَتَّىٰ إِذَا كَانَ بِأَرْضِ لَخْمٍ عَدَوْا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ.

فَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ - وَقَدْ كَانَ اتَّبَعَ مِثْلَ أَثَرِ زَيْدٍ وَلَمْ يَفْعَلْ فِي ذَلِكَ مَا فَعَلَ -، فَبَكَاهُ وَرَقَةُ وَقَالَ فِيهِ:

رَشَدْتَ وَأَنْعَمْتَ ابْنَ عَمْرٍو وَإِنَّمَا *** تَجَنَّبْتَ تَنُّوراً مِنَ النَّارِ حَامِياً

بِدِينِكَ رَبًّا لَيْسَ رَبٌّ كَمِثْلِهِ *** وَتَرْكِكَ أَوْثَانَ الطَّوَاغِي كَمَا هِيَا(1)

يَنْتَظِرُ خُرُوجَهُ، وَخَرَجَ فِي طَلَبِهِ، فَقُتِلَ فِي الطَّرِيقِ.

وَقَدْ تُدْرِكُ الْإِنْسَانَ رَحْمَةُ رَبِّهِ *** وَلَوْ كَانَ تَحْتَ الْأَرْضِ سِتِّينَ وَادِياً(2)

[2/44] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ المَدَنِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ(3) وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْحَصِينُ التَّمِيمِيُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَسَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ قَالَا: يَا رَسُولَ الله، أَنَسْتَغْفِرُ لِزَيْدٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ، فَاسْتَغْفِرُوا لَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِأُمَّةً وَحْدَهُ »(4).

[3/45] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَزَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ

ص: 308


1- في المعارف (ص 59): (وتركك جِنَّان الجبال كما هيا)، وجِنَّان - بكسر الجيم وشدِّ النون - جمع جانٍّ، ويريد بجِنَّان الجبال: الذين يأمرون بالفساد من شياطين الإنس.
2- سيرة ابن إسحاق (ج 2/ ص 98 و99/ ح 135)، والسيرة النبويَّة لابن هشام (ج 1/ ص 151 و152)، وتاريخ مدينة دمشق (ج 19/ ص 497 و498).
3- محمّد بن جعفر بن الزبير بن العوامِّ الأسدي المدني، قال ابن سعد: كان عالماً، وقال الدارقطني: ثقة مدني. (تهذيب التهذيب: ج 9/ ص 81 و82/ الرقم 124). وفي بعض النُّسَخ: (محمّد بن جعفر بن الأثير)، وهو تصحيف.
4- سيرة ابن إسحاق (ج 2/ ص 99/ ح 136)، والسيرة النبويَّة لابن هشام (ج 1/ ص 148)، وتاريخ مدينة دمشق (ج 19/ ص 511).

يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ المَسْعُودِيِّ، عَنْ نُفَيْلِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ جَدَّهُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) عَنْ أَبِيهِ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبِي زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو كَانَ كَمَا رَأَيْتَ وَكَمَا بَلَغَكَ، فَلَوْ أَدْرَكَكَ كَانَ آمَنَ بِكَ، فَأَسْتَغْفِرُ لَهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ، فَاسْتَغْفِرْ لَهُ»، وَقَالَ: «إِنَّهُ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ، وَكَانَ فِيمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ يَطْلُبُ الدِّينَ فَمَاتَ وَهُوَ فِي طَلَبِهِ ».

قال مصنَّف هذا الكتاب (رحمة الله): حال النبيِّ (صلی الله علیه و آله) قبل النبوَّة حال قائمنا وصاحب زماننا (علیه السلام) في وقتنا هذا، وذلك أنَّه لم يعرف خبر النبيِّ (صلی الله علیه و آله) في ذلك الوقت إلَّا الأحبار والرهبان والذين قد انتهىٰ إليهم العلم به، فكان الإسلام غريباً فيهم، وكان الواحد منهم إذا سأل الله تبارك وتعالىٰ بتعجيل فرج نبيِّه وإظهار أمره سخر منه أهل الجهل والضلال، وقالوا له: متىٰ يخرج هذا النبيُّ الذي تزعمون أنَّه نبيُّ السيف، وأنَّ دعوته تبلغ المشرق والمغرب، وأنَّه ينقاد له ملوك الأرض؟ كما يقول الجُهَّال لنا في وقتنا هذا: متىٰ يخرج هذا المهدي الذي تزعمون أنَّه لا بدَّ من خروجه وظهوره؟ ويُنكِره قوم ويقرُّ به آخرون، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله): «إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيباً،وَسَيَعُودُ غَرِيباً [كَمَا بَدَأَ]، فَطُوبَىٰ لِلْغُرَبَاءِ»(1)، فقد عاد الإسلام كما قال (علیه السلام) غريباً في هذا الزمان كما بدأ وسيقوىٰ بظهور وليِّ الله وحجَّته كما قوي بظهور نبيِّ الله ورسوله، وتقرُّ بذلك أعين المنتظرين له والقائلين بإمامته كما قرَّت أعين المنتظرين لرسول الله والعارفين به بعد ظهوره، وإنَّ الله (عزوجل)لينجز لأوليائه ما وعدهم، ويُعلي كلمته، ويتمّ نوره ولو كره المشركون.

ص: 309


1- قد مرَّ ذكر مصادره في (ص 91)، فراجع.

[4/46] حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ المُغِيرَةِ الْكُوفِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي جَدِّيَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ المُغِيرَةِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ عَلِيٍّ (علیهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيباً، وَسَيَعُودُ غَرِيباً، فَطُوبَىٰ لِلْغُرَبَاءِ».

[5/47] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ الْعَلَوِيُّ الْعَمْرِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ الْعَمْرَكِيِّ بْنِ عَلِيٍّ الْبُوفَكِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ عَلِيِّ ابْنِ مُوسَىٰ الرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيباً، وَسَيَعُودُ غَرِيباً كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَىٰ لِلْغُرَبَاءِ»(1)(2).

* * *

ص: 310


1- راجع ما رواه العيَّاشي (رحمة الله) في تفسيره (ج 2/ ص 303/ ح 118)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 336/ باب 22).
2- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 52/ ص 191): (بيان: قال الجزري فيه: إنَّ الإسلام بدأ غريباً، وسيعود كما بدأ، فطوبىٰ للغرباء، أي إنَّه كان في أوَّل أمره كالغريب الوحيد الذي لا أهل له عنده لقلَّة المسلمين يومئذٍ، وسيعود غريباً كما كان، أي يقلُّ المسلمون في آخر الزمان فيصيرون كالغرباء، فطوبىٰ للغرباء، أي الجنَّة لأُولئك المسلمين الذين كانوا في أوَّل الإسلام، ويكونون في آخره، وإنَّما خصَّهم بها لصبرهم علىٰ أذىٰ الكُفَّار أوَّلاً وآخراً ولزومهم دين الإسلام).

الباب الحادي والعشرون

العلَّة التي من أجلها يُحتاج إلى الإمام (علیه السلام)

ص: 311

ص: 312

[1/48] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَىٰ بْنِ عُبَيْدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَتَبْقَىٰ الْأَرْضُ بِغَيْرِ إِمَامٍ؟ قَالَ: «لَوْ بَقِيَتِ الْأَرْضُ بِغَيْرِ إِمَامٍ سَاعَةً لَسَاخَتْ »(1).

[2/49] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مَعْرُوفٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْثَمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (علیه السلام)، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَتَبْقَىٰ الْأَرْضُ بِغَيْرِ إِمَامٍ؟ فَقَالَ: «لَا»، قُلْتُ: فَإِنَّا نَرْوِي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) أَنَّهَا لَا تَبْقَىٰ بِغَيْرِ إِمَامٍ إِلَّا أَنْ يَسْخَطَ اللهُ عَلَىٰ أَهْلِ الْأَرْضِ أَوْ عَلَىٰ الْعِبَادِ، فَقَالَ: «لَا تَبْقَىٰ إِذاً لَسَاخَتْ »(2)(3).

ص: 313


1- رواه الطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 220/ ح 182).
2- رواه بسند آخر المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 246/ ح 2)، والصفَّار (رحمة الله) في بصائر الدرجات (ص 509/ ج 10/ باب 12/ ح 6)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 179/ باب أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة/ ح 11)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 140/ باب 8/ ح 11).
3- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي (ج 2/ ص 488): (يعنى أنَّ الأرض لا تبقىٰ بغير رسول أو إمام، سواء كان الله ساخطاً علىٰ أهلها أم لا. وذلك لما مرَّ ذكره من أنَّ وجوده سبب لوجودها، وبقائه سبب لبقائها، ولا يقوم المسبَّب بدون سببه كما هو قاعدة العلَّة والمعلول، وسنزيدك إيضاحاً وتأكيداً). وقال (رحمة الله) في (ج 5/ ص 127): (قوله: (قال: لا، لا تبقىٰ إذاً لساخت) نفى بلا ما يُفهَم من كلام الرَّاوي من أنَّ الأرض تبقىٰ بغير إمام وأهلها مبغوضين، ثمَّ بيَّن الأمر بأنَّها لا تبقىٰ بغير إمام بل تغوص في الماء).

[3/50] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَىٰ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ زَكَرِيَّا بْنِ مُحَمَّدٍ المُؤْمِنِ، عَنْ أَبِي هَرَاسَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)، قَالَ: قَالَ: «لَوْ أَنَّ الْإِمَامَ رُفِعَ مِنَ الْأَرْضِ سَاعَةً لَمَاجَتْ بِأَهْلِهَا كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ بِأَهْلِهِ (1)»(2)(3).

[4/51] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْزِيَارَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِمَهْزِيَارَ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْبَجَلِيِّ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) فِي حَدِيثٍ لَهُ فِي الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام) أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ: «وَلَوْلَا مَنْ عَلَىٰ الْأَرْضِ مِنْ حُجَجِ اللهِ لَنَفَضَتِ الْأَرْضُ مَا فِيهَا وَأَلْقَتْ مَا عَلَيْهَا، إِنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو سَاعَةً مِنَ الْحُجَّةِ».

ص: 314


1- ماج، أي اضطرب.
2- رواه الصفَّار (رحمة الله) بتفاوت يسير في بصائر الدرجات (ص 508/ ج 10/ باب 12/ ح 3)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 179/ باب أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة/ ح 12)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 139 و140/ باب 8/ ح 10)، والطبري (رحمة الله) في دلائل الإمامة (ص 435/ ح 403/7).
3- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي (ج 2/ ص 502): (ماج البحر يموج موجاً اضطرب. دلَّ هذا الحديث علىٰ حقيقة ما مرَّ ذكره منَّا من أنَّ وجود النبيِّ(صلی الله علیه و آله) أو الإمام (علیه السلام) ليس بمجرَّد أنَّ الخلق محتاجون إليه في إصلاح دينهم ودنياهم وإنْ كان ذلك أمراً مترتِّباً علىٰ وجوده ضرورةً، بل إنَّما قامت بوجوده الأرض ومن فيها، لكون وجوده الكوني علَّة غائيَّة لوجودها، فلا تقوم الأرض ومن فيها لحظة إلَّا بوجود الإنسان الكامل، وذلك لقوله (علیه السلام): «ساعة» أي لحظة، إذ علىٰ ذلك التقدير لم يلزم من فرض عدمه ساعة بطلان الأرض وأهلها). وقال (رحمة الله) في (ج 5/ ص 127): (قوله: «لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله» ماج البحر يموج موجاً اضطربت أمواجه وكذلك الناس يموجون. شبَّه اضطراب الأرض وأهلها بموج البحر وأهله للإيضاح، وكنَّىٰ به عن زوالها وزوال أهلها، لأنَّ الاضطراب المذكور يستلزمها. والباء في الموضعين للتعدية أو بمعنىٰ مع).

[5/52] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ سُلَيْمَانَ بْنِ سُفْيَانَ المُسْتَرِقِّ، عَنْ أَحْمَدَ ابْنِ عُمَرَ الْحَلَّالِ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (علیه السلام): إِنَّا رَوَيْنَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْأَرْضَ لَا تَبْقَىٰ بِغَيْرِ إِمَامٍ»، أَوَتَبْقَىٰ وَلَا إِمَامَ فِيهَا؟ فَقَالَ: «مَعَاذَ اللهِ، لَا تَبْقَىٰ سَاعَةً إِذاً لَسَاخَتْ »(1).

[6/53] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ المَالِكِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي مَحْمُودٍ، قَالَ: قَالَ الرِّضَا (علیه السلام): «نَحْنُ حُجَجُ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَخُلَفَاؤُهُ فِي عِبَادِهِ، وَأُمَنَاؤُهُ عَلَىٰ سِرِّهِ، وَنَحْنُ كَلِمَةُ التَّقْوَىٰ، وَالْعُرْوَةُ الْوُثْقَىٰ، وَنَحْنُ شُهَدَاءُ اللهِ وَأَعْلَامُهُ فِي بَرِيَّتِهِ، بِنَا يُمْسِكُ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا، وَبِنَا يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَنْشُرُ الرَّحْمَةَ، وَلَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ مِنَّا ظَاهِرٍ أَوْ خَافٍ، وَلَوْ خَلَتْ يَوْماً بِغَيْرِ حُجَّةٍ لَمَاجَتْ بِأَهْلِهَا كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ بِأَهْلِهِ »(2).

[7/54] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْزِيَارَ، عَنْ أَخِيهِ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا

ص: 315


1- روىٰ المصنِّف (رحمة الله) بسند آخر قريباً منه في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 246/ ح 1)، وعلل الشرائع (ج 1/ ص 198/ باب 153/ ح 17).
2- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 23/ ص 35): (بيان: قوله (علیه السلام): «نحن كلمة التقوىٰ»، إشارة إلىٰ قوله تعالىٰ: «وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ» [الفتح: 26]، وفسَّرها المفسِّرون بكلمة الشهادة، وبالعقائد الحقَّة، إذ بها يُتَّقىٰ من النار، أو هي كلمة أهل التقوىٰ، وإطلاقها عليهم إمَّا باعتبار أنَّهم (علیهم السلام) كلمات الله يُعبِّرون عن مراد الله، كما أنَّ الكلمات تُعبِّر عمَّا في الضمير، أو باعتبار أنَّ ولايتهم والقول بإمامتهم سبب للاتِّقاء من النار، ففيه تقدير مضاف، أي ذو كلمة التقوىٰ. «والعروة الوثقىٰ» إشارة إلىٰ أنَّهم هم المقصودون بها في قوله تعالىٰ: «فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ» [البقرة: 256]، ويحتمل هنا أيضاً حذف المضاف، والعروة: كلُّ ما يُتعلَّق أو يُتمسَّك به).

عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا [حُجَّةٌ] عَالِمٌ، إِنَّ الْأَرْضَ لَا يُصْلِحُهَا إِلَّا ذَلِكَ، وَلَا يُصْلِحُ النَّاسَ إِلَّا ذَلِكَ ».

[8/55] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْخَزَّازِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ (علیه السلام): أَتَبْقَىٰ الْأَرْضُ بِغَيْرِ إِمَامٍ؟ قَالَ: فَقَالَ: «لَا»، قُلْتُ: فَإِنَّا نَرْوِي أَنَّهَا لَا تَبْقَىٰ إِلَّا أَنْ يَسْخَطَ اللهُ عَلَىٰ الْعِبَادِ، فَقَالَ: «لَا تَبْقَىٰ إِذاً لَسَاخَتْ ».

[9/56] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَىٰ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ المُؤْمِنِ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ أَبِي هَرَاسَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)، قَالَ: «لَوْ أَنَّ الْإِمَامَ رُفِعَ مِنَ الْأَرْضِ لَمَاجَتِ الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ بِأَهْلِهِ ».

[10/57] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَىٰ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِأَبِي الْخَطَّابِ جَمِيعاً، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ حَمْزَةَ الطَّيَّارِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) يَقُولُ: «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ(1) إِلَّا اثْنَانِ لَكَانَ أَحَدُهُمَا الْحُجَّةَ - أَوْ كَانَ الثَّانِي الْحُجَّةَ -» الشَّكُّ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ (2)(3).

ص: 316


1- في بعض النُّسَخ: (لو لم يبقَ في الأرض)، وفي بعضها: (من الدنيا).
2- راجع ما رواه الصفَّار (رحمة الله) في بصائر الدرجات (ص 507/ ج 10/ باب 11)، وابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 28/ ح 9)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 179/ باب أنَّه لو لم يبقَ في الإرض إلَّا اثنان لكان أحدهما الحجَّة)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 141/ باب 9).
3- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي (ج 5/ ص 128): (قوله: «لو لم يبقَ في الأرض إلَّا اثنان لكان أحدهما الحجَّة» نظيره من طُرُق العامَّة ما رواه مسلم عن النبيِّ(صلی الله علیه و آله) قال: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان»، وذلك لأنَّه كما يحتاج الناس إلىٰ الحجَّة من حيث الاجتماع لأمر له مدخل في نظامهم ومعاشهم كذلك يحتاجون إليه من حيث الانفراد لأمر له مدخل في معرفة مبدأهم ومعادهم، وعلىٰ هذا لو فرض انحصار الناس في اثنين لوجب احتياج أحدهما إلىٰ الآخر وهو الإمام للأوَّل. وفيه دلالة علىٰ أنَّه لا يجتمع إمامان في عصر كما مرَّ). وقال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول (ج 2/ ص 298) بعد ذكره ما مرَّ من قول المازندراني (رحمة الله) إلىٰ قوله: (مبدأهم ومعادهم): (وأيضاً الحكمة الداعية إلىٰ الأمر بالاجتماع وسدِّ باب الاختلاف المؤدِّي إلىٰ الفساد جارية هاهنا، وإنَّما تتمُّ بحجّيَّة أحدهما، ووجوب إطاعة الآخر له).

[11/58] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الصَّبَّاحِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «إِنَّ اللهَتَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ لَمْ يَدَعِ الْأَرْضَ إِلَّا وَفِيهَا عَالِمٌ يَعْلَمُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، فَإِذَا زَادَ المُؤْمِنُونَ شَيْئاً رَدَّهُمْ، وَإِذَا نَقَصُوا شَيْئاً أَكْمَلَهُ لَهُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَالْتَبَسَتْ عَلَىٰ المُؤْمِنِينَ أُمُورُهُمْ »(1).

[12/59] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «إِنَّ اللهَ (عزوجل)لَمْ يَدَعِ الْأَرْضَ بِغَيْرِ عَالِمٍ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عُرِفَ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ »(2)(3).

ص: 317


1- راجع ما رواه المصنِّف (رحمة الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 200/ باب 153/ ح 27)، والصفَّار (رحمة الله) في بصائر الدرجات (ص 351 و352/ ج 7/ باب 10).
2- رواه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 178/ باب أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة/ ح 5)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 138 و139/ باب 8/ ح 6).
3- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي (ج 5/ ص 124): (قوله: «لم يُعرَف الحقُّ من الباطل» الظهور إلف النفس بالمحسوسات والوهميَّات والمتخيَّلات المؤذية إلىٰ الباطل والشُّبُهات، فلو لم يكن أُستادٌ مرشدٌ مؤيَّدٌ من عند الله تعالىٰ بالعصمة عن الخطأ والغلط في العقائد والأقوال والأعمال من جميع الوجوه لمال كلُّ نفس إلىٰ هواها والتبس عليه الحقُّ والباطل، فربَّما يعتقد أنَّ الحقَّ باطلٌ والباطلَ حقٌّ كما ترىٰ في كثير من المتَّكلين بعقولهم من الحكماء والمتكلِّمين، هذا علىٰ فرض بقاء الأرض وأهلها بغير إمام وإلَّا فالحقُّ الثابت أنَّه لا بقاء لهما بدونه طرفة عين). وقال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول (ج 2/ ص 296): («ولولا ذلك» استدلال علىٰ عدم خلوِّ الأرض من عالم باستلزام الخلوِّ عدم المعرفة المقصودة من الخلق والإيجاد، وعدم العبادة الموقوفة علىٰ المعرفة).

[13/60] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ هِلَالٍ فِيحَالِ اسْتِقَامَتِهِ(1)، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ أُذَيْنَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): يَمْضِي الْإِمَامُ وَلَيْسَ لَهُ عَقِبٌ؟ قَالَ: «لَا يَكُونُ ذَلِكَ»، قُلْتُ: فَيَكُونُ مَا ذَا؟ قَالَ: «لَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَغْضَبَ اللهُ (عزوجل)عَلَىٰ خَلْقِهِ فَيُعَاجِلَهُمْ »(2).

[14/61] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْعُصْفُرِيِّ(3)، عَنْ عَمْرِو بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «لَوْ بَقِيَتِ الْأَرْضُ يَوْماً بِلَا إِمَامٍ مِنَّا لَسَاخَتْ بِأَهْلِهَا، وَلَعَذَّبَهُمُ اللهُ بِأَشَدِّ عَذَابِهِ، إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ جَعَلَنَا حُجَّةً فِي أَرْضِهِ، وَأَمَاناً فِي الْأَرْضِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ، لَمْ يَزَالُوا فِي أَمَانٍ مِنْ أَنْ تَسِيخَ بِهِمُ الْأَرْضُ مَا دُمْنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يُهْلِكَهُمْ ثُمَّ لَا يُمْهِلَهُمْ وَلَا يُنْظِرَهُمْ ذَهَبَ بِنَا مِنْ بَيْنِهِمْ وَرَفَعَنَا إِلَيْهِ، ثُمَّ يَفْعَلُ اللهُ مَا شَاءَ وَأَحَبَّ»(4).

[15/62] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ

ص: 318


1- أحمد بن هلال العبرتائي من أصحاب الهادي (علیه السلام)، كان غالياً متَّهماً في دينه، ويظهر من هذا الكلام استقامته في أوَّل الأمر ثمّ تحزُّبه إلىٰ الضلال.
2- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 134/ ح 147)، والطبري (رحمة الله) بسند آخر في دلائل الإمامة (ص 435/ ح 402/6).
3- كذا، وهو أبو سعيد العصفوري المعنون في جامع الرواة (ج 2/ ص 388/ باب الكنىٰ).
4- رواه الطبري (رحمة الله) في دلائل الإمامة (ص 436 و437/ ح 407/11) بسند متفاوت في أوَّله.

جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جَنَاحٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْجَعْفَرِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا (علیه السلام)، فَقُلْتُ:أَتَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ حُجَّةٍ؟ فَقَالَ: لَوْ خَلَتْ مِنْ حُجَّةٍ طَرْفَةَ عَيْنٍ لَسَاخَتْ بِأَهْلِهَا».

[16/63] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمِيثَمِيِّ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَىٰ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَا تَرَكَ اللهُ الْأَرْضَ بِغَيْرِ عَالِمٍ يُنْقِصُ مَا زَادُوا وَيُزِيدُ مَا نَقَصُوا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاخْتَلَطَتْ عَلَىٰ النَّاسِ أُمُورُهُمْ »(1).

[17/64] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ فُضَيْلٍ الرَّسَّانِ، قَالَ: كَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ إِلَىٰ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): أَخْبِرْنَا مَا فَضْلُكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «إِنَّ الْكَوَاكِبَ جُعِلَتْ فِي السَّمَاءِ أَمَاناً لِأَهْلِ السَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتْ نُجُومُ السَّمَاءِ جَاءَ أَهْلَ السَّمَاءِ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): جُعِلَ أَهْلُ بَيْتِي أَمَاناً لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَهْلُ بَيْتِي جَاءَ أُمَّتِي مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ».

[18/65] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ الْبَغْدَادِيُّ(2)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْجَعْدِ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُصَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَىٰ، عَنْ مُوسَىٰ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ، أَيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ

ص: 319


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 201/ باب 153/ ح 32)، والصفَّار (رحمة الله) في بصائر الدرجات (ص 352/ ج 7/ باب 10/ ح 8)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 832/ ذيل الحديث 47).
2- هو محمّد بن عمر بن محمّد بن سالم أبو بكر التميمي، يُعرَف بابن الجعابي.

أَبِيهِ، يَرْفَعُهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله): «النُّجُومُ أَمَانٌ لِأَهْلِ السَّمَاءِ، وَأَهْلُ بَيْتِي أَمَانٌ لِأُمَّتِي »(1).

[19/66] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ السَّرِيِّ بْنِ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ الْحُسَيْنِ(2)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ المَلِكِ بْنُ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «النُّجُومُ أَمَانٌ لِأَهْلِ السَّمَاءِ فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ ذَهَبَ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَأَهْلُ بَيْتِي أَمَانٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ فَإِذَا ذَهَبَ أَهْلُ بَيْتِي ذَهَبَ أَهْلُ الْأَرْضِ »(3).

[20/67] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ أَبِي المَغْرَا حُمَيْد بْنِ المُثَنَّىٰ الْعِجْلِيِّ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ خَيْثَمَةَ الْجُعْفِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «نَحْنُ جَنْبُ اللهِ، وَنَحْنُ صَفْوَتُهُ، وَنَحْنُ حَوْزَتُهُ، وَنَحْنُ مُسْتَوْدَعُ مَوَارِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَنَحْنُ أُمَنَاءُ اللهِ (تبارک و تعالی)، وَنَحْنُ حُجَجُ اللهِ،وَنَحْنُ أَرْكَانُ الْإِيمَانِ، وَنَحْنُ دَعَائِمُ الْإِسْلَامِ، وَنَحْنُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ عَلَىٰ خَلْقِهِ، وَنَحْنُ مَنْ بِنَا يُفْتَحُ وَبِنَا يُخْتَمُ، وَنَحْنُ أَئِمَّةُ الْهُدَىٰ، وَنَحْنُ مَصَابِيحُ الدُّجَىٰ، وَنَحْنُ مَنَارُ الْهُدَىٰ، وَنَحْنُ السَّابِقُونَ، وَنَحْنُ الْآخِرُونَ، وَنَحْنُ الْعَلَمُ المَرْفُوعُ لِلْخَلْقِ

ص: 320


1- رواه الخاصَّة والعامَّة بألفاظ متقاربة، فراجع علىٰ سبيل المثال: عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 2/ ص 30/ ح 14)، وأمالي الطوسي (ص 259/ ح 470/8)، والمعجم الكبير للطبراني (ج 7/ ص 22)، ومستدرك الحاكم (ج 3/ ص 149).
2- يحتمل أنْ يكون هو عبَّاس بن الحسين البلخي أبو الفضل الذي سكن بغداد وتُوفِّي سنة (258ه). والمراد بمحمّد بن السري بن سهل إمَّا أبو المؤمَّل البغدادي أو أبو بكر القنطري أو أبو بكر البزَّاز. والعلم عند الله.
3- رواه الطوسي (رحمة الله) في أماليه (ص 379/ ح 812/63)، وابن بطريق (رحمة الله) في العمدة (ص 308/ ح 510)، والخوارزمي في مقتل الحسين (علیه السلام) (ج 1/ ص 162/ ح 65)، وسبط ابن الجوزي في تذكرة الخواصِّ (ص 291).

، مَنْ تَمَسَّكَ بِنَا لَحِقَ، وَمَنْ تَأَخَّرَ عَنَّا غَرِقَ، وَنَحْنُ قَادَةُ الْغُرِّ المُحَجَّلِينَ، وَنَحْنُ خِيَرَةُ اللهِ، وَنَحْنُ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ وَالصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ إِلَىٰ اللهِ (تبارک و تعالی)، وَنَحْنُ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ (عزوجل)عَلَىٰ خَلْقِهِ، وَنَحْنُ الْمِنْهَاجُ، وَنَحْنُ مَعْدِنُ النُّبُوَّةِ، وَنَحْنُ مَوْضِعُ الرِّسَالَةِ، وَنَحْنُ الَّذِينَ إِلَيْنَا تَخْتَلِفُ المَلَائِكَةُ، وَنَحْنُ السِّرَاجُ لِمَنِ اسْتَضَاءَ بِنَا، وَنَحْنُ السَّبِيلُ لِمَنِ اقْتَدَىٰ بِنَا، وَنَحْنُ الْهُدَاةُ إِلَىٰ الْجَنَّةِ، وَنَحْنُ عُرَىٰ الْإِسْلَامِ، وَنَحْنُ الْجُسُورُ وَالْقَنَاطِرُ(1)، مَنْ مَضَىٰ عَلَيْهَا لَمْ يُسْبَقْ، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا مُحِقَ، وَنَحْنُ السَّنَامُ الْأَعْظَمُ، وَنَحْنُ الَّذِينَ بِنَا يُنْزِلُ اللهُ (عزوجل)الرَّحْمَةَ، وَبِنَا يُسْقَوْنَ الْغَيْثَ، وَنَحْنُ الَّذِينَ بِنَا يُصْرَفُ عَنْكُمُ الْعَذَابُ، فَمَنْ عَرَفَنَا وَأَبْصَرَنَا وَعَرَفَ حَقَّنَا وَأَخَذَ بِأَمْرِنَا فَهُوَ مِنَّا وَإِلَيْنَا»(2).

[21/68] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ عُمَرَ الْيَمَانِيِّ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ(3)، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) لِأَمِيرِالمُؤْمِنِينَ (علیه السلام): اكْتُبْ مَا أُمْلِي عَلَيْكَ، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَتَخَافُ عَلَيَّ النِّسْيَانَ؟ فَقَالَ: لَسْتُ أَخَافُ عَلَيْكَ النِّسْيَانَ، وَقَدْ دَعَوْتُ اللهَ لَكَ أَنْ يُحَفِّظَكَ وَلَا يُنْسِيَكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ لِشُرَكَائِكَ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَنْ شُرَكَائِي يَا نَبِيَّ اللهِ؟ قَالَ: الْأَئِمَّةُ مِنْ وُلْدِكَ، بِهِمْ تُسْقَىٰ أُمَّتِي الْغَيْثَ، وَبِهِمْ يُسْتَجَابُ دُعَاؤُهُمْ، وَبِهِمْ يَصْرِفُ اللهُ عَنْهُمُ الْبَلَاءَ، وَبِهِمْ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ مِنَ السَّمَاءِ، وَهَذَا أَوَّلُهُمْ - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَىٰ

ص: 321


1- الجسور جمع الجسر، والقناطر جمع القنطرة: الجسر.
2- رواه الصفَّار (رحمة الله) بسند آخر في بصائر الدرجات (ص 82 و83/ ج 2/ باب 3/ ح 10)، والطوسي (رحمة الله) في أماليه (ص 654/ ح 1254/4)، والخصيبي (رحمة الله) في الهداية الكبرىٰ (ص 239 و240) مختصراً.
3- كذا، ورواية أبي الطفيل عن أبي جعفر (علیه السلام) في غاية البعد، بل ممَّا لا يكون. وفي بعض النُّسَخ: (عن أبي عبد الله الطفيل)، ولم أجده.

الْحَسَنِ (علیه السلام)، ثُمَّ أَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَىٰ الْحُسَيْنِ (علیه السلام) -، ثُمَّ قَالَ (علیه السلام): الْأَئِمَّةُ مِنْ وُلْدِهِ »(1).

[22/69] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَىٰ ابْنِ زَكَرِيَّا الْقَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ صَقْرٍ الْعَبْدِيُّ(2)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مِهْرَانَ الْأَعْمَشِ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (علیهم السلام)، قَالَ: «نَحْنُ أَئِمَّةُ المُسْلِمِينَ، وَحُجَجُ اللهِ عَلَىٰ الْعَالَمِينَ، وَسَادَةُ المُؤْمِنِينَ، وَقَادَةُ الْغُرِّ المُحَجَّلِينَ، وَمَوَالِي المُؤْمِنِينَ، وَنَحْنُ أَمَانٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ كَمَا أَنَّ النُّجُومَ أَمَانٌ لِأَهْلِ السَّمَاءِ، وَنَحْنُ الَّذِينَ بِنَا يُمْسِكُ اللهُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَىٰ الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَبِنَا يُمْسِكُ الْأَرْضَ أَنْ تَمِيدَ بِأَهْلِهَا(3)، وَبِنَا يُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَتُنْشَرُالرَّحْمَةُ، وَتَخْرُجُ بَرَكَاتُ الْأَرْضِ، وَلَوْلَا مَا فِي الْأَرْضِ مِنَّا لَسَاخَتْ بِأَهْلِهَا»، ثُمَّ قَالَ: «وَلَمْ تَخْلُ الْأَرْضُ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ آدَمَ مِنْ حُجَّةٍ لِلهِ فِيهَا ظَاهِرٍ مَشْهُورٍ أَوْ غَائِبٍ مَسْتُورٍ(4)، وَلَا تَخْلُو إِلَىٰ أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ مِنْ حُجَّةٍ لِلهِ فِيهَا، ولَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُعْبَدِ اللهُ»، قَالَ سُلَيْمَانُ: فَقُلْتُ لِلصَّادِقِ (علیه السلام): فَكَيْفَ يَنْتَفِعُ النَّاسُ بِالْحُجَّةِ الْغَائِبِ المَسْتُورِ؟ قَالَ: «كَمَا يَنْتَفِعُونَ بِالشَّمْسِ إِذَا سَتَرَهَا السَّحَابُ »(5).

ص: 322


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 485/ ح 659/1)، وعلل الشرائع (ج 1/ ص 208/ باب 156/ ح 8)، والصفَّار (رحمة الله) في بصائر الدرجات (ص 187 و188/ ج 4/ باب 1/ ح 22)، وابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 54/ ح 38)، والطوسي (رحمة الله) في أماليه (ص 441/ ح 989/46).
2- لم أظفر به.
3- في بعض النُّسَخ: (أنْ تمور بأهلها).
4- في بعض النُّسَخ: (خائف مغمور).
5- رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 252 و253/ ح 277/15)، والفتَّال (رحمة الله) في روضة الواعظين (ص 199).

[23/70] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَرَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: كَانَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِمْ حُمْرَانُ بْنُ أَعْيَنَ، وَمُؤْمِنُ الطَّاقِ، وَهِشَامُ بْنُ سَالِمٍ، وَالطَّيَّارُ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِمْ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ، وَهُوَ شَابٌّ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «يَا هِشَامُ»، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، قَالَ: «أَلَا تُخْبِرُنِي كَيْفَ صَنَعْتَ بِعَمْرِو ابْنِ عُبَيْدٍ؟ وَكَيْفَ سَأَلْتَهُ؟»، قَالَ هِشَامٌ: جُعِلْتُ فِدَاكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، إِنِّي أُجِلُّكَ وَأَسْتَحْيِيكَ وَلَا يَعْمَلُ لِسَانِي بَيْنَ يَدَيْكَ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَافْعَلُوهُ»، قَالَ هِشَامٌ: بَلَغَنِي مَا كَانَ فِيهِ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وجُلُوسُهُ فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ، وَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيَّ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، وَدَخَلْتُ الْبَصْرَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَأَتَيْتُ مَسْجِدَ الْبَصْرَةِ، فَإِذَا أَنَا بِحَلْقَةٍ كَبِيرَةٍ، وَإِذَا أَنَا بِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ عَلَيْهِ شَمْلَةٌ سَوْدَاءُ مِنْ صُوفٍ مُؤْتَزِرٌ بِهَا، وَشَمْلَةٌ مُرْتَدٍ بِهَا، وَالنَّاسُ يَسْأَلُونَهُ، فَاسْتَفْرَجْتُالنَّاسَ، فَأَفْرَجُوا لِي، ثُمَّ قَعَدْتُ فِي آخِرِ الْقَوْمِ عَلَىٰ رُكْبَتَيَّ، ثُمَّ قُلْتُ: أَيُّهَا الْعَالِمُ أَنَا رَجُلٌ غَرِيبٌ تَأْذَنُ لِي فَأَسْأَلَكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ؟ قَالَ: فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَلَكَ عَيْنٌ؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ، أَيُّ شَيْءٍ هَذَا مِنَ السُّؤَالِ؟ إِذَا تَرَىٰ شَيْئاً كَيْفَ تَسْأَلُ عَنْهُ؟ فَقُلْتُ: هَكَذَا مَسْأَلَتِي، قَالَ: يَا بُنَيَّ، سَلْ وَإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَتُكَ حَمْقَاءَ، قُلْتُ: أَجِبْنِي فِيهَا، قَالَ: فَقَالَ لِي: سَلْ، قَالَ: قُلْتُ: أَلَكَ عَيْنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ: فَمَا تَرَىٰ بِهَا؟ قَالَ: الْأَلْوَانَ وَالْأَشْخَاصَ، قَالَ: قُلْتُ: أَلَكَ أَنْفٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ فَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: أَشَمُّ بِهِ الرَّائِحَةَ، قَالَ: قُلْتُ: أَلَكَ لِسَانٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: أَتَكَلَّمُ بِهِ، قَالَ: قُلْتُ: أَلَكَ أُذُنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: أَسْمَعُ بِهَا الْأَصْوَاتَ، قَالَ: قُلْتُ: أَفَلَكَ يَدَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهِمَا؟ قَالَ: أَبْطِشُ بِهِمَا، وَأَعْرِفُ بِهِمَا اللَّيِّنَ مِنَ الْخَشِنِ، قَالَ: قُلْتُ: أَلَكَ رِجْلَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهِمَا؟ قَالَ: أَنْتَقِلُ بِهِمَا مِنْ مَكَانٍ إِلَىٰ

ص: 323

مَكَانٍ، قَالَ: قُلْتُ: أَلَكَ فَمٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: أَعْرِفُ بِهِ المَطَاعِمَ عَلَىٰ اخْتِلَافِهَا، قَالَ: قُلْتُ: أَفَلَكَ قَلْبٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: أُمَيِّزُ بِهِ كُلَّمَا وَرَدَ عَلَىٰ هَذِهِ الْجَوَارِحِ(1)، قَالَ: قُلْتُ: أَفَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْجَوَارِحِ غِنًى عَنِ الْقَلْبِ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ وَهِيَ صَحِيحَةٌ؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ الْجَوَارِحَ إِذَا شَكَّتْ فِي شَيْءٍ شَمَّتْهُ أَوْ رَأَتْهُ أَوْ ذَاقَتْهُ رَدَّتْهُ إِلَىٰ الْقَلْبِ، فَلْيُقِرَّ بِهِ الْيَقِينَ وَيُبْطِلُ الشَّكَّ، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنَّمَا أَقَامَ اللهُ (عزوجل)الْقَلْبَ لِشَكِّ الْجَوَارِحِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ: وَلَا بُدَّ مِنَ الْقَلْبِ وَإِلَّا لَمْ يَسْتَيْقِنِ الْجَوَارِحُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا مَرْوَانَ، إِنَّ اللهَ لَمْ يَتْرُكْ جَوَارِحَكَ حَتَّىٰ جَعَلَ لَهَا إِمَاماً يُصَحِّحُ لَهَا الصَّحِيحَ وَيَنْفِي مَا شَكَّتْ فِيهِ، وَيَتْرُكُ هَذَا الْخَلْقَ كُلَّهُمْ فِي حَيْرَتِهِمْ وَشَكِّهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ لَا يُقِيمُ لَهُمْ إِمَاماً يَرُدُّونَ إِلَيْهِ شَكَّهُمْ وَحَيْرَتَهُمْ وَيُقِيمُ لَكَ إِمَاماً لِجَوَارِحِكَ يُرَدُّ إِلَيْكَشَكُّكَ وَحَيْرَتُكَ؟ قَالَ: فَسَكَتَ، وَلَمْ يَقُلْ لِي شَيْئاً، قَالَ: ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ : أَنْتَ هِشَامٌ؟ فَقُلْتُ: لَا، قَالَ: فَقَالَ لِي: أَجَالَسْتَهُ؟ فَقُلْتُ: لَا، قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَ: فَأَنْتَ إِذاً هُوَ، قَالَ: ثُمَّ ضَمَّنِي إِلَيْهِ فَأَقْعَدَنِي فِي مَجْلِسِهِ، وَمَا نَطَقَ حَتَّىٰ قُمْتُ. فَضَحِكَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، ثُمَّ قَالَ: «يَا هِشَامُ، مَنْ عَلَّمَكَ هَذَا؟»، قَالَ: قُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، جَرَىٰ عَلَىٰ لِسَانِي، قَالَ: «يَا هِشَامُ، هَذَا وَاللهِ مَكْتُوبٌ فِي صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسىٰ »(2)(3).

ص: 324


1- في بعض النُّسَخ: (أُميِّز به الأُمور الواردة علىٰ هذه الجوارح).
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 685 - 687/ ح 942/15)، وفي علل الشرائع (ج 1/ ص 193 - 195/ باب 152/ ح 2)، والكليني (رحمة الله) بسند آخر في الكافي (ج 1/ ص 169 - 171/ باب الاضطرار إلىٰ الحجَّة/ ح 3)، والطوسي (رحمة الله) في اختيار معرفة الرجال (ج 2/ ص 549 - 551/ ح 490)، والطبرسي (رحمة الله) في الاحتجاج (ج 2/ ص 125 - 128).
3- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول (ج 2/ ص 265 - 268): (عمرو بن عبيد من رؤساء المعتزلة. والإجلال: التعظيم. «إذا أمرتكم» الأمر مفهوم من ألَا التحضيضيَّة، والمراد أنَّ إطاعة الأمر أوجب من رعاية الإجلال والاستحياء. وفي النهاية: الحلقة: الجماعة من الناس مستديرين كحلقة الباب وغيره. والشَّملة - بالفتح -: كساء يُشتَمل به. فاستفرجت: أي طلبت الفرجة وهي الخلل بين الشيئين، أو طلبت منهم الإفراج عن الطريق أي انكشافهم عنه فانكشفوا عنه لأجلي. أيُّها العالم: أي بزعم الناس. ووصف المسألة بالحمق علىٰ سبيل التجوُّز مبالغةً، وربَّما يُقرَأ حُمقاء بضمِّ الحاء وسكون الميم بدون ألف مصدراً. وإنَّما لم يذكر اللمس لأنَّه ليست له جارحة مخصوصة ظاهرة، أو لقلَّة الاشتباه فيه، مع أنَّه يُعرَف بالمقايسة. والمراد بالقلب النفس الناطقة المتعلِّقة أوَّلاً وبالذات بالروح الحيواني المنبعث عن القلب الصنوبري الذي نسبته إلىٰ أعضاء الحسِّ والحركة كنسبة النفس إلىٰ قوىٰ الحسِّ والحركة في أنَّه ينبعث منه الدم والروح البخاري إلىٰ سائر الأعضاء، فالنفس رئيس القوىٰ وإمامها، والقلب وهو مستقرُّها وعرش استوائها بإذن الله رئيس سائر الأعضاء وإمامها، أو المراد بالقلب القوَّة العقليَّة التي للنفس الإنسانيَّة أو ما يشمل القوىٰ الحسّيَّة الباطنة التي هي كالآلات للقوَّة العقليَّة في فكرتها وسائر تصرُّفاتها كما قيل. وأمَّا شكُّ الحواس وغلطها فقيل: معناه أنَّ العقل والوهم المشوب بالحسِّ يغلط، أو يشكُّ بسبب من الأسباب، ثمّ يعلم النفس بقوَّة العقل ما هو الحقُّ المتيقَّن كما يرىٰ البصر العظيم صغيراً لبعده، والصغير كبيراً لقربه، والواحد اثنين لحول في العين، والشجرة التي في طرف الحوض منكوسة لانعكاس شعاع البصر من الماء إليها، والسمع يسمع الصوت الواحد عند الجبل ونحوه ممَّا فيه صلابة أو صقالة صوتين، لانعكاس الهواء المكيَّف بكيفيَّة السمع إلىٰ الصماخ تارةً أُخرىٰ، ويقال للصوت الثاني: الصداء، وكما تجد الذائقة الحلو مرًّا لغلبة المرَّة الصفراء علىٰ جرم اللسان، وكذا تشمئزُّ الشامة من الروائح الطيِّبة بالزكام، فهذه وأمثالها أغلاط حسّيَّة يعرف القلب حقيقة الأمر فيها. وقيل: معناه أنَّ النفس مع هذه القوىٰ الحسّيَّة الظاهرة، تحتاج إلىٰ قوَّة حاكمة عليها، إذ من شأنها من حيث هذه القوىٰ هذه الإدراكات التصوُّريَّة دون التصديقات واليقينيَّات، فلا يستيقن إلَّا بقوَّة أُخرىٰ هي الحاكمة باليقينيَّات، وهي القوَّة التي بها تخرج عن الشكِّ إلىٰ اليقين، فإنَّما أقام الله القلب بإعطاء هذه القوَّة لتخرج بها النفس عن تلك المرتبة التي شأنها بحسبها الشكُّ وعدم الاستيقان إلىٰ مرتبة اليقين، ثمّ إذا كان بحكمته لا يخل بإعطاء ما تحتاج إليه نفسك في وصولها إلىٰ كمالها القابلة، كيف يخل بما يحتاج إليه الخلق كلُّهم، لخروجهم عن حيرتهم وشكِّهم إلىٰ الاستيقان بما فيه بقاؤهم ونجاتهم عن الضلال والهلاك؟ فأوَّل هذا الكلام تنبيه علىٰ حكمته المقتضية للصلاح والخير وإعطاء ما يحتاج إليه المستكمل في الخروج من النقصان إلىٰ الكمال، والوصول إلىٰ النجاة عن الضلال، وآخره الاستدلال من تلك الحكمة على إقامة الإمام الذي إنَّما يحصل نجاة الخلق عن حيرتهم وشكِّهم بمعرفته، والأخذ عنه، والاهتداء بهداه. قوله: فقلت لا، قال ذلك تورية للمصلحة، ويمكن أنْ يكون غرضه لا أُخبرك به).

قال مصنِّف هذا الكتاب (رضی الله عنه): وتصديق قولنا: إنَّ الإمام يُحتاج إليه لبقاء

ص: 325

العالم علىٰ صلاحه أنَّه ما عذَّب الله (عزوجل)أُمَّة إلَّا وأمر نبيَّها بالخروج من بين أظهرهم، كما قال الله (عزوجل)في قصَّة نوح (علیه السلام): «حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ» [هود: 40] منهم، وأمره الله (جلَّ وعزَّ) أنْ يعتزل عنهم مع أهل الإيمان به ولا يبقىٰ مختلطاً بهم، وقال (تبارک و تعالی): «وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ 37» [هود: 37]، وكذلك قال (عزوجل)في قصَّة لوط (علیه السلام): «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ» [هود: 81]، فأمره الله (عزوجل)بالخروج من بين أظهرهم قبل أنْ أنزل العذاب بهم، لأنَّه لم يكن (جلَّ وعزَّ) لينزل عليهم ونبيَّه لوط (علیه السلام) بين أظهرهم، وهكذا أمر الله (عزوجل)كلَّ نبيٍّ أراد هلاك أُمَّته أنْ يعتزلها كما قال إبراهيم (علیه السلام) مخوِّفاً بذلك قومه: «وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا 48 فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ» [مريم: 48 و49]، أهلك الله (عزوجل)الذين كانوا آذوه وعنتوه وألقوه في الجحيم وجعلهم الأسفلين ونجَّاه ولوطاً، كما قال الله تعالىٰ : «وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَىٰ الْأَرضِ الَّتِي بارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ 71» [الأنبياء: 71]، ووهب الله [جلَّت عظمته] لإبراهيم إسحاق ويعقوب كما قال (تبارک و تعالی): «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ 72» [الأنبياء: 72]، وقال الله (عزوجل)لنبيِّه محمّد (صلی الله علیه و آله): «وَمَا كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ»(1) [الأنفال: 33].

وَرُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ عَنْ أَئِمَّتِنَا (علیهم السلام) أَنَّ مَنْ رَأَىٰ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) أَوْ وَاحِداً مِنَ الْأَئِمَّةِ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ) قَدْ دَخَلَ مَدِينَةً أَوْ قَرْيَةً فِي

ص: 326


1- وتمام الآية: «وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ 33»، وفي بعض النُّسَخ كانت هذه الزيادة في المتن.

مَنَامِهِ فَإِنَّهُ أَمْنٌ لِأَهْلِ تِلْكَ المدِينَةِ أَوِ الْقَرْيَةِ مِمَّا يَخَافُونَ وَيَحْذَرُونَ وَبُلُوغٌ لِمَا يَأْمُلُونَ وَيَرْجُونَ .وفي حديث هشام مع عمرو بن عبيد حجَّة في الانتفاع بالحجَّة الغائب (علیه السلام)، وذلك أنَّ القلب غائب عن سائر الجوارح لا يُرىٰ بالعين ولا يُشَمُّ بالأنف ولا يُذاق بالفم ولا يُلمَس باليد وهو مدبِّر لهذه الجوارح مع غيبته عنها وبقاؤها علىٰ صلاحها، ولو لم يكن القلب لانفسد تدبير الجوارح ولم تستقم أُمورها فاحتيج إلىٰ القلب لبقاء الجوارح علىٰ صلاحها كما احتيج إلىٰ الإمام لبقاء العالم علىٰ صلاحه، ولا قوَّة إلَّا بالله.

وكما يُعلَم مكان القلب من الجسد بالخبر فكذلك يُعلَم مكان الحجَّة الغائب (علیه السلام) بالخبر، وهو ما ورد عن الأئمَّة (علیهم السلام) من الأخبار في كونه بمكَّة وخروجه منها في وقت ظهوره، ولسنا نعني بالقلب المضغة التي من اللحم، لأنَّ بها لا يقع الانتفاع للجوارح، وإنَّما نعني بالقلب اللطيفة التي جعلها الله (عزوجل)في هذه المضغة لا تُدرَك بالبصر وإنْ كُشِفَ عن تلك المضغة، ولا تُلمَس ولا تُذاق ولا توجد إلَّا بالعلم بها لحصول التمييز واستقامة التدبير من الجوارح والحجَّة بتلك اللطيفة علىٰ الجوارح [قائمة ما وُجِدَت والتكليف لها لازم ما بقيت، فإذا عُدِمَت تلك اللطيفة انفسد تدبير الجوارح وسقط التكليف عنها، فكما يجوز أنْ يحتجَّ اللهُ (عزوجل)بهذه اللطيفة الغائبة عن الحواسِّ علىٰ الجوارح، فكذلك جائز أنْ يحتجَّ (عزوجل)علىٰ جميع الخلق بحجَّة غائب عنهم به يدفع عنهم وبه يرزقهم وبه ينزل عليهم الغيث، ولا قُوَّةَ إِلَّا بالله].

* * *

ص: 327

ص: 328

الباب الثاني والعشرون

اشارة

اتِّصال الوصيَّة من لدن آدم (علیه السلام) وأنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة لله (عزوجل)على خلقه إلى يوم القيامة

ص: 329

ص: 330

[1/71] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ وَسَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ وَالْهَيْثَمُ ابْنُ أَبِي مَسْرُوقٍ النَّهْدِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ السَّرَّادِ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ دُوَالَ دُوزَ(1)، عَنْأَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ

ص: 331


1- مقاتل بن سليمان الأزدي الخراساني أبو الحسن البلخي نزيل مرو، يقال له: ابن دوال دوز، عامّيٌّ بتري، اختلفوا في شأنه، فبعضهم رفعوه فوق مقامه وبجَّلوه وقالوا: ما علم مقاتل بن سليمان في علم الناس إلَّا كالبحر الأخضر في سائر البحور، وبعضهم كذَّبوه وهجروه ورموه بالتجسيم، ففي تهذيب التهذيب عن أحمد بن سيَّار المروزي، قال: مقاتل متَّهم متروك الحديث مهجور القول، سمعت إسحاق إبراهيم يقول: أخبرني حمزة بن عميرة أنَّ خارجة مرَّ بمقاتل وهو يُحدِّث الناس، فقال: حدَّثنا أبو النضر - يعنى الكلبي -، قال: فمررت عليه مع الكلبي، فقال الكلبي: والله ما حدَّثته قطُّ بهذا، ثمّ دنا منه، فقال له: يا أبا الحسن، أنا أبو النضر وما حدَّثتك بهذا قطُّ، فقال مقاتل: اسكت يا أبا النضر فإنَّ تزيين الحديث لنا إنَّما هو بالرجال. وفيه قال أبو اليمان: قام مقاتل بن سليمان فقال: سلوني عمَّا دون العرش حتَّىٰ أُخبركم به، فقال له يوسف السمتي: من حلق رأس آدم أوَّل ما حجَّ؟ قال: لا أدري. وفيه أيضاً عن العبَّاس بن الوليد بن مزيد، عن أبيه، قال: سألت مقاتل عن أشياء فكان يُحدِّثني بأحاديث كلّ واحد ينقض الآخر، فقلت: بأيِّها آخذ؟ قال: بأيِّها شئت. وقال ابن معين: إنَّه (يعني مقاتل) ليس بثقة. وقال عمرو بن عليٍّ: متروك الحديث كذَّاب. وقال ابن سعد: أصحاب الحديث يتَّقون حديثه ويُنكِرونه. وقال النسائي: كذَّاب. وفي موضع آخر: الكذَّابون المعروفون بوضع الحديث علىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أربعة وعدَّ منهم مقاتل بن سليمان. (راجع: تهذيب التهذيب: ج 10/ ص 249 - 254/ الرقم 503). وعنونه العلَّامة (رحمة الله) في قسم الضعفاء من الخلاصة (ص 410/ الرقم 1)، وقال: (مقاتل بن سليمان من أصحاب الباقر (علیه السلام)، بتري، قاله الشيخ الطوسي (رحمة الله) والكشِّي. وقال البرقي: إنَّه عامّيٌّ).

اللهِ (صلی الله علیه و آله): «أَنَا سَيِّدُ النَّبِيِّينَ، وَوَصِيِّي سَيِّدُ الْوَصِيِّينَ، وَأَوْصِيَاؤُهُ سَادَةُ الْأَوْصِيَاءِ، إِنَّ آدَمَ (علیه السلام) سَأَلَ اللهَ (عزوجل)أَنْ يَجْعَلَ لَهُ وَصِيًّا صَالِحاً، فَأَوْحَىٰ اللهُ (عزوجل)إِلَيْهِ: أَنِّي أَكْرَمْتُ الْأَنْبِيَاءَ بِالنُّبُوَّةِ، ثُمَّ اخْتَرْتُ خَلْقِي فَجَعَلْتُ خِيَارَهُمُ الْأَوْصِيَاءَ، فَقَالَ آدَمُ (علیه السلام): يَا رَبِّ، فَاجْعَلْ وَصِيِّي خَيْرَ الْأَوْصِيَاءِ، فَأَوْحَىٰ اللهُ (عزوجل)إِلَيْهِ: يَا آدَمُ، أَوْصِ إِلَىٰ شَيْثٍ - وَهُوَ هِبَةُ اللهِ بْنُ آدَمَ -، فَأَوْصَىٰ آدَمُ إِلَىٰ شَيْثٍ، وَأَوْصَىٰ شَيْثٌ إِلَىٰ ابْنِهِ شَبَّانَ - وَهُوَ ابْنُ نَزْلَةَ الْحَوْرَاءِ(1) الَّتِي أَنْزَلَهَا اللهُ (عزوجل)عَلَىٰ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ فَزَوَّجَهَا شَيْثاً -، وَأَوْصَىٰ شَبَّانُ إِلَىٰ ابْنِهِ مجلث، وَأَوْصَىٰ مجلث إِلَىٰ محوق، وَأَوْصَىٰ محوق إِلَىٰ غثميشا، وَأَوْصَىٰ غثميشا إِلَىٰ أَخْنُوخَ - وَهُوَ إِدْرِيسُ النَّبِيُّ (علیه السلام) -، وَأَوْصَىٰ إِدْرِيسُ إِلَىٰ ناخور، وَدَفَعَهَا ناخور إِلَىٰ نُوحٍ (علیه السلام)، وَأَوْصَىٰ نُوحٌ إِلَىٰ سَامٍ، وَأَوْصَىٰ سَامٌ إِلَىٰ عثامر، وَأَوْصَىٰ عَثَامِرُ إِلَىٰ بَرْعَيْثَاشَا، وَأَوْصَىٰ بَرْعَيْثَاشَا إِلَىٰ يَافِثَ، وَأَوْصَىٰ يَافِثُ إِلَىٰ بَرَّةَ، وَأَوْصَىٰ بَرَّةُ إِلَىٰ جَفِيسَةَ(2)، وَأَوْصَىٰ جَفِيسَةُ إِلَىٰ عِمْرَانَ، وَدَفَعَهَا عِمْرَانُ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ (علیه السلام)، وَأَوْصَىٰ إِبْرَاهِيمُ إِلَىٰ ابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ، وَأَوْصَىٰ إِسْمَاعِيلُ إِلَىٰ إِسْحَاقَ، وَأَوْصَىٰ إِسْحَاقُ إِلَىٰ يَعْقُوبَ، وَأَوْصَىٰ يَعْقُوبُ إِلَىٰ يُوسُفَ، وَأَوْصَىٰ يُوسُفُ إِلَىٰ بَثْرِيَاءَ، وَأَوْصَىٰ بَثْرِيَاءُ إِلَىٰ شُعَيْبٍ، وَأَوْصَىٰ شُعَيْبٌ إِلَىٰ مُوسَىٰ بْنِ عِمْرَانَ، وَأَوْصَىٰ مُوسَىٰ إِلَىٰ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، وَأَوْصَىٰيُوشَعُ إِلَىٰ دَاوُدَ(3)، وَأَوْصَىٰ دَاوُدُ إِلَىٰ سُلَيْمَانَ، وَأَوْصَىٰ سُلَيْمَانُ إِلَىٰ آصَفَ بْنِ بَرْخِيَا، وَأَوْصَىٰ آصَفُ بْنُ بَرْخِيَا إِلَىٰ زَكَرِيَّا، وَدَفَعَهَا زَكَرِيَّا إِلَىٰ عِيسَىٰ بْنِ مَرْيَمَ (علیه السلام)، وَأَوْصَىٰ عِيسَىٰ إِلَىٰ شَمْعُونَ بْنِ حَمُّونَ الصَّفَا، وَأَوْصَىٰ شَمْعُونُ إِلَىٰ يَحْيَىٰ بْنِ

ص: 332


1- في بعض النُّسَخ: (هو ابن له من الحوراء).
2- في بعض النُّسَخ والفقيه: (جفسية).
3- مضطرب لأنَّ بين يوشع بن نون وداود (علیهما السلام) أزيد من ثلاثمائة عام، فإنَّ خروج بني إسرائيل من مصر في عام (1500) قبل الميلاد، وكان داود (علیه السلام) في (1000) قبل الميلاد، فكيف يُوصي يوشع إلىٰ داود؟ والبلاء من مقاتل بن سليمان العامِّي البتري.

زَكَرِيَّا(1)، وَأَوْصَىٰ يَحْيَىٰ بْنُ زَكَرِيَّا إِلَىٰ مُنْذِرٍ، وَأَوْصَىٰ مُنْذِرٌ إِلَىٰ سُلَيْمَةَ، وَأَوْصَىٰ سُلَيْمَةُ إِلَىٰ بُرْدَةَ».

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «وَدَفَعَهَا إِلَيَّ بُرْدَةُ، وَأَنَا أَدْفَعُهَا إِلَيْكَ يَا عَلِيُّ، وَأَنْتَ تَدْفَعُهَا إِلَىٰ وَصِيِّكَ، وَيَدْفَعُهَا وَصِيُّكَ إِلَىٰ أَوْصِيَائِكَ مِنْ وُلْدِكَ، وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ حَتَّىٰ تُدْفَعَ إِلَىٰ خَيْرِ أَهْلِ الْأَرْضِ بَعْدَكَ، وَلَتَكْفُرَنَّ بِكَ الْأُمَّةُ، وَلَتَخْتَلِفَنَّ عَلَيْكَ اخْتِلَافاً شَدِيداً، الثَّابِتُ عَلَيْكَ كَالمُقِيمِ مَعِي، وَالشَّاذُّ عَنْكَ فِي النَّارِ، وَالنَّارُ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ »(2).

[2/72] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَمَدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ (علیهما السلام)، قَالَ: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ عَهِدَ إِلَىٰ آدَمَ (علیه السلام) أَنْ لَا يَقْرَبَ الشَّجَرَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ فِي عِلْمِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا نَسِيَ فَأَكَلَ مِنْهَا، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ: «وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً 115» [طه: 115]، فَلَمَّا أَكَلَ آدَمُ مِنَ الشَّجَرَةِ أُهْبِطَ إِلَىٰ الْأَرْضِ، فَوُلِدَ لَهُ هَابِيلُ وَأُخْتُهُ تَوْأَماً، وَوُلِدَ لَهُ قَابِيلُ وَأُخْتُهُ تَوْأَماً، ثُمَّ إِنَّ آدَمَ أَمَرَ هَابِيلَ وَقَابِيلَ أَنْ يُقَرِّبَا قُرْبَاناً، وَكَانَ هَابِيلُ صَاحِبَ غَنَمٍ، وَكَانَ قَابِيلُ صَاحِبَ زَرْعٍ، فَقَرَّبَ هَابِيلُ كَبْشاً، وَقَرَّبَ قَابِيلُ مِنْ زَرْعِهِ مَا لَمْ يُنَقَّ، وَكَانَ كَبْشُ هَابِيلَ مِنْ أَفْضَلِ غَنَمِهِ، وَكَانَ زَرْعُ قَابِيلَ

ص: 333


1- وهذا أيضاً خلاف ما وقع، وإنَّما قُتِلَ يحيىٰ في أيَّام عيسىٰ (علیه السلام) علىٰ التحقيق.
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 486 - 488/ ح 661/3)، وفي من لا يحضره الفقيه (ج 4/ ص 174 - 177/ ح 5402)، وابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 21 - 23/ ح 1)، والطوسي (رحمة الله) في أماليه (ص 442 و443/ ح 991/48)، ومحمّد بن أبي القاسم الطبري (رحمة الله) في بشارة المصطفىٰ (ص 136 و137/ ح 87)، والراوندي (رحمة الله) في قَصص الأنبياء (ص 369 و370/ ح 478).

غَيْرَ مُنَقًّى، فَتُقُبِّلَ قُرْبَانُ هَابِيلَ، وَلَمْ يُتَقَبَّلْ قُرْبَانُ قَابِيلَ، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ (تبارک و تعالی): «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ ...» الْآيَةَ [المائدة: 27]، وَكَانَ الْقُرْبَانُ إِذَا قُبِلَ تَأْكُلُهُ النَّارُ، فَعَمَدَ قَابِيلُ إِلَىٰ النَّارِ فَبَنَىٰ لَهَا بَيْتاً، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ بَنَىٰ لِلنَّارِ الْبُيُوتَ، وَقَالَ: لَأَعْبُدَنَّ هَذِهِ النَّارَ حَتَّىٰ يُتَقَبَّلَ قُرْبَانِي، ثُمَّ إِنَّ عَدُوَّ اللهِ إِبْلِيسَ قَالَ لِقَابِيلَ: إِنَّهُ قَدْ تُقُبِّلَ قُرْبَانُ هَابِيلَ وَلَمْ يُتَقَبَّلْ قُرْبَانُكَ، فَإِنْ تَرَكْتَهُ يَكُونُ لَهُ عَقِبٌ يَفْتَخِرُونَ عَلَىٰ عَقِبِكَ، فَقَتَلَهُ قَابِيلُ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَىٰ آدَمَ (علیه السلام) قَالَ لَهُ: يَا قَابِيلُ، أَيْنَ هَابِيلُ؟ فَقَالَ: مَا أَدْرِي، وَمَا بَعَثْتَنِي لَهُ رَاعِياً، فَانْطَلَقَ آدَمُ، فَوَجَدَ هَابِيلَ مَقْتُولاً، فَقَالَ: لُعِنْتِ مِنْ أَرْضٍ كَمَا قَبِلْتِ دَمَ هَابِيلَ، فَبَكَىٰ آدَمُ عَلَىٰ هَابِيلَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ إِنَّ آدَمَ (علیه السلام) سَأَلَ رَبَّهُ (عزوجل)أَنْ يَهَبَ لَهُ وَلَداً، فَوُلِدَ لَهُ غُلَامٌ، فَسَمَّاهُ هِبَةَ اللهِ، لِأَنَّ اللهَ (عزوجل)وَهَبَهُ لَهُ، فَأَحَبَّهُ آدَمُ حُبًّا شَدِيداً، فَلَمَّا انْقَضَتْ نُبُوَّةُ آدَمَ (علیه السلام) وَاسْتُكْمِلَتْ أَيَّامُهُ أَوْحَىٰ اللهُ تَعَالَىٰ إِلَيْهِ أَنْ يَا آدَمُ إِنَّهُ قَدِ انْقَضَتْ نُبُوَّتُكَ وَاسْتَكْمَلْتَ أَيَّامَكَ، فَاجْعَلِ الْعِلْمَ الَّذِي عِنْدَكَوَالْإِيمَانَ وَالْاِسْمَ الْأَكْبَرَ وَمِيرَاثَ الْعِلْمِ وَآثَارَ النُّبُوَّةِ فِي الْعَقِبِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ عِنْدَ ابْنِكَ هِبَةِ اللهِ فَإِنِّي لَنْ أَقْطَعَ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ وَالْاِسْمَ الْأَكْبَرَ وَمِيرَاثَ الْعِلْمِ وَآثَارَ النُّبُوَّةِ فِي الْعَقِبِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَنْ أَدَعَ الْأَرْضَ إِلَّا وَفِيهَا عَالِمٌ يُعْرَفُ بِهِ دِينِي وَيُعْرَفُ بِهِ طَاعَتِي وَيَكُونُ نَجَاةً لِمَنْ يُولَدُ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ نُوحٍ، وَذَكَرَ آدَمُ (علیه السلام) نُوحاً (علیه السلام) وَقَالَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَىٰ بَاعِثٌ نَبِيًّا اسْمُهُ نُوحٌ، وَإِنَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ اللهِ (عزوجل)فَيُكَذِّبُونَهُ، فَيَقْتُلُهُمُ اللهُ بِالطُّوفَانِ، وَكَانَ بَيْنَ آدَمَ وَبَيْنَ نُوحٍ (علیه السلام) عَشَرَةُ آبَاءٍ، كُلُّهُمْ أَنْبِيَاءُ اللهِ، وَأَوْصَىٰ آدَمُ إِلَىٰ هِبَةِ اللهِ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيُؤْمِنْ بِهِ وَلْيَتَّبِعْهُ وَلْيُصَدِّقْ بِهِ فَإِنَّهُ يَنْجُو مِنَ الْغَرَقِ.

ثُمَّ إِنَّ آدَمَ (علیه السلام) لَمَّا مَرِضَ المَرْضَةَ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا أَرْسَلَ إِلَىٰ هِبَةِ اللهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنْ لَقِيتَ جَبْرَئِيلَ أَوْ مَنْ لَقِيتَ مِنَ المَلَائِكَةِ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: يَا

ص: 334

جَبْرَئِيلُ، إِنَّ أَبِي يَسْتَهْدِيكَ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَفَعَلَ، فَقَالَ لَهُ جَبْرَئِيلُ: يَا هِبَةَ اللهِ، إِنَّ أَبَاكَ قَدْ قُبِضَ وَمَا نَزَلْتُ إِلَّا لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَارْجِعْ، فَرَجَعَ فَوَجَدَ أَبَاهُ قَدْ قُبِضَ، فَأَرَاهُ جَبْرَئِيلُ (علیه السلام) كَيْفَ يُغَسِّلُهُ، فَغَسَّلَهُ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ قَالَ هِبَةُ اللهِ: يَا جَبْرَئِيلُ تَقَدَّمْ فَصَلِّ عَلَىٰ آدَمَ، فَقَالَ لَهُ جَبْرَئِيلُ (علیه السلام): يَا هِبَةَ اللهِ، إِنَّ اللهَ أَمَرَنَا أَنْ نَسْجُدَ لِأَبِيكَ فِي الْجَنَّةِ، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَؤُمَّ أَحَداً مِنْ وُلْدِهِ، فَتَقَدَّمَ هِبَةُ اللهِ فَصَلَّىٰ عَلَىٰ آدَمَ وَجَبْرَئِيلُ خَلْفَهُ وَحِزْبٌ مِنَ المَلَائِكَةِ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ تَكْبِيرَةً بِأَمْرِ جَبْرَئِيلَ، فَرُفِعَ مِنْ ذَلِكَ خَمْساً وَعِشْرُونَ تَكْبِيرَةً وَالسُّنَّةُ فِينَا الْيَوْمَ خَمْسُ تَكْبِيرَاتٍ، وَقَدْ كَانَ (صلی الله علیه و آله) يُكَبِّرُ عَلَىٰ أَهْلِ بَدْرٍ سَبْعاً وَتِسْعاً.

ثُمَّ إِنَّ هِبَةَ اللهِ لَمَّا دَفَنَ آدَمَ أَبَاهُ أَتَاهُ قَابِيلُ فَقَالَ لَهُ: يَا هِبَةَ اللهِ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آدَمَ أَبِي خَصَّكَ مِنَ الْعِلْمِ بِمَا لَمْ أُخَصَّ بِهِ، وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي دَعَا بِهِأَخُوكَ هَابِيلُ فَتُقُبِّلَ قُرْبَانُهُ، وَإِنَّمَا قَتَلْتُهُ لِكَيْلَا يَكُونَ لَهُ عَقِبٌ فَيَفْتَخِرُونَ عَلَىٰ عَقِبِي، فَيَقُولُونَ: نَحْنُ أَبْنَاءُ الَّذِي تُقُبِّلَ قُرْبَانُهُ، وَأَنْتُمْ أَبْنَاءُ الَّذِي لَمْ يُتَقَبَّلْ قُرْبَانُهُ، فَإِنَّكَ إِنْ أَظْهَرْتَ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي اخْتَصَّكَ بِهِ أَبُوكَ شَيْئاً قَتَلْتُكَ كَمَا قَتَلْتُ أَخَاكَ هَابِيلَ.

فَلَبِثَ هِبَةُ اللهِ وَالْعَقِبُ مِنْهُ مُسْتَخْفِينَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالْاِسْمِ الْأَكْبَرِ وَمِيرَاثِ الْعِلْمِ وَآثَارِ عِلْمِ النُّبُوَّةِ حَتَّىٰ بُعِثَ نُوحٌ وَظَهَرَتْ وَصِيَّةُ هِبَةِ اللهِ حِينَ نَظَرُوا فِي وَصِيَّةِ آدَمَ، فَوَجَدُوا نُوحاً (علیه السلام) قَدْ بَشَّرَ بِهِ أَبُوهُمْ آدَمُ، فَآمَنُوا بِهِ وَاتَّبَعُوهُ وَصَدَّقُوهُ، وَقَدْ كَانَ آدَمُ وَصَّىٰ هِبَةَ اللهِ أَنْ يَتَعَاهَدَ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ سَنَةٍ، فَيَكُونَ يَوْمَ عِيدٍ لَهُمْ، فَيَتَعَاهَدُونَ بَعْثَ نُوحٍ (علیه السلام) فِي زَمَانِهِ الَّذِي بُعِثَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ جَرَىٰ فِي وَصِيَّةِ كُلِّ نَبِيٍّ حَتَّىٰ بَعَثَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ مُحَمَّداً (صلی الله علیه و آله).

وَإِنَّمَا عَرَفُوا نُوحاً بِالْعِلْمِ الَّذِي عِنْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ (تبارک و تعالی): «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ ...» الْآيَةَ [هود: 25]، وَكَانَ مَا بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ

ص: 335

مُسْتَخْفِينَ وَمُسْتَعْلِنِينَ، وَلِذَلِكَ خَفِيَ ذِكْرُهُمْ فِي الْقُرْآنِ فَلَمْ يُسَمَّوْا كَمَا سُمِّيَ مَنِ اسْتَعْلَنَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ (تبارک و تعالی): «وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ» [النساء: 164]، يَعْنِي مَنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ مِنَ المُسْتَخْفِينَ كَمَا سَمَّىٰ المُسْتَعْلِنِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ.

فَمَكَثَ نُوحٌ (علیه السلام) فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً لَمْ يُشَارِكْهُ فِي نُبُوَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَكِنَّهُ قَدِمَ عَلَىٰ قَوْمٍ مُكَذِّبِينَ لِلْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ : «كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ 105» [الشعراء: 105]، يَعْنِي مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ إِلَىٰ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَىٰ قَوْلِهِ:«وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ 122» [الشعراء: 122].

ثُمَّ إِنَّ نُوحاً لَمَّا انْقَضَتْ نُبُوَّتُهُ وَاسْتُكْمِلَتْ أَيَّامُهُ أَوْحَىٰ اللهُ (عزوجل)إِلَيْهِ: يَا نُوحُ، إِنَّهُ قَدِ انْقَضَتْ نُبُوَّتُكَ وَاسْتَكْمَلْتَ أَيَّامَكَ، فَاجْعَلِ الْعِلْمَ الَّذِي عِنْدَكَ وَالْإِيمَانَ وَالْاِسْمَ الْأَكْبَرَ وَمِيرَاثَ الْعِلْمِ وَآثَارَ النُّبُوَّةِ فِي الْعَقِبِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ عِنْدَ سَامٍ، فَإِنِّي لَنْ أَقْطَعَهَا مِنْ بُيُوتَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ آدَمَ، وَلَنْ أَدَعَ الْأَرْضَ إِلَّا وَفِيهَا عَالِمٌ يُعْرَفُ بِهِ دِينِي وَتُعْرَفُ بِهِ طَاعَتِي وَيَكُونُ نَجَاةً لِمَنْ يُولَدُ فِيمَا بَيْنَ قَبْضِ النَّبِيِّ إِلَىٰ خُرُوجِ النَّبِيِّ الْآخَرِ، وَلَيْسَ بَعْدَ سَامٍ إِلَّا هُودٌ، فَكَانَ مَا بَيْنَ نُوحٍ وَهُودٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مُسْتَخْفِينَ وَمُسْتَعْلِنِينَ، وَقَالَ نُوحٌ: إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ بَاعِثٌ نَبِيّاً يُقَالُ لَهُ: هُودٌ، وَإِنَّهُ يَدْعُو قَوْمَهُ إِلَىٰ اللهِ (عزوجل)فَيُكَذِّبُونَهُ، وَإِنَّ اللهَ (عزوجل)مُهْلِكُهُمْ بِالرِّيحِ، فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيُؤْمِنْ بِهِ وَلْيَتَّبِعْهُ فَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ يُنَجِّيهِ مِنْ عَذَابِ الرِّيحِ، وَأَمَرَ نُوحٌ ابْنَهُ سَامَ أَنْ يَتَعَاهَدَ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ سَنَةٍ، وَيَكُونَ يَوْمَ عِيدٍ لَهُمْ، فَيَتَعَاهَدُونَ فِيهِ بَعْثَ هُودٍ وَزَمَانَهُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ هُوداً نَظَرُوا فِيمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَمِيرَاثِ الْعِلْمِ وَالْاِسْمِ الْأَكْبَرِ وَآثَارِ عِلْمِ النُّبُوَّةِ، فَوَجَدُوا هُوداً نَبِيًّا وَقَدْ بَشَّرَهُمْ بِهِ أَبُوهُمْ نُوحٌ

ص: 336

، فَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ وَاتَّبَعُوهُ فَنَجَوْا مِنْ عَذَابِ الرِّيحِ، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ (تبارک و تعالی): «وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً» [الأعراف: 65]، وَقَوْلُهُ: «كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ 123 إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ 124» [الشعراء: 123 و124]، وَقَالَ (تبارک و تعالی): «وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ» [البقرة: 132]، وقَوْلُهُ : «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا» لِنَجْعَلَهَا فِي أَهْلِ بَيْتِهِ، «وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ» [الأنعام: 84]، لِنَجْعَلَهَا فِي أَهْلِ بَيْتِهِ، فَآمَنَ الْعَقِبُ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ كَانَمِنْ قِبَلِ إِبْرَاهِيمَ لِإِبْرَاهِيمَ (علیه السلام)، وَكَانَ بَيْنَ هُودٍ وَإِبْرَاهِيمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَشَرَةُ أَنْبِيَاءَ، وَهُوَ قَوْلُهُ (تبارک و تعالی): «وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ 89» [هود: 89]، وَقَوْلُهُ: «فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي» [العنكبوت: 26]، وَقَوْلُ إِبْرَاهِيمَ: «إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ 99» [الصافَّات: 99]، وَقَوْلُهُ (جَلَّ وَعَزَّ): «وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ» [العنكبوت: 16]، فَجَرَىٰ بَيْنَ كُلِّ نَبِيٍّ وَنَبِيٍّ عَشَرَةُ آبَاءٍ وَتِسْعَةُ آبَاءٍ وَثَمَانِيَةُ آبَاءٍ كُلُّهُمْ أَنْبِيَاءُ، وَجَرَىٰ لِكُلِّ نَبِيٍّ مَا جَرَىٰ لِنُوحٍ وَكَمَا جَرَىٰ لِآدَمَ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ وَإِبْرَاهِيمَ (علیه السلام) حَتَّىٰ انْتَهَىٰ إِلَىٰ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ (علیه السلام)، ثُمَّ صَارَتْ بَعْدَ يُوسُفَ فِي الْأَسْبَاطِ إِخْوَتِهِ حَتَّىٰ انْتَهَتْ إِلَىٰ مُوسَىٰ بْنِ عِمْرَانَ، وَكَانَ بَيْنَ يُوسُفَ وَمُوسَىٰ (علیهما السلام) عَشَرَةٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَرْسَلَ اللهُ (عزوجل)مُوسَىٰ وَهَارُونَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ، ثُمَّ أَرْسَلَ اللهُ (عزوجل)الرُّسُلَ تَتْرَىٰ «كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ» [المؤمنون: 44]، وَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَقْتُلُ فِي الْيَوْمِ نَبِيَّيْنِ وَثَلَاثَةً وَأَرْبَعَةً حَتَّىٰ إِنَّهُ كَانَ يُقْتَلُ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ سَبْعُونَ نَبِيًّا وَيَقُومُ سُوقُ قَتْلِهِمْ فِي آخِرِ النَّهَارِ، فَلَمَّا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَىٰ مُوسَىٰ بْنِ عِمْرَانَ (علیه السلام) تُبَشِّرُ بِمُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله).

وَكَانَ بَيْنَ يُوسُفَ وَمُوسَىٰ (علیهما السلام) مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَشَرَةٌ، وَكَانَ وَصِيُّ مُوسَىٰ بْنِ

ص: 337

عِمْرَانَ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ، وَهُوَ فَتَاهُ الَّذِي قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ فِي كِتَابِهِ(1)، فَلَمْ تَزَلِ الْأَنْبِيَاءُ (علیهم السلام) تُبَشِّرُ بِمُحَمَّدٍ(صلی الله علیه و آله)، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: «يَجِدُونَهُ» يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ «مَكْتُوباً» يَعْنِي صِفَةَ مُحَمَّدٍ وَاسْمَهُ، «عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ»، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ (عزوجل)يَحْكِي عَنْ عِيسَىٰ ابْنِ مَرْيَمَ: «وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» [الصف: 6]، فَبَشَّرَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ (علیهما السلام) بِمُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) كَمَا بَشَّرَتِ الْأَنْبِيَاءُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً حَتَّىٰ بَلَغَتْ مُحَمَّداً (صلی الله علیه و آله)، فَلَمَّا قَضَىٰ مُحَمَّدٌ (صلی الله علیه و آله) نُبُوَّتَهُ وَاسْتُكْمِلَتْ أَيَّامُهُ أَوْحَىٰ اللهُ (عزوجل)إِلَيْهِ أَنْ يَا مُحَمَّدُ قَدْ قَضَيْتَ نُبُوَّتَكَ وَاسْتَكْمَلْتَ أَيَّامَكَ فَاجْعَلِ الْعِلْمَ الَّذِي عِنْدَكَ وَالْإِيمَانَ وَالْاِسْمَ الْأَكْبَرَ وَمِيرَاثَ الْعِلْمِ وَآثَارَ عِلْمِ النُّبُوَّةِ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام)، فَإِنِّي لَنْ أَقْطَعَ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ وَالْاِسْمَ الْأَكْبَرَ وَمِيرَاثَ الْعِلْمِ وَآثَارَ عِلْمِ النُّبُوَّةِ مِنَ الْعَقِبِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ كَمَا لَمْ أَقْطَعْهَا مِنْ بُيُوتَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَبِيكَ آدَمَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ (تبارک و تعالی): «إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَىٰ الْعَالَمِينَ 33 ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 34» [آل عمران: 33 و34]، فَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ لَمْ يَجْعَلِ الْعِلْمَ جَهْلاً، وَلَمْ يَكِلْ أَمْرَهُ إِلَىٰ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَلَكِنَّهُ أَرْسَلَ رَسُولاً مِنْ مَلَائِكَتِهِ إِلَىٰ نَبِيِّهِ، فَقَالَ لَهُ كَذَا وَكَذَا، وَأَمَرَهُ بِمَا يُحِبُّ، وَنَهَاهُ عَمَّا يُنْكِرُ، فَقَصَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ وَمَا خَلْفَهُ بِعِلْمٍ، فَعَلَّمَ ذَلِكَ الْعِلْمَ أَنْبِيَاءَهُ وَأَصْفِيَاءَهُ مِنَ الْآبَاءِ وَالْإِخْوَانِ بِالذُّرِّيَّةِ الَّتِي بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ (تبارک و تعالی): «فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً 54» [النساء: 54]، فَأَمَّا الْكِتَابُ فَالنُّبُوَّةُ، وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَهُمُ الْحُكَمَاءُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَصْفِيَاءِ مِنَالصَّفْوَةِ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ مِنَ الذُّرِّيَّةِ الَّتِي بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ

ص: 338


1- في سورة (الكهف: 60): «وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ».

الَّذِينَ جَعَلَ اللهُ (عزوجل)فِيهِمُ النُّبُوَّةَ وَفِيهِمُ الْعَاقِبَةُ وَحِفْظُ الْمِيثَاقِ حَتَّىٰ تَنْقَضِيَ الدُّنْيَا، فَهُمُ الْعُلَمَاءُ وَوُلَاةُ الْأَمْرِ وَأَهْلُ اسْتِنْبَاطِ الْعِلْمِ وَالْهُدَاةُ، فَهَذَا بَيَانُ الْفَضْلِ فِي الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ وَأَئِمَّةِ الْهُدَىٰ وَالْخُلَفَاءِ الَّذِينَ هُمْ وُلَاةُ أَمْرِ اللهِ وَأَهْلُ اسْتِنْبَاطِ عِلْمِ اللهِ وَأَهْلُ آثَارِ عِلْمِ اللهِ (عزوجل)مِنَ الذُّرِّيَّةِ الَّتِي بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ مِنَ الصَّفْوَةِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْآلِ وَالْإِخْوَانِ وَالذُّرِّيَّةِ مِنْ بُيُوتَاتِ الْأَنْبِيَاءِ، فَمَنْ عَمِلَ بِعَمَلِهِمْ وَانْتَهَىٰ إِلَىٰ أَمْرِهِمْ نَجَا بِنَصْرِهِمْ، وَمَنْ وَضَعَ وَلَايَةَ اللهِ وَأَهْلَ اسْتِنْبَاطِ عِلْمِ اللهِ فِي غَيْرِ أَهْلِ الصَّفْوَةِ مِنْ بُيُوتَاتِ الْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ اللهِ (عزوجل)وَجَعَلَ الْجُهَّالَ وُلَاةَ أَمْرِ اللهِ وَالمُتَكَلِّفِينَ بِغَيْرِ هُدًى، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَهْلُ اسْتِنْبَاطِ عِلْمِ اللهِ، فَكَذَّبُوا عَلَىٰ اللهِ وَزَاغُوا(1) عَنْ وَصِيَّةِ اللهِ وطَاعَتِهِ، فَلَمْ يَضَعُوا فَضْلَ اللهِ حَيْثُ وَضَعَهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا أَتْبَاعَهُمْ، فَلَا تَكُونُ(2) لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُجَّةٌ، إِنَّمَا الْحُجَّةُ فِي آلِ إِبْرَاهِيمَ، لِقَوْلِ اللهِ (تبارک و تعالی): «فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً 54» [النساء: 54]، فَالْحُجَّةُ الْأَنْبِيَاءُ وَأَهْلُ بُيُوتَاتِ الْأَنْبِيَاءِ حَتَّىٰ تَقُومَ السَّاعَةُ، لِأَنَّ كِتَابَ اللهِ يَنْطِقُ بِذَلِكَ وَوَصِيَّةَ اللهِ جَرَتْ بِذَلِكَ فِي الْعَقِبِ مِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي رَفَعَهَا اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ عَلَىٰ النَّاسِ، فَقَالَ: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» [النور: 36]، وهِيَ بُيُوتَاتُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْحُكَمَاءِ وَأَئِمَّةِ الْهُدَىٰ، فَهَذَا بَيَانُ عُرْوَةِ الْإِيمَانِ الَّتِي بِهَا نَجَا مَنْ نَجَا قَبْلَكُمْ، وَبِهَا يَنْجُو مَنِ اتَّبَعَ الْأَئِمَّةَ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ فِي كِتَابِهِ: «وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 84 وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ

ص: 339


1- الزيغ: الميل عن الحقِّ. وفي بعض النُّسَخ: (فقد كذَّبوا...).
2- في بعض النُّسَخ: (ولم تكن).

الصَّالِحِينَ 85 وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَىٰ الْعَالَمِينَ 86 وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ 87 »ذَلِكَ هُدَىٰ اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ 88« أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكافِرِينَ 89» [الأنعام: 84 - 89]، فَإِنَّهُ وَكَّلَ بِالْفَضْلِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ مِنَ الْآبَاءِ وَالْإِخْوَانِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ (عزوجل)فِي كِتَابِهِ: «فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا» أُمَّتُكَ «فَقَدْ وَكَّلْنَا» أَهْلَ بَيْتِكَ بِالْإِيمَانِ الَّذِي أَرْسَلْتُكَ بِهِ، فَلَا يَكْفُرُونَ بِهَا أَبَداً، وَلَا أُضِيعُ الْإِيمَانَ الَّذِي أَرْسَلْتُكَ بِهِ، وَجَعَلْتُ أَهْلَ بَيْتِكَ بَعْدَكَ عَلَماً عَلَىٰ أُمَّتِكَ(1) وَوُلَاةً مِنْ بَعْدِكَ وَأَهْلَ اسْتِنْبَاطِ عِلْمِيَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ كَذِبٌ وَلَا إِثْمٌ وَلَا وِزْرٌ وَلَا بَطَرٌ وَلَا رِيَاءٌ، فَهَذَا تِبْيَانُ مَا بَيَّنَهُ اللهُ (عزوجل)مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا (صلی الله علیه و آله)، إِنَّ اللهَ تَعَالَىٰ طَهَّرَ أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّهِ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجْرَ المَوَدَّةِ وَأَجْرَىٰ لَهُمُ الْوَلَايَةَ وَجَعَلَهُمْ أَوْصِيَاءَهُ وَأَحِبَّاءَهُ وَأَئِمَّتَهُ بَعْدَهُ فِي أُمَّتِهِ(2)، فَاعْتَبِرُوا أَيُّهَا النَّاسُ فِيمَا قُلْتُ، وَتَفَكَّرُوا حَيْثُ وَضَعَ اللهُ (عزوجل)وَلَايَتَهُ وَطَاعَتَهُ وَمَوَدَّتَهُ وَاسْتِنْبَاطَ عِلْمِهِ وَحُجَّتَهُ، فَإِيَّاهُ فَتَعَلَّمُوا، وَبِهِ فَاسْتَمْسِكُوا تَنْجُوا، وَتَكُونُ لَكُمْ بِهِ حُجَّةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْفَوْزُ، فَإِنَّهُمْ صِلَةُ مَابَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ، وَلَا تَصِلُ الْوَلَايَةُ إِلَىٰ اللهِ (عزوجل)إِلَّا بِهِمْ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَىٰ اللهِ (عزوجل)أَنْ يُكْرِمَهُ وَلَا يُعَذِّبَهُ، وَمَنْ يَأْتِ اللهَ بِغَيْرِ مَا أَمَرَهُ كَانَ حَقًّا عَلَىٰ اللهِ أَنْ يُذِلَّهُ وَيُعَذِّبَهُ» (3).

وإنَّ الأنبياء بُعثوا خاصَّة وعامَّة، فأمَّا نوح فإنَّه أُرسل إلىٰ من في الأرض بنبوَّة

ص: 340


1- في بعض النُّسَخ: (بعدك علماء أُمَّتك)، وفي بعضها: (بعدك علماء عنك وولاة...) إلخ.
2- في بعض النُّسَخ: (وحُجَجه ثابتة بعده في أُمَّته).
3- هنا تمام الخبر كما في الكافي (ج 8/ ص 113 - 120/ ح 92)، والظاهر أنَّ الباقي من كلام المؤلِّف أخذه من الأخبار.

عامَّة ورسالة عامَّة، وأمَّا هود فإنَّه أُرسل إلىٰ عاد بنبوَّة خاصَّة، وأمَّا صالح فإنَّه أُرسل إلىٰ ثمود وهي قرية واحدة لا تُكمِل أربعين بيتاً علىٰ ساحل البحر صغيرة(1)، وأمَّا شعيب فإنَّه أُرسل إلىٰ مدين وهي لا تُكمِل أربعين بيتاً، وأمَّا إبراهيم نبوَّته بكوثىٰ ربَّا وهي قرية من قرىٰ السواد فيها بدأ أوَّل أمره، ثمّ هاجر منها وليست بهجرة قتال، وذلك قوله (تبارک و تعالی): «إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ 99» [الصافَّات: 99]، فكانت هجرة إبراهيم بغير قتال، وأمَّا إسحاق فكانت نبوَّته بعد إبراهيم، وأمَّا يعقوب فكانت نبوَّته بأرض كنعان، ثمّ هبط إلىٰ أرض مصر فتُوفِّي بها، ثمّ حُمِلَ بعد ذلك جسده حتَّىٰ دُفِنَ بأرض كنعان، والرؤيا التي رأىٰ يوسف الأحد عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين، فكانت نبوَّته في أرض مصر بدؤها، ثمّ إنَّ الله تبارك وتعالىٰ أرسل الأسباط اثني عشر بعد يوسف، ثمّ موسىٰ وهارون إلىٰ فرعون وملئه إلىٰ مصر وحدها، ثمّ إنَّ الله تبارك وتعالىٰ أرسل يوشع بن نون إلىٰ بني إسرائيل من بعد موسىٰ، فنبوَّته بدؤها في البرّيَّة التي تاه فيها بنو إسرائيل، ثمّ كانت أنبياء كثيرون منهم من قصَّه الله (عزوجل)علىٰ محمّد (صلی الله علیه و آله) ومنهم من لم يقصّه علىٰ محمّد، ثمّ إنَّ الله(عزوجل)أرسل عيسىٰ (علیه السلام) إلىٰ بني إسرائيل خاصَّة، فكانت نبوَّته ببيت المقدس، وكان من بعده الحواريُّون اثنا عشر، فلم يزل الإيمان يستسرُّ في بقيَّة أهله منذ رفع الله (عزوجل)عيسىٰ (علیه السلام) وأرسل الله (عزوجل)محمّداً (صلی الله علیه و آله) إلىٰ الجنِّ والإنس عامَّة، وكان خاتم الأنبياء، وكان من بعده الاثنا عشر الأوصياء، منهم من أدركنا ومنهم من سبقنا، ومنهم من بقي، فهذا أمر النبوَّة والرسالة، فكلُّ نبيِّ أُرسل إلىٰ بني إسرائيل خاصٌّ أو عامٌّ له وصيٌّ جرت به السُّنَّة، وكان الأوصياء الذين بعد النبيِّ (صلی الله علیه و آله) علىٰ سُنَّة أوصياء عيسىٰ (علیه السلام)، وكان أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) علىٰ سُنَّة المسيح (علیه السلام)، فهذا تبيان السُّنَّة وأمثال الأوصياء بعد الأنبياء (علیهم السلام).

ص: 341


1- أي بيوتاً صغيرة.

[3/73] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَىٰ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَوَّلِ - يَعْنِي مُوسَىٰ ابْنَ جَعْفَرٍ (علیهما السلام) -، قَالَ: «مَا تَرَكَ اللهُ (عزوجل)الْأَرْضَ بِغَيْرِ إِمَامٍ قَطُّ مُنْذُ قُبِضَ آدَمُ (علیه السلام) يَهْتَدِي بِهِ إِلَىٰ اللهِ (تبارک و تعالی)، وَهُوَ الْحُجَّةُ عَلَىٰ الْعِبَادِ، مَنْ تَرَكَهُ ضَلَّ(1)، ومَنْ لَزِمَهُ نَجَا، حَقًّا عَلَىٰ اللهِ (تبارک و تعالی)».

[4/74] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ المَدَائِنِيِّ، عَنْ مُصَدِّقِ بْنِ صَدَقَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ مُوسَىٰ السَّابَاطِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ: «لَمْتَخْلُ الْأَرْضُ مُنْذُ كَانَتْ مِنْ حُجَّةٍ عَالِمٍ يُحْيِي فِيهَا مَا يُمِيتُونَ مِنَ الْحَقِّ»، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: «يُرِيدُنَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ 8» [الصفّ: 8] »(2).

[5/75] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ أَبِي مَسْرُوقٍ النَّهْدِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الْبَرْقِيِّ، عَنْ خَلَفِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «الْحُجَّةُ قَبْلَ الْخَلْقِ، ومَعَ الْخَلْقِ، وَبَعْدَ الْخَلْقِ »(3)(4).

ص: 342


1- في بعض النُّسَخ: (هلك).
2- رواه الصفَّار (رحمة الله) في بصائر الدرجات (ص 507/ ج 10/ باب 10/ ح 17).
3- رواه الصفَّار (رحمة الله) في بصائر الدرجات (ص 507/ ج 10/ باب 11/ ح 1)، وابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 135/ ح 149)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 177/ باب أنَّ الحجَّة لا تقوم لله علىٰ خلقه إلَّا بإمام/ ح 4)، والمفيد (رحمة الله) في الاختصاص (ص 23)، وليس فيه: (وبعد الخلق)، وابن حمزة (رحمة الله) في الثاقب في المناقب (ص 117).
4- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي (ج 5/ ص 121): (قوله : «الحجَّة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق»، الحجَّة قبل الخلق في الميثاق، ومع الخلق في هذه الدار، وبعد الخلق في دار الآخرة والبرزخ، ويحتمل أنْ يُراد بالحجَّة قبل الخلق آدم وبالحجَّة بعد الخلق الصاحب المنتظر لأنَّه آخر مَنْ يموت وبالحجَّة مع الخلق سائر الأنبياء والأوصياء. وبالجملة هذا الحديث يفيد أنَّه لا بدَّ لله تعالىٰ من حجَّة علىٰ الخلق حتَّىٰ إنَّ لزمانهم بداية ونهاية وما بينهما لا يخلو منه، فمن زعم أنَّ الزمان خالٍ منه فهو ضالٌّ مضلٌّ وميتته ميتة جاهليَّة). وقال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول (ج 2/ ص 294): (الحجَّة: البرهان، والمراد بها هنا الإمام (علیه السلام)، إذ به تقوم حجَّة الله علىٰ الخلق. (قبل الخلق): أي قبل جميعهم من المكلَّفين كآدم (علیه السلام)، إذ كان قبل خلق حوَّاء وخلق ذرّيَّته. (ومع الخلق): لعدم خلو الأرض من الإمام، وبعدهم إذ القائم أو أمير المؤمنين (علیهما السلام) آخر من يموت من الخلق، أو يكون الحجَّة قبل كلِّ أحد ومعه وبعده، وقيل: حجّيَّة الحجَّة قبل إيجاد الخلق في الميثاق، ومعهم في الدنيا، وبعد موتهم في القيامة. وأقول: يحتمل علىٰ بعد أنْ يكون المعنىٰ: هو قبل الخلق بالعلّيَّة، ومعهم بالزمان، وبعدهم بالغائيَّة، ولعلَّ المصنِّف (رحمة الله) حمله عليٰ المعنىٰ الثالث).

[6/76] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ، عَنْ سُلَيْمٍ مَوْلَىٰ طِرْبَالٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَخْلُ إِلَّا وَفِيهَا عَالِمٌ، كَيْمَا إِنْ زَادَ المُسْلِمُونَ شَيْئاً رَدَّهُمْ إِلَىٰ الْحَقِّ، وَإِنْ نَقَصُوا شَيْئاً تَمَّمَهُ لَهُمْ »(1).

[7/77] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ اللَّيْثِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ آبَائِهِ (علیهم السلام)، أَنَّ النَّبِيَّ (صلی الله علیه و آله) قَالَ: «إِنَّ فِي كُلِّ خَلَفٍ مِنْ أُمَّتِي عَدْلاً مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يَنْفِي عَنْ هَذَا الدِّينِ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ المُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ، وَإِنَّ أَئِمَّتَكُمْ قَادَتُكُمْ إِلَىٰ اللهِ (تبارک و تعالی)، فَانْظُرُوا بِمَنْ تَقْتَدُونَ فِي دِينِكُمْ وَصَلَاتِكُمْ »(2).

ص: 343


1- رواه الصفَّار (رحمة الله) في بصائر الدرجات (ص 351/ ج 7/ باب 10/ ح 2) بسند آخر.
2- روىٰ قريباً منه الحميري (رحمة الله) في قرب الإسناد (ص 77/ ح 250)، والكراجكي (رحمة الله) في كنز الفوائد (ص 152).

[8/78] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَجَّالِ، عَنْ حَمَّادِ ابْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) فِي قَوْلِ اللهِ (تبارک و تعالی): «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» [النساء: 59]، قَالَ: «الْأَئِمَّةُ مِنْ وُلْدِعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ (علیهما السلام) إِلَىٰ أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ»(1).

[9/79] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىٰ مَوْلَانَا أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ ابْنِ عَلِيٍّ الْعَسْكَرِيِّ (علیهما السلام)، فَقَالَ: «يَا أَحْمَدُ، مَا كَانَ حَالُكُمْ فِيمَا كَانَ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الشَّكِّ وَالْاِرْتِيَابِ؟»، فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَيِّدِي، لَمَّا وَرَدَ الْكِتَابُ لَمْ يَبْقَ مِنَّا رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ وَلَا غُلَامٌ بَلَغَ الْفَهْمَ إِلَّا قَالَ بِالْحَقِّ، فَقَالَ: «احْمَدِ اللهَ عَلَىٰ ذَلِكَ يَا أَحْمَدُ، أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ؟ وَأَنَا ذَلِكَ الْحُجَّةُ - أَوْ قَالَ: أَنَا الْحُجَّةُ -»(2).

[10/80] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: خَرَجَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام) إِلَىٰ بَعْضِ رِجَالِهِ فِي عَرْضِ كَلَامٍ لَهُ: «مَا مُنِيَ أَحَدٌ مِنْ آبَائِي (علیهم السلام) بِمَا مُنِيتُ بِهِ مِنْ شَكِّ هَذِهِ الْعِصَابَةِ فِيَّ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ أَمْراً اعْتَقَدْتُمُوهُ وَدِنْتُمْ بِهِ إِلَىٰ وَقْتٍ ثُمَّ يَنْقَطِعُ فَلِلشَّكِّ مَوْضِعٌ، وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلاً مَا اتَّصَلَتْ أُمُورُ اللهِ (تبارک و تعالی)، فَمَا مَعْنَىٰ هَذَا الشَّكِ ؟!»(3).

[11/81] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ

ص: 344


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 2/ ص 139/ ح 14)، وابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 133 و134/ ح 145)، والطبري (رحمة الله) في دلائل الإمامة (ص 436/ ح 406/10)، وابن شهرآشوب (رحمة الله) في مناقب آل أبي طالب (ج 1/ ص 242).
2- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 100/ ح 88).
3- رواه ابن شعبة (رحمة الله) في تُحَف العقول (ص 487).

اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ جَمِيعاً، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِالْأَشْعَثِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) يَقُولُ: «أَتَرَوْنَ الْأَمْرَ إِلَيْنَا نَضَعُهُ حَيْثُ نَشَاءُ؟! كَلَّا، وَاللهِ إِنَّهُ لَعَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) إِلَىٰ رَجُلٍ فَرَجُلٍ حَتَّىٰ يَنْتَهِيَ إِلَىٰ صَاحِبِهِ »(1).

[12/82] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ وَسَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَهْزِيَارَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَدِيدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ النُّعْمَانِ وَ[الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ] الْوَشَّاءِ جَمِيعاً، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (علیه السلام) وَهُوَ يَقُولُ: «لَنْ تَخْلُوَ الْأَرْضُ إِلَّا وَفِيهَا رَجُلٌ مِنَّا يَعْرِفُ الْحَقَّ، فَإِذَا زَادَ النَّاسُ فِيهِ قَالَ: قَدْ زَادُوا، وَإِذَا نَقَصُوا مِنْهُ قَالَ: قَدْ نَقَصُوا، وَإِذَا جَاؤُوا بِهِ صَدَّقَهُمْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يُعْرَفِ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ»(2).

قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَوَّاضٍ الطَّائِيُّ: بِاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَسَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)، بِاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَسَمِعْتُهُ مِنْهُ.

[13/83] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْزِيَارَ، عَنْ أَخِيهِ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ وَفَضَالَةَ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)، قَالَ: «إِنَّ عَلِيًّا(علیه السلام) عَالِمُ هَذِهِ الْأُمَّةِ(3)، وَالْعِلْمُ يُتَوَارَثُ ،

ص: 345


1- رواه الصفَّار (رحمة الله) في بصائر الدرجات (ص 491/ ج 10/ باب 1/ ح 5).
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) بسند آخر في علل الشرائع (ج 1/ ص 201/ باب 153/ ح 31)، والصفَّار (رحمة الله) في بصائر الدرجات (ص 351/ ج 7/ باب 10/ ح 4)، والمفيد (رحمة الله) في الاختصاص (ص 289).
3- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي (ج 5/ ص 298): (قد علم (علیه السلام) ما في عالم الأمر وهو عالم الملائكة الروحانيَّة المجرَّدة وما في عالم الخلق وهو عالم الجسمانيَّات، وقد قال (علیه السلام): «والله لو شئت أنْ أُخبر كلَّ رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت»، والسبب هو أنَّ نفسه المقدَّسة لكمال نورانيَّتها وعدم تعلُّقها بالعلائق الجسمانيَّة وغيرها اتَّصلت بالحضرة الإلهيَّة اتِّصالاً تامًّا فأُفيضت عليها صورة الحقائق الكلّيَّة والجزئيَّة وصارت بحيث كانت مشاهدة لها كالمبصرات الحاضرة عند البصر. قوله: «والعلم يتوارث» لأنَّ بناء نظام الخلق علىٰ أمرين ثانيهما متوقِّف على الأوَّل، أحدهما: العلم وهو من الله تعالىٰ، وثانيهما: العمل وهو من الخلق، فلو لم يتوارث العلم وذهب العالم بعلمه بقي الخلق جاهلين لمراشدهم ومصالحهم وطريق أعمالهم فبطل أيضاً وفسد النظام ولا حجَّة لله تعالىٰ علىٰ الخلق حينئذٍ بعد العالم، بل الحجَّة لهم علىٰ الله، فاقتضت الحكمة البالغة توارث العلم وبقاء عالم بعد عالم لئلَّا يكون لهم حجَّة علىٰ الله).

وَلَيْسَ يَهْلِكُ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا تَرَكَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ مَنْ يَعْلَمُ مِثْلَ عِلْمِهِ أَوْ مَا شَاءَ اللهُ».

[14/84] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ وَأَبَا جَعْفَرٍ (علیهما السلام) يَقُولَانِ : «إِنَّ الْعِلْمَ الَّذِي [أُ]هْبِطَ مَعَ آدَمَ لَمْ يُرْفَعْ، وَالْعِلْمُ يُتَوَارَثُ، وَكُلُّ شَيْ ءٍ مِنَ الْعِلْمِ وَآثَارِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنَّ عَلِيًّا (علیه السلام) عَالِمُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَمُتْ مِنَّا عَالِمٌ إِلَّا خَلَّفَ مِنْ بَعْدِهِ مَنْ يَعْلَمُ مِثْلَ عِلْمِهِ أَوْ مَا شَاءَ اللهُ»(1).

[15/85] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ المُغِيرَةِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ الْأَرْضَ لَا تُتْرَكُ إِلَّا بِعَالِمٍ يَعْلَمُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَمَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَىٰ النَّاسِ»، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، عَلِمَ مَا ذَا؟ قَالَ: «وِرَاثَةً مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) وَعَلِيٍّ (علیه السلام)»(2).

ص: 346


1- راجع ما رواه المصنِّف (رحمة الله) في علل الشرائع (ج 2/ ص 591/ باب 383/ ح 40)، والبرقي (رحمة الله) في المحاسن (ج 1/ ص 235/ ح 196)، والصفَّار (رحمة الله) في بصائر الدرجات (ص 134/ ج 3/ باب 1)، وابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 87/ ح 75)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 221/ باب أنَّ الأئمَّة (علیهم السلام) ورثة العلم يرث بعضهم بعضاً العلم).
2- رواه بسند آخر الصفَّار (رحمة الله) في بصائر الدرجات (ص 347/ ج 7/ باب 8/ ح 4).

[16/86] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ، عَنْ فَضَالَةَ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): هَلْ تَكُونُ الْأَرْضُ إِلَّا وَفِيهَا إِمَامٌ؟ قَالَ: «لَا تَكُونُ إِلَّا وَفِيهَا إِمَامٌ عَالِمٌ بِحَلَالِهِمْ وَحَرَامِهِمْ وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ ».

[17/87] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ، عَنْ فَضَالَةَ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ : قُلْتُ لَهُ: تَكُونُ الْأَرْضُ بِغَيْرِ إِمَامٍ؟ قَالَ: «لَا»، قُلْتُ: أَفَيَكُونُ إِمَامَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ: «لَا، إِلَّا وَأَحَدُهُمَا صَامِتٌ»، قُلْتُ: فَالْإِمَامُ يَعْرِفُ الْإِمَامَ الَّذِي مِنْ بَعْدِهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: قُلْتُ: الْقَائِمُ إِمَامٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِمَامُ اِبْنُ إِمَامٍ قَدِ اؤْتُمَّ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ »(1)(2).

[18/88] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَىٰ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ

ص: 347


1- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 101/ ح 90).
2- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي (ج 5/ ص 122): (قوله: (قلت: [أف]يكون إمامان [في وقتٍ واحدٍ]؟ قال: لا...) إلخ، في طريق العامَّة أيضاً ما يدلُّ علىٰ اعتبار الوحدة في الإمام، قال الآبي في كتاب إكمال الإكمال وحديث: «إذا بويع الخليفتان فاقتلوا الآخر منهما» يدلُّ على أنَّ شرطها الوحدة وعدم التعدُّد، وقال بعضهم: إنَّ هذا الشرط إنَّما هو بحسب الإمكان فلو بعُد موضع إمام حتَّىٰ لا ينفذ حكمه في بعض الأقطار البعيدة جاز نصب غيره بذلك القطر. وفيه أنَّ الكلام في خليفة الأصل وإلَّا فيجوز التعدُّد في نائبه قطعاً، اللَّهُمَّ إلَّا أنْ يقول ذلك القائل: إنَّه يجوز لأهل الأقطار البعيدة أنْ يُنصِّبوا لأنفسهم خليفة كما نصَّبوا أوَّلاً، وفي شرح نهج البلاغة أنَّ في آخر الزَّمان لا يكون في كلِّ وقت وزمان إلَّا إمام واحد، وأمَّا الأنبياء والأوصياء في الزَّمن الأوَّل كانوا في عهد واحد جماعة كثيرة، وفي آخر الزَّمان مذ عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلىٰ قيام الساعة لا يكون في كلِّ حين إلَّا وصيٌّ واحد). وقال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول (ج 2/ ص 294): («إلَّا وأحدهما صامت» أي ساكت عن الدعوة والتعريف وادِّعاء الإمامة، والناطق إمام عليه في الحال كالسبطين (علیهما السلام).

يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ المُغِيرَةِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «لَمْ يَتْرُكِ اللهُ (جَلَّ وَعَزَّ) الْأَرْضَ بِغَيْرِ عَالِمٍ يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِمْ بِعِلْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ»، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، بِمَا ذَا يَعْلَمُ؟ قَالَ: «بِوَرَاثَةٍ مِنْ رَسُولِ اللهِ، وَمِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا)».

[19/89] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ المُغِيرَةِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِنَّ الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَ آدَمَ (علیه السلام) لَمْ يُرْفَعْ، وَمَا مَاتَ مِنَّا عَالِمٌ إِلَّا وَرَّثَ عِلْمَهُ [مَنْ بَعْدَهُ]، إِنَّ الْأَرْضَ لَا تَبْقَىٰ بِغَيْرِ عَالِمٍ ».

[20/90] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْقُرَشِيِّ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: قَالَرَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «إِنَّ جَبْرَئِيلَ (علیه السلام) نَزَلَ عَلَيَّ بِكِتَابٍ فِيهِ خَبَرُ المُلُوكِ - مُلُوكِ الْأَرْضِ - قَبْلي، وَخَبَرُ مَنْ بُعِثَ قَبْلي مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ»، وهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ أَخَذْنَا مِنْهُ مَوْضِعَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ(1)، قَالَ: «لَمَّا مَلَكَ أَشَجُّ بْنُ أَشْجَانَ(2) وَكَانَ يُسَمَّىٰ الْكَيِّسَ، وَ[كَانَ قَدْ] مَلَكَ مِائَتَيْنِ وَسِتًّا وَسِتِّينَ سَنَةً، فَفِي سَنَةِ إِحْدَىٰ وَخَمْسِينَ مِنْ مُلْكِهِ بَعَثَ اللهُ (عزوجل)عِيسَىٰ بْنَ مَرْيَمَ (علیه السلام)، وَاسْتَوْدَعَهُ النُّورَ وَالْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ وَجَمِيعَ عُلُومِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ وَزَادَهُ الْإِنْجِيلَ وَبَعَثَهُ إِلَىٰ بَيْتِ المَقْدِسِ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ كِتَابِهِ

ص: 348


1- السند مشتمل علىٰ مجاهيل سوىٰ ما فيه من الإرسال. والمتن كما ترىٰ متضمِّن علىٰ ما هو خلاف الاعتبار، ولم يضمن المصنِّف (رحمة الله) في هذا الكتاب صحَّة جميع ما يرويه كما ضمن في الفقيه فقال فيه: (ولم أقصد قصد المصنِّفين في إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلىٰ إيراد ما أُفتي به وأحكم بصحَّته)، ويُفهَم منه أنَّه (رحمة الله) قصد في غير الفقيه إيراد جميع ما رووه صحَّ عنده أو لم يصحّ، ولم يحتجّ إلَّا بالصحاح منها.
2- معرَّب: (أشك بن أشكان).

وَحِكْمَتِهِ وَإِلَىٰ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، فَأَبَىٰ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً وَكُفْراً، فَلَمَّا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ دَعَا رَبَّهُ وَعَزَمَ عَلَيْهِ، فَمَسَخَ مِنْهُمْ شَيَاطِينَ لِيُرِيَهُمْ آيَةً فَيَعْتَبِرُوا، فَلَمْ يَزِدْهُمْ ذَلِكَ إِلَّا طُغْيَاناً وَكُفْراً، فَأَتَىٰ بَيْتَ المَقْدِسِ، فَمَكَثَ يَدْعُوهُمْ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيمَا عِنْدَ اللهِ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ سَنَةً حَتَّىٰ طَلَبَتْهُ الْيَهُودُ، وَادَّعَتْ أَنَّهَا عَذَّبَتْهُ وَدَفَنَتْهُ فِي الْأَرْضِ حَيًّا، وَادَّعَىٰ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ، وَمَا كَانَ اللهُ لِيَجْعَلَ لَهُمْ سُلْطَاناً عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا شُبِّهَ لَهُمْ، وَمَا قَدَرُوا عَلَىٰ عَذَابِهِ وَدَفْنِهِ وَلَا عَلَىٰ قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ، لِقَوْلِهِ (تبارک و تعالی): «إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» [آل عمران: 55]، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَىٰ قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ، لِأَنَّهُمْ لَوْ قَدَرُوا عَلَىٰ ذَلِكَ كَانَ تَكْذِيباً لِقَوْلِهِ تَعَالَىٰ: «بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ» [النساء: 158]، بَعْدَأَنْ تَوَفَّاهُ (علیه السلام)، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَهُ أَوْحَىٰ إِلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْدِعَ نُورَ اللهِ وَحِكْمَتَهُ وَعِلْمَ كِتَابِهِ شَمْعُونَ بْنَ حَمُّونَ الصَّفَا خَلِيفَتَهُ عَلَىٰ المُؤْمِنِينَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَزَلْ شَمْعُونُ يَقُومُ بِأَمْرِ اللهِ (عزوجل)وَيَحْتَذِي بِجَمِيعِ مَقَالِ عِيسَىٰ (علیه السلام) فِي قَوْمِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيُجَاهِدُ الْكُفَّارَ، فَمَنْ أَطَاعَهُ وَآمَنَ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ كَانَ مُؤْمِناً، وَمَنْ جَحَدَهُ وَعَصَاهُ كَانَ كَافِراً حَتَّىٰ اسْتَخْلَصَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ وَبَعَثَ فِي عِبَادِهِ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، وَهُوَ يَحْيَىٰ بْنُ زَكَرِيَّا(1)، ثُمَّ قُبِضَ شَمْعُونُ وَمَلَكَ عِنْدَ ذَلِكَ أَرْدَشِيرُ بْنُ بَابَكَانَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ، وَفِي ثَمَانِيَ سِنِينَ مِنْ مُلْكِهِ قَتَلَتِ الْيَهُودُ يَحْيَىٰ بْنَ زَكَرِيَّا (علیهما السلام)، فَلَمَّا أَرَادَ اللهُ (عزوجل)أَنْ يَقْبِضَهُ أَوْحَىٰ إِلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ الْوَصِيَّةَ فِي وُلْدِ شَمْعُونَ، وَيَأْمُرَ الْحَوَارِيِّينَ وَأَصْحَابَ عِيسَىٰ بِالْقِيَامِ مَعَهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَعِنْدَهَا مَلَكَ سَابُورُ بْنُ أَرْدَشِيرَ ثَلَاثِينَ سَنَةً حَتَّىٰ قَتَلَهُ اللهُ، وَعِلْمُ اللهِ وَنُورُهُ وَتَفْصِيلُ حِكْمَتِهِ فِي ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ بْنِ شَمْعُونَ، وَمَعَهُ الْحَوَارِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِ عِيسَىٰ (علیه السلام)، وَعِنْدَ ذَلِكَ مَلَكَ بُخْتَنَصَّرُ مِائَةَ سَنَةٍ وَسَبْعاً وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَقَتَلَ مِنَ الْيَهُودِ سَبْعِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ عَلَىٰ دَمِ يَحْيَىٰ بْنِ

ص: 349


1- في أكثر التواريخ وبعض الروايات كان قتل يحيىٰ قبل عروج عيسىٰ (علیه السلام).

زَكَرِيَّا(1)، وَخَرَّبَ بَيْتَ المَقْدِسِ، وَتَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ فِي الْبُلْدَانِ، وَفِي سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ مُلْكِهِ بَعَثَ اللهُ (عزوجل)الْعُزَيْرَ نَبِيًّا إِلَىٰ أَهْلِ الْقُرَىٰ الَّتِي أَمَاتَ اللهُ (عزوجل)أَهْلَهَا، ثُمَّ بَعَثَهُمْ لَهُ، وَكَانُوا مِنْ قُرًى شَتَّىٰ، فَهَرَبُوا فَرَقاً مِنَ المَوْتِ، فَنَزَلُوا فِي جِوَارِ عُزَيْرٍ، وَكَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَكَانَ عُزَيْرٌ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِمْ وَيَسْمَعُكَلَامَهُمْ وَإِيمَانَهُمْ، وَأَحَبَّهُمْ عَلَىٰ ذَلِكَ، وَوَاخَاهُمْ عَلَيْهِ، فَغَابَ عَنْهُمْ يَوْماً وَاحِداً، ثُمَّ أَتَاهُمْ فَوَجَدَهُمْ صَرْعَىٰ مَوْتَىٰ، فَحَزِنَ عَلَيْهِمْ، وَقالَ: «أَنَّىٰ يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا» [البقرة: 259]، تَعَجُّباً مِنْهُ حَيْثُ أَصَابَهُمْ وَقَدْ مَاتُوا أَجْمَعِينَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَأَمَاتَهُ اللهُ (عزوجل)عِنْدَ ذَلِكَ مِائَةَ عَامٍ، فَلَبِثَ فِيهِمْ مِائَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ بَعَثَهُ اللهُ وَإِيَّاهُمْ، وَكَانُوا مِائَةَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، ثُمَّ قَتَلَهُمُ اللهُ أَجْمَعِينَ، لَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ عَلَىٰ يَدَيْ بُخْتَنَصَّرَ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ مَهْرَقَيْهِ بْنُ بُخْتَنَصَّرَ سِتَّ عَشْرَ سَنَةً وَعِشْرِينَ يَوْماً، وَأَخَذَ عِنْدَ ذَلِكَ دَانِيَالَ وَحَفَرَ لَهُ جُبًّا فِي الْأَرْضِ وَطَرَحَ فِيهِ دَانِيَالَ (علیه السلام) وَأَصْحَابَهُ وَشِيعَتَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ، فَأَلْقَىٰ عَلَيْهِمُ النِّيرَانَ، فَلَمَّا رَأَىٰ أَنَّ النَّارَ لَيْسَتْ تَقْرَبُهُمْ وَلَا تُحْرِقُهُمْ اسْتَوْدَعَهُمُ الْجُبَّ وَفِيهِ الْأُسُدُ وَالسِّبَاعُ، وَعَذَّبَهُمْ بِكُلِّ لَوْنٍ مِنَ الْعَذَابِ حَتَّىٰ خَلَّصَهُمُ اللهُ (جَلَّ وَعَزَّ) مِنْهُ، وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ (جَلَّ وَعَزَّ): «قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ 4 النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ 5» [البروج: 4 و5]، فَلَمَّا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَقْبِضَ دَانِيَالَ أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَوْدِعَ نُورَ اللهِ وَحِكْمَتَهُ مكيخا بْنَ دَانِيَالَ فَفَعَلَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ مَلَكَ هُرْمُزُ ثَلَاثاً وَسِتِّينَ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ بَهْرَامُ سِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَوَلِيَ أَمْرَ اللهِ مكيخا بْنُ دَانِيَالَ وَأَصْحَابُهُ المُؤْمِنُونَ وَشِيعَتُهُ الصِّدِّيقُونَ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُظْهِرُوا الْإِيمَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَلَا أَنْ يَنْطِقُوا بِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ مَلَكَ بَهْرَامُ بْنُ بَهْرَامَ سَبْعَ سِنِينَ، وَفِي زَمَانِهِ انْقَطَعَتِ

ص: 350


1- استيلاء بختنصَّر علىٰ بيت المقدس كان في سنة (576) قبل الميلاد، وملك أردشير بابكان في المائة الثالة بعد الميلاد، فتأمَّل.

الرُّسُلُ، فَكَانَتِ الْفَتْرَةُ، وَوَلِيَ أَمْرَ اللهِ يَوْمَئِذٍ مكيخا بْنُ دَانِيَالَ وَأَصْحَابُهُ المُؤْمِنُونَ، فَلَمَّا أَرَادَ اللهُ (عزوجل)أَنْ يَقْبِضَهُ أَوْحَىٰ إِلَيْهِ فِي مَنَامِهِ أَنْ يَسْتَوْدِعَ نُورَ اللهِ وَحِكْمَتَهُ ابْنَهُ أنشو بْنَ مكيخا، وَكَانَتِ الْفَتْرَةُ بَيْنَ عِيسَىٰ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ (صلَّىٰ الله عليهما) أَرْبَعَمِائَةٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَأَوْلِيَاءُ اللهِ يَوْمَئِذٍ فِي الْأَرْضِذُرِّيَّةُ أنشو بْنِ مكيخا، يَرِثُ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ مِمَّنْ يَخْتَارُهُ الْجَبَّارُ (تبارک و تعالی)، فَعِنْدَ ذَلِكَ مَلَكَ سَابُورُ بْنُ هُرْمُزَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَقَدَ التَّاجَ وَلَبِسَهُ، وَوَلِيَ أَمْرَ اللهِ (عزوجل)يَوْمَئِذٍ أنشو بْنُ مكيخا، وَمَلَكَ بَعْدَ ذَلِكَ أَرْدَشِيرُ أَخُو سَابُورَ سَنَتَيْنِ، وَفِي زَمَانِهِ بَعَثَ اللهُ الْفِتْيَةَ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ، وَوَلِيَ أَمْرَ اللهِ يَوْمَئِذٍ فِي الْأَرْضِ دسيخا بْنُ أنشو بْنِ مكيخا، وَعِنْدَ ذَلِكَ مَلَكَ سَابُورُ بْنُ أَرْدَشِيرَ خَمْسِينَ سَنَةً، وَوَلِيَ أَمْرَ اللهِ يَوْمَئِذٍ دسيخا بْنُ أنشو بْنِ مكيخا، وَمَلَكَ بَعْدَهُ يَزْدَجَرْدُ بْنُ سَابُورَ إِحْدَىٰ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ يَوْماً، وَوَلِيَ أَمْرَ اللهِ يَوْمَئِذٍ فِي الْأَرْضِ دسيخا (علیه السلام)، فَلَمَّا أَرَادَ اللهُ (عزوجل)أَنْ يَقْبِضَ دسيخا أَوْحَىٰ إِلَيْهِ فِي مَنَامِهِ أَنْ يَسْتَوْدِعَ عِلْمَ اللهِ وَنُورَهُ وَتَفْصِيلَ حِكْمَتِهِ نسطورسَ بْنَ دسيخا فَفَعَلَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ مَلَكَ بَهْرَامُ جُورَ سِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْماً، وَوَلِيَ أَمْرَ اللهِ يَوْمَئِذٍ فِي الْأَرْضِ نسطورس بْنُ دسيخا، وَعِنْدَ ذَلِكَ مَلَكَ يَزْدَجَرْدُ بْنُ بَهْرَامَ ثَمَانِيَ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْماً، وَوَلِيَ أَمْرَ اللهِ يَوْمَئِذٍ فِي الْأَرْضِ نسطورس بْنُ دسيخا، وَعِنْدَ ذَلِكَ مَلَكَ فَيْرُوزُ بْنُ يَزْدَجَرْدَ بْنِ بَهْرَامَ سَبْعاً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَوَلِيَ أَمْرَ اللهِ يَوْمَئِذٍ نسطورس بْنُ دسيخا وَأَصْحَابُهُ المُؤْمِنُونَ، فَلَمَّا أَرَادَ اللهُ (عزوجل)أَنْ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ أَوْحَىٰ إِلَيْهِ فِي مَنَامِهِ أَنْ يَسْتَوْدِعَ عِلْمَ اللهِ وَنُورَهُ وَحِكْمَتَهُ وَكُتُبَهُ مرعيدا، وَعِنْدَ ذَلِكَ مَلَكَ بلاش بْنُ فَيْرُوزَ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَوَلِيَ أَمْرَ اللهِ (عزوجل)مرعيدا، وَمَلَكَ بَعْدَهُ قُبَادُ بْنُ فَيْرُوزَ ثَلَاثاً وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَمَلَكَ بَعْدَهُ جَامَاسْفُ أَخُو قُبَادَ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَوَلِيَ أَمْرَ اللهِ يَوْمَئِذٍ فِي الْأَرْضِ مرعيدا، وَعِنْدَ ذَلِكَ مَلَكَ

ص: 351

كِسْرَىٰ بْنُ قُبَادَ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَوَلِيَ أَمْرَاللهِ يَوْمَئِذٍ مرعيدا (علیه السلام) وَأَصْحَابُهُ وَشِيعَتُهُ المُؤْمِنُونَ، فَلَمَّا أَرَادَ اللهُ (عزوجل)أَنْ يَقْبِضَ مرعيدا أَوْحَىٰ إِلَيْهِ فِي مَنَامِهِ أَنْ يَسْتَوْدِعَ نُورَ اللهِ وَحِكْمَتَهُ بَحِيرَىٰ الرَّاهِبَ فَفَعَلَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ مَلَكَ هُرْمُزُ ابْنُ كِسْرَىٰ ثَمَانِيَ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَوَلِيَ أَمْرَ اللهِ يَوْمَئِذٍ بَحِيرَىٰ وَأَصْحَابُهُ المُؤْمِنُونَ وَشِيعَتُهُ الصِّدِّيقُونَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ مَلَكَ كِسْرَىٰ بْنُ هُرْمُزَ أَبَرْوِيزُ، وَوَلِيَ أَمْرَ اللهِ يَوْمَئِذٍ فِي الْأَرْضِ بَحِيرَىٰ حَتَّىٰ إِذَا طَالَتِ المُدَّةُ وَانْقَطَعَ الْوَحْيُ وَاسْتُخِفَّ بِالنِّعَمِ وَاسْتُوجِبَ الْغِيَرُ وَدُرِسَ الدِّينُ وَتُرِكَتِ الصَّلَاةُ وَاقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَكَثُرَتِ الْفِرَقُ وَصَارَ النَّاسُ فِي حَيْرَةٍ وَظُلْمَةٍ وَأَدْيَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأُمُورٍ مُتَشَتِّتَةٍ وَسُبُلٍ مُلْتَبِسَةٍ وَمَضَتْ تِلْكَ الْقُرُونُ كُلُّهَا، فَمَضَىٰ صَدْرٌ مِنْهَا عَلَىٰ مِنْهَاجِ نَبِيِّهَا (علیه السلام)، وَبَدَّلَ آخَرُونَ نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً وَطَاعَتَهُ عُدْوَاناً، فَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَخْلَصَ اللهُ (عزوجل)لِنُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ المُشَرَّفَةِ الطَّيِّبَةِ وَالْجُرْثُومَةِ المُثْمِرَةِ(1) الَّتِي اصْطَفَاهَا اللهُ (جَلَّ وَعَزَّ) فِي سَابِقِ عِلْمِهِ وَنَافِذِ قَوْلِهِ قَبْلَ ابْتِدَاءِ خَلْقِهِ، وَجَعَلَهَا مُنْتَهَىٰ خِيَرَتِهِ، وَغَايَةَ صَفْوَتِهِ، وَمَعْدِنَ خَاصَّتِهِ مُحَمَّداً (صلی الله علیه و آله)(2)، اخْتَصَّهُ بِالنُّبُوَّةِ، وَاصْطَفَاهُ بِالرِّسَالَةِ، وَأَظْهَرَ بِدِينِهِ الْحَقَّ لِيَفْصِلَ بَيْنَ عِبَادِ اللهِ الْقَضَاءَ، وَيُعْطِيَ فِي الْحَقِّ جَزِيلَ الْعَطَاءِ، وَيُحَارِبَ أَعْدَاءَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَجَمَعَ عِنْدَ ذَلِكَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ لِمُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) عِلْمَ المَاضِينَ، وَزَادَهُ مِنْ عِنْدِهِ الْقُرْآنَ الْحَكِيمَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، «لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ 42» [فُصِّلت: 42]، فِيهِ خَبَرُ المَاضِينَ وَعِلْمُ الْبَاقِينَ ».

[21/91] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ

ص: 352


1- في بعض النُّسَخ: (الجرثومة المتخيَّرة).
2- الخبر مرويٌّ عن النبيِّ(صلی الله علیه و آله)، وصدور هذه الجمل عنهصلی الله علیه و آله في حقِّ نفسه بعيد جدًّا.

عَلِيٍّ الْخَزَّازِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبَانٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)، قَالَ: قَالَ: «يَا أَبَا حَمْزَةَ، إِنَّ الْأَرْضَ لَنْ تَخْلُوَ إِلَّا وفِيهَا مِنَّا عَالِمٌ، إِنْ زَادَ النَّاسُ قَالَ: قَدْ زَادُوا، وَإِنْ نَقَصُوا قَالَ: قَدْ نَقَصُوا، وَلَنْ يُخْرِجَ اللهُ ذَلِكَ الْعَالِمَ حَتَّىٰ يَرَىٰ فِي وُلْدِهِ مَنْ يَعْلَمُ مِثْلَ عِلْمِهُ »(1).

[22/92] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ الْغِفَارِيِّ(2)، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَالْحُسَيْنِ بْنِ زَيْدٍ جَمِيعاً، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ آبَائِهِ (علیهم السلام)، قَالَ: قَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (صلوات الله عليه): «لَا يَزَالُ فِي وُلْدِي مَأْمُونٌ مَأْمُولٌ »(3).

[23/93] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَىٰ، قَالَ: سَمِعْتُ الرِّضَا (علیه السلام) يَقُولُ : «إِنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا إِمَامٌ مِنَّا».

[24/94] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُاللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ المُسْلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ سُلَيْمَانَ الْعَامِرِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «مَا زَالَتِ الْأَرْضُ إِلَّا وَلِلهِ تَعَالَىٰ ذِكْرُهُ فِيهَا حُجَّةٌ يَعْرِفُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَيَدْعُو إِلَىٰ سَبِيلِ اللهِ (جَلَّ وَعَزَّ)، وَلَا يَنْقَطِعُ الْحُجَّةُ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا أَرْبَعِينَ يَوْماً قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا رُفِعَتِ الْحُجَّةُ

ص: 353


1- رواه الطبري (رحمة الله) في دلائل الإمامة (ص 434/ ح 400/4)، وفي نوادر المعجزات (ص 195/ ح 2)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 222 و223/ ح 185).
2- هو عبد الله بن إبراهيم الغفاري راوي جعفر بن إبراهيم الجعفري الهاشمي.
3- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 115/ ح 104)، والطبري (رحمة الله) في دلائل الإمامة (ص 434 و435/ ح 401/5).

أُغْلِقَ بَابُ التَّوْبَةِ، وَلَنْ يَنْفَعَ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُرْفَعَ الْحُجَّةُ، أُولَئِكَ شِرَارُ [مَنْ] خَلَقَ اللهُ، وَهُمُ الَّذِينَ تَقُومُ عَلَيْهِمُ الْقِيَامَةُ»(1).

[25/95] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ ابْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (علیه السلام): قَدْ بَلَغْتَ مَا بَلَغْتَ وَلَيْسَ لَكَ وَلَدٌ، فَقَالَ: «يَا عُقْبَةَ بنَ جَعْفَرٍ، إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْأَمْرِ لَا يَمُوتُ حَتَّىٰ يَرَىٰ وَلَدَهُ مِنْ بَعْدِهِ »(2).

[26/96] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ ابْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «إِنَّ اللهَ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَتْرُكَ الْأَرْضَ بِغَيْرِ إِمَامٍ عَدْلٍ ».

[27/97] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ [بْنِ] الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ وَسَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍالْحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّ سَالِمَ بْنَ أَبِي حَفْصَةَ يَلْقَانِي وَيَقُولُ لِي: أَلَسْتُمْ تَرْوُونَ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ إِمَامٌ فَمَوْتَتُهُ مَوْتَةُ جَاهِلِيَّةٍ؟ فَأَقُولُ لَهُ: بَلَىٰ، فَيَقُولُ لِي: قَدْ مَضَىٰ أَبُو جَعْفَرٍ، فَمَنْ إِمَامُكُمُ الْيَوْمَ؟ فَأَكْرَهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ أَنْ أَقُولَ لَهُ: جَعْفَرٌ، فَأَقُولُ لَهُ: أَئِمَّتِي آلُ مُحَمَّدٍ، فَيَقُولُ لِي: مَا أَرَاكَ صَنَعْتَ شَيْئاً، فَقَالَ (علیه السلام): «وَيْحَ سَالِمِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، لَعَنَهُ اللهُ، وَهَلْ يَدْرِي

ص: 354


1- رواه البرقي (رحمة الله) في المحاسن (ج 1/ ص 236/ ح 202)، والصفَّار (رحمة الله) في بصائر الدرجات (ص 504/ ج 10/ باب 10/ ح 1).
2- رواه الطبري (رحمة الله) في دلائل الإمامة (ص 435/ ح 404/8)، وفي نوادر المعجزات (ص 195 و196/ ح 3)، والخزَّاز في كفاية الأثر (ص 279)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 222/ ح 184).

سَالِمٌ مَا مَنْزِلَةُ الْإِمَامِ؟ إِنَّ مَنْزِلَةَ الْإِمَامِ أَعْظَمُ مِمَّا يَذْهَبُ إِلَيْهِ سَالِمٌ وَالنَّاسُ أَجْمَعُونَ، وَإِنَّهُ لَنْ يَهْلِكَ مِنَّا إِمَامٌ قَطُّ إِلَّا تَرَكَ مِنْ بَعْدِهِ مَنْ يَعْلَمُ مِثْلَ عِلْمِهِ، وَيَسِيرُ مِثْلَ سِيرَتِهِ، وَيَدْعُو إِلَىٰ مِثْلِ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعِ اللهَ (عزوجل)مَا أَعْطَىٰ دَاوُدَ أَنْ أَعْطَىٰ سُلَيْمَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ »(1).

[28/98] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، [قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ](2)، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ ذَرِيحٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «وَاللهِ مَا تَرَكَ اللهُ (عزوجل)الْأَرْضَ قَطُّ مُنْذُ قُبِضَ آدَمُ إِلَّا وَفِيهَا إِمَامٌ يُهْتَدَىٰ بِهِ إِلَىٰ اللهِ (تبارک و تعالی)، وَهُوَ حُجَّةُ اللهِ عَلَىٰ الْعِبَادِ، مَنْ تَرَكَهُ هَلَكَ وَمَنْ لَزِمَهُ نَجَا، حَقًّا عَلَىٰ اللهِ [(تبارک و تعالی)]»(3).حدَّثنا أبي (رضی الله عنه)، قال: حدَّثنا عبد الله بن جعفر، عن محمّد بن عيسىٰ، عن جعفر بن بشير وصفوان بن يحيىٰ جميعاً، عن ذريح، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، مثله سواء.

[29/99] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ(4)، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «لَا تَبْقَىٰ الْأَرْضُ يَوْماً وَاحِداً بِغَيْرِ إِمَامٍ مِنَّا تَفْزَعُ إِلَيْهِ الْأُمَّةُ».

ص: 355


1- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 26/ ص 177): (بيان: قوله (علیه السلام): «ما أعطىٰ داود» كلمة (ما) إمَّا مصدريَّة، أي لم يمنع الله تعالىٰ من إعطاء الابن إعطاء الأب، أو موصولة، أي لم يمنع الله ما أعطاه داود من إعطاء سليمان أفضل منه).
2- ما بين المعقوفتين كان في بعض النُّسَخ دون بعض، وفي نسخة جعله بدل (عبد الله بن جعفر).
3- رواه المصنِّف (رحمة الله) في ثواب الأعمال (ص 205 و206)، وفي علل الشرائع (ج 1/ ص 197 / باب 153/ ح 13)، البرقي (رحمة الله) في المحاسن (ج 1/ ص 92/ ح 45) بسند آخر، وابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 31/ ح 15)، والطوسي (رحمة الله) في اختيار معرفة الرجال (ج 2/ ص 670 و671/ ح 698).
4- في بعض النُّسَخ: (عن عبد الله بن محمّد بن عيسىٰ).

[30/100] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ حُمْرَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) يَقُولُ: «لَوْ لَمْ يَبْقَ فِي الْأَرْضِ إِلَّا اثْنَانِ لَكَانَ أَحَدُهُمَا الْحُجَّةَ، أَوْ كَانَ الثَّانِي الْحُجَّةَ»(1).

[31/101] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ يُونُسَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ (علیه السلام) لِرَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «يَا رَسُولَ اللهِ، أَمِنَّا الْهُدَاةُ أَمْ مِنْ غَيْرِنَا؟ قَالَ: «بَلْ مِنَّا الْهُدَاةُ [إِلَىٰ اللهِ] إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، بِنَا اسْتَنْقَذَهُمُ اللهُ (عزوجل)مِنْ ضَلَالَةِ الشِّرْكِ، وَبِنَا يَسْتَنْقِذُهُمْ مِنْ ضَلَالَةِ الْفِتْنَةِ، وَبِنَا يُصْبِحُونَ إِخْوَاناً بَعْدَ ضَلَالَةِ الْفِتْنَةِ، كَمَا بِنَا أَصْبَحُوا إِخْوَاناً بَعْدَ ضَلَالَةِ الشِّرْكِ، وَبِنَا يَخْتِمُ اللهُ كَمَا بِنَا فَتَحَ اللهُ»(2).

[32/102] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ وَمُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ ابْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بَشِيرٍ وَصَفْوَانَ بْنِ يَحْيَىٰ جَمِيعاً، عَنِ المُعَلَّىٰ بْنِ عُثْمَانَ، عَنِ المُعَلَّىٰ بْنِ خُنَيْسٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): هَلْ كَانَ النَّاسُ إِلَّا وَفِيهِمْ مَنْ قَدْ أُمِرُوا بِطَاعَتِهِ مُنْذُ كَانَ نُوحٌ (علیه السلام)؟ قَالَ: «لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ »(3).

[33/103] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَىٰ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ

ص: 356


1- قد مرَّ بسند آخر تحت الرقم (57/10)، فراجع.
2- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 92/ ح 81).
3- رواه البرقي (رحمة الله) في المحاسن (ج 1/ ص 235/ ح 198).

بَزِيعٍ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ يُونُسَ، عَنْ جَلِيسٍ لَهُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)، قَالَ: قُلْتُ فِي قَوْلِ اللهِ (تبارک و تعالی): «كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» [القَصص: 88]، قَالَ: «يَا فُلَانُ، فَيَهْلِكُ كُلُّ شَيْءٍ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ اللهِ (تبارک و تعالی)؟ وَاللهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ، وَلَكِنْ مَعْنَاهَا كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا دِينَهُ، وَنَحْنُ الْوَجْهُ الَّذِي يُؤْتَىٰ اللهُ مِنْهُ، وَلَنْ يَزَالَ فِي عِبَادِ اللهِ مَا كَانَتْ لَهُ فِيهِمْ رُوبَةٌ»، قُلْتُ: وَمَا الرُّوبَةُ؟قَالَ: «الْحَاجَةُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِمْ رُوبَةٌ رَفَعَنَا اللهُ، فَصَنَعَ مَا أَحَبَّ»(1).

[34/104] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ [بْنِ] الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ، عَنْ جَعْفَرِ ابْنِ بَشِيرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ ضُرَيْسٍ الْكُنَاسِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) فِي قَوْلِ اللهِ (تبارک و تعالی): «كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» ، قَالَ: «نَحْنُ الْوَجْهُ الَّذِي يُؤْتَىٰ اللهُ (عزوجل)مِنْهُ »(2).

[35/105] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ وَسَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ عِيسَىٰ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْهَاشِمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ نَفِيسٍ الْأَنْصَارِيُّ، قَالَ : أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ سَمَاعَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سَمَاعَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «نَزَلَ جَبْرَئِيلُ (علیه السلام) عَلَىٰ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله) بِصَحِيفَةٍ مِنَ السَّمَاءِ لَمْ يُنْزِلِ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ مِنَ السَّمَاءِ كِتَاباً مِثْلَهَا قَطُّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، مَخْتُوماً فِيهِ خَوَاتِيمُ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، هَذِهِ وَصِيَّتُكَ إِلَىٰ النَّجِيبِ مِنْ أَهْلِكَ، قَالَ: يَا جَبْرَئِيلُ، وَمَنِ النَّجِيبُ مِنْ أَهْلِي؟ قَالَ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، مُرْهُ إِذَا تُوُفِّيتَ أَنْ

ص: 357


1- رواه الصفَّار (رحمة الله) في بصائر الدرجات (ص 85/ ج 2/ باب 4/ ح 3)، والقمِّي (رحمة الله) في تفسيره (ج 2/ ص 147) بتفاوت يسير.
2- رواه ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب (ج 3/ ص 343).

يَفُكَّ خَاتَماً مِنْهَا وَيَعْمَلَ بِمَا فِيهِ، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) فَكَّ عَلِيٌّ (علیه السلام) خَاتَماً، ثُمَّ عَمِلَ بِمَا فِيهِ مَا تَعَدَّاهُ، ثُمَّ دَفَعَ الصَّحِيفَةَ إِلَىٰ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام)، فَفَكَّ خَاتَماًوَعَمِلَ بِمَا فِيهِ مَا تَعَدَّاهُ، ثُمَّ دَفَعَهَا إِلَىٰ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام)، فَفَكَّ خَاتَماً فَوَجَدَ فِيهِ أَنِ اخْرُجْ بِقَوْمٍ إِلَىٰ الشَّهَادَةِ لَا شَهَادَةَ لَهُمْ إِلَّا مَعَكَ وَاشْرِ نَفْسَكَ لِلهِ (تبارک و تعالی)، فَعَمِلَ بِمَا فِيهِ مَا تَعَدَّاهُ، ثُمَّ دَفَعَهَا إِلَىٰ رَجُلٍ بَعْدَهُ فَفَكَّ خَاتَماً فَوَجَدَ فِيهِ: أَطْرِقْ وَاصْمُتْ وَالْزَمْ مَنْزِلَكَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ، ثُمَّ دَفَعَهَا إِلَىٰ رَجُلٍ بَعْدَهُ فَفَكَّ خَاتَماً فَوَجَدَ فِيهِ أَنْ حَدِّثِ النَّاسَ وَأَفْتِهِمْ وَانْشُرْ عِلْمَ آبَائِكَ وَلَا تَخَافَنَّ أَحَداً إِلَّا اللهَ فَإِنَّكَ فِي حِرْزِ اللهِ وَضَمَانِهِ(1)، وَأُمِرَ بِدَفْعِهَا، فَدَفَعَهَا إِلَىٰ مَنْ بَعْدَهُ، وَيَدْفَعُهَا مَنْ بَعْدَهُ إِلَىٰ مَنْ بَعْدَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(2).

[36/106] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الزَّيْتُونِيُّ، عَنِ ابْنِ هِلَالٍ، عَنْ خَلَفِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «الْحُجَّةُ قَبْلَ الْخَلْقِ، وَمَعَ الْخَلْقِ، وَبَعْدَ الْخَلْقِ »(3).

[37/107] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ إِسْحَاقَ شَعِرٍ، عَنْ هَارُونَ بْنِ حَمْزَةَ الْغَنَوِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): هَلْ كَانَ النَّاسُ إِلَّا وَفِيهِمْ مَنْ قَدْ أُمِرُوا بِطَاعَتِهِ مُنْذُ كَانَ نُوحٌ (علیه السلام)؟ قَالَ: «لَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ »(4).

[38/108] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُعَبْدِ اللهِ

ص: 358


1- في بعض النُّسَخ: (في حرز من الله وأمان).
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 171 و172/ باب 135/ ح 1)، وابن بابويه في الإمامة والتبصرة (ص 38 و39/ ح 20).
3- قد مرَّ بسند آخر تحت الرقم (75/5)، فراجع.
4- قد مرَّ بسند آخر تحت الرقم (102/32)، فراجع.

وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ جَمِيعاً، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ حُمْرَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا اثْنَانِ لَكَانَ أَحَدُهُمَا الْحُجَّةَ، وَلَوْ ذَهَبَ أَحَدُهُمَا بَقِيَ الْحُجَّةُ»(1).

[39/109] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ يَزِيدَ الْكُنَاسِيِّ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (علیه السلام): «لَيْسَ تَبْقَىٰ الْأَرْضُ يَا أَبَا خَالِدٍ يَوْماً وَاحِداً بِغَيْرِ حُجَّةٍ لِلهِ عَلَىٰ النَّاسِ، وَلَمْ تَبْقَ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ (جَلَّ وَعَزَّ) آدَمَ (علیه السلام) وَأَسْكَنَهُ الْأَرْضَ »(2).

[40/110] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَىٰ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ خِدَاشٍ الْبَصْرِيِّ(3)، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ(علیه السلام)، قَالَ: سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: تَخْلُو الْأَرْضُ سَاعَةً لَا يَكُونُ فِيهَا إِمَامٌ؟ قَالَ: «لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنَ الْحَقِّ».

[41/111] حَدَّثَنَا أَبِي (رحمة الله)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ

ص: 359


1- رواه الصفَّار (رحمة الله) في بصائر الدرجات (ص 508/ ج 10/ باب 11/ ح 4) بسند آخر.
2- راجع ما رواه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 382 و383/ باب حالات الأئمَّة (علیهم السلام) في السنِّ/ ح 1).
3- خِداش - بالخاء المعجمة المكسورة والدال المهملة والشين المعجمة -، هو أبو خداش المهري - بفتح الميم وإسكان الهاء وبعدها راء مهملة -، نسبتها إلىٰ مهر محلَّة بالبصرة. (راجع: خلاصة الأقوال: ص 199/ الرقم 33). وفي إيضاح الإشتباه (ص 242/ الرقم 486): (أبو خداش المهري منسوب إلىٰ مهرة قبيلة من طيِّ) انتهىٰ. ويوافقه كُتُب اللغة. وقال ابن داود (رحمة الله) في رجاله (ص 253/ الرقم 271): (أبو خداش المهدي بفتح الميم وسكون الهاء -، ومهرة قبيلة من طيٍّ). وقال الطوسي (رحمة الله) في رجاله (ص 340/ الرقم 5061/22): (مهرة محلَّة بالبصرة). ويُؤيِّد قوله (رحمة الله) ما في المتن إنْ لم نقل بتصحيف المهري بالبصري في نُسَخ الكتاب.

عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي يَعْفُورٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): هَلْ تُتْرَكُ الْأَرْضُ بِغَيْرِ إِمَامٍ؟ قَالَ: «لَا»، قُلْتُ: فَيَكُونُ إِمَامَانِ؟ قَالَ: «لَا، إِلَّا وَأَحَدُهُمَا صَامِتٌ ».

[42/112] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَهْزِيَارَ، عَنْ أَخِيهِ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ بَشَّارٍ الْوَاسِطِيِّ، قَالَ : قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ خَالِدٍ لِلرِّضَا (علیه السلام) وَأَنَا حَاضِرٌ: أَتَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ إِمَامٍ؟ فَقَالَ: «لَا».

[43/113] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَىٰ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «إِنَّ اللهَ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَتْرُكَ الْأَرْضَ بِغَيْرِ إِمَامٍ عَدْلٍ »(1).

[44/114] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ المُقْرِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَنْصُورٍ(2)، قَالَ: حَدَّثَنَاعَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي الضُّحَىٰ(3)، عَنْ زَيْدِ بْنِ

ص: 360


1- قد مرَّ تحت الرقم (96/26)، فراجع.
2- كذا، ولم أجده، ولعلَّه محمّد بن عليِّ بن ميمون العطَّار الذي ذُكِرَ في تهذيب التهذيب (ج 9/ ص 316 و317/ الرقم 590) من جملة رواة عمرو بن عون الواسطي البزَّار الحافظ. وأمَّا راويه العبَّاس بن الفضل فلم أظفر به.
3- هو مسلم بن صبيح الهمداني، مولاهم الكوفي العطَّار، ذكره ابن حبَّان في الثقات (ج 5/ ص 391). وراويه الحسن بن عبيد الله الظاهر هو النخعي أبو عروة الكوفي الذي ذُكِرَ من جملة رواة أبي الضحىٰ العطَّار. يروي عنه خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الطحَّان المتوفَّىٰ (225ه). (راجع: تهذيب التهذيب: ج 2/ ص 254/ الرقم 521، وج 3/ ص 87/ الرقم 187). وفي بعض النُّسَخ: (حسن بن عبد الله)، والظاهر أنَّه تصحيف.

أَرْقَمَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي [أَهْلَ بَيْتِي]، فَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ »(1).

[45/115] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ يَحْيَىٰ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ نَزَلَ بِغَدِيرِ خُمٍّ، ثُمَّ أَمَرَ بِدَوْحَاتٍ فَقُمَّ مَا تَحْتَهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: «كَأَنِّي قَدْ دُعِيتُ فَأَجَبْتُ، إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ، كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا، فَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ»، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللهَ مَوْلَايَ، وَأَنَا مَوْلَىٰ كُلِّ مُؤْمِنٍ»، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام)، فَقَالَ: «مَنْ كُنْتُ وَلِيَّهُ فَهَذَا وَلِيُّهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ»، قَالَ: فَقُلْتُ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: أَنْتَ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)؟ فَقَالَ: مَا كَانَ فِي الدَّوْحَاتِأَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ رَآهُ بِعَيْنَيْهِ وَسَمِعَهُ بِأُذُنَيْهِ (2).

[46/116] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِمْلَاءً، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ طَلْحَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ: عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ (صلی الله علیه و آله) قَالَ: «إِنِّي أَوْشَكَ أَنْ أُدْعَىٰ فَأُجِيبَ، وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، كِتَابَ اللهِ (عزوجل)وَعِتْرَتِي، كِتَابُ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي،

ص: 361


1- حديث متواتر رواه الخاصَّة والعامَّة بأسانيد متعدِّدة وألفاظ مختلفة، راجع علىٰ سبيل المثال: بصائر الدرجات (ص 432/ ج 8/ باب 17)، ومسند أحمد (ج 17/ ص 169 و170/ ح 11104).
2- راجع: أنساب الأشراف (ج 2/ ص 110 و111/ ح 48)، وسُنَن النسائي (ج 5/ ص 130/ ح 8464)، والمناقب للخوارزمي (ص 154 و155/ ح 182)، والبداية والنهاية (ج 5/ ص 228)، ومجمع الزوائد (ج 9/ ص 163 و164).

وَإِنَّ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ أَخْبَرَنِي أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، فَانْظُرُوا بِمَا ذَا تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا»(1).

[47/117] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ ابْنِ حَفْصٍ الْخَثْعَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ مُوسَىٰ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رَفِيعٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «إِنِّي قَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَبَداً مَا أَخَذْتُمْ بِهِمَا وَعَمِلْتُمْ بِمَا فِيهِمَا، كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي، وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ »(2)(3).

[48/118] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ عَبَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ صَالِحٍ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ اللهِ (جَلَّ وَعَزَّ) حَبْلٌ مَمْدُودٌ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَلَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ».

[49/119] حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَانَ الْقُشَيْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي الْحَسَنُ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ الدَّهَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعَّادٌ وَهُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ (علیه السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ

ص: 362


1- مسند أبي يعلىٰ (ج 2/ ص 297 و298/ ح 48/1021)، المعجم الكبير للطبراني (ج 3/ ص 65 و66/ ح 2679)، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي (ج 1/ ص 156).
2- ذكر هذه الرواية عن أبي هريرة بهذا اللفظ هنا لا يناسب المقام، اللَّهُمَّ إلَّا أنْ يكون المراد ذكره لبيان تحريف أبي هريرة لفظ الحديث، أو إيراد جميع ما سمعه.
3- سُنَن الدارقطني (ج 4/ ص 159 و160/ ح 4559)، الجامع الصغير للسيوطي (ج 1/ ص 605/ ح 3923)، كنز العُمَّال (ج 1/ ص 173/ ح 875).

اللهِ (صلی الله علیه و آله): «إِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ، وَأَوْشَكَ أَنْ أُدْعَىٰ فَأُجِيبَ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَفْضَلُ مِنَ الْآخَرِ، كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ »(1).

[50/120] حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْقُشَيْرِيُّ، عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ المُهَلَّبِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دَاوُدَ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَطْوَلُ مِنَ الْآخَرِ، كِتَابَ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَىٰ الْأَرْضِ، طَرَفٌ بِيَدِ اللهِ، وَعِتْرَتِي، أَلَا وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّالْحَوْضَ»، فَقُلْتُ لِأَبِي سَعِيدٍ: مَنْ عِتْرَتُهُ؟ قَالَ: أَهْلُ بَيْتِهِ (علیهم السلام)(2).

[51/121] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُمَرَ صَاحِبَ أَبِي الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ ثَعْلَبَ سُئِلَ عَنْ مَعْنَىٰ قَوْلِهِ (صلی الله علیه و آله): «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ» لِمَ سُمِّيَا الثَّقَلَيْنِ؟ قَالَ: لِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِهِمَا ثَقِيلٌ .

[52/122] حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شُعَيْبٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَىٰ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَلَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو أَحْمَدُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَىٰ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ رَكِينِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، كِتَابَ اللهِ (جَلَّ وَعَزَّ) وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، أَلَا وَهُمَا الْخَلِيفَتَانِ مِنْ بَعْدِي، وَلَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ »(3).

ص: 363


1- راجع: مناحل الشفا للخركوشي (ج 5/ ص 289 و290/ ح 2232).
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في معاني الأخبار (ص 90/ باب معنىٰ الثقلين والعترة/ ح 1)، وفي الخصال (ص 65/ ح 97).
3- رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 500/ ح 686/15)، والفتَّال (رحمة الله) في روضة الواعظين (ص 273)، والحمويني في فرائد السمطين (ج 2/ ص 144).

[53/123] حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شُعَيْبٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَىٰ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَلَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ(1) بِالْكُوفَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْعُرَنِيُّ(2)، عَنْ عَمْرِو بْنِ جُمَيْعٍ، عَنْ عَمْرِو ابْنِ أَبِي الْمِقْدَامِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ(علیهما السلام)، قَالَ: «أَتَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنَا عَنْ حِجَّةِ الْوَدَاعِ، فَذَكَرَ حَدِيثاً طَوِيلاً، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ - ثَلَاثاً -».

[54/124] حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَانَ الْقُشَيْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَاتِمِ المُغِيرَةُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ المُهَلَّبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ الْكِلَابِيُّ الْكُوفِيُّ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي الضُّحَىٰ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ ».

ص: 364


1- كذا، وفي بعض النُّسَخ: (الحميري)، ولعلَّه الحسني فصُحِّف.
2- في بعض النُّسَخ: (المغربي). والظاهر هو الحسن بن الحسين العرني النجَّار الذي روىٰ في تهذيب الأحكام (ج 3/ ص 259/ باب فضل المساجد/ ح 726/46) عن عمرو بن جميع.

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَانَ الْقُشَيْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي الْحَسَنُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ الدَّهَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعَّادٌ وَهُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ (علیه السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «إِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ، وَأَوْشَكَ أَنْ أُدْعَىٰ فَأُجِيبَ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَفْضَلُ مِنَ الْآخَرِ، كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ »(1).

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقُشَيْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا المُغِيرَةُ بْنِ مُحَمَّدِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنِ دَاوُدَ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ(صلی الله علیه و آله): «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَطْوَلُ مِنَ الْآخَرِ، كِتَابَ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَىٰ الْأَرْضِ، طَرَفٌ بِيَدِ اللهِ، وَعِتْرَتِي، أَلَا وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ»، فَقُلْتُ لِأَبِي سَعِيدٍ: مَنْ عِتْرَتُهُ؟ قَالَ: أَهْلُ بَيْتِهِ (علیهم السلام)(2).

[55/125] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ ابْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَشْعَثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُعَلًّى الْآدَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَىٰ بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) مِنْ حِجَّةِ الْوَدَاعِ نَزَلَ غَدِيرَ خُمٍّ، فَأَمَرَ بِدَوْحَاتٍ فَقُمِمْنَ، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: «كَأَنِّي قَدْ دُعِيتُ فَأَجَبْتُ، إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ، كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا، فَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ»، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللهَ (جَلَّ وَعَزَّ) مَوْلَايَ، وَأَنَا مَوْلَىٰ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ»، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيِّ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام)، فَقَالَ: «مَنْ كُنْتُ وَلِيَّهُ فَعَلِيٌّ وَلِيُّهُ»، فَقُلْتُ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)؟ قَالَ: مَا كَانَ فِي الدَّوْحَاتِ أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ رَآهُ بِعَيْنِهِ وَسَمِعَهُ بِأُذُنِهِ (3).

[56/126] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَجَلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَرِيفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: قَالَ

ص: 365


1- هذا الحديث بهذا السند بعينه مضىٰ تحت الرقم (119/49).
2- تقدَّم بهذا السند عيناً تحت الرقم (120/50).
3- قد مرَّ بسند آخر تحت الرقم (115/45)، فراجع.

رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «كَأَنِّي قَدْدُعِيتُ فَأَجَبْتُ، وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الْآخَرِ، كِتَابَ اللهِ (عزوجل)حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَىٰ الْأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَإِنَّهُمَا لَنْ يَزَالَا جَمِيعاً حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا»(1).

[57/127] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ ابْنِ حَفْصٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَمْرِو بْنِ هَاشِمٍ الْجَنْبِيِّ(2)، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ، عَنْ عَطِيَّةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ يَرْفَعُ ذَلِكَ إِلَىٰ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله)، قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا [مِنْ] بَعْدِي، الثَّقَلَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ، كِتَابَ اللهِ (عزوجل)حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَىٰ الْأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، أَلَا وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ »(3).

[58/128] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ التَّمِيمِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي سَيِّدِي عَلِيُّ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيٍّ (صلوات الله عليهم)، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله): «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَلَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ ».

[59/129] حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ شَاذَانَ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا

ص: 366


1- رواه محمّد بن سليمان الكوفي (رحمة الله) في مناقب الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) (ج 2/ ص 112/ ح 604) بسند آخر.
2- بفتح الجيم وسكون النون بعدها موحَّدة كما في تقريب التهذيب (ج 1/ ص 747/ الرقم 5142)، وقال: كوفي فيه لين. والحسني أو الحرمي كما في النُّسَخ تصحيف.
3- مسند أحمد (ج 3/ ص 59)، مسند أبي يعلىٰ (ج 2/ ص 376/ ح 166/1140).

عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَىٰ(1)، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَنَشِ بْنِ المُعْتَمِرِ(2)، قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا ذَرٍّ الْغِفَارِيَّ (رحمة الله) آخِذاً بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَلَا مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا أَبُو ذَرٍّ جُنْدَبُ بْنُ السَّكَنِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) يَقُولُ: «إِنِّي خَلَّفْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، أَلَا وَإِنَّ مَثَلَهُمَا فِيكُمْ كَسَفِينَةِ نُوحٍ مَنْ رَكِبَ فِيهَا نَجَا وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ ».

[60/130] حَدَّثَنَا شَرِيفُ الدِّينِ الصَّدُوقُ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زِئَارَةَ(3) بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ شَاذَانَ النَّيْسَابُورِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مُوسَىٰ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ رَكِينِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِثَابِتٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ خَلِيفَتَيْنِ(4)، كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ »(5).

ص: 367


1- هو عبيد الله بن موسىٰ بن أبي المختار باذام العبسي، مولاهم الكوفي، كان يتشيَّع، وقال أبو حاتم: كان أثبت في إسرائيل من أبي نعيم. والمراد بإسرائيل: إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الهمداني. وفي بعض النُّسَخ: (عبد الله بن موسىٰ)، وهو تصحيف.
2- في بعض النُّسَخ: (حبش بن المعتمر)، وفي بعضها: (حبيش بن البشر)، وفي بعضها: (حنش بن المعتمر)، وكلُّها مصحَّف وإنْ عنون الأخير الميرزا محمّد. والصواب: (حبشي بن جنادة بن النصر) الصحابي الذي شهد حجَّة الوداع، وقال ابن عدي في الكامل (ج 2/ ص 442/ الرقم 186/555): يُكنَّىٰ أبا الجنوب، شهد مع عليٍّ مشاهده، يروي عنه أبو إسحاق السبيعي.
3- في بعض النُّسَخ: (زيادة)، وهو تصحيف، ولعلَّ الصواب: (زبارة)، وبنو زبارة جماعة من أهل نيشابور.
4- في بعض النُّسَخ: (الثقلين).
5- مسند أحمد (ج 35/ ص 512/ ح 21654)، المعجم الكبير للطبراني (ج 5/ ص 153/ ح 4921).

[61/131] حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبْدُوسٍ الْعَطَّارُ النَّيْسَابُورِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَىٰ بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ، كِتَابَ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَىٰ الْأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ »(1).

[62/132] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي الضُّحَىٰ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، عَنِ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله)، قَالَ: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ كِتَابَ اللهِ وَأَهْلَ بَيْتِي، فَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ »(2).

[63/133] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)،قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ الْيَمَانِيِّ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ الْهِلَالِيِّ، عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام)، قَالَ: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ طَهَّرَنَا وَعَصَمَنَا وَجَعَلَنَا شُهَدَاءَ عَلَىٰ خَلْقِهِ وَحُجَجاً فِي أَرْضِهِ، وَجَعَلَنَا مَعَ الْقُرْآنِ وَجَعَلَ الْقُرْآنَ مَعَنَا لَا نُفَارِقُهُ وَلَا يُفَارِقُنَا»(3)(4).

ص: 368


1- مسند أحمد (ج 17/ ص 169 و170 و308 و309/ ح 11104 و11211)، مسند أبي يعلىٰ (ج 2/ ص 303/ ح 54/1027)، المعجم الصغير للطبراني (ج 1/ ص 131).
2- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 135/ ح 150).
3- رواه الصفَّار (رحمة الله) في بصائر الدرجات (ص 103/ ج 2/ باب 13/ ح 6)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 191/ باب في أنَّ الأئمَّة شهداء الله (عزوجل)علىٰ خلقه/ ح 5) بسند آخر.
4- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول (ج ٢/ ص 343): («إنَّ الله [تبارك] وتعالىٰ طهَّرنا» أي من الشرك والعقائد الفاسدة والأخلاق الرديئة، «وعصمنا» أي من المعاصي والذنوب، «وجعلنا مع القرآن» حيث نعمل بما فيه، أو يدلُّ علىٰ فضلنا ووجوب طاعتنا، «وجعل القرآن معنا» لأنَّه عندهم لفظاً ومعنًى).

[64/134] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْهَمْدَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ غِيَاثِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهم السلام)، قَالَ: «سُئِلَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (صلوات الله عليه) عَنِ مَعْنَىٰ قَوْلِ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله): إِنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي، مَنِ الْعِتْرَةُ؟ فَقَالَ: «أَنَا وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَالْأَئِمَّةُ التِّسْعَةُ مِنْ وُلْدِالْحُسَيْنِ، تَاسِعُهُمْ مَهْدِيُّهُمْ وَقَائِمُهُمْ، لَا يُفَارِقُونَ كِتَابَ اللهِ وَلَا يُفَارِقُهُمْ حَتَّىٰ يَرِدُوا عَلَىٰ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) حَوْضَهُ »(1).

[65/135] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبَرْقِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ غِيَاثِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام): «يَا عَلِيُّ، أَنَا مَدِينَةُ الْحِكْمَةِ(2) وَأَنْتَ بَابُهَا، وَلَنْ تُؤْتَىٰ المَدِينَةُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ الْبَابِ، فَكَذَبَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُحِبُّنِي وَيُبْغِضُكَ، لِأَنَّكَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ، لَحْمُكَ مِنْ لَحْمِي، وَدَمُكَ مِنْ دَمِي، وَرُوحُكَ مِنْ رُوحِي، وَسَرِيرَتُكَ مِنْ سَرِيرَتِي، وَعَلَانِيَتُكَ مِنْ عَلَانِيَتِي، وَأَنْتَ إِمَامُ أُمَّتِي، وَخَلِيفَتِي عَلَيْهَا بَعْدِي، سَعِدَ مَنْ أَطَاعَكَ، وَشَقِيَ مَنْ عَصَاكَ،

ص: 369


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في معاني الأخبار (ص 90 و91/ باب معنىٰ الثقلين والعترة/ ح 4)، وعيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 60/ ح 25)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 180 و181)، والراوندي (رحمة الله) في قَصص الأنبياء (ص 358/ ح 465).
2- في بعض النُّسَخ: (مدينة العلم)، وفي بعضها معاً بزيادة الواو.

وَرَبِحَ مَنْ تَوَلَّاكَ، وَخَسِرَ مَنْ عَادَاكَ، وَفَازَ مَنْ لَزِمَكَ، وَهَلَكَ مَنْ فَارَقَكَ، مَثَلُكَ وَمَثَلُ الْأَئِمَّةِ مِنْ وُلْدِكَ [بَعْدِي] مَثَلُ سَفِينَةِ نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ، وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ النُّجُومِ كُلَّمَا غَابَ نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(1).

[معنى العترة والآل والأهل والذرّيَّة والسلالة]:

قال مصنِّف هذا الكتاب (رحمة الله): إِنْ سَأَلَ سَائِلٌ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله): «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، كِتَابَ الله وَعِتْرَتِي، أَلَا وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ»، فقال: ما تُنكِرون أنْ يكون أبو بكر من العترة وكلُّ بني أُميَّة من العترة، أو لا يكون العترة إلَّا لولد الحسن والحسين، فلا يكون عليُّ بن أبي طالب من العترة.

فقيل له: أنكرت ذلك لما جاءت به اللغة، ودلَّ عليه قوله (صلی الله علیه و آله)، فأمَّا دلالة قَوْلِهِ (علیه السلام) فَإِنَّهُ قَالَ: «عِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي »، والأهل مأخوذ من أهالة البيت وهم الذين يعمرونه، فقيل لكلِّ من عمر البيت: أهل، كما قيل لمن عمر البيت: أهله، ولذلك قيل لقريش: آل الله، لأنَّهم عُمَّار بيته، والآل: الأهل، قال الله (عزوجل)في قصَّة لوط: «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ» [هود: 81]، وقال: «إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ 34» [القمر: 34]، فسمَّىٰ الآل أهلاً، والآل في اللغة الأهل. وإنَّما أصله أنَّ العرب إذا ما أرادت أنْ تُصغِّر الأهل قالت: أُهيل، ثمّ استثقلت الهاء فقالت: آل، وأسقطت الهاء، فصار معنىٰ الآل كلُّ من رجع إلىٰ الرجل من أهله بنسبه.

ص: 370


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 341 و342/ ح 408/18)، وابن عقدة في فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام) (ص 43 و44/ ح 37)، وابن شاذان في مائة منقبة (ص 40 و41/ المنقبة 18)، والكراجكي (رحمة الله) في الرسالة العلويَّة (ص 48 - 50)، ومحمّد بن أبي القاسم الطبري (رحمة الله) في بشارة المصطفىٰ (ص 63/ ح 48).

ثمّ استُعير ذلك في الأُمَّة، فقيل لمن رجع إلىٰ النبيِّ (صلی الله علیه و آله) بدينه: آل، قال الله (تبارک و تعالی): «أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ 46» [غافر: 46]، وإنَّما صحَّ أنَّ الآل في قصَّة فرعون متَّبعوه لأنَّ الله (عزوجل)إنَّما عذَّبه علىٰ الكفر ولم يُعذِّبه علىٰ النسب فلم يجز أنْ يكون قوله : «أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ» أهل بيت فرعون، فمتىٰ قال قائل: آلالرجل، فإنَّما يرجع بهذا القول إلىٰ أهله إلَّا أنْ يدلَّ عليه بدلالة الاستعارة، كما جعل اللهُ (جلَّ وعزَّ) بقوله: «أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ»، وَرُوِيَ عَنِ الصَّادِقِ (علیه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «مَا عَنَىٰ إِلَّا ابْنَيْهِ »(1).

وأمَّا الأهل فهم الذرّيَّة من ولد الرجل وولد أبيه وجدِّه ودنيه علىٰ ما تعورف، ولا يقال لولد الجدِّ الأبعد: أهل، ألَا ترىٰ أنَّ العرب لا تقول للعجم: أهلنا، وإنْ كان إبراهيم (علیه السلام) جدَّهما، ولا تقول من العرب مضر لأياد: أهلنا، ولا لربيعة، ولا تقول قريش لسائر ولد مضر: أهلنا، ولو جاز أنْ يكون سائر قريش أهل الرسول (علیه السلام) بالنَّسَب لكان ولد مضر وسائر العرب أهله، فالأهل أهل بيت الرجل ودنيه، فأهل رسول الله (صلی الله علیه و آله) بنو هاشم دون سائر البطون، فإذا ثبت أنَّ قَوْلَهُ (صلی الله علیه و آله): «إِنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي »، فسأل سائل: ما العترة؟ فقد فسَّرها هو (علیه السلام) بقوله: «أهل بيتي»، وهكذا في اللغة أنَّ العترة شجرة تنبت علىٰ باب جحر الضبِّ، قال الهذلي :

فما كنت أخشىٰ أنْ أُقيم خلافهم *** لستَّة أبيات كما ينبت العتر(2)(3)

ص: 371


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في معاني الأخبار (ص 94/ باب معنىٰ الآل والأهل والعترة والأُمَّة/ ح 2)، وفيه: (ما عنىٰ إلَّا ابنته).
2- العتر - بكسر العين وسكون التاء -: نبت ينبت مثل المرزنجوش متفرِّقاً، فإذا طال وقطع أصله خرج منه شبه اللبن. وقيل: هو المرزنجوش، وقيل: هو العرفج.
3- العين للفراهيدي (ج 2/ ص 66)، تهذيب اللغة (ج 2/ ص 158).

قال أبو عبيد(1) في كتاب (الأمثال) - حكاه عن أبي عبيدة(2)-: العتر والعطر(3): أصل للإنسان، ومنه قولهم: (عادت لعترها لميس)(4)، أي عادت إلىٰ خُلُق كانت فارقته(5).

فالعترة في أصل اللغة أهل الرجل، وكذا قَالَ رَسُولُ الله (صلی الله علیه و آله): «عِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي »، فتبيَّن أنَّ العترة الأهل، والأهل الولد وغيرهم، ولو لم تكن العترة الأهل وكانوا الولد دون سائر أهله لكان قَوْلُهُ (علیه السلام): «إِنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ الله وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ »، لم يدخل عليُّ بن أبي طالب (علیه السلام) في هذه الشريطة، لأنَّه لم يدخل في العترة، فلا يكون عليٌّ (علیه السلام) ممَّن لا يفارقه الكتاب، ولا ممَّن إنْ تمسَّكنا به لن نضلَّ، ولا يكون ممَّن دخل في هذا القول، فيكون كلام النبيِّ (صلی الله علیه و آله) خاصًّا دون عامٍّ، فإنْ صلح أنْ يكون خاصًّا في الولد صلح أنْ يكون في بعض الولد، لأنَّه ليس في الكلام ما يدلُّ علىٰ خصوصيَّة في جنس دون جنس.

وممَّا يدلُّ علىٰ أنَّ عليًّا (علیه السلام) داخل في العترة قَوْلُهُ (علیه السلام): «إِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ»، وقد أجمعت الأُمَّة -إلَّا من شذَّ ممَّن لا يُعَدُّ في ذلك

ص: 372


1- هو القاسم بن سلام - كظلام - المتوفَّىٰ (223ه)، وكان من المشاهير في اللغة والحديث والأدب.
2- هو معمر - كجعفر - ابن المثنَّىٰ - كمعمَّىٰ - البصري النحوي اللغوي المتوفَّىٰ (209ه). وفي مروج الذهب: (وفي سنة (211ه) مات أبو عبيدة معمر بن المثنَّىٰ...، كان يرىٰ رأي الخوارج، وبلغ نحواً من مائة سنة، ولم يحضر جنازته أحد من الناس حتَّىٰ اكتُري لها من يحملها ولم يكن يُسلِّم عليه شريف ولا وضيع إلَّا تُكلِّم فيه).
3- كذا، والصحيح: (العكر) كما في كتاب الأمثال.
4- العتر: الأصل. ولميس اسم امرأة، مثل يُضرَب لمن يرجع إلى عادة سوء تركها، واللَّام في (لعترها) بمعنىٰ إلىٰ كما في التنزيل: «وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ» (الأنعام: 28).
5- راجع: الأمثال (ص 282/ الرقم 912).

بخلاف - أنَّ عليًّا (علیه السلام) لم يفارق حكم كتاب الله، وأنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يُخلِّف في وقت مضيِّه أحداً أعلم بكتاب الله منه، وقد كان الحسن والحسين (علیهما السلام) ممَّن خلَّفهما، فهل في الأُمَّة من يقول: إنَّهما كانا أعلم بكتاب الله منه؟ وهل كانا إلَّا آخذين عنه ومقتديين به؟ ولا يخلو قَوْلُهُ (صلی الله علیه و آله): «إِنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا» لكلِّ عصر أراد، أو لعصر دون عصر، فإنْ كان لكلِّ عصر فالعصر الذي كان عليٌّ (علیه السلام) قائماً فيه مَنْ كان مخلِّفاً فينا؟ هل كان الحسن والحسين هما المرادين بهذا القول أو عليٌّ (علیه السلام)؟ فإنْ قال قائل: إنَّه الحسن والحسين (علیهما السلام) أوجب أنَّهما كانا في وقت مضيِّ النبيِّ (صلی الله علیه و آله) أعلم من أبيهما (علیهما السلام)، وخرج من لسان الأُمَّة(1)، وإنْ قال: إنَّ النبيَّ (صلی الله علیه و آله) أراد بهذا وقتاً دون وقت، أجاز علىٰ نفسه أنْ يكون أراد بعض العترة دون البعض، لأنَّه ليس الوقت الذي يدَّعيه خصمنا أحقُّ بما ندَّعيه فيه من قول غيره، ولا بدَّ من أنْ يكون النبيُّ (صلی الله علیه و آله) عمَّ بقوله التخليف لكلِّ الأعصار والدهور أو خصَّ، فإنْ كان عمَّ فالعصر الذي قام فيه عليُّ بن أبي طالب (علیه السلام) قد أوجب أنْ يكون من عترته، اللَّهُمَّ إلَّا أنْ يقال: إنَّه ظلم إذ كان بحضرته من ولده من هو أعلم منه، وهذا لا يقول به مسلم، ولا يجيزه علىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله) مؤمن.

وكان مرادنا بإيراد قَوْلِ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله): «إِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ » في هذا الباب إثبات اتِّصال أمر حُجَج الله(علیهم السلام) إلىٰ يوم القيامة، وأنَّ القرآن لا يخلو من حجَّة مقترن إليه من الأئمَّة الذين هم العترة (علیهم السلام) يعلم حكمه إلىٰ يوم القيامة، لِقَوْلِهِ (صلی الله علیه و آله): «لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ »، وهكذا قَوْلُهُ (صلی الله علیه و آله): «إِنَّ مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ النُّجُومِ كُلَّمَا غَابَ نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» تصديق لقولنا: «إنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة لله علىٰ خلقه ظاهر مشهور أو

ص: 373


1- أي خرج القائل من لسان الأُمَّة وإجماعهم.

خافٍ مغمور لئلَّا تبطل حُجَج الله (عزوجل)وبيِّناته»، وقد بيَّن النبيُّ (صلی الله علیه و آله) مَن العترة المقرونة إلىٰ كتاب الله (جلَّ وعزَّ) في الخبر الذي :

حَدَّثَنَا بِهِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ السُّكَّرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا الْجَوْهَرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ ابْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله (صلی الله علیه و آله): «إِنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، كِتَابَ الله وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ كَهَاتَيْنِ - وَضَمَّ بَيْنَ سَبَّابَتَيْهِ -»، فَقَامَ إِلَيْهِ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله الْأَنْصَارِيُّ وَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، مَنْ عِتْرَتُكَ؟ قَالَ: «عَلِيٌّ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَالْأَئِمَّةُ مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(1).

وَحَكَىٰ مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرٍ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ صَاحِبِ أَبِي الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٍ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ كِتَابَ (الْيَاقُوتَةِ)، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ(2)، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، قَالَ: الْعِتْرَةُ قِطَاعُ الْمِسْكِالْكِبَارُ فِي النَّافِجَةِ، وَتَصْغِيرُهَا عُتَيْرَةٌ، وَالْعِتْرَةُ الرِّيقَةُ الْعَذْبَةُ، وَتَصْغِيرُهَا عُتَيْرَةٌ، وَالْعِتْرَةُ شَجَرَةٌ تَنْبُتُ عَلَىٰ بَابِ وِجَارِ الضَّبِّ - وَأَحْسَبُهُ أَرَادَ: وِجَارَ الضَّبُعِ لِأَنَّ الَّذِي يَكُونُ هُوَ لِلضَّبِّ مَكْنٌ(3) وَلِلضَّبُعِ وِجَارٌ -، ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا خَرَجَتِ الضَّبُّ مِنْ وِجَارِهَا تَمَرَّغَتْ عَلَىٰ تِلْكَ الشَّجَرَةِ، فَهِيَ لِذَلِكَ لَا تَنْمُو وَلَا تَكْبُرُ، وَالْعَرَبُ تَضْرِبُ مَثَلاً لِلذَّلِيلِ وَالذِّلَّةِ فَتَقُولُ: أَذَلُّ مِنْ عِتْرَةِ الضَّبِّ، قَالَ: وَتَصْغِيرُهَا عُتَيْرَةٌ، وَالْعِتْرَةُ وُلْدُ الرَّجُلِ وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ صُلْبِهِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذُرِّيَّةُ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) مِنْ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ

ص: 374


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في معاني الأخبار (ص 91/ باب معنىٰ الثقلين والعترة/ ح 5).
2- بالثاء المثلَّثة والعين المهملة، أحمد بن يحيىٰ المتوفَّىٰ (291ه).
3- بفتح الميم وسكون الكاف. وفي بعض النُّسَخ: (مسكن)، ولعلَّه تصحيف.

(علیهما السلام) عِتْرَةَ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله)، قَالَ ثَعْلَبٌ: فَقُلْتُ لاِبْنِ الْأَعْرَابِيِّ: فَمَا مَعْنَىٰ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ فِي السَّقِيفَةِ: (نَحْنُ عِتْرَةُ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)؟ قَالَ: أَرَادَ بَلْدَتَهُ وَبَيْضَتَهُ.

وعترة محمّد (صلی الله علیه و آله) لا محالة ولد فاطمة (علیها السلام)، والدليل علىٰ ذلك ردُّ أبي بكر وإنفاذ عليٍّ (علیه السلام) بسورة براءة، وقَوْلُهُ (صلی الله علیه و آله): «أُمِرْتُ أَنْ لَا يُبَلِّغَهَا عَنِّي إِلَّا أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنِّي »(1)، فأخذها منه ودفعها إلىٰ من كان منه دونه، فلو كان أبو بكر من العترة نسباً - دون تفسير ابن الأعرابي أنَّه أراد البلدة - لكان محالاً أخذ سورة براءة منه ودفعها إلىٰ عليٍّ (علیه السلام).

وقد قيل: إنَّ العترة الصخرة العظيمة يتَّخذ الضبُّ عندها جحراً يأويإليه، وهذا لقلَّة هدايته، وقد قيل: إنَّ العترة أصل الشجرة المقطوعة التي تنبت من أُصولها وعروقها، والعترة [في] غير هذا المعنىٰ قَوْلُ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله): «لَا فَرَعَةَ وَلَا عَتِيرَةَ(2)»(3)، وقال: الأصمعي: كان الرجل في الجاهليَّة ينذر نذراً علىٰ شاته(4) إذا بلغت غنمه مائة أنْ يذبح رجبيَّته(5) وعتائره، فكان الرجل ربَّما بخل بشاته فيصيد الظباء ويذبحها عن غنمه عند آلهتهم ليوفي بها نذره، وأنشد الحارث بن حلَّزة اليشكري بيتاً:

ص: 375


1- راجع: مسند أحمد (ج 1/ ص 183/ ح 4)، سُنَن النسائي (ج 5/ ص 129/ ح 8462)، مسند أبي يعلىٰ (ج 1/ ص 100/ ح 104)، مناقب عليِّ بن أبي طالب (علیه السلام) لابن مردويه (ص 251/ ح 368)، شواهد التنزيل للحسكاني (ج 1/ ص 318)، المناقب للخوارزمي (ص 165/ ح 196).
2- الفَرَع - بالتحريك -: أوَّل ولد تنتجه الناقة. كانوا يذبحونه لآلهتهم يتبرَّكون بذلك، والعتيرة أيضاً هي الذبيحة التي كانت تُذبَح للأصنام في رجب فيصبُّ دمها علىٰ رأسها.
3- مسند أحمد (ج 12/ ص 198 و199/ ح 7256)، سُنَن ابن ماجة (ج 2/ ص 1058/ ح 3168 و3169).
4- في بحار الأنوار: (علىٰ أنَّه).
5- في بحار الأنوار: (رجيَّه)، راجع: (ج 23/ ص 149).

عنتاً باطلاً وظلماً كما تعترُ *** عن حجرة الربيض الظباءُ(1)(2)

يعني يأخذونها بذنب غيرها كما تُذبَح أُولئك الظباء عن غنمهم، وقال الأصمعي: والعترة الريح، والعترة أيضاً شجرة كثيرة اللبن صغيرة تكون نحو تهامة(3)، ويقال: العتر الذَّكَر، عتر يعتر عتراً إذا نعظ، وقالالرياشي: سألت الأصمعي(4) عن العترة فقال: هو نبت مثل المرزنجوش ينبت متفرِّقاً.

قال محمّد بن عليِّ بن الحسين مصنِّف هذا الكتاب (رضی الله عنه): والعترة عليُّ بن أبي طالب وذرّيَّته من فاطمة وسلالة النبيِّ (صلی الله علیه و آله)، [وهم] الذين نصَّ الله تبارك وتعالىٰ عليهم بالإمامة علىٰ لسان نبيِّه (صلی الله علیه و آله)، وهم اثنا عشر: أوَّلهم عليُّ بن أبي طالب وآخرهم المهدي (صلوات الله عليهم) علىٰ جميع ما ذهبت إليه العرب في معنىٰ العترة، وذلك أنَّ الأئمَّة (علیهم السلام) من بين جميع بني هاشم ومن بين جميع ولد أبي طالب كقطاع المسك الكبار في النافجة، وعلومهم العذبة عند أهل الحكمة والعقل، وهم الشجرة التي رسول الله (صلی الله علیه و آله) أصلها، وأمير المؤمنين (علیه السلام) فرعها، والأئمَّة من ولده أغصانها، وشيعتهم ورقها، وعلمهم ثمرها، وهم (علیهم السلام) أُصول الإسلام علىٰ معنىٰ البلدة والبيضة، وهم (علیهم السلام) الهداة علىٰ معنىٰ الصخرة العظيمة

ص: 376


1- مصراع الثاني معناه أنَّ الرجل كان يقول في الجاهليَّة: إنْ بلغت إبلي مائة عترت عنها عتيرة، فإذا بلغت مائة ضنَّ بالغنم فصاد ظبياً فذبحه. والحجرة - كغرفة - حظيرة الغنم والإبل. و- كغفلة -: ناحية الدار، ولعلَّ الثاني هنا أصحّ. والربيض - كأمير -: الغنم برعاتها المجتمعة في مربضها.
2- غريب الحديث للهروي (ج 1/ ص 196)، غريب الحديث لابن قتيبة (ج 1/ ص 76)، تهذيب اللغة (ج 2/ ص 156)، الصحاح للجوهري (ج 2/ ص 736).
3- في معاني الأخبار (ص 92): (تكون نحو القامة).
4- الرياشي - بكسر الراء والشين المعجمة -، هو أبو الفضل، العبَّاس بن الفرج اللغوي المقتول بالبصرة أيَّام العلوي البصري صاحب الزنج سنة سبع وخمسين ومائتين، سمع الأصمعي البصري المتوفَّىٰ (215ه)، اسمه عبد المَلِك بن قريب يُكنَّىٰ أبا سعيد.

التي يتَّخذ الضبُّ عندها جحراً يأوي إليها لقلَّة هدايته، وهم أصل الشجرة المقطوعة لأنَّهم وُتروا وظُلموا وجُفوا وقُطعوا ولم يوصلوا فنبتوا من أُصولهم وعروقهم، لا يضرُّهم قطع من قطعهم، ولا إدبار من أدبر عنهم، إذ كانوا من قِبَل الله منصوصاً عليهم علىٰ لسان نبيِّه (صلی الله علیه و آله).

ومن معنىٰ العترة هم المظلومون المأخوذون بما لم يجترموه ولميذنبوه ومنافعهم كثيرة، وهم (علیهم السلام) ينابيع العلم علىٰ معنىٰ الشجرة الكثيرة اللبن، وهم (علیهم السلام) ذكراناً غير إناث علىٰ معنىٰ قول من قال: إنَّ العترة هو الذَّكَر. وهم (علیهم السلام) جند الله (جلَّ وعزَّ) وحزبه علىٰ معنىٰ قول الأصمعي: إنَّ العترة الريح ، قَالَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله): «الرِّيحُ جُنْدُ الله الْأَكْبَرُ» في حديث مشهور عنه، والريح عذاب علىٰ قوم ورحمة لآخرين. وهم (علیهم السلام) كذلك كالقرآن المقرون إليهم بقول النبيِّ (صلی الله علیه و آله): «إنّي مخلِّف فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي »، قال الله (تبارک و تعالی): «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً 82» [الإسراء: 82]، وقال (تبارک و تعالی): «وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ 124 وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ 125» [التوبة: 124 و125]. وهم (علیهم السلام) أصحاب المشاهد المتفرِّقة والبيوت النازحة(1) علىٰ معنىٰ الذي ذهب إليه من قال: إنَّ العترة هو نبت مثل المرزنجوش ينبت متفرِّقاً، وبركاتهم (علیهم السلام) منبثَّة في المشرق والمغرب .

وأمَّا الذرّيَّة فقد قال أبو عبيدة: تأويل الذرّيَّات عندنا إذا كانت بالألف(2)

ص: 377


1- نزحت الدار نزوحاً: بعدت. وبلد نازح وقوم منازيح. وقد نزح بفلان إذا بعد عن دياره غيبة بعيدة.
2- أي بالألف والتاء: الذرّيَّات.

الأعقاب والنسل، وأمَّا الذي في القرآن: «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ» [الفرقان: 74]، قرأها عليٌّ(علیه السلام) وحده(1) بهذا المعنىٰ، والآية التي في يس: «وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ» [يس: 41]، وقوله (تبارک و تعالی): «كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ 133» [الأنعام: 133]، فيه لغتان: ذُرّيَّة وذِرّيَّة، مثل عُلّيَّة وعِلّيَّة، وكانت قراءته بالضمِّ وقرأها أبو عمرو، وهي قراءة أهل المدينة إلَّا ما ورد عن زيد بن ثابت أنَّه قرأ: «ذِرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ» [الإسراء: 3] بالكسر، وقال مجاهد في قوله : «إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ» [يونس: 83]: إنَّهم أولاد الذين أُرسل إليهم موسىٰ ومات آباؤهم، فقال الفرَّاء: إنَّما سمُّوا ذرّيَّة لأنَّ آباءهم من القبط وأُمَّهاتهم من بني إسرائيل، قال: وذلك كما قيل لأولاد أهل فارس الذين سقطوا إلىٰ اليمن: الأبناء، لأنَّ أُمَّهاتهم من غير جنس آبائهم، قال أبو عبيدة: يريد الفرَّاء أنَّهم يُسَمّون ذرّيَّة، وهم رجال مذكورون لهذا المعنىٰ، وذرّيَّة الرجل كأنَّهم النش ء الذين خرجوا منه، وهو من (ذروت) أو (ذريت) وليس بمهموز، وقال أبو عبيدة: وأصله مهموز ولكن العرب تركت الهمزة فيه وهو في مذهبه من ذرأ الله الخلق كما قال الله (جلَّ ثناؤه): «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ» [الأعراف: 179]، وذرأهم أي أنشأهم وخلقهم، وقوله (تبارک و تعالی): «يَذْرَؤُكُمْ» [الشورىٰ: 11]، أي يخلقكم، فكان ذرّيَّة الرجل هم خلق الله (عزوجل)منه ومن نسله ومن إنشاء الله (عزوجل)من صلبه.

ومعنىٰ السلالة الصفوة من كلِّ شيء، يقال: سلالة وسليل، وَفِي الْحَدِيثِ قَالَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله): «اللَّهُمَّ اسْقِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ مِنْ سَلِيلِ الْجَنَّةِ(2)»، ويقال: السليل هو

ص: 378


1- أي بصيغة المفرد قبال الجمع.
2- في النهاية (ج 2/ ص 392): (قيل: هو الشراب البارد، وقيل: الخالص الصافي من القذىٰ والكدر).

صافي شرابها، وإنَّما قيل له:(سليل) لأنَّه سُلَّ حتَّىٰ خلص، وهو فعيل بمعنىٰ المفعول، قالوا في تفسير قول الله (تبارک و تعالی): «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ 12» [المؤمنون: 12]، يعني أنَّه من صفوة طين الأرض، والسلالة النتاج، سُلَّ من أُمِّه أي نتج، وقالت هند بنت أسماء(1) وكانت تحت الحجَّاج بن يوسف الثقفي :

وهل هند إلَّا مهرة عربيَّة *** سليلة أفراس تجلَّلها بغلُ(2)

فإنْ نتجت مهراً كريماً فبالحريِّ *** وإنْ يكُ أقرافاً فما فعل الفحلُ(3)

وروي فما جنىٰ الفحل. والسليل المنتوج، والسليلة المنتوجة كأنَّه يريد النتاج الخالص الصافي.

وقيل للحسن والحسين والأئمَّة [من] بعدهما (صلوات الله عليهم أجمعين): سلالة رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأنَّهم الصفوة من ولده (علیهم السلام).وهذا معنىٰ العترة والذرّيَّة والسلالة في لغة العرب، ونسأل الله التوفيق للصواب في جميع الأُمور برحمته .

* * *

ص: 379


1- في تاج العروس (ج 14/ ص 350)، وبعض نُسَخ الصحاح والعقد الفريد (ج 7/ص 124): (هند بنت نعمان بن بشير). ويمكن أنْ يكون (أسماء) أُمَّها.
2- قوله: (تجلَّلها) في بعض الكُتُب: (تحلَّلها) بالحاء المهملة، وفي بعضها: (تخلَّلها) بالخاء المعجمة. وفى لسان العرب (ج 11/ ص 339) وتاج العروس: (وما هند). وقوله: (بغل) كذا في تاج العروس والصحاح للجوهري (ج 5/ ص 1731)، وفي العقد الفريد: (بعل)، وفي لسان العرب: (قال ابن برِّي: وذكر بعضهم أنَّها تصحيف، وأنَّ صوابه: (نَغْل) - بفتح النون وسكون الغين المعجمة - وهو الخسيس من الناس والدوابِّ، لأنَّ البغل لا يُنسِل) انتهىٰ. والمُهر - بضمِّ الميم وسكون الهاء -: ولد الفرس. والأُنثىٰ: مُهرة.
3- كذا، وفي العقد الفريد: فإنْ أنجبت مهراً عريقاً فبالحريِّ *** وإنْ يكُ أقراف فما أنجب الفحلُ وفي لسان العرب: (وإنْ يكُ أقراف فمن قبل الفحلُ).

ص: 380

الباب الثالث والعشرون

نصُّ الله تبارك وتعالى على القائم (علیه السلام) وأنَّه الثاني عشر من الأئمَّة (علیهم السلام)

ص: 381

ص: 382

[1/136] حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِدْرِيسَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ الْآدَمِيُّ الرَّازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ الشَّيْبَانِيُّ(1)، عَنْ أَبِيهِ آدَمَ بْنِ أَبِي أَيَاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا المُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ وَهْبِ ابْنِ مُنَبِّهٍ، رَفَعَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «لَمَّا عُرِجَ بِي إِلَىٰ رَبِّي (جل جلاله) أَتَانِي النِّدَاءُ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبَّ الْعَظَمَةِ لَبَّيْكَ، فَأَوْحَىٰ اللهُ تَعَالَىٰ إِلَيَّ: يَا مُحَمَّدُ، فِيمَ اخْتَصَمَ المَلَأُ الْأَعْلَىٰ؟ قُلْتُ: إِلَهِي لَا عِلْمَ لِي، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، هَلَّا اتَّخَذْتَ مِنَ الْآدَمِيِّينَ وَزِيراً وَأَخاً وَوَصِيًّا مِنْ بَعْدِكَ؟ فَقُلْتُ: إِلَهِي وَمَنْ أَتَّخِذُ؟ تَخَيَّرْ لِي أَنْتَ يَا إِلَهِي، فَأَوْحَىٰ اللهُ إِلَيَّ: يَا مُحَمَّدُ، قَدِ اخْتَرْتُ لَكَ مِنَ الْآدَمِيِّينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَقُلْتُ: إِلَهِي ابْنَ عَمِّي؟ فَأَوْحَىٰ اللهُ إِلَيَّ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ عَلِيًّا وَارِثُكَ، وَوَارِثُ الْعِلْمِ مِنْ بَعْدِكَ، وَصَاحِبُ لِوَائِكَ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَصَاحِبُ حَوْضِكَ، يَسْقِي مَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ مُؤْمِنِي أُمَّتِكَ، ثُمَّ أَوْحَىٰ اللهُ (عزوجل)إِلَيَّ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي قَدْ أَقْسَمْتُ عَلَىٰ نَفْسِي قَسَماً حَقًّا لَا يَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْحَوْضِ مُبْغِضٌ لَكَ وَلِأَهْلِ بَيْتِكَ وَذُرِّيَّتِكَ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ، حَقًّا أَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، لَأُدْخِلَنَّ جَمِيعَ أُمَّتِكَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَىٰ مِنْ خَلْقِي، فَقُلْتُ: إِلَهِي [هَلْ] وَاحِدٌ يَأْبَىٰ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ؟ فَأَوْحَىٰ اللهُ (تبارکو تعالی) إِلَيَّ: بَلَىٰ، فَقُلْتُ: وَكَيْفَ يَأْبَىٰ؟ فَأَوْحَىٰ اللهُ إِلَيَّ: يَا مُحَمَّدُ، اخْتَرْتُكَ مِنْ خَلْقِي، وَاخْتَرْتُ لَكَ وَصِيًّا مِنْ بَعْدِكَ، وَجَعَلْتُهُ مِنْكَ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَىٰ إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَكَ، وَأَلْقَيْتُ مَحَبَّتَهُ فِي قَلْبِكَ، وَجَعَلْتُهُ أَباً لِوُلْدِكَ ،

ص: 383


1- كذا، وآدم بن أبي أياس ثقة، وهو العسقلاني لا الشيباني، كما في تقريب التهذيب (ج 1/ ص 50/ الرقم 132). ومحمّد بن آدم ابنه عامّيٌّ مهمل. ومبارك بن فضالة أيضاً عامّيٌّ مختلف فيه.

فَحَقُّهُ بَعْدَكَ عَلَىٰ أُمَّتِكَ كَحَقِّكَ عَلَيْهِمْ فِي حَيَاتِكَ، فَمَنْ جَحَدَ حَقَّهُ فَقَدْ جَحَدَ حَقَّكَ، وَمَنْ أَبَىٰ أَنْ يُوَالِيَهُ فَقَدْ أَبَىٰ أَنْ يُوَالِيَكَ، وَمَنْ أَبَىٰ أَنْ يُوَالِيَكَ فَقَدْ أَبَىٰ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَخَرَرْتُ لِلهِ (عزوجل)سَاجِداً شُكْراً لِمَا أَنْعَمَ عَلَيَّ، فَإِذَا مُنَادِياً يُنَادِي: ارْفَعْ يَا مُحَمَّدُ رَأْسَكَ، وَسَلْنِي أُعْطِكَ.

فَقُلْتُ: إِلَهِي اجْمَعْ أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي عَلَىٰ وَلَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِيَرِدُوا جَمِيعاً عَلَىٰ حَوْضِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَوْحَىٰ اللهُ تَعَالَىٰ إِلَيَّ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي قَدْ قَضَيْتُ فِي عِبَادِي قَبْلَ أَنْ أَخْلُقَهُمْ، وَقَضَائِي مَاضٍ فِيهِمْ، لَأُهْلِكُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَأَهْدِي بِهِ مَنْ أَشَاءُ، وَقَدْ آتَيْتُهُ عِلْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ، وَجَعَلْتُهُ وَزِيرَكَ وَخَلِيفَتَكَ مِنْ بَعْدِكَ عَلَىٰ أَهْلِكَ وَأُمَّتِكَ، عَزِيمَةً مِنِّي [لِأُدْخِلَ الْجَنَّةَ مَنْ أَحَبَّهُ وَ]لَا أُدْخِلَ الْجَنَّةَ مَنْ أَبْغَضَهُ وَعَادَاهُ وَأَنْكَرَ وَلَايَتَهُ بَعْدَكَ، فَمَنْ أَبْغَضَهُ أَبْغَضَكَ، وَمَنْ أَبْغَضَكَ أَبْغَضَنِي، ومَنْ عَادَاهُ فَقَدْ عَادَاكَ، وَمَنْ عَادَاكَ فَقَدْ عَادَانِي، وَمَنْ أَحَبَّهُ فَقَدْ أَحَبَّكَ، وَمَنْ أَحَبَّكَ فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَقَدْ جَعَلْتُ لَهُ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ، وَأَعْطَيْتُكَ أَنْ أُخْرِجَ مِنْ صُلْبِهِ أَحَدَ عَشَرَ مَهْدِيًّا كُلُّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ مِنَ الْبِكْرِ الْبَتُولِ، وَآخِرُ رَجُلٍ مِنْهُمْ يُصَلِّي خَلْفَهُ عِيسَىٰ بْنُ مَرْيَمَ، يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ مِنْهُمْ ظُلْماً وَجَوْراً، أُنْجِي بِهِ مِنَ الْهَلَكَةِ، وَأُهْدِي بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَأُبْرِئُ بِهِ مِنَ الْعَمَىٰ، وَأَشْفِي بِهِ المَرِيضَ.

فَقُلْتُ: إِلَهِي وَسَيِّدِي مَتَىٰ يَكُونُ ذَلِكَ؟ فَأَوْحَىٰ اللهُ (جَلَّ وَعَزَّ): يَكُونُ ذَلِكَ إِذَا رُفِعَ الْعِلْمُ، وَظَهَرَ الْجَهْلُ، وَكَثُرَ الْقُرَّاءُ، وَقَلَّ الْعَمَلُ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ، وَقَلَّ الْفُقَهَاءُ الْهَادُونَ، وَكَثُرَ فُقَهَاءُ الضَّلَالَةِ وَالْخَوَنَةُ، وَكَثُرَ الشُّعَرَاءُ، وَاتَّخَذَأُمَّتُكَ قُبُورَهُمْ مَسَاجِدَ، وَحُلِّيَتِ المَصَاحِفُ، وَزُخْرِفَتِ المَسَاجِدُ، وَكَثُرَ الْجَوْرُ وَالْفَسَادُ، وَظَهَرَ المُنْكَرُ، وَأَمَرَ أُمَّتُكَ بِهِ، وَنَهَوْا عَنِ المَعْرُوفِ، وَاكْتَفَىٰ الرِّجَالُ بِالرِّجَالِ، وَالنِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ، وَصَارَتِ الْأُمَرَاءُ كَفَرَةً، وَأَوْلِيَاؤُهُمْ فَجَرَةً، وَأَعْوَانُهُمْ ظَلَمَةً، وَذَوِي الرَّأْيِ مِنْهُمْ فَسَقَةً، وَعِنْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ

ص: 384

بِالمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَخَرَابُ الْبَصْرَةِ عَلَىٰ يَدِ رَجُلٍ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يَتْبَعُهُ الزُّنُوجُ، وَخُرُوجُ رَجُلٍ مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَظُهُورُ الدَّجَّالِ يَخْرُجُ بِالمَشْرِقِ مِنْ سِجِسْتَانَ، وَظُهُورُ السُّفْيَانِيِّ.

فَقُلْتُ: إِلَهِي وَمَتَىٰ يَكُونُ بَعْدِي مِنَ الْفِتَنِ؟ فَأَوْحَىٰ اللهُ إِلَيَّ وَأَخْبَرَنِي بِبَلَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَفِتْنَةِ وُلْدِ عَمِّي، وَمَا يَكُونُ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَأَوْصَيْتُ بِذَلِكَ ابْنَ عَمِّي حِينَ هَبَطْتُ إِلَىٰ الْأَرْضِ وَأَدَّيْتُ الرِّسَالَةَ، وَلِلهِ الْحَمْدُ عَلَىٰ ذَلِكَ كَمَا حَمِدَهُ النَّبِيُّونَ، وَكَمَا حَمِدَهُ كُلُّ شَيْ ءٍ قَبْلي وَمَا هُوَ خَالِقُهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(1).

ص: 385


1- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 51/ ص 70 و71): (بيان: قوله تعالىٰ: «فيما اختصم الملأ الأعلىٰ»، إشارة إلىٰ قوله تعالىٰ: «مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَىٰ إِذْ يَخْتَصِمُونَ 69» [ص: 69]، والمشهور بين المفسِّرين أنَّه إشارة إلىٰ قوله تعالىٰ: «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً» [البقرة: 30]، وسؤال الملائكة في ذلك، فلعلَّه تعالىٰ سأله أوَّلاً عن ذلك، ثمّ أخبره به وبيَّن أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة وخليفة، ثمّ سأله عن خليفته وعيَّن له الخلفاء بعده. ولا يبعد أنْ يكون الملائكة سألوا في ذلك الوقت عن خليفة الرسول(صلی الله علیه و آله)، فأخبره الله بذلك، وقد مضىٰ في باب المعراج بعض القول في ذلك.قوله تعالىٰ: «وخراب البصرة» إشارة إلىٰ قصَّة صاحب الزنج الذي خرج في البصرة سنة ستّ أو خمس وخمسين ومأتين، ووعد كلَّ من أتىٰ إليه من السودان أنْ يعتقهم ويكرمهم، فاجتمع إليه منهم خلق كثير، وبذلك علا أمره، ولذا لُقِّبَ: صاحب الزنج، وكان يزعم أنَّه عليُّ بن محمّد بن أحمد بن عيسىٰ بن زيد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب (علیه السلام). وقال ابن أبي الحديد: (وأكثر الناس يقدحون في نسبه وخصوصاً الطالبيُّون، وجمهور النسَّابين [اتَّفقوا] علىٰ أنَّه من عبد القيس، وأنَّه عليُّ بن محمّد بن عبد الرحيم، وأُمُّه أسديَّة من أسد بن خزيمة، جدُّها محمّد بن الحَكَم الأسدي من أهل الكوفة). ونحو ذلك قال ابن الأثير في الكامل، والمسعودي في مروج الذهب. ويظهر من الخبر أنَّ نسبه كان صحيحاً. ثمّ اعلم أنَّ هذه العلامات لا يلزم كونها مقارنة لظهوره (علیه السلام)؛ إذ الغرض بيان أنَّ قبل ظهوره (علیه السلام) يكون هذه الحوادث كما أنَّ كثيراً من أشراط الساعة التي روتها العامَّة والخاصَّة ظهرت قبل ذلك بدهور وأعوام، وقصَّة صاحب الزنج كانت مقارنة لولادته (علیه السلام)، ومن هذا الوقت ابتدأت علاماته إلىٰ أنْ يظهر (علیه السلام). علىٰ أنَّه يحتمل أنْ يكون الغرض علامات ولادته (علیه السلام) لكنَّه بعيد).

[2/137] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ هَمَّامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَابُنْدَاذَ(1)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ(2)، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (علیهم السلام)، عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «لَمَّا أُسْرِيَ بِي إِلَىٰ السَّمَاءِ أَوْحَىٰ إِلَيَّ رَبِّي (جل جلاله)، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي أَطْلَعْتُ عَلَىٰ الْأَرْضِ إطلَاعَةً، فَاخْتَرْتُكَ مِنْهَا، فَجَعَلْتُكَ نَبِيًّا، وَشَقَقْتُ لَكَ مِنِ اسْمِي اسْماً، فَأَنَا المَحْمُودُ وَأَنْتَ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ أَطْلَعْتُ الثَّانِيَةَ فَاخْتَرْتُ مِنْهَا عَلِيًّا، وَجَعَلْتُهُ وَصِيَّكَ، وَخَلِيفَتَكَ، وَزَوْجَ ابْنَتِكَ، وَأَبَا ذُرِّيَّتِكَ، وَشَقَقْتُ لَهُ اسْماً مِنْ أَسْمَائِي، فَأَنَا الْعَلِيُّ الْأَعْلَىٰ وَهُوَ عَلِيٌّ، وَخَلَقْتُ فَاطِمَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ مِنْ نُورِكُمَا،ثُمَّ عَرَضْتُ وَلَايَتَهُمْ عَلَىٰ المَلَائِكَةِ، فَمَنْ قَبِلَهَا كَانَ عِنْدِي مِنَ المُقَرَّبِينَ. يَا مُحَمَّدُ، لَوْ أَنَّ عَبْداً عَبَدَنِي حَتَّىٰ يَنْقَطِعَ وَيَصِيرَ كَالشَّنِّ الْبَالِي، ثُمَّ أَتَانِي جَاحِداً لِوَلَايَتِهِمْ، فَمَا أَسْكَنْتُهُ جَنَّتِي وَلَا أَظْلَلْتُهُ تَحْتَ عَرْشِي. يَا مُحَمَّدُ، تُحِبُّ أَنْ تَرَاهُمْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَبِّ، فَقَالَ (تبارک و تعالی): ارْفَعْ رَأْسَكَ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَإِذَا أَنَا بِأَنْوَارِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَمُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرٍ، وَعَلِيِّ بْنِ مُوسَىٰ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، و(م ح م د) بْنِ الْحَسَنِ الْقَائِمِ فِي وَسْطِهِمْ كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ، قُلْتُ: يَا رَبِّ، وَمَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ، وَهَذَا الْقَائِمُ الَّذِي يُحَلِّلُ حَلَالِي، وَيُحَرِّمُ حَرَامِي، وَبِهِ أَنْتَقِمُ مِنْ أَعْدَائِي، وَهُوَ رَاحَةٌ لِأَوْلِيَائِي، وَهُوَ الَّذِي يَشْفِي قُلُوبَ شِيعَتِكَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَالْجَاحِدِينَ وَالْكَافِرِينَ،

ص: 386


1- في المحكي عن إيضاح الرجال - في هامش بعض المخطوطة -: (مابنذاذ بالميم قبل الألف والباء المضمومة المنقَّطة تحتها نقطة بعد الألف ثمّ النون ثمّ الذال المعجمة المفتوحة بعد الألف وقبلها). ولم أقف علىٰ حاله.
2- أحمد بن هلال العبرتائي متَّهم في دينه غال. ورواية ابن أبي عمير عن المفضَّل بدون الواسطة بعيد.

فَيُخْرِجُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ طَرِيَّيْنِ فَيُحْرِقُهُمَا، فَلَفِتْنَةُ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بِهِمَا أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ الْعِجْلِ وَالسَّامِرِيِّ»(1).

[3/138] حَدَّثَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَمَّامٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ الْفَزَارِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمَاعَةَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنِي المُفَضَّلُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ ظَبْيَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ (عزوجل)عَلَىٰ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله): «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» [النساء: 59]، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، عَرَفْنَا اللهَ وَرَسُولَهُ، فَمَنْ أُولُو الْأَمْرِ الَّذِينَ قَرَنَ اللهُ طَاعَتَهُمْ بِطَاعَتِكَ؟ فَقَالَ (علیه السلام): «هُمْ خُلَفَائِييَا جَابِرُ، وَأَئِمَّةُ المُسْلِمِينَ [مِنْ] بَعْدِي، أَوَّلُهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، ثُمَّ عَلِيُّ ابْنُ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ المَعْرُوفُ فِي التَّوْرَاةِ بِالْبَاقِرِ، وَسَتُدْرِكُهُ يَا جَابِرُ، فَإِذَا لَقِيتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، ثُمَّ الصَّادِقُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ مُوسَىٰ بْنُ جَعْفَرٍ، ثُمَّ عَلِيُّ ابْنُ مُوسَىٰ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ سَمِيِّي وَكَنِيِّي حُجَّةُ اللهِ فِي أَرْضِهِ، وَبَقِيَّتُهُ فِي عِبَادِهِ ابْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، ذَاكَ الَّذِي يَفْتَحُ اللهُ تَعَالَىٰ ذِكْرُهُ عَلَىٰ يَدَيْهِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، ذَاكَ الَّذِي يَغِيبُ عَنْ شِيعَتِهِ وَأَوْلِيَائِهِ غَيْبَةً لَا يَثْبُتُ فِيهَا عَلَىٰ الْقَوْلِ بِإِمَامَتِهِ إِلَّا مَنِ امْتَحَنَ اللهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ».

قَالَ جَابِرٌ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَهَلْ يَقَعُ لِشِيعَتِهِ الْاِنْتِفَاعُ بِهِ فِي غَيْبَتِهِ؟ فَقَالَ (علیه السلام): «إِي وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالنُّبُوَّةِ، إِنَّهُمْ يَسْتَضِيئُونَ بِنُورِهِ وَيَنْتَفِعُونَ بِوَلَايَتِهِ فِي غَيْبَتِهِ كَانْتِفَاعِ النَّاسِ بِالشَّمْسِ وَإِنْ تَجَلَّلَهَا سَحَابٌ. يَا جَابِرُ، هَذَا مِنْ مَكْنُونِ سِرِّ اللهِ، وَمَخْزُونِ عِلْمِهِ، فَاكْتُمْهُ إِلَّا عَنْ أَهْلِهِ».

ص: 387


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 60 و61/ ح 27)، والخزَّاز (رحمة الله) في كفاية الأثر (ص 152 و153).

قَالَ جَابِرُ بْنُ يَزِيدَ: فَدَخَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيُّ عَلَىٰ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (علیهما السلام)، فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُهُ إِذْ خَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ (علیهما السلام) مِنْ عِنْدِ نِسَائِهِ وَعَلَىٰ رَأْسِهِ ذُؤَابَةٌ، وَهُوَ غُلَامٌ، فَلَمَّا بَصُرَ بِهِ جَابِرٌ ارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُ، وَقَامَتْ كُلُّ شَعْرَةٍ عَلَىٰ بَدَنِهِ، وَنَظَرَ إِلَيْهِ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا غُلَامُ، أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ، فَقَالَ جَابِرُ: شَمَائِلُ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ قَامَ فَدَنَا مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا اسْمُكَ يَا غُلَامُ؟ فَقَالَ: «مُحَمَّدٌ»، قَالَ: ابْنُ مَنْ؟ قَالَ: «ابْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ»، قَالَ: يَا بُنَيَّ، فَدَتْكَ نَفْسِي، فَأَنْتَ إِذاً الْبَاقِرُ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ»، ثُمَّ قَالَ: «فَأَبْلِغْنِي مَا حَمَلَكَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله)»، فَقَالَ جَابِرٌ: يَامَوْلَايَ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) بَشَّرَنِي بِالْبَقَاءِ إِلَىٰ أَنْ أَلْقَاكَ، وَقَالَ لِي: «إِذَا لَقِيتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ»، فَرَسُولُ اللهِ يَا مَوْلَايَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (علیه السلام): «يَا جَابِرُ، عَلَىٰ رَسُولِ اللهِ السَّلَامُ مَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَعَلَيْكَ يَا جَابِرُ كَمَا بَلَّغْتَ السَّلَامَ»، فَكَانَ جَابِرٌ بَعْدَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ وَيَتَعَلَّمُ مِنْهُ، فَسَأَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ (علیهما السلام) عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ لَهُ جَابِرٌ: وَاللهِ مَا دَخَلْتُ فِي نَهْيِ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) فَقَدْ أَخْبَرَنِي أَنَّكُمْ أَئِمَّةُ(1) الْهُدَاةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ مِنْ بَعْدِهِ أَحْلَمُ النَّاسِ صِغَاراً، وَأَعْلَمُ النَّاسِ كِبَاراً، وَقَالَ: «لَا تُعَلِّمُوهُمْ فَهُمْ أَعْلَمُ مِنْكُمْ»، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (علیه السلام): «صَدَقَ جَدِّي رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، إِنِّي لَأَعْلَمُ مِنْكَ بِمَا سَأَلْتُكَ عَنْهُ، وَلَقَدْ أُوتِيتُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، كُلُّ ذَلِكَ بِفَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَرَحْمَتِهِ لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ ».

[4/139] حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْهَاشِمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا فُرَاتُ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ فُرَاتٍ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْفَضْلِ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْبُخَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ

ص: 388


1- كذا، والصحيح: (الأئمَّة)، كما في بحار الأنوار (ج 36/ ص 251).

صَالِحٍ الْهَرَوِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُوسَىٰ الرِّضَا (علیه السلام)، عَنْ أَبِيهِ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «مَا خَلَقَ اللهُ خَلْقاً أَفْضَلَ مِنِّي، وَلَا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنِّي»، قَالَ عَلِيٌّ (علیه السلام): «فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَنْتَ أَفْضَلُ أَمْجَبْرَئِيلُ؟»، فَقَالَ (علیه السلام): «يَا عَلِيُّ، إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ فَضَّلَ أَنْبِيَاءَهُ المُرْسَلِينَ عَلَىٰ مَلَائِكَتِهِ المُقَرَّبِينَ، وَفَضَّلَنِي عَلَىٰ جَمِيعِ النَّبِيِّينَ وَالمُرْسَلِينَ، وَالْفَضْلُ بَعْدِي لَكَ يَا عَلِيُّ، وَلِلْأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِكَ، فَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَخُدَّامُنَا وَخُدَّامُ مُحِبِّينَا. يَا عَلِيُّ، الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ... وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِوَلَايَتِنَا. يَا عَلِيُّ، لَوْلَا نَحْنُ مَا خَلَقَ اللهُ آدَمَ وَلَا حَوَّا، وَلَا الْجَنَّةَ وَلَا النَّارَ، وَلَا السَّمَاءَ وَلَا الْأَرْضَ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ المَلَائِكَةِ وَقَدْ سَبَقْنَاهُمْ إِلَىٰ التَّوْحِيدِ وَمَعْرِفَةِ رَبِّنَا (عزوجل)وَتَسْبِيحِهِ وَتَقْدِيسِهِ وَتَهْلِيلِهِ، لِأَنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ (عزوجل)أَرْوَاحُنَا، فَأَنْطَقَنَا بِتَوْحِيدِهِ وَتَمْجِيدِهِ، ثُمَّ خَلَقَ المَلَائِكَةَ، فَلَمَّا شَاهَدُوا أَرْوَاحَنَا نُوراً وَاحِداً اسْتَعْظَمُوا أُمُورَنَا، فَسَبَّحْنَا لِتَعْلَمَ المَلَائِكَةُ أَنَّا خَلْقٌ مَخْلُوقُونَ، وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِنَا، فَسَبَّحَتِ المَلَائِكَةُ لِتَسْبِيحِنَا، وَنَزَّهَتْهُ عَنْ صِفَاتِنَا، فَلَمَّا شَاهَدُوا عِظَمَ شَأْنِنَا هَلَّلْنَا لِتَعْلَمَ المَلَائِكَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّا عَبِيدٌ وَلَسْنَا بِآلِهَةٍ يَجِبُ أَنْ نُعْبَدَ مَعَهُ أَوْ دُونَهُ، فَقَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَلَمَّا شَاهَدُوا كِبَرَ مَحَلِّنَا كَبَّرْنَا اللهَ لِتَعْلَمَ المَلَائِكَةُ أَنَّ اللهَ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُنَالَ، وَأَنَّهُ عَظِيمُ المَحَلِّ، فَلَمَّا شَاهَدُوا مَا جَعَلَ اللهُ لَنَا مِنَ الْعِزَّةِ وَالْقُوَّةِ، قُلْنَا: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، لِتَعْلَمَ المَلَائِكَةُ أَنْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، فَقَالَتِ المَلَائِكَةُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، فَلَمَّا شَاهَدُوا مَا أَنْعَمَ اللهُ بِهِ عَلَيْنَا وَأَوْجَبَهُ لَنَا مِنْ فَرْضِ الطَّاعَةِ، قُلْنَا: الْحَمْدُ لِلهِ، لِتَعْلَمَ المَلَائِكَةُ مَا يَحِقُّ الله تَعَالَىٰ ذِكْرُهُ عَلَيْنَا مِنَ الْحَمْدِ عَلَىٰ نِعَمِهِ، فَقَالَتِ المَلَائِكَةُ: الْحَمْدُ لِلهِ، فَبِنَا اهْتَدَوْا إِلَىٰ مَعْرِفَةِ [تَوْحِيدِ] اللهِ تَعَالَىٰ وَتَسْبِيحِهِ وَتَهْلِيلِهِ وَتَحْمِيدِهِ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ تَعَالَىٰ خَلَقَ آدَمَ (علیه السلام) وَأَوْدَعَنَا صُلْبَهُ وَأَمَرَ المَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ

ص: 389

لَهُ تَعْظِيماً لَنَا وَإِكْرَاماً، وَكَانَ سُجُودُهُمْ لِلهِ (عزوجل)عُبُودِيَّةً وَلِآدَمَ إِكْرَاماً وَطَاعَةً لِكَوْنِنَا فِي صُلْبِهِ، فَكَيْفَ لَا نَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ المَلَائِكَةِ وَقَدْ سَجَدُوا لِآدَمَ كُلُّهُمْأَجْمَعُونَ؟ وَأَنَّهُ لَمَّا عُرِجَ بِي إِلَىٰ السَّمَاءِ أَذَّنَ جَبْرَئِيلُ مَثْنَىٰ مَثْنَىٰ، وَأَقَامَ مَثْنَىٰ مَثْنَىٰ، ثُمَّ قَالَ: تَقَدَّمْ يَا مُحَمَّدُ، فَقُلْتُ: يَا جَبْرَئِيلُ، أَتَقَدَّمُ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، لِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ اسْمُهُ فَضَّلَ أَنْبِيَاءَهُ عَلَىٰ مَلَائِكَتِهِ أَجْمَعِينَ وَفَضَّلَكَ خَاصَّةً، فَتَقَدَّمْتُ وَصَلَّيْتُ بِهِمْ وَلَا فَخْرَ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَىٰ حُجُبِ النُّورِ قَالَ لِي جَبْرَئِيلُ (علیه السلام): تَقَدَّمْ يَا مُحَمَّدُ، وَتَخَلَّفْ عَنِّي، فَقُلْتُ: يَا جَبْرَئِيلُ، فِي مِثْلِ هَذَا المَوْضِعِ تُفَارِقُنِي؟ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ هَذَا انْتِهَاءُ حَدِّيَ الَّذِي وَضَعَهُ اللهُ (عزوجل)لِي فِي هَذَا المَكَانِ، فَإِنْ تَجَاوَزْتُهُ احْتَرَقَتْ أَجْنِحَتِي لِتَعَدِّي حُدُودِ رَبِّي (جل جلاله)، فَزُخَّ بِي زَخَّةً فِي النُّورِ حَتَّىٰ انْتَهَيْتُ إِلَىٰ حَيْثُ مَا شَاءَ اللهُ (عزوجل)مِنْ مَلَكُوتِهِ، فَنُودِيتُ: يَا مُحَمَّدُ، فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّي وَسَعْدَيْكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، فَنُودِيتُ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، فَإِيَّايَ فَاعْبُدْ، وَعَلَيَّ فَتَوَكَّلْ، فَإِنَّكَ نُورِي فِي عِبَادِي، وَرَسُولِي إِلَىٰ خَلْقِي، وَحُجَّتِي فِي بَرِيَّتِي، لِمَنْ تَبِعَكَ خَلَقْتُ جَنَّتِي، وَلِمَنْ خَالَفَكَ خَلَقْتُ نَارِي، وَلِأَوْصِيَائِكَ أَوْجَبْتُ كَرَامَتِي، وَلِشِيعَتِكَ أَوْجَبْتُ ثَوَابِي.

فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، وَمَنْ أَوْصِيَائِي؟ فَنُودِيتُ: يَا مُحَمَّدُ، [إِنَّ] أَوْصِيَاءَكَ المَكْتُوبُونَ عَلَىٰ سَاقِ الْعَرْشِ، فَنَظَرْتُ - وَأَنَا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّي - إِلَىٰ سَاقِ الْعَرْشِ، فَرَأَيْتُ اثْنَيْ عَشَرَ نُوراً، فِي كُلِّ نُورٍ سَطْرٌ أَخْضَرُ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ اسْمُ كُلِّ وَصِيٍّ مِنْ أَوْصِيَائِي، أَوَّلُهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَآخِرُهُمْ مَهْدِيُّ أُمَّتِي.

فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، أَهَؤُلَاءِ أَوْصِيَائِي مِنْ بَعْدِي؟ فَنُودِيتُ: يَا مُحَمَّدُ، هَؤُلَاءِ أَوْلِيَائِي وَأَحِبَّائِي وَأَصْفِيَائِي وَحُجَجِي بَعْدَكَ عَلَىٰ بَرِيَّتِي، وَهُمْ أَوْصِيَاؤُكَ وَخُلَفَاؤُكَ وَخَيْرُ خَلْقِي بَعْدَكَ. وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأُظْهِرَنَّ بِهِمْ دِينِي، وَلَأُعْلِيَنَّ بِهِمْ كَلِمَتِي، وَلَأُطَهِّرَنَّ الْأَرْضَ بِآخِرِهِمْ مِنْ أَعْدَائِي، وَلَأُمَلِّكَنَّهُ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَلَأُسَخِّرَنَّ لَهُ الرِّيَاحَ، وَلَأُذَلِّلَنَّ لَهُ الرِّقَابَ الصِّعَابَ،وَلَأُرْقِيَنَّهُ فِي

ص: 390

الْأَسْبَابِ، وَلَأَنْصُرَنَّهُ بِجُنْدِي، وَلَأُمِدَّنَّهُ بِمَلَائِكَتِي حَتَّىٰ يُعْلِنَ دَعْوَتِي وَيَجْمَعَ الْخَلْقَ عَلَىٰ تَوْحِيدِي، ثُمَّ لَأُدِيمَنَّ مُلْكَهُ، وَلَأُدَاوِلَنَّ الْأَيَّامَ بَيْنَ أَوْلِيَائِي إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(1).

وَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ عَلَىٰ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ، وَسَلَّمَ تَسْلِيماً.

* * *

ص: 391


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 237 و238/ ح 22)، وفي علل الشرائع (ج 1/ ص 5 - 7/ باب 7/ ح 1).

ص: 392

الباب الرابع والعشرون

ما روي عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله) في النصِّ على القائم (علیه السلام) وأنَّه الثاني عشر من الأئمَّة (علیهم السلام)

ص: 393

ص: 394

[1/140] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الصَّيْرَفِيِّ الْكُوفِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «لُعِنَ المُجَادِلُونَ(1) فِي دِينِ اللهِ عَلَىٰ لِسَانِ سَبْعِينَ نَبِيًّا، وَمَنْ جَادَلَ فِي آيَاتِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ، قَالَ اللهُ (تبارک و تعالی): «مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ 4» [غافر: 4]، وَمَنْ فَسَّرَ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ عَلَىٰ اللهِ الْكَذِبَ، وَمَنْ أَفْتَىٰ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلَعَنَتْهُ مَلَائِكَةُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ سَبِيلُهَا إِلَىٰ النَّارِ».

قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرْشِدْنِي إِلَىٰ النَّجَاةِ، فَقَالَ: «يَا ابْنَ سَمُرَةَ، إِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَهْوَاءُ، وَتَفَرَّقَتِ الْآرَاءُ، فَعَلَيْكَ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنَّهُ إِمَامُ أُمَّتِي، وَخَلِيفَتِي عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدِي، وَهُوَ الْفَارُوقُ الَّذِي يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، مَنْ سَأَلَهُ أَجَابَهُ، وَمَنِ اسْتَرْشَدَهُ أَرْشَدَهُ، وَمَنْ طَلَبَ الْحَقَّ عِنْدَهُ وَجَدَهُ، وَمَنِ الْتَمَسَ الْهُدَىٰ لَدَيْهِ صَادَفَهُ، وَمَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ آمَنَهُ، وَمَنِ اسْتَمْسَكَ بِهِ نَجَّاهُ، وَمَنِ اقْتَدَىٰ بِهِ هَدَاهُ. يَا ابْنَ سَمُرَةَ، سَلِمَ مِنْكُمْ مَنْ سَلَّمَ لَهُ وَوَالَاهُ، وَهَلَكَ مَنْ رَدَّ عَلَيْهِ وَعَادَاهُ. يَا ابْنَ سَمُرَةَ، إِنَّ عَلِيًّا مِنِّي، رُوحُهُ مِنْ رُوحِي، وَطِينَتُهُ مِنْ طِينَتِي، وَهُوَ أَخِي وَأَنَا أَخُوهُ، وَهُوَ زَوْجُابْنَتِي فَاطِمَةَ سَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَإِنَّ مِنْهُ إِمَامَيْ أُمَّتِي وَسَيِّدَيْ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ

ص: 395


1- في بعض النُّسَخ: (لعن الله المجادلين).

الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، وَتِسْعَةً مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ تَاسِعُهُمْ قَائِمُ أُمَّتِي، يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»(1).

[2/141] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَىٰ بْنُ عِمْرَانَ النَّخَعِيُّ، عَنْ عَمِّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ أَطْلَعَ إِلَىٰ الْأَرْضِ(2) إطْلَاعَةً فَاخْتَارَنِي مِنْهَا فَجَعَلَنِي نَبِيًّا، ثُمَّ أَطْلَعَ الثَّانِيَةَ فَاخْتَارَ مِنْهَا عَلِيًّا فَجَعَلَهُ إِمَاماً، ثُمَّ أَمَرَنِي أَنْ أَتَّخِذَهُ أَخاً وَوَلِيًّا وَوَصِيًّا وَخَلِيفَةً وَوَزِيراً، فَعَلِيٌّ مِنِّي وَأَنَا مِنْ عَلِيٍّ، وَهُوَ زَوْجُ ابْنَتِي، وَأَبُو سِبْطَيَّ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، أَلَا وَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ جَعَلَنِي وإِيَّاهُمْ حُجَجاً عَلَىٰ عِبَادِهِ، وَجَعَلَ مِنْ صُلْبِ الْحُسَيْنِ أَئِمَّةً يَقُومُونَ بِأَمْرِي وَيَحْفَظُونَ وَصِيَّتِي، التَّاسِعُ مِنْهُمْ قَائِمُ أَهْلِ بَيْتِي، وَمَهْدِيُّ أُمَّتِي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِي فِي شَمَائِلِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، يَظْهَرُ بَعْدَ غَيْبَةٍ طَوِيلَةٍ وَحَيْرَةٍ مُضِلَّةٍ، فَيُعْلِنُ أَمْرَ اللهِ، وَيُظْهِرُ دِينَ اللهِ (جَلَّ وَعَزَّ)، يُؤَيَّدُ بِنَصْرِ اللهِ، وَيَنْصُرُ بِمَلَائِكَةِ اللهِ، فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْجَوْراً وَظُلْماً»(3).

[3/142] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَىٰ بْنُ عِمْرَانَ النَّخَعِيُّ، عَنْ عَمِّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (علیهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «حَدَّثَنِي جَبْرَئِيلُ عَنْ رَبِّ

ص: 396


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 78/ ح 45/3)، من قوله: (قال عبد الرحمن بن سمرة: قلت: يا رسول الله، أرشدني إلىٰ النجاة...)، والفتَّال (رحمة الله) في روضة الواعظين (ص 100) كما في الأمالي.
2- كذا في جميع النُّسَخ، وهكذا فيما سيأتي تحت الرقم (149/10)، والقياس: (علىٰ الأرض).
3- رواه الخزَّاز (رحمة الله) في كفاية الأثر (ص 10 و11)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 182 و183).

الْعِزَّةِ (جل جلاله) أَنَّهُ قَالَ: مَنْ عَلِمَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَحْدِي، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدِي وَرَسُولِي، وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ خَلِيفَتِي، وَأَنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ وُلْدِهِ حُجَجِي، أُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَنَجَّيْتُهُ مِنَ النَّارِ بِعَفْوِي، وَأَبَحْتُ لَهُ جِوَارِي، وَأَوْجَبْتُ لَهُ كَرَامَتِي، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْهِ نِعْمَتِي، وَجَعَلْتُهُ مِنْ خَاصَّتِي وَخَالِصَتِي، إِنْ نَادَانِي لَبَّيْتُهُ، وَإِنْ دَعَانِي أَجَبْتُهُ، وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ، وَإِنْ سَكَتَ ابْتَدَأْتُهُ، وَإِنْ أَسَاءَ رَحِمْتُهُ، وَإِنْ فَرَّ مِنِّي دَعَوْتُهُ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَيَّ قَبِلْتُهُ، وَإِنْ قَرَعَ بَابِي فَتَحْتُهُ. وَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَحْدِي، أَوْ شَهِدَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَشْهَدْ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدِي وَرَسُولِي، أَوْ شَهِدَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَشْهَدْ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ خَلِيفَتِي، أَوْ شَهِدَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَشْهَدْ أَنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ وُلْدِهِ حُجَجِي، فَقَدْ جَحَدَ نِعْمَتِي، وَصَغَّرَ عَظَمَتِي، وَكَفَرَ بِآيَاتِي وَكُتُبِي، إِنْ قَصَدَنِي حَجَبْتُهُ، وَإِنْ سَأَلَنِي حَرَمْتُهُ، وَإِنْ نَادَانِي لَمْ أَسْمَعْ نِدَاءَهُ، وَإِنْ دَعَانِي لَمْ أَسْتَجِبْ دُعَاءَهُ، وَإِنْ رَجَانِي خَيَّبْتُهُ، وَذَلِكَ جَزَاؤُهُ مِنِّي، وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ».

فَقَامَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنِ الْأَئِمَّةُ مِنْ وُلْدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ؟ قَالَ: «الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ سَيِّدُ الْعَابِدِينَ فِي زَمَانِهِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ الْبَاقِرُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَسَتُدْرِكُهُ يَا جَابِرُ، فَإِذَا أَدْرَكْتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، ثُمَّ الصَّادِقُ جَعْفَرُ بْنُمُحَمَّدٍ، ثُمَّ الْكَاظِمُ مُوسَىٰ ابْنُ جَعْفَرٍ، ثُمَّ الرِّضَا عَلِيُّ بْنُ مُوسَىٰ، ثُمَّ التَّقِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ النَّقِيُّ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ الزَّكِيُّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ ابْنُهُ الْقَائِمُ بِالْحَقِّ مَهْدِيُّ أُمَّتِي الَّذِي يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً. هَؤُلَاءِ يَا جَابِرُ خُلَفَائِي وَأَوْصِيَائِي وَأَوْلَادِي وَعِتْرَتِي ، مَنْ أَطَاعَهُمْ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَاهُمْ فَقَدْ عَصَانِي، وَمَنْ أَنْكَرَهُمْ أَوْ أَنْكَرَ وَاحِداً مِنْهُمْ فَقَدْ أَنْكَرَنِي، بِهِمْ يُمْسِكُ اللهُ (تبارک و تعالی) السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَىٰ الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَبِهِمْ يَحْفَظُ اللهُ الْأَرْضَ أَنْ تَمِيدَ(1) بِأَهْلِهَا»(2).

ص: 397


1- ماد يميد، أي اضطرب وتحرَّك.
2- رواه الخزَّاز (رحمة الله) في كفاية الأثر (ص 143 - 145)ن والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 183 و184)، والراوندي (رحمة الله) في قَصص الأنبياء (ص 365 و366/ ح 470)، والطبرسي (رحمة الله) في الاحتجاج (ج 1/ ص 87 و88).

[4/143] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْكُوفِيُّ، عَنْ مُوسَىٰ بْنِ عِمْرَانَ، عَنْ عَمِّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يَحْيَىٰ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (علیهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «الْأَئِمَّةُ بَعْدِي اثْنَا عَشَرَ، أَوَّلُهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَآخِرُهُمُ الْقَائِمُ، هُمْ خُلَفَائِي وَأَوْصِيَائِي وَأَوْلِيَائِي وَحُجَجُ اللهِ عَلَىٰ أُمَّتِي بَعْدِي، المُقِرُّ بِهِمْ مُؤْمِنٌ، وَالمُنْكِرُ لَهُمْ كَافِرٌ(1)»(2).

[5/144] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبَرْقِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَارُودِ الْعَبْدِيِّ، عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) ذَاتَ يَوْمٍ وَيَدُهُ فِي يَدِ ابْنِهِ الْحَسَنِ (علیه السلام) وَهُوَ يَقُولُ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) ذَاتَ يَوْمٍ وَيَدِي فِي يَدِهِ هَكَذَا، وَهُوَ يَقُولُ: خَيْرُ الْخَلْقِ بَعْدِي وَسَيِّدُهُمْ أَخِي هَذَا، وَهُوَ إِمَامُ كُلِّ مُسْلِمٍ، وَمَوْلَىٰ كُلِّ مُؤْمِنٍ(3) بَعْدَ وَفَاتِي، أَلَا وَإِنِّي أَقُولُ: خَيْرُ الْخَلْقِ بَعْدِي وَسَيِّدُهُمْ ابْنِي هَذَا، وَهُوَ إِمَامُ كُلِّ مُؤْمِنٍ، وَمَوْلَىٰ كُلِّ مُؤْمِنٍ(4) بَعْدَ وَفَاتِي، أَلَا وَإِنَّهُ سَيُظْلَمُ بَعْدِي كَمَا ظُلِمْتُ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، وَخَيْرُ الْخَلْقِ وَسَيِّدُهُمْ بَعْدَ الْحَسَنِ ابْنِي أَخُوهُ الْحُسَيْنُ المَظْلُومُ

ص: 398


1- في بعض النُّسَخ: (لهم جاحد).
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 61 و62/ ح 28)، وفي من لا يحضره الفقيه (ج 4/ ص 179 و180/ ح 5406)، والخزَّاز (رحمة الله) في كفاية الأثر (ص 145 و146 و153 و154)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 173).
3- في بعض النُّسَخ: (أمير كلِّ مؤمن).
4- في بعض النُّسَخ: (وهو إمام كلِّ مسلم وأمير كلِّ مؤمن).

بَعْدَ أَخِيهِ المَقْتُولُ فِي أَرْضِ كَرْبَلَاءَ، أَمَا إِنَّهُ(1) وَأَصْحَابُهُ مِنْ سَادَةِ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمِنْ بَعْدِ الْحُسَيْنِ تِسْعَةٌ مِنْ صُلْبِهِ خُلَفَاءُ اللهِ فِي أَرْضِهِ، وَحُجَجُهُ عَلَىٰ عِبَادِهِ، وَأُمَنَاؤُهُ عَلَىٰ وَحْيِهِ، وَأَئِمَّةُ المُسْلِمِينَ، وَقَادَةُ المُؤْمِنِينَ، وَسَادَةُ المُتَّقِينَ، تَاسِعُهُمُ الْقَائِمُ الَّذِي يَمْلَأُ اللهُ (عزوجل)بِهِ الْأَرْضَ نُوراً بَعْدَ ظُلْمَتِهَا، وَعَدْلاً بَعْدَ جَوْرِهَا، وَعِلْماً بَعْدَ جَهْلِهَا، وَالَّذِي بَعَثَ أَخِي مُحَمَّداً بِالنُّبُوَّةِ، وَاخْتَصَّنِي بِالْإِمَامَةِ، لَقَدْ نَزَلَ بِذَلِكَ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَىٰ لِسَانِ الرُّوحِ الْأَمِينِ جَبْرَئِيلَ، وَلَقَدْ سُئِلَرَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) - وَأَنَا عِنْدَهُ - عَنِ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ، فَقَالَ لِلسَّائِلِ: «وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ 1» [البروج: 1] إِنَّ عَدَدَهُمْ بِعَدَدِ الْبُرُوجِ، وَرَبِّ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ إِنَّ عَدَدَهُمْ كَعَدَدِ الشُّهُورِ، فَقَالَ السَّائِلُ: فَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) يَدَهُ عَلَىٰ رَأْسِي فَقَالَ: أَوَّلُهُمْ هَذَا، وَآخِرُهُمُ المَهْدِيُّ، مَنْ وَالاهُمْ فَقَدْ وَالَانِي، وَمَنْ عَادَاهُمْ فَقَدْ عَادَانِي، وَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَقَدْ أَبْغَضَنِي، وَمَنْ أَنْكَرَهُمْ فَقَدْ أَنْكَرَنِي، وَمَنْ عَرَفَهُمْ فَقَدْ عَرَفَنِي، بِهِمْ يَحْفَظُ اللهُ (عزوجل)دِينَهُ، وَبِهِمْ يَعْمُرُ بِلَادَهُ، وَبِهِمْ يَرْزُقُ عِبَادَهُ، وَبِهِمْ نَزَلَ الْقَطْرُ مِنَ السَّمَاءِ، وَبِهِمْ يَخْرُجُ بَرَكَاتُ الْأَرْضِ، هَؤُلَاءِ أَصْفِيَائِي وَخُلَفَائِي وَأَئِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَمَوَالِي المُؤْمِنِينَ »(2).

[6/145] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُوسَىٰ الرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (علیهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِدِينِي، وَيَرْكَبَ سَفِينَةَ النَّجَاةِ بَعْدِي، فَلْيَقْتَدِ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَلْيُعَادِ

ص: 399


1- في بعض النُّسَخ: (في أرض كرب وبلاء، ألَا وإنَّه).
2- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 184 و185)، والراوندي (رحمة الله) في قَصص الأنبياء (ص 364 و365/ ح 469).

عَدُوَّهُ، وَلْيُوَالِ وَلِيَّهُ، فَإِنَّهُ وَصِيِّي، وَخَلِيفَتِي عَلَىٰ أُمَّتِي فِي حَيَاتِي وَبَعْدَ وَفَاتِي، وَهُوَ إِمَامُ كُلِّ مُسْلِمٍ، وَأَمِيرُ كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي، قَوْلُهُ قَوْلِي، وَأَمْرُهُ أَمْرِي، وَنَهْيُهُ نَهْيِي، وَتَابِعُهُ تَابِعِي، وَنَاصِرُهُ نَاصِرِي، وَخَاذِلُهُ خَاذِلِي»، ثُمَّ قَالَ (علیه السلام): «مَنْ فَارَقَ عَلِيًّا بَعْدِي لَمْ يَرَنِي وَلَمْ أَرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ خَالَفَ عَلِيًّا حَرَّمَاللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، وَجَعَلَ مَأْوَاهُ النَّارَ [وَبِئْسَ المَصِيرُ]، وَمَنْ خَذَلَ عَلِيًّا خَذَلَهُ اللهُ يَوْمَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ، وَمَنْ نَصَرَ عَلِيًّا نَصَرَهُ اللهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَلَقَّنَهُ حُجَّتَهُ عِنْدَ المُسَاءَلَةِ»، ثُمَّ قَالَ (علیه السلام): «الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ إِمَامَا أُمَّتِي بَعْدَ أَبِيهِمَا، وَسَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأُمُّهُمَا سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، وَأَبُوهُمَا سَيِّدُ الْوَصِيِّينَ، وَمِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ تِسْعَةُ أَئِمَّةٍ، تَاسِعُهُمُ الْقَائِمُ مِنْ وُلْدِي، طَاعَتُهُمْ طَاعَتِي، وَمَعْصِيَتُهُمْ مَعْصِيَتِي، إِلَىٰ اللهِ أَشْكُو المُنْكِرِينَ لِفَضْلِهِمْ، وَالمُضِيعِينَ لِحُرْمَتِهِمْ بَعْدِي، وَكَفىٰ بِاللهِ وَلِيًّا وَنَاصِراً لِعِتْرَتِي، وَأَئِمَّةِ أُمَّتِي، وَمُنْتَقِماً مِنَ الْجَاحِدِينَ لِحَقِّهِمْ، «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ 227» [الشعراء: 227] ».

[7/146] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَىٰ الرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (علیهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «أَنَا سَيِّدُ مَنْ خَلَقَ اللهُ (تبارک و تعالی)، وَأَنَا خَيْرٌ مِنْ جَبْرَئِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَحَمَلَةِ الْعَرْشِ وَجَمِيعِ مَلَائِكَةِ اللهِ المُقَرَّبِينَ وَأَنْبِيَاءِ اللهِ المُرْسَلِينَ، وَأَنَا صَاحِبُ الشَّفَاعَةِ وَالْحَوْضِ الشَّرِيفِ، وَأَنَا وَعَلِيٌّ أَبَوَا هَذِهِ الْأُمَّةِ، مَنْ عَرَفَنَا فَقَدْ عَرَفَ اللهَ (تبارک و تعالی)، وَمَنْ أَنْكَرَنَا فَقَدْ أَنْكَرَ اللهَ (تبارک و تعالی)، وَمِنْ عَلِيٍّ سِبْطَا أُمَّتِي، وَسَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، وَمِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ تِسْعَةُ أَئِمَّةٍ، طَاعَتُهُمْ طَاعَتِي، وَمَعْصِيَتُهُمْ مَعْصِيَتِي، تَاسِعُهُمْ قَائِمُهُمْ وَمَهْدِيُّهُمْ ».

ص: 400

[8/147] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضی الله عنه)،قَالَ: أَخْبَرَنَا(1) أَحْمَدُ ابْنُ مُحَمَّدٍ الْهَمَدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ(2) السَّائِحُ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ الْعَسْكَرِيَّ يَقُولُ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (علیهم السلام)، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام): يَا عَلِيُّ، لَا يُحِبُّكَ إِلَّا مَنْ طَابَتْ وِلَادَتُهُ، وَلَا يُبْغِضُكَ إِلَّا مَنْ خَبُثَتْ وِلَادَتُهُ، وَلَا يُوَالِيكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُعَادِيكَ إِلَّا كَافِرٌ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ عَرَفْنَا عَلَامَةَ خَبِيثِ الْوِلَادَةِ وَالْكَافِرِ فِي حَيَاتِكَ بِبُغْضِ عَلِيٍّ وَعَدَاوَتِهِ، فَمَا عَلَامَةُ خَبِيثِ الْوِلَادَةِ وَالْكَافِرِ بَعْدَكَ إِذَا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ بِلِسَانِهِ وَأَخْفَىٰ مَكْنُونَ سَرِيرَتِهِ؟ فَقَالَ (علیه السلام): يَا ابْنَ مَسْعُودٍ، عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِمَامُكُمْ بَعْدِي وَخَلِيفَتِي عَلَيْكُمْ، فَإِذَا مَضَىٰ فَابْنِيَ الْحَسَنُ إِمَامُكُمْ بَعْدَهُ وَخَلِيفَتِي عَلَيْكُمْ، فَإِذَا مَضَىٰ فَابْنِيَ الْحُسَيْنُ إِمَامُكُمْ بَعْدَهُ وَخَلِيفَتِي عَلَيْكُمْ، ثُمَّ تِسْعَةٌ مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ أَئِمَّتُكُمْ وَخُلَفَائِي عَلَيْكُمْ، تَاسِعُهُمْ قَائِمُ أُمَّتِي ، يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً، لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مَنْ طَابَتْ وِلَادَتُهُ، وَلَا يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مَنْ خَبُثَتْ وِلَادَتُهُ، وَلَا يُوَالِيهِمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُعَادِيهِمْ إِلَّا كَافِرٌ، مَنْ أَنْكَرَ وَاحِداً مِنْهُمْ فَقَدْ أَنْكَرَنِي، وَمَنْ أَنْكَرَنِي فَقَدْ أَنْكَرَ اللهَ (تبارک و تعالی)، وَمَنْ جَحَدَ وَاحِداً مِنْهُمْ فَقَدْ جَحَدَنِي، وَمَنْ جَحَدَنِي فَقَدْ جَحَدَ اللهَ (تبارک و تعالی)، لِأَنَّ طَاعَتَهُمْ طَاعَتِي، وَطَاعَتِي طَاعَةُ اللهِ، وَمَعْصِيَتَهُمْ مَعْصِيَتِي، وَمَعْصِيَتِي مَعْصِيَةُ اللهِ (تبارک و تعالی). يَا ابْنَ مَسْعُودٍ، إِيَّاكَ أَنْ تَجِدَ فِي نَفْسِكَ حَرَجاً مِمَّا أَقْضِي فَتَكْفُرَ، فَوَعِزَّةِ رَبِّي مَا أَنَا مُتَكَلِّفٌ، وَلَا نَاطِقٌ عَنِ الْهَوَىٰ فِي عَلِيٍّ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ وُلْدِهِ، ثُمَّ قَالَ(علیه السلام) - وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ إِلَىٰ السَّمَاءِ -: اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَىٰ خُلَفَائِي وَأَئِمَّةَ أُمَّتِي بَعْدِي، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُمْ، وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُمْ

ص: 401


1- في بعض النُّسَخ: (حدَّثنا).
2- في بعض النُّسَخ: (عليِّ بن الحسين).

، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلَا تُخْلِ الْأَرْضَ مِنْ قَائِمٍ مِنْهُمْ بِحُجَّتِكَ ظَاهِراً أَوْ خَافِياً مَغْمُوراً، لِئَلَّا يَبْطُلَ دِينُكَ وحُجَّتُكَ [وَبُرْهَانُكَ] وَبَيِّنَاتُكَ، ثُمَّ قَالَ (علیه السلام): يَا ابْنَ مَسْعُودٍ، قَدْ جَمَعْتُ لَكُمْ فِي مَقَامِي هَذَا مَا إِنْ فَارَقْتُمُوهُ هَلَكْتُمْ، وَإِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ نَجَوْتُمْ ، وَالسَّلَامُ عَلىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ »(1).

[9/148] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْكَانَ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ(2)، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ الْهِلَالِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ (رضی الله عنه)، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىٰ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله) فَإِذَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَىٰ فَخِذِهِ، وَهُوَ يُقَبِّلُ عَيْنَيْهِ وَيَلْثِمُ فَاهُ، وَيَقُولُ: «أَنْتَ سَيِّدٌ ابْنُ سَيِّدٍ، أَنْتَ إِمَامٌ ابْنُ إِمَامٍ [أَخُو إِمَامٍ] أَبُو أَئِمَّةٍ، أَنْتَ حُجَّةُ اللهِ ابْنُ حُجَّتِهِ(3) وَأَبُو حُجَجٍ تِسْعَة مِنْ صُلْبِكَ، تَاسِعُهُمْ قَائِمُهُمْ »(4).

[10/149] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ، عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَالْيَمَانِيِّ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ الْهِلَالِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ (رضی الله عنه) يَقُولُ: كُنْتُ جَالِساً بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) فِي مَرْضَتِهِ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا، فَدَخَلَتْ فَاطِمَةُ (علیها السلام)، فَلَمَّا رَأَتْ مَا بِأَبِيهَا مِنَ الضَّعْفِ بَكَتْ حَتَّىٰ جَرَتْ دُمُوعُهَا عَلَىٰ خَدَّيْهَا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «مَا يُبْكِيكِ يَا فَاطِمَةُ؟»، قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْشَىٰ عَلَىٰ نَفْسِي وَوُلْدِي الضَّيْعَةَ

ص: 402


1- رواه الطبرسي (رحمة الله) في الاحتجاج (ج 1/ ص 88 و89).
2- كأنَّ فيه إرسال.
3- أنت حجَّة ابن حجَّة (خ ل).
4- رواه المصنِّف (رحمة الله) في الخصال (ص 475/ ح 38)، وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 56/ ح 17)، وسُلَيم بن قيس (رحمة الله) في كتابه (ص 460/ ح 77)، وابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 110/ ح 96)، والخزَّاز (رحمة الله) في كفاية الأثر (ص 45 و46).

بَعْدَكَ»، فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) بِالْبُكَاءِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا فَاطِمَةُ، أَمَا عَلِمْتِ أَنَّا أَهْلُ بَيْتٍ اخْتَارَ اللهُ (عزوجل)لَنَا الْآخِرَةَ عَلَىٰ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ حَتَمَ الْفَنَاءَ عَلَىٰ جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ أَطْلَعَ إِلَىٰ الْأَرْضِ إِطْلَاعَةً فَاخْتَارَنِي مِنْ خَلْقِهِ فَجَعَلَنِي نَبِيًّا، ثُمَّ أطْلَعَ إِلَىٰ الْأَرْضِ إطْلَاعَةً ثَانِيَةً فَاخْتَارَ مِنْهَا زَوْجَكِ، وَأَوْحَىٰ إِلَيَّ أَنْ أُزَوِّجَكِ إِيَّاهُ، وَأَتَّخِذَهُ وَلِيًّا وَوَزِيراً، وَأَنْ أَجْعَلَهُ خَلِيفَتِي فِي أُمَّتِي؟ فَأَبُوكِ خَيْرُ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ، وَبَعْلُكِ خَيْرُ الْأَوْصِيَاءِ، وَأَنْتِ أَوَّلُ مَنْ يَلْحَقُ بِي مِنْ أَهْلِي، ثُمَّ أَطْلَعَ إِلَىٰ الْأَرْضِ إطْلَاعَةً ثَالِثَةً فَاخْتَارَكِ وَوَلَدَيْكِ، فَأَنْتِ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَابْنَاكِ حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَبْنَاءُ بَعْلِكِ أَوْصِيَائِي إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كُلُّهُمْ هَادُونَ مَهْدِيُّونَ، وَأَوَّلُ الْأَوْصِيَاءِ بَعْدِي أَخِي عَلِيٌّ، ثُمَّ حَسَنٌ، ثُمَّ حُسَيْنٌ، ثُمَّ تِسْعَةٌ مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ فِي دَرَجَتِي، وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ دَرَجَةٌ أَقْرَبَ إِلَىٰ اللهِ مِنْ دَرَجَتِي وَدَرَجَةِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، أَمَا تَعْلَمِينَ يَا بُنَيَّةِ أَنَّ مِنْ كَرَامَةِ اللهِ إِيَّاكِ أَنَّ زَوْجَكِ خَيْرُ أُمَّتِي، وَخَيْرُ أَهْلِ بَيْتِي، أَقْدَمُهُمْ سِلْماً، وَأَعْظَمُهُمْ حِلْماً، وَأَكْثَرُهُمْ عِلْماً؟».

فَاسْتَبْشَرَتْ فَاطِمَةُ (علیها السلام) وَفَرِحَتْ بِمَا قَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، ثُمَّ قَالَ: «يَا بُنَيَّةِ، إِنَّ لِبَعْلِكِ مَنَاقِبَ: إِيمَانُهُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ قَبْلَ كُلِّ أَحَدٍ، فَلَمْ يَسْبِقْهُ إِلَىٰ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي، وَعِلْمُهُ بِكِتَابِ اللهِ (تبارک و تعالی)وَسُنَّتِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي يَعْلَمُ جَمِيعَ عِلْمِي غَيْرَ عَلِيٍّ (علیه السلام)، وَإِنَّ اللهَ (عزوجل)عَلَّمَنِي عِلْماً لَا يَعْلَمُهُ غَيْرِي، وَعَلَّمَ مَلَائِكَتَهُ وَرُسُلَهُ عِلْماً، فَكُلُّ مَا عَلَّمَهُ مَلَائِكَتَهُ وَرُسُلَهُ فَأَنَا أَعْلَمُهُ، وَأَمَرَنِيَ اللهُ أَنْ أُعَلِّمَهُ إِيَّاهُ فَفَعَلْتُ، فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي يَعْلَمُ جَمِيعَ عِلْمِي وَفَهْمِي وَحِكْمَتِي غَيْرُهُ، وَإِنَّكِ يَا بُنَيَّةِ زَوْجَتُهُ، وَابْنَاهُ سِبْطَايَ حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ، وَهُمَا سِبْطَا أُمَّتِي، وَأَمْرُهُ بِالمَعْرُوفِ وَنَهْيُهُ عَنِ المُنْكَرِ، فَإِنَّ اللهَ (عزوجل)آتَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ. يَا بُنَيَّةِ، إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ أَعْطَانَا اللهُ (عزوجل)سِتَّ خِصَالٍ لَمْ يُعْطِهَا أَحَداً مِنَ الْأَوَّلِينَ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَلَمْ يُعْطِهَا أَحَداً مِنَ الْآخِرِينَ غَيْرَنَا، نَبِيُّنَا سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ وَهُوَ أَبُوكِ، وَوَصِيُّنَا سَيِّدُ

ص: 403

الْأَوْصِيَاءِ وَهُوَ بَعْلُكِ، وَشَهِيدُنَا سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ وَهُوَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ عَمُّ أَبِيكِ».

قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ، هُوَ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا مَعَهُ؟»، قَالَ: «لَا، بَلْ سَيِّدُ شُهَدَاءِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مَا خَلَا الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْصِيَاءَ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ذُو الْجَنَاحَيْنِ الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ مَعَ المَلَائِكَةِ، وَابْنَاكِ حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ سِبْطَا أُمَّتِي وَسَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمِنَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَهْدِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِي يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً».

قَالَتْ: «وَأَيُّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمَّيْتَهُمْ أَفْضَلُ؟»، قَالَ: «عَلِيٌّ بَعْدِي أَفْضَلُ أُمَّتِي، وَحَمْزَةُ وَجَعْفَرٌ أَفْضَلُ أَهْلِ بَيْتِي بَعْدَ عَلِيٍّ وَبَعْدَكِ وَبَعْدَ ابْنَيَّ وَسِبْطَيَّ حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ وَبَعْدَ الْأَوْصِيَاءِ مِنْ وُلْدِ ابْنِي هَذَا - وَأَشَارَ إِلَىٰ الْحُسَيْنِ -، مِنْهُمُ المَهْدِيُّ، إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ اخْتَارَ اللهُ لَنَا الْآخِرَةَ عَلَىٰ الدُّنْيَا».

ثُمَّ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) إِلَيْهَا وَإِلَىٰ بَعْلِهَا وَإِلَىٰ ابْنَيْهَا، فَقَالَ: «يَا سَلْمَانُ، أُشْهِدُ اللهَ أَنِّي سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَهُمْ، وَحَرْبٌ لِمَنْحَارَبَهُمْ، أَمَا إِنَّهُمْ مَعِي فِي الْجَنَّةِ»، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَىٰ عَلِيٍّ (علیه السلام)، فَقَالَ: «يَا أَخِي، أَنْتَ سَتَبْقَىٰ بَعْدِي، وَسَتَلْقَىٰ مِنْ قُرَيْشٍ شِدَّةً مِنْ تَظَاهُرِهِمْ عَلَيْكَ وَظُلْمِهِمْ لَكَ، فَإِنْ وَجَدْتَ عَلَيْهِمْ أَعْوَاناً فَجَاهِدْهُمْ وَقَاتِلْ مَنْ خَالَفَكَ بِمَنْ وَافَقَكَ، وَإِنْ لَمْ تَجِدْ أَعْوَاناً فَاصْبِرْ، وَكُفَّ يَدَكَ، وَلَا تُلْقِ بِهَا إِلَىٰ التَّهْلُكَةِ، فَإِنَّكَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَىٰ، وَلَكَ بِهَارُونَ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ إِذ اسْتَضْعَفَهُ قَوْمُهُ وَكَادُوا يَقْتُلُونَهُ، فَاصْبِرْ لِظُلْمِ قُرَيْشٍ إِيَّاكَ وَتَظَاهُرِهِمْ عَلَيْكَ فَإِنَّكَ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْعِجْلِ وَمَنْ تَبِعَهُ.

يَا عَلِيُّ، إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ قَدْ قَضَىٰ الْفُرْقَةَ وَالْاِخْتِلَافَ عَلَىٰ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَىٰ الْهُدىٰ حَتَّىٰ لَا يَخْتَلِفَ اثْنَانِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَا يُنَازَعَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ، وَلَا يَجْحَدَ المَفْضُولُ لِذِي الْفَضْلِ فَضْلَهُ، وَلَوْ شَاءَ لَعَجَّلَ النَّقِمَةَ

ص: 404

وَكَانَ مِنْهُ التَّغْيِيرُ حَتَّىٰ يُكَذَّبَ الظَّالِمُ وَيُعْلَمَ الْحَقُّ أَيْنَ مَصِيرُهُ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الدُّنْيَا دَارَ الْأَعْمَالِ، وَجَعَلَ الْآخِرَةَ دَارَ الْقَرَارِ، «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَىٰ 31» [النجم: 31]»، فَقَالَ عَلِيٌّ (علیه السلام): «الْحَمْدُ لِلهِ شُكْراً عَلَىٰ نَعْمَائِهِ، وَصَبْراً عَلَىٰ بَلَائِهِ ».

[11/150] حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الدَّوَالِيبِيُّ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ النَّحْوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَىٰ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ ابْنِ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهم السلام)، قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَىٰ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) وَعِنْدَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): مَرْحَباً بِكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ،يَا زَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَقَالَ لَهُ أُبَيٌّ: وَكَيْفَ يَكُونُ يَا رَسُولَ اللهِ زَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَحَدٌ غَيْرُكَ؟ فَقَالَ لَهُ: يَا أُبَيُّ، وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ نَبِيًّا إِنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ فِي السَّمَاءِ أَكْبَرُ مِنْهُ فِي الْأَرْضِ، فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ(1): مِصْبَاحٌ هَادٍ وَسَفِينَةُ نَجَاةٍ، وإِمَامٌ غَيْرُ وَهْنٍ(2)، وَعِزٌّ وَفَخْرٌ، وَبَحْرُ عِلْمٍ وَذُخْرٌ، [فَلِمَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ؟!]، وَإِنَّ اللهَ (عزوجل)رَكَّبَ فِي صُلْبِهِ نُطْفَةً طَيِّبَةً مُبَارَكَةً زَكِيَّةً خُلِقَتْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقٌ فِي الْأَرْحَامِ أَوْ يَجْرِيَ مَاءٌ فِي الْأَصْلَابِ أَوْ يَكُونَ لَيْلٌ وَنَهَارٌ، وَلَقَدْ لُقِّنَ دَعَوَاتٌ مَا يَدْعُو بِهِنَّ مَخْلُوقٌ إِلَّا حَشَرَهُ اللهُ (عزوجل)مَعَهُ، وَكَانَ شَفِيعَهُ فِي آخِرَتِهِ، وَفَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كَرْبَهُ، وَقَضَىٰ بِهَا دَيْنَهُ، وَيَسَّرَ أَمْرَهُ، وَأَوْضَحَ سَبِيلَهُ، وَقَوَّاهُ عَلَىٰ عَدُوِّهِ، وَلَمْ يَهْتِكْ سِتْرَهُ.

فَقَالَ أُبَيٌّ: وَمَا هَذِهِ الدَّعَوَاتُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: تَقُولُ إِذَا فَرَغْتَ مِنْ

ص: 405


1- في بعض النُّسَخ: (يمين عرش الله).
2- في بعض النُّسَخ: (وإمام عزٍّ وهن)، وفي بعضها: (وعزٍّ وفخر وعلم وذخر).

صَلَاتِكَ وَأَنْتَ قَاعِدٌ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِكَلِمَاتِكَ وَمَعَاقِدِ عَرْشِكَ(1) وَسُكَّانِ سَمَاوَاتِكَ [وَأَرْضِكَ] وَأَنْبِيَائِكَ وَرُسُلِكَ [أَنْ تَسْتَجِيبَ لِي]، فَقَدْ رَهِقَنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرٌ، فَأَسْأَلُكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَأَنْ تَجْعَلَ لِي مِنْ عُسْرِي يُسْراً، فَإِنَّ اللهَ (عزوجل)يُسَهِّلُ أَمْرَكَ، وَيَشْرَحُ لَكَ صَدْرَكَ، وَيُلَقِّنُكَ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ عِنْدَ خُرُوجِ نَفْسِكَ.

قَالَ لَهُ أُبَيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا هَذِهِ النُّطْفَةُ الَّتِي فِي صُلْبِ حَبِيبِيالْحُسَيْنِ؟ قَالَ: مَثَلُ هَذِهِ النُّطْفَةِ كَمَثَلِ الْقَمَرِ، وَهِيَ نُطْفَةُ تَبْيِينٍ وَبَيَانٍ، يَكُونُ مَنِ اتَّبَعَهُ رَشِيداً وَمَنْ ضَلَّ عَنْهُ غَوِيًّا.

قَالَ: فَمَا اسْمُهُ وَمَا دُعَاؤُهُ؟ قَالَ: اسْمُهُ عَلِيٌّ، وَدُعَاؤُهُ: يَا دَائِمُ يَا دَيْمُومُ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يَا كَاشِفَ الْغَمِّ وَيَا فَارِجَ الْهَمِّ، وَيَا بَاعِثَ الرُّسُلِ، وَيَا صَادِقَ الْوَعْدِ، مَنْ دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ حَشَرَهُ اللهُ (عزوجل)مَعَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَكَانَ قَائِدَهُ إِلَىٰ الْجَنَّةِ.

قَالَ لَهُ أُبَيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَهَلْ لَهُ مِنْ خَلَفٍ أَوْ وَصِيٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، لَهُ مَوَارِيثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، قَالَ: فَمَا مَعْنَىٰ مَوَارِيثِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ، وَالْحُكْمُ بِالدِّيَانَةِ، وَتَأْوِيلُ الْأَحْلَامِ(2)، وَبَيَانُ مَا يَكُونُ. قَالَ: فَمَا اسْمُهُ؟ قَالَ: اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، وَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَتَسْتَأْنِسُ بِهِ فِي السَّمَاوَاتِ، وَيَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ لِي عِنْدَكَ رِضْوَانٌ وَوُدٌّ، فَاغْفِرْ لِي وَلِمَنْ تَبِعَنِي مِنْ إِخْوَانِي وَشِيعَتِي، وَطَيِّبْ مَا فِي صُلْبِي، فَرَكَّبَ اللهُ فِي صُلْبِهِ نُطْفَةً مُبَارَكَةً طَيِّبَةً زَكِيَّةً، فَأَخْبَرَنِي جَبْرَئِيلُ (علیه السلام)(3) أَنَّ اللهَ (عزوجل)طَيَّبَ هَذِهِ النُّطْفَةَ وَسَمَّاهَا عِنْدَهُ جَعْفَراً،

ص: 406


1- أي بخصال استحقَّ به العرش العزَّ، أو بمواضع انعقادها منه. وفي بعض النُّسَخ: (أسألك بملكك ومعاقد عزِّك)، وفي بعض النُّسَخ: (أسألك بمعاقد عرشك...) إلخ، بدون الزوائد التي كانت بين المعقوفتين.
2- في بعض النُّسَخ: (الأحكام).
3- كذا في بعض النُّسَخ، وفي أكثرها: (فأخبرني عليه وآله السلام أنَّ الله...) إلخ.

وَجَعَلَهُ هَادِياً مَهْدِيًّا وَرَاضِياً مَرْضِيًّا، يَدْعُو رَبَّهُ فَيَقُولُ فِي دُعَائِهِ: يَا دَيَّانُ(1) غَيْرَ مُتَوَانٍ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اجْعَلْ لِشِيعَتِي مِنَ النَّارِ وِقَاءً، وَلَهُمْ عِنْدَكَ رِضَاءً(2)، فَاغْفِرْ ذُنُوبَهُمْ، وَيَسِّرْ أُمُورَهُمْ، وَاقْضِ دُيُونَهُمْ، وَاسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وَهَبْ لَهُمُ الْكَبَائِرَ الَّتِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، يَا مَنْ لَا يَخَافُ الضَّيْمَ، وَلَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، اجْعَلْ لِي مِنْ كُلِّ [هَمٍّ] وَغَمٍّ فَرَجاً، وَمَنْ دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ حَشَرَهُ اللهُ عِنْدَهُ أَبْيَضَ الْوَجْهِ مَعَ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ إِلَىٰ الْجَنَّةِ. يَا أُبَيُّ، وَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ رَكَّبَ عَلَىٰ هَذِهِ النُّطْفَةِ نُطْفَةً زَكِيَّةً مُبَارَكَةً طَيِّبَةً أَنْزَلَ عَلَيْهَا الرَّحْمَةَ، وَسَمَّاهَا عِنْدَهُ مُوسَىٰ، [وَجَعَلَهُ إِمَاماً].

قَالَ لَهُ أُبَيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ، كُلُّهُمْ يَتَوَاصَفُونَ وَيَتَنَاسَلُونَ وَيَتَوَارَثُونَ وَيَصِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً؟ قَالَ: وَصَفَهُمْ لِي جَبْرَئِيلُ (علیه السلام) عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (جل جلاله)، فَقَالَ: فَهَلْ لِمُوسَىٰ مِنْ دَعْوَةٍ يَدْعُو بِهَا سِوَىٰ دُعَاءِ آبَائِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: يَا خَالِقَ الْخَلْقِ، وَيَا بَاسِطَ الرِّزْقِ، وَيَا فَالِقَ الْحَبِّ [وَالنَّوَىٰ]، وَيَا بَارِئَ النَّسَمِ وَمُحْيِيَ المَوْتَىٰ وَمُمِيتَ الْأَحْيَاءِ، وَ[يَا] دَائِمَ الثَّبَاتِ، وَمُخْرِجَ النَّبَاتِ، افْعَلْ بِي مَا أَنْتَ أَهْلُهُ، مَنْ دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ قَضَىٰ اللهُ (عزوجل)حَوَائِجَهُ، وَحَشَرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرٍ، وَإِنَّ اللهَ رَكَّبَ فِي صُلْبِهِ نُطْفَةً طَيِّبَةً زَكِيَّةً مَرْضِيَّةً، وَسَمَّاهَا عِنْدَهُ عَلِيًّا، وَكَانَ اللهُ (عزوجل)فِي خَلْقِهِ رَضِيًّا فِي عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ، وَجَعَلَهُ حُجَّةً لِشِيعَتِهِ يَحْتَجُّونَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَهُ دُعَاءٌ يَدْعُو بِهِ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي الْهُدَىٰ، وَثَبِّتْنِي عَلَيْهِ، وَاحْشُرْنِي عَلَيْهِ آمِناً، أَمْنَ مَنْ لَا خَوْفَ عَلَيْهِ وَلَا حُزْنَ وَلَا جَزَعَ، إِنَّكَ أَهْلُ التَّقْوىٰ وَأَهْلُ المَغْفِرَةِ، وَإِنَّ اللهَ (عزوجل)رَكَّبَ فِي صُلْبِهِ نُطْفَةً مُبَارَكَةً طَيِّبَةً زَكِيَّةً مَرْضِيَّةً وَسَمَّاهَا مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ، فَهُوَ شَفِيعُ شِيعَتِهِ، وَوَارِثُ عِلْمِ جَدِّهِ، لَهُ عَلَامَةٌ بَيِّنَةٌ وَحُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ إِذَا وُلِدَ يَقُولُ

ص: 407


1- في بعض النُّسَخ: (يا ديَّان غير متوان)، والظاهر: يا دانياً.
2- في بعض النُّسَخ: (رضواناً).

: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، وَيَقُولُ فِي دُعَائِهِ: يَا مَنْ لَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا مِثَالَ، أَنْتَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا خَالِقَ إِلَّا أَنْتَ، تُفْنِي المَخْلُوقِينَ وَتَبْقَىٰ أَنْتَ، حَلُمْتَ عَمَّنْ عَصَاكَ، وَفِي المَغْفِرَةِ رِضَاكَ، مَنْ دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ شَفِيعَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰرَكَّبَ فِي صُلْبِهِ نُطْفَةً لَا بَاغِيَةً وَلَا طَاغِيَةً، بَارَّةً مُبَارَكَةً طَيِّبَةً طَاهِرَةً، سَمَّاهَا عِنْدَهُ عَلِيًّا، فَأَلْبَسَهَا السَّكِينَةَ وَالْوَقَارَ، وَأَوْدَعَهَا الْعُلُومَ وَالْأَسْرَارَ وَكُلَّ شَيْءٍ مَكْتُومٍ، مَنْ لَقِيَهُ وَفِي صَدْرِهِ شَيْءٌ أَنْبَأَهُ بِهِ وَحَذَّرَهُ مِنْ عَدُوِّهِ، وَيَقُولُ فِي دُعَائِهِ: يَا نُورُ يَا بُرْهَانُ، يَا مُنِيرُ يَا مُبِينُ، يَا رَبِّ اكْفِنِي شَرَّ الشُّرُورِ وَآفَاتِ الدُّهُورِ، وَأَسْأَلُكَ النَّجَاةَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، مَنْ دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ كَانَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ شَفِيعَهُ وَقَائِدَهُ إِلَىٰ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ رَكَّبَ فِي صُلْبِهِ نُطْفَةً وَسَمَّاهَا عِنْدَهُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، فَجَعَلَهُ نُوراً فِي بِلَادِهِ، وَخَلِيفَةً فِي أَرْضِهِ، وَعِزًّا لِأُمَّتِهِ، وَهَادِياً لِشِيعَتِهِ، وَشَفِيعاً لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَنَقِمَةً عَلَىٰ مَنْ خَالَفَهُ، وَحُجَّةً لِمَنْ وَالَاهُ، وَبُرْهَاناً لِمَنِ اتَّخَذَهُ إِمَاماً، يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: يَا عَزِيزَ الْعِزِّ فِي عِزِّهِ، يَا عَزِيزاً عِزَّنِي بِعِزِّكَ، وَأَيِّدْنِي بِنَصْرِكَ، وَأَبْعِدْ عَنِّي هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَادْفَعْ عَنِّي بِدَفْعِكَ، وَامْنَعْ عَنِّي بِمَنْعِكَ، وَاجْعَلْنِي مِنْ خِيَارِ خَلْقِكَ، يَا وَاحِدُ يَا أَحَدُ، يَا فَرْدُ يَا صَمَدُ، مَنْ دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ حَشَرَهُ اللهُ (عزوجل)مَعَهُ، وَنَجَّاهُ مِنَ النَّارِ وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَإِنَّ اللهَ (عزوجل)رَكَّبَ فِي صُلْبِ الْحَسَنِ نُطْفَةً مُبَارَكَةً زَكِيَّةً طَيِّبَةً طَاهِرَةً مُطَهَّرَةً، يَرْضَىٰ بِهَا كُلُّ مُؤْمِنٍ مِمَّنْ أَخَذَ اللهُ (عزوجل)مِيثَاقَهُ فِي الْوَلَايَةِ، وَيَكْفُرُ بِهَا كُلُّ جَاحِدٍ، فَهُوَ إِمَامٌ تَقِيٌّ نَقِيٌّ بَارٌّ مَرْضِيٌّ هَادٍ مَهْدِيٌّ، أَوَّلُ الْعَدْلِ وَآخِرُهُ(1)، يُصَدِّقُ اللهَ (عزوجل)وَيُصَدِّقُهُ اللهُ فِي قَوْلِهِ، يَخْرُجُ مِنْ تِهَامَةَ حَتَّىٰ(2) تَظْهَرَ الدَّلَائِلُ وَالْعَلَامَاتُ، وَلَهُ بِالطَّالَقَانِ كُنُوزٌ لَا ذَهَبٌ وَلَا فِضَّةٌ إِلَّا خُيُولٌ

ص: 408


1- في بعض النُّسَخ: (مهدي يحكم بالعدل ويأمر به).
2- في بعض النُّسَخ: (حين).

مُطَهَّمَةٌ(1) وَرِجَالٌ مُسَوَّمَةٌ، يَجْمَعُ اللهُ (عزوجل)لَهُ مِنْ أَقَاصِي الْبِلَادِ عَلَىٰ عَدَدِ أَهْلِ بَدْرٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً، مَعَهُ صَحِيفَةٌ مَخْتُومَةٌ فِيهَا عَدَدُ أَصْحَابِهِ وَأَسْمَاؤُهُمْ وَأَنْسَابُهُمْ وَبُلْدَانُهُمْ وَصَنَائِعُهُمْ وَكَلَامُهُمْ وَكُنَاهُمْ(2)، كَرَّارُونَ، مُجِدُّونَ فِي طَاعَتِهِ.

فَقَالَ لَهُ أُبَيٌّ: وَمَا دَلَائِلُهُ وَعَلَامَاتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ لَهُ: عَلَمٌ إِذَا حَانَ وَقْتُ خُرُوجِهِ انْتَشَرَ ذَلِكَ الْعَلَمُ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنْطَقَهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ، فَنَادَاهُ الْعَلَمُ: اخْرُجْ يَا وَلِيَّ اللهِ فَاقْتُلْ أَعْدَاءَ اللهِ، وَلَهُ رَايَتَانِ(3) وَعَلَامَتَانِ، وَلَهُ سَيْفٌ مُغَمَّدٌ، فَإِذَا حَانَ وَقْتُ خُرُوجِهِ اقْتَلَعَ ذَلِكَ السَّيْفُ مِنْ غِمْدِهِ، وَأَنْطَقَهُ اللهُ (تبارک و تعالی)، فَنَادَاهُ السَّيْفُ: اخْرُجْ يَا وَلِيَّ اللهِ، فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَقْعُدَ عَنْ أَعْدَاءِ اللهِ، فَيَخْرُجُ وَيَقْتُلُ أَعْدَاءَ اللهِ حَيْثُ ثَقِفَهُمْ، وَيُقِيمُ حُدُودَ اللهِ، وَيَحْكُمُ بِحُكْمِ اللهِ، يَخْرُجُ وَجَبْرَئِيلُ عَنْ يَمِينِهِ وَمِيكَائِيلُ عَنْ يَسَارِهِ وَشُعَيْبٌ وَصَالِحٌ عَلَىٰ مُقَدَّمِهِ، فَسَوْفَ تَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ، وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَىٰ اللهِ (تبارک و تعالی)، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ. يَا أُبَيُّ، طُوبَىٰ لِمَنْ لَقِيَهُ، وَطُوبَىٰ لِمَنْ أَحَبَّهُ، وَطُوبَىٰ لِمَنْ قَالَ بِهِ، يُنْجِيهِمُ اللهُ مِنَ الْهَلَكَةِ بِالْإِقْرَارِ بِهِ وَبِرَسُولِ اللهِ وَبِجَمِيعِ الْأَئِمَّةِ، يَفْتَحُ لَهُمُ الْجَنَّةَ، مَثَلُهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَثَلِ الْمِسْكِ يَسْطَعُ رِيحُهُ فَلَا يَتَغَيَّرُ أَبَداً، وَمَثَلُهُمْ فِي السَّمَاءِ كَمَثَلِ الْقَمَرِ المُنِيرِ الَّذِي لَا يُطْفَأُ نُورُهُ أَبَداً.

قَالَ أُبَيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ حَالُ(4) هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ عَنِ اللهِ (تبارکو تعالی)؟ قَالَ: إِنَّ

ص: 409


1- المطهَّم - كمعظَّم -: السمين الفاحش، والنحيف الجسم الدقيقة - ضدٌّ -، كذا في القاموس المحيط (ج 4/ ص 145). وفي الصحاح للجوهري (ج 5/ ص 1977/ مادَّة طهم): المطهَّم: التامُّ من كلِّ شيء.
2- في بعض النُّسَخ: (وحلاهم وكناهم).
3- في بعض النُّسَخ: (هما رايتان)، وفي العيون: (وهما رايتان).
4- في بعض النُّسَخ: (كيف جاءك بيان هؤلاء الأئمَّة).

اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ أَنْزَلَ عَلَيَّ اثْنَيْ عَشَرَ خَاتَماً وَاثْنَتَيْ عَشَرَةَ صَحِيفَةً، اسْمُ كُلِّ إِمَامٍ عَلَىٰ خَاتَمِهِ وَصِفَتُهُ فِي صَحِيفَتِهِ، صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ »(1).

[12/151] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبَرْقِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْقُرَشِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهم السلام)، قَالَ : «دَخَلْتُ أَنَا وَأَخِي عَلَىٰ جَدِّي رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، فَأَجْلَسَنِي عَلَىٰ فَخِذِهِ، وَأَجْلَسَ أَخِيَ الْحَسَنَ عَلَىٰ فَخِذِهِ الْأُخْرَىٰ، ثُمَّ قَبَّلَنَا وَقَالَ: بِأَبِي أَنْتُمَا مِنْ إِمَامَيْنِ صَالِحَيْنِ(2)، اخْتَارَكُمَا اللهُ مِنِّي وَمِنْ أَبِيكُمَا وَأُمِّكُمَا، وَاخْتَارَ مِنْ صُلْبِكَ يَا حُسَيْنُ تِسْعَةَ أَئِمَّةٍ تَاسِعُهُمْ قَائِمُهُمْ، وَكُلُّكُمْ فِي الْفَضْلِ وَالمَنْزِلَةِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَىٰ سَوَاءٌ»(3)(4).

[13/152] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ ابْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ أَبِي الْجَارُودِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىٰ فَاطِمَةَ (علیها السلام) وَبَيْنَ يَدَيْهَا لَوْحٌ فِيهِ أَسْمَاءُ

ص: 410


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 62 - 65/ ح 29)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 185 - 190)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 550 و551/ ح 11، وج 3/ ص 1166 و1167/ ذيل الحديث 64) مختصراً.
2- في بعض النُّسَخ: (سبطين) مكان (صالحين).
3- رواه الخصيبي (رحمة الله) في الهداية الكبرىٰ (ص 374 و375) بسند آخر، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 190 و191).
4- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 36/ ص 255): (بيان: الظاهر رجوع ضمير «كلُّهم» إلىٰ التسعة، فلا ينافي فضل أمير المؤمنين والحسنين (علیهم السلام) عليهم كما يظهر من بعض الأخبار).

الْأَوْصِيَاءِ مِنْ وُلْدِهَا(1)، فَعَدَدْتُ اثْنَيْ عَشَرَ آخِرُهُمُ الْقَائِمُ، ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ مُحَمَّدٌ، وَأَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ عَلِيٌّ، صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ (2).

[14/153] حَدَّثَنَا حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهم السلام)، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا غِيَاثُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ آبَائِهِ (علیهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «أَبْشِرُوا ثُمَّ أَبْشِرُوا - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ -، إِنَّمَا مَثَلُ أُمَّتِي كَمَثَلِ غَيْثٍ لَا يُدْرَىٰ أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَوْ آخِرُهُ، إِنَّمَا مَثَلُ أُمَّتِي كَمَثَلِ حَدِيقَةٍ أُطْعِمَ مِنْهَا فَوْجٌ عَاماً، ثُمَّ أُطْعِمَ مِنْهَا فَوْجٌ عَاماً، لَعَلَّ آخِرَهَا فَوْجاً أَنْ يَكُونَ أَعْرَضَهَا بَحْراً، وَأَعْمَقَهَا طُولاً وَفَرْعاً، وَأَحْسَنَهَا جَنًى، وَكَيْفَ تَهْلِكُ أُمَّةٌ أَنَا أَوَّلُهَا،وَاثْنَا عَشَرَ مِنْ بَعْدِي مِنَ السُّعَدَاءِ وَأُوْلِي الْأَلْبَابِ، وَالمَسِيحُ عِيسَىٰ بْنُ مَرْيَمَ آخِرُهَا؟ وَلَكِنْ يَهْلِكُ بَيْنَ ذَلِكَ(3) نُتْجُ الْهَرْجِ، لَيْسُوا مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُمْ »(4)(5).

ص: 411


1- (من ولدها) ليس في العيون والخصال.
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في الخصال (ص 477 و478/ ح 42)، وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 52/ ح 6 و7) بسندين مختلفين، وفي من لا يحضره الفقيه (ج 4/ ص 180/ ح 5408)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 532/ باب فيما جاء في الاثني عشر والنصِّ عليهم (علیهم السلام)/ ح 9)، والمفيد (رحمة الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 346)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 139/ ح 103).
3- في بعض النُّسَخ: (من ذلك).
4- رواه المصنِّف (رحمة الله) في الخصال (ص 475 و476/ ح 39)، وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 56/ ح 18)، والخزَّاز (رحمة الله) في كفاية الأثر (ص 230 و231)، والكراجكي (رحمة الله) في الاستنصار (ص 13).
5- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 36/ ص 242): (بيان: تيح الهرج، أي من تهيَّأ للهرج والفساد، قال الفيروزآبادي: تاح له الشيء يتوح: تهيَّأ كتاح يتيح، وأتاحه الله فأُتيح. والمتيح كمنبر من يعرض فيما لا يعنيه أو يقع في البلايا. وفي كثير من النُّسَخ: (نتج الهرج) أي من ينتج في زمان الهرج. ويحتمل أنْ يكون كناية عن فساد النسب والأصل. وفي أخبار العامَّة مكان اللفظين (ثبج أعوج) كما سيأتي بالثاء المثلَّثة والباء الموحَّدة بعده، قال الجزري: فيه: «خيار أُمَّتي أوَّلها وآخرها، وبين ذلك ثبج أعوج ليس منك ولست منه»، الثبج: الوسط).

[15/154] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ عِيسَىٰ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ، عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ الْهِلَالِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ جَعْفَرٍ الطَّيَّارَ يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ مُعَاوِيَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ (علیهما السلام) وَعَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَذَكَرَ حَدِيثاً جَرَىٰ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَأَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) يَقُولُ: «إِنِّي أَوْلىٰ بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ أَخِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَوْلىٰ بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا اسْتُشْهِدَ فَابْنِيَ الْحَسَنُ أَوْلىٰ بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ ابْنِيَ الْحُسَيْنُ أَوْلىٰ بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا اسْتُشْهِدَ فَابْنُهُ عَلِيٌّ أَوْلىٰ بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَسَتُدْرِكُهُ يَا عَلِيُّ، ثُمَّ ابْنُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ أَوْلىٰ بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَسَتُدْرِكُهُ يَا حُسَيْنُ، ثُمَّ تُكَمِّلُهُ اثْنَيْ عَشَرَ إِمَاماً تِسْعَةٌ مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ»، قَالَ عَبْدُ اللهِ: ثُمَّ اسْتَشْهَدْتُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا) وَعَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَشَهِدُوا لِي عِنْدَ مُعَاوِيَةَ، قَالَ سُلَيْمُ بْنُ قَيْسٍ: وَقَدْ كُنْتُ سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْ سَلْمَانَ وَأَبِي ذَرٍّ وَالْمِقْدَادِ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَحَدَّثُونِي أَنَّهُمْ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)»(1)(2).

ص: 412


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في الخصال (ص 477/ ح 41)، وابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 110 و111/ ح 97)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 529/ باب فيما جاء في الاثني عشر والنصِّ عليهم (علیهم السلام)/ ح 4)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 96 و97/ باب 4/ ح 27)، والحلبي (رحمة الله) في تقريب المعارف (ص 420)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 137 و138/ ح 101)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 179 و180).
2- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول (ج 6/ ص 216 و217): (قوله: كنَّا عند معاوية قال بعض الأفاضل: حكاية لما وقع في زمان أحد الثلاثة لأنَّ عمر بن أُمِّ سَلَمة قُتِلَ بصفين، انتهىٰ. ولا يخفىٰ ما فيه، لأنَّه ذكر ابن عبد البرِّ وغيره عمر بن أبي سَلَمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر القرشي المخزومي ربيب رسول الله (صلی الله علیه و آله) أُمُّه أُمُّ سَلَمة المخزوميَّة أُمُّ المؤمنين، يُكنَّىٰ أبا حفص، وُلِدَ في السنة الثانية من الهجرة بأرض الحبشة وشهد مع عليٍّ (علیه السلام) يوم الجمل، واستعمله علىٰ فارس وعلىٰ البحرين، وتُوفّي بالمدينة في خلافة عبد المَلِك بن مروان سنة ثلاث وثمانين. وقوله(صلی الله علیه و آله): «وستُدركه يا عليُّ»، كان لعليِّ بن الحسين عند شهادة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) سنتان، لأنَّ شهادته كانت في سنة الأربعين من الهجرة، وولادة عليِّ بن الحسين في سنة ثمان وثلاثين، وكان للباقر عند شهادة الحسين (علیه السلام) أربع سنين تقريباً، لأنَّ الشهادة كانت في سنة إحدىٰ وستِّين وولادة الباقر (علیه السلام) في سنة سبع وخمسين علىٰ ما ذكره المصنِّف (رحمة الله). وقوله: «ثمّ تكملة» كلام عبد الله بن جعفر، والتكملة التتمَّة أي ثمّ ذكرت عند معاوية تتمَّتهم تفصيلاً، أو هو من كلام رسول الله (صلی الله علیه و آله) أي ثمّ تكملتهم أولىٰ بالمؤمنين من أنفسهم، والأوَّل أظهر، وفي بعض النُّسَخ بالياء علىٰ صيغة المضارع، أي ثمّ يكمل الرسول(صلی الله علیه و آله) اثني عشر يُسمِّيهم).

[16/155] حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ بْنِ خَلَفِ بْنِ يَزِيدَ المَرْوَزِيُّ بِالرَّيِّ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِمِائَةٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ - فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ - المَعْرُوفِ بِإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَىٰ بْنُ يَحْيَىٰ(1)، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ خَالِدٍ(2)، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ نَعْرِضُ مَصَاحِفَنَا عَلَيْهِ، إِذْ قَالَ لَهُ فَتًى شَابٌّ: هَلْ عَهِدَ إِلَيْكُمْ نَبِيُّكُمْ (صلی الله علیه و آله) كَمْ يَكُونُ مِنْ بَعْدِهِ خَلِيفَةٌ؟ قَالَ: إِنَّكَ لَحَدَثُ السِّنِّ، وَإِنَّ هَذَا

ص: 413


1- هو يحيىٰ بن يحيىٰ بن بكير بن عبد الرحمن الحنظلي أبو زكريا النيسابوري، ثقة ثبت إمام كما في تقريب التهذيب (ج 2/ ص 318/ ح 7696).
2- كذا، وفي بعض النُّسَخ: (هيثم عن مخالد)، والصواب: هشام عن مجالد، والمراد بهشام هشام ابن سنبر الدستوائي، وبمجالد مجالد بن سعد بن عمير، وقد تقدَّم تحقيق ذلك في (ص 93 و94).

لَشَيْءٌ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَكَ، نَعَمْ عَهِدَ إِلَيْنَا نَبِيُّنَا (صلی الله علیه و آله) أَنَّهُ يَكُونُ بَعْدَهُ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً بِعَدَدِ نُقْبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ »(1).

[17/156] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ أَحْمَدُ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي الرِّجَالِ الْبَغْدَادِيُّ(2)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبْدُوسٍ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَمِّهِ قَيْسِ بْنِ عُبَيْدٍ(3)، قَالَ: كُنَّا جُلُوساً فِي حَلْقَةٍ فِيهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ عَبْدُ اللهِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: أَنَا عَبْدُ اللهِ، قَالَ: هَلْ حَدَّثَكُمْ نَبِيُّكُمْ (صلی الله علیه و آله) كَمْ يَكُونُ بَعْدَهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ، اثْنَا عَشَرَ، عِدَّةَ نُقَبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ »(4).

[18/157] حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَتَّابُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَىٰ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْفَضْلِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَوَّارِ [وَ]ابْنُ وَرَّاقٍ النُّفَيْليُّ(5)، قَالُوا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ.

قَالَ عَتَّابٌ: وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَنْمَاطِيُّ(6)، قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَىٰ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سَوَّارٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ.

ص: 414


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 385 و386/ ح 495/4)، وفي الخصال (ص 466 و467/ ح 6)، وعيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 53/ ح 10)، والفتَّال (رحمة الله) في روضة الواعظين (ص 261).
2- راجع ترجمته في تاريخ بغداد (ج 5/ ص 150/ الرقم 2582).
3- في الخصال: (قيس بن عبد)، ولم أجده.
4- رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 386/ ح 496/5)، وفي الخصال (ص 467/ ح 7)، وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 53/ ح 9).
5- كذا، وفي بعض النُّسَخ: (ونزار الدئلي)، وفي بعضها: (ونزار الديلمي).
6- في بعض النُّسَخ: (أبلي)، ولم أجده.

قَالَ عَتَّابٌ: وَحَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُمُحَمَّدٍ الْوَزَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَشْعَثُ بْنُ سَوَّارٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، كُلُّهُمْ قَالُوا: عَنْ عَمِّهِ قَيْسِ بْنِ عُبَيْدٍ.

قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ عَتَّابٌ: وَهَذَا حَدِيثُ مُطَرِّفٍ، قَالَ: كُنَّا جُلُوساً فِي المَسْجِدِ، وَمَعَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: فِيكُمْ عَبْدُ اللهِ [بْنُ مَسْعُودٍ]، قَالَ: نَعَمْ أَنَا عَبْدُ اللهِ، فَمَا حَاجَتُكَ؟ قَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ، أَخْبَرَكُمْ نَبِيُّكُمْ (صلی الله علیه و آله) كَمْ يَكُونُ فِيكُمْ مِنْ خَلِيفَةٍ؟ قَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ مُنْذُ قَدِمْتُ الْعِرَاقَ، نَعَمْ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً عِدَّةَ نُقَبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ . قَالَ أَبُو عَرُوبَةَ فِي حَدِيثِهِ: نَعَمْ عِدَّةُ نُقَبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ جَرِيرٌ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله)، قَالَ : «الْخُلَفَاءُ بَعْدِي اثْنَا عَشَرَ كَعِدَّةِ نُقَبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ »(1).

[19/158] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ - يَعْنِي الْهَمْدَانِيَّ -، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ وَعَبْدِ المَلِكِ ابْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي عِنْدَ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله)، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «يَكُونُ بَعْدِي اثْنَا عَشَرَ أَمِيراً»، ثُمَّ أَخْفَىٰ صَوْتَهُ، فَقُلْتُ لِأَبِي: مَا الَّذِي أَخْفَىٰ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله)؟ قَالَ: قَالَ: «كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ »(2).

[20/159] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ

ص: 415


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 386 و387/ ح 497/6)، وفي الخصال (ص 467 و468/ ح 8)، وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 54/ ح 11)، والخزَّاز (رحمة الله) في كفاية الأثر (ص 26 و27).
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 387/ ح 499/8)، وفي الخصال (ص 469/ ح 12)، وعيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 54/ ح 12)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 121/ باب 6/ ح 11).

عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ السُّكَّرِيُّ المَرْوَزِيُّ(1)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عَمَّارٍ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَزِينٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: جِئْتُ مَعَ أَبِي إِلَىٰ المَسْجِدِ وَرَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) يَخْطُبُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «يَكُونُ مِنْ بَعْدِي اثْنَا عَشَرَ - يَعْنِي أَمِيراً -»، ثُمَّ خَفَضَ مِنْ صَوْتِهِ فَلَمْ أَدْرِ مَا يَقُولُ، فَقُلْتُ لِأَبِي: مَا قَالَ؟ قَالَ: قَالَ: «كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ »(2).

[21/160] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الدِّينَوَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ(3)، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ شَاذَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ذَكْوَانَ(4)، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله)، فَقَالَ: «يَلي هَذَا الْأَمْرَ اثْنَا عَشَرَ»، قَالَ: فَصَرَخَ النَّاسُ(5)، فَلَمْ أَسْمَعْ مَا قَالَ، فَقُلْتُ لِأَبِي - وَكَانَ أَقْرَبَ إِلَىٰ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) مِنِّي -: مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله)؟ فَقَالَ: قَالَ: «كُلُّهُمْمِنْ قُرَيْشٍ، وَكُلُّهُمْ لَا يُرَىٰ مِثْلُهُ »(6).

وقد أخرجت الطُّرُق في هذا الحديث من طريق عبد الله بن مسعود، ومن طريق جابر بن سمرة في كتاب النصِّ علىٰ الأئمَّة الاثني عشر (علیهم السلام) بالإمامة.

ص: 416


1- في نُسَخ الخصال: (اليشكري المروزي).
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في الخصال (ص 469/ ح 13)، والخزَّاز (رحمة الله) في كفاية الأثر (ص 50)، والطبراني في المعجم الكبير (ج 2/ ص 197).
3- في الخصال: (أبو بكر بن أبي زواد)، وفي بعض نُسَخه: (أبو بكر بن أبي رواد)، ولم أجده.
4- في الخصال: (قال: حدَّثنا محمّد، قال: حدَّثنا مخول بن ذكوان).
5- صراخهم هذا عند قوله(صلی الله علیه و آله) في خطبته: «يكون بعدي اثنا عشر»، أو إخفاء صوته (صلی الله علیه و آله) يكشف النقاب عن أُمور خفيَّة لا تخفىٰ علىٰ المتدرِّب الخبير، وهل يكون ذلك إلَّا خوفاً من أنْ يقول: (كلُّهم من عترتي)؟ كما خافوا وفعلوا ما فعلوا عند قوله(صلی الله علیه و آله): «ائتوني بدواة وقرطاس»، ولعلَّه قال، ولكن حرَّفوا كلامه (صلی الله علیه و آله).
6- رواه المصنِّف (رحمة الله) في الخصال (ص 473/ ح 29).

[22/161] حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّائِغُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ الطَّيَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُفْيَانُ، عَنْ بُرْدٍ، عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّبِيَّ (صلی الله علیه و آله) قَالَ: «يَكُونُ بَعْدِي اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً»؟ قَالَ مَكْحُولٌ: نَعَمْ، وَذَكَرَ لَفْظَةً أُخْرَىٰ .

[23/162] حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّائِغُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ الْقَصْرَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَلِيٍّ بِشْرُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ صَالِحٍ(1)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ خَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ الْبَصْرِيُّ، عَنْ إِسْرَائِيلَ(2)، عَنْ سَمَّاكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ (صلی الله علیه و آله) يَقُولُ: «يَقُومُ مِنْ بَعْدِي اثْنَا عَشَرَ أَمِيراً»، ثُمَّ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ لَمْ أَفْهَمْهَا، فَسَأَلْتُ الْقَوْمَ، فَقَالُوا: قَالَ: «كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ »(3).

[24/163] حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ الْقَصْرَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ الْكُمَيْتِ بْنِ بُهْلُولٍ المَوْصِلِيُّ(4)، قَالَ: حَدَّثَنَا غَسَّانُ بْنُ الرَّبِيعِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ مَوْلَىٰ

ص: 417


1- عنونه الخطيب في التاريخ (ج 7/ ص 89)، وقال: (كان ثقةً أميناً عاقلاً ركيناً). وُلِدَ سنة (191ه)، ومات يوم السبت لأربع بقين بن ربيع الأوَّل سنة ثمان وثمانين ومائتين. وفي أكثر النُّسَخ: (بشر بن أبي موسىٰ)، وهو تصحيف.
2- يعني إسرائيل بن يونس المترجَم في تهذيب التهذيب (ج 1/ ص 229/ الرقم 496)، وتاريخ بغداد (ج 7/ ص 23/ الرقم 3488).
3- رواه المصنِّف (رحمة الله) في الخصال (ص 475/ ح 36)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 121/ باب 6/ ح 12).
4- قال الخطيب في التاريخ (ج 8/ ص 87/ الرقم 4183): (الحسين بن الكميت بن البهلول بن عمر أبو عليٍّ الموصلي، قَدِمَ بغداد وحدَّث بها عن غسَّان بن الربيع وأبي سَلَمة...) إلىٰ آخر ما قال. وفي بعض النُّسَخ: (أبو عليٍّ الحسن بن الليث)، وهو تصحيف.

عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «لَا يَزَالُ أَمْرُ أُمَّتِي ظَاهِراً حَتَّىٰ يَمْضِيَ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ »(1).

[25/164] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ، عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ الْهِلَالِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا (علیه السلام) فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَجَمَاعَةٌ يَتَحَدَّثُونَ وَيَتَذَاكَرُونَ الْعِلْمَ وَالْفِقْهَ، فَذَكَرْنَا قُرَيْشاً [وَشَرَفَهَا] وَفَضْلَهَا وَسَوَابِقَهَا وَهِجْرَتَهَا وَمَا قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) مِنَ الْفَضْلِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ»، وَقَوْلِهِ: «النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ»، وَ«قُرَيْشٌ أَئِمَّةُ الْعَرَبِ»، وَقَوْلِهِ: «لَا تَسُبُّوا قُرَيْشاً»، وَقَوْلِهِ: «إِنَّ لِلْقُرَشِيِّ قُوَّةَ رَجُلَيْنِ مِنْ غَيْرِهِمْ»، وَقَوْلِهِ: «مَنْ أَبْغَضَ قُرَيْشاً أَبْغَضَهُ اللهُ»، وَقَوْلِهِ: «مَنْ أَرَادَ هَوَانَ قُرَيْشٍ أَهَانَهُ اللهُ»، وَذَكَرُوا الْأَنْصَارَ وَفَضْلَهَا وَسَوَابِقَهَا وَنُصْرَتَهَا وَمَا أَثْنَىٰ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِهِ، وَمَا قَالَ فِيهِمْ رَسُولُاللهِ (صلی الله علیه و آله) مِنَ الْفَضْلِ، وَذَكَرُوا مَا قَالَ فِي سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَغَسِيلِ المَلَائِكَةِ، فَلَنْ يَدَعُوا شَيْئاً مِنْ فَضْلِهِمْ حَتَّىٰ قَالَ كُلُّ حَيٍّ: مِنَّا فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: مِنَّا رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، وَمِنَّا جَعْفَرٌ، وَمِنَّا حَمْزَةُ، وَمِنَّا عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ(2)، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَسَعْدٌ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَسَالِمٌ، وَابْنُ عَوْفٍ، فَلَمْ يَدَعُوا مِنَ الْحَيَّيْنِ أَحَداً مِنْ أَهْلِ السَّابِقَةِ إِلَّا سَمَّوْهُ، وَفِي الْحَلْقَةِ أَكْثَرُ مِنْ مِائَتَيْ رَجُلٍ، فَمِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام)، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ،

ص: 418


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 387 و388/ ح 500/9)، وفي الخصال (ص 475/ ح 37)، والفتَّال (رحمة الله) في روضة الواعظين (ص 262).
2- زيد بن حارثة لم يكن قرشيًّا إنَّما هو مولىٰ. وليس هو تصحيف زيد بن خارجة، لأنَّه أنصاري خزرجي بدري.

وَعَمَّارٌ، وَالْمِقْدَادُ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَهَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ (علیهما السلام)، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَمِنَ الْأَنْصَارِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ(1)، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَزَيْدُ ابْنُ أَرْقَمَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أَوْفَىٰ، وَأَبُو لَيْلَىٰ، ومَعَهُ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَاعِدٌ بِجَنْبِهِ غُلَامٌ صَبِيحُ الْوَجْهِ أَمْرَدُ، فَجَاءَ أَبُو الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ وَمَعَهُ ابْنُهُ الْحَسَنُ غُلَامٌ أَمْرَدُ صَبِيحُ الْوَجْهِ، مُعْتَدِلُ الْقَامَةِ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَإِلَىٰ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَىٰ، فَلَا أَدْرِي أَيُّهُمَا أَجْمَلُ هَيْأَةً، غَيْرَ أَنَّ الْحَسَنَ أَعْظَمُهُمَا وَأَطْوَلُهُمَا، فَأَكْثَرَ الْقَوْمُ فِي ذَلِكَ مِنْ بُكْرَةٍإِلَىٰ حِينِ الزَّوَالِ، وَعُثْمَانُ فِي دَارِهِ لَا يَعْلَمُ بِشَيْ ءٍ مِمَّا هُمْ فِيهِ، وَعَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) سَاكِتٌ لَا يَنْطِقُ، لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ.

فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْحَسَنِ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ؟ فَقَالَ: «مَا مِنَ الْحَيَّيْنِ إِلَّا وَقَدْ ذَكَرَ فَضْلاً وَقَالَ حَقًّا، وَأَنَا أَسْأَلُكُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ، بِمَنْ أَعْطَاكُمُ اللهُ (عزوجل)هَذَا الْفَضْلَ؟ أَبِأَنْفُسِكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ وَأَهْلِ بُيُوتَاتِكُمْ أَوْ بِغَيْرِكُمْ؟»، قَالُوا: بَلْ أَعْطَانَا اللهُ وَمَنَّ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) وَعَشِيرَتِهِ لَا بِأَنْفُسِنَا وَعَشَائِرِنَا وَلَا بِأَهْلِ بُيُوتَاتِنَا، قَالَ: «صَدَقْتُمْ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ، أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي نِلْتُمْ بِهِ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ؟ وَأَنَّ ابْنَ عَمِّي رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) قَالَ: إِنِّي وَأَهْلَ بَيْتِي كُنَّا نُوراً يَسْعَىٰ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اللهُ (عزوجل)آدَمَ (علیه السلام) بِأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفَ سَنَةٍ، فَلَمَّا خَلَقَ آدَمَ (علیه السلام) وَضَعَ ذَلِكَ النُّورَ فِي صُلْبِهِ وَأَهْبَطَهُ إِلَىٰ الْأَرْضِ، ثُمَّ حَمَلَهُ فِي السَّفِينَةِ

ص: 419


1- هو محمّد بن مسلمة بن سَلَمة بن حريش بن خالد الخزرجي الأنصاري، أحد الثلاثة الذي قتلوا كعب بن الأشرف، وهو الذي استخلفه النبيُّصلی الله علیه و آله في بعض غزواته. وفي بعض النُّسَخ: (محمّد ابن سَلَمة)، وهو نسبة إلىٰ الجدِّ.

فِي صُلْبِ نُوحٍ (علیه السلام)، ثُمَّ قَذَفَ بِهِ فِي النَّارِ فِي صُلْبِ إِبْرَاهِيمَ (علیه السلام)، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ اللهُ (عزوجل)يَنْقُلُنَا مِنَ الْأَصْلَابِ الْكَرِيمَةِ إِلَىٰ الْأَرْحَامِ الطَّاهِرَةِ، وَمِنَ الْأَرْحَامِ الطَّاهِرَةِ إِلَىٰ الْأَصْلَابِ الْكَرِيمَةِ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، لَمْ يَلْتَقِ وَاحِدٌ(1) مِنْهُمْ عَلَىٰ سِفَاحٍ قَطُّ؟»، فَقَالَ أَهْلُ السَّابِقَةِ وَالْقِدْمَةِ وَأَهْلُ بَدْرٍ وَأَهْلُ أُحُدٍ: نَعَمْ قَدْ سَمِعْنَا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، ثُمَّ قَالَ: «أَنْشُدُكُمُ اللهَ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ(عزوجل)فَضَّلَ فِي كِتَابِهِ السَّابِقَ عَلَىٰ المَسْبُوقِ فِي غَيْرِ آيَةٍ، وَأَنِّي لَمْ يَسْبِقْنِي إِلَىٰ اللهِ(عزوجل)وَإِلَىٰ رَسُولِهِ (صلی الله علیه و آله) أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟»، قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.

قَالَ: «فَأَنْشُدُكُمُ اللهَ أَتَعْلَمُونَ حَيْثُ نَزَلَتْ: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ» [التوبة: 100]، وَ«السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ 10 أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ 11» [الواقعة: 10 و11]، سُئِلَ عَنْهَا رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، فَقَالَ: «أَنْزَلَهَا اللهُ تَعَالَىٰ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَأَوْصِيَائِهِمْ، فَأَنَا أَفْضَلُ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَصِيِّي أَفْضَلُ الْأَوْصِيَاءِ؟»، قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.

قَالَ: «فَأَنْشُدُكُمُ اللهَ (عزوجل)أَتَعْلَمُونَ حَيْثُ نَزَلَتْ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» [النساء: 59]، وَحَيْثُ نَزَلَتْ: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ 55» [المائدة: 55]، وَحَيْثُ نَزَلَتْ: «وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً» [التوبة: 16]، قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَهَذِهِ خَاصَّةٌ فِي بَعْضِ المُؤْمِنِينَ أَمْ عَامَّةٌ لِجَمِيعِهِمْ؟ فَأَمَرَ اللهُ (عزوجل)نَبِيَّهُ (صلی الله علیه و آله) أَنْ يُعَلِّمَهُمْ وُلَاةَ أَمْرِهِمْ، وَأَنْ يُفَسِّرَ لَهُمْ مِنَ الْوَلَايَةِ مَا فَسَّرَ لَهُمْ مِنْ صَلَاتِهِمْ وَزَكَاتِهِمْ وَصَوْمِهِمْ وَحَجِّهِمْ، فَنَصَبَنِي لِلنَّاسِ بِغَدِيرِ خُمٍّ، ثُمَّ خَطَبَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ (عزوجل)أَرْسَلَنِي بِرِسَالَةٍ ضَاقَ بِهَا صَدْرِي، وَظَنَنْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ، فَأَوْعَدَنِي

ص: 420


1- في بعض النُّسَخ: (لم يلف أحد).

لَأُبَلِّغَنَّهَا أَوْ لَيُعَذِّبَنِّي، ثُمَّ أَمَرَ فَنُودِيَ: الصَّلَاةَ جَامِعَةً، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ (عزوجل)مَوْلَايَ وَأَنَا مَوْلَىٰ المُؤْمِنِينَ، وَأَنَا أَوْلَىٰ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟ قَالُوا: بَلَىٰ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: قُمْ يَا عَلِيُّ، فَقُمْتُ، فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّوَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ، فَقَامَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ (رضی الله عنه)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَاؤُهُ كَمَاذَا؟ فَقَالَ (علیه السلام): وَلَاؤُهُ كَوَلَائِي(1)، مَنْ كُنْتُ أَوْلَىٰ بِهِ مِنْ نَفْسِهِ فَعَلِيٌّ أَوْلَىٰ بِهِ مِنْ نَفْسِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً» [المائدة: 3]، فَكَبَّرَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، وَقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ بِتَمَامِ النِّعْمَةِ وَكَمَالِ نُبُوَّتِي وَدِينِ اللهِ (عزوجل)وَوَلَايَةِ عَلِيٍّ بَعْدِي(2).

فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ وعُمَرُ، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللهِ هَذِهِ الْآيَاتُ خَاصَّةٌ لِعَلِيٍّ؟ قَالَ: بَلَىٰ فِيهِ وفِي أَوْصِيَائِي إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَا: يَا رَسُولَ اللهِ، بَيِّنْهُمْ لَنَا، قَالَ: عَلِيٌّ أَخِي وَوَزِيرِي وَوَارِثِي وَوَصِيِّي وَخَلِيفَتِي فِي أُمَّتِي وَوَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي، ثُمَّ ابْنِيَ الْحَسَنُ، ثُمَّ ابْنِيَ الْحُسَيْنُ، ثُمَّ تِسْعَةٌ مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، الْقُرْآنُ مَعَهُمْ وَهُمْ مَعَ الْقُرْآنِ لَا يُفَارِقُونَهُ وَلَا يُفَارِقُهُمْ حَتَّىٰ يَرِدُوا عَلَيَّ حَوْضِي؟»، فَقَالُوا كُلُّهُمْ: اللَّهُمَّ نَعَمْ قَدْ سَمِعْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ وَشَهِدْنَا كَمَا قُلْتَ سَوَاءً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ حَفِظْنَا جُلَّ مَا قُلْتَ، وَلَمْ نَحْفَظْهُ كُلَّهُ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَفِظُوا أَخْيَارُنَا وَأَفَاضِلُنَا.

فَقَالَ عَلِيٌّ (علیه السلام): «صَدَقْتُمْ لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَسْتَوُونَ فِي الْحِفْظِ، أَنْشُدُكُمُ اللهَ مَنْ حَفِظَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) لَمَّا قَامَ فَأَخْبَرَ بِهِ».

فَقَامَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَسَلْمَانُ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَالْمِقْدَادُ، وَعَمَّارُ

ص: 421


1- في بعض النُّسَخ: (والاه كماذا؟ فقال: والاه كولائي).
2- في بعض النُّسَخ: (تمام نبوَّتي وتمام ديني دين الله (عزوجل)وولاية عليٍّ بعدي).

ابْنُ يَاسِرٍ (رضی الله عنهما)، فَقَالُوا: نَشْهَدُ لَقَدْ حَفِظْنَا قَوْلَ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) وَهُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ الْمِنْبَرِ وَأَنْتَ إِلَىٰ جَنْبِهِ وَهُوَ يَقُولُ: «أَيُّهَاالنَّاسُ، إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَنْصِبَ لَكُمْ إِمَامَكُمْ وَالْقَائِمَ فِيكُمْ بَعْدِي وَوَصِيِّي وَخَلِيفَتِي وَالَّذِي فَرَضَ اللهُ (عزوجل)عَلَىٰ المُؤْمِنِينَ فِي كِتَابِهِ طَاعَتَهُ فَقَرَنَهُ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَتِي، فَأَمَرَكُمْ بِوَلَايَتِي وَوَلَايَتِهِ، فَإِنِّي رَاجَعْتُ رَبِّي (عزوجل)خَشْيَةَ طَعْنِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَتَكْذِيبِهِمْ، فَأَوْعَدَنِي رَبِّي لَأُبْلِغَنَّهَا أَوْ لَيُعَذِّبَنِّي. أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ (عزوجل)أَمَرَكُمْ فِي كِتَابِهِ بِالصَّلَاةِ فَقَدْ بَيَّنْتُهَا لَكُمْ، وَبِالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ فَبَيَّنْتُهَا لَكُمْ وَفَسَّرْتُهَا لَكُمْ، وَأَمْرَكُمْ بِالْوَلَايَةِ، وَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنَّهَا لِهَذَا خَاصَّةً - وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَىٰ كَتِفِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -، ثُمَّ لِابْنَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ، ثُمَّ لِلْأَوْصِيَاءِ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ وُلْدِهِمْ، لَا يُفَارِقُونَ الْقُرْآنَ وَلَا يُفَارِقُهُمُ الْقُرْآنُ حَتَّىٰ يَرِدُوا عَلَيَّ حَوْضِي. أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ بَيَّنْتُ لَكُمْ مَفْزَعَكُمْ(1) بَعْدِي، وَإِمَامَكُمْ وَدَلِيلَكُمْ وَهَادِيَكُمْ، وَهُوَ أَخِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ فِيكُمْ بِمَنْزِلَتِي فِيكُمْ، فَقَلِّدُوهُ دِينَكُمْ وَأَطِيعُوهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِكُمْ، فَإِنَّ عِنْدَهُ جَمِيعَ مَا عَلَّمَنِي اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ وَحِكْمَتُهُ، فَسَلُوهُ وَتَعَلَّمُوا مِنْهُ وَمِنْ أَوْصِيَائِهِ بَعْدَهُ، وَلَا تُعَلِّمُوهُمْ وَلَا تَتَقَدَّمُوهُمْ وَلَا تَخَلَّفُوا عَنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ مَعَ الْحَقِّ وَالْحَقُّ مَعَهُمْ لَا يُزَايِلُونَهُ وَلَا يُزَايِلُهُمْ»، ثُمَّ جَلَسُوا.

فَقَالَ سُلَيْمٌ: ثُمَّ قَالَ (علیه السلام): «أَيُّهَا النَّاسُ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ (عزوجل)أَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً 33» [الأحزاب: 33]، فَجَمَعَنِي وَفَاطِمَةَ وَابْنَيَّ حَسَناً وَحُسَيْناً، ثُمَّ أَلْقَىٰ عَلَيْنَا كِسَاءً، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَلُحْمَتِي، يُؤْلِمُنِي مَا يُؤْلِمُهُمْ، وَيَجْرَحُنِي مَا يَجْرَحُهُمْ، فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيراً، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَأَنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: أَنْتِ عَلَىٰ خَيْرٍ،إِنَّمَا أُنْزِلَتْ فِيَّ وَفِي أَخِي [عَلِيٍّ] وَفِي ابْنَيَّ الْحَسَنِ

ص: 422


1- المفزع: الملجأ.

وَالْحُسَيْنِ وَفِي تِسْعَةٍ مِنْ وُلْدِ ابْنِيَ الْحُسَيْنِ خَاصَّةً، لَيْسَ مَعَنَا فِيهَا أَحَدٌ غَيْرُنَا؟»، فَقَالُوا كُلُّهُمْ: نَشْهَدُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ حَدَّثَتْنَا بِذَلِكَ، فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) فَحَدَّثَنَا كَمَا حَدَّثَتْنَا أُمُّ سَلَمَةَ (رضی الله عنها).

ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ (علیه السلام): «أَنْشُدُكُمُ الله أَتَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ (عزوجل)لَمَّا أَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ 119» [التوبة: 119]، فَقَالَ سَلْمَانُ: يَا رَسُولَ اللهِ، عَامَّةٌ هَذِهِ أَمْ خَاصَّةٌ؟ فَقَالَ (علیه السلام): أَمَّا المَأْمُورُونَ فَعَامَّةُ المُؤْمِنِينَ أُمِرُوا بِذَلِكَ، وَأَمَّا الصَّادِقُونَ فَخَاصَّةٌ لِأَخِي عَلِيٍّ وَأَوْصِيَائِي مِنْ بَعْدِهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟»، قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.

قَالَ: «أَنْشُدُكُمُ اللهَ أَتَعْلَمُونَ أَنِّي قُلْتُ لِرَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: لِمَ خَلَّفْتَنِي مَعَ الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ؟ فَقَالَ: إِنَّ المَدِينَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا بِي أَوْ بِكَ، وَأَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَىٰ إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي؟»، قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.

قَالَ: «أَنْشُدُكُمُ اللهَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ (عزوجل)أَنْزَلَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 77 ...» إِلَىٰ آخِرِ السُّورَةِ [الحجّ: 77 و78]، فَقَامَ سَلْمَانُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَنْتَ عَلَيْهِمْ شَهِيدٌ وَهُمْ شُهَدَاءُ عَلَىٰ النَّاسِ الَّذِينَ اجْتَبَاهُمُ اللهُ وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ؟ قَالَ (علیه السلام): عَنَىٰ بِذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً خَاصَّةً دُونَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، قَالَ سَلْمَانُ: بَيِّنْهُمْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: أَنَا وَأَخِي عَلِيٌّ وَأَحَدَ عَشَرَ مِنْ وُلْدِي؟»، قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.قَالَ: «أَنْشُدُكُمُ اللهَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) قَامَ خَطِيباً لَمْ يَخْطُبْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَتَمَسَّكُوا بِهِمَا لِئَلَّا تَضِلُّوا(1)، فَإِنَّ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ أَخْبَرَنِي وَعَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا

ص: 423


1- في بعض النُّسَخ: (لن تضلُّوا)، وفي بعض نُسَخ الحديث: (لا تضلُّوا).

حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ شِبْهُ المُغْضَبِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَكُلُّ أَهْلِ بَيْتِكَ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَوْصِيَائِي مِنْهُمْ، أَوَّلُهُمْ أَخِي وَوَزِيرِي وَوَارِثِي وَخَلِيفَتِي فِي أُمَّتِي وَوَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ بَعْدِي، هُوَ أَوَّلُهُمْ، ثُمَّ ابْنِيَ الْحَسَنُ، ثُمَّ ابْنِيَ الْحُسَيْنُ، ثُمَّ تِسْعَةٌ مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ، وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ حَتَّىٰ يَرِدُوا عَلَيَّ الْحَوْضَ، شُهَدَاءَ اللهِ فِي أَرْضِهِ وَحُجَجَهُ عَلَىٰ خَلْقِهِ وَخُزَّانُ عِلْمِهِ وَمَعَادِنُ حِكْمَتِهِ، مَنْ أَطَاعَهُمْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصَاهُمْ عَصَىٰ اللهَ (تبارک و تعالی)؟»، فَقَالُوا كُلُّهُمْ: نَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) قَالَ ذَلِكَ، ثُمَّ تَمَادَىٰ بِعَلِيٍّ (علیه السلام) السُّؤَّالُ، فَمَا تَرَكَ شَيْئاً إِلَّا نَاشَدَهُمُ اللهَ فِيهِ وَسَأَلَهُمْ عَنْهُ حَتَّىٰ أَتَىٰ عَلَىٰ آخِرِ مَنَاقِبِهِ وَمَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، كُلَّ ذَلِكَ يُصَدِّقُونَهُ وَيَشْهَدُونَ أَنَّهُ حَقٌّ(1).

[26/165] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ المُقْرِي كَانَ يُلَقَّبُ بِقَطَاةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ السُّوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبَانٍ(2)، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ(3): هَلْ أَخْبَرَكَالنَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله) كَمْ بَعْدَهُ خَلِيفَةً؟ قَالَ: نَعَمْ، اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ .

[27/166] حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ المُعَلَّىٰ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَصْرِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ [بْنِ] الْحَكَمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «إِنَّ خُلَفَائِي وَأَوْصِيَائِي، وَحُجَجَ اللهِ عَلَىٰ الْخَلْقِ بَعْدِي اثْنَا عَشَرَ، أَوَّلُهُمْ أَخِي وَآخِرُهُمْ وَلَدِي»، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ أَخُوكَ؟ قَالَ: «عَلِيُّ

ص: 424


1- رواه سُلَيم بن قيس (رحمة الله) في كتابه (ص 191 - 202/ ح 11).
2- في بعض النُّسَخ: (عبد العزيز بن خالد)، وكلاهما من رواة سفيان.
3- يعني ابن مسعود.

ابْنُ أَبِي طَالِبٍ»، قِيلَ: فَمَنْ وَلَدُكَ؟ قَالَ: «المَهْدِيُّ الَّذِي يَمْلَؤُهَا قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً، وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ نَبِيًّا لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اللهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ(1) حَتَّىٰ يَخْرُجَ فِيهِ وَلَدِيَ المَهْدِيُّ، فَيَنْزِلَ رُوحُ اللهِ عِيسَىٰ بْنُ مَرْيَمَ فَيُصَلِّيَ خَلْفَهُ، وَتُشْرِقَ الْأَرْضُ بِنُورِهِ(2)، وَيَبْلُغَ سُلْطَانُهُ المَشْرِقَ وَالمَغْرِبَ »(3).

[28/167] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْوَرَّاقُ الرَّازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ أَبِي مَسْرُوقٍ النَّهْدِيُّ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عُلْوَانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) يَقُولُ: «أَنَا وَعَلِيٌّ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَتِسْعَةٌ مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ مُطَهَّرُونَمَعْصُومُونَ »(4).

[29/168] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَىٰ بْنِ زَكَرِيَّا الْقَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ الصَّقْرِ الْعَبْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «أَنَا سَيِّدُ النَّبِيِّينَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ سَيِّدُ الْوَصِيِّينَ، وَإِنَّ أَوْصِيَائِي بَعْدِي اثْنَا عَشَرَ، أَوَّلُهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَآخِرُهُمُ الْقَائِمُ (علیهم السلام)»(5).

ص: 425


1- في بعض النُّسَخ: (لأطال الله ذلك اليوم).
2- في بعض النُّسَخ: (بنور ربِّه)، وفي بعض النُّسَخ: (بنور ربِّها).
3- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 173 و174).
4- رواه المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 65 و66/ ح 30)، والخزَّاز (رحمة الله) في كفاية الأثر (ص 19)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 181)، وابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب (ج 1/ ص 253 254).
5- رواه المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 66/ ح 31)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 181).

[30/169] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ وَأَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، قَالَا: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ حَرِيشٍ (1) الرَّازِيُّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الثَّانِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (علیهم السلام) أَنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (صلوات الله عليه) قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: آمِنُوا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، إِنَّهَا تَكُونُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَوُلْدِهِ الْأَحَدَ عَشَرَ مِنْ بَعْدِهِ»(2)(3).

[31/170] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ وَمُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ بْنِ عُبَيْدٍ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَنِ الْحَجَّاجِ الْخَشَّابِ، عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ خَرَّبُوذَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (علیه السلام) يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «إِنَّمَا مَثَلُ أَهْلِ بَيْتِي فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَثَلُ نُجُومِ السَّمَاءِ كُلَّمَا غَابَ نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ »(4).

[32/171] حَدَّثَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ ابْنُ هَمَّامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، عَنْ آبَائِهِ

ص: 426


1- ضعيف جدًّا، صنع كتاباً في تفسير «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ»، ولا يُعوَّل عليه.
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في الخصال (ص 479 و480/ ح 47)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 533/ باب فيما جاء في الاثني عشر والنصِّ عليهم (علیهم السلام)/ ح 12)، والمفيد (رحمة الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 345 و346)، والحلبي (رحمة الله) في تقريب المعارف (ص 425)، والكراجكي (رحمة الله) في الاستنصار (ص 7 و8) باختلاف يسير.
3- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول (ج 6/ ص 229): (فيه ردٌّ علىٰ من زعم من المخالفين أنَّ ليلة القدر لم تبقَ بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله)).
4- رواه النعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 157 و158/ باب 10/ فصل 1/ ح 16).

(صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِم)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «إِنَّ اللهَ (عزوجل)اخْتَارَ مِنَ الْأَيَّامِ الْجُمُعَةَ، وَمِنَ الشُّهُورِ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَمِنَ اللَّيَالِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَاخْتَارَنِي عَلَىٰ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، وَاخْتَارَ مِنِّي عَلِيًّا، وَفَضَّلَهُ عَلَىٰ جَمِيعِ الْأَوْصِيَاءِ، وَاخْتَارَ مِنْ عَلِيٍّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، وَاخْتَارَ مِنَ الْحُسَيْنِ الْأَوْصِيَاءَ مِنْ وُلْدِهِ، يَنْفُونَ عَنِ التَّنْزِيلِ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ المُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ المُضِلِّينَ، تَاسِعُهُمْ قَائِمُهُمْ، وَ[هُوَ] ظَاهِرُهُمْ، وَهُوَ بَاطِنُهُمْ ».

[33/172] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الْهَمْدَانِيُّ (رضی الله عنه)،قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْقِلٍ الْقَرْمِيسِينِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مِهْزَمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ عَلِيٍّ (علیه السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «الْأَئِمَّةُ اثْنَا عَشَرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي أَعْطَاهُمُ اللهُ تَعَالَىٰ فَهْمِي وَعِلْمِي وَحُكْمِي وَخَلَقَهُمْ مِنْ طِينَتِي، فَوَيْلٌ لِلْمُتَكَبِّرِينَ عَلَيْهِم بَعْدِي، الْقَاطِعِينَ فِيهِمْ صِلَتِي، مَا لَهُمْ لَا أَنَالَهُمُ اللهُ شَفَاعَتِي »(1).

[34/173] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ هَمَّامٍ أَبُو عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَىٰ الْخَشَّابِ، عَنْ أَبِي المُثَنَّىٰ النَّخَعِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «كَيْفَ تَهْلِكُ أُمَّةٌ أَنَا وَعَلِيٌّ وَأَحَدَ عَشَرَ مِنْ وُلْدِي أُولُو الْأَلْبَابِ(2)، أَنَا أَوَّلُهَا وَالمَسِيحُ بْنُ مَرْيَمَ آخِرُهَا؟ وَلَكِنْ يَهْلِكُ بَيْنَ ذَلِكَ مَنْ لَسْتُ مِنْهُ وَلَيْسَ مِنِّي »(3).

ص: 427


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 66/ ح 32)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 172).
2- كذا، وفي بعض النُّسَخ: (أُولو الآيات).
3- رواه المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 66/ ح 33).

[35/174] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الْأَزْدِيِّ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَيِّدِ الْعَابِدِينَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ سَيِّدِ الشُّهَدَاءِ الْحُسَيْنِ ابْنِ عَلِيٍّ، عَنْ سَيِّدِ الْأَوْصِيَاءِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ(صلی الله علیه و آله): «الْأَئِمَّةُ بَعْدِي اثْنَا عَشَرَ، أَوَّلُهُمْ أَنْتَ يَا عَلِيُّ، وَآخِرُهُمُ الْقَائِمُ الَّذِي يَفْتَحُ اللهُ (عزوجل)عَلَىٰ يَدَيْهِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا»(1).

[36/175] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبَرْقِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ(2)، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) يَقُولُ: «إِنَّ لِلهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ مَلَكاً يُقَالُ لَهُ: دَرْدَائِيلُ، كَانَ لَهُ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ جَنَاحٍ مَا بَيْنَ الْجَنَاحِ إِلَىٰ الْجَنَاحِ هَوَاءٌ وَالْهَوَاءُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَىٰ الْأَرْضِ، فَجَعَلَ يَوْماً يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: أَفَوْقَ رَبِّنَا (جل جلاله) شَيْءٌ؟ فَعَلِمَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ مَا قَالَ، فَزَادَهُ أَجْنِحَةً مِثْلَهَا، فَصَارَ لَهُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ جَنَاحٍ، ثُمَّ أَوْحَىٰ اللهُ (عزوجل)إِلَيْهِ أَنْ طِرْ، فَطَارَ مِقْدَارَ خَمْسِينَ عَاماً فَلَمْ يَنَلْ رَأْسَ قَائِمَةٍ مِنْ قُوَّامِ الْعَرْشِ، فَلَمَّا عَلِمَ اللهُ (عزوجل)إِتْعَابَهُ أَوْحَىٰ إِلَيْهِ: أَيُّهَا المَلَكُ عُدْ إِلَىٰ مَكَانِكَ فَأَنَا عَظِيمٌ فَوْقَ كُلِّ عَظِيمٍ وَلَيْسَ فَوْقِي شَيْءٌ وَلَا أُوصَفُ بِمَكَانٍ، فَسَلَبَهُ اللهُ أَجْنِحَتَهُ وَمَقَامَهُ مِنْ صُفُوفِ المَلَائِكَةِ، فَلَمَّا وُلِدَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ (علیهما السلام) - وَكَانَ مَوْلِدُهُ عَشِيَّةَ الْخَمِيسِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ - أَوْحَىٰ اللهُ (عزوجل)إِلَىٰ مَالِكٍ

ص: 428


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 172 و173/ ح 175/11)، وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 66 و67/ ح 34)، والفتَّال (رحمة الله) في روضة الواعظين (ص 102)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 173)، وابن شهرآشوب (رحمة الله) في مناقب آل أبي طالب (ج 1/ ص 256).
2- يعني جرير بن عبد الحميد الضبي أبا عبد الله الرازي الثقة، وثَّقه النسائي. (راجع: تهذيب التهذيب (ج 2/ ص 65/ الرقم 116).

خَازِنِ النَّارِ أَنْ أَخْمِدِ النِّيرَانَ عَلَىٰ أَهْلِهَا لِكَرَامَةِ مَوْلُودٍ وُلِدَ لِمُحَمَّدٍ، وَأَوْحَىٰ إِلَىٰ رِضْوَانَ خَازِنِ الْجِنَانِ أَنْ زَخْرِفِ الْجِنَانَ وَطَيِّبْهَا لِكَرَامَةِ مَوْلُودٍ وُلِدَ لِمُحَمَّدٍ فِي دَارِ الدُّنْيَا(1)، وَأَوْحَىٰ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ إِلَىٰ حُورِ الْعِينِ: تَزَيَّنَّ وَتَزَاوَرْنَ لِكَرَامَةِ مَوْلُودٍ وُلِدَ لِمُحَمَّدٍ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَأَوْحَىٰ اللهُ (عزوجل)إِلَىٰ المَلَائِكَةِ أَنْ قُومُوا صُفُوفاً بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّمْجِيدِ وَالتَّكْبِيرِ لِكَرَامَةِ مَوْلُودٍ وُلِدَ لِمُحَمَّدٍ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَأَوْحَىٰ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ إِلَىٰ جَبْرَئِيلَ (علیه السلام) أَنِ اهْبِطْ إِلَىٰ نَبِيِّي مُحَمَّدٍ فِي أَلْفِ قَبِيلٍ - وَالْقَبِيلُ أَلْفُ أَلْفٍ مِنَ المَلَائِكَةِ - عَلَىٰ خُيُولٍ بُلْقٍ، مُسْرَجَةً مُلْجَمَةً، عَلَيْهَا قِبَابُ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، وَمَعَهُمْ مَلَائِكَةٌ يُقَالُ لَهُمُ: الرُّوحَانِيُّونَ، بِأَيْدِيهِمْ أَطْبَاقٌ مِنْ نُورٍ أَنْ هَنِّئُوا مُحَمَّداً بِمَوْلُودٍ، وَأَخْبِرْهُ: يَا جَبْرَئِيلُ، أَنِّي قَدْ سَمَّيْتُهُ الْحُسَيْنَ، وَهَنِّئْهُ وَعَزِّهِ وَقُلْ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، يَقْتُلُهُ شِرَارُ أُمَّتِكَ عَلَىٰ شِرَارِ الدَّوَابِّ، فَوَيْلٌ لِلْقَاتِلِ، وَوَيْلٌ لِلسَّائِقِ، وَوَيْلٌ لِلْقَائِدِ، قَاتِلُ الْحُسَيْنِ أَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وَهُوَ مِنِّي بَرِيءٌ، لِأَنَّهُ لَا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَدٌ إِلَّا وَقَاتِلُ الْحُسَيْنِ (علیه السلام) أَعْظَمُ جُرْماً مِنْهُ، قَاتِلُ الْحُسَيْنِ يَدْخُلُ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ، وَالنَّارُ أَشْوَقُ إِلَىٰ قَاتِلِ الْحُسَيْنِ مِمَّنْ أَطَاعَ اللهَ إِلَىٰ الْجَنَّةِ».

قَالَ: «فَبَيْنَا جَبْرَئِيلُ (علیه السلام) يَهْبِطُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَىٰ الْأَرْضِ إِذْ مَرَّ بِدَرْدَائِيلَ، فَقَالَ لَهُ دَرْدَائِيلُ: يَا جَبْرَئِيلُ، مَا هَذِهِ اللَّيْلَةُ فِي السَّمَاءِ هَلْ قَامَتِ الْقِيَامَةُ عَلَىٰ أَهْلِ الدُّنْيَا؟ قَالَ: لَا، ولَكِنْ وُلِدَ لِمُحَمَّدٍ مَوْلُودٌ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَقَدْ بَعَثَنِيَ اللهُ (عزوجل)إِلَيْهِ لِأُهَنِّئَهُ بِمَوْلُودِهِ، فَقَالَ المَلَكُ: يَاجَبْرَئِيلُ، بِالَّذِي خَلَقَكَ وَخَلَقَنِي إِذَا هَبَطْتَ إِلَىٰ مُحَمَّدٍ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: بِحَقِّ هَذَا المَوْلُودِ عَلَيْكَ إِلَّا مَا سَأَلْتَ رَبَّكَ أَنْ يَرْضَىٰ عَنِّي فَيَرُدَّ عَلَيَّ أَجْنِحَتِي وَمَقَامِي مِنْ صُفُوفِ المَلَائِكَةِ، فَهَبَطَ جَبْرَئِيلُ (علیه السلام)

ص: 429


1- قوله: (في دار الدنيا) هنا وما يأتي لا يخفىٰ ما فيه، والصواب: (في الأرض)، ولعلَّ التصرُّف من الراوي. والدنيا: نقيض الآخرة، وصف لا اسم.

عَلَىٰ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله) فَهَنَّأَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ (عزوجل)وَعَزَّاهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله): تَقْتُلُهُ أُمَّتِي؟ فَقَالَ لَهُ: نَعَمْ يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله): مَا هَؤُلَاءِ بِأُمَّتِي أَنَا بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَاللهُ (عزوجل)بَرِيءٌ مِنْهُمْ، قَالَ جَبْرَئِيلُ: وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُمْ يَا مُحَمَّدُ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله) عَلَىٰ فَاطِمَةَ (علیها السلام) فَهَنَّأَهَا وَعَزَّاهَا، فَبَكَتْ فَاطِمَةُ (علیها السلام) وَقَالَتْ: يَا لَيْتَنِي لَمْ أَلِدْهُ، قَاتِلُ الْحُسَيْنِ فِي النَّارِ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله): وَأَنَا أَشْهَدُ بِذَلِكَ يَا فَاطِمَةُ، وَلَكِنَّهُ لَا يُقْتَلُ حَتَّىٰ يَكُونَ مِنْهُ إِمَامٌ يَكُونُ مِنْهُ الْأَئِمَّةُ الْهَادِيَةُ بَعْدَهُ، ثُمَّ قَالَ (علیه السلام): وَالْأَئِمَّةُ بَعْدِي الْهَادِي عَلِيٌّ، وَالمُهْتَدِي الْحَسَنُ، وَالنَّاصِرُ الْحُسَيْنُ، وَالمَنْصُورُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَالشَّافِعُ(1) مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالنَّفَّاعُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالْأَمِينُ مُوسَىٰ بْنُ جَعْفَرٍ، وَالرِّضَا عَلِيُّ بْنُ مُوسَىٰ، وَالْفَعَّالُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالمُؤْتَمَنُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالْعَلَّامُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَمَنْ يُصَلِّي خَلْفَهُ عِيسَىٰ بْنُ مَرْيَمَ (علیه السلام) الْقَائِمُ (علیه السلام).

فَسَكَتَتْ فَاطِمَةُ (علیها السلام) مِنَ الْبُكَاءِ، ثُمَّ أَخْبَرَ جَبْرَئِيلُ (علیه السلام) النَّبِيَّ (صلی الله علیه و آله) بِقِصَّةِ المَلَكِ وَمَا أُصِيبَ بِهِ»، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَخَذَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله) الْحُسَيْنَ (علیه السلام) وَهُوَ مَلْفُوفٌ فِي خِرَقٍ مِنْ صُوفٍ، فَأَشَارَ بِهِ إِلَىٰ السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ بِحَقِّ هَذَا المَوْلُودِ عَلَيْكَ، لَا بَلْ بِحَقِّكَ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ جَدِّهِ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ،إِنْ كَانَ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ ابْنِ فَاطِمَةَ عِنْدَكَ قَدْرٌ فَارْضَ عَنْ دَرْدَائِيلَ وَرُدَّ عَلَيْهِ أَجْنِحَتَهُ وَمَقَامَهُ مِنْ صُفُوفِ المَلَائِكَةِ»، فَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ وَغَفَرَ لِلْمَلَكِ [وَرَدَّ عَلَيْهِ أَجْنِحَتَهُ وَرَدَّهُ إِلَىٰ صُفُوفِ المَلَائِكَةِ]، فَالمَلَكُ لَا يُعْرَفُ فِي الْجَنَّةِ إِلَّا بِأَنْ يُقَالَ: هَذَا مَوْلَىٰ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَابْنِ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)(2).

ص: 430


1- في بعض النُّسَخ: (الشفَّاع)، وفي بعضها: (النفَّاح).
2- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 43/ ص 250): (بيان: لعلَّ هذا - علىٰ تقدير صحَّة الخبر - كان بمحض خطور البال، من غير اعتقاد بكون الباري تعالىٰ ذا مكان، أو المراد بقوله: (فوق ربِّنا شيء) فوق عرش ربِّنا إمَّا مكاناً أو رتبةً، فيكون ذلك منه تقصيراً في معرفة عظمته وجلاله، فيكون علىٰ هذا ذكر نفي المكان لرفع ما ربَّما يتوهَّم متوهِّم، والله يعلم).

[37/176] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ الْعَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ(1)، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَىٰ الْخَشَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ بُهْلُولٍ الْأَنْصَارِيُّ(2)، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ هَمَّامٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ المَدَنِيِّ، عَنِ ابْنِ أُذَيْنَةَ، عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمُ بْنُ قَيْسٍ الْهِلَالِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا (علیه السلام) يَقُولُ: «مَا نَزَلَتْ عَلَىٰ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا أَقْرَأَنِيهَا وَأَمْلَاهَا عَلَيَّ وَكَتَبْتُهَا بِخَطِّي وَعَلَّمَنِي تَأْوِيلَهَا وَتَفْسِيرَهَا وَنَاسِخَهَا وَمَنْسُوخَهَا وَمُحْكَمَهَا وَمُتَشَابِهَهَا، وَدَعَا اللهَ (عزوجل)لِي أَنْ يُعَلِّمَنِي فَهْمَهَا وَحِفْظَهَا، فَمَا نَسِيتُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ وَلَا عِلْماً أَمْلَاهُ عَلَيَّ فَكَتَبْتُهُ، وَمَا تَرَكَ شَيْئاً عَلَّمَهُ اللهُ (عزوجل)مِنْ حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ وَلَا أَمْرٍ وَلَانَهْيٍ وَمَا كَانَ أَوْ يَكُونُ مِنْ طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ إِلَّا عَلَّمَنِيهِ وَحَفِظْتُهُ وَلَمْ أَنْسَ مِنْهُ حَرْفاً وَاحِداً، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَىٰ صَدْرِي وَدَعَا اللهَ (عزوجل)أَنْ يَمْلَأَ قَلْبِي عِلْماً وَفَهْماً وَحِكْمَةً وَنُوراً، لَمْ أَنْسَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً، وَلَمْ يَفُتْنِي شَيْءٌ لَمْ أَكْتُبْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتَتَخَوَّفُ عَلَيَّ النِّسْيَانَ فِيمَا بَعْدُ؟ فَقَالَ (صلی الله علیه و آله): لَسْتُ أَتَخَوَّفُ عَلَيْكَ نِسْيَاناً وَلَا جَهْلاً وَقَدْ أَخْبَرَنِي رَبِّي (جل جلاله) أَنَّهُ قَدِ اسْتَجَابَ لِي فِيكَ وَفِي شُرَكَائِكَ الَّذِينَ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ شُرَكَائِي مِنْ بَعْدِي؟ قَالَ: الَّذِينَ قَرَنَهُمُ اللهُ (عزوجل)بِنَفْسِهِ وَبِي، فَقَالَ: «أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ...» الْآيَةَ [النساء: 59]، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: الْأَوْصِيَاءُ مِنِّي إِلَىٰ أَنْ يَرِدُوا عَلَيَّ الْحَوْضَ، كُلُّهُمْ هَادٍ مُهْتَدٍ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، هُمْ مَعَ الْقُرْآنِ وَالْقُرْآنُ مَعَهُمْ، لَا يُفَارِقُهُمْ وَلَا يُفَارِقُونَهُ، بِهِمْ تُنْصَرُ أُمَّتِي، وَبِهِمْ يُمْطَرُونَ، وَبِهِمْ يُدْفَعُ عَنْهُمُ الْبَلَاءُ وَيُسْتَجَابُ دُعَاؤُهُمْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، سَمِّهِمْ لِي،

ص: 431


1- في بعض النُّسَخ: (محمّد بن نصير).
2- في بعض النُّسَخ: (الحسن بن بهلول)، ولم أظفر به علىٰ كلا العنوانين.

فَقَالَ: ابْنِي هَذَا - وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَىٰ رَأْسِ الْحَسَنِ -، ثُمَّ ابْنِي هَذَا - وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَىٰ رَأْسِ الْحُسَيْنِ (علیه السلام) -، ثُمَّ ابْنٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ: عَلَيٌّ، وَسَيُولَدُ فِي حَيَاتِكَ، فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، ثُمَّ تُكَمِّلُهُ اثْنَيْ عَشَرَ، فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، سَمِّهِمْ لِي [رَجُلاً فَرَجُلاً]، فَسَمَّاهُمْ رَجُلاً رَجُلاً، فِيهِمْ وَاللهِ يَا أَخَا بَنِي هِلَالٍ مَهْدِيُّ أُمَّتِي مُحَمَّدٌ الَّذِي يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً، وَاللهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ مَنْ يُبَايِعُهُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالمَقَامِ، وَأَعْرِفُ أَسْمَاءَ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ»(1).

* * *

ص: 432


1- رواه العيَّاشي (رحمة الله) في تفسيره (ج 1/ ص 253 و254/ ح 177).

الباب الخامس والعشرون

ما أخبر به النبيُّ (صلی الله علیه و آله) من وقوع الغيبة بالقائم (علیه السلام)

ص: 433

ص: 434

[1/177] حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُورٍ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي جَمِيلَةَ المُفَضَّلِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «المَهْدِيُّ مِنْ وُلْدِي، اسْمُهُ اسْمِي، وَكُنْيَتُهُ كُنْيَتِي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِي خَلْقاً وَخُلْقاً، تَكُونُ بِهِ غَيْبَةٌ وَحَيْرَةٌ تَضِلُّ فِيهَا الْأُمَمُ، ثُمَّ يُقْبِلُ كَالشِّهَابِ الثَّاقِبِ يَمْلَؤُهَا عَدْلاً وَقِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»(1).

[2/178] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُمْهُورٍ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «طُوبَىٰ لِمَنْ أَدْرَكَ قَائِمَ أَهْلِ بَيْتِي وَهُوَ يَأْتَمُّ بِهِ فِي غَيْبَتِهِ قَبْلَ قِيَامِهِ، وَيَتَوَلَّىٰ أَوْلِيَاءَهُ، وَيُعَادِي أَعْدَاءَهُ، ذَلِكَ مِنْ رُفَقَائِي وَذَوِي مَوَدَّتِي وَأَكْرَمُ أُمَّتِي عَلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(2).

[3/179] حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدٍ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو الْبَلْخِيُّ(3)، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي خَلَفُ بْنُ حَمَّادٍ(4)،عَنْ سَهْلِ بْنِ

ص: 435


1- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 226).
2- رواه قريباً منه الطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 456/ ح 466).
3- عبد الواحد هو عبد الواحد بن محمّد بن عبدوس النيسابوري العطَّار الذي حدَّثه بنيسابور سنة (352 ه). وأمَّا أبو عمرو البلخي أو اللجي - كما في بعض النُّسَخ - الظاهر هو محمّد بن عمر ابن عبد العزيز أبو عمرو الكشِّي فصُحِّف، لأنَّه من غلمان محمّد بن مسعود العيَّاشي ويروي عنه كثيراً.
4- في بعض النُّسَخ: (خلف بن حامد)، وفي بعضها: (خلف بن جابر).

زِيَادٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ الْجَبَليِّ، عَنِ الْخَطَّابِ بْنِ مُصْعَبٍ، عَنْ سَدِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «طُوبَىٰ لِمَنْ أَدْرَكَ قَائِمَ أَهْلِ بَيْتِي وَهُوَ مُقْتَدٍ بِهِ قَبْلَ قِيَامِهِ، يَأْتَمُّ بِهِ وَبِأَئِمَّةِ الْهُدَىٰ مِنْ قَبْلِهِ، وَيَبْرَأُ إِلَىٰ اللهِ عَزَّ وجَلَّ مِنْ عَدُوِّهِمْ، أُولَئِكَ رُفَقَائِي وَأَكْرَمُ أُمَّتِي عَلَيَّ».

[4/180] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ [بْنِ] المُتَوَكِّلُ (رضی الله عنهما)، قَالُوا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ وَمُحَمَّدُ ابْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ جَمِيعاً، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ وَأَحْمَدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبَرْقِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ جَمِيعاً، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ مَحْبُوبٍ السَّرَّادُ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ آبَائِهِ (علیهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «المَهْدِيُّ مِنْ وُلْدِي، اسْمُهُ اسْمِي، وَكُنْيَتُهُ كُنْيَتِي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِي خَلْقاً وَخُلْقاً، تَكُونُ لَهُ غَيْبَةٌ وَحَيْرَةٌ حَتَّىٰ تَضِلَّ الْخَلْقُ عَنْ أَدْيَانِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُقْبِلُ كَالشِّهَابِ الثَّاقِبِ فَيَمْلَؤُهَا قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً»(1).

[5/181] حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبْدُوسٍ الْعَطَّارُ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمْدَانُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ [بْنِ] بَزِيعٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ ابْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ، عَنْ أَبِيهِ سَيِّدِ الْعَابِدِينَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ سَيِّدِ الشُّهَدَاءِ الْحُسَيْنِ ابْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ سَيِّدِ الْأَوْصِيَاءِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «المَهْدِيُّ مِنْ وُلْدِي، تَكُونُ لَهُ غَيْبَةٌ وَحَيْرَةٌ تَضِلُّ فِيهَا الْأُمَمُ، يَأْتِي بِذَخِيرَةِ الْأَنْبِيَاءِ (علیهم السلام) فَيَمْلَؤُهَا عَدْلاً وَقِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»(2).

ص: 436


1- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 119 و120/ ح 114).
2- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 226 و227).

[6/182] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ»(1).

[7/183] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْكُوفيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبَرْمَكِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) إِمَامُ أُمَّتِي، وَخَلِيفَتِي عَلَيْهَا مِنْ بَعْدِي، وَمِنْ وُلْدِهِ الْقَائِمُ المُنْتَظَرُ الَّذِي يَمْلَأُ اللهُ بِهِ الْأَرْضَ عَدْلاً وَقِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً، وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ بَشِيراً إِنَّ الثَّابِتِينَ عَلَىٰ الْقَوْلِ بِهِ فِي زَمَانِ غَيْبَتِهِ لَأَعَزُّ مِنَ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ»، فَقَامَ إِلَيْهِ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلِلْقَائِمِ مِنْ وُلْدِكَ غَيْبَةٌ؟ قَالَ: «إِي وَرَبِّي، «وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ 141» [آل عمران: 141]. يَاجَابِرُ، إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ [أَمْرٌ] مِنْ أَمْرِ اللهِ وَسِرٌّ مِنْ سِرِّ اللهِ، مَطْوِيٌّ عَنْ عِبَادِ اللهِ فَإِيَّاكَ وَالشَّكَّ فِيهِ فَإِنَّ الشَّكَّ فِي أَمْرِ اللهِ (عزوجل)كُفْرٌ»(2).

[8/184] حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ عَلِيِّ بْنِ الشَّاهِ الْفَقِيهُ المَرْوَرُوذِيُّ بِمَرْوَ اَلرُّوذَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يَزِيدَ أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ الْخَالِدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ التَّمِيمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ الْقَطَّانُ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ الْإِمَامِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهم السلام) فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ فِي وَصِيَّةِ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله) يَذْكُرُ فِيهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) قَالَ لَهُ: «يَا عَلِيُّ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَعْجَبَ

ص: 437


1- راجع: سُنَن الترمذي (ج 5/ ص 225/ ح 3642)، والمعجم الكبير للطبراني (ج 10/ ص 101/ ح 10088).
2- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 227).

النَّاسِ إِيمَاناً وَأَعْظَمَهُمْ يَقِيناً قَوْمٌ يَكُونُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ لَمْ يَلْحَقُوا النَّبِيَّ، وَحَجَبَتْهُمُ الْحُجَّةُ، فَآمَنُوا بِسَوَادٍ عَلَىٰ بَيَاضٍ»(1) .

* * *

ص: 438


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في من لا يحضره الفقيه (ص 366/ ضمن الحديث 5762)، والطبرسي (رحمة الله) في مكارم الأخلاق (ص 440).

الباب السادس والعشرون

ما أخبر به أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (علیه السلام) من وقوع الغيبة بالقائم الثاني عشر من الأئمَّة (علیهم السلام)

ص: 439

ص: 440

[1/185] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ وَأَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ جَمِيعاً، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ وَأَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ وَأَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ خَالِدٍ الْبَرْقِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ جَمِيعاً، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ مَالِكٍ الْجُهَنِيِّ.

وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ وَسَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ مُنْذِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قَابُوسَ(1)، عَنِ النَّصْرِ بْنِ أَبِي السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ سُلَيْمَانَ بْنِ سُفْيَانَ المُسْتَرِقِّ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ مَالِكٍ الْجُهَنِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ المُغِيرَةِ النَّصْرِيِّ، عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، قَالَ: أَتَيْتُ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) فَوَجَدْتُهُ مُتَفَكِّراً يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مَا لِي أَرَاكَ مُتَفَكِّراً تَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ أَرَغِبْتَ فِيهَا؟ فَقَالَ: «لَا وَاللهِ مَا رَغِبْتُ فِيهَا وَلَا فِي الدُّنْيَا يَوْماً قَطُّ، وَلَكِنْ فَكَّرْتُ فِي مَوْلُودٍ يَكُونُ مِنْ ظَهْرِي الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ وُلْدِي، هُوَالمَهْدِيُّ يَمْلَؤُهَا عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً، تَكُونُ لَهُ حَيْرَةٌ وَغَيْبَةٌ يَضِلُّ فِيهَا أَقْوَامٌ وَيَهْتَدِي فِيهَا آخَرُونَ»، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، كَمَا أَنَّهُ مَخْلُوقٌ، وَأَنَّىٰ لَكَ بِالْعِلْمِ بِهَذَا الْأَمْرِ يَا أَصْبَغُ، أُولَئِكَ خِيَارُ هَذِهِ

ص: 441


1- منذر بن محمد بن المنذر أبو الجهم القابوسي، ثقة من أصحابنا من بيت جليل (جش وصه)، وصُحِّف في جميع النُّسَخ بزيد بن محمّد. وأمَّا النضر أو النصر بن أبي السريِّ - كما في بعض النُّسَخ - فلم أجده، وفى الكافي مكانه (منصور بن السندي)، ولم أظفر به أيضاً.

الْأُمَّةِ مَعَ أَبْرَارِ هَذِهِ الْعِتْرَةِ»، قُلْتُ: وَمَا يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: «ثُمَ يَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ فَإِنَّ لَهُ إِرَادَاتٍ وَغَايَاتٍ وَنِهَايَاتٍ »(1)(2).

[2/186] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضی الله عنهما)، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ مَاجِيلَوَيْهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْكُوفِيِّالْقُرَشِيِّ المُقْرِئِ، عَنْ نَصْرِ بْنِ مُزَاحِمٍ الْمِنْقَرِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ(3)، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِّ.

وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ

ص: 442


1- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 120 و121/ ح 115)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 338/ باب في الغيبة/ ح 7)، والمفيد (رحمة الله) في الاختصاص (ص 209)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 336/ ح 282)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 228).
2- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول (ج 4/ ص 42 و43): (في النهاية: فيه: بينا هو ينكت إذ انتبه، أي يُفكِّر ويُحدِّث نفسه، وأصله من النكت بالحصىٰ ونكت الأرض بالقضيب، وهو أنْ يُؤثِّر فيها بطرفه فعل المفكِّر المهموم، ومنه الحديث: فجعل ينكت بقضيب، أي يضرب الأرض بطرفه، انتهىٰ. «أرغبة» أي أتنكت لرغبة، وضمير «فيها» راجع إلىٰ الأرض. ومعلوم أنَّه ليس هذا الفعل لرغبة في نفس الأرض، بل المعنىٰ أنَّ اهتمامك وتفكُّرك لأنْ تملك الأرض وتصير والياً فيها، ويحتمل إرجاع الضمير إلىٰ الخلافة، وربَّما يُحمَل الكلام علىٰ المطايبة. «من ظهر الحادي عشر» كذا في أكثر النُّسَخ، فالمعنىٰ من ظهر الإمام الحادي عشر. و«من ولدي» نعت «مولود»، وربَّما يُقرَأ ظهر بالتنوين أي وراء، والمراد أنَّه يُولَد بعد هذا الدهر، والحادي عشر مبتدأ خبره المهدي، وفي إكمال الدِّين وغيره وبعض نُسَخ الكتاب: ظهري، فلا يحتاج إلىٰ تكلُّف. والعدل والقسط متقاربان وكذا الظلم والجو، فالعطف فيهما للتفسير والتأكيد، والعدل نقيض الظلم والقسط الإنصاف وهو ضدُّ الجور. «له حيرة» لعلَّ المراد بها التحيُّر في المساكن وأنَّه كلَّ زمان في بلدة وناحية. «يضلُّ فيها» أي في الغيبة والحيرة وضلالتهم إنكارهم لوجود الإمام ورجوعهم عن مذهب الإماميَّة).
3- الظاهر هو عمر بن سعد بن أبي الصيد الأسدي الذي روىٰ نصر في صفِّينه عنه عن فضيل بن خديج. وفي بعض النُّسَخ: (عمر بن سعيد)، وفي بعضها: (محمّد بن سعيد)، وفي بعضها: (عمير ابن سعيد).

الصَّفَّارِ وَسَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ جَمِيعاً، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدَبٍ الْفَزَارِيِّ، عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِّ.

وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ نَصْرِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ سُلَيْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَىٰ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَنْصَارِيُّ الْقَاضِي بِالرَّيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ ضِرَارُ بْنُ صُرَدٍ التَّيْمِيُّ(1)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ حُمَيْدٍ الْحَنَّاطُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدَبٍ الْفَزَارِيِّ، عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِّ.

وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْهَمَدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدَبٍ الْفَزَارِيِّ، عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِّ.

وَحَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ ابْنِ الصَّلْتِ الْقُمِّيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِالْهَرَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ سَعِيدٍ السَّعْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الْحَنْظَلِيُّ الرَّازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَىٰ الْفَزَارِيُّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدَبٍ، عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِّ، - وَاللَّفْظُ لِفُضَيْلِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ -، قَالَ: أَخَذَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) بِيَدِي فَأَخْرَجَنِي إِلَىٰ ظَهْرِ الْكُوفَةِ، فَلَمَّا أَصْحَرَ تَنَفَّسَ ثُمَّ قَالَ: يَا كُمَيْلُ، إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا، احْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ: النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: عَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَىٰ سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ

ص: 443


1- كوفي، متعبِّد، صدوق، رُمِيَ بالتشيُّع. (تقريب التهذيب: ج 1/ ص 444/ ح 2993).

كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَىٰ رُكْنٍ وَثِيقٍ. يَا كُمَيْلُ، الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ المَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ المَالَ، وَالمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ وَالْعِلْمُ يَزْكُو(1) عَلَىٰ الْإِنْفَاقِ. يَا كُمَيْلُ، مَحَبَّةُ الْعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ، يَكْسِبُ الْإِنْسَانُ بِهِ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ، وَجَمِيلَ الْأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَصَنِيعُ (2) المَالِ يَزُولُ بِزَوَالِهِ. يَا كُمَيْلُ، مَاتَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ، أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ وَأَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ. هَاهْ إِنَّ هَاهُنَا - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَىٰ صَدْرِهِ - لَعِلْماً جَمًّا(3) لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً، بَلْ أَصَبْتُ لَقِناً(4) غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ، يَسْتَعْمِلُ آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا، وَمُسْتَظْهِراً بِحُجَجِ اللهِ(5) (عزوجل)عَلَىٰ خَلْقِهِ، وَبِنِعَمِهِ عَلَىٰأَوْلِيَائِهِ(6) لِيَتَّخِذَهُ الضُّعَفَاءُ وَلِيجَةً دُونَ وَلِيِّ الْحَقِّ. أَوْ مُنْقَاداً لِحَمَلَةِ الْعِلْمِ(7) لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِي أَحْنَائِهِ(8) يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ بِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ، أَلَا لَا ذَا وَلَا ذَاكَ(9) أَوْ مَنْهُوماً بِاللَّذَّاتِ، سَلِسَ الْقِيَادِ لِلشَّهَوَاتِ. أَوْ مُغْرَماً(10) بِالْجَمْعِ وَالِادِّخَارِ، لَيْسَا مِنْ رُعَاةِ الدِّينِ فِي شَيْءٍ، أَقْرَبُ شَيْءٍ شَبَهاً بِهِمَا الْأَنْعَامُ السَّائِمَةُ، كَذَلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيهِ. اللَّهُمَّ بَلَىٰ لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ بِحُجَّةٍ

ص: 444


1- أي ينمو.
2- في بعض النُّسَخ: (ومنفعة المال تزول).
3- أي كثيراً. وأصبت أي وجدت.
4- أي سريع الفهم.
5- أي مستعلياً. وفي بعض النُّسَخ: (يستظهر بحُجَج الله).
6- في بعض النُّسَخ: (علىٰ عباده).
7- في بعض النُّسَخ: (أو منقاداً لحملة الحقِّ، لا بصيرة له في أحيائه).
8- الضمير يرجع إلىٰ العلم. والأحناء: الأطراف. أي لعدم علمه بالبرهان والحجَّة.
9- (لا ذا) إشارة إلى المنقاد. (ولا ذاك) إشارة إلىٰ اللقن. ويجوز أنْ يكون بمعنىٰ: لا هذا المنقاد محمود عند الله ولا ذاك اللقن.
10- بفتح الراء، أي مولِعاً. وفي بعض النُّسَخ: (أو مغرياً) من الإغراء.

[إِمَّا] ظَاهِرٍ مَشْهُورٍ أَوْ خَافٍ مَغْمُورٍ لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَبَيِّنَاتُهُ، وَكَمْ ذَا وَأَيْنَ أُولَئِكَ؟ أُولَئِكَ وَاللهِ الْأَقَلُّونَ عَدَداً، وَالْأَعْظَمُونَ خَطَراً، بِهِمْ يَحْفَظُ اللهُ حُجَجَهُ وبَيِّنَاتِهِ حَتَّىٰ يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ، هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَىٰ حَقَائِقِ الْأُمُورِ، وَبَاشَرُوا رُوحَ الْيَقِينِ، وَاسْتَلَانُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ المُتْرَفُونَ، وَأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ، [وَ]صَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالمَحَلِّ الْأَعْلَىٰ. يَا كُمَيْلُ، أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللهِ فِي أَرْضِهِ وَالدُّعَاةُ إِلَىٰ دِينِهِ، آهِ آهِ شَوْقاً إِلَىٰ رُؤْيَتِهِمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ».

وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدَبٍ: «انْصَرِفْ إِذَا شِئْتَ ».

وَحَدَّثَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبُو أَحْمَدَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ السَّرَّاجُ الْهَمَدَانِيُّ بِهَمَدَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْقَاسِمُ بْنُ [أَبِي] صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَىٰ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي الْأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ ضِرَارُ بْنُصُرَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ حُمَيْدٍ الْحَنَّاطُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدَبٍ الْفَزَارِيِّ، عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِّ، قَالَ: أَخَذَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) بِيَدِي فَأَخْرَجَنِي إِلَىٰ نَاحِيَةِ الْجَبَّانَةِ، فَلَمَّا أَصْحَرَ جَلَسَ، ثُمَّ قَالَ: «يَا كُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ احْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ: الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا...» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ مِثْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: «اللَّهُمَّ بَلَىٰ لَنْ تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ بِحُجَّةٍ لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَبَيِّنَاتُهُ»، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ: «ظَاهِرٍ [مَشْهُورٍ] أَوْ خَافٍ مَغْمُورٍ»، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: «إِذَا شِئْتَ فَقُمْ ».

وَأَخْبَرَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ الْحَاكِمُ أَبُو مُحَمَّدٍ بَكْرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْحَنَفِيُّ الشَّاشِيُّ [بِإِيلَاقَ]، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْبَزَّازِ الشَّافِعِيُّ(1) بِمَدِينَةِ السَّلَامِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَىٰ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، قَالَ:

ص: 445


1- المعنون في تاريخ بغداد (ج 3/ ص 75/ الرقم 1067)، وكان ثقةً ثبتاً كثير الحديث حسن التصنيف.

حَدَّثَنَا ضِرَارُ بْنُ صُرَدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ الْحَنَّاطِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدَبٍ الْفَزَارِيِّ، عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِّ، قَالَ: أَخَذَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) بِيَدِي فَأَخْرَجَنِي إِلَىٰ نَاحِيَةِ الْجَبَّانَةِ، فَلَمَّا أَصْحَرَ جَلَسَ، ثُمَّ تَنَفَّسَ، ثُمَّ قَالَ: «يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ، احْفَظْ مَا أَقُولُ لَكَ، الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا، النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَىٰ سَبِيلِ نَجَاةٍ، وهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ...» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ إِلَىٰ آخِرِهِ .

وَحَدَّثَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ الْأَسْوَارِيُّ بِإِيلَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعْدَوَيْهِ الْبَرْذَعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ المَشْرِقِيُّ(1)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ أَبُو حَاتِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَىٰ الْفَزَارِيُّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ ثَابِتِ ابْنِ أَبِي صَفِيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدَبٍ، عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: أَخَذَ بِيَدِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) فَأَخْرَجَنِي إِلَىٰ نَاحِيَةِ الْجَبَّانَةِ، فَلَمَّا أَصْحَرَ جَلَسَ، ثُمَّ تَنَفَّسَ، ثُمَّ قَالَ: «يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ، الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا...» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ إِلَىٰ آخِرِهِ مِثْلَهُ .

وَحَدَّثَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّقْرِ الصَّائِغُ الْعَدْلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَىٰ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، عَنْ ضِرَارِ بْنِ صُرَدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ الْحَنَّاطِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدَبٍ الْفَزَارِيِّ، عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِّ... وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ إِلَىٰ آخِرِهِ .

وَحَدَّثَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ الْحَاكِمُ أَبُو مُحَمَّدٍ بَكْرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْحَنَفِيُّ الشَّاشِيُّ بِإِيلَاقَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْبَزَّازُ الشَّافِعِيُّ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَىٰ أَبُو عَلِيٍّ الْأَسَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا

ص: 446


1- كذا، وفي بعض النُّسَخ: (عبد الله بن محمّد بن الحسن البرقي)، ولم أجده.

عَبْدُ اللهِ بْنُ الْهَيْثَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يَعْقُوبَ إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ النَّخَعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي الْهَيَّاجِ(1) بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّائِبُ أَبُو مُنْذِرٍ الْكَلْبِيُّ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ لُوطِ بْنِ يَحْيَىٰ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِّ، قَالَ: أَخَذَ بِيَدِي أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِيطَالِبٍ (علیه السلام) بِالْكُوفَةِ فَخَرَجْنَا حَتَّىٰ انْتَهَيْنَا إِلَىٰ الْجَبَّانَةِ. وَذَكَرَ فِيهِ: «اللَّهُمَّ بَلَىٰ لَا تَخْلُو الْأَرْضِ مِنْ قَائِمٌ بِحُجَّةٍ ظَاهِرٍ [مَشْهُورٍ] أَوْ بَاطِنٍ مَغْمُورٍ لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَبَيِّنَاتُهُ»، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: «انْصَرِفْ إِذَا شِئْتَ ».

وَحَدَّثَنِي أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ عِيسَىٰ(2)، عَنْ عَبْدِ اللهِ النَّوْفَلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ هِشَامٍ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ لُوطِ بْنِ يَحْيَىٰ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدَبٍ، عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) قَالَ لَهُ فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ لَا تُخْلِي الْأَرْضَ مِنْ قَائِمٍ بِحُجَّةٍ إِمَّا ظَاهِرٍ مَشْهُورٍ أَوْ خَائِفٍ(3) مَغْمُورٍ لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَبَيِّنَاتُهُ .

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْكُوفِيِّ، عَنْ نَصْرِ بْنِ مُزَاحِمٍ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ لُوطِ بْنِ يَحْيَىٰ الْأَزْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدَبٍ، عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) - فِي كَلَامٍ [لَهُ] طَوِيلٍ -: «اللَّهُمَّ بَلَىٰ لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلهِ بِحُجَّةٍ ظَاهِرٍ [مَشْهُورٍ] أَوْ خَافٍ مَغْمُورٍ لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَبَيِّنَاتُهُ»، [وَقَالَ فِي آخِرِهِ: «انْصَرِفْ إِذَا شِئْتَ »].

ص: 447


1- في بعض النُّسَخ: (أبي الصباح).
2- كذا في النُّسَخ، ولم أعرفه.
3- كذا في أكثر النُّسَخ، وفي بعضها: (خافٍ).

حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُورٍ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ الْأَحْمَرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدَبٍ، عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا (علیه السلام) يَقُولُ فِي آخِرِ كَلَامٍ لَهُ:«اللَّهُمَّ إِنَّكَ لَا تُخْلِي الْأَرْضَ مِنْ قَائِمٍ بِحُجَّةٍ ظَاهِرٍ أَوْ خَافٍ مَغْمُورٍ لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُكَ وَبَيِّنَاتُكَ ».

وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُوسَىٰ الْبَرْقِيُّ(1)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الزَّيَّاتِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: قَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ لَا تُخْلِي الْأَرْضَ مِنْ قَائِمٍ بِحُجَّةٍ إِمَّا ظَاهِرٍ أَوْ خَافٍ مَغْمُورٍ لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُكَ وَبَيِّنَاتُكَ »(2).

ولهذا الحديث طُرُق كثيرة.

[3/187] حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ المُذَكِّرُ بِنَيْسَابُورَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَىٰ زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَىٰ بْنِ الْحَارِثِ الْبَزَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمٍ الدِّمَشْقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَىٰ الْأَسْلَمِيُّ المَدِينِيُّ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ جُوَيْنٍ(3)، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، قَالَ: شَهِدْنَا الصَّلَاةَ عَلَىٰ أَبِي

ص: 448


1- كذا، ولم أجده. وفي بعض النُّسَخ: (الرقيّ).
2- رواه النعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 136/ باب 8/ ح 1) مختصراً، والرضي (رحمة الله) في نهج البلاغة (ص 495 و497/ ح 147)، وفي خصائص الأئمَّة (ص 105 و106)، والمفيد (رحمة الله) في أماليه (ص 247 - 250/ ح 3)، وفي الإرشاد (ج 1/ ص 227 و228)، والطوسي (رحمة الله) في أماليه (ص 20 و21/ ح 23/23).
3- عمارة بن جوين - بجيم مصغَّر - أبو هارون العبدي، شيعي تابعي، ضعَّفه العامَّة لتشيُّعه ظاهراً. وفي بعض النُّسَخ: (عمارة بن جرير) أو (حريز)، وكلاهما تصحيف. وأمَّا إبراهيم بن يحيىٰ راويه فلم أجده لا في رجال الخاصَّة ولا العامَّة.

بَكْرٍ، ثُمَّ اجْتَمَعْنَا إِلَىٰ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَبَايَعْنَاهُ، وَأَقَمْنَا أَيَّاماً نَخْتَلِفُ إِلَىٰ المَسْجِدِ إِلَيْهِ حَتَّىٰ سَمَّوْهُ أَمِيرَالمُؤْمِنِينَ، فَبَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ يَوْماً إِذْ جَاءَهُ يَهُودِيٌّ مِنْ يَهُودِ المَدِينَةِ - وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنْ وُلْدِ هَارُونَ أَخِي مُوسَىٰ (علیهما السلام) - حَتَّىٰ وَقَفَ عَلَىٰ عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَيُّكُمْ أَعْلَمُ بِعِلْمِ نَبِيِّكُمْ وَبِكِتَابِ رَبِّكُمْ حَتَّىٰ أَسْأَلَهُ عَمَّا أُرِيدُ؟

قَالَ: فَأَشَارَ عُمَرُ إِلَىٰ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام)، فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: أَكَذَلِكَ أَنْتَ يَا عَلِيُّ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ سَلْ عَمَّا تُرِيدُ»، قَالَ: إِنِّي أَسْأَلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ وَعَنْ ثَلَاثٍ وَعَنْ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ (علیه السلام): «لِمَ لَا تَقُولُ: إِنِّي أَسْأَلُكَ عَنْ سَبْعٍ؟»، قَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: أَسْأَلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ فَإِنْ أَصَبْتَ فِيهِنَّ سَأَلْتُكَ عَنِ الثَّلَاثِ الْأُخْرَىٰ، فَإِنْ أَصَبْتَ فِيهِنَّ سَأَلْتُكَ عَنِ الْوَاحِدَةِ، وَإِنْ أَخْطَأْتَ فِي الثَّلَاثِ الْأُولَىٰ لَمْ أَسْأَلْكَ عَنْ شَيْءٍ.

فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ (علیه السلام): «وَمَا يُدْرِيكَ إِذَا سَأَلْتَنِي فَأَجَبْتُكَ أَخْطَأْتُ أَمْ أَصَبْتُ؟»، قَالَ: فَضَرَبَ يَدَهُ إِلَىٰ كُمِّهِ فَأَخْرَجَ كِتَاباً عَتِيقاً، فَقَالَ: هَذَا وَرِثْتُهُ عَنْ آبَائِي وَأَجْدَادِي إِمْلَاءُ مُوسَىٰ بْنِ عِمْرَانَ وَخَطُّ هَارُونَ، وَفِيهِ الْخِصَالُ الَّتِي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهَا.

فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ (علیه السلام): «عَلَىٰ أَنَّ لِي عَلَيْكَ إِنْ أَجَبْتُكَ فِيهِنَّ بِالصَّوَابِ أَنْ تُسْلِمَ»، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَاللهِ لَئِنْ أَجَبْتَنِي فِيهِنَّ بِالصَّوَابِ لَأُسْلِمَنَّ السَّاعَةَ عَلَىٰ يَدَيْكَ.

فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ (علیه السلام): «سَلْ»، قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ أَوَّلِ حَجَرٍ وُضِعَ عَلَىٰ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَأَخْبِرْنِي عَنْ أَوَّلِ شَجَرَةٍ نَبَتَتْ عَلَىٰ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَأَخْبِرْنِي عَنْ أَوَّلِ عَيْنٍ نَبَعَتْ عَلَىٰ وَجْهِ الْأَرْضِ.

فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ (علیه السلام): «يَا يَهُودِيُّ، أَمَّا أَوَّلُ حَجَرٍ وُضِعَ عَلَىٰ وَجْهِ الْأَرْضِ فَإِنَّ

ص: 449

الْيَهُودَ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا صَخْرَةُ بَيْتِ المَقْدِسِ، وَكَذَبُواوَلَكِنَّهُ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ نَزَلَ بِهِ آدَمُ (علیه السلام) مَعَهُ مِنَ الْجَنَّةِ فَوَضَعَهُ فِي رُكْنِ الْبَيْتِ وَالنَّاسُ يَتَمَسَّحُونَ بِهِ وَيُقَبِّلُونَهُ وَيُجَدِّدُونَ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ (تبارک و تعالی)»، قَالَ الْيَهُودِيُّ: أَشْهَدُ بِاللهِ لَقَدْ صَدَقْتَ.

قَالَ لَهُ عَلِيٌّ (علیه السلام): «وَأَمَّا أَوَّلُ شَجَرَةٍ نَبَتَتْ عَلَىٰ وَجْهِ الْأَرْضِ فَإِنَّ الْيَهُودَ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا الزَّيْتُونَةُ، وَكَذَبُوا وَلَكِنَّهَا النَّخْلَةُ مِنَ الْعَجْوَةِ، نَزَلَ بِهَا آدَمُ (علیه السلام) مَعَهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَبِالْفَحْلِ، فَأَصْلُ النَّخْلِ كُلِّهِ مِنَ الْعَجْوَةِ»، قَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: أَشْهَدُ بِاللهِ لَقَدْ صَدَقْتَ.

قَالَ لَهُ عَلِيٌّ (علیه السلام): «وَأَمَّا أَوَّلُ عَيْنٍ نَبَعَتْ عَلَىٰ وَجْهِ الْأَرْضِ فَإِنَّ الْيَهُودَ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا الْعَيْنُ الَّتِي نَبَعَتْ تَحْتَ صَخْرَةِ بَيْتِ المَقْدِسِ، وَكَذَبُوا وَلَكِنَّهَا عَيْنُ الْحَيَاةِ الَّتِي نَسِيَ عِنْدَهَا صَاحِبُ مُوسَىٰ السَّمَكَةَ المَالِحَةَ، فَلَمَّا أَصَابَهَا مَاءُ الْعَيْنِ عَاشَتْ وَسَرَبَتْ فَاتَّبَعَهَا مُوسَىٰ (علیه السلام) وَصَاحِبُهُ فَلَقِيَا الْخَضِرَ»، قَالَ الْيَهُودِيُّ: أَشْهَدُ بِاللهِ لَقَدْ صَدَقْتَ.

قَالَ لَهُ عَلِيٌّ (علیه السلام): «سَلْ [عَنِ الثَّلَاثِ الْأُخْرَىٰ]»، قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمْ لَهَا بَعْدَ نَبِيِّهَا مِنْ إِمَامٍ عَدْلٍ، وَأَخْبِرْنِي عَنْ مَنْزِلِ مُحَمَّدٍ أَيْنَ هُوَ مِنَ الْجَنَّةِ، ومَنْ يَسْكُنُ مَعَهُ فِي مَنْزِلِهِ؟

قَالَ لَهُ عَلِيٌّ (علیه السلام): «يَا يَهُودِيُّ، يَكُونُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا اثْنَا عَشَرَ إِمَاماً عَدْلاً، لَا يَضُرُّهُمْ خِلَافُ مَنْ خَالَفَ عَلَيْهِمْ»، قَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: أَشْهَدُ بِاللهِ لَقَدْ صَدَقْتَ.

قَالَ لَهُ عَلِيٌّ (علیه السلام): «وَ[أَمَّا] مَنْزِلُ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) مِنَ الْجَنَّةِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ، وهِيَ وَسَطُ الْجِنَانِ وَأَقْرَبُهَا مِنْ عَرْشِ الرَّحْمَنِ (جل جلاله)»، قَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: أَشْهَدُ بِاللهِ لَقَدْ صَدَقْتَ.

ص: 450

قَالَ لَهُ عَلِيٌّ (علیه السلام): «وَالَّذِينَ يَسْكُنُونَ مَعَهُ فِي الْجَنَّةِ هَؤُلَاءِ[الْأَئِمَّةُ] الِاثْنَا عَشَرَ(1)»، قَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: أَشْهَدُ بِاللهِ لَقَدْ صَدَقْتَ.

قَالَ لَهُ عَلِيٌّ (علیه السلام): «سَلْ [عَنِ الْوَاحِدَةِ]»، قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ وَصِيِّ مُحَمَّدٍ فِي أَهْلِهِ كَمْ يَعِيشُ بَعْدَهُ؟ وَهَلْ يَمُوتُ مَوْتاً أَوْ يُقْتَلُ قَتْلاً؟

قَالَ لَهُ عَلِيٌّ (علیه السلام): «يَا يَهُودِيُّ، يَعِيشُ بَعْدَهُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَتُخْضَبُ مِنْهُ هَذِهِ مِنْ هَذَا - وَأَشَارَ إِلَىٰ رَأْسِهِ -»، قَالَ: فَوَثَبَ إِلَيْهِ الْيَهُودِيُّ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَأَنَّكَ وَصِيُّ رَسُولِ اللهِ.

[4/188] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي مُحَمَّدُ ابْنُ أَبِي الْقَاسِمِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ [بْنِ ] خَالِدٍ الْبَرْقِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ يَحْيَىٰ، عَنْ جَدِّهِ الْحَسَنِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ ابْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ أَخْفَىٰ أَرْبَعَةً فِي أَرْبَعَةٍ: أَخْفَىٰ رِضَاهُ فِي طَاعَتِهِ فَلَا تَسْتَصْغِرَنَّ شَيْئاً مِنْ طَاعَتِهِ فَرُبَّمَا وَافَقَ رِضَاهُ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ، وَأَخْفَىٰ سَخَطَهُ فِي مَعْصِيَتِهِ فَلَا تَسْتَصْغِرَنَّ شَيْئاً مِنْ مَعْصِيَتِهِ فَرُبَّمَا وَافَقَ سَخَطَهُ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ، وَأَخْفَىٰ إِجَابَتَهُ فِي دُعَائِهِ فَلَا تَسْتَصْغِرَنَّ شَيْئاً مِنْ دُعَائِهِ فَرُبَّمَا وَافَقَ إِجَابَتَهُ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ، وَأَخْفَىٰ وَلِيَّهُ فِي عِبَادِهِ فَلَا تَسْتَصْغِرَنَّ عَبْداً مِنْ عِبَادِهِ(2) فَرُبَّمَا يَكُونُ وَلِيَّهُ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ »(3)(4).

[5/189] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ

ص: 451


1- في بعض النُّسَخ: (هؤلاء الاثنا عشر إماماً).
2- في بعض النُّسَخ: (من عبيد الله فربَّما...) إلخ.
3- في مناسبة هذا الحديث لعنوان الباب تأمُّل، لأنَّ المراد بالوليِّ المحبُّ لا الحجَّة.
4- رواه المصنِّف (رحمة الله) الخصال (ص 209 و210/ ح 31)، وفي معاني الأخبار (ص 112 و113/ باب إخفاء الله (عزوجل)أربعة في أربعة/ ح 1).

وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ وَأَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ جَمِيعاً، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبَرْقِيِّ وَيَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ جَمِيعاً، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ، عَنْ أَيْمَنَ بْنِ مُحْرِزٍ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَمَاعَةَ الْكِنْدِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَىٰ المَدِينِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «لَمَّا بَايَعَ النَّاسُ عُمَرَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي بَكْرٍ أَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ شَبَابِ الْيَهُودِ وَهُوَ فِي المَسْجِدِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ دُلَّنِي عَلَىٰ أَعْلَمِكُمْ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِكِتَابِهِ وَبِسُنَّتِهِ، فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَىٰ عَلِيٍّ (علیه السلام)، فَقَالَ: هَذَا، فَتَحَوَّلَ الرَّجُلُ إِلَىٰ عَلِيٍّ، فَسَأَلَهُ: أَنْتَ كَذَلِكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: إِنِّي أَسْأَلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثٍ وَوَاحِدَةٍ، فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ: أَفَلَا قُلْتَ: عَنْ سَبْعٍ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: لَا إِنَّمَا أَسْأَلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ فَإِنْ أَصَبْتَ فِيهِنَّ سَأَلْتُكَ عَنْ ثَلَاثٍ بَعْدَهُنَّ، وَإِنْ لَمْ تُصِبْ لَمْ أَسْأَلْكَ.

فَقَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (صلوات الله عليه): أَخْبِرْنِي إِنْ أَجَبْتُكَ بِالصَّوَابِ وَالْحَقِّ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ وَكَانَ الْفَتَىٰ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَأَحْبَارِهَا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ وُلْدِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ أَخِي مُوسَىٰ (علیهما السلام)، فَقَالَ: نَعَمْ.

فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام): بِاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَئِنْ أَجَبْتُكَ بِالْحَقِّ وَالصَّوَابِ لَتُسْلِمَنَّ وَلَتَدَعَنَّ الْيَهُودِيَّةَ؟ فَحَلَفَ الْيَهُودِيُّ وَقَالَ: مَا جِئْتُكَ إِلَّا مُرْتَاداً(1) أُرِيدُ الْإِسْلَامَ، فَقَالَ: يَا هَارُونِيُّ، سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ تُخْبَرْ، قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ أَوَّلِ شَجَرَةٍ نَبَتَتْ عَلَىٰ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَعَنْ أَوَّلِ عَيْنٍ نَبَعَتْ عَلَىٰ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَعَنْ أَوَّلِ حَجَرٍ وُضِعَ عَلَىٰ وَجْهِ الْأَرْضِ.

فَقَالَ [لَهُ] أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام): أَمَّا سُؤَالُكَ عَنْ أَوَّلِ شَجَرَةٍنَبَتَتْ عَلَىٰ وَجْهِ الْأَرْضِ فَإِنَّ الْيَهُودَ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا الزَّيْتُونَةُ وَكَذَبُوا إِنَّمَا هِيَ النَّخْلَةُ مِنَ الْعَجْوَةِ هَبَطَ بِهَا آدَمُ (علیه السلام) مَعَهُ مِنَ الْجَنَّةِ فَغَرَسَهَا، وَأَصْلُ النَّخْلِ كُلِّهِ مِنْهَا، وَأَمَّا قَوْلُكَ: أَوَّلُ عَيْنٍ نَبَعَتْ عَلَىٰ وَجْهِ الْأَرْضِ فَإِنَّ الْيَهُودَ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا الْعَيْنُ الَّتِي بِبَيْتِ المَقْدِسِ

ص: 452


1- المرتاد: الطالب للشيء. وفي بعض النُّسَخ: (مرتاداً لدين الإسلام).

تَحْتَ الْحَجَرِ وَكَذَبُوا هِيَ عَيْنُ الْحَيَوَانِ الَّتِي انْتَهَىٰ مُوسَىٰ وَفَتَاهُ إِلَيْهَا فَغَسَلَ فِيهَا السَّمَكَةَ المَالِحَةَ فَحَيِيَتْ، وَلَيْسَ مِنْ مَيِّتٍ يُصِيبُهُ ذَلِكَ المَاءُ إِلَّا حَيِيَ، وَكَانَ الْخَضِرُ عَلَىٰ مُقَدِّمَةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ يَطْلُبُ عَيْنَ الْحَيَاةِ، فَوَجَدَهَا الْخَضِرُ (علیه السلام) وَشَرِبَ مِنْهَا وَلَمْ يَجِدْهَا ذُو الْقَرْنَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُكَ: أَوَّلُ حَجَرٍ وُضِعَ عَلَىٰ وَجْهِ الْأَرْضِ فَإِنَّ الْيَهُودَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ الْحَجَرُ الَّذِي فِي بَيْتِ المَقْدِسِ وَكَذَبُوا إِنَّمَا هُوَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ هَبَطَ بِهِ آدَمُ (علیه السلام) مَعَهُ مِنَ الْجَنَّةِ فَوَضَعَهُ فِي الرُّكْنِ وَالنَّاسُ يَسْتَلِمُونَهُ، وَكَانَ أَشَدَّ بَيَاضاً مِنَ الثَّلْجِ فَاسْوَدَّ مِنْ خَطَايَا بَنِي آدَمَ.

قَالَ: فَأَخْبِرْنِي كَمْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ إِمَامٍ هُدًى هَادِينَ مَهْدِيِّينَ لَا يَضُرُّهُمْ خِذْلَانُ مَنْ خَذَلَهُمْ؟ وأَخْبِرْنِي أَيْنَ مَنْزِلُ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) مِنَ الْجَنَّةِ؟ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أُمَّتِهِ فِي الْجَنَّةِ؟

قَالَ: أَمَّا قَوْلُكَ: كَمْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ إِمَامٍ هُدًى هَادِينَ مَهْدِيِّينَ لَا يَضُرُّهُمْ خِذْلَانُ مَنْ خَذَلَهُمْ؟ فَإِنَّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ اثْنَا عَشَرَ إِمَاماً هَادِينَ مَهْدِيِّينَ لَا يَضُرُّهُمْ خِذْلَانُ مَنْ خَذَلَهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُكَ: أَيْنَ مَنْزِلُ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) فِي الْجَنَّةِ؟ فَفِي أَشْرَفِهَا وَأَفْضَلِهَا جَنَّةِ عَدْنٍ. وَأَمَّا قَوْلُكَ: مَنْ مَعَ مُحَمَّدٍ مِنْ أُمَّتِهِ فِي الْجَنَّةِ؟ فَهَؤُلَاءِ الْاِثْنَا عَشَرَ أَئِمَّةُ الْهُدَىٰ.

قَالَ الْفَتَىٰ: صَدَقْتَ فَوَ اللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّهُ لَمَكْتُوبٌ عِنْدِي بِإِمْلَاءِ مُوسَىٰ وَخَطِّ هَارُونَ بِيَدِهِ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي كَمْ يَعِيشُ وَصِيُّ مُحَمَّدٍ(صلی الله علیه و آله) [مِنْ] بَعْدِهِ؟ وَهَلْ يَمُوتُ مَوْتاً أَوْ يُقْتَلُ قَتْلاً؟

فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ (علیه السلام): وَيْحَكَ يَا يَهُودِيُّ أَنَا وَصِيُّ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) أَعِيشُ بَعْدَهُ ثَلَاثِينَ سَنَةً لَا أَزِيدُ يَوْماً وَلَا أَنْقُصُ يَوْماً(1)(2)، ثُمَّ يُبْعَثُ أَشْقَاهَا شَقِيقُ عَاقِرِ نَاقَةِ

ص: 453


1- هذا مخالف لما أجمعت عليه الأُمَّة في تاريخ وفاتهما (صلَّىٰ الله عليهما)، فإنَّ رحلة الرسول(صلی الله علیه و آله) في أواخر الصفر أو أوائل الربيع، وشهادة أمير المؤمنين (علیه السلام) في (21) رمضان أو (23). وإبراهيم ابن يحيىٰ المديني راوي الخبر رجل مجهول، وليس في رجال الصادق (علیه السلام) ذكر منه.
2- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 36/ ص 377): (بيان: قوله (علیه السلام): «لا أزيد يوماً»، أقول: فيه إشكال، لأنَّ وفاة الرسول(صلی الله علیه و آله) كان في صفر وشهادته (علیه السلام) في شهر رمضان وكان ما بينهما ثلاثين سنة إلَّا خمسة أشهر وأيَّاماً، فكيف يستقيم قوله (علیه السلام): «لا أزيد يوماً ولا أنقص يوماً»؟ ويمكن دفعه بأنَّ مبنىٰ الثلاثين علىٰ التقريب، وقوله: «لا أزيد يوماً» أي علىٰ الموعد الذي وُعدت لذلك وأعلمه، والغرض أنَّ لشهادتي وقتاً معيَّناً لا يتقدَّم ولا يتأخَّر. [أو يقال: الكلام مبنيٌّ علىٰ ما هو المعروف عند أهل الحساب من أنَّهم يُسقِطون ما هو أقلّ من النصف يُكلِّمون بما هو أزيد منه، فكلُّ حدٍّ بين تسع وعشرين ونصف وبين ثلاثين ونصف من جملة مصداقاته العرفيَّة، فلا يكون شيء منهما زائداً علىٰ ثلاثين سنة عرفيَّة ولا ناقصاً عنها أصلاً، وإنَّما يُحكَم بالزيادة والنقصان إذا كان خارجاً عن الحدَّين وليس فليس، وفيما سيأتي: «لا يزيد يوماً ولا ينقص يوماً»، فالضميران إمَّا راجعان إلىٰ الثلاثين أو إلىٰ الوصيِّ، نظير قوله تعالىٰ: «لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ 34» [الأعراف: 34]، وهذا الخبر يُؤيِّد الأخير، وعلىٰ الوجه الأوَّل يحتمل إرجاعهما إلىٰ الله تعالىٰ]).

ثَمُودَ فَيَضْرِبُنِي ضَرْبَةً هَاهُنَا فِي مَفْرَقِي فَتُخْضَبُ مِنْهُ لِحْيَتِي، ثُمَّ بَكَىٰ (علیه السلام) بُكَاءً شَدِيداً»، قَالَ:«فَصَرَخَ الْفَتَىٰ وَقَطَعَ كُسْتِيجَهُ(1)، وقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، [وَأَنَّكَ وَصِيُّ رَسُولِ الله]».

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْعَبْدِيُّ يَرْفَعُهُ، قَالَ: هَذَا الرَّجُلُ الْيَهُودِيُّ أَقَرَّ لَهُ مَنْ بِالمَدِينَةِ أَنَّهُ أَعْلَمُهُمْ، وَأَنَّ أَبَاهُ كَانَ كَذَلِكَ فِيهِمْ (2).

[6/190] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الْبَرْقِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْقَاسِمِ(3)، عَنْ حَيَّانَ السَّرَّاجِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ سُلَيْمَانَ الْغَسَّانِيِّ(4)، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: شَهِدْتُ

ص: 454


1- الكستيج - بالضمِّ وكسر المثنَّاة الفوقيَّة وسكون المثنَّاة التحتيَّة -: خيط غليظ يشدُّه الذمّي فوق ثيابه دون الزنَّار، وهو معرَّب كستى، والظاهر هو من شعار النصارىٰ دون اليهود، فتأمَّل.
2- رواه المشغري (رحمة الله) في الدُّرِّ النظيم (ص 388 و389)، والديلمي (رحمة الله) في إرشاد القلوب (ج 2/ ص 319 و320).
3- في بعض النُّسَخ: (محمّد بن أبي الهيثم).
4- في بعض النُّسَخ: (الكتاني)، وفي بعضها: (الكسائي)، ولم أجده.

جِنَازَةَ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَ مَاتَ شَهِدْتُ عُمَرَ حِينَ بُويِعَ وَعَلِيٌّ (علیه السلام) جَالِسٌ نَاحِيَةً إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ عَلَيْهِ ثِيَابٌ حِسَانٌ، وَهُوَ مِنْ وُلْدِ هَارُونَ حَتَّىٰ قَامَ عَلَىٰ رَأْسِ عُمَرَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَنْتَ أَعْلَمُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِكِتَابِهِمْ وَأَمْرِ نَبِيِّهِمْ؟

قَالَ: فَطَأْطَأَ عُمَرُ رَأْسَهُ، فَقَالَ: إِيَّاكَ أَعْنِي، وَأَعَادَ عَلَيْهِ الْقَوْلَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي جِئْتُكَ مُرْتَاداً لِنَفْسِي، شَاكًّا فِي دِينِي، فَقَالَ: دُونَكَ هَذَا الشَّابَّ، قَالَ: وَمَنْ هَذَا الشَّابُّ؟ قَالَ: هَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، وَهُوَ أَبُو الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ ابْنَيْ رَسُولِ اللهِ، وَهَذَا زَوْجُ فَاطِمَةَ ابْنَةِ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله).فَأَقْبَلَ الْيَهُودِيُّ عَلَىٰ عَلِيٍّ (علیه السلام)، فَقَالَ: أَكَذَلِكَ أَنْتَ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثٍ وَوَاحِدَةٍ، قَالَ: فَتَبَسَّمَ عَلِيٌّ (علیه السلام)، ثُمَّ قَالَ: «يَا هَارُونِيُّ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَ: سَبْعاً؟»، قَالَ: أَسْأَلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ فَإِنْ عَلِمْتَهُنَّ سَأَلْتُكَ عَمَّا بَعْدَهُنَّ وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْهُنَّ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ لَكَ عِلْمٌ.

فَقَالَ عَلِيٌّ (علیه السلام): «فَإِنِّي أَسْأَلُكَ بِالْإِلَهِ الَّذِي تَعْبُدُهُ إِنْ أَنَا أَجَبْتُكَ فِي كُلِّ مَا تُرِيدُ لَتَدَعَنَّ دِينَكَ وَلَتَدْخُلَنَّ فِي دِينِي»، فَقَالَ: مَا جِئْتُ إِلَّا لِذَلِكَ.

قَالَ: «فَسَلْ»، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَوَّلِ قَطْرَةِ دَمٍ قَطَرَتْ عَلَىٰ وَجْهِ الْأَرْضِ أَيُّ قَطْرَةٍ هِيَ؟ وَأَوَّلُ عَيْنٍ فَاضَتْ عَلَىٰ وَجْهِ الْأَرْضِ أَيُّ عَيْنٍ هِيَ؟ وأَوَّلُ شَيْءٍ اهْتَزَّ عَلَىٰ وَجْهِ الْأَرْضِ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ فَأَجَابَهُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام)، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الثَّلَاثِ الْأُخْرَىٰ، أَخْبِرْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ كَمْ بَعْدَهُ مِنْ إِمَامٍ عَدْلٍ؟ وَفِي أَيِّ جَنَّةٍ يَكُونُ؟ وَمَنِ السَّاكِنُ مَعَهُ فِي جَنَّتِهِ؟

فَقَالَ: «يَا هَارُونِيُّ، إِنَّ لِمُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) مِنَ الْخُلَفَاءِ اثْنَا عَشَرَ إِمَاماً عَدْلاً لَا يَضُرُّهُمْ خِذْلَانُ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا يَسْتَوْحِشُونَ بِخِلَافِ مَنْ خَالَفَهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَرْسَبُ(1)

ص: 455


1- في بعث النُّسَخ: (أثبت).

فِي الدِّينِ مِنَ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي فِي الْأَرْضِ، وَمَسْكَنُ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) فِي جَنَّةِ عَدْنٍ مَعَهُ أُولَئِكَ الِاثْنَا عَشَرَ الْأَئِمَّةُ الْعَدْلُ(1)»، فَقَالَ: صَدَقْتَ وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنِّي لَأَجِدُهَا فِي كِتَابِ أَبِي هَارُونَ كَتَبَهُ بِيَدِهِ وَأَمْلَاهُ عَمِّي مُوسَىٰ (علیه السلام).

قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْوَاحِدَةِ، فَأَخْبِرْنِي عَنْ وَصِيِّ مُحَمَّدٍ كَمْ يَعِيشُ مِنْبَعْدِهِ؟ وَهَلْ يَمُوتُ أَوْ يُقْتَلُ؟ قَالَ: «يَا هَارُونِيُّ، يَعِيشُ بَعْدَهُ ثَلَاثِينَ سَنَةً لَا يَزِيدُ يَوْماً وَلَا يَنْقُصُ يَوْماً، ثُمَّ يُضْرَبُ ضَرْبَةً هَاهُنَا - يَعْنِي قَرْنَهُ - فَتُخْضَبُ هَذِهِ مِنْ هَذَا».

قَالَ: فَصَاحَ الْهَارُونِيُّ وقَطَعَ كُسْتِيجَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّكَ وَصِيُّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَفُوقَ وَلَا تُفَاقَ، وَأَنْ تُعَظَّمَ وَلَا تُسْتَضْعَفَ، قَالَ: ثُمَّ مَضَىٰ بِهِ (علیه السلام) إِلَىٰ مَنْزِلِهِ فَعَلَّمَهُ مَعَالِمَ الدِّينِ (2).

[7/191] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي يَحْيَىٰ المَدِينِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: جَاءَ يَهُودِيٌّ إِلَىٰ عُمَرَ يَسْأَلُهُ عَنْ مَسَائِلَ، فَأَرْشَدَهُ إِلَىٰ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) لِيَسْأَلَهُ.

فَقَالَ عَلِيٌّ (علیه السلام): «سَلْ»، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي كَمْ يَكُونُ بَعْدَ نَبِيِّكُمْ مِنْ إِمَامٍ عَدْلٍ؟ وَفِي أَيِّ جَنَّةٍ هُوَ؟ وَمَنْ يَسْكُنُ مَعَهُ فِي الْجَنَّةِ؟

فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ (علیه السلام): «يَا هَارُونِيُّ، لِمُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) بَعْدَهُ اثْنَا عَشَرَ إِمَاماً عَدْلاً، لَا يَضُرُّهُمْ خِذْلَانُ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلَا يَسْتَوْحِشُونَ بِخِلَافِ مَنْ خَالَفَهُمْ، أَثْبَتُ فِي دِينِ

ص: 456


1- في بعض النُّسَخ: (الاثنا عشر إماماً العدول).
2- رواه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 529 و530/ باب فيما جاء في الاثني عشر والنصِّ عليهم (علیهم السلام)/ ح 5)، والحلبي (رحمة الله) في تقريب المعارف (ص 422 - 424)، والكراجكي (رحمة الله) في الاستنصار (ص 15 و16)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 168 - 171).

اللهِ مِنَ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي، وَمَنْزِلُ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) فِي جَنَّةِ عَدْنٍ، وَالَّذِينَ يَسْكُنُونَ مَعَهُ هَؤُلَاءِ الِاثْنَا عَشَرَ»، فَأَسْلَمَ الرَّجُلُ وَقَالَ: أَنْتَ أَوْلَىٰ بِهَذَاالمَجْلِسِ مِنْ هَذَا، أَنْتَ الَّذِي تَفُوقُ وَلَا تُفَاقُ، وَتَعْلُو وَلَا تُعْلَىٰ (1).

[8/192] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ مِسْكِينٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ صَالِحِ بْنِ عُقْبَةَ(2)، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام)، قَالَ: «لَمَّا هَلَكَ أَبُو بَكْرٍ وَاسْتُخْلِفَ عُمَرُ رَجَعَ عُمَرُ إِلَىٰ المَسْجِدِ فَقَعَدَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنِّي رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَأَنَا عَلَّامَتُهُمْ، وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ مَسَائِلَ إِنْ أَجَبْتَنِي عَنْهَا أَسْلَمْتُ، قَالَ: وَمَا هِيَ؟ فَقَالَ: ثَلَاثٌ وَثَلَاثٌ وَوَاحِدَةٌ، فَإِنْ شِئْتَ سَأَلْتُكَ وَإِنْ كَانَ فِي قَوْمِكَ أَحَدٌ أَعْلَمَ مِنْكَ فَأَرْشِدْنِي إِلَيْهِ، فَقَالَ: عَلَيْكَ بِذَلِكَ الشَّابِّ (يَعْنِي عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام)، فَأَتَىٰ عَلِيًّا (علیه السلام)، فَقَالَ لَهُ: لِمَ قُلْتَ: ثَلَاثٌ وَثَلَاثٌ وَوَاحِدَةٌ؟ أَلَّا قُلْتَ: سَبْعاً؟ قَالَ: [أَنَا إِذاً جَاهِلٌ إِنَّكَ] إِنْ لَمْ تُجِبْنِي فِي الثَّلَاثِ اكْتَفَيْتُ، قَالَ: فَإِنْ أَجَبْتُكَ تُسْلِمُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: سَلْ، فَقَالَ: أَسْأَلُكَ عَنْ أَوَّلِ حَجَرٍ وُضِعَ عَلَىٰ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَأَوَّلِ عَيْنٍ نَبَعَتْ عَلَىٰ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَأَوَّلِ شَجَرَةٍ نَبَتَتْ عَلَىٰ وَجْهِ الْأَرْضِ.

فَقَالَ (علیه السلام): يَا يَهُودِيُّ، أَنْتُمْ تَقُولُونَ: [إِنَّ] أَوَّلَ حَجَرٍ وُضِعَ عَلَىٰ وَجْهِ الْأَرْضِ الْحَجَرُ الَّذِي فِي بَيْتِ المَقْدِسِ، وَكَذَبْتُمْ بَلْ هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي نَزَلَ بِهِ آدَمُ (علیه السلام) مِنَ الْجَنَّةِ، قَالَ: صَدَقْتَ وَاللهِ إِنَّهُ لَبِخَطِّ هَارُونَ وَإِمْلَاءِ مُوسَىٰ (علیهما السلام).

قَالَ: وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ أَوَّلَ عَيْنٍ نَبَعَتْ عَلَىٰ وَجْهِ الْأَرْضِ الْعَيْنُالَّتِي

ص: 457


1- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 134 و135/ ح 148).
2- هو صالح بن عقبة بن قيس بن سمعان بن أبي ذبيحة، قال العلَّامة في الخلاصة (ص 360/ الرقم 5): (كذَّاب غالٍ، لا يُلتَفت إليه).

نَبَعَتْ بِبَيْتِ المَقْدِسِ، وَكَذَبْتُمْ هِيَ عَيْنُ الْحَيَاةِ الَّتِي غَسَلَ فِيهَا يُوشَعُ بْنُ نُونٍ السَّمَكَةَ، وَهِيَ الَّتِي شَرِبَ مِنْهَا الْخَضِرُ، وَلَيْسَ يَشْرَبُ مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا حَيِيَ، قَالَ: صَدَقْتَ وَاللهِ إِنَّهُ لَبِخَطِّ هَارُونَ وَإِمْلَاءِ مُوسَىٰ (علیهما السلام).

قَالَ: وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ أَوَّلَ شَجَرَةٍ نَبَتَتْ عَلَىٰ وَجْهِ الْأَرْضِ الزَّيْتُونَةُ، وَكَذَبْتُمْ وَهِيَ الْعَجْوَةُ نَزَلَ بِهَا آدَمُ (علیه السلام) مِنَ الْجَنَّةِ، قَالَ: صَدَقْتَ وَاللهِ إِنَّهُ لَبِخَطِّ هَارُونَ وَإِمْلَاءِ مُوسَىٰ (علیهما السلام).

قَالَ: فَالثَّلَاثُ الْأُخْرَىٰ، قَالَ: كَمْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ إِمَامٍ هُدًى لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ؟ قَالَ: اثْنَا عَشَرَ إِمَاماً، قَالَ صَدَقْتَ وَاللهِ إِنَّهُ لَبِخَطِّ هَارُونَ وَإِمْلَاءِ مُوسَىٰ (علیهما السلام).

قَالَ: وَأَيْنَ يَسْكُنُ نَبِيُّكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: فِي أَعْلَاهَا دَرَجَةً وَأَشْرَفِهَا مَكَاناً، فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، قَالَ: صَدَقْتَ وَاللهِ إِنَّهُ لَبِخَطِّ هَارُونَ وَإِمْلَاءِ مُوسَىٰ (علیهما السلام).

قَالَ: فَمَنْ يَنْزِلُ مَعَهُ فِي مَنْزِلِهِ؟ قَالَ: اثْنَا عَشَرَ إِمَاماً، قَالَ: صَدَقْتَ وَاللهِ إِنَّهُ لَبِخَطِّ هَارُونَ وَإِمْلَاءِ مُوسَىٰ (علیهما السلام).

قَالَ: السَّابِعَةُ؟ قَالَ: فَأَسْأَلُكَ كَمْ يَعِيشُ وَصِيُّهُ بَعْدَهُ، قَالَ: ثَلَاثِينَ سَنَةً، قَالَ: ثُمَّ يَمُوتُ أَوْ يُقْتَلُ؟ قَالَ: يُقْتَلُ فَيُضْرَبُ عَلَىٰ قَرْنِهِ فَتُخْضَبُ لِحْيَتُهُ، قَالَ: صَدَقْتَ وَاللهِ إِنَّهُ لَبِخَطِّ هَارُونَ وَإِمْلَاءِ مُوسَىٰ (علیهما السلام)، [فَأَسْلَمَ الْيَهُودِيُّ]»(1).

[9/193] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ الْفَزَارِيُّ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّيْرَفِيُّ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ فُرَاتِ بْنِ أَحْنَفَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنِ

ص: 458


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في الخصال (ص 476 و477/ ح 40)، وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 56 و57/ ح 19)، والطبرسي (رحمة الله) في الاحتجاج (ج 1/ ص 336 و337).

الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) أَنَّهُ ذَكَرَ الْقَائِمَ (علیه السلام) فَقَالَ: «أَمَا لَيَغِيبَنَّ حَتَّىٰ يَقُولَ الْجَاهِلُ: مَا لِلهِ فِي آلِ مُحَمَّدِ حَاجَةٌ»(1).

[10/194] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ وَالْهَيْثَمِ بْنِ أَبِي مَسْرُوقٍ النَّهْدِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الثِّقَةُ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ سَمِعَ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ لَا تُخْلِي الْأَرْضَ مِنْ حُجَّةٍ لَكَ عَلَىٰ خَلْقِكَ ظَاهِرٍ أَوْ خَافٍ مَغْمُورٍ لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُكَ وَبَيِّنَاتُكَ »(2).

[11/195] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعْدَانَ، عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ عَلِيٍّ (علیهم السلام) أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَةٍ لَهُ عَلَىٰ مِنْبَرِ الْكُوفَةِ: «اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَا بُدَّ لِأَرْضِكَ مِنْ حُجَّةٍ لَكَ عَلَىٰ خَلْقِكَ، يَهْدِيهِمْ إِلَىٰ دِينِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ عِلْمَكَ، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَّتُكَ وَلَا يَضِلَّ أَتْبَاعُ أَوْلِيَائِكَ بَعْدَ إِذْهَدَيْتَهُمْ بِهِ، إِمَّا ظَاهِرٍ لَيْسَ بِالمُطَاعِ أَوْ مُكْتَتِمٍ مُتَرَقِّبٍ، إِنْ غَابَ عَنِ النَّاسِ شَخْصُهُ فِي حَالِ هِدَايَتِهِمْ، فَإِنَّ عِلْمَهُ(3) وَآدَابَهُ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ مُثْبَتَةٌ، فَهُمْ بِهَا عَامِلُونَ ».

[12/196] حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِدْرِيسَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي،

ص: 459


1- روىٰ قريباً منه الخصيبي (رحمة الله) في الهداية الكبرىٰ (ص 361)، والمسعودي في إثبات الوصيَّة (ص 265)، والحلبي (رحمة الله) في تقريب المعارف (ص 430)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 340 و341/ ح 290)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 228).
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 195/ باب 153/ ح 2)، والنوبختي (رحمة الله) في فِرَق الشيعة (ص 98)، والمفيد (رحمة الله) في الفصول المختارة (ص 325)، والكراجكي (رحمة الله) في كنز الفوائد (ص 175)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 228).
3- في بعض النُّسَخ: (لم يغب مثبت علمه).

عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ الْفَزَارِيِّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ حَمَّادٍ(1)، عَنْ أَبِي الْجَارُودِ، عَنْ يَزِيدَ الضَّخْمِ(2)، قَالَ: سَمِعْتُ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) يَقُولُ: «كَأَنِّي بِكُمْ تَجُولُونَ جَوَلَانَ النَّعَمِ، تَطْلُبُونَ المَرْعَىٰ فَلَا تَجِدُونَهُ ».

[13/197] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَىٰ بْنِ عِمْرَانَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَعَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ مُحَمَّدٍ(3) جَمِيعاً، عَنْ حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَزَوَّرِ، عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) يَقُولُ: «صَاحِبُ هَذَا الْأَمْرِ الشَّرِيدُ الطَّرِيدُ الْفَرِيدُ الْوَحِيدُ»(4).

[14/198] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ الْآدَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَظِيمِ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْحَسَنِيُّ (رضی الله عنه)، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَىٰ بْنِجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهم السلام)، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام)، قَالَ: «لِلْقَائِمِ مِنَّا غَيْبَةٌ أَمَدُهَا طَوِيلٌ، كَأَنِّي بِالشِّيعَةِ يَجُولُونَ جَوَلَانَ النَّعَمِ فِي غَيْبَتِهِ، يَطْلُبُونَ المَرْعَىٰ فَلَا يَجِدُونَهُ، أَلَا فَمَنْ ثَبَتَ مِنْهُمْ عَلَىٰ دِينِهِ وَلَمْ يَقْسُ قَلْبُهُ لِطُولِ أَمَدِ غَيْبَةِ إِمَامِهِ فَهُوَ مَعِي فِي دَرَجَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، ثُمَّ قَالَ (علیه السلام): «إِنَّ الْقَائِمَ مِنَّا إِذَا قَامَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، فَلِذَلِكَ تَخْفَىٰ وِلَادَتُهُ وَيَغِيبُ شَخْصُهُ »(5).

حدَّثنا عليُّ بن أحمد بن موسىٰ (رضی الله عنه)، قال: حدَّثنا محمّد بن جعفر الكوفيُّ،

ص: 460


1- في بعض النُّسَخ: (الحسين بن محمّد).
2- كذا، ولم أجده.
3- في بعض النُّسَخ: (عبد الله بن محمّد).
4- رواه الطبري (رحمة الله) في دلائل الإمامة (ص 531/ ح 508/112)، والحلبي (رحمة الله) في تقريب المعارف (ص 431).
5- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 229).

عن عبد الله بن موسىٰ الرويانيِّ(1)، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسنيِّ، عن محمّد بن عليٍّ الرضا، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) بهذا الحديث مثله سواء.

[15/199] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّيْرَفِيِّ، [عَنْ هِشَامٍ]، عَنْ فُرَاتِ ابْنِ أَحْنَفَ، عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، قَالَ : ذُكِرَ عِنْدَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) الْقَائِمُ (علیه السلام)، فَقَالَ: «أَمَا لَيَغِيبَنَّ حَتَّىٰ يَقُولَ الْجَاهِلُ: مَا لِلهِ فِي آلِ مُحَمَّدِ حَاجَةٌ»(2).

[16/200] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْهَمَدَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُوسَىٰ الرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرٍ،عَنْ أَبِيهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهم السلام) أَنَّهُ قَالَ: «التَّاسِعُ مِنْ وُلْدِكَ يَا حُسَيْنُ هُوَ الْقَائِمُ بِالْحَقِّ، المُظْهِرُ لِلدِّينِ، وَالْبَاسِطُ لِلْعَدْلِ، قَالَ الْحُسَيْنُ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ؟ فَقَالَ (علیه السلام): إِي وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً (صلی الله علیه و آله) بِالنُّبُوَّةِ وَاصْطَفَاهُ عَلَىٰ جَمِيعِ الْبَرِيَّةِ، وَلَكِنْ بَعْدَ غَيْبَةٍ وَحَيْرَةٍ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهَا عَلَىٰ دِينِهِ إِلَّا المُخْلِصُونَ المُبَاشِرُونَ لِرَوْحِ الْيَقِينِ، الَّذِينَ أَخَذَ اللهُ (عزوجل)مِيثَاقَهُمْ بِوَلَايَتِنَا، وَكَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ »(3).

[17/201] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ زِيَادٍ المَكْفُوفِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي عُقْبَةَ الشَّاعِرِ(4)، قَالَ:

ص: 461


1- سيأتي الكلام فيه.
2- قد مرَّ بسند آخر تحت الرقم (193/9)، فراجع.
3- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 229).
4- كذا، ولم أجده. وفي بعض النُّسَخ: (عبد الله بن أبي عقب)، وفي بعضها: (عبد الله بن عفيف).

سَمِعْتُ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) يَقُولُ: «كَأَنِّي بِكُمْ تَجُولُونَ جَوَلَانَ الْإِبِلِ تَبْتَغُونَ المَرْعَىٰ فَلَا تَجِدُونَهُ يَا مَعْشَرَ الشِّيعَةِ»(1).

[18/202] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي الْجَارُودِ زِيَادِ ابْنِ المُنْذِرِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي عُقْبَةَ الشَّاعِرِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) يَقُولُ: «كَأَنِّي بِكُمْ تَجُولُونَ جَوَلَانَ الْإِبِلِ تَبْتَغُونَ المَرْعَىٰ فَلَا تَجِدُونَهُ يَا مَعْشَرَ الشِّيعَةِ».

[19/203] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ الْآدَمِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، قَالَا: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ ابْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ الْحَرِيشِ الرَّازِيُّ(2)، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الثَّانِي، عَنْ آبَائِهِ (علیهم السلام)، عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ)، قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: «إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَإِنَّهُ يَنْزِلُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَمْرُ السَّنَةِ، وَلِذَلِكَ الْأَمْرِ وُلَاةٌ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)»، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «أَنَا وَأَحَدَ عَشَرَ مِنْ صُلْبِي أَئِمَّةٌ مُحَدَّثُونَ »(3)(4).

* * *

ص: 462


1- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 122/ ح 119).
2- الرجل ضعيف جدًّا، قال ابن الغضائري بعد عنوانه: ضعيف روىٰ عن أبن جعفر الثاني فضل: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ 1» كتاباً مصنَّفاً (أي موضوعاً) فاسد الألفاظ تشهد مخائله أنَّه موضوع، وهذا الرجل لا يُلتَفت إليه، ولا يُكتَب حديثه (صه).
3- هذا الخبر وإنْ كان سنده ضعيفاً لكن متنه صحيح موافق للحقِّ.
4- رواه المصنِّف (رحمة الله) في الخصال (ص 479 و480/ ح 47)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 532 و533/ باب فيما جاء في الاثني عشر والنصِّ عليهم (علیهم السلام)/ ح 11)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 68/ باب 4/ ح 3)، والخزَّاز في كفاية الأثر (ص 221)، والمفيد (رحمة الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 346)، والحلبي (رحمة الله) في تقريب المعارف (ص 425)، والكراجكي (رحمة الله) في الاستنصار (ص 14)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 141 و142/ ح 106).

الباب السابع والعشرون

ما روي عن سيِّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) من حديث الصحيفة وما فيها من أسماء الأئمَّة وأسماء أُمَّهاتهم وأنَّ الثاني عشر منهم القائم (علیه السلام)

ص: 463

ص: 464

[1/204] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْقَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ السُّلَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ(1)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ أَبِي مُوسَىٰ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، قَالَ: لَمَّا احْتُضِرَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ (علیهما السلام) عِنْدَ الْوَفَاةِ دَعَا بِابْنِهِ الصَّادِقِ (علیه السلام)، فَعَهِدَ إِلَيْهِ عَهْداً، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: لَوِ امْتَثَلْتَ فِيَّ تِمْثَالَ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ (علیهما السلام) لَرَجَوْتُ أَنْ لَا تَكُونَ أَتَيْتَ مُنْكَراً، فَقَالَ: «يَا أَبَا الْحَسَنِ، إِنَّ الْأَمَانَاتِ لَيْسَتْ بِالتِّمْثَالِ، وَلَا الْعُهُودَ بِالرُّسُومِ، وَإِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ سَابِقَةٌ عَنْ حُجَجِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ»، ثُمَّ دَعَا بِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ(2)، فَقَالَ لَهُ: «يَا جَابِرُ، حَدِّثْنَا بِمَاعَايَنْتَ فِي

ص: 465


1- في العيون: (محمّد بن عبد الرحيم).
2- سند هذا الخبر ضعيف ومشتمل علىٰ مجاهيل، ومتنه لا يلائم ما جاء في غيره من الأخبار، ففي تفسير القمِّي (ج 2/ ص 147) بسند صحيح عن الباقر (علیه السلام)، سُئِلَ عن جابر، فقال (علیه السلام): «رحم الله جابراً بلغ من فقهه أنَّه كان يعرف تأويل هذه الآية: «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ...» الآية [القَصص: 85]»، وهو ظاهر في موته في حياة أبي جعفر (علیه السلام). وروىٰ نحوه الكشِّي (اختيار معرفة الرجال: ج 1/ ص 224 و225/ ح 90). وقد أجمعت أرباب السِّيَر ومعاجم التراجم علىٰ أنَّه مات قبل سنة (80ه)، قال ابن قتيبة: (مات جابر بالمدينة سنة (78ه)...، وهو ممَّن تأخر موته من أصحاب النبيِّ(صلی الله علیه و آله) بالمدينة) (المعارف: ص 307). وقال ابن سعد: مات سنة (73ه). وفي المحكي عن عمرو بن عليٍّ ويحيىٰ بن بكير وغيرهما أنَّه مات سنة (78ه) كما في تهذيب التهذيب (ج 2/ ص 37/ الرقم 67). وقال ابن عبد البرِّ في الاستيعاب (ج 1/ ص 220): إنَّه شهد العقبة الثانية مع أبيه، وكُفَّ بصره في آخر عمره، وتُوفِّي سنة (74ه)، وقيل: (78ه)، وقيل: (77ه) بالمدينة، وصلَّىٰ عليه أميرها أبان بن عثمان، وقيل: تُوفِّي وهو ابن أربع وتسعين. وعلىٰ أيٍّ كان وفاته قبل ميلاد أبي عبد الله جعفر بن محمّد (علیه السلام) بسنين، لأنَّه (علیه السلام) وُلِدَ سنة (83ه)، وكانت وفاة الباقر (علیه السلام) سنة (114ه) وفي قول (116ه)، فكيف يمكن حضور جابر عنده (علیه السلام) حين حضرته الوفاة؟ مع أنَّ الظاهر من قول النبيِّ(صلی الله علیه و آله) له: «إنَّك ستُدرك رجلاً من أهل بيتي...» إلخ، أنَّه أدرك محمّد بن عليٍّ الباقر (علیهما السلام) فحسب، ولم يُدرك بعده من الأئمَّة (علیهم السلام) أحداً. والأخبار التي تتضمَّن حياته بعد عليِّ بن الحسين (علیهما السلام) كلُّها مخدوشة، لأنَّه (علیه السلام) تُوفِّي سنة (94ه)، وأبو عبد الله حينذاك ابن أحد عشر سنة، وتُوفِّي جابر قبل ذلك نحواً من عشرين سنة. وما قال المامقاني (رحمة الله) (في تنقيح المقال: ج 14/ ص 73) من أنَّ الكشِّي روىٰ أنَّه (يعنى جابر) آخر من بقي من الصحابة مع أنَّ عامر بن واثلة مات سنة (110ه)، فلازم ذلك بقاء جابر بعد سنة (110ه) اشتباه محض، لأنَّ عامر لم يكن صحابيًّا إنَّما ذكروه في جملة الصحابة لتولُّده قبل وفاة النبيِّ(صلی الله علیه و آله). ولعلَّ مراد الكشِّي أنَّه آخر من بقي من الصحابة بالمدينة ممَّن شهد العقبة كما قال الجزري حيث قال: جابر آخر من مات ممَّن شهد العقبة. (أُسد الغابة: ج 1/ ص 257). ثمّ اعلم أنِّي أظنُّ أنَّ العلاج بأنْ نقول: سقطت جملة من لفظ الرواة أو قلم النُّسَّاخ، وصُحِّف (يا أبا جعفر)، والأصل: (ثمّ قال دعا أبي يوماً بجابر بن عبد الله... فقال له جابر: نعم يا أبا محمّد...) إلخ، فيرفع الإشكال، وأمثال هذا السقط والتحريف كثيرة في الأحاديث. ثمّ اعلم أيضاً أنَّ قولها: (لكنَّه نهىٰ أنْ يمسَّها إلَّا نبيٌّ أو وصيُّ نبيٍّ أو أهل بيت نبيٍّ) يخالف ما سيأتي في حديث اللوح، لأنَّ فيه: (فأعطتنيه أُمُّك فاطمة فقرأته وانتسخته).

الصَّحِيفَةِ»، فَقَالَ لَهُ جَابِرٌ: نَعَمْ يَا أَبَا جَعْفَرٍ، دَخَلْتُ عَلَىٰمَوْلَاتِي فَاطِمَةَ (علیها السلام) لِأُهَنِّئَهَا بِمَوْلُودِ الْحَسَنِ (علیه السلام)(1)، فَإِذَا هِيَ بِصَحِيفَةٍ بِيَدِهَا مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدَةَ النِّسْوَانِ، مَا هَذِهِ الصَّحِيفَةُ الَّتِي أَرَاهَا مَعَكِ؟ قَالَتْ: «فِيهَا أَسْمَاءُ الْأَئِمَّةِ مِنْ وُلْدِي»، فَقُلْتُ لَهَا: نَاوِلِينِي لِأَنْظُرَ فِيهَا، قَالَتْ: «يَا جَابِرُ، لَوْ لَا النَّهْيُ لَكُنْتُ أَفْعَلُ، لَكِنَّهُ نُهِيَ أَنْ يَمَسَّهَا إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ وَصِيُّ نَبِيٍّ أَوْ أَهْلُ بَيْتِ نَبِيٍّ، وَلَكِنَّهُ مَأْذُونٌ لَكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَىٰ بَاطِنِهَا مِنْ ظَاهِرِهَا».

ص: 466


1- كذا.

قَالَ جَابِرٌ: فَقَرَأْتُ فَإِذَا فِيهَا: أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ المُصْطَفَىٰ، أُمُّهُ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ. أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ المُرْتَضَىٰ، أُمُّهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ هَاشِمِ ابْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَرُّ. أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ التَّقِيُّ، أُمُّهُمَا فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله). أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْعَدْلُ، أُمُّهُ شَهْرَبَانُويَهْ(1) بِنْتُ يَزْدَجَرْدَ بْنِ شَاهَنْشَاهَ. أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ، أُمُّهُ أُمُّ عَبْدِ اللهِ بِنْتُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. أَبُو عَبْدِ اللهِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ، أُمُّهُ أُمُّ فَرْوَةَ بِنْتُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ. أَبُو إِبْرَاهِيمَ مُوسَىٰ بْنُ جَعْفَرٍ الثِّقَةُ، أُمُّهُ جَارِيَةٌ اسْمُهَا حَمِيدَةُ. أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُوسَىٰ الرِّضَا، أُمُّهُ جَارِيَةٌ اسْمُهَا نَجْمَةُ. أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الزَّكِيُّ، أُمُّهُ جَارِيَةٌ اسْمُهَا خَيْزُرَانُ. أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَمِينُ، أُمُّهُ جَارِيَةٌ اسْمُهَا سَوْسَنُ(2). أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الرَّفِيقُ، أُمُّهُ جَارِيَةٌ اسْمُهَا سُمَانَةُ(3)، وَتُكَنَّىٰ بِأُمِّ الْحَسَنِ. أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، هُوَ حُجَّةُ اللهِتَعَالَىٰ عَلَىٰ خَلْقِهِ الْقَائِمُ(4)، أُمُّهُ جَارِيَةٌ اسْمُهَا نَرْجِسُ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ )(5).

قال مصنِّف هذا الكتاب (رحمة الله): جاء هذا الحديث هكذا بتسمية القائم (علیه السلام)، والذي أذهب إليه ما روي في النهي من تسميته، وسيأتي ذكر ما روينا(6) في ذلك من الأخبار في باب أضعه في هذا الكتاب لذلك إنْ شاء الله [تعالىٰ ذكره] .

* * *

ص: 467


1- في بعض النُّسَخ: (شاه بانويه).
2- المشهور كما في أخبار أُخَر اسمها (سمانة).
3- المشهور اسمها (حُديث) مصغَّراً، أو (سليل).
4- في بعض النُّسَخ: (هو الحجَّة القائم).
5- رواه المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 47 و48/ ح 1)، والطبرسي (رحمة الله) في الاحتجاج (ج 2/ ص 136 و137).
6- في بعض النُّسَخ: (رويت).

ص: 468

الباب الثامن والعشرون

ذكر النصِّ على القائم (علیه السلام) في اللوح الذي أهداه الله (عزوجل) إلى رسوله (صلی الله علیه و آله) ودفعه إلى فاطمة (علیها السلام) فعرضته على جابر بن عبد الله الأنصاري حتَّى قرأه وانتسخه وأخبر به أبا جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر (علیهما السلام) بعد ذلك(1)

ص: 469


1- دأب الصدوق (رحمة الله) إطناب العناوين بخلاف الكليني (رحمة الله).

ص: 470

[1/205] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ صَالِحِ بْنِ أَبِي حَمَّادٍ وَالْحَسَنِ بْنِ طَرِيفٍ جَمِيعاً، عَنْ بَكْرِ بْنِ صَالِحٍ.

وَحَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ وَأَحْمَدُ ابْنُ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَاتَانَةَ(1) وَأَحْمَدُ بْنُ زِيَادٍ الْهَمَدَانِيُّ (رضی الله عنهما)، قَالُوا: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «قَالَ أَبِي (علیه السلام) لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيِّ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، فَمَتَىٰ يَخِفُّ عَلَيْكَ أَنْ أَخْلُوَ بِكَ فَأَسْأَلَكَ عَنْهَا؟ فَقَالَ لَهُ جَابِرٌ: فِي أَيِّ الْأَوْقَاتِ شِئْتَ، فَخَلَا بِهِ أَبُو جَعْفَرٍ (علیه السلام)، قَالَ لَهُ: يَا جَابِرُ، أَخْبِرْنِي عَنِ اللَّوْحِ الَّذِي رَأَيْتَهُ فِي يَدَ[يْ] أُمِّي فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، وَمَا أَخْبَرَتْكَ بِهِ أَنَّهُ فِي ذَلِكَ اللَّوْحِ مَكْتُوباً، فَقَالَ جَابِرٌ: أَشْهَدُ بِاللهِ أَنِّي دَخَلْتُ عَلَىٰ أُمِّكَ فَاطِمَةَ (علیها السلام) فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) أُهَنِّؤُهَا بِوِلَادَةِ الْحُسَيْنِ (علیه السلام)(2)، فَرَأَيْتُ فِي يَدِهَا لَوْحاً أَخْضَرَ ظَنَنْتُ أَنَّهُ مِنْ زُمُرُّدٍ، وَرَأَيْتُ فِيهِ كِتَابَةً بَيْضَاءَ شَبِيهَةً بِنُورِ الشَّمْسِ، فَقُلْتُ لَهَا: بِأَبِي أَنْتِ وأُمِّي يَا بِنْتَ رَسُولِ اللهِ، مَا هَذَااللَّوْحُ؟ فَقَالَتْ: هَذَا اللَّوْحُ أَهْدَاهُ اللهُ (عزوجل)إِلَىٰ رَسُولِهِ (صلی الله علیه و آله)، فِيهِ اسْمُ أَبِي وَاسْمُ بَعْلِي وَاسْمُ ابْنَيَّ وَأَسْمَاءُ الْأَوْصِيَاءِ مِنْ وُلْدِي، فَأَعْطَانِيهِ أَبِي لِيَسُرَّنِي بِذَلِكَ.

ص: 471


1- في بعض النُّسَخ: (الحسين بن إبراهيم)، واحتمل الأُستاذ وحيد البهبهاني في تعليقة علىٰ منهج المقال (ص 117) كونه أخا الحسن.
2- كذا في النُّسَخ المخطوطة عندي، وفي نسخة منها: (الحسن خ ل).

قَالَ جَابِرٌ: فَأَعْطَتْنِيهِ أُمُّكَ(1) فَاطِمَةُ (علیها السلام)، فَقَرَأْتُهُ وَانْتَسَخْتُهُ، فَقَالَ لَهُ أَبِي (علیه السلام): فَهَلْ لَكَ يَا جَابِرُ أَنْ تَعْرِضَهُ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَمَشَىٰ مَعَهُ أَبِي (علیه السلام) حَتَّىٰ انْتَهَىٰ إِلَىٰ مَنْزِلِ جَابِرٍ، فَأَخْرَجَ إِلَىٰ أَبِي صَحِيفَةً مِنْ رَقٍّ، فَقَالَ: يَا جَابِرُ، انْظُرْ أَنْتَ فِي كِتَابِكَ لِأَقْرَأَهُ أَنَا عَلَيْكَ، فَنَظَرَ جَابِرٌ فِي نُسْخَتِهِ(2)، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِ أَبِي (علیه السلام)، فَوَاللهِ مَا خَالَفَ حَرْفٌ حَرْفاً، قَالَ جَابِرٌ: فَإِنِّي أَشْهَدُ بِاللهِ أَنِّي هَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي اللَّوْحِ مَكْتُوباً:

بسم الله الرحمن الرحيم، هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِمُحَمَّدٍ نُورِهِ وَسَفِيرِهِ وَحِجَابِهِ وَدَلِيلِهِ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، عَظِّمْ يَا مُحَمَّدُ أَسْمَائِي، وَاشْكُرْ نَعْمَائِي، وَلَا تَجْحَدْ آلَائِي، إِنِّي أَنَا اللهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا قَاصِمُ الْجَبَّارِينَ، [وَمُبِيرُ المُتَكَبِّرِينَ]، وَمُذِلُّ الظَّالِمِينَ، وَدَيَّانُ يَوْمِ الدِّينِ، إِنِّي أَنَا اللهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا، فَمَنْ رَجَا غَيْرَ فَضْلِي أَوْ خَافَ غَيْرَ عَدْلِيعَذَّبْتُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ، فَإِيَّايَ فَاعْبُدْ وَعَلَيَّ فَتَوَكَّلْ، إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ نَبِيًّا فَأُكْمِلَتْ أَيَّامُهُ وَانْقَضَتْ مُدَّتُهُ إِلَّا جَعَلْتُ لَهُ وَصِيًّا، وَإِنِّي فَضَّلْتُكَ عَلَىٰ الْأَنْبِيَاءِ، وَفَضَّلْتُ وَصِيَّكَ عَلَىٰ الْأَوْصِيَاءِ، وَأَكْرَمْتُكَ بِشِبْلَيْكَ بَعْدَهُ وَبِسِبْطَيْكَ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، وَجَعَلْتُ حَسَناً مَعْدِنَ عِلْمِي بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ أَبِيهِ، وَجَعَلْتُ حُسَيْناً خَازِنَ وَحْيِي، وَأَكْرَمْتُهُ بِالشَّهَادَةِ،

ص: 472


1- يخالف ما مرَّ آنفاً في وفاة أبي جعفر محمّد بن عليٍّ (علیهما السلام).
2- إنَّما كانت ملاقاة جابر مع أبي جعفر (علیه السلام) بعد زيارة الأربعين في المدينة قطعاً، وقد قيل: إنَّه في زيارة الأربعين مكفوف البصر، فكيف يمكن معه قراءة النسخة؟ ويمكن أنْ نقول: إنَّما يكون عماه في آخر أيَّام حياته فاشتبه علىٰ بعض من ترجمه فتوهَّم عماه في الأربعين سنة (61ه)، وهو خلاف ما نصُّوا عليه من أنَّه كفَّ بصره آخر عمره. وما في بشارة المصطفىٰ (ص 125) في خبر زيارته في الأربعين من قول عطيَّة: (قال: ألمسنيه فألمسته فخرَّ علىٰ القبر)، لا يدلُّ علىٰ العمىٰ، ولعلَّ من شدَّة الحزن وكثرة البكاء ابيضَّت عيناه، أو غمرتهما العبرة في ذلك اليوم. ويُؤيِّده ما في هذا الخبر: (ثمّ جال ببصره حول القبر وقال: السلام عليكم...) إلخ.

وَخَتَمْتُ لَهُ بِالسَّعَادَةِ، فَهُوَ أَفْضَلُ مَنِ اسْتُشْهِدَ، وَأَرْفَعُ الشُّهَدَاءِ دَرَجَةً، جَعَلْتُ كَلِمَتِيَ التَّامَّةَ مَعَهُ، وَالْحُجَّةَ الْبَالِغَةَ عِنْدَهُ، بِعِتْرَتِهِ أُثِيبُ وَأُعَاقِبُ.

أَوَّلُهُمْ عَلِيٌّ سَيِّدُ الْعَابِدِينَ، وَزَيْنُ أَوْلِيَائِيَ المَاضِينَ، وَابْنُهُ سَمِيُّ جَدِّهِ(1) المَحْمُودِ، مُحَمَّدٌ الْبَاقِرُ لِعِلْمِي، وَالمَعْدِنُ لِحِكْمَتِي، سَيَهْلِكُ المُرْتَابُونَ فِي جَعْفَرٍ، الرَّادُّ عَلَيْهِ كَالرَّادِّ عَلَيَّ، حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأُكْرِمَنَّ مَثْوَىٰ جَعْفَرٍ، وَلَأَسُرَّنَّهُ فِي أَوْلِيَائِهِ وَأَشْيَاعِهِ وَأَنْصَارِهِ، وَانْتَحَبْتُ بَعْدَ مُوسَىٰ فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ حِنْدِسٌ(2)، لِأَنَّ خَيْطَ فَرْضِي لَا يَنْقَطِعُ(3)، وَحُجَّتِي لَا تَخْفَىٰ، وَأَنَّ أَوْلِيَائِي لَا يَشْقَوْنَ أَبَداً.

أَلَا وَمَنْ جَحَدَ وَاحِداً مِنْهُمْ فَقَدْ جَحَدَ نِعْمَتِي، وَمَنْ غَيَّرَ آيَةً مِنْ كِتَابِي فَقَدِ افْتَرَىٰ عَلَيَّ، وَوَيْلٌ لِلْمُفْتَرِينَ الْجَاحِدِينَ عِنْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ عَبْدِي مُوسَىٰ وَحَبِيبِي وَخِيَرَتِي، [أَلَا] إِنَّ المُكَذِّبَ بِالثَّامِنِ مُكَذِّبٌ بِكُلِّ أَوْلِيَائِي، وَعَلِيٌّ وَلِيِّي وَنَاصِرِي، وَمَنْ أَضَعُ عَلَيْهِ أَعْبَاءَ النُّبُوَّةِ وَأَمْتَحِنُهُ بِالاضْطِلَاعِ، يَقْتُلُهُ عِفْرِيتٌ مُسْتَكْبِرٌ، يُدْفَنُ بِالمَدِينَةِ الَّتِي بَنَاهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ ذُو الْقَرْنَيْنِ إِلَىٰ جَنْبِ شَرِّ خَلْقِي.حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأُقِرَّنَّ عَيْنَهُ بِمُحَمَّدٍ ابْنِهِ(4) وَخَلِيفَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَهُوَ وَارِثُ عِلْمِي وَمَعْدِنُ حِكْمَتِي وَمَوْضِعُ سِرِّي وَحُجَّتِي عَلَىٰ خَلْقِي، جَعَلْتُ الْجَنَّةَ مَثْوَاهُ وَشَفَّعْتُهُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ كُلُّهُمْ قَدِ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ، وَأَخْتِمُ بِالسَّعَادَةِ لِابْنِهِ عَلِيٍّ وَلِيِّي وَنَاصِرِي، وَالشَّاهِدِ فِي خَلْقِي، وَأَمِينِي عَلَىٰ وَحْيِي، أُخْرِجُ مِنْهُ الدَّاعِيَ إِلَىٰ سَبِيلي وَالْخَازِنَ لِعِلْمِيَ الْحَسَنَ.

ثُمَّ أُكْمِلُ ذَلِكَ بِابْنِهِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، عَلَيْهِ كَمَالُ مُوسَىٰ وَبَهَاءُ عِيسَىٰ وصَبْرُ

ص: 473


1- في بعض النُّسَخ: (شبيه جدِّه).
2- انتحب أي تنفَّس شديداً.
3- في بعض النُّسَخ: (لأنَّ خيط وصيَّتي).
4- في الكافي: (بابنه (م ح م د).

أَيُّوبَ، سَتَذِلُّ أَوْلِيَائِي فِي زَمَانِهِ وَيُتَهَادَوْنَ رُؤُوسُهُمْ كَمَا تُهَادَىٰ رُؤُوسُ التُّرْكِ وَالدَّيْلَمِ، فَيُقْتَلُونَ وَيُحْرَقُونَ وَيَكُونُونَ خَائِفِينَ مَرْعُوبِينَ وَجِلِينَ، تُصْبَغُ الْأَرْضُ مِنْ دِمَائِهِمْ، وَيَفْشُو الْوَيْلُ وَالرَّنِينُ فِي نِسَائِهِمْ(1)، أُولَئِكَ أَوْلِيَائِي حَقًّا، بِهِمْ أَدْفَعُ كُلَّ فِتْنَةٍ عَمْيَاءَ حِنْدِسٍ، وَبِهِمْ أَكْشِفُ الزَّلَازِلَ، وَأَرْفَعُ عَنْهُمُ الْآصَارَ(2) وَالْأَغْلَالَ ، أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ، وَأُولئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ».

قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَالِمٍ: قَالَ أَبُو بَصِيرٍ: لَوْ لَمْ تَسْمَعْ فِي دَهْرِكَ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ لَكَفَاكَ، فَصُنْهُ إِلَّا عَنْ أَهْلِهِ (3) (4).

ص: 474


1- كلُّ ذلك في زمان الغيبة لا في أيَّام ظهوره ¨، لأنَّ المؤمنين في أيَّامه في كمال العزَّة.
2- في بعض النُّسَخ: (القيود).
3- رواه المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 48 - 50/ ح 2)، وابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 103 - 106/ ح 92)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 527 و528/ باب ما جاء في الاثني عشر والنصِّ عليهم (علیهم السلام)/ ح 3)، والخصيبي (رحمة الله) في الهداية الكبرىٰ (ص 364 - 366)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 69 - 72/ باب 4/ ح 5)، والمفيد (رحمة الله) في الاختصاص (ص 210 - 212)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 143 - 146/ ح 108)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 174 - 177).
4- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج ٣٦/ ص 198 - 200): (بيان: الرقُّ - بالفتح والكسر -: الجلد الرقيق الذي يُكتَب فيه. وفي رواية الكليني والنعماني والشيخ والطبرسي بعد قوله: «من رقٍّ» زيادة: «فقال : يا جابر، انظر في كتابك لأقرأ عليك، فنظر جابر في نسخته فقرأه أبي، فما خالف حرف حرفاً، فقال جابر: فأشهد بالله». والسفير: الرسول المصلح بين القوم، وأطلق الحجاب عليه لأنَّه واسطة بين الله وبين الخلق كالحجاب الواسطة بين المحجوب والمحجوب عنه، أو لأنَّ له وجهين: وجهاً إلىٰ الله ووجهاً إلىٰ الخلق. والمراد بالأسماء إمَّا أسماء ذاته المقدَّسة أو الأئمَّة (علیهم السلام) كما مرَّ مراراً. والنعماء مفرد بمعنىٰ النعمة العظيمة، وهي النبوَّة وما يلزمها ويلحقها، وبالآلاء سائر النِّعَم والأوصياء (علیهم السلام). وفي أكثر الروايات «مديل المظلومين» بدل قوله: «مذلُّ الظالمين». والإدالة: إعطاء الدولة والغلبة. والمظلومون: الأئمَّة وشيعتهم الذين ينصرهم الله في آخر الزمان. وديَّان الدِّين أي المجازي لكلِّ مكلَّف ما عمل من خير وشرٍّ يوم الدِّين. وفي القاموس: الدِّين - بالكسر - الجزاء والإسلام والعبادة والطاعة والحساب والقهر والسلطان والحكم والقضاء، والديَّان: القهَّار والقاضي والحاكم والحاسب والمجازي. «فمن رجا غير فضلي» كأنَّ المعنىٰ أنَّ كلَّ ما يرجوه العباد من ربِّهم فليس جزاء لأعمالهم بحيث يجب علىٰ الله ذلك، بل هو من فضله سبحانه، وأعمالهم لا تكافئ عشراً من أعشار ما أنعم عليهم قبلها، بل هي أيضاً من نِعَمه تعالىٰ، وإنْ لزم عليه سبحانه إعطاء الثواب بمقتضىٰ وعده، فبعده أيضاً من فضله. وذهب الأكثر إلىٰ أنَّ المعنىٰ: رجا فضل غيري، ولا يخفىٰ بعده لفظاً ومعنًى، ويُؤيِّد ما ذكرنا قوله: «أو خاف غير عدلي» إذا العقوبات التي يخافها العباد إنَّما هي من عدله، وإنَّ من اعتقد أنَّها ظلم فقد كفر. «عذَّبته عذاباً» أي تعذيباً، ويجوز أنْ يُجعَل مفعولاً به علىٰ السعة. «لا أُعذِّبه» الضمير للمصدر أو للعذاب إنْ أُريد به ما يُعذِّب به علىٰ حذف حرف الجرِّ كما ذكره البيضاوي. «بشبليك» أي ولديك تشبيهاً لهما بولد الأسد في الشجاعة، أو له صلی الله علیه و آله بالأسد فيها أو الأعمّ، أو المعنىٰ: ولدي أسدك، تشبيهاً لأمير المؤمنين (علیه السلام) بالأسد. وفي القاموس: الشبل - بالكسر -: ولد الأسد. قوله: «في أشياعه» أي بسبب كثرتهم وكمالهم. قوله: «وانتجبت بعده فتنة» علىٰ بناء المفعول كناية عن اهتمامهم بشأن تلك الفتنة، أو علىٰ بناء المعلوم مجازاً، وفي بعض النُّسَخ: «وأنتجت» من النتاج، وهو أيضاً يحتمل الوجهين، وفي أكثر نُسَخ إعلام الورىٰ: «أُتيحت» علىٰ بناء المجهول من قولهم: أُتيح له أي قُدِّر وهُيِّئ، وفي بعضها: «أنبحت» من نباح الكلب وصياحه. وفي نُسَخ الكافي: «أُبيحت» بالباء من الإباحة علىٰ المجهول أيضاً، والأظهر ما في أكثر نُسَخ إعلام الورىٰ، وعلىٰ أيِّ حالٍ لا يخلو من تكلُّف. وقوله: «لأنَّ خيط فرضي» إمَّا علَّة لانتجاب موسىٰ أو لما يدلُّ عليه الفتنة من كون ما أدَّعوه من الوقف باطلاً. وفي النعماني: «إلَّا أنَّ خيط فرضي لا ينقطع» وهو أظهر، وفيه بعده: «وحجَّتي لا تخفىٰ، وأوليائي بالكأس الأوفىٰ يسقون أبدال الأرض»، وفي إكمال الدِّين: «لا يسبقون» بدل «لا يشقون». ويقال: فلان مضطلع لهذا الأمر، أي قوي عليه. والعفريت: الخبيث المارد. والمراد بالعبد الصالح هنا ذو القرنين، فإنَّ بلدة طوس من بنائه، وقد صرَّح به في رواية النعماني. والتهادي أنْ يهدي بعضهم إلىٰ بعضهم. والآصار جمع الأصر: الذنب والثقل).

[2/206] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ شَاذَوَيْهِ المُؤَدِّبُ وَأَحْمَدُ بْنُ هَارُونَ الْقَاضِي (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ الْفَزَارِيِّ الْكُوفِيِّ، عَنْ مَالِكٍ السَّلُولِيِّ(1)، عَنْ دُرُسْتَ بْنِ

ص: 475


1- كذا، والظاهر هو مالك بن حسين السلولي. وفزارة حيٌّ من غطفان. والفزار أبو القبيلة من تميم، منهم جعفر بن محمّد بن مالك الفزاري.

عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَبَلَةَ، عَنْ أَبِي السَّفَاتِجِ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ (علیهما السلام)، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىٰ مَوْلَاتِي فَاطِمَةَ (علیها السلام) وَقُدَّامَهَا لَوْحٌ يَكَادُ ضَوْؤُهُ يَغْشَىٰ الْأَبْصَارَ، فِيهِ اثْنَا عَشَرَ اسْماً، ثَلَاثَةٌ فِي ظَاهِرِهِ وَثَلَاثَةٌ فِي بَاطِنِهِ وَثَلَاثَةُ أَسْمَاءَ فِي آخِرِهِ وَثَلَاثَةُ أَسْمَاءَ فِي طَرَفِهِ، فَعَدَدْتُهَا فَإِذَا هِيَ اثْنَا عَشَرَ اسْماً، فَقُلْتُ: أَسْمَاءُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَتْ: «هَذِهِ أَسْمَاءُ الْأَوْصِيَاءِ، أَوَّلُهُمْ ابْنُ عَمِّي وَأَحَدَ عَشَرَ مِنْوُلْدِي، آخِرُهُمُ الْقَائِمُ [صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ]»، قَالَ جَابِرٌ: فَرَأَيْتُ فِيهَا مُحَمَّداً مُحَمَّداً مُحَمَّداً فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، وَعَلِيًّا وَعَلِيًّا وَعَلِيًّا وَعَلِيًّا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ (1).

[3/207] وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ أَبِي الْجَارُودِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىٰ فَاطِمَةَ (علیها السلام) وَبَيْنَ يَدَيْهَا لَوْحٌ [مَكْتُوبٌ] فِيهِ أَسْمَاءُ الْأَوْصِيَاءِ، فَعَدَدْتُ اثْنَيْ عَشَرَ آخِرُهُمُ الْقَائِمُ، ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ مُحَمَّدٌ وَأَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ عَلِيٌّ (علیهم السلام) (2).

وَحَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ حَمْزَةَ الْعَلَوِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دُرُسْتَ السَّرْوِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ الْكُوفِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ وَصَفْوَانَ بْنِ يَحْيَىٰ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ الصَّادِقِ (علیه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «يَا إِسْحَاقُ، أَلَا أُبَشِّرُكَ؟»، قُلْتُ: بَلَىٰ جُعِلْتُ فِدَاكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، فَقَالَ: «وَجَدْنَا صَحِيفَةً بِإِمْلَاءِ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) وَخَطِّ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام)، فِيهَا:

بسم الله الرحمن الرحيم، هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ...»، وَذَكَرَ

ص: 476


1- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 178).
2- قد مرَّ تحت الرقم (152/13)، فراجع.

حَدِيثَ اللَّوْحِ كَمَا ذَكَرْتُهُ فِي هَذَا الْبَابِ مِثْلَهُ سَوَاءً، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ: ثُمَّ قَالَ الصَّادِقُ (علیه السلام): «يَا إِسْحَاقُ، هَذَا دِينُ المَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ، فَصُنْهُ عَنْ غَيْرِ أَهْلِهِ يَصُنْكَ اللهُ وَيُصْلِحْ بَالَكَ»، ثُمَّ قَالَ (علیه السلام): «مَنْ دَانَ بِهَذَا أَمِنَ عِقَابَ اللهِ (تبارک و تعالی)»(1).

وَحَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَطَّانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُوسَىٰ الرُّويَانِيُّ أَبُو تُرَابٍ(2)، عَنْ عَبْدِ الْعَظِيمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْحَسَنِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ بَاقِرَ الْعِلْمِ (علیهما السلام) جَمَعَ وُلْدَهُ وَفِيهِمْ عَمُّهُمْ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ أَخْرَجَ كِتَاباً إِلَيْهِمْ بِخَطِّ عَلِيٍّ (علیه السلام) وَإِمْلَاءِ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) مَكْتُوبٌ فِيهِ:

«هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ...»، [وَذَكَرَ] حَدِيثَ اللَّوْحِ إِلَىٰ المَوْضِعِ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ: «أُولئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ»، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ عَبْدُ الْعَظِيمِ: الْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ لِمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَخُرُوجِهِ إِذْ سَمِعَ أَبَاهُ (علیه السلام) يَقُولُ هَكَذَا وَيَحْكِيهِ، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا سِرُّ اللهِ وَدِينُهُ وَدِينُ مَلَائِكَتِهِ، فَصُنْهُ إِلَّا عَنْ أَهْلِهِ وَأَوْلِيَائِهِ ».

[4/208] حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِدْرِيسَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ

ص: 477


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 50 و51/ ح 3)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 177 و178).
2- في هامش بعض المخطوطة: (عبيد الله) بالياء ابن موسىٰ الروباني بالباء المنقَّطة تحتها نقطة قبل الألف والنون بعدها. والروبان قرية بالكوفة، انتهىٰ. لكن لم أجده، والرويان بالياء المثنَّاة التحتيَّة وضمِّ الراء مدينة كبيرة من جبال طبرستان خرج منها جماعة من العلماء كما في اللباب لابن الأثير (ج 2/ ص 44). وأمَّا (عبيد الله) كما في التوحيد للصدوق وبعض النُّسَخ، أو (عبد الله) كما في المتن، فلا أعلم الصواب منهما.

أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ جَمِيعاً،عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ أَبِي الْجَارُودِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىٰ فَاطِمَةَ (علیها السلام) وَبَيْنَ يَدَيْهَا لَوْحٌ فِيهِ أَسْمَاءُ الْأَوْصِيَاءِ، فَعَدَدْتُ اثْنَيْ عَشَرَ اسْماً، آخِرُهُمُ الْقَائِمُ، ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ مُحَمَّدٌ، وَأَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ عَلِيٌّ، (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ [أَجْمَعِينَ]) .

* * *

ص: 478

الباب التاسع والعشرون

ما أخبر به الحسن بن عليِّ بن أبي طالب (علیهما السلام) من وقوع الغيبة بالقائم (علیه السلام) وأنَّه الثاني عشر من الأئمَّة (علیهم السلام)

ص: 479

ص: 480

[1/209] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ وَأَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ جَمِيعاً، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبَرْقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هَاشِمٍ دَاوُدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْجَعْفَرِيُّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الثَّانِي مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام)، قَالَ: «أَقْبَلَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) ذَاتَ يَوْمٍ وَمَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ (رضی الله عنه)، وَأَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) مُتَّكِئٌ عَلَىٰ يَدِ سَلْمَانَ، فَدَخَلَ المَسْجِدَ الْحَرَامَ فَجَلَسَ، إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ حَسَنُ الْهَيْأَةِ وَاللِّبَاسِ، فَسَلَّمَ عَلَىٰ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام)، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ فَجَلَسَ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَسْأَلُكَ عَنْ ثَلَاثِ مَسَائِلَ إِنْ أَخْبَرْتَنِي بِهِنَّ (1) عَلِمْتُ أَنَّ الْقَوْمَ رَكِبُوا مِنْ أَمْرِكَ مَا أَقْضِي عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَأْمُونِينَ فِي دُنْيَاهُمْ وَلَا فِي آخِرَتِهِمْ، وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَىٰ عَلِمْتُ أَنَّكَ وَهُمْ شَرَعٌ سَوَاءٌ، فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام): سَلْنِي عَمَّا بَدَا لَكَ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الرَّجُلِ إِذَا نَامَ أَيْنَ تَذْهَبُ رُوحُهُ؟ وَعَنِ الرَّجُلِ كَيْفَ يَذْكُرُ وَيَنْسَىٰ؟ وَعَنِ الرَّجُلِ كَيْفَ يُشْبِهُ وَلَدُهُ الْأَعْمَامَ وَالْأَخْوَالَ؟ فَالْتَفَتَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ إِلَىٰ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ أَجِبْهُ، فَقَالَ: أَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الْإِنْسَانِ إِذَا نَامَ أَيْنَ تَذْهَبُ رُوحُهُ، فَإِنَّ رُوحَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالرِّيحِ وَالرِّيحُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْهَوَاءِ (2) إِلَىٰ وَقْتِ مَا يَتَحَرَّكُ صَاحِبُهَالِلْيَقَظَةِ، فَإِنْ أَذِنَ اللهُ (عزوجل)بِرَدِّ تِلْكَ الرُّوحِ إِلَىٰ صَاحِبِهَا (3) جَذَبَتْ تِلْكَ الرُّوحُ الرِّيحَ، وَجَذَبَتْ تِلْكَ الرِّيحُ الْهَوَاءَ، فَرَجَعَتِ الرُّوحُ فَأَسْكَنَتْ فِي بَدَنِ صَاحِبِهَا، وَإِنْ

ص: 481


1- في بعض النُّسَخ: (إنْ أجبتني فيهنَّ).
2- في بعض النُّسَخ: (معلَّقة في الهواء).
3- في بعض النُّسَخ: (علىٰ صاحبها).

لَمْ يَأْذَنِ اللهُ (عزوجل)بِرَدِّ تِلْكَ الرُّوحِ إِلَىٰ صَاحِبِهَا (1) جَذَبَ الْهَوَاءُ الرِّيحَ، وَجَذَبَتِ الرِّيحُ الرُّوحَ، فَلَمْ تُرَدَّ إِلَىٰ صَاحِبِهَا إِلَىٰ وَقْتِ مَا يُبْعَثُ.

وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَمْرِ الذُّكْرِ وَالنِّسْيَانِ، فَإِنَّ قَلْبَ الرَّجُلِ فِي حُقٍّ، وَعَلَىٰ الْحُقِّ طَبَقٌ، فَإِنْ صَلَّىٰ الرَّجُلُ عِنْدَ ذَلِكَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ صَلَاةً تَامَّةً انْكَشَفَ ذَلِكَ الطَّبَقُ عَنْ ذَلِكَ الْحُقِّ فَأَضَاءَ الْقَلْبُ (2) وَذَكَرَ الرَّجُلُ مَا كَانَ نَسِيَهُ، وَإِنْ هُوَ لَمْ يُصَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ أَوْ نَقَّصَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ انْطَبَقَ ذَلِكَ الطَّبَقُ عَلَىٰ ذَلِكَ الْحُقِّ فَأَظْلَمَ الْقَلْبُ وَنَسِيَ الرَّجُلُ مَا كَانَ ذَكَرَ.

وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَمْرِ المَوْلُودِ الَّذِي يُشْبِهُ أَعْمَامَهُ وَأَخْوَالَهُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَتَىٰ أَهْلَهُ فَجَامَعَهَا بِقَلْبٍ سَاكِنٍ وَعُرُوقٍ هَادِئَةٍ وَبَدَنٍ غَيْرِ مُضْطَرِبٍ فَأَسْكَنَتْ تِلْكَ النُّطْفَةُ فِي جَوْفِ الرَّحِمِ (3) خَرَجَ الْوَلَدُ يُشْبِهُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، وَإِنْ هُوَ أَتَاهَا بِقَلْبٍ غَيْرِ سَاكِنٍ وَعُرُوقٍ غَيْرِ هَادِئَةٍ وَبَدَنٍ مُضْطَرِبٍ اضْطَرَبَتْ تِلْكَ النُّطْفَةُ فَوَقَعَتْ فِي حَالِ اضْطِرَابِهَا (4) عَلَىٰ بَعْضِ الْعُرُوقِ، فَإِنْ وَقَعَتْ عَلَىٰ عِرْقٍ مِنْ عُرُوقِ الْأَعْمَامِ أَشْبَهَ الْوَلَدُ أَعْمَامَهُ، وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَىٰ عِرْقٍ مِنْ عُرُوقِ الْأَخْوَالِ أَشْبَهَ الرَّجُلُ أَخْوَالَهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَلَمْأَزَلْ أَشْهَدُ بِهَا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَلَمْ أَزَلْ أَشْهَدُ بِهَا، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ وَصِيُّهُ وَالْقَائِمُ بِحُجَّتِهِ [بَعْدَهُ] - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَىٰ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) -، وَلَمْ أَزَلْ أَشْهَدُ بِهَا، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ وَصِيُّهُ وَالْقَائِمُ بِحُجَّتِهِ - وَأَشَارَ إِلَىٰ الْحَسَنِ (علیه السلام) -، وَأَشْهَدُ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ وَصِيُّ أَبِيكَ وَالْقَائِمُ بِحُجَّتِهِ بَعْدَكَ، وَأَشْهَدُ عَلَىٰ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ الْحُسَيْنِ بَعْدَهُ، وَأَشْهَدُ عَلَىٰ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَأَشْهَدُ عَلَىٰ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ مُحَمَّدِ بْنِ

ص: 482


1- في بعض النُّسَخ: (علىٰ صاحبها).
2- في بعض النُّسَخ: (ممَّا يلي القلب) مكان (فأضاء القلب).
3- في بعض النُّسَخ: (وانسكبت تلك النطفة فوقعت في جوف الرحم).
4- في بعض النُّسَخ: (في وقت اضطرابها).

عَلِيٍّ، وَأَشْهَدُ عَلَىٰ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَأَشْهَدُ عَلَىٰ عَلِيِّ ابْنِ مُوسَىٰ أَنَّهُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرٍ، وَأَشْهَدُ عَلَىٰ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَىٰ، وَأَشْهَدُ عَلَىٰ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأَشْهَدُ عَلَىٰ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَأَشْهَدُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنْ وُلْدِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ لَا يُكَنَّىٰ وَلَا يُسَمَّىٰ حَتَّىٰ يَظْهَرَ أَمْرُهُ فَيَمْلَأَ الْأَرْضَ (1) عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، ثُمَّ قَامَ فَمَضَىٰ.

فَقَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام): يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، اتَّبِعْهُ، فَانْظُرْ أَيْنَ يَقْصِدُ؟ فَخَرَجَ الْحَسَنُ (علیه السلام) فِي أَثَرِهِ، قَالَ: فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ وَضَعَ رِجْلَهُ خَارِجَ المَسْجِدِ فَمَا دَرَيْتُ أَيْنَ أَخَذَ مِنْ أَرْضِ اللهِ (2)، فَرَجَعْتُ إِلَىٰ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) فَأَعْلَمْتُهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَتَعْرِفُهُ؟ فَقُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ وَأَمِيرُ المُؤْمِنِينَ أَعْلَمُ، فَقَالَ: هُوَ الْخَضِرُ (علیه السلام)» (3)(4).

ص: 483


1- في بعض النُّسَخ: (فيملأها).
2- في بعض النُّسَخ: (من الأرض).
3- رواه المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 67 - 69/ ح 35)، وفي علل الشرائع (ج 1/ ص 96 - 98/ باب 85/ ح 6)، وابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 106 - 108/ ح 93)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 525 و526/ باب ما جاء في الاثني عشر والنصِّ عليهم (علیهم السلام)/ ح 1)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 66 - 68/ باب 4/ ح 2)، ورواه مختصراً الكراجكي (رحمة الله) في الاستنصار (ص 32 و33)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 154 و155/ ح 114).
4- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 58/ ص 38 و39): (بيان: «فإنَّ روحه متعلِّقة بالريح» يحتمل أنْ يكون المراد بالروح الروح الحيوانيَّة، وبالريح النفس، وبالهواء الهواء الخارج المنجذب بالنفس، وأنْ يكون المراد بالروح النفس، مجرَّدة كانت أم مادّيَّة، وبالريح الروح الحيوانيَّة لشباهتها بالريح في لطافتها وتحرُّكها ونفوذها في مجاري البدن، وبالهواء النفس. والحُقُّ جمع حُقَّة - بالضمِّ فيهما -، وهي وعاء من خشب، ولعلَّ الجمعيَّة هنا لاشتمال القلب الصنوبري علىٰ تجاويف وأغشية، أو لاشتمال محلِّه عليها، أو هي باعتبار الأفراد والحُقُّ مخفَّف حُقَّة، والطبق - محرَّكة -: غطاء كلِّ شيء، ولا يبعد أنْ يكون الكلام مبنيًّا علىٰ الاستعارة والتمثيل، فإنَّ الصلاة علىٰ محمّد وآل محمّد لمَّا كانت سبباً للقرب من المبدأ واستعداد النفس لإفاضة العلوم عليها، فكان الشواغل النفسانيَّة الموجبة للبعد عن الحقِّ تعالىٰ طبق عليها فتصير الصلاة سبباً لكشفه وتنوُّر القلب واستعداده لفيض الحقِّ إمَّا بإفاضة الصورة ثانية أو باستردادها من الخزانة).

[2/210] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ الْعَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَبْرَئِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، عَنْ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرٍ الْبَغْدَادِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّيْرَفِيُّ، عَنْ حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ سَدِيرِ بْنِ حُكَيْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَقِيصَا، قَالَ: لَمَّا صَالَحَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ (علیهما السلام) مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَلَامَهُ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَيْعَتِهِ، فَقَالَ (علیه السلام): «وَيْحَكُمْ مَا تَدْرُونَ مَا عَمِلْتُ، وَاللهِ الَّذِي عَمِلْتُ خَيْرٌ لِشِيعَتِي مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَوْ غَرَبَتْ، أَلَا تَعْلَمُونَ أَنَّنِي إِمَامُكُمْمُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ عَلَيْكُمْ وَأَحَدُ سَيِّدَيْ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِنَصٍّ مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) عَلَيَّ؟»، قَالُوا: بَلَىٰ، قَالَ: «أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ الْخَضِرَ (علیه السلام) لَمَّا خَرَقَ السَّفِينَةَ وَأَقَامَ الْجِدَارَ وَقَتَلَ الْغُلَامَ كَانَ ذَلِكَ سَخَطاً لِمُوسَىٰ بْنِ عِمْرَانَ، إِذْ خَفِيَ عَلَيْهِ وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَىٰ ذِكْرُهُ حِكْمَةً وَصَوَاباً، أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّهُ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَيَقَعُ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ لِطَاغِيَةِ زَمَانِهِ إِلَّا الْقَائِمُ الَّذِي يُصَلِّي رُوحُ اللهِ عِيسَىٰ بْنُ مَرْيَمَ (علیه السلام) خَلْفَهُ، فَإِنَّ اللهَ (عزوجل)يُخْفِي وِلَادَتَهُ، وَيُغَيِّبُ شَخْصَهُ، لِئَلَّا يَكُونَ لِأَحَدٍ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ إِذَا خَرَجَ، ذَلِكَ التَّاسِعُ مِنْ وُلْدِ أَخِي الْحُسَيْنِ ابْنِ سَيِّدَةِ الْإِمَاءِ، يُطِيلُ اللهُ عُمُرَهُ فِي غَيْبَتِهِ، ثُمَّ يُظْهِرُهُ بِقُدْرَتِهِ فِي صُورَةِ شَابٍّ دُونَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ذَلِكَ لِيُعْلَمَ أَنَّ اللهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (1).

* * *

ص: 484


1- رواه الخزَّاز (رحمة الله) في كفاية الأثر (ص 224 - 226)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 229 و230)، وأحمد بن عليٍّ الطبرسي (رحمة الله) في الاحتجاج (ج 2/ ص 9 و10).

الباب الثلاثون

ما أخبر به الحسين بن عليِّ بن أبي طالب (علیهما السلام) من وقوع الغيبة بالقائم (علیه السلام) وأنَّه الثاني عشر من الأئمَّة (علیهم السلام)

ص: 485

ص: 486

[1/211] حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبْدُوسٍ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو الْكَشِّيُّ (1)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (علیهم السلام)، قَالَ: قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ (علیهما السلام): «فِي التَّاسِعِ مِنْ وُلْدِي سُنَّةٌ مِنْ يُوسُفَ، وَسُنَّةٌ مِنْ مُوسَىٰ بْنِ عِمْرَانَ (علیهما السلام)، وَهُوَ قَائِمُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، يُصْلِحُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ أَمْرَهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ» (2).

[2/212] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ المُعَاذِيُّ (رضی الله عنه)(3)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَمْدَانِيُّ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ الْفُرَاتِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَرِيكٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ هَمْدَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهما السلام) يَقُولُ: «قَائِمُ هَذِهِالْأُمَّةِ هُوَ التَّاسِعُ مِنْ وُلْدِي، وَهُوَ صَاحِبُ الْغَيْبَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُقْسَمُ مِيرَاثُهُ وَهُوَ حَيٌّ»(4).

ص: 487


1- في جميع النُّسَخ: (أبو عمرو الليثي) بتصحيف، والصحيح: (الكشِّي) كما في المتن أخذاً من هامش بعض النُّسَخ المخطوطة المصحَّحة. والكشِّي صاحب رجال المعروف، وهو من غلمان محمّد بن مسعود العيَّاشي.
2- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 230).
3- كذا في بعض النُّسَخ، وفي أكثرها: (المعادي) بالدال المهملة. وفي اللباب لابن الأثير (ج 3/ ص 228): (المعاذي نسبة إلىٰ معاذ يُنسَب إليه جماعة، منهم بيت كبير بخراسان).
4- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 230 و231).

[3/213] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْهَمَدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ صَالِحٍ الْهَرَوِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَلِيطٍ، قَالَ: قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهما السلام): «مِنَّا اثْنَا عَشَرَ مَهْدِيًّا أَوَّلُهُمْ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَآخِرُهُمُ التَّاسِعُ مِنْ وُلْدِي، وَهُوَ الْإِمَامُ الْقَائِمُ بِالْحَقِّ، يُحْيِي اللهُ بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، وَيُظْهِرُ بِهِ دِيْنَ الْحَقِ عَلَىٰ الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ، لَهُ غَيْبَةٌ يَرْتَدُّ فِيهَا أَقْوَامٌ وَيَثْبُتُ فِيهَا عَلَىٰ الدِّينِ آخَرُونَ، فَيُؤْذَوْنَ، وَيُقَالُ لَهُمْ: ]مَتَىٰ هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ 48[ [يونس: 48]، أَمَا إِنَّ الصَّابِرَ فِي غَيْبَتِهِ عَلَىٰ الْأَذَىٰ وَالتَّكْذِيبِ بِمَنْزِلَةِ المُجَاهِدِ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)»(1).

[4/214] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْقَزْوِينِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْحَضْرَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْأَحْوَلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَلَّادٌ المُقْرِئُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حُصَيْنٍ ، عَنْ يَحْيَىٰ بْنِ وَثَّابٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ (علیهما السلام) يَقُولُ: «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اللهُ (عزوجل)ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّىٰ يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ وُلْدِي، فَيَمْلَأَهَا عَدْلاً وَقِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً، كَذَلِكَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) يَقُولُ »(2).

[5/215] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَمْدَانُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عِيسَىٰ الْخَشَّابِ، قَالَ: قُلْتُ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام): أَنْتَ صَاحِبُ هَذَا الْأَمْرِ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنْ صَاحِبُ الْأَمْرِ الطَّرِيدُ الشَّرِيدُ المَوْتُورُ بِأَبِيهِ، المُكَنَّىٰ

ص: 488


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 69/ ح 36)، وابن عيَّاش في مقتضب الأثر (ص 23)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 194).
2- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 231).

بِعَمِّهِ(1)، يَضَعُ سَيْفَهُ عَلَىٰ عَاتِقِهِ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ»(2)(3).

* * *

ص: 489


1- يمكن أنْ يُقرَأ بشدِّ النون علىٰ وزان (المثنَّىٰ) ويكون المراد أنَّ التعبير بالكنية دون الاسم لأجل عمِّه، أو يُقرَأ علىٰ وزان (المهدي) بمعنىٰ المخفي والمستتر، فالمعنىٰ الغائب بسبب عمِّه. والموتور: من قُتِلَ له قتيل ولم يُدرك بثأره.
2- سيأتي في حديث محمّد بن عليِّ بن الحسين (علیهم السلام) ما يوافقه.
3- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 115/ ح 103).

ص: 490

الباب الحادي والثلاثون

ما أخبر به سيِّد العابدين عليُّ بن الحسين (علیهما السلام) من وقوع الغيبة بالقائم (علیه السلام) وأنَّه الثاني عشر من الأئمَّة (علیهم السلام)

ص: 491

ص: 492

[1/216] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَىٰ بْنِ عِمْرَانَ الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْعُصْفُرِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (علیهما السلام) يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ خَلَقَ مُحَمَّداً وَعَلِيًّا وَالْأَئِمَّةَ الْأَحَدَ عَشَرَ مِنْ نُورِ عَظَمَتِهِ أَرْوَاحاً فِي ضِيَاءِ نُورِهِ يَعْبُدُونَهُ قَبْلَ خَلْقِ الْخَلْقِ، يُسَبِّحُونَ اللهَ (عزوجل)وَيُقَدِّسُونَهُ، وَهُمُ الْأَئِمَّةُ الْهَادِيَةُ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (علیهم السلام)»(1).

قال مصنِّف هذا الكتاب (رضی الله عنه): قد روي هذا الخبر بغير هذا اللفظ إلَّا أنَّ مسموعي ما قد ذكرته .

[2/217] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الصُّوفِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ(2) بْنِ مُوسَىٰ، عَنْ عَبْدِ الْعَظِيمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْحَسَنِيِّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ يَحْيَىٰ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْكَابُليِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىٰ سَيِّدِي عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ (علیهما السلام)، فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَرَسُولِ اللهِ، أَخْبِرْنِي بِالَّذِينَ فَرَضَ اللهُ (عزوجل)طَاعَتَهُمْ وَمَوَدَّتَهُمْ، وَأَوْجَبَ عَلَىٰ عِبَادِهِ الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، فَقَالَ لِي: «يَا كَنْكَرُ(3)، إِنَّ

ص: 493


1- روىٰ قريباً منه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 530 و531/ باب فيما جاء في الاثني عشر والنصِّ عليهم (علیهم السلام)/ ح 6)،
2- في بعض النُّسَخ: (عبيد الله)، وهو الروياني الذي تقدَّم في (ص 477).
3- كنكر لقب لأبي خالد.

أُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ جَعَلَهُمُ اللهُ (عزوجل)أَئِمَّةً لِلنَّاسِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ طَاعَتَهُمْ: أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام)، ثُمَّ الْحَسَنُ ثُمَّ الْحُسَيْنُ ابْنَا عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ انْتَهَىٰ الْأَمْرُ إِلَيْنَا»، ثُمَّ سَكَتَ.

فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَيِّدِي، رُوِيَ لَنَا عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ [عَلِيٍّ] (علیه السلام) أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ لِلهِ (عزوجل)عَلَىٰ عِبَادِهِ، فَمَنِ الْحُجَّةُ وَالْإِمَامُ بَعْدَكَ؟ قَالَ: «ابْنِي مُحَمَّدٌ، وَاسْمُهُ فِي التَّوْرَاةِ بَاقِرٌ، يَبْقُرُ الْعِلْمَ بَقْراً، هُوَ الْحُجَّةُ وَالْإِمَامُ بَعْدِي، وَمِنْ بَعْدِ مُحَمَّدٍ ابْنُهُ جَعْفَرٌ، وَاسْمُهُ عِنْدَ أَهْلِ السَّمَاءِ الصَّادِقُ».

فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَيِّدِي، فَكَيْفَ صَارَ اسْمُهُ الصَّادِقَ وَكُلُّكُمْ صَادِقُونَ؟ قَالَ: «حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ (علیهما السلام) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) قَالَ: إِذَا وُلِدَ ابْنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهم السلام) فَسَمُّوهُ الصَّادِقَ، فَإِنَّ لِلْخَامِسِ مِنْ وُلْدِهِ وَلَداً اسْمُهُ جَعْفَرٌ يَدَّعِي الْإِمَامَةَ اجْتِرَاءً عَلَىٰ اللهِ وَكَذِباً عَلَيْهِ، فَهُوَ عِنْدَ اللهِ جَعْفَرٌ الْكَذَّابُ المُفْتَرِي عَلَىٰ اللهِ (تبارک و تعالی)، وَالمُدَّعِي لِمَا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ، المُخَالِفُ عَلَىٰ أَبِيهِ، وَالْحَاسِدُ لِأَخِيهِ، ذَلِكَ الَّذِي يَرُومُ كَشْفَ سَتْرِ اللهِ عِنْدَ غَيْبَةِ وَلِيِّ اللهِ (تبارک و تعالی)»، ثُمَّ بَكَىٰ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (علیهما السلام) بُكَاءً شَدِيداً، ثُمَّ قَالَ: «كَأَنِّي بِجَعْفَرٍ الْكَذَّابِ وَقَدْ حَمَلَ طَاغِيَةَ زَمَانِهِ عَلَىٰ تَفْتِيشِ أَمْرِ وَلِيِّ اللهِ وَالمُغَيَّبِ فِي حِفْظِ اللهِ وَالتَّوْكِيلِ بِحَرَمِ أَبِيهِ جَهْلاً مِنْهُ بِوِلَادَتِهِ، وَحِرْصاً مِنْهُ عَلَىٰ قَتْلِهِ إِنْ ظَفِرَ بِهِ،[و]طَمَعاً فِي مِيرَاثِهِ حَتَّىٰ يَأْخُذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ».

قَالَ أَبُو خَالِدٍ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ؟ فَقَالَ: «إِي وَرَبِّي إِنَّ ذَلِكَ لَمَكْتُوبٌ عِنْدَنَا فِي الصَّحِيفَةِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْمِحَنِ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْنَا بَعْدَ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)».

قَالَ أَبُو خَالِدٍ: فَقُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، ثُمَّ يَكُونُ مَا ذَا؟ قَالَ: «ثُمَّ تَمْتَدُّ الْغَيْبَةُ(1) بِوَلِيِّ اللهِ (عزوجل)الثَّانِي عَشَرَ مِنْ أَوْصِيَاءِ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) وَالْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ. يَا أَبَا

ص: 494


1- في بعض النُّسَخ: (تشتدُّ الغيبة).

خَالِدٍ، إِنَّ أَهْلَ زَمَانِ غَيْبَتِهِ الْقَائِلِينَ بِإِمَامَتِهِ وَالمُنْتَظِرِينَ لِظُهُورِهِ أَفْضَلُ مِنْ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ، لِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ أَعْطَاهُمْ مِنَ الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ وَالمَعْرِفَةِ مَا صَارَتْ بِهِ الْغَيْبَةُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ المُشَاهَدَةِ، وَجَعَلَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بِمَنْزِلَةِ المُجَاهِدِينَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) بِالسَّيْفِ، أُولَئِكَ المُخْلَصُونَ حَقًّا، وَشِيعَتُنَا صِدْقاً، وَالدُّعَاةُ إِلَىٰ دِينِ اللهِ (عزوجل)سِرًّا وَجَهْراً».

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (علیهما السلام): «انْتِظَارُ الْفَرَجِ مِنْ أَعْظَمِ الْفَرَجِ »(1).

وحدَّثنا بهذا الحديث عليُّ بن أحمد بن موسىٰ ومحمّد بن أحمد الشيباني(2) وعليُّ بن عبد الله الورَّاق، عن محمّد بن أبي عبد الله الكوفي، عن سهل بن زياد الآدمي، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني (رضی الله عنه)، عن صفوان، عن إبراهيم ابن أبي زياد، عن أبي حمزةالثمالي، عن أبي خالد الكابلي، عن عليِّ بن الحسين (علیهما السلام).

قال مصنِّف هذا الكتاب (رضی الله عنه): ذكر زين العابدين (علیه السلام) [ل] جعفر الكذَّاب دلالة في إخباره بما يقع منه.

وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَسْكَرِيِّ (علیهما السلام) أَنَّهُ لَمْ يُسَرَّ بِهِ لَمَّا وُلِدَ وَأَنَّهُ أَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ سَيُضِلُّ خَلْقاً كَثِيراً.

كلُّ ذلك دلالة له (علیه السلام) أيضاً، لأنَّه لا دلالة علىٰ الإمامة أعظم من الإخبار بما يكون قبل أنْ يكون، كما كان مثل ذلك دلالة لعيسىٰ بن مريم (علیه السلام) علىٰ نبوَّته إذ أنبأ الناس بما يأكلون وما يدَّخرون في بيوتهم، وكما كَانَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله) حِينَ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ فِي نَفْسِهِ: مَنْ فَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلْتُ، جِئْتُ فَدَفَعْتُ يَدِي فِي يَدِهِ، إِلَّا كُنْتُ

ص: 495


1- رواه الراوندي (رحمة الله) في قَصص الأنبياء (ص 363 و364/ ح 468)، والطبرسي (رحمة الله) في الاحتجاج (ج 2/ ص 48 - 50).
2- كذا، والظاهر هو السناني.

أَجْمَعُ عَلَيْهِ الْجُمُوعَ مِنَ الْأَحَابِيشِ وَكِنَانَةَ، فَكُنْتُ أَلْقَاهُ بِهِمْ(1)، فَلَعَلِّي كُنْتُ أَدْفَعُهُ؟ فَنَادَاهُ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله) مِنْ خَيْمَتِهِ فَقَالَ: «إِذاً كَانَ اللهُ يُجْزِيكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ ». وذلك دلالة له (علیه السلام) كدلالة عيسىٰ بن مريم (علیه السلام). وكلُّ من أخبر من الأئمَّة (علیهم السلام) بمثل ذلك فهي دلالة تدلُّ الناس علىٰ أنَّه إمام مفترض الطاعة من الله تبارك وتعالىٰ .حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْفُرَاتِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أُمِّهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْثَمِ المَعْرُوفِ بِابْنِ سَيَابَةَ(2)، قَالَتْ: كُنْتُ فِي دَارِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَسْكَرِيِّ (علیهما السلام) فِي الْوَقْتِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ جَعْفَرٌ، فَرَأَيْتُ أَهْلَ الدَّارِ قَدْ سُرُّوا بِهِ، فَصِرْتُ إِلَىٰ أَبِي الْحَسَنِ (علیه السلام)، فَلَمْ أَرَهُ مَسْرُوراً بِذَلِكَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَيِّدِي، مَا لِي أَرَاكَ غَيْرَ مَسْرُورٍ بِهَذَا المَوْلُودِ؟ فَقَالَ (علیه السلام): «يَهُونُ عَلَيْكِ أَمْرُهُ، فَإِنَّهُ سَيُضِلُّ خَلْقاً كَثِيراً»(3).

[3/218] حَدَّثَنَا الشَّرِيفُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهم السلام)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ هَمَّامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّوْفَلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَىٰ الْكِلَابِيِّ، عَنْ خَالِدِ بْنِ

ص: 496


1- في بعض النُّسَخ: (إلَّا كنت أجمع عليه الأحابيش بركابه فكنت ألقاه بهم). والمراد بالأحابيش قريش، لأنَّهم تحالفوا بالله أنَّهم ليد علىٰ غيرهم ما سجا ليل ووضح نهار وما رسا حُبشي. وحُبشي - بضمِّ الحاء وسكون الباء وتشديد الياء التحتيَّة - جبل بأسفل مكَّة علىٰ ستَّة أميال منها، فسمُّوا أحابيش قريش باسم الجبل. وقال ابن إسحاق: إنَّ الأحابيش هم بنو الهون بن خزيمة وبنو الحارث بن عبد مناة من كنانة وبنو المصطلق من خزاعة، فلمَّا سُمّيت تلك الأحياء بالأحابيش من قِبَل تجمُّعها صار التحبيش في الكلام: التجميع. وفي بعض النُّسَخ (الزنج) مكان (الجموع).
2- في بعض النُّسَخ: (ابن سبانة)، وفي بعضها: (ابن النسابة).
3- ذكر المصنِّف (رحمة الله) هذا الحديث مؤيِّداً لكلامه ولا ربط له بالعنوان.

نَجِيحٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ حُمْرَانَ، عَنْ أَبِيهِ [حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ]، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَيِّدَ الْعَابِدِينَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (علیهما السلام) يَقُولُ: «فِي الْقَائِمِ مِنَّا سُنَنٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ(1)، [سُنَّةٌ مِنْ أَبِينَا آدَمَ (علیه السلام)، وَ]سُنَّةٌ مِنْ نُوحٍ، وَسُنَّةٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَسُنَّةٌ مِنْ مُوسَىٰ، وَسُنَّةٌ مِنْ عِيسَىٰ، وَسُنَّةٌ مِنْ أَيُّوبَ، وَسُنَّةٌ مِنْمُحَمَّدٍ (صلوات الله عليهم)، فَأَمَّا [مِنْ آدَمَ وَ]نُوحٍ فَطُولُ الْعُمُرِ، وَأَمَّا مِنْ إِبْرَاهِيمَ فَخَفَاءُ الْوِلَادَةِ وَاعْتِزَالُ النَّاسِ، وَأَمَّا مِنْ مُوسَىٰ فَالْخَوْفُ وَالْغَيْبَةُ، وَأَمَّا مِنْ عِيسَىٰ فَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِيهِ، وَأَمَّا مِنْ أَيُّوبَ فَالْفَرَجُ بَعْدَ الْبَلْوَىٰ، وَأَمَّا مِنْ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) فَالْخُرُوجُ بِالسَّيْفِ»(2).

[4/219] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ بَشَّارٍ الْقَزْوِينِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَرَجِ المُظَفَّرُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْكُوفِيُّ الْأَسَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَىٰ ابْنُ عِمْرَانَ النَّخَعِيُّ، عَنْ عَمِّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ حُمْرَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَيِّدَ الْعَابِدِينَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (علیهما السلام) يَقُولُ: «فِي الْقَائِمِ سُنَّةٌ مِنْ نُوحٍ، وَهُوَ طُولُ الْعُمُرِ».

[5/220] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الدَّقَّاقُ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيُّ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْكُوفِيُّ، عَنْ مُوسَىٰ بْنِ عِمْرَانَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَمِّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ حُمْرَانَ، عَنْ أَبِيهِ حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَيِّدَ الْعَابِدِينَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (علیهما السلام) يَقُولُ: «فِي الْقَائِمِ سُنَّةٌ مِنْ نُوحٍ، وَهُوَ طُولُ الْعُمُرِ».

[6/221] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ سَيِّدُ الْعَابِدِينَ (علیهما السلام):

ص: 497


1- في بعض النُّسَخ: (في القائم منَّا سُنَن من ستَّة أنبياء)، وفي بعضها: (سُنَن من سبعة أنبياء). وما بين المعقوفتين ليس في بعض النُّسَخ.
2- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 231).

«الْقَائِمُ مِنَّا تَخْفَىٰ وِلَادَتُهُ عَلَىٰ النَّاسِ حَتَّىٰ يَقُولُوا: لَمْ يُولَدْ بَعْدُ، لِيَخْرُجَ حِينَ يَخْرُجُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ»(1).

[7/222] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْهَمَدَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بِسْطَامِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَمْرِوبْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ سَيِّدُ الْعَابِدِينَ (علیهما السلام): «مَنْ ثَبَتَ عَلَىٰ مُوَالَاتِنَا(2) فِي غَيْبَةِ قَائِمِنَا أَعْطَاهُ اللهُ (عزوجل)أَجْرَ أَلْفِ شَهِيدٍ مِنْ شُهَدَاءِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ»(3).

[8/223] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِصَامٍ الْكُلَيْنِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكُلَيْنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عَلِيٍّ الْقَزْوِينِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ الْحَنَّاطِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ ثَابِتٍ الثُّمَالِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهم السلام) أَنَّهُ قَالَ: «فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: «وَأُولُوا الْأَرحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ» [الأنفال: 75]، وفِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: «وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ» [الزخرف: 28]، والْإِمَامَةُ فِي عَقِبِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهما السلام) إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَإِنَّ لِلْقَائِمِ مِنَّا غَيْبَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا أَطْوَلُ مِنَ الْأُخْرَىٰ، أَمَّا الْأُولَىٰ فَسِتَّةُ أَيَّامٍ أَوْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ أَوْ سِتُّ سِنِينَ، وَأَمَّا الْأُخْرَىٰ فَيَطُولُ أَمَدُهَا حَتَّىٰ يَرْجِعَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ أَكْثَرُ مَنْ يَقُولُ بِهِ، فَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ قَوِيَ يَقِينُهُ وَصَحَّتْ مَعْرِفَتُهُ، وَلَمْ يَجِدْ فِي نَفْسِهِ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْنَا، وَسَلَّمَ لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ»(4).

ص: 498


1- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 231).
2- في بعض النُّسَخ: (علىٰ ولايتنا).
3- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 231 و232)، والراوندي (رحمة الله) في الدعوات (ص 274/ ح 787).
4- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 51/ ص 134 و135): (بيان: قوله (علیه السلام): «فستَّة أيَّام» لعلَّه إشارة إلىٰ اختلاف أحواله (علیه السلام) في غيبته، فستَّة أيَّام لم يطَّلع علىٰ ولادته إلَّا خاصُّ الخاصِّ من أهاليه (علیه السلام)، ثمّ بعد ستَّة أشهر اطَّلع عليه غيرهم من الخواصِّ، ثمّ بعد ستِّ سنين عند وفاة والده (علیه السلام) ظهر أمره لكثير من الخلق. أو إشارة إلىٰ أنَّه بعد إمامته لم يطَّلع علىٰ خبره إلىٰ ستَّة أيَّام أحد، ثمّ بعد ستَّة أشهر انتشر أمره، وبعد ستِّ سنين ظهر وانتشر أمر السفراء. والأظهر أنَّه إشارة إلىٰ بعض الأزمان المختلفة التي قُدِّرت لغيبته، وأنَّه قابل للبداء. ويُؤيِّده ما رواه الكليني بإسناده عن الأصبغ في حديث طويل قد مرَّ بعضه في باب إخبار أمير المؤمنين (علیه السلام)، ثمّ قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، وكم تكون الحيرة والغيبة؟ فقال: «ستَّة أيَّام، أو ستَّة أشهر، أو ستُّ سنين»، فقلت: وإنَّ هذا لكائن؟ فقال: «نعم، كما أنَّه مخلوق، وأنَّىٰ لك بهذا الأمر يا أصبغ؟ أُولئك خيار هذه الأُمَّة مع خيار أبرار هذه العترة»، فقلت: ثمّ ما يكون بعد ذلك؟ فقال: «ثمّ يفعل الله ما يشاء، فإنَّ له بداءات وإرادات وغايات ونهايات»، فإنَّه يدلُّ علىٰ أنَّ هذا الأمر قابل للبداء، والترديد قرينة ذلك، والله يعلم).

[9/224] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (علیهما السلام): «إِنَّ دِينَ اللهِ (تبارک و تعالی)(1) لَا يُصَابُ بِالْعُقُولِ النَّاقِصَةِ وَالْآرَاءِ الْبَاطِلَةِ وَالمَقَائِيسِ الْفَاسِدَةِ، وَلَا يُصَابُ إِلَّا بِالتَّسْلِيمِ، فَمَنْ سَلَّمَ لَنَا سَلِمَ، وَمَنِ اقْتَدَىٰ بِنَا هُدِيَ، وَمَنْ كَانَ يَعْمَلُ بِالْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ هَلَكَ، وَمَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ شَيْئاً مِمَّا نَقُولُهُ أَوْ نَقْضِي بِهِ حَرَجاً كَفَرَ بِالَّذِي أَنْزَلَ السَّبْعَ المَثَانِيَ والْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ».

* * *

ص: 499


1- يعنى أحكامه وشريعته وفرائضه وسُنَنه لا الأُمور الاعتقاديَّة التي لا يُعرَف إلَّا بالعقول وبإرشادهم (علیهم السلام).

ص: 500

الباب الثاني والثلاثون

ما أخبر به أبو جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر (علیهما السلام) من وقوع الغيبة بالقائم (علیه السلام) وأنَّه الثاني عشر من الأئمَّة (علیهم السلام)

ص: 501

ص: 502

[1/225] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْحُسَيْنِ(1) بْنِ الرَّبِيعِ المَدَائِنِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ(2)، عَنْ أُمِّ هَانِيِّ، قَالَتْ: لَقِيتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهم السلام)، فَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: «فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ 15 الْجَوَارِ الْكُنَّسِ 16» [التكوير: 15 و16]، فَقَالَ: «إِمَامٌ يَخْنِسُ فِي زَمَانِهِ عِنْدَ انْقِضَاءٍ مِنْ عِلْمِهِ سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، ثُمَّ يَبْدُو كَالشِّهَابِ الْوَقَّادِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ(3)، فَإِنْ أَدْرَكْتِ ذَلِكَ قَرَّتْ عَيْنَاكِ»(4)(5).

ص: 503


1- في بعض النُّسَخ: (الحسن)، والسند مضطرب، ففي الكافي: أحمد بن الحسن، عن عمر بن يزيد، عن الحسن بن الربيع الهمداني... إلخ.
2- في بعض النُّسَخ: (أسد بن ثعلبة).
3- تأويل لا تفسير. والخُنَّس - كرُكَّع - الكواكب كلُّها أو السيَّارة أو النجوم الخمسة. وكُنَّس الظبي يكنس دخل في كناسه وهو مستتره في الشجر، لأنَّه يكنس الرمل حتَّىٰ يصل، جمع كنس وكُنَّس كرُكَّع، والجواري الكنس هي الخُنَّس، لأنَّها تكنس في المغيب كالظباء في الكُنَّس. أو هي كلُّ النجوم، لأنَّها تبدو ليلاً وتخفىٰ نهاراً. أو الملائكة. أو بقر الوحش وظباؤه. (القاموس المحيط: ج 2/ ص 247).
4- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 119/ ح 113)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 341/ باب في الغيبة/ ح 23)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 159/ ح 116).
5- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 51/ ص 51 و52): (تفسير: قال البيضاوي: «بالخنَّس» بالكواكب الرواجع من خنس إذا تأخَّر، وهي ما سوىٰ النيِّرين من السيَّارات الجوار. «الكنَّس» أي السيَّارات التي تختفي تحت ضوء الشمس، من كنس الوحش إذا دخل كناسته. [ انتهىٰ. وأقول: علىٰ تأويله علىٰ الجمعيَّة إمَّا للتعظيم أو للمبالغة في التأخُّر، أو لشموله لسائر الأئمَّة (علیهم السلام) باعتبار الرجعة، أو لأنَّ ظهوره (علیه السلام) بمنزلة ظهور الجميع. ويحتمل أنْ يكون المراد بها الكواكب، فيكون ذكرها لتشبيه الإمام بها في الغيبة والظهور كما في أكثر البطون. «فإنْ أدركتِ» أي علىٰ الفرض البعيد أو في الرجعة. «ذلك» أي ظهوره وتمكُّنه).

[2/226] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ هَارُونَ الْفَامِيُّ(1) وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ شَاذَوَيْهِ المُؤَدِّبُ وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُورٍ وَجَعْفَرُ بْنُ الْحُسَيْنِ (رضی الله عنهما)، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَامِرٍ الْقَصَبَانِيِّ.

وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ المُغِيرَةِ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَدِّيَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَامِرٍ الْقَصَبَانِيِّ، عَنْ مُوسَىٰ بْنِ هِلَالٍ الضَّبِّيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَطَاءٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام): إِنَّ شِيعَتَكَ بِالْعِرَاقِ كَثِيرُونَ، فَوَاللهِ مَا فِي أَهْلِ بَيْتِكَ مِثْلُكَ، فَكَيْفَ لَا تَخْرُجُ؟ فَقَالَ: «يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَطَاءٍ، قَدْ أَمْكَنْتَ الْحَشْوَ(2) مِنْ أُذُنَيْكَ، وَاللهِ مَا أَنَا بِصَاحِبِكُمْ»، قُلْتُ: فَمَنْ صَاحِبُنَا؟ قَالَ: «انْظُرُوا مَنْ تَخْفَىٰ عَلَىٰ النَّاسِ وِلَادَتُهُ فَهُوَ صَاحِبُكُمْ»(3)(4).

ص: 504


1- الفامي والقاضي متَّحد، ولعلَّه القاضي الفامي، ففي بعض النُّسَخ وبعض الأسانيد: (كتب الفامي)، وفي بعضها: (القاضي).
2- الحشو: (فضل الكلام).
3- رواه بسند آخر بتفاوت يسير الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 342/ باب في الغيبة/ ح 26)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 171 و172/ باب 10/ فصل 3/ ح 7)، والحلبي في تقريب المعارف (ص 432).
4- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي (ج 6/ ص 269): (قوله: (ما في أهل بيتك مثلك) أي في العلم والعمل والصلاح والشهرة، والمراد بأهل البيت أولاد فاطمة (علیهم السلام)، وإرادة من انتسب إلىٰ قريش بعيدة). وقال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 51/ ص 34): (بيان: قال الجوهري: فلان من حشوة بني فلان بالكسر، أي من رُذَّالهم. أقول: أي تسمع كلام أراذل الشيعة وتقبل منهم في توهُّمهم أنَّ لنا أنصاراً كثيرة، وأنَّه لا بدَّ لنا من الخروج، وأنِّي القائم الموعود).

[3/227] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَىٰ بْنُ عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ الصَّيْقَلُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) فِي قَوْلِ اللهِ (تبارک و تعالی): «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ 30» [الملك: 30]، فَقَالَ: «هَذِهِ نَزَلَتْ فِي الْقَائِمِ(1)، يَقُولُ: إِنْ أَصْبَحَ إِمَامُكُمْ غَائِباً عَنْكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيْنَ هُوَ، فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِإِمَامٍ ظَاهِرٍ يَأْتِيكُمْ بِأَخْبَارِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَحَلَالِ اللهِ (جَلَّ وَعَزَّ) وَحَرَامِهِ؟»، ثُمَّ قَالَ (علیه السلام): «وَاللهِ مَا جَاءَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَجِيءَ تَأْوِيلُهَا»(2).

[4/228] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ(3)، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)، قَالَ: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ أَرْسَلَ مُحَمَّداً (صلی الله علیه و آله) إِلَىٰ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَجَعَلَ مِنْ بَعْدِهِ الِاثْنَيْعَشَرَ وَصِيًّا، مِنْهُمْ مَنْ مَضَىٰ وَمِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ، وَكُلُّ وَصِيٍّ جَرَتْ فِيهِ سُنَّةٌ مِنَ الْأَوْصِيَاءِ الَّذِينَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) عَلَىٰ سُنَّةِ أَوْصِيَاءِ عِيسَىٰ (علیه السلام)، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ، وَكَانَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) عَلَىٰ سُنَّةِ المَسِيحِ »(4)(5).

ص: 505


1- في بعض النُّسَخ: (في الإمام).
2- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 115 و116/ ح 105)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 158/ ح 115) بتفاوت يسير.
3- في بعض النُّسَخ: (عن محمّد بن الفضل).
4- رواه المصنِّف (رحمة الله) في الخصال (ص 478/ ح 43)، وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 59/ ح 21)، وابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 134/ ح 146)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 532/ باب فيما جاء في الاثني عشر والنصِّ عليهم (علیهم السلام)/ ح 10)، والمفيد (رحمة الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 345)، والكراجكي (رحمة الله) في الاستنصار (ص 17)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 141/ ح 105).
5- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول (ج 6/ ص 228 و229): («وكلُّ وصيٍّ» أي من أوصياء محمّد(صلی الله علیه و آله)، وقيل: أي من أوصياء الأنبياء أوَّلهم هبة الله وآخرهم القائم (علیهم السلام)، والأوَّل أظهر. «جرت به سُنَّة» أي أُمِرَ بسيرة وطريقة لا يتجاوزها، واختلاف سِيَرهم ظاهر، فإنَّ بعضهم كان مشتغلاً بالعبادة، وبعضهم بنشر العلوم، وبعضهم بقلَّة التقيَّة وبعضهم بكثرتها، وبعضهم قاتل وبعضهم صالح، وقد مرَّت أخبار في أنَّهم لم يفعلوا شيئاً ولا يفعلون إلَّا بعهد من الله (عزوجل)وأمر منه لا يتجاوزونه، وأنَّه نزل من السماء كتاب مختوم بخواتيم بعددهم، وأنَّ كلًّا منهم يعمل بما تحت خاتمه. «علىٰ سُنَّة أوصياء عيسىٰ» أي في العدد فما بعده مفسِّر ومتمِّم له، أو في المظلوميَّة وارتكاب التقيَّة. «علىٰ سُنَّة المسيح» أي في افتراق الناس فيه ثلاث فِرَق، فمنهم من قال بأُلوهيَّته، ومنهم من خطَّأه وأكفره، ومنهم من ثبت علىٰ الحقِّ وقال بإمامته، أو في زهده وعبادته وخشونة الملبس وجشوبة المطعم). وقال (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 36/ ح 392): (بيان: كونه (علیه السلام) علىٰ سُنَّة المسيح إشارة إلىٰ ما مرَّ من أنَّ الأُمَّة تفترق فيه ثلاث فِرَق، وأمَّا السُّنَن التي جرت في كلٍّ منهم فهنَّ ما اشتهر بواحدة منهنَّ كلٌّ منهم وغلبت عليه بحسب أحوال أهل زمانه، فمنهم من غلبت عليه العبادة، ومنهم من اشتغل بنشر العلوم، إلىٰ غير ذلك).

[5/229] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَمَّادٍ الْأَنْصَارِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ جَمِيعاً، عَنْ أَبِي الْجَارُودِ زِيَادِ بْنِ المُنْذِرِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ (علیهما السلام)، قَالَ: قَالَ لِي: «يَا أَبَا الْجَارُودِ، إِذَا دَارَتِ الْفَلَكُ، وَقَالَ النَّاسُ: مَاتَ الْقَائِمُ أَوْ هَلَكَ، بِأَيِّ وَادٍ سَلَكَ؟ وَقَالَ الطَّالِبُ: أَنَّىٰ يَكُونُ ذَلِكَ وَقَدْ بُلِيَتْ عِظَامُهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ فَارْجُوهُ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ فَأْتُوهُ وَلَوْ حَبْواً عَلَىٰ الثَّلْجِ(1) »(2).

[6/230] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (علیه السلام) يَقُولُ: «فِي صَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ أَرْبَعُ سُنَنٍ مِنْ أَرْبَعَةِ

ص: 506


1- الحبو: أنْ يمشي علىٰ يديه وركبتيه.
2- رواه النعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 156/ باب 10/ فصل 1/ ح 12) بسند آخر، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 232).

أَنْبِيَاءَ (علیهم السلام): سُنَّةٌ مِنْ مُوسَىٰ، وَسُنَّةٌ مِنْ عِيسَىٰ، وَسُنَّةٌ مِنْ يُوسُفَ، وَسُنَّةٌ مِنْ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله). فَأَمَّا مِنْ مُوسَىٰ فَخَائِفٌ يَتَرَقَّبُ، وَأَمَّا مِنْ يُوسُفُ فَالْحَبْسُ، وَأَمَّا مِنْ عِيسَىٰ فَيُقَالُ: إِنَّهُ مَاتَ، وَلَمْ يَمُتْ، وَأَمَّا مِنْ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) فَالسَّيْفُ »(1).

حدَّثنا أحمد بن زياد الهمداني (رضی الله عنه)، قال: حدَّثنا عليُّ بن إبراهيم بن هاشم، عن محمّد بن عيسىٰ، عن سليمان بن داود، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (علیه السلام) بمثل ذلك .

[7/231] وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِصَامٍ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ [الْكُلَيْنِيُّ]، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَزْوِينِيُّ(2)، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ الْحَنَّاطِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الثَّقَفِيِّ الطَّحَّانِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىٰ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ (علیهما السلام) وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنِ الْقَائِمِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (صلَّىٰ الله عليه وعليهم)، فَقَالَ لِي مُبْتَدِئاً: «يَا مُحَمَّدَ بْنَ مُسْلِمٍ، إِنَّ فِي الْقَائِمِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) شَبَهاً مِنْ خَمْسَةٍ مِنَ الرُّسُلِ: يُونُسَ بْنِ مَتَّىٰ، وَيُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، وَمُوسَىٰ، وَعِيسَىٰ، وَمُحَمَّدٍ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِم).

فَأَمَّا شَبَهُهُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّىٰ فَرُجُوعُهُ مِنْ غَيْبَتِهِ وَهُوَ شَابٌّ بَعْدَ كِبَرِ السِّنِّ. وَأَمَّا شَبَهُهُ مِنْ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ (علیهما السلام) فَالْغَيْبَةُ مِنْ خَاصَّتِهِ وَعَامَّتِهِ، وَاخْتِفَاؤُهُ مِنْ إِخْوَتِهِ، وَإِشْكَالُ أَمْرِهِ عَلَىٰ أَبِيهِ يَعْقُوبَ (علیه السلام) مَعَ قُرْبِ المَسَافَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ وَأَهْلِهِ وَشِيعَتِهِ. وَأَمَّا شَبَهُهُ مِنْ مُوسَىٰ (علیه السلام) فَدَوَامُ خَوْفِهِ، وَطُولُ غَيْبَتِهِ، وَخَفَاءُ وِلَادَتِهِ، وَتَعَبُ شِيعَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِمَّا لَقُوا مِنَ الْأَذَىٰ وَالْهَوَانِ إِلَىٰ أَنْ أَذِنَ اللهُ (عزوجل)فِي ظُهُورِهِ وَنَصْرِهِ وَأَيَّدَهُ عَلَىٰ عَدُوِّهِ. وَأَمَّا شَبَهُهُ مِنْ عِيسَىٰ (علیه السلام) فَاخْتِلَافُ مَنِ

ص: 507


1- قد مرَّ تحت الرقم (16/5)، فراجع.
2- لم أجده، وكذا شيخه.

اخْتَلَفَ فِيهِ حَتَّىٰ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: مَا وُلِدَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَاتَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: قُتِلَ وَصُلِبَ. وَأَمَّا شَبَهُهُ مِنْ جَدِّهِ المُصْطَفَىٰ (صلی الله علیه و آله) فَخُرُوجُهُ بِالسَّيْفِ(1)، وَقَتْلُهُ أَعْدَاءَ اللهِ وَأَعْدَاءَ رَسُولِهِ (صلی الله علیه و آله) وَالْجَبَّارِينَ وَالطَّوَاغِيتَ، وَأَنَّهُ يُنْصَرُبِالسَّيْفِ وَالرُّعْبِ، وَأَنَّهُ لَا تُرَدُّ لَهُ رَايَةٌ.

وَإِنَّ مِنْ عَلَامَاتِ خُرُوجِهِ: خُرُوجَ السُّفْيَانِيِّ مِنَ الشَّامِ، وَخُرُوجَ الْيَمَانِيِّ [مِنَ الْيَمَنِ]، وَصَيْحَةً مِنَ السَّمَاءِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَمُنَادٍ يُنَادِي مِنَ السَّمَاءِ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ ».

[8/232] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ ابْنِ أَبِي الْخَطَّابِ وَالْهَيْثَمُ بْنُ أَبِي مَسْرُوقٍ النَّهْدِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ السَّرَّادِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رِئَابٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ : إِنَّ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَىٰ اللهِ (عزوجل)وَأَعْلَمَهُمْ بِهِ وَأَرْأَفَهُمْ بِالنَّاسِ مُحَمَّدٌ (صلی الله علیه و آله) وَالْأَئِمَّةُ (علیهم السلام)، فَادْخُلُوا أَيْنَ دَخَلُوا وَفَارِقُوا مَنْ فَارَقُوا - عَنَىٰ بِذَلِكَ حُسَيْناً وَوُلْدَهُ (علیهم السلام) -، فَإِنَّ الْحَقَّ فِيهِمْ، وَهُمُ الْأَوْصِيَاءُ، وَمِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ، فَأَيْنَمَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاتَّبِعُوهُمْ، وَإِنْ أَصْبَحْتُمْ يَوْماً لَا تَرَوْنَ مِنْهُمْ أَحَداً فَاسْتَغِيثُوا بِاللهِ (تبارک و تعالی)، وَانْظُرُوا السُّنَّةَ الَّتِي كُنْتُمْ عَلَيْهَا وَاتَّبِعُوهَا، وَأَحِبُّوا مَنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ، وَأَبْغِضُوا مَنْ كُنْتُمْ تُبْغِضُونَ، فَمَا أَسْرَعَ مَا يَأْتِيكُمُ الْفَرَجُ ».

[9/233] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (علیهما السلام)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عِيسَىٰ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (علیه السلام): «مَا أَجَابَ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) أَحَدٌ قَبْلَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَخَدِيجَةَ (علیهما السلام)، وَلَقَدْ مَكَثَ

ص: 508


1- في بعض النُّسَخ: (فتجريده السيف).

رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) بِمَكَّةَ ثَلَاثَ سِنِينَ مُخْتَفِياً خائِفاً يَتَرَقَّبُ وَيَخَافُقَوْمَهُ وَالنَّاسَ(1) ... »، والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة إليه .

[10/234] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ هَمَّامٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ سَمَاعَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ (علیهما السلام)، قَالَ: «إِذَا قَامَ الْقَائِمُ (علیه السلام) قَالَ: «فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ 21» [الشعراء: 21]»(2).

[11/235] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَىٰ بْنُ عِمْرَانَ النَّخَعِيُّ، عَنْ عَمِّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ النَّوْفَلِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، [عَنْ أَبِيهِ]، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (علیه السلام) يَقُولُ: «فِي صَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ سُنَّةٌ مِنْ مُوسَىٰ، وَسُنَّةٌ مِنْ عِيسَىٰ، وَسُنَّةٌ مِنْ يُوسُفَ، وَسُنَّةٌ مِنْ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله). فَأَمَّا مِنْ مُوسَىٰ فَخَائِفٌ يَتَرَقَّبُ، وَأَمَّا مِنْ عِيسَىٰ فَيُقَالُ فِيهِ مَا [قَدْ] قِيلَ فِي عِيسَىٰ، وَأَمَّا مِنْ يُوسُفَ فَالسِّجْنُ وَالْغَيْبَةُ، وَأَمَّا مِنْ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) فَالْقِيَامُ بِسِيرَتِهِ وَتَبْيِينُ آثَارِهِ(3)، ثُمَّ يَضَعُ سَيْفَهُ عَلَىٰ عَاتِقِهِ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، فَلَا يَزَالُ يَقْتُلُ أَعْدَاءَ اللهِ حَتَّىٰ يَرْضَىٰ اللهُ (تبارک و تعالی)»، قُلْتُ: وَكَيْفَ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ تَعَالَىٰ قَدْ رَضِيَ؟ قَالَ: «يُلْقِي اللهُ (عزوجل)فِي قَلْبِهِ الرَّحْمَةَ».

[12/236] حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبْدُوسٍ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو الْكَشِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ

ص: 509


1- في مناسبة الحديث بالباب تأمُّل، إلَّا أنْ يقال: ذُكِرَ بمناسبة ما ذُكِرَ في ذيل الحديث السابق: (وانظروا السُّنَّة التي كنتم عليها)، وهذا أيضاً غير وجيه.
2- رواه النعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 180/ باب 10/ فصل 4/ ح 12) بسند آخر.
3- في بعض النُّسَخ: (فالقيام بالسيف وتبيين آثاره).

الْقُمِّيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَىٰ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الْأَزْدِيِّ، عَنْ ضُرَيْسٍ الْكُنَاسِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (علیه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْأَمْرِ فِيهِ سُنَّةٌ مِنْ يُوسُفَ، ابْنُ أَمَةٍ سَوْدَاءَ، يُصْلِحُ اللهُ (عزوجل)أَمْرَهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ»(1)(2).

[13/237] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَبْرَئِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَىٰ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ وَهْبٍ الْبَغْدَادِيُّ وَيَعْقُوبُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي خَلَفٍ الزَّامِّ(3)، عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ خَرَّبُوذَ، قَالَ : قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ (علیه السلام): أَخْبِرْنِي عَنْكُمْ، قَالَ: «نَحْنُ بِمَنْزِلَةِ النُّجُومِ إِذَا خَفِيَ نَجْمٌ بَدَا نَجْمٌ، [مِنَّا] أَمْنٌ وَأَمَانٌ وَسِلْمٌ وَإِسْلَامٌ وَفَاتِحٌ وَمِفْتَاحٌ، حَتَّىٰ إِذَا اسْتَوَىٰ بَنُو عَبْدِ المُطَّلِبِ فَلَمْ يُدْرَ أَيٌّ مِنْ أَيٍّ أَظْهَرَ اللهُ (عزوجل)[لَكُمْ] صَاحِبَكُمْ، فَاحْمَدُوا اللهَ (تبارک و تعالی)، وَهُوَ يُخَيَّرُ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ»، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ فَأَيَّهُمَا يَخْتَارُ؟ قَالَ: «يَخْتَارُ الصَّعْبَ عَلَىٰ الذَّلُولِ »(4)(5).

[14/238] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ نَصْرِ بْنِ الصَّبَّاحِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُهَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللهِ أَخُو أَبِي عَلِيٍّ الْكَابُليِّ، عَنِ

ص: 510


1- رواه النعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 166/ باب 10/ فصل 3/ ح 4) بسند آخر.
2- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج ٥١/ ص 219): (بيان: قوله (علیه السلام): «ابن أَمَة سوداء» يخالف كثيراً من الأخبار التي وردت في وصف أُمِّه (علیه السلام) ظاهراً، إلَّا أنْ يُحمَل علىٰ الأُمِّ بالواسطة أو المربّية).
3- هو سعد بن أبي خلف الزهري مولاهم الزَّام، ثقة، من أصحاب الكاظم (علیه السلام).
4- رواه الطبري (رحمة الله) في دلائل الإمامة (ص 533 و534/ ح 515/119) بتفاوت يسير.
5- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 51/ ص 137): (بيان: «لم يُدْرَ أيٌّ من أيٍّ»: لا يُعرَف أيُّهم الإمام، أو لا يتميَّزون في الكمال تميُّزاً بيِّناً، لعدم كون الإمام ظاهراً بينهم. والصعب والذلول إشارة إلىٰ السحابتين اللتين خُيِّر ذو القرنين بينهما، فاختار الذلول، وترك الصعب للقائم (علیه السلام).

الْقَابُوسِيِّ، عَنْ نَصْرِ بْنِ السِّنْدِيِّ، عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ عَمْرٍو(1)، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْفَزَارِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ أُمِّ هَانِيٍّ الثَّقَفِيَّةِ، قَالَتْ: غَدَوْتُ عَلَىٰ سَيِّدِي مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ (علیهما السلام)، فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَيِّدِي آيَةٌ فِي كِتَابِ اللهِ (عزوجل)عَرَضَتْ بِقَلْبِي، فَأَقْلَقَتْنِي وَأَسْهَرَتْ لَيْلي، قَالَ: «فَسَلِي يَا أُمَّ هَانِيٍّ»، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا سَيِّدِي، قَوْلُ اللهِ (تبارک و تعالی): «فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ 15 الْجَوَارِ الْكُنَّسِ 16» [التكوير: 15 و16]، قَالَ: «نِعْمَ المَسْأَلَةُ سَأَلْتِينِي يَا أُمَّ هَانِيٍّ، هَذَا مَوْلُودٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ هُوَ المَهْدِيُّ مِنْ هَذِهِ الْعِتْرَةِ، تَكُونُ لَهُ حَيْرَةٌ وغَيْبَةٌ يَضِلُّ فِيهَا أَقْوَامٌ وَيَهْتَدِي فِيهَا أَقْوَامٌ، فَيَا طُوبَىٰ لَكِ إِنْ أَدْرَكْتِيهِ، وَيَا طُوبَىٰ لِمَنْ أَدْرَكَهُ ».

[15/239] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبَرْقِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ المُغِيرَةِ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ جَابِرٍ(2)، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ (علیه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «يَأْتِي عَلَىٰ النَّاسِ زَمَانٌ يَغِيبُ عَنْهُمْ إِمَامُهُمْ، فَيَا طُوبَىٰ لِلثَّابِتِينَ عَلَىٰ أَمْرِنَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، إِنَّ أَدْنَىٰ مَا يَكُونُلَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ أَنْ يُنَادِيَهُمُ الْبَارِئُ (جل جلاله) فَيَقُولَ: عِبَادِي(3) وَإِمَائِي، آمَنْتُمْ بِسِرِّي، وَصَدَّقْتُمْ بِغَيْبِي، فَأَبْشِرُوا بِحُسْنِ الثَّوَابِ مِنِّي، فَأَنْتُمْ عِبَادِي وَإِمَائِي حَقًّا، مِنْكُمْ أَتَقَبَّلُ، وَعَنْكُمْ أَعْفُو، وَلَكُمْ أَغْفِرُ، وَبِكُمْ أَسْقِي عِبَادِيَ الْغَيْثَ وَأَدْفَعُ عَنْهُمُ الْبَلَاءَ، وَلَوْلَاكُمْ لَأَنْزَلْتُ عَلَيْهِمْ عَذَابِي»، قَالَ جَابِرٌ: فَقُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، فَمَا أَفْضَلُ مَا يَسْتَعْمِلُهُ المُؤْمِنُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ؟ قَالَ: «حِفْظُ اللِّسَانِ وَلُزُومُ الْبَيْتِ».

[16/240] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِصَامٍ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ

ص: 511


1- السند مشتمل علىٰ مجاهيل ومهملين.
2- يعني جابر الجعفي.
3- في بعض النُّسَخ: (عبيدي).

يَعْقُوبَ الْكُلَيْنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَزْوِينِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ الْحَنَّاطِ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ مُسْلِمٍ الثَّقَفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ الْبَاقِرَ (علیهما السلام) يَقُولُ: «الْقَائِمُ مِنَّا مَنْصُورٌ بِالرُّعْبِ، مُؤَيَّدٌ بِالنَّصْرِ، تُطْوَىٰ لَهُ الْأَرْضُ، وَتَظْهَرُ لَهُ الْكُنُوزُ، يَبْلُغُ سُلْطَانُهُ المَشْرِقَ وَالمَغْرِبَ، وَيُظْهِرُ اللهُ (عزوجل)بِهِ دَيْنَهُ عَلَىٰ الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ، فَلَا يَبْقَىٰ فِي الْأَرْضِ خَرَابٌ إِلَّا قَدْ عُمِرَ، وَيَنْزِلُ رُوحُ اللَّهِ عِيسَىٰ بْنُ مَرْيَمَ (علیه السلام) فَيُصَلِّي خَلْفَهُ»، قَالَ: قُلْتُ(1): يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، مَتَىٰ يَخْرُجُ قَائِمُكُمْ؟ قَالَ: «إِذَا تَشَبَّهَ الرِّجَالُ بِالنِّسَاءِ، وَالنِّسَاءُ بِالرِّجَالِ، وَاكْتَفَىٰ الرِّجَالُ بِالرِّجَالِ، وَالنِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ، وَرَكِبَ ذَوَاتُ الْفُرُوجِ السُّرُوجَ، وَقُبِلَتْ شَهَادَاتُ الزُّورِ، وَرُدَّتْ شَهَادَاتُ الْعُدُولِ، وَاسْتَخَفَّ النَّاسُ بِالدِّمَاءِ، وَارْتِكَابِ الزِّنَاءِ، وَأُكِلَ الرِّبَا، وَاتُّقِيَ الْأَشْرَارُمَخَافَةَ أَلْسِنَتِهِمْ، وَخُرُوجُ السُّفْيَانِيِّ مِنَ الشَّامِ، وَالْيَمَانِيِّ مِنَ الْيَمَنِ، وَخَسْفٌ بِالْبَيْدَاءِ، وَقَتْلُ غُلَامٍ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) بَيْنَ الرُّكْنِ وَالمَقَامِ، اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ النَّفْسُ الزَّكِيَّةُ، وَجَاءَتْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ وَفِي شِيعَتِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ خُرُوجُ قَائِمِنَا، فَإِذَا خَرَجَ أَسْنَدَ ظَهْرَهُ إِلَىٰ الْكَعْبَةِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً، وَأَوَّلُ مَا يَنْطِقُ بِهِ هَذِهِ الْآيَةُ: «بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» [هود: 86]، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا بَقِيَّةُ اللهِ فِي أَرْضِهِ وَخَلِيفَتُهُ وَحُجَّتُهُ عَلَيْكُمْ، فَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ مُسَلِّمٌ إِلَّا قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا بَقِيَّةَ اللهِ فِي أَرْضِهِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ الْعِقْدُ(2) - وَهُوَ عَشَرَةُ آلَافِ رَجُلٍ - خَرَجَ، فَلَا يَبْقَىٰ فِي الْأَرْضِ مَعْبُودٌ

ص: 512


1- في بعض النُّسَخ: (خلفه، فقلت).
2- في بعض النُّسَخ: (فإذا اجتمع له العقد).

دُونَ اللهِ (عزوجل)مِنْ صَنَمٍ [وَوَثَنٍ] وَغَيْرِهِ إِلَّا وَقَعَتْ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَ، وَذَلِكَ بَعْدَ غَيْبَةٍ طَوِيلَةٍ، لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يُطِيعُهُ بِالْغَيْبِ وَيُؤْمِنُ بِهِ »(1).

[17/241] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ الْعَلَوِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ، قَالَ: كَتَبْتُ مِنْ كِتَابِ أَحْمَدَ الدَّهَّانِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ حَمْزَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِسْمَاعِيلَ السَّرَّاجُ، عَنْ خَيْثَمَةَ الْجُعْفِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ المَخْزُومِيُّ(2)، قَالَ: ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ (علیهما السلام) سَيْرَ الْخُلَفَاءِ الْاِثْنَيْ عَشَرَ الرَّاشِدِينَ [صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِم]، فَلَمَّا بَلَغَآخِرَهُمْ قَالَ: «الثَّانِي عَشَرَ الَّذِي يُصَلِّي عِيسَىٰ بْنُ مَرْيَمَ (علیه السلام) خَلْفَهُ، [عَلَيْكَ] بِسُنَّتِهِ وَالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ(3)».

هذا آخر الجزء الأوَّل(4) من كتاب ([إ]كمال الدِّين و[إ]تمام النعمة في إثبات الغيبة وكشف الحيرة) تصنيف الشيخ الفقيه(5) [الصدوق] أبي جعفر محمّد ابن عليِّ الحسين بن موسىٰ بن بابويه القمِّي (رضی الله عنه).

ويتلوه الجزء الثاني أوَّله باب ما روي عن الصادق جعفر بن محمّد (علیهما السلام) من النصِّ علىٰ القائم (علیه السلام).

* * *

ص: 513


1- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 291 و292).
2- في بعض النُّسَخ: (أبو لبيد المخزومي).
3- كذا في جميع النُّسَخ المخطوطة عندي، وفي بحار الأنوار (ج 51/ ص 137) أيضاً، إلَّا أنَّ في نسخة ثمينة بدون (عليك)، والحديث كما ترىٰ فيه تقطيع. والضمير في (بسُنَّته) راجع إلىٰ النبيِّ(صلی الله علیه و آله) إنْ كانت مع (عليك)، وبدونه راجع إلىٰ الصاحب (علیه السلام) كما هو الظاهر.
4- في بعض النُّسَخ: (تمَّ الجزء الأوَّل)، وفي بعضها: (نجز الجزء الأوَّل).
5- في بعض النُّسَخ: (الشيخ العالم الصدوق).

ص: 514

الفهرس

مقدّمة المركز. 3

أهمّيَّة هذا المُصنَّف.. 8

عملنا في الكتاب.. 10

مقدّمة المؤلِّف.. 13

[سبب تأليف الكتاب] 17

[الخليفة قبل الخليقة] 18

[وجوب طاعة الخليفة] 20

[ليس لأحد أنْ يختار الخليفة إلَّا الله (تبارک و تعالی)] 24

[وجوب وحدة الخليفة في كلِّ عصر] 25

[لزوم وجود الخليفة] 25

[وجوب عصمة الإمام] 25

[السرُّ في أمره تعالىٰ الملائكة بالسجود لآدم (علیه السلام)] 29

[وجوب معرفة المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)] 36

[إثبات الغيبة والحكمة فيها] 37

[ردُّ إشكال] 40

[وجه آخر لإثبات المشاكلة] 42

[ردُّ إشكال] 46

[الكيسانيَّة] 50

ص: 515

[إبطال قول الناووسيَّة والواقفة في الغيبة] 56

[ادِّعاء الواقفة الغيبة علىٰ العسكري (علیه السلام)] 60

[جواب عن اعتراض] 67

[جواب عن اعتراض آخر] 70

[اعتراضات لابن بشَّار] 75

[كلام لأحد المشايخ في الردِّ علىٰ الزيديَّة] 89

[استدلال علىٰ وجود إمام غائب من العترة يظهر ويملأ الأرض عدلاً] 91

[اعتراضات للزيديَّة] 93

[اعتراض آخر للزيديَّة] 95

[اعتراض آخر] 98

[اعتراض آخر] 103

[اعتراض آخر] 106

[اعتراض آخر] 108

[الجواب] 108

[اعتراض آخر] 109

[اعتراض آخر لبعضهم] 111

[شُبُهات من المخالفين ودفعها] 112

[مناظرة المؤلِّف مع ملحد عند ركن الدولة] 118

الباب الأوَّل: في غيبة إدريس النبيِّ (علیه السلام) (وفيه حديث واحد طويل) 165

الباب الثاني: في ذكر ظهور نوح (علیه السلام) بالنبوَّة بعد ذلك (وفيه 4 أحاديث). 175

الباب الثالث: ذكر غيبة صالح النبيِّ (علیه السلام) (وفيه حديث واحد) 183

الباب الرابع: في غيبة إبراهيم (علیه السلام) (وفيه حديثان) 187

ص: 516

الباب الخامس: في غيبة يوسف (علیه السلام) (وفيه 3 أحاديث) 197

الباب السادس: في غيبة موسىٰ (علیه السلام) (وفيه 5 أحاديث) 205

الباب السابع: ذكر مضيِّ موسىٰ (علیه السلام) ووقوع الغيبة بالأوصياء والحُجَج من بعده إلىٰ أيَّام المسيح (علیه السلام) (وفيه حديث واحد طويل) 219

الباب الثامن: بشارة عيسىٰ بن مريم (علیه السلام) بالنبيِّ محمّد المصطفىٰ (صلی الله علیه و آله) (وفيه 3 أحاديث) 229

الباب التاسع: خبر سلمان الفارسي (رحمة الله عليه) في ذلك (وفيه خبر واحد طويل) 235

الباب العاشر: في خبر قُسِّ بن ساعدة الأيادي (وفيه 3 أحاديث) 243

الباب الحادي عشر: في خبر تُبَّع (وفيه 3 أحاديث). 249

الباب الثاني عشر: في خبر عبد المطَّلب وأبي طالب (وفيه 6 أحاديث) 253

الباب الثالث عشر: في خبر سيف بن ذي يزن (وفيه حديث واحد). 263

الباب الرابع عشر: في خبر بحيرىٰ الراهب (وفيه 3 أحاديث).. 271

الباب الخامس عشر: ذكر ما حكاه خالد بن أسيد بن أبي العيص وطليق بن سفيان ابن أُميَّة عن كبير الرهبان في طريق الشام من معرفته بأمر النبيِّ (صلی الله علیه و آله)

(وفيه حديث واحد) 281

الباب السادس عشر: في خبر أبي المويهب الراهب (وفيه حديث واحد) 285

الباب السابع عشر: خبر سطيح الكاهن (وفيه حديث واحد). 289

الباب الثامن عشر: خبر يوسف اليهودي بالنبيِّ (صلی الله علیه و آله) وبصفاته وعلاماته (وفيه حديث واحد) 297

الباب التاسع عشر: خبر

[دواس] بن حواش المقبل من الشام (وفيه حديث واحد) 301

ص: 517

الباب العشرون: خبر زيد بن عمرو بن نفيل (وفيه 5 أحاديث) 305

الباب الحادي والعشرون: العلَّة التي من أجلها يُحتاج إلىٰ الإمام (علیه السلام) (وفيه 23 حديثاً) 311

الباب الثاني والعشرون: اتِّصال الوصيَّة من لدن آدم (علیه السلام) وأنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة لله (عزوجل)علىٰ خلقه إلىٰ يوم القيامة (وفيه 65 حديثاً). 329

[معنىٰ العترة والآل والأهل والذرّيَّة والسلالة] 370

الباب الثالث والعشرون: نصُّ الله تبارك وتعالىٰ علىٰ القائم (علیه السلام) وأنَّه الثاني عشر من الأئمَّة (علیهم السلام) (وفيه 4 أحاديث) 381

الباب الرابع والعشرون: ما روي عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله) في النصِّ علىٰ القائم (علیه السلام) وأنَّه الثاني عشر من الأئمَّة (علیهم السلام) (وفيه 37 حديثاً) 393

الباب الخامس والعشرون:

ما أخبر به النبيُّ (صلی الله علیه و آله)

من وقوع الغيبة بالقائم (علیه السلام) (وفيه 8 أحاديث) 433

الباب السادس والعشرون: ما أخبر به أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (علیه السلام) من وقوع الغيبة بالقائم الثاني عشر من الأئمَّة (علیهم السلام) (وفيه 19 حديثاً) 439

الباب السابع والعشرون: ما روي عن سيِّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) من حديث الصحيفة وما فيها من أسماء الأئمَّة وأسماء أُمَّهاتهم وأنَّ الثاني عشر منهم القائم (علیه السلام) (وفيه حديث واحد) 463

الباب الثامن والعشرون: ذكر النصِّ علىٰ القائم (علیه السلام) في اللوح الذي أهداه الله (عزوجل)إلىٰ رسوله (صلی الله علیه و آله) ودفعه إلىٰ فاطمة (علیها السلام) فعرضته علىٰ جابر بن عبد الله الأنصاري حتَّىٰ قرأه وانتسخه وأخبر به أبا جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر (علیهما السلام) بعد ذلك (وفيه 4 أحاديث) 469

الباب التاسع والعشرون:

ما أخبر به الحسن بن عليِّ بن أبي طالب (علیهما السلام) من وقوع الغيبة بالقائم (علیه السلام) وأنَّه الثاني عشر من الأئمَّة (علیهم السلام) (وفيه حديثان) 479

ص: 518

الباب الثلاثون: ما أخبر به الحسين بن عليِّ بن أبي طالب (علیهما السلام) من وقوع الغيبة بالقائم (علیه السلام) وأنَّه الثاني عشر من الأئمَّة (علیهم السلام) (وفيه 5 أحاديث) 485

الباب الحادي والثلاثون: ما أخبر به سيِّد العابدين عليُّ بن الحسين (علیهما السلام) من وقوع الغيبة بالقائم (علیه السلام) وأنَّه الثاني عشر من الأئمَّة (علیهم السلام) (وفيه 9 أحاديث) 491

الباب الثاني والثلاثون: ما أخبر به أبو جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر (علیهما السلام) من وقوع الغيبة بالقائم (علیه السلام) وأنَّه الثاني عشر من الأئمَّة (علیهم السلام) (وفيه 17 حديثاً) 501

الفهرس.. 515

* * *

ص: 519

المجلد 2

هویة الکتاب

كَمالُ الدِّين وَ تَمَامُ النِّعمَة

تأليف: الشيخ الجليل الأقدم أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي الصدوق (رحمة الله)

المتوفى سنة (381ه)

الجزء الثاني

تقديم وتحقيق: مَرکَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّیَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَی فَرَجَهُ الشَّریف

ص: 1

اشارة

مَرکَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّیَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَی فَرَجَهُ الشَّریف

اسم الکتاب: ......... كَمالُ الدِّين وَ تَمَامُ النِّعمَة / الجزء الأول

تأليف: .......... الشيخ الصدوق (رحمة الله)

تقديم وتحقيق: ........... مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)

رقم الإصدار: 258

الطبعة:.................... الأولى 1442ه

عدد النسخ: ........... 1000

--------------------

جمیع حقوق الطبع والنشر محفوظة للمرکز

العراق - النجف الأشرف

هاتف: 07809744474 - 07816787226

www.m-mahdi.com

info@m-mahdi.com

ص: 2

الباب الثالث والثلاثون:

ما روي عن الصادق جعفر بن محمّد (علیهما السلام) من النصِّ على القائم (علیه السلام) وذكر غيبته وأنَّه الثاني عشر من الأئمَّة (علیهم السلام)

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وصلَّىٰ الله علىٰ سيِّدنا محمّد وَآله الطاهرين.

قَالَ [الشَّيْخُ الْفَقِيهُ] أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَىٰ بْنِ بَابَوَيْهِ الْقُمِّيُّ [الْفَقِيهُ] مُصَنِّفُ هَذَا الْكِتَابِ (رحمة الله):

[1/242] حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِدْرِيسَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ أَيُّوبَ ابْنِ نُوحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام) أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَقَرَّ بِجَمِيعِ الْأَئِمَّةِ وَجَحَدَ المَهْدِيَّ كَانَ كَمَنْ أَقَرَّ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَجَحَدَ مُحَمَّداً (صلی الله علیه و آله) نُبُوَّتَهُ»، فَقِيلَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، فَمَنِ المَهْدِيُّ مِنْ وُلْدِكَ؟ قَالَ: «الْخَامِسُ مِنْ وُلْدِ السَّابِعِ، يَغِيبُ عَنْكُمْ شَخْصُهُ، وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ تَسْمِيَتُهُ»(1).

[2/243] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الزَّيْتُونِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ أَبِي حَبَّةَ(2)، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «إِذَا اجْتَمَعَتْ ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍمُتَوَالِيَةً: مُحَمَّدٌ، وَعَلِيٌّ، وَالْحَسَنُ، فَالرَّابِعُ الْقَائِمُ»(3).

ص: 5


1- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 234).
2- كذا، وفي بعض النُّسَخ: (أبي الهيثم بن أبي نجيَّة)، وفي بعضها: (أبي الحيَّة)، ولم أجده، ويحتمل بعيداً كونه مصحَّف إبراهيم بن أبي حبَّة اليسع بن سعد المكّي الذي عنونه الشيخ في رجال الصادق (علیه السلام)، وقال: ضعيف. (رجال الطوسي: ص 158/ الرقم 1763/67). أو كونه الهيثم ابن عروة التميمي الكوفي الثقة. ولفظ (أبي) من زيادات النُّسَّاخ، ويُؤيِّد الثاني ذكره مع النسبة في الخبر الآتي تحت الرقم (244/3).
3- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 113 و114/ ح 101)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 233/ ح 201).

[3/244] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ هَمَّامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَابُنْدَاذَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ هِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَيْسِيُّ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ التَّمِيمِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «إِذَا تَوَالَتْ ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ: مُحَمَّدٌ، وَعَلِيٌّ، وَالْحَسَنُ، كَانَ رَابِعُهُمْ قَائِمُهُمْ»(1).

[4/245] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّقَّاقُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْكُوفِيُّ، عَنْ مُوسَىٰ بْنِ عِمْرَانَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَمِّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ النَّوْفَلِيِّ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىٰ سَيِّدِي جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام)، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، لَوْ عَهِدْتَ إِلَيْنَا فِي الْخَلَفِ مِنْ بَعْدِكَ، فَقَالَ لِي: «يَا مُفَضَّلُ، الْإِمَامُ مِنْ بَعْدِي ابْنِي مُوسَىٰ، وَالْخَلَفُ المَأْمُولُ المُنْتَظَرُ (م ح م د) بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَىٰ».

[5/246] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبَرْقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ جَدِّي أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ سِنَانٍ وَأَبِي عَلِيٍّ الزَّرَّادِ جَمِيعاً، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْكَرْخِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىٰ أَبِي عَبْدِ اللهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ (علیهما السلام) وَإِنِّي لَجَالِسٌ عِنْدَهُ إِذْ دَخَلَ أَبُو الْحَسَنِ مُوسَىٰ بْنُ جَعْفَرٍ (علیهما السلام) وَهُوَ غُلَامٌ،فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقَبَّلْتُهُ وَجَلَسْتُ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «يَا إِبْرَاهِيمُ، أَمَا إِنَّهُ [لَ-]صَاحِبُكَ مِنْ بَعْدِي، أَمَا لَيَهْلِكَنَّ فِيهِ أَقْوَامٌ وَيَسْعَدُ [فِيهِ] آخَرُونَ، فَلَعَنَ اللهُ قَاتِلَهُ وَضَاعَفَ عَلَىٰ رُوحِهِ الْعَذَابَ، أَمَا لَيُخْرِجَنَّ اللهُ مِنْ صُلْبِهِ خَيْرَ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي زَمَانِهِ، سَمِيَّ جَدِّهِ وَوَارِثَ عِلْمِهِ وَأَحْكَامِهِ وَفَضَائِلِهِ، [وَ]مَعْدِنَ الْإِمَامَةِ، وَرَأْسَ الْحِكْمَةِ، يَقْتُلُهُ جَبَّارُ بَنِي فُلَانٍ، بَعْدَ عَجَائِبَ طَرِيفَةٍ

ص: 6


1- رواه المسعودي في إثبات الوصيَّة (ص 268)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 189/ باب 10/ فصل 4/ ذيل الحديث 34)، والخزَّاز في كفاية الأثر (ص 285)، والطبري في دلائل الإمامة (ص 447/ ح 422/26) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله).

حَسَداً لَهُ، وَلَكِنَّ اللهَ [عزوجل] بالِغُ أَمْرِهِ ولَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ، يُخْرِجُ اللهُ مِنْ صُلْبِهِ تَكْمِلَةَ اثْنَيْ عَشَرَ(1) إِمَاماً مَهْدِيًّا، اخْتَصَّهُمُ اللهُ بِكَرَامَتِهِ وَأَحَلَّهُمْ دَارَ قُدْسِهِ، المُنْتَظِرُ لِلثَّانِي عَشَرَ مِنْهُمْ(2) كَالشَّاهِرِ سَيْفَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) يَذُبُّ عَنْهُ».

قَالَ: فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ مَوَالِي بَنِي أُمَيَّةَ، فَانْقَطَعَ الْكَلَامُ، فَعُدْتُ إِلَىٰ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) إِحْدَىٰ عَشْرَةَ مَرَّةً أُرِيدُ مِنْهُ أَنْ يَسْتَتِمَّ الْكَلَامَ فَمَا قَدَرْتُ عَلَىٰ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ قَابِلُ - السَّنَةِ الثَّانِيَةِ(3) - دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ، فَقَالَ: «يَا إِبْرَاهِيمُ، هُوَ المُفَرِّجُ لِلْكَرْبِ عَنْ شِيعَتِهِ بَعْدَ ضَنْكٍ شَدِيدٍ، وَبَلَاءٍ طَوِيلٍ، وَجَزَعٍ وَخَوْفٍ، فَطُوبَىٰ لِمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ، حَسْبُكَ يَا إِبْرَاهِيمُ»، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَمَا رَجَعْتُ بِشَيْءٍ أَسَرَّ مِنْ هَذَا لِقَلْبِي وَلَا أَقَرَّ لِعَيْنِي (4).

[6/247] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ(رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنْ أَبِي طَالِبٍ عَبْدِ اللهِ بْنِ الصَّلْتِ الْقُمِّيِّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِعِيسَىٰ، عَنْ سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأَبُو بَصِيرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ مَوْلَىٰ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) فِي مَنْزِلٍ بِمَكَّةَ، فَقَالَ مُحَمَّدُ ابْنُ عِمْرَانَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) يَقُولُ: «نَحْنُ اثْنَا عَشَرَ مَهْدِيًّا(5)»، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَصِيرٍ: تَاللهِ لَقَدْ سَمِعْتَ ذَلِكَ مِنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)؟ فَحَلَفَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: لَكِنِّي سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)(6).

ص: 7


1- في بعض النُّسَخ: (تمام اثني عشر).
2- في بعض النُّسَخ: (المقرُّ بالثاني عشر منهم).
3- كذا.
4- رواه النعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 92/ باب 4/ ح 21)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 234 و235).
5- في بعض النُّسَخ: (محدَّثاً).
6- رواه المصنِّف (رحمة الله) في الخصال (ص 478/ ح 45)، وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 59 و60/ ح 23)، الصفَّار (رحمة الله) في بصائر الدرجات (ص 339/ ج 7/ باب 5/ ح 2)، والكليني(رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 534/ باب فيما جاء في الاثني عشر والنصِّ عليهم (علیهم السلام)/ ح 20)، والكراجكي (رحمة الله) في الاستنصار (ص 17 و18)، وفي الجميع: (نحن اثنا عشر محدَّثاً).

وحدَّثنا بمثل هذا الحديث محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رضی الله عنه)، قال: حدَّثنا محمّد بن الحسن الصفَّار، عن أبي طالب عبد الله بن الصلت القمِّي، عن عثمان بن عيسىٰ، عن سماعة بن مهران مثله سواء.

[7/248] حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِدْرِيسَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ الزَّيَّاتِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَىٰ الْخَشَّابِ، عَنِ ابْنِ سَمَاعَةَ(1)، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ رِبَاطٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ الصَّادِقُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام): «إِنَّاللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ خَلَقَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ نُوراً قَبْلَ خَلْقِ الْخَلْقِ بِأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفَ عَامٍ، فَهِيَ أَرْوَاحُنَا»، فَقِيلَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، وَمَنِ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ؟ فَقَالَ: مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَالْأَئِمَّةُ مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ، آخِرُهُمُ الْقَائِمُ الَّذِي يَقُومُ بَعْدَ غَيْبَتِهِ، فَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ، وَيُطَهِّرُ الْأَرْضَ مِنْ كُلِّ جَوْرٍ وَظُلْمٍ»(2).

[8/249] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رِئَابٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ اللهِ (عزوجل): «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ» [الأنعام: 158]، فَقَالَ (علیه السلام): «الْآيَاتُ هُمُ الْأَئِمَّةُ، وَالْآيَةُ المُنْتَظَرَةُ الْقَائِمُ (علیه السلام)، فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلِ قِيَامِهِ بِالسَّيْفِ، وَإِنْ آمَنَتْ بِمَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ آبَائِهِ (علیهم السلام)»(3).

ص: 8


1- في بعض النُّسَخ: (عليّ بن سماعة).
2- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 196 و197).
3- رواه ابن بابويه (رحمة الله) بسند متفاوت في أوَّله في الإمامة والتبصرة (ص 128/ ح 130).

[9/250] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَطَّانُ(1) وَعَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّقَّاقُ وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْوَرَّاقُ وَعَبْدُ اللهِ [بْنُ] مُحَمَّدٍ الصَّائِغُ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيُّ (رضی الله عنهم)، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَىٰ بْنِ زَكَرِيَّا الْقَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا تَمِيمُ بْنُ بُهْلُولٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي الْهُذَيْلِ (2): وَسَأَلْتُهُ عَنِ الْإِمَامَةِ فِيمَنْ تَجِبُ؟ وَمَا عَلَامَةُ مَنْ تَجِبُ لَهُالْإِمَامَةُ؟ فَقَالَ لِي: «إِنَّ الدَّلِيلَ عَلَىٰ ذَلِكَ وَالْحُجَّةَ عَلَىٰ المُؤْمِنِينَ وَالْقَائِمَ فِي أُمُورِ المُسْلِمِينَ وَالنَّاطِقَ بِالْقُرْآنِ وَالْعَالِمَ بِالْأَحْكَامِ أَخُو نَبِيِّ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، وَخَلِيفَتُهُ عَلَىٰ أُمَّتِهِ وَوَصِيُّهُ عَلَيْهِمْ، وَوَلِيُّهُ الَّذِي كَانَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَىٰ المَفْرُوضُ الطَّاعَةِ، يَقُولُ اللهُ (عزوجل): «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» [النساء: 59]، وَقَالَ (جَلَّ ذِكْرُهُ): «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ 55» [المائدة: 55]، المَدْعُوُّ إِلَيْهِ بِالْوَلَايَةِ، المُثْبَتُ لَهُ الْإِمَامَةُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ بِقَوْلِ الرَّسُولِ (صلی الله علیه و آله) عَنِ اللهِ (عزوجل): أَلَسْتُ أَوْلَىٰ بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ؟ قَالُوا: بَلَىٰ، قَالَ: فَمَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ، وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ، وَأَعِنْ مَنْ أَعَانَهُ، ذَاكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، وَإِمَامُ المُتَّقِينَ، وَقَائِدُ الْغُرِّ المُحَجَّلِينَ، وَأَفْضَلُ الْوَصِيِّينَ، وَخَيْرُ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ بَعْدَ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَبَعْدَهُ الْحَسَنُ ثُمَّ الْحُسَيْنُ سِبْطَا رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) ابْنَا خِيَرَةِ النِّسْوَانِ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ

ص: 9


1- لعلَّه العطَّار فصُحِّف.
2- عبد الله بن أبي الهذيل الغنري أبو المغيرة الكوفي، عامّيٌّ من التابعين، يروي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) وعبد لله بن مسعود وعمَّار بن ياسر وخبَّاب الأرت وغيرهم من الصحابة، وكان عثمانيًّا تُوفِّي في ولاية خالد القسري، وروايته هذا عن الصادق (علیه السلام) بعيد جدًّا وإنْ أدرك أيَّامه، كما أنَّ رواية تميم عنه (علیه السلام) بواسطة واحدة لم تُعهَد في كُتُب الصدوق (رحمة الله)، واحتمال تعدُّد عبد الله بن أبي الهذيل أو أنَّ القول له بعيد. والسند في بحار الأنوار (ج 36/ ص 396/ ح 1) أيضاً كما في المتن.

مُوسَىٰ بْنُ جَعْفَرٍ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُوسَىٰ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ الْحَسَنُ ابْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ ابْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ) إِلَىٰ يَوْمِنَا هَذَا وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، إِنَّهُمْ عِتْرَةُ الرَّسُولِ (صلی الله علیهو آله) مَعْرُوفُونَ بِالْوَصِيَّةِ وَالْإِمَامَةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَزَمَانٍ، وَكُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ، وَإِنَّهُمُ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَىٰ، وَأَئِمَّةُ الْهُدَىٰ، وَالْحُجَّةُ عَلَىٰ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَىٰ أَنْ يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَإِنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَهُمْ ضَالٌّ مُضِلٌّ تَارِكٌ لِلْحَقِّ وَالْهُدَىٰ، وَإِنَّهُمُ المُعَبِّرُونَ عَنِ الْقُرْآنِ، وَالنَّاطِقُونَ عَنِ الرَّسُولِ (صلی الله علیه و آله) بِالْبَيَانِ، وَإِنَّ مَنْ مَاتَ وَلَا يَعْرِفُهُمْ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَإِنَّ فِيهِمُ الْوَرَعَ وَالْعِفَّةَ وَالصِّدْقَ وَالصَّلَاحَ وَالْاِجْتِهَادَ، وَأَدَاءَ الْأَمَانَةِ إِلَىٰ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَطُولَ السُّجُودِ، وَقِيَامَ اللَّيْلِ، وَاجْتِنَابَ المَحَارِمِ، وَانْتِظَارَ الْفَرَجِ بِالصَّبْرِ، وَحُسْنَ الصُّحْبَةِ، وَحُسْنَ الْجِوَارِ»(1).

ثمّ قال تميم بن بهلول: حدَّثني أبو معاوية، عن الأعمش، عن جعفر بن محمّد (علیهما السلام) في الإمامة بمثله سواء.

[10/251] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعِبَادُ مِنَ اللهِ (عزوجل) وَأَرْضَىٰ مَا يَكُونُ عَنْهُمْ إِذَا افْتَقَدُوا حُجَّةَ اللهِ (عزوجل)، فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا بِمَكَانِهِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَمْ تَبْطُلْ حُجَجُ اللهِ [عَنْهُمْ وَبَيِّنَاتُهُ]، فَعِنْدَهَا فَتَوَقَّعُوا الْفَرَجَ صَبَاحاً وَمَسَاءً، وَإِنَّ أَشَدَّ مَا يَكُونُ غَضَبُ اللهِ تَعَالَىٰ عَلَىٰ أَعْدَائِهِ إِذَا افْتَقَدُوا حُجَّةَ اللهِ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ لَا يَرْتَابُونَ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَرْتَابُونَ لَمَا غَيَّبَ عَنْهُمْ حُجَّتَهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا يَكُونُذَلِكَ

ص: 10


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في الخصال (ص 478 و479/ ح 46)، وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 57 - 59/ ح 20).

إِلَّا عَلَىٰ رَأْسِ شِرَارِ النَّاسِ»(1)(2).

ص: 11


1- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 123/ ح 120)، ورواه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 333/ باب نادر في حال الغيبة/ ح 1)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 165 و166/ باب 10/ فصل 3/ ح 1 و2) بسندين، والحلبي (رحمة الله) في تقريب المعارف (ص 430)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 457/ ح 468).
2- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي (ج 6/ ص 238 و239): (قوله: «أقرب ما يكون العباد» دلَّ علىٰ أنَّ أقرب العباد منه تعالىٰ في زمان غيبة الإمام إذا كانوا عارفين بحقِّه أزيد وأكمل، ورضاه تعالىٰ عنهم، وإضافة الرحمة عليهم إذا كانوا تابعين له أعظم وأشمل، وذلك ليتمهم وانتظارهم وتحسُّرهم وأسرهم وخوفهم علىٰ الأنفس والأموال من تغلُّب الكُفَّار وتسلُّط الأشرار عليهم، ولأنَّ الإيمان بالغيب دلَّ علىٰ ضياء عقولهم ولطف قرائحهم ولينة طبائعهم وصفاء عقيدتهم وكمال هدايتهم، وكلُّ ذلك موجب لزيادة القرب من الحقِّ وكمال رضاه. وفي طُرُق العامَّة عن ابن مسعود قال: إنَّ أمر محمّد كان بيِّناً لمن رآه والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب، ثمّ تلا قوله تعالىٰ: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» [البقرة: 3]، قال الطيِّبي: معنىٰ هذا الحديث مخرَّج في سُنَن الدارمي عن أبي عبيدة بن الجرَّاح، قال: يا رسول الله، أحد خير منَّا، أسلمنا وجاهدنا معك، قال: «نعم هم قوم يكونون بعدكم يؤمنون بي ولا يروني». وأنت خبير بأنَّ هذا الحكم غير مختصٍّ بالنبيِّ، بل يجري في إمام بعده. قوله: «يعلمون أنَّه لم تبطل حجَّة الله» أي يعلمون بالبراهين العقليَّة والأحاديث النبويَّة أنَّه لم تبطل حجَّة الله (عزَّ ذكره) في الأرض ولا ميثاقه وعهده في الحجَّة، بل هما باقيان في الخلق ودائمان فيهم ما دامت الدنيا، فلذلك يؤمنون بالإمام وإنْ لم يروه، ويعتقدون بوجوده وإنْ لم يشاهدوه. قوله: «فتوقَّعوا الفرج صباحاً ومساءً» لوجوب ظهوره في وقت ما لدفع الظلم والجور ونصرة دين الحقِّ وأهله، ولكن لمَّا لم نعلم ذلك الوقت بخصوصه واحتمل كلُّ جزء من أجزاء الزمان أنْ يكون ذلك الوقت لا بدَّ لنا من توقُّع الفرج في جميع الأوقات، وإنَّما ذكر الصباح والمساء لشيوعهما في التعارف وإحاطتهما بسائر الأوقات. قوله: «فإنَّ أشدّ ما يكون» دليل لتوقُّع الفرج، ولعلَّ وجه ذلك مع أنَّ الظاهر أنْ يكون الغضب عليهم عند ظهور الحجَّة وعدم إيمانهم به أشدّ وأجدر ولحقوق النكال بهم أحرىٰ وأظهر لكون الحجَّة عليهم حينئذٍ أقوىٰ وأكمل من عدم ظهوره بسبب سوء صنيعهم وإعوجاج طبيعتهم حتَّىٰ حرم المستعدُّون للهداية والقابلون للفهم والدراية عن مشاهدة جماله وملاحظة كماله، فلذلك كان الغضب عليهم حال الغيبة أشدّ. قوله: «وقد علم أنَّ أولياءه» أي أولياء الحجَّة، وهذا دفع لما عسىٰ أنْ يقال من أنَّ إخفاء الحجَّة موجب لإضلال الخلق ورفع اللطف عنهم ولا يجوز شيء من ذلك، ووجه الدفع ظاهر، وحاصله أنَّ ذلك إنَّما يلزم لو كان أحد من أوليائه يرتاب فيه بعد الغيبة وليس كذلك، فلا مفسدة في الغيبة وإنَّما هي محض المصلحة وهي حفظ النفس المعصومة أو غيرها. قوله: «ولا يكون ذلك إلَّا علىٰ رأس شرار الناس» دلَّ علىٰ أنَّ ظهوره لا يكون إلَّا عند فشو الشرِّ في الناس وبعد الخير عنهم، وقد دلَّ علىٰ ذلك أيضاً، بل علىٰ تعيين الشرور والمفاسد بعض الروايات). وقال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول (ج 4/ ص 18 - 20): («أقرب ما يكون العباد» لعلَّ ما مصدريَّة وكان تامة ومن صلة لأقرب، أي أقرب أحوال كونهم ووجودهم من الله وأرضىٰ أحوال رضيٰ الله عنهم. «إذا افتقدوا» خبر، ونسبة القرب والرضا إلىٰ الأحوال مجاز، وقيل: أقرب مبتدأ مضاف إلىٰ ما ومدخولها، والعباد اسم يكون، وخبره محذوف بتقدير قريبين، ومن صلة قريبين، ونسبة القرب إلىٰ كونهم قريبين للمبالغة، نظير جدَّ جدُّه. «وأرضىٰ ما يكون» بتقدير: أرضيٰ ما يكون راضياً، والضمير المستتر لله. «وإذا» ظرف مضاف إلىٰ الجملة، وهو خبر المبتدأ. «افتقدوا حجَّة الله» أي لم يجدوه ولم يظهر لهم، والعطف للتفسير، «وهم» الواو للحال، «في ذلك» الزمان «يعلمون أنَّه لم تبطل حجَّة الله (جلَّ ذكره)» بنصب الإمام، «ولا ميثاقه» علىٰ الخلق بالإقرار بالإمام، وقيل: إشارة إلىٰ قوله تعالىٰ: «أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَىٰ اللهِ إِلَّا الْحَقَّ» [الأعراف: 169]. وإنَّما كانوا أقرب وأرضىٰ لكون الإيمان عليهم أشدّ والشُّبَه عليهم أقوىٰ، لعدم رؤيتهم الأئمَّة (علیهم السلام) ومعجزاتهم، وإنَّما يؤمنون بالنظر في البراهين والتفكُّر في الآثار والأخبار، لاسيّما مع امتداد غيبة الإمام (علیه السلام) وعدم وصول خبره عليهم في الغيبة الكبرىٰ، وكثرة وساوس شياطين الجنِّ والإنس في ذلك. «فعندها» أي عند حصول تلك الحالة. «توقَّعوا» أي انتظروا الفرج، وهو التفصِّي من الهمِّ والغمِّ بظهور الإمام (علیه السلام)، فإنَّه لمَّا لم يُوقَّت لكم فكلُّ وقت من الأوقات يحتمل ظهوره فلا تيأسوا من رحمة الله، وادعوا لتعجيل الفرج وانتظروه في جميع الأزمان، فإنَّه قد شاع في التعبير عن جميع الأزمان بهذين الوقتين. ويحتمل أنْ يكون المراد بالفرج إحدىٰ الحسنيين، إمَّا لقاء الله أو ظهور الحجَّة...)، إلىٰ أنْ قال: («ولا يكون ذلك» أي ظهور الإمام إلَّا إذا فسد الزمان غاية الفساد كما ورد في أخبار كثيرة أنَّه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلِئَت ظلماً وجوراً. ويحتمل أنْ يكون ذلك إشارة إلىٰ أنَّ الغضب في الغيبة مختصٌّ بالشرار تأكيداً لما مرَّ، والأوَّل أظهر).

[11/252] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، قَالَ: قَالَ المُفَضَّلُ بْنُ عُمَرَ: سَمِعْتُ الصَّادِقَ

ص: 12

جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام) يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ مُنْتَظِراً لِهَذَا الْأَمْرِ كَانَ كَمَنْ كَانَ مَعَ الْقَائِمِ فِي فُسْطَاطِهِ، لَا بَلْ كَانَ كَالضَّارِبِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) بِالسَّيْفِ»(1).

[12/253] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّقَّاقُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْكُوفِيُّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ الْآدَمِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعَبْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي يَعْفُورٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الصَّادِقُ (علیه السلام): «مَنْ أَقَرَّ بِالْأَئِمَّةِ مِنْ آبَائِي وَوُلْدِي وَجَحَدَ المَهْدِيَّ مِنْ وُلْدِي كَانَ كَمَنْ أَقَرَّ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَجَحَدَ مُحَمَّداً (صلی الله علیه و آله) نُبُوَّتَهُ»، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، وَمَنِ المَهْدِيُّ مِنْ وُلْدِكَ؟ قَالَ: «الْخَامِسُ مِنْ وُلْدِ السَّابِعِ، يَغِيبُ عَنْكُمْ شَخْصُهُ، وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ تَسْمِيَتُهُ».

[13/254] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْعَاصِمِيُّ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَيُّوبَ(2)، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَمَاعَةَ، عَنْثَابِتٍ الصَّائِغِ(3)، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مِنَّا اثْنَا عَشَرَ مَهْدِيًّا، مَضَىٰ سِتَّةٌ وَبَقِيَ سِتَّةٌ، يَصْنَعُ اللهُ بِالسَّادِسِ مَا أَحَبَّ(4)»(5).

[14/255] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ مُحَمَّدٍ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْعَاصِمِيُّ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ

ص: 13


1- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 122/ ح 118).
2- هو الحسين بن القاسم بن محمّد بن أيُّوب بن شمون، أبو عبد الله الكاتب، وكان أبوه من أجلَّة أصحابنا: (رجال النجاشي: ص 66/ الرقم 157). قال ابن الغضائري: (ضعَّفوه، وهو عندي ثقة، ولكن البحث فيمن يروي عنه) (رجال ابن الغضائري: ص 110/ الرقم 161/2).
3- هو ثابت بن شريح أبو إسماعيل الصائغ الأنباري مولىٰ الأزد، ثقة. وفي النُّسَخ: (ثابت الصبَّاغ)، وفي بعضها: (الصباح)، وكلاهما تصحيف.
4- في بعض النُّسَخ: (في السادس ما أحبَّ).
5- رواه المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 69/ ح 37)، وابن عقدة في فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام) (ص 155/ ح 153).

أَيُّوبَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَمَاعَةَ، عَنْ وُهَيْبٍ، عَنْ ذَرِيحٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «مِنَّا اثْنَا عَشَرَ مَهْدِيًّا».

[15/256] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ مُحَمَّدٍ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ عِيسَىٰ، عَنْ سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأَبُو بَصِيرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ مَوْلَىٰ أَبِي جَعْفَرٍ فِي مَنْزِلٍ بِمَكَّةَ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) يَقُولُ: «نَحْنُ اثْنَا عَشَرَ مُحَدَّثُونَ(1)»، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: وَاللهِ لَقَدْ سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، فَحَلَفَ مَرَّتَيْنِ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ (2).

[16/257] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الْبَرْقِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعِبَادُ مِنَ اللهِ (عزوجل) وَأَرْضَىٰ مَا يَكُونُ عَنْهُمْ إِذَا فَقَدُوا حُجَّةَ اللهِ، فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا بِمَكَانِهِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَمْ تَبْطُلْ حُجَجُ اللهِ (عزوجل) وَلَا بَيِّنَاتُهُ، فَعِنْدَهَا فَتَوَقَّعُوا الْفَرَجَ صَبَاحاً وَمَسَاءً، وَإِنَّ أَشَدَّ مَا يَكُونُ غَضَبُ اللهِ عَلَىٰ أَعْدَائِهِ إِذَا افْتَقَدُوا حُجَّتَهُ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ لَا يَرْتَابُونَ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَرْتَابُونَ مَا غَيَّبَ عَنْهُمْ حُجَّتَهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَىٰ رَأْسِ شِرَارِ النَّاسِ»(3).

[17/258] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنِ الْحَسَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ

ص: 14


1- في بعض النُّسَخ: (اثنا عشر مهديًّا).
2- قد مرَّ قريباً منه تحت الرقم (247/6)، فراجع.
3- قد مرَّ تحت الرقم (251/10)، فراجع.

الْعَبْدُ إِلَىٰ اللهِ (عزوجل) وَأَرْضَىٰ مَا يَكُونُ عَنْهُ إِذَا افْتَقَدُوا حُجَّةَ اللهِ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ، وَحُجِبَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَعْلَمُوا بِمَكَانِهِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ حُجَجُ اللهِ وَلَا بَيِّنَاتُهُ، فَعِنْدَهَا فَلْيَتَوَقَّعُوا الْفَرَجَ صَبَاحاً وَمَسَاءً، وَإِنَّ أَشَدَّ مَا يَكُونُ غَضَباً عَلَىٰ أَعْدَائِهِ إِذَا أَفْقَدَهُمْ حُجَّتَهُ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ لَا يَرْتَابُونَ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَرْتَابُونَ [لَ-]مَا أَفْقَدَهُمْ حُجَّتَهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ».

[18/259] حَدَّثَنَا أَبِي [وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ] (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-[مَا])، قَالَ-[ا]: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا المُعَلَّىٰ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَصْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُمْهُورٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ [مُحَمَّدِ] بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سِنَانٍ،عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «فِي الْقَائِمِ سُنَّةٌ(1) مِنْ مُوسَىٰ بْنِ عِمْرَانَ (علیه السلام)»، فَقُلْتُ: وَمَا سُنَّةُ مُوسَىٰ بْنِ عِمْرَانَ؟ فَقَالَ: «خَفَاءُ مَوْلِدِهِ، وَغَيْبَتُهُ عَنْ قَوْمِهِ»، فَقُلْتُ: وَكَمْ غَابَ مُوسَىٰ بْنُ عِمْرَانَ (علیه السلام) عَنْ قَوْمِهِ وَأَهْلِهِ؟ فَقَالَ: «ثَمَانِيَ وَعِشْرِينَ سَنَةً»(2).

[19/260] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ دَاوُدَ بْنِ كَثِيرٍ الرَّقِّيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) فِي قَوْلِ اللهِ (عزوجل): «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» [البقرة: 3]، قَالَ: «مَنْ أَقَرَّ بِقِيَامِ الْقَائِمِ أَنَّهُ حَقٌّ».

[20/261] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّقَّاقُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَىٰ بْنُ عِمْرَانَ النَّخَعِيُّ، عَنْ عَمِّهِ الْحُسَيْنِ ابْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ(3)، عَنْ يَحْيَىٰ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ، قَالَ: سَأَلْتُ

ص: 15


1- في بعض النُّسَخ: (شبه)، وكذا ما يأتي.
2- قد مرَّ تحت الرقم (14/3)، فراجع.
3- هو عليُّ بن أبي حمزة - سالم - البطائني، بقرينة روايته عن يحيىٰ أبي بصير، ورواية الحسين بن يزيد عنه. وكان أحد عمد الواقفة، قال عليُّ بن الحسن بن فضَّال: إنَّه كذَّاب واقفي متَّهم ملعون. وقال ابن الغضائري: (عليُّ بن أبي حمزة أصل الوقف وأشدُّ الخلق عداوةً للوليِّ بعد أبي إبراهيم (علیه السلام) (يعنى الرضا (علیه السلام))) (رجال ابن الغضائري: ص 83/ الرقم 107/32). وأمَّا يحيىٰ بن أبي القاسم فهو أبو بصير المكفوف، ولعلَّ الصواب: (يحيىٰ بن القاسم)، وعليُّ بن أبي حمزة هو قائده.

الصَّادِقَ (علیه السلام) عَنْ قَوْلِ اللهِ(عزوجل): «الم 1 ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ 2 الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» [البقرة: 1 - 3]، فَقَالَ: «المُتَّقُونَ شِيعَةُ عَلِيٍّ (علیه السلام)، وَالْغَيْبُ فَهُوَ الْحُجَّةُ الْغَائِبُ».

وَشَاهِدُ ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ (عزوجل): «وَيَقُولُونَ لَوْ لَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ 20» [يونس: 20](1).

[21/262] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ سَدِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ فِي الْقَائِمِ شَبَهٌ(2) مِنْ يُوسُفَ (علیه السلام)»، قُلْتُ: كَأَنَّكَ تَذْكُرُ خَبَرَهُ أَوْ غَيْبَتَهُ؟ فَقَالَ لِي: «مَا تُنْكِرُ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَشْبَاهُ الْخَنَازِيرِ، إِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ كَانُوا أَسْبَاطاً أَوْلَادَ أَنْبِيَاءَ، تَاجَرُوا يُوسُفَ وَبَايَعُوهُ وَهُمْ إِخْوَتُهُ وَهُوَ أَخُوهُمْ فَلَمْ يَعْرِفُوهُ حَتَّىٰ قَالَ لَهُمْ: «أَنَا يُوسُفُ»، فَمَا تُنْكِرُ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَنْ يَكُونَ اللهُ (عزوجل) فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ يُرِيدُ أَنْ يَسْتُرَ حُجَّتَهُ(3)، لَقَدْ كَانَ يُوسُفُ (علیه السلام) إِلَيْهِ مُلْكُ مِصْرَ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِهِ مَسِيرَةُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْماً، فَلَوْ أَرَادَ اللهُ (عزوجل) أَنْ يُعَرِّفَهُ مَكَانَهُ لَقَدَرَ عَلَىٰ ذَلِكَ، وَاللهِ لَقَدْ سَارَ يَعْقُوبُ وَوُلْدُهُ عِنْدَ الْبِشَارَةِ مَسِيرَةَ تِسْعَةِ أَيَّامٍ مِنْ بَدْوِهِمْ إِلَىٰ مِصْرَ، فَمَاتُنْكِرُ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَنْ يَكُونَ اللهُ (عزوجل)

ص: 16


1- وكما يظهر من سياق الآيات المراد بالآية العذاب. وقوله: «فَانْتَظِرُوا...» الآية، أي فانتظروا العذاب وإنِّي معكم كذلك. ولا ينبغي تأويل العذاب بالحجَّة (علیه السلام). وقوله: (وشاهد ذلك) من كلام الصدوق (رحمة الله) لا من تتمَّة الحديث كما نصَّ عليه العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج52/ ص 124). ولم يُعهَد في كلام أحد من المعصومين (علیهم السلام) نقل الشاهد لكلامهم في نظير هذا.
2- في بعض النُّسَخ: (سُنَّة).
3- في بعض النُّسَخ: (يُبيِّن حجَّته).

يَفْعَلُ بِحُجَّتِهِ مَا فَعَلَ بِيُوسُفَ أَنْ يَكُونَ يَسِيرُ فِي أَسْوَاقِهِمْ وَيَطَأُ بُسُطَهُمْ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ، حَتَّىٰ يَأْذَنَ اللهُ (عزوجل) أَنْ يُعَرِّفَهُمْ بِنَفْسِهِ كَمَا أَذِنَ لِيُوسُفَ حَتَّىٰ قَالَ لَهُمْ: «هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ 89 قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي» [يوسف: 89 و90]»(1).

[22/263] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مِهْرَانَ الْجَمَّالِ، قَالَ: قَالَ الصَّادِقُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام): «أَمَا وَاللهِ لَيَغِيبَنَّ عَنْكُمْ مَهْدِيُّكُمْ حَتَّىٰ يَقُولَ الْجَاهِلُ مِنْكُمْ مَا لِلهِ فِي آلِ مُحَمَّدٍ حَاجَةٌ، ثُمَّ يُقْبِلُ كَالشِّهَابِ الثَّاقِبِ فَيَمْلَؤُهَا عَدْلاً وَقِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً».

[23/264] حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبْدُوسٍ الْعَطَّارُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمْدَانُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ، عَنْ حَيَّانٍ السَّرَّاجِ، عَنِ السَّيِّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحِمْيَرِيِّ - فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ - يَقُولُ فِيهِ: قُلْتُ لِلصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام): يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، قَدْ رُوِيَ لَنَا أَخْبَارٌ عَنْ آبَائِكَ (علیهم السلام) فِي الْغَيْبَةِ وَصِحَّةِ كَوْنِهَا، فَأَخْبِرْنِي بِمَنْ تَقَعُ؟ فَقَالَ (علیه السلام): «إِنَّ الْغَيْبَةَ سَتَقَعُ بِالسَّادِسِ مِنْ وُلْدِي، وَهُوَ الثَّانِي عَشَرَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْهُدَاةِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، أَوَّلُهُمْ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَآخِرُهُمُ الْقَائِمُ بِالْحَقِّ، بَقِيَّةُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، وَصَاحِبُ الزَّمَانِ، وَاللهِ لَوْ بَقِيَ فِي غَيْبَتِهِ مَا بَقِيَ نُوحٌ فِي قَوْمِهِ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّىٰ يَظْهَرَ فَيَمْلَأَ الْأَرْضَقِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»(2).

[24/265] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ

ص: 17


1- قد مرَّ ذكر مصادره تحت الرقم (11/3)، فراجع.
2- راجع ما مرَّ في (ج 1/ ص 52).

ابْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَىٰ الْكِلَابِيِّ، عَنْ خَالِدِ ابْنِ نَجِيحٍ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ لِلْقَائِمِ غَيْبَةً قَبْلَ أَنْ يَقُومَ»، قُلْتُ لَهُ: وَلِمَ؟ قَالَ: «يَخَافُ - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَىٰ بَطْنِهِ -»، ثُمَّ قَالَ: «يَا زُرَارَةُ، وَهُوَ المُنْتَظَرُ، وَهُوَ الَّذِي يَشُكُّ النَّاسُ فِي وِلَادَتِهِ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ حَمْلٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ غَائِبٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا وُلِدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: وُلِدَ قَبْلَ وَفَاةِ أَبِيهِ بِسَنَتَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ يُحِبُّ أَنْ يَمْتَحِنَ الشِّيعَةَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَرْتَابُ المُبْطِلُونَ».

قَالَ زُرَارَةُ: فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَإِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ الزَّمَانَ فَأَيَّ شَيْءٍ أَعْمَلُ؟ قَالَ: «يَا زُرَارَةُ، إِنْ أَدْرَكْتَ ذَلِكَ الزَّمَانَ فَأَدِمْ هَذَا الدُّعَاءَ(1): اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لَمْ أَعْرِفْ نَبِيَّكَ، اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي رَسُولَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي رَسُولَكَ لَمْ أَعْرِفْ حُجَّتَكَ، اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي».

ثُمَّ قَالَ: «يَا زُرَارَةُ، لَا بُدَّ مِنْ قَتْلِ غُلَامٍ بِالمَدِينَةِ»، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَلَيْسَ يَقْتُلُهُ جَيْشُ السُّفْيَانِيِّ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ جَيْشُ بَنِي فُلَانٍ، يَخْرُجُ حَتَّىٰ يَدْخُلَ المَدِينَةَ، فَلَا يَدْرِي النَّاسُ فِي أَيِّ شَيْءٍ دَخَلَ، فَيَأْخُذُ الْغُلَامَ فَيَقْتُلُهُ(2)، فَإِذَا قَتَلَهُ بَغْياً وَعُدْوَاناً وَظُلْماً لَمْ يُمْهِلْهُمُ اللهُ (عزوجل)، فَعِنْدَ ذَلِكَفَتَوَقَّعُوا الْفَرَجَ»(3)(4).

ص: 18


1- في بعض النُّسَخ: (فالزم هذا الدعاء).
2- في الخبر الذي مرَّ تحت الرقم (240/16): (قتل غلام من آل محمّد بين الركن والمقام، اسمه محمّد ابن الحسن النفس الزكيَّة). ولعلَّ هذا الغلام غيره، فتأمَّل.
3- روىٰ قريباً منه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 337/ باب في الغيبة/ ح 5)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 170 و171/ باب 10/ فصل 3/ ح 6)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 333 و334/ ح 279).
4- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول: (ج 4/ ص 39 - 42): («وأومأ بيده إلىٰ بطنه» أي لوظهر لشُقَّ بطنه، وقيل: إلىٰ بطنه يعني جسده، أي يخاف قتل نفسه. «وهو المنتظر» علىٰ بناء المفعول، أي ينتظره المؤمنون. «ومنهم من يقول: حمل» أي عند موت أبيه حمل لم يُولَد بعد، كما روي أنَّ الخليفة وكَّل القوابل علىٰ نساء أبي محمّد (علیه السلام) وإمائه بعد وفاته ليُفتِّشهنَّ. «بسنتين» أي هذا أيضاً باطل كما ستعرف من تاريخه (علیه السلام) أنَّه وُلِدَ قبل ذلك بأكثر...، «فعند ذلك» أي الغيبة أو امتدادها، «يرتاب المبطلون» أي التابعون للشُّبُهات الواهية الذين لم يتمسَّكوا في الدِّين بعرىٰ وثيقة. «لم أعرف نبيَّك» إنَّما يتوقَّف معرفة النبيِّ (صلی الله علیه و آله) علىٰ معرفة الله لأنَّ من لم يعرف الله بأنَّه يجب عليه ما هو لطف للعباد، وأنَّه عالم بجميع الأُمور، وأنَّه يقبح الإغراء بالقبيح ولا يصدر منه سبحانه القبيح، فلا يظهر المعجز علىٰ يد الكاذب لم يعرف النبيَّ (صلی الله علیه و آله) ولم يُصدِّق به، ومن لم يعرف الله بأنَّه لا يفعل العبث وما لا حكمة فيه، وخلق العباد من غير تكليف وأمر ونهي وثواب وعقاب عبث، ومع ذلك الأُمور لا بدَّ من آمر وناه ومؤدِّب ومعلِّم من قِبَله تعالىٰ لم يُصدِّق بالنبيِّ، أو يقال: عظمة الرسول تابع لعظمة المرسِل، فكلَّما كان المرسِل أعلىٰ شأناً كان رسوله أرفع مكاناً، وأيضاً من لم يُصدِّق بوجود الصانع تعالىٰ كيف يُصدِّق برسوله، وقيل: لأنَّ من لم يعرف الله بأنَّه لا يُنال ولا يُرىٰ لم يعرف أنَّه لا بدَّ أنْ يكون بينه وبين الله واسطة مبلِّغ. وتوقُّف معرفة الحجَّة علىٰ معرفة النبيِّ (صلی الله علیه و آله) لأنَّه إنَّما تُعلَم حجّيَّته بنصِّ الرسول عليه، أو أنَّ عظم الخليفة إنَّما يُعرَف بعظم المستخلِف فإنَّه نائبه والقائم مقامه، والحاصل أنَّ من عرف جهة الحاجة إلىٰ النبيِّ (صلی الله علیه و آله)، وهو احتياج الخلق إليه في معرفة الله ومعرفة ما يرضيه ويسخطه، وأنْ يكون سبباً لانتظام أُمور الخلق داعياً لهم إلىٰ الصلاح، رادعاً إيَّاهم عن الشرِّ والفساد، شارعاً لهم الدِّين القويم، مانعاً لهم عن الخروج عن الصراط المستقيم، علم أنَّه لا بدَّ بعد وفاته ممَّن يقوم مقامه، ويكون مثله في العلم والعمل والأخلاق والكمالات، ليدعو الناس إلىٰ ما كان يدعو إليه، ويكون حافظاً لدينه وشريعته معصوماً عن الخطأ والزلل، ولو لم يعرف النبيَّ (صلی الله علیه و آله) كذلك بل زعمه سلطاناً من السلاطين يبني أُموره علىٰ الاجتهاد والتخمين لكان يجوز أنْ ينصب الناس آخر مقامه، كما هو زعم المخالفين، وأنْ يكون خليفته عثمان ومعاوية ويزيد وبني مروان من الفاسقين. وقيل: لأنَّ من لم يعرف الرسول بأنَّه لا بدَّ من أنْ يكون بشراً لا يمكن أنْ يدوم وجوده، لم يعرف أنَّه لا بدَّ له من يستخلفه بعد موته. وأمَّا الضلال مع عدم معرفة الحجَّة فهو ظاهر ممَّا قدَّمنا ومبيَّن في الأخبار التي أسلفناه، وسيأتي هذا الدعاء مرويًّا عن زرارة أيضاً بوجه آخر، وكأنَّه سمعهما في مقامين، فإنَّ مثل هذا الاختلاف منه أو من رواته بعيد. «جيش آل بني فلان» أي أصحاب بني فلان، وفي الإكمال: «جيش بني فلان»، والمراد ببني فلان إمَّا بنو العبَّاس ويكون المراد غير النفس الزكيَّة بل رجلاً آخر من آل رسول الله قتله بنو العبَّاس مقارناً لانقراض دولتهم، فيكون هذا من العلامات البعيدة. وفي إرشاد المفيد عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «ليس بين قيام القائم (علیه السلام) وبين قتل النفس الزكيَّة أكثر من خمسة عشر ليلة»، ويحتمل أنْ يكون المراد بنو مروان، ويكون إشارة إلىٰ انقراض دولة بني أُميَّة، وبالفرج الفرج منهم ومن شرِّهم).

ص: 19

وَحَدَّثَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ هَمَّامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّوْفَلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ عُثْمَانَ ابْنِ عِيسَىٰ الْكِلَابِيِّ، عَنْ خَالِدِ بْنِ نَجِيحٍ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ ابْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام).وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَجَّالِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام) أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ لِلْقَائِمِ(1) غَيْبَةً قَبْلَ أَنْ يَقُومَ...» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ مِثْلَهُ سَوَاءً.

[25/266] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَىٰ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ هَانِئٍ التَّمَّارِ(2)، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «إِنَّ لِصَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ غَيْبَةً، فَلْيَتَّقِ اللهَ عَبْدٌ وَلْيَتَمَسَّكْ بِدِينِهِ».

[26/267] حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَىٰ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ

ص: 20


1- في بعض النُّسَخ المصحَّحة: (للغلام).
2- كذا، وفي بعض النُّسَخ: (هانئ اليمانيّ)، وفي الكافي: (صالح بن خالد)، عن يمان التمَّار، وفي غيبة النعماني: (صالح بن محمّد)، عن يمان التمَّار.

سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ فَرْقَدٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) مَعَ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) فِي غَيْبَتِهِ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا أَحَدٌ»(1).

[27/268] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ وَعَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الزَّيَّاتِ، [عَنِالْجَرِيرِيِّ](2)، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ أَبِي الدَّيْلَمِ الطَّائِيِّ، قَالَ: قَالَ [لِي] أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «يَا عَبْدَ الْحَمِيدِ بْنَ أَبِي الدَّيْلَمِ، إِنَّ لِلهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ رُسُلاً مُسْتَعْلِنِينَ وَرُسُلاً مُسْتَخْفِينَ، فَإِذَا سَأَلْتَهُ بِحَقِّ المُسْتَعْلِنِينَ فَسَلْهُ بِحَقِّ المُسْتَخْفِينَ».

[28/269] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ جَمِيعاً، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عِيسَىٰ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ يَحْيَىٰ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْكَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَلَبِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «اكْتَتَمَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) بِمَكَّةَ مُخْتَفِياً خَائِفاً خَمْسَ سِنِينَ لَيْسَ يُظْهِرُ أَمْرَهُ وَعَلِيٌّ (علیه السلام) مَعَهُ وَخَدِيجَةُ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللهُ (عزوجل) أَنْ يَصْدَعَ بِمَا أُمِرَ بِهِ(3) فَظَهَرَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) وأَظْهَرَ أَمْرَهُ»(4).

وَفِي خَبَرٍ آخَرَ أَنَّهُ (علیه السلام) كَانَ مُخْتَفِياً بِمَكَّةَ ثَلَاثَ سِنِينَ.

[29/270] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ وَأَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ جَمِيعاً،

ص: 21


1- من هذا الحديث إلىٰ خمسة أو ستَّة أحاديث بعده ذُكِرَت هنا لمناسبة الأحاديث السابقة لا مناسبة الباب، وتقدَّم بعضها سابقاً.
2- الظاهر هو إسحاق بن جرير، وتقدَّم الخبر في (ج 1/ ص 38) بسند آخر عن عبد الحميد أيضاً.
3- في قوله تعالىٰ: «فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ 94» (الحجر: 94).
4- رواه العيَّاشي (رحمة الله) في تفسيره (ج 2/ ص 253/ ح 47) بتفاوت يسير، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 332/ ح 276).

عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ جَمِيعاً، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ،عَنْ عَلِيِّ بْنِ رِئَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَلَبِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) يَقُولُ: «مَكَثَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) بِمَكَّةَ بَعْدَ مَا جَاءَهُ الْوَحْيُ عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْهَا ثَلَاثُ سِنِينَ مُخْتَفِياً خَائِفاً لَا يُظْهِرُ حَتَّىٰ أَمَرَهُ اللهُ (عزوجل) أَنْ يَصْدَعَ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ، فَأَظْهَرَ حِينَئِذٍ الدَّعْوَةَ»(1).

[30/271] حَدَّثَنَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَمَّامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ الْفَزَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْهَاشِمِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ خَالِي مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ يَرْوِي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَالِمٍ صَاحِبِ السَّابِرِيِّ(2)، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: «أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ 24» [إبراهيم: 24]، قَالَ: «أَصْلُهَا رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، وَفَرْعُهَا أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام)، وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ ثَمَرُهَا، وَتِسْعَةٌ مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ أَغْصَانُهَا، وَالشِّيعَةُ وَرَقُهَا، وَاللهِ إِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ لَيَمُوتُ فَتَسْقُطُ وَرَقَةٌ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ»، قُلْتُ: قَوْلُهُ (عزوجل): «تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا» [إبراهيم: 25]، قَالَ: «مَا يَخْرُجُ مِنْ عِلْمِ الْإِمَامِ إِلَيْكُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ»(3).

[31/272] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَىٰ بْنُ عِمْرَانَالنَّخَعِيُّ، عَنْ عَمِّهِ الْحُسَيْنِ

ص: 22


1- رواه الطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 333/ ح 277).
2- في بعض النُّسَخ: (عمر بن صالح السابريّ)، وفي بعضها: (عمر بن بزيع السابريّ)، وكلاهما تصحيف.
3- روىٰ قريباً منه الصفَّار (رحمة الله) في بصائر الدرجات (ص 79/ ج 2/ باب 2/ ح 3)، والعيَّاشي (رحمة الله) في تفسيره (ج 2/ ص 224/ ح 11)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 28/ باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية/ ح 80).

ابْنِ يَزِيدَ النَّوْفَلِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ سُنَنَ الْأَنْبِيَاءِ (علیهم السلام) بِمَا وَقَعَ بِهِمْ مِنَ الْغَيْبَاتِ حَادِثَةٌ فِي الْقَائِمِ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ وَالْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ(1)».

قَالَ أَبُو بَصِيرٍ: فَقُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، وَمَنِ الْقَائِمُ مِنْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ؟ فَقَالَ: «يَا أَبَا بَصِيرٍ، هُوَ الْخَامِسُ مِنْ وُلْدِ ابْنِي مُوسَىٰ، ذَلِكَ ابْنُ سَيِّدَةِ الْإِمَاءِ، يَغِيبُ غَيْبَةً يَرْتَابُ فِيهَا المُبْطِلُونَ، ثُمَّ يُظْهِرُهُ اللهُ (عزوجل)، فَيَفْتَحُ اللهُ عَلَىٰ يَدِهِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَيَنْزِلُ رُوحُ اللهِ عِيسَىٰ بْنُ مَرْيَمَ (علیه السلام) فَيُصَلِّي خَلْفَهُ، وَتُشْرِقُ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا، وَلَا تَبْقَىٰ فِي الْأَرْضِ بُقْعَةٌ عُبِدَ فِيهَا غَيْرُ اللهِ (عزوجل) إِلَّا عُبِدَ اللهُ فِيهَا، وَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ».

[32/273] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ(2)، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَنْصُورٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «يَا مَنْصُورُ، إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَأْتِيكُمْ إِلَّا بَعْدَ [إِ]يَاسٍ، لَا وَاللهِ [لَا يَأْتِيكُمْ] حَتَّىٰ تُمَيَّزُوا، لَا وَاللهِ [لَا يَأْتِيكُمْ] حَتَّىٰ تُمَحَّصُوا، وَلَا وَاللهِ [لَا يَأْتِيكُمْ] حَتَّىٰ يَشْقَىٰ مَنْ شَقِيَ وَيَسْعَدَ مَنْ سَعِدَ»(3).[33/274] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ خَالِدِ بْنِ

ص: 23


1- القُذَّة: ريش السهم.
2- في بعض النُّسَخ: (محمّد بن الفضل). وفي الكافي: (عن جعفر بن محمّد الصيقل، عن أبيه، عن منصور). وعلىٰ أيٍّ المراد بمنصور منصور بن الوليد الصيقل، ولعلَّ الصواب: (جعفر بن محمّد ابن الصيقل، عن أبيه، عن منصور).
3- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 130/ ح 135)، وروىٰ قريباً منه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 370/ باب التمحيص والامتحان/ ح 3)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 216 و217/ باب 12/ ح 16)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 335 و336/ ح 281).

نَجِيحٍ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: سَمِعْتُ الصَّادِقَ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام) يَقُولُ: «إِنَّ لِلْغُلَامِ غَيْبَةً قَبْلَ أَنْ يَقُومَ»، قُلْتُ: وَلِمَ ذَاكَ جُعِلْتُ فِدَاكَ؟ فَقَالَ: «يَخَافُ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَىٰ بَطْنِهِ وَعُنُقِهِ -»، ثُمَّ قَالَ (علیه السلام): «وَهُوَ المُنْتَظَرُ الَّذِي يَشُكُّ النَّاسُ فِي وِلَادَتِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِذَا مَاتَ أَبُوهُ: مَاتَ وَلَا عَقِبَ لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَدْ وُلِدَ قَبْلَ وَفَاةِ أَبِيهِ بِسَنَتَيْنِ، لِأَنَّ اللهَ (عزوجل) يُحِبُّ أَنْ يَمْتَحِنَ خَلْقَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَرْتَابُ المُبْطِلُونَ»(1).

[34/275] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ (رضی الله عنهم)، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ الْفَزَارِيُّ الْكُوفِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّيْرَفِيِّ، عَنْ يَحْيَىٰ بْنِ المُثَنَّىٰ الْعَطَّارِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) يَقُولُ: «يَفْقِدُ النَّاسُ إِمَامَهُمْ فَيَشْهَدُ المَوْسِمَ فَيَرَاهُمْ وَلَايَرَوْنَهُ»(2)(3).

[35/276] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ هَانِئٍ

ص: 24


1- روىٰ قريباً منه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 337/ باب في الغيبة/ ح 5)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 333 و334/ ح 279).
2- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 126/ ح 126)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 337 و338/ باب في الغيبة/ ح 6)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 180 و181/ باب 10/ فصل 4/ ح 14)، والطبري (رحمة الله) في دلائل الإمامة (ص 531/ ح 509/113)، والحلبي (رحمة الله) في تقريب المعارف (ص 432)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 161/ ح 119).
3- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول (ج 4/ ص 42): (لعلَّ المراد يعرفهم ولا يعرفونه كما روىٰ الصدوق عن محمّد بن عثمان العمري، قال: والله إنَّ صاحب هذا الأمر يحضر الموسم كلَّ سنة فيرىٰ الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه. فيشمل الغيبتين، أو هو مختصٌّ بالكبرىٰ، إذ في الصغرىٰ كان يعرفه بعض الناس، وعلىٰ الثاني يحتمل أنْ تكون الرؤية بمعناها).

التَّمَّارِ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «إِنَّ لِصَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ غَيْبَةً، المُتَمَسِّكُ فِيهَا بِدِينِهِ كَالْخَارِطِ لِلْقَتَادِ»، ثُمَّ قَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ(1)، ثُمَّ قَالَ: «[إِنَّ] لِصَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ غَيْبَةً، فَلْيَتَّقِ اللهَ عَبْدٌ وَلْيَتَمَسَّكْ بِدِينِهِ»(2).

[36/277] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنهما)، قَالَا:حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ جَمِيعاً، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ وَعَبْدُ اللهِ ابْنُ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ الْأَشْعَرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُسَاوِرِ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ الْجُعْفِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِيَّاكُمْ وَالتَّنْوِيهَ(3)، أَمَا وَاللهِ لَيَغِيبَنَّ إِمَامُكُمْ سِنِيناً(4) مِنْ دَهْرِكُمْ، وَلَتُمَحَّصُنَّ حَتَّىٰ يُقَالَ: مَاتَ(5) أَوْ هَلَكَ، بِأَيِّ وَادٍ سَلَكَ؟ وَلَتَدْمَعَنَّ عَلَيْهِ عُيُونُ المُؤْمِنِينَ، وَلَتُكْفَؤُنَّ كَمَا تُكْفَأُ السُّفُنُ فِي أَمْوَاجِ الْبَحْرِ(6)، وَلَا يَنْجُو إِلَّا مَنْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَهُ وَكَتَبَ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُ بِرُوحٍ مِنْهُ، وَلَتُرْفَعَنَّ اثْنَتَا عَشْرَةَ رَايَةً مُشْتَبِهَةً لَا يُدْرَىٰ أَيٌّ مِنْ أَيٍّ»، قَالَ:

ص: 25


1- أي أشار بيده، وفي معنىٰ القول توسُّع. قال بثوبه أي رفعه، وبيده أي أشار، وبرجله أي مشىٰ. والخارط: من يضرب بيده علىٰ أعلىٰ الغصن ثمّ يمدُّها إلى الأسفل ليسقط ورقه. والقتاد شجر له شوك. والخبر في الكافي عن صالح بن خالد، عن يمان التمَّار.
2- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 126 و127/ ح 127)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 335 و336/ باب في الغيبة/ ح 1)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 173 و174/ باب 10/ فصل 3/ ح 11)، والحلبي (رحمة الله) في تقريب المعارف (ص 432)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 455/ ح 465).
3- التنويه: الرفع والتشهير والدعوة. يعني لا تشهروا أنفسكم، أو لا تدعوا الناس إلىٰ دينكم.
4- التنوين علىٰ لغة بنى عامر كما قال الأزهري علىٰ ما في التصريح.
5- زاد في الكافي: (قتل).
6- لتكفأنَّ علىٰ بناء المجهول من المخاطب أو الغائب، من قولهم: كفأت الإناء إذا كببته، كناية عن اضطرابهم وتزلزلهم في الدِّين من شدَّة الفتن. (المرآة).

فَبَكَيْتُ، فَقَالَ [لِي]: «مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؟»، فَقُلْتُ: وَكَيْفَ لَا أَبْكِي وَأَنْتَ تَقُولُ: «اثْنَتَا عَشْرَةَ رَايَةً مُشْتَبِهَةً لَا يُدْرَىٰ أَيٌّ مِنْ أَيٍّ»؟ فَكَيْفَ نَصْنَعُ؟ قَالَ: فَنَظَرَ إِلَىٰ شَمْسٍ دَاخِلَةٍ فِي الصُّفَّةِ، فَقَالَ: «يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ تَرَىٰ هَذِهِ الشَّمْسَ؟»، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «وَاللهِ لَأَمْرُنَا أَبْيَنُ مِنْهَذِهِ الشَّمْسِ»(1)(2).

ص: 26


1- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 125 و126/ ح 125)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 336/ باب في الغيبة/ ح 3)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 153 و154/ باب 10/ ح 9)، والطبري (رحمة الله) في دلائل الإمامة (ص 532 و533/ ح 512/116)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 337 و338/ ح 285).
2- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي (ج 6/ ص 251 و252): (قوله: «إيَّاكم والتنويه» لعلَّ المراد تنويه أمره وغيبته وتشهيرها عند المخالفين. قوله: «ولتمحِّصنَّ» محَّصت الذهب بالنار إذا أخلصته ممَّا يشوبه من الغشِّ، والتمحيص بالصاد المهملة الابتلاء والاختبار، والمقصود أنَّكم تُختَبرون بغيبته ليتميَّز الخبيث من الطيِّب. قوله: «حتَّىٰ يقال: مات» الظاهر أنَّ هذا قول الشيعة المفتونين بطول الغيبة أو أنَّ ما نزل عليهم من البؤس والقنوط ومشقَّة انتظار الفرج وإصابة البلاء والشدَّة وبعد رجاء الخلاص منه بظهور المنتظر، وفيه إشارة إلىٰ ما يقع في آخر الزمان عند قرب ظهور الحجَّة من الهرج والمرج وانتشار الظلم والجور والسبي والنهب والقتل والغارة وارتفاع الشبهة عن الخلق. قوله: «ولتكفأنَّ» يقال: كفأت الإناء أي كببته وقلبته فهو مكفوء، وقيل: جاء اكفأت، والتشبيه من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس لزيادة الإيضاح. قوله: «فلا ينجو إلَّا من أخذ الله ميثاقه» فإنَّ من قبل ولايته وإمامته عند أخذ العهد والميثاق ينجو من أمواج بحار الفتن ويبقىٰ علىٰ دينه ويصبر علىٰ الشدائد بعون الله. قوله: «وكتب في قلبه الإيمان» أي أثبته فيه حتَّىٰ صار مستقرًّا لا يزول بالشُّبُهات ونزول النوائب والبليَّات بخلاف الإيمان المستودع فإنَّه كثيراً ما يزول بتوارد الشكوك والتدليسات. قوله: «وأيَّده بروح منه» الضمير راجع إلىٰ الله تعالىٰ، والمراد بالروح المَلَك الموكَّل بالقلب أو نوره وهو نور إلهي يرىٰ به صور المعقولات الحسنة والقبيحة فيتَّبع الأُولىٰ ويجتنَّب عن الثانية، فلا تزلُّ قدمه بعد ثبوتها، أو القرآن فإنَّه روح القلب وحياته، يتميَّز به بين الحقِّ والباطل، أو البصيرة علىٰ ما ينفع وما يضرُّ، ويحتمل أنْ يعود الضمير إلىٰ الإيمان فإنَّه سبب لحياة القلب ولذلك سمَّاه روحه. قوله: «ولترفعنَّ اثنتا عشرة راية» هذا من علامات ظهور القائم (علیه السلام)، وعند هذه يقع الفساد في الخلق وانقطاع نظامهم بالكلّيَّة وتضيق الأُمور عليهم، ولعلَّ المراد باشتباه تلك الرايات ادِّعاء صاحب كلِّ واحد أنَّه حقٌّ وغيره باطل، فيقع الاشتباه فيها ويتحيَّر الخلائق في أمر دينهم ودنياهم حتَّىٰ لا يُدرىٰ أيُّ رجل من أيِّ راية لتبُّدد النظام فيهم وانقطاع عنان الاجتماع وسلسلة الانضمام عنهم. ويحتمل أنْ يُراد باشتباهها تداخل بعضها علىٰ بعض حتَّىٰ لا يُدرىٰ أيُّ راية من أيِّ رجل، والله أعلم. قوله: «فكيف نصنع» عند ارتفاع تلك الرايات؟ وبِمَ نُميِّز بين المحقِّ والمبطل؟ فأجاب (علیه السلام) بأنَّ أمرنا عند ظهور الدولة القاهرة أظهر من الشمس أو في قلوب المؤمنين فلا يقع الالتباس بين الحقِّ والباطل كما لا يقع الالتباس بين النور والظلمة، فالعارفون عارفون بحقِّنا إيماناً وتصديقاً والمنكرون منكرون لحقِّنا حسداً وعناداً). وقال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 52/ ص 282 و283): (بيان: التنويه: التشهير أي لا تشهروا أنفسكم، أو لا تدعوا الناس إلىٰ دينكم، أو لا تشهروا ما نقول لكم من أمر القائم (علیه السلام) وغيره ممَّا يلزم إخفاؤه عن المخالفين. «وليُمحَّص» على بناء التفعيل المجهول من التمحيص، بمعنىٰ الابتلاء والاختبار، ونسبته إليه (علیه السلام) علىٰ المجاز، أو علىٰ بناء المجرَّد المعلوم، من محص الظبي - كمنع - إذا عدا، ومحص منِّي: أي هرب. وفي بعض نُسَخ الكافي علىٰ بناء المجهول المخاطب، من التفعيل مؤكَّداً بالنون، وهو أظهر، وقد مرَّ في النعماني: «وليخملنَّ». ولعلَّ المراد بأخذ الميثاق قبوله يوم أخذ الله ميثاق نبيِّه وأهل بيته، مع ميثاق ربوبيَّته، كما مرَّ في الأخبار. «وكتب في قلبه الإيمان» إشارة إلىٰ قوله تعالىٰ: «لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» [المجادلة: 22]، والروح هو روح الإيمان كما مرَّ. «مشتبهة» أي علىٰ الخلق، أو متشابهة يشبه بعضها بعضاً ظاهراً. و«لا يُدرىٰ» علىٰ بناء المجهول، و«أيٌّ» مرفوع به، أي لا يُدرىٰ أيٌّ منها حقٌّ متميِّزاً من أيٍّ منها هو باطل. فهو تفسير للاشتباه، وقيل: «أيٌّ» مبتدأ، و«من أيٍّ» خبره، أي كلُّ راية منها لا يُعرَف كونه من أيِّ جهة من جهة الحقِّ أو من جهة الباطل؟ وقيل: لا يُدرىٰ أيُّ رجل من أيِّ راية، لتبدو النظام منهم، والأوَّل أظهر).

[37/278] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُعَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَصَمِّ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ المُخْتَارِ الْقَلَانِسِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَيَابَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا بَقِيتُمْ بِلَا إِمَامٍ هُدًى وَلَا عَلَمٍ، يَتَبَرَّأُ

ص: 27

بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ فَعِنْدَ ذَلِكَ تُمَيَّزُونَ وَتُمَحَّصُونَ وَتُغَرْبَلُونَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ اخْتِلَافُ السَّيْفَيْنِ(1)، وَإِمَارَةٌ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ وَقَتْلٌ وَخَلْعٌ(2) مِنْ آخِرِ النَّهَارِ»(3).

[38/279] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ وَيَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ جَمِيعاً، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ جَعْفَرِ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ رَجُلٍ - وَاسْمُهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: قَالَ: «إِذَا أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ لَا تَرَىٰ إِمَاماً تَأْتَمُّ بِهِ فَأَحْبِبْ مَنْ كُنْتَ تُحِبُّ وَأَبْغِضْ مَنْ كُنْتَ تُبْغِضُ حَتَّىٰ يُظْهِرَهُ اللهُ (عزوجل)»(4).

[39/280] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ ابْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ وَمُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ بْنِ عُبَيْدٍ(5)، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ، عَمَّنْ أَثْبَتَهُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا بَقِيتُمْ دَهْراً مِنْعُمُرِكُمْ لَا تَعْرِفُونَ إِمَامَكُمْ؟»، قِيلَ لَهُ: فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَكَيْفَ نَصْنَعُ؟ قَالَ: «تَمَسَّكُوا بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ حَتَّىٰ يَسْتَبِينَ لَكُمْ(6)»(7)(8).

ص: 28


1- في بعض النُّسَخ: (اختلاف السُّنَن)، وفي بحار الأنوار (ج 52/ ص 112): (اختلاف السنين).
2- في بعض النُّسَخ: (وقطع).
3- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 130 و131/ ح 136).
4- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 127/ ح 128).
5- في بعض النُّسَخ: (وعثمان بن عيسىٰ).
6- أي تمسَّكوا بما تعلمون من دينكم وإمامكم ولا تتزلزلوا وتتحيَّروا وترتدُّوا، أو لا تؤمنوا بمن يدَّعي أنَّه الحجَّة حتَّىٰ يستبين لكم.
7- رواه بتفاوت النعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 162/ باب 10/ فصل 2/ ح 5).
8- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 52/ ص 133): (بيان: المقصود من هذه الأخبار عدم التزلزل في الدِّين والتحيُّر في العمل، أي تمسَّكوا في أُصول دينكم وفروعه بما وصل إليكم من أئمَّتكم، ولا تتركوا العمل ولا ترتدُّوا حتَّىٰ يظهر إمامكم. ويحتمل أنْ يكون المعنىٰ: لا تؤمنوا بمن يدَّعي أنَّه القائم حتَّىٰ يتبيَّن لكم بالمعجزات).

[40/281] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سِنَانٍ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَىٰ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، فَقَالَ: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا صِرْتُمْ فِي حَالٍ لَا تَرَوْنَ فِيهَا إِمَامَ هُدًى وَلَا عَلَماً يُرَىٰ؟ وَلَا يَنْجُو مِنْهَا إِلَّا مَنْ دَعَا دُعَاءَ الْغَرِيقِ»، فَقَالَ لَهُ أَبِي: إِذَا وَقَعَ هَذَا لَيْلاً فَكَيْفَ نَصْنَعُ؟ فَقَالَ: «أَمَّا أَنْتَ فَلَا تُدْرِكُهُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَتَمَسَّكُوا بِمَا فِي أَيْدِيكُمْ حَتَّىٰ يَتَّضِحَ لَكُمُ الْأَمْرُ»(1).

[41/282] حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ المُغِيرَةِ الْكُوفِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي جَدِّيَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَامِرٍ الْقَصَبَانِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبَانٍ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «يَأْتِي عَلَىٰ النَّاسِ زَمَانٌ يُصِيبُهُمْ فِيهِسَبْطَةٌ(2) يَأْرِزُ الْعِلْمُ فِيهَا بَيْنَ المَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ فِي جُحْرِهَا، يَعْنِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَطْلَعَ اللهُ (عزوجل) لَهُمْ نَجْمَهُمْ»، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا السَّبْطَةُ؟ قَالَ: «الْفَتْرَةُ وَالْغَيْبَةُ لِإِمَامِكُمْ»، قَالَ: قُلْتُ: فَكَيْفَ نَصْنَعُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: «كُونُوا عَلَىٰ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يُطْلِعَ اللهُ لَكُمْ نَجْمَكُمْ»(3)(4).

ص: 29


1- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 127/ ح 129)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 162/ باب 10/ فصل 2/ ح 6).
2- في بعض النُّسَخ: (بسطة) هنا وما يأتي، وفي بعضها: (شيطة) كذلك. قوله: يأرز - بتقديم المهملة - أي تنضمُّ وتجتمع بعضه إلىٰ بعض وتقبض، والحيَّة لاذت بجحرها ورجعت إليه وثبتت في مكانها.
3- رواه النعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 162/ باب 10/ فصل 2/ ح 6).
4- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 52/ ص 134 و135): (بيان قال الفيروزآبادي: أسبط: سكت فرقاً. وبالأرض: لصق وامتدَّ من الضرب. وفي نومه: غمَّض. وعن الأمر: تغابىٰ، وانبسط، ووقع، فلم يقدر أنْ يتحرَّك. انتهىٰ. وفي الكافي في خبر [أبان] بن تغلب: «كيف أنت إذا وقعت البطشة بين المسجدين، فيأرز العلم» فيكون إشارة إلىٰ جيش السفياني واستيلائهم بين الحرمين، وعلىٰ ما في الأصل لعلَّ المعنىٰ يأرز العلم بسبب ما يحدث بين المسجدين أو يكون خفاء العلم في هذا الموضع أكثر بسبب استيلاء أهل الجور فيه. وقال الجزري: فيه أنَّ الإسلام ليأرز إلىٰ المدينة كما تأرز الحيَّة إلىٰ جحرها، أي ينضمُّ إليه ويجتمع بعضه إلىٰ بعض فيها).

[42/283] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ، عَنْ مُوسَىٰ بْنِ سَعْدَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ(علیه السلام) عَنْ تَفْسِيرِ جَابِرٍ، فَقَالَ: «لَا تُحَدِّثْ بِهِ السُّفَّلَ فَيُذِيعُوهُ، أَمَا تَقْرَأُ فِي كِتَابِ اللهِ (عزوجل): «فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ 8»[المدَّثِّر: 8]؟ إِنَّ مِنَّا إِمَاماً مُسْتَتِراً، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ (عزوجل) إِظْهَارَ أَمْرِهِ نَكَتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةً فَظَهَرَ وَأَمَرَ بِأَمْرِ اللهِ (عزوجل)»(1).

[43/284] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عِيسَىٰ بْنِ عُبَيْدٍ الْيَقْطِينِيُّ جَمِيعاً، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَنْ عِيسَىٰ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ خَالِهِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ ابْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام)، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إِنْ كَانَ كَوْنٌ - لَا أَرَانِيَ اللهُ يَوْمَكَ - فَبِمَنْ أَئْتَمُّ؟ فَأَوْمَأَ إِلَىٰ مُوسَىٰ (علیه السلام)، فَقُلْتُ: فَإِنْ مَضَىٰ مُوسَىٰ فَإِلَىٰ مَنْ؟ قَالَ: «إِلَىٰ وَلَدِهِ»، قُلْتُ: فَإِنْ مَضَىٰ وَلَدُهُ وَتَرَكَ أَخاً كَبِيراً وَابْناً صَغِيراً فَبِمَنْ أَئْتَمُّ؟ قَالَ: «بِوَلَدِهِ»، ثُمَّ قَالَ: «هَكَذَا أَبَداً»، قُلْتُ: فَإِنْ أَنَا لَمْ أَعْرِفْهُ وَلَمْ أَعْرِفْ مَوْضِعَهُ فَمَا أَصْنَعُ؟ قَالَ: «تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَوَلَّىٰ مَنْ بَقِيَ مِنْ حُجَجِكَ مِنْ وُلْدِ الْإِمَامِ المَاضِي، فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِيكَ»(2)(3).

ص: 30


1- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 123/ ح 121)، والمسعودي في إثبات الوصيَّة (ص 269).
2- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 124/ ح 122)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 309/ باب الإشارة والنصِّ علىٰ أبي الحسن موسىٰ (علیه السلام)/ ح 7).
3- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي (ج 6/ ص 177): (قوله: «فإنَّ ذلك يجزيك» وبذلك يخرج عمَّا روي من أنَّه «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليَّة»، وفيه دلالة واضحة علىٰ أنَّ الإيمان علىٰ سبيل الإجمال بما جاء به النبيُّ (صلی الله علیه و آله) مع عدم العلم بتفاصيله كافٍ ثمّ يجب الإيمان به علىٰ الخصوص بعد التفصيل وتحصيله، وهو الحقُّ الذي لا ريب فيه، لئلَّا يفوت الإيمان، ولا يُترَك الميسور بالمعسور، ولا يلزم طلب المحال).

[44/285] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ، عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «يَأْتِي عَلَىٰ النَّاسِ زَمَانٌ يَغِيبُ عَنْهُمْ إِمَامُهُمْ»، فَقُلْتُ لَهُ: مَا يَصْنَعُ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ؟ قَالَ: «يَتَمَسَّكُونَ بِالْأَمْرِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ»(1).

[45/286] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ الْعَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ كُلْثُومٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ هِلَالٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «يَكُونُ بَعْدَ الْحُسَيْنِ تِسْعَةُ أَئِمَّةٍ، تَاسِعُهُمْ قَائِمُهُمْ»(2).

[46/287] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ الْعَلَوِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ الْعَيَّاشِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «إِنَّ فِي صَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ سُنَنٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ (علیهم السلام)، سُنَّةً مِنْ مُوسَىٰ بْنِ عِمْرَانَ، وَسُنَّةً مِنْ عِيسَىٰ، وَسُنَّةً مِنْ يُوسُفَ، وَسُنَّةً مِنْ مُحَمَّدٍ(صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ)، فَأَمَّا سُنَّتُهُ مِنْ مُوسَىٰ بْنِ عِمْرَانَ فَخَائِفٌ يَتَرَقَّبُ، وَأَمَّا سُنَّتُهُ مِنْ عِيسَىٰ فَيُقَالُ فِيهِ مَا قِيلَ فِي عِيسَىٰ، وَأَمَّا سُنَّتُهُ مِنْ يُوسُفَ

ص: 31


1- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 125/ ح 123).
2- رواه بسند آخر المفيد (رحمة الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 347)، والكراجكي (رحمة الله) في الاستنصار (ص 17).

فَالسِّتْرُ يَجْعَلُ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ حِجَاباً يَرَوْنَهُ وَلَا يَعْرِفُونَهُ، وَأَمَّا سُنَّتُهُ مِنْ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) فَيَهْتَدِي بِهُدَاهُ ويَسِيرُ بِسِيرَتِهِ».

[47/288] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَبْرَئِيلُ بْنُ أَحْمَدَ(1)، قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَىٰ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ وَهْبٍ الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَىٰ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبَانٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ المُغِيرَةِ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): هَلْ يَكُونُ النَّاسُ فِي حَالٍ لَا يَعْرِفُونَ الْإِمَامَ؟ فَقَالَ: «قَدْ كَانَ يُقَالُ ذَلِكَ»، قُلْتُ: فَكَيْفَ يَصْنَعُونَ؟ قَالَ: «يَتَعَلَّقُونَ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ حَتَّىٰ يَسْتَبِينَ لَهُمُ الْآخَرُ».

[48/289] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَىٰ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرٍ (علیهما السلام)، قَالَ: «سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) يَقُولُ فِي قَوْلِ اللهِ (عزوجل): «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ 30» [الملك: 30]، قَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ غَابَ عَنْكُمْ إِمَامُكُمْ فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِإِمَامٍ جَدِيدٍ»(2)(3).

ص: 32


1- جبرئيل بن أحمد الفاريابي أبو محمّد، كان مقيما بكشٍّ، كثير الرواية عن العلاء بالعراق وقم وخراسان. (منهج المقال).
2- روىٰ قريباً منه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 339 و340/ باب في الغيبة/ ح 14)، وسيأتي عن أبي الحسن موسىٰ بن جعفر (علیهما السلام) تحت الرقم (299/3)، فانتظر.
3- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي (ج6/ ص 264): (شبَّه الإمام الغائب بالماء الغائر في الخفاء عن الخلق مع كثرة النفع وشدَّة احتياجهم إليه، وشبَّه الإمام الحاضر الذي يأتي بعد غيبته بالماء المعين الجاري في الأرض في جريانه وسيره فيها ونفعه لأهلها، وفيه علىٰ هذا التأويل دلالة علىٰ الغيبة وعلىٰ أنَّ تعيين الإمام ونصبه من عند الله تعالىٰ، وهو الحقُّ). وقال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول (ج 4/ ص 49 و50): (علىٰ التأويل الوارد في الخبر استعار الماء للعلم، لأنَّه سبب لحياة الأرواح، كما أنَّ الماء سبب لحياة الأبدان، واختفاء العالم يوجب اختفاء العلم. «بإمام جديد» أي ظاهر بعد الغيبة، فالجديد لازم للمعين باعتبار كونه بعد الغور والخفاء. وممَّا يُؤيِّد ما ذكرنا أنَّ المراد تشبيه علم الإمام بالماء ما رواه عليُّ بن إبراهيم بإسناده قال: سُئِلَ الرضا (علیه السلام) عن قول الله (عزوجل): «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً...» الآية، فقال (علیه السلام): ««مَاؤُكُمْ» أبوابكم الأئمَّة، والأئمَّة أبواب الله، «فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ 30» يعني يأتيكم بعلم الإمام»). وقال (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 24/ ص 101): (بيان: كون الماء كناية عن علم الإمام، لاشتراكهما في كون أحدهما سبب حياة الجسم، والآخر سبب حياة الروح غير مستبعد، والمعين: الماء الظاهر الجاري علىٰ وجه الأرض).

[49/290] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ وَهْبٍ الْبَغْدَادِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّيْرَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَىٰ بْنُ المُثَنَّىٰ الْعَطَّارُ(1)، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) يَقُولُ: «يَفْقِدُ النَّاسُ إِمَامَهُمْ، يَشْهَدُ المَوْسِمَ فَيَرَاهُمْ وَلَا يَرَوْنَهُ»(2).

[50/291] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: وَجَدْتُ بِخَطِّ جَبْرَئِيلَ ابْنِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي الْعُبَيْدِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَىٰ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ سِنَانٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «سَتُصِيبُكُمْ شُبْهَةٌ فَتَبْقَوْنَ بِلَا عَلَمٍ يُرَىٰ، وَلَا إِمَامٍ هُدًى، وَلَا يَنْجُو مِنْهَا إِلَّا مَنْ دَعَا بِدُعَاءِ الْغَرِيقِ»، قُلْتُ: كَيْفَ دُعَاءُ الْغَرِيقِ؟ قَالَ: «يَقُولُ: يَا اللهُ يَا رَحْمَانُ يَا رَحِيمُ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَىٰ دِينِكَ»، فَقُلْتُ: يَا اللهُ يَا رَحْمَانُ يَا رَحِيمُ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَىٰ دِينِكَ، قَالَ: «إِنَّ اللهَ (عزوجل) مُقَلِّبُ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ وَلَكِنْ قُلْ كَمَا أَقُولُ لَكَ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَىٰ دِينِكَ»(3)(4).

ص: 33


1- كذا، وفي أكثر النُّسَخ وبحار الأنوار (ج 52/ ص 151)، وفي بعض النُّسَخ: (جعفر بن نجم المثنَّىٰ العطَّار).
2- قد مرَّ بسند آخر تحت الرقم (275/34)، فراجع.
3- يدلُّ علىٰ أنَّه لا ينبغي تغيير ألفاظ الدعاء المرويِّ بزيادة ولو كانت تُرىٰ أحسن. وقال ابن طاوس (رحمة الله) في مهج الدعوات (ص 333): (أقول: لعلَّ معنىٰ قوله: «الأبصار» لأنَّ تقلُّب القلوب والأبصار يكون يوم القيامة من شدَّة أهواله وفي الغيبة إنَّما يخاف من تقلُّب القلوب دون الأبصار).
4- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 238).

[51/292] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَاتِمٍ النَّوْفَلِيُّ المَعْرُوفُ بِالْكِرْمَانِيِّ(1)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَىٰ الْوَشَّاءُ الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ طَاهِرٍ [الْقُمِّيُّ]، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرِ بْنِ سَهْلٍ الشَّيْبَانِيُّ(2)، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ ابْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍالْجَوَاشِنِيِّ(3)، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبُدَيْليُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبِي، عَنْ سَدِيرٍ الصَّيْرَفِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَالمُفَضَّلُ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو بَصِيرٍ وَأَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ عَلَىٰ مَوْلَانَا أَبِي عَبْدِ اللهِ الصَّادِقِ (علیه السلام)، فَرَأَيْنَاهُ جَالِساً عَلَىٰ التُّرَابِ وَعَلَيْهِ مِسْحٌ خَيْبَرِيٌّ(4) مُطَوَّقٌ بِلَا جَيْبٍ، مُقَصَّرُ الْكُمَّيْنِ، وَهُوَ يَبْكِي بُكَاءَ الْوَالِهِ الثَّكْلَىٰ، ذَاتَ الْكَبِدِ الْحَرَّىٰ، قَدْ نَالَ الْحُزْنُ مِنْ وَجْنَتَيْهِ، وَشَاعَ التَّغْيِيرُ فِي عَارِضَيْهِ، وَأَبْلَىٰ الدُّمُوعُ مَحْجِرَيْهِ(5)، وَهُوَ يَقُولُ: «سَيِّدِي غَيْبَتُكَ نَفَتْ رُقَادِي، وَضَيَّقَتْ عَلَيَّ مِهَادِي، وَابْتَزَّتْ مِنِّي رَاحَةَ فُؤَادِي، سَيِّدِي غَيْبَتُكَ أَوْصَلَتْ مُصَابِي بِفَجَائِعِ الْأَبَدِ، وَفَقْدُ الْوَاحِدِ بَعْدَ الْوَاحِدِ يُفْنِي الْجَمْعَ وَالْعَدَدَ، فَمَا أُحِسُّ بِدَمْعَةٍ تَرْقَىٰ مِنْ عَيْنِي وَأَنِينٍ يَفْتُرُ مِنْ صَدْرِي(6) عَنْ دَوَارِجِ الرَّزَايَا وَسَوَالِفِ الْبَلَايَا إِلَّا مُثِّلَ بِعَيْنِي عَنْ

ص: 34


1- كذا، وهكذا في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) في صدر سند حديث، لكن في بعض النُّسَخ المصحَّحة صحَّحه بقلم أحمر بالبوفكي. ولكن في رجال المامقاني وقاموس الرجال كما في المتن. وأحمد بن عيسىٰ عنونه الخطيب في تاريخ بغداد وقال: كان ثقةً، تُوفِّي في رجب (322ه) أو (323ه).
2- محمّد بن بحر بن سهل من أهل سجستان، قيل: في مذهبه ارتفاع وحديثه قريب من السلامة. (رجال النجاشي: ص 384/ الرقم 1044). وقال ابن الغضائري (رحمة الله) في رجاله (ص 98/ الرقم 147/32): (ضعيف وفي مذهبه ارتفاع). وأمَّا راويه أحمد بن طاهر فمهمل. وفي بعض النُّسَخ: (أحمد بن عبد الله).
3- عليُّ بن حارث مهمل، وسعيد بن منصور الجواشني من رؤساء الزيديَّة، ولم أجد أحمد بن عليٍّ البديلي، وهو وأبوه مهملان، والحديث غريب.
4- المسح - بكسر الميم -: الكساء من الشعر.
5- المحجر - كمجلس ومنبر -: من العين ما دار بها وبدا من البرقع.
6- يفتر أي يخرج بفتور وضعف.

غَوَابِرِ أَعْظَمِهَا وَأَفْضَعِهَا، وَبَوَاقِي(1) أَشَدِّهَا وَأَنْكَرِهَا، وَنَوَائِبَ مَخْلُوطَةٍ بِغَضَبِكَ، وَنَوَازِلَ مَعْجُونَةٍ بِسَخَطِكَ».

قَالَ سَدِيرٌ: فَاسْتَطَارَتْ عُقُولُنَا وَلَهاً، وَتَصَدَّعَتْ قُلُوبُنَا جَزَعاً مِنْ ذَلِكَالْخَطْبِ الْهَائِلِ، وَالْحَادِثِ الْغَائِلِ(2)، وَظَنَنَّا أَنَّهُ سَمَتَ لِمَكْرُوهَةٍ قَارِعَةٍ(3) أَوْ حَلَّتْ بِهِ مِنَ الدَّهْرِ بَائِقَةٌ، فَقُلْنَا: لَا أَبْكَىٰ اللهُ يَا ابْنَ خَيْرِ الْوَرَىٰ عَيْنَيْكَ، مِنْ أَيَّةِ حَادِثَةٍ تَسْتَنْزِفُ دَمْعَتَكَ(4) وَتَسْتَمْطِرُ عَبْرَتَكَ؟ وَأَيَّةُ حَالَةٍ حَتَمَتْ عَلَيْكَ هَذَا المَأْتَمَ؟

قَالَ: فَزَفَرَ(5) الصَّادِقُ (علیه السلام) زَفْرَةً انْتَفَخَ مِنْهَا جَوْفُهُ، وَاشْتَدَّ عَنْهَا خَوْفُهُ، وَقَالَ: «وَيْلَكُمْ(6) نَظَرْتُ فِي كِتَابِ الْجَفْرِ صَبِيحَةَ هَذَا الْيَوْمِ وَهُوَ الْكِتَابُ المُشْتَمِلُ عَلَىٰ عِلْمِ المَنَايَا وَالْبَلَايَا وَالرَّزَايَا وَعِلْمِ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّذِي خَصَّ اللهُ بِهِ مُحَمَّداً وَالْأَئِمَّةَ مِنْ بَعْدِهِ (علیهم السلام)، وَتَأَمَّلْتُ مِنْهُ مَوْلِدَ قَائِمِنَا وَغِيبَتَهُ وَإِبْطَاءَهُ وَطُولَ عُمُرِهِ، وَبَلْوَىٰ المُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَتَوَلُّدَ الشُّكُوكِ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ طُولِ غَيْبَتِهِ، وَارْتِدَادَ أَكْثَرِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَخَلْعَهُمْ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ أَعْنَاقِهِمُ الَّتِي قَالَ اللهُ (تَقَدَّسَ ذِكْرُهُ): «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ» [الإسراء: 13]، يَعْنِي الْوَلَايَةَ، فَأَخَذَتْنِي الرِّقَّةُ وَاسْتَوْلَتْ عَلَيَّ الْأَحْزَانُ»، فَقُلْنَا: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، كَرِّمْنَا وَفَضِّلْنَا(7) بِإِشْرَاكِكَ إِيَّانَا فِي بَعْضِ مَا أَنْتَ تَعْلَمُهُ مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ.

ص: 35


1- الغوابر جمع غابر: نقيض الماضي. والغوابر والبواقي في قبال الدوارج والسوالف في المستثنىٰ منه، وصُحِّف في بعض النُّسَخ وبحار الأنوار بالعوائر والتراقي، وتكلَّف العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في توجيهه، وحاصل المعنىٰ: أنَّه ما يسكن بي شيء من البلايا الماضية إلَّا وعوَّض عنه من الأُمور الآتية بأعظم منها.
2- الغائل: المهلك، والغوائل: الدواهي.
3- سمت لهم أي هيَّأ لهم وجه الكلام والرأي.
4- استنزف الدمع: استنزله أو استخرجه كلَّه.
5- زفر الرجل: أخرج نفسه مع مدِّه إيَّاه. والزفرة: التنفُّس مع مدِّ النفس.
6- قد يرد الويل بمعنىٰ التعجُّب. (النهاية: ج 5/ ص 236).
7- في بعض النُّسَخ: (وشرِّفنا).

قَالَ: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ أَدَارَ لِلْقَائِمِ مِنَّا ثَلَاثَةً أَدَارَهَا فِي ثَلَاثَةٍ مِنَ الرُّسُلِ (علیهم السلام)، قَدَّرَ مَوْلِدَهُ تَقْدِيرَ مَوْلِدِ مُوسَىٰ (علیه السلام)، وَقَدَّرَ غَيْبَتَهُ تَقْدِيرَ غَيْبَةِ عِيسَىٰ (علیه السلام)، وَقَدَّرَ إِبْطَاءَهُ تَقْدِيرَ إِبْطَاءِ نُوحٍ (علیهالسلام)، وَجَعَلَ لَهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عُمُرَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ - أَعْنِي الْخَضِرَ (علیه السلام) - دَلِيلاً عَلَىٰ عُمُرِهِ»، فَقُلْنَا لَهُ: اكْشِفْ لَنَا يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ عَنْ وُجُوهِ هَذِهِ المَعَانِي.

قَالَ (علیه السلام): «أَمَّا مَوْلِدُ مُوسَىٰ (علیه السلام) فَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا وَقَفَ عَلَىٰ أَنَّ زَوَالَ مُلْكِهِ عَلَىٰ يَدِهِ أَمَرَ بِإِحْضَارِ الْكَهَنَةِ، فَدَلُّوهُ عَلَىٰ نَسَبِهِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَزَلْ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِشَقِّ بُطُونِ الْحَوَامِلِ مِنْ نِسَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّىٰ قَتَلَ فِي طَلَبِهِ نَيِّفاً وَعِشْرِينَ أَلْفَ مَوْلُودٍ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إِلَىٰ قَتْلِ مُوسَىٰ (علیه السلام) بِحِفْظِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ إِيَّاهُ، وَكَذَلِكَ بَنُو أُمَيَّةَ وَبَنُو الْعَبَّاسِ لَمَّا وَقَفُوا عَلَىٰ أَنَّ زَوَالَ مُلْكِهِمْ وَمُلْكِ الْأُمَرَاءِ(1) وَالْجَبَابِرَةِ مِنْهُمْ عَلَىٰ يَدِ الْقَائِمِ مِنَّا نَاصَبُونَا الْعَدَاوَةَ، وَوَضَعُوا سُيُوفَهُمْ فِي قَتْلِ آلِ الرَّسُولِ (صلی الله علیه و آله)(2) وَإِبَادَةِ نَسْلِهِ طَمَعاً مِنْهُمْ فِي الْوُصُولِ إِلَىٰ قَتْلِ الْقَائِمِ، وَيَأْبَىٰ اللهُ (عزوجل) أَنْ يَكْشِفَ أَمْرَهُ لِوَاحِدٍ مِنَ الظَّلَمَةِ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ.

وَأَمَّا غَيْبَةُ عِيسَىٰ (علیه السلام) فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ اتَّفَقَتْ عَلَىٰ أَنَّهُ قُتِلَ، فَكَذَّبَهُمُ اللهُ (جَلَّ ذِكْرُهُ) بِقَوْلِهِ: «وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» [النساء:157]، كَذَلِكَ غَيْبَةُ الْقَائِمِ فَإِنَّ الْأُمَّةَ سَتُنْكِرُهَا لِطُولِهَا، فَمِنْ قَائِلٍ يَهْذِي بِأَنَّهُ لَمْ يَلِدْ(3)، وَقَائِلٍ يَقُولُ: إِنَّهُ يَتَعَدَّىٰ إِلَىٰ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَصَاعِداً، وَقَائِلٍ يَعْصِي اللهَ (عزوجل) بِقَوْلِهِ: إِنَّ رُوحَ الْقَائِمِ يَنْطِقُ فِي هَيْكَلِ غَيْرِهِ.

وَأَمَّا إِبْطَاءُ نُوحٍ (علیه السلام) فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتُنْزِلَتِ الْعُقُوبَةُ عَلَىٰ قَوْمِهِمِنَ السَّمَاءِ بَعَثَ

ص: 36


1- في بعض النُّسَخ: (زوال ملكهم والأُمراء...) إلخ.
2- في بعض النُّسَخ: (في قتل أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله)).
3- في بحار الأنوار (ج 51/ ص 220): (فمن قائل بغير هدىٰ بأنَّه لم يولد).

اللهُ (عزوجل) الرُّوحَ الْأَمِينَ (علیه السلام) بِسَبْعِ نَوَيَاتٍ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ يَقُولُ لَكَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ خَلَائِقِي وَعِبَادِي وَلَسْتُ أُبِيدُهُمْ بِصَاعِقَةٍ مِنْ صَوَاعِقِي إِلَّا بَعْدَ تَأْكِيدِ الدَّعْوَةِ وَإِلْزَامِ الْحُجَّةِ، فَعَاوِدِ اجْتِهَادَكَ فِي الدَّعْوَةِ لِقَوْمِكَ فَإِنِّي مُثِيبُكَ عَلَيْهِ، وَاغْرِسْ هَذِهِ النَّوَىٰ فَإِنَّ لَكَ فِي نَبَاتِهَا وَبُلُوغِهَا وَإِدْرَاكِهَا إِذَا أَثْمَرَتِ الْفَرَجَ وَالْخَلَاصَ، فَبَشِّرْ بِذَلِكَ مَنْ تَبِعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ.

فَلَمَّا نَبَتَتِ الْأَشْجَارُ وَتَأَزَّرَتْ وَتَسَوَّقَتْ وَتَغَصَّنَتْ وَأَثْمَرَتْ وَزَهَا التَّمْرُ عَلَيْهَا(1) بَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ اسْتَنْجَزَ مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ الْعِدَةَ، فَأَمَرَهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ أَنْ يَغْرِسَ مِنْ نَوَىٰ تِلْكَ الْأَشْجَارِ، وَيُعَاوِدَ الصَّبْرَ وَالْاِجْتِهَادَ، وَيُؤَكِّدَ الْحُجَّةَ عَلَىٰ قَوْمِهِ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ الطَّوَائِفَ الَّتِي آمَنَتْ بِهِ، فَارْتَدَّ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ وَقَالُوا: لَوْ كَانَ مَا يَدَّعِيهِ نُوحٌ حَقًّا لَمَا وَقَعَ فِي وَعْدِ رَبِّهِ خُلْفٌ.

ثُمَّ إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ لَمْ يَزَلْ يَأْمُرُهُ عِنْدَ كُلِّ مَرَّةٍ بِأَنْ يَغْرِسَهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَىٰ إِلَىٰ أَنْ غَرَسَهَا سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ الطَّوَائِفُ مِنَ المُؤْمِنِينَ تَرْتَدُّ مِنْهُ طَائِفَةٌ بَعْدَ طَائِفَةٍ إِلَىٰ أَنْ عَادَ إِلَىٰ نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ رَجُلاً، فَأَوْحَىٰ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَقَالَ: يَا نُوحُ الْآنَ أَسْفَرَ الصُّبْحُ عَنِ اللَّيْلِ لِعَيْنِكَ حِينَ صَرَّحَ الْحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ وَصَفَا [الْأَمْرُ وَالْإِيمَانُ] مِنَ الْكَدَرِ بِارْتِدَادِ كُلِّ مَنْ كَانَتْ طِينَتُهُ خَبِيثَةً، فَلَوْ أَنِّي أَهْلَكْتُ الْكُفَّارَ وَأَبْقَيْتُ مَنْ قَدِ ارْتَدَّ مِنَ الطَّوَائِفِ الَّتِي كَانَتْ آمَنَتْ بِكَ لَمَا كُنْتُ صَدَّقْتُ وَعْدِيَ السَّابِقَ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَخْلَصُوا التَّوْحِيدَ مِنْ قَوْمِكَ، وَاعْتَصَمُوا بِحَبْلِ نُبُوَّتِكَ بِأَنْ أَسْتَخْلِفَهُمْ فِيالْأَرْضِ وَأُمَكِّنَ لَهُمْ دِينَهُمْ وَأُبَدِّلَ خَوْفَهُمْ بِالْأَمْنِ لِكَيْ تَخْلُصَ الْعِبَادَةُ لِي بِذَهَابِ الشَّكِّ(2) مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَكَيْفَ يَكُونُ الْاِسْتِخْلَافُ

ص: 37


1- الأزر: الإحاطة، والقوَّة، والضعف (ضدٌّ). والمؤازرة أنْ يُقوِّي الزرع بعضه بعضاً. وسوق الشجر تسويقاً صار ذا ساق. (القاموس المحيط: ج 3/ ص 248). يعنى تقوَّت وتقوَّىٰ ساقها وكثرت أغصانها. وزهو التمرة: احمرارها واصفرارها.
2- في بعض النُّسَخ: (بذهاب الشرك).

وَالتَّمْكِينُ وَبَدَلُ الْخَوْفِ بِالْأَمْنِ مِنِّي لَهُمْ مَعَ مَا كُنْتُ أَعْلَمُ مِنْ ضَعْفِ يَقِينِ الَّذِينَ ارْتَدُّوا وَخُبْثِ طِينِهِمْ وَسُوءِ سَرَائِرِهِمُ الَّتِي كَانَتْ نَتَائِجَ النِّفَاقِ وَسُنُوحَ الضَّلَالَةِ(1)؟ فَلَوْ أَنَّهُمْ تَسَنَّمُوا مِنِّي المُلْكَ(2) الَّذِي أُوتِي المُؤْمِنِينَ وَقْتَ الْاِسْتِخْلَافِ إِذَا أَهْلَكْتُ أَعْدَاءَهُمْ لَنَشَقُوا رَوَائِحَ صِفَاتِهِ وَلَاسْتَحْكَمَتْ سَرَائِرُ نِفَاقِهِمْ(3) [وَ]تَأَبَّدَتْ حِبَالُ ضَلَالَةِ قُلُوبِهِمْ وَلَكَاشَفُوا إِخْوَانَهُمْ بِالْعَدَاوَةِ، وَحَارَبُوهُمْ عَلَىٰ طَلَبِ الرِّئَاسَةِ وَالتَّفَرُّدِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَكَيْفَ يَكُونُ التَّمْكِينُ فِي الدِّينِ وَانْتِشَارُ الْأَمْرِ فِي المُؤْمِنِينَ مَعَ إِثَارَةِ الْفِتَنِ وَإِيقَاعِ الْحُرُوبِ؟ كَلَّا، فَ- «اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا» [هود: 37]».

قَالَ الصَّادِقُ (علیه السلام): «وَكَذَلِكَ الْقَائِمُ فَإِنَّهُ تَمْتَدُّ أَيَّامُ غَيْبَتِهِ لِيُصَرِّحَ الْحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ وَيَصْفُوَ الْإِيمَانُ مِنَ الْكَدَرِ بِارْتِدَادِ كُلِّ مَنْ كَانَتْ طِينَتُهُ خَبِيثَةً مِنَ الشِّيعَةِ الَّذِينَ يُخْشَىٰ عَلَيْهِمُ النِّفَاقُ إِذَا أَحَسُّوا بِالْاِسْتِخْلَافِ وَالتَّمْكِينِ وَالْأَمْنِ المُنْتَشِرِ فِي عَهْدِ الْقَائِمِ (علیه السلام)».

قَالَ المُفَضَّلُ: فَقُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، فَإِنَّ [هَذِهِ] النَّوَاصِبَ تَزْعُمُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ(4) نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ (علیه السلام)، فَقَالَ:«لَا يَهْدِي اللهُ قُلُوبَ النَّاصِبَةِ، مَتَىٰ كَانَ الدِّينُ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللهُ وَرَسُولُهُ مُتَمَكِّناً بِانْتِشَارِ الْأَمْنِ(5) فِي الْأُمَّةِ، وَذَهَابِ الْخَوْفِ مِنْ قُلُوبِهَا، وَارْتِفَاعِ الشَّكِّ مِنْ صُدُورِهَا فِي عَهْدِ وَاحِدٍ مِنْ

ص: 38


1- أي ظهورها. وفي بعض النُّسَخ: (شيوخ الضلالة)، وفي بعضها: (شبوح الضلالة)، ولعلَّ الصواب: (شيوع الضلالة).
2- أي ركبوا الملك. وفي بعض النُّسَخ: (تنسَّموا) من تنسَّم النسيم أي تشمَّمه. وفي بعض النُّسَخ: (تنسَّموا من الملك).
3- في بعض النُّسَخ: (مرائر نفاقهم)، وفي بعضها: (من أثر نفاقهم). ونشقه - كفرحه - شمَّه. وفي بعض النُّسَخ: (تأيَّد حبال ظلالة قلوبهم).
4- أي قوله: «وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ...» الآية (النور: 55).
5- في بعض النُّسَخ: (بانتشار الأمر).

هَؤُلَاءِ، وَفِي عَهْدِ عَلِيٍّ (علیه السلام) مَعَ ارْتِدَادِ المُسْلِمِينَ وَالْفِتَنِ الَّتِي تَثُورُ فِي أَيَّامِهِمْ، وَالْحُرُوبِ الَّتِي كَانَتْ تَنْشَبُ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَبَيْنَهُمْ»، ثُمَّ تَلَا الصَّادِقُ (علیه السلام): ««حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا» [يوسف: 110].

وَأَمَّا الْعَبْدُ الصَّالِحُ - أَعْنِي الْخَضِرَ (علیه السلام) - فَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ مَا طَوَّلَ عُمُرَهُ لِنُبُوَّةٍ قَدَّرَهَا لَهُ، وَلَا لِكِتَابٍ يُنَزِّلُهُ عَلَيْهِ، وَلَا لِشَرِيعَةٍ يَنْسَخُ بِهَا شَرِيعَةَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا لِإِمَامَةٍ يُلْزِمُ عِبَادَهُ الِاقْتِدَاءَ بِهَا، وَلَا لِطَاعَةٍ يَفْرِضُهَا لَهُ، بَلَىٰ إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ لَمَّا كَانَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنْ يُقَدِّرَ مِنْ عُمُرِ الْقَائِمِ (علیه السلام) فِي أَيَّامِ غَيْبَتِهِ مَا يُقَدِّرُ، وَعَلِمَ مَا يَكُونُ مِنْ إِنْكَارِ عِبَادِهِ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ الْعُمُرِ فِي الطُّولِ، طَوَّلَ عُمُرَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي غَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ ذَلِكَ إِلَّا لِعِلَّةِ الْاِسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَىٰ عُمُرِ الْقَائِمِ (علیه السلام)، وَلِيَقْطَعَ بِذَلِكَ حُجَّةَ المُعَانِدِينَ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَىٰ اللهِ حُجَّةٌ»(1)(2).

ص: 39


1- رواه الطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 167 - 174/ ح 129) بسند آخر.
2- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 51/ ص 223): (بيان: قال الفيروزآبادي: المحجر كمجلس ومنبر من العين وما دار بها وبدا من البرقع. قوله (علیه السلام): «وفقد» لعلَّه معطوف علىٰ الفجائع أو علىٰ الأبد، أي أوصلت مصابي بما أصابني قبل ذلك من فقد واحد بعد واحد بسبب فناء الجمع والعدد. وفي بعض النُّسَخ: (يغني) فالجملة معترضة أو حاليَّة. قوله (علیه السلام): «يفتر» أي يخرج بضعف وفتور، وفي الغيبة للطوسي: (يفشأ) علىٰ البناء للمفعول أي ينتشر. و«دوارج الرزايا» مواضيها. و«العواير» المصائب الكثيرة التي تعور العين لكثرتها، من قولهم: عنده من المال عائرة عين، أي يحار فيه البصر من كثرته، أو من العائر وهو الرمد والقذىٰ في العين. وتعدية التمثيل ب (عن) لتضمين معنىٰ الكشف. والتراقي جمع الترقوة، أي يُمثِّل لي أشخاص مصائب أنظر إلىٰ ترقوتها. وقوله: «أعظمها» علىٰ صيغة أفعل التفضيل، فيكون بدلاً عن العوائر، أو صيغة المتكلِّم أي أعدّها عظيمة فيكون صفة والاحتمالان جاريان في الثلاثة الأُخَر، وحاصل الكلام أنِّي كلَّما أنظر إلىٰ دمعة أو أسمع منِّي أنيناً للمصائب التي نزلت بنا في سالف الزمان أنظر بعين اليقين إلىٰ مصائب جليلة مستقبلة أعدّها عظيمة فظيعة. و«الغائل» المهلك، والغوائل الدواهي. قوله: «سمة» أي علامة).

[52/293] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ الْعَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَسْعُودٍ وَحَيْدَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُعَيْمٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ جَمِيعاً، عَنْ مُحَمَّدِ [بْنِ] مَسْعُودٍ الْعَيَّاشِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قَالَ الصَّادِقُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام) فِي قَوْلِ اللهِ (عزوجل): «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً» [الأنعام: 158]: «يَعْنِي خُرُوجَ الْقَائِمِ المُنْتَظَرِ مِنَّا»، ثُمَّ قَالَ (علیه السلام): «يَا أَبَا بَصِيرٍ، طُوبَىٰ لِشِيعَةِ قَائِمِنَا المُنْتَظِرِينَ لِظُهُورِهِ فِي غَيْبَتِهِ، وَالمُطِيعِينَ لَهُ فِي ظُهُورِهِ، أُولَئِكَ أَوْلِيَاءُ اللهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ».

[53/294] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ الْعَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ الْعَيَّاشِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ، عَنِ الْعَمْرَكِيِّ بْنِ عَلِيٍّ الْبُوفَكِيِّ(1)،عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قَالَ الصَّادِقُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام): «طُوبَىٰ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِأَمْرِنَا فِي غَيْبَةِ قَائِمِنَا فَلَمْ يَزِغْ قَلْبُهُ بَعْدَ الْهِدَايَةِ»، فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ وَمَا طُوبَىٰ؟ قَالَ: «شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ أَصْلُهَا فِي دَارِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام)، وَلَيْسَ مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَفِي دَارِهِ غُصْنٌ مِنْ أَغْصَانِهَا، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ (عزوجل): «طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ 29» [الرعد: 29]»(2).

[54/295] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ الدَّقَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَىٰ بْنُ عِمْرَانَ النَّخَعِيُّ، عَنْ عَمِّهِ

ص: 40


1- العمركي بن عليِّ أبو محمّد البوفكي، وبوفك قرية من قرىٰ نيشابور، شيخ من أصحابنا، ثقة. (خلاصة الأقوال: ص 227/ الرقم 21). وراويه جعفر بن أحمد بن أيُّوب صحيح الحديث.
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في معاني الأخبار (ص 112/ باب معنىٰ طوبىٰ/ ح 1).

الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ النَّوْفَلِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِلصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام): يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، إِنِّي سَمِعْتُ مِنْ أَبِيكَ (علیه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «يَكُونُ بَعْدَ الْقَائِمِ اثْنَا عَشَرَ مَهْدِيًّا»، فَقَالَ: «إِنَّمَا قَالَ: اثْنَا عَشَرَ مَهْدِيًّا وَلَمْ يَقُلْ: اثْنَا عَشَرَ إِمَاماً، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ مِنْ شِيعَتِنَا يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَىٰ مُوَالاتِنَا وَمَعْرِفَةِ حَقِّنَا»(1).

[55/296] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ الدَّقَّاقُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمْزَةُ بْنُ الْقَاسِمِ الْعَلَوِيُّ الْعَبَّاسِيُّ(2)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ الْكُوفِيُّ الْفَزَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ زَيْدٍ الزَّيَّاتُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ زِيَادٍ الْأَزْدِيُّ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام)، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللهِ (عزوجل): «وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» [البقرة: 124]، مَا هَذِهِ الْكَلِمَاتُ؟ قَالَ: «هِيَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تَلَقَّاهَا آدَمُ مِنْ رَبِّهِ فَتَابَ اللهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: أَسْأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ إِلَّا تُبْتَ عَلَيَّ، فَتَابَ اللهُ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»، فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ ،

ص: 41


1- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 53/ ص 115): (اعلم هداك الله بهداه أنَّ علم آل محمّد ليس فيه اختلاف، بل بعضه يُصدِّق بعضاً، وقد روينا أحاديث عنهم (صلوات الله عليهم) جمَّة في رجعة الأئمَّة الاثني عشر، فكأنَّه (علیه السلام) عرف من السائل الضعف عن احتمال هذا العلم الخاصِّ الذي خصَّ الله سبحانه من شاء من خاصَّته، وتكرَّم به علىٰ من أراد من بريَّته، كما قال سبحانه وتعالىٰ: «ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ 21» [الحديد: 21]، فأوَّله بتأويل حسن بحيث لا يصعب عليه فيُنكِر قلبه فيكفر. فقد روي في الحديث عنهم (علیهم السلام): «ما كلُّ ما يُعلَم يقال، ولا كلُّ ما يقال حان وقته، ولا كلُّ ما حان وقته حضر أهله»، وروي أيضاً: «لا تقولوا: الجبت والطاغوت، وتقولوا: الرجعة، فإنْ قالوا: قد كنتم تقولون؟ قولوا: الآن لا نقول»، وهذا من باب التقيَّة التي تعبَّد الله بها عباده في زمن الأوصياء).
2- حمزة بن القاسم من أحفاد أبي الفضل العبَّاس بن عليِّ بن أبي طالب (علیهما السلام) الشهيد بطفٍّ، جليل القدر، من أصحابنا، كثير الحديث.

فَمَا يَعْنِي (عزوجل) بِقَوْلِهِ: «فَأَتَمَّهُنَّ»؟ قَالَ: «يَعْنِي فَأَتَمَّهُنَّ إِلَىٰ الْقَائِمِ اثْنَيْ عَشَرَ إِمَاماً تِسْعَةً مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ (علیه السلام)».

قَالَ المُفَضَّلُ: فَقُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، فَأَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللهِ (عزوجل): «وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ» [الزخرف: 28]، قَالَ: «يَعْنِي بِذَلِكَ الْإِمَامَةَ، جَعَلَهَا اللهُ تَعَالَىٰ فِي عَقِبِ الْحُسَيْنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، فَكَيْفَ صَارَتِ الْإِمَامَةُ فِي وُلْدِ الْحُسَيْنِ دُونَ وُلْدِ الْحَسَنِ (علیهما السلام) وَهُمَا جَمِيعاً وَلَدَا رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) وَسِبْطَاهُ وَسَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ (علیه السلام): «إِنَّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ كَانَا نَبِيَّيْنِ مُرْسَلَيْنِ وَأَخَوَيْنِ، فَجَعَلَ اللهُ (عزوجل) النُّبُوَّةَ فِي صُلْبِ هَارُونَ دُونَ صُلْبِ مُوسَىٰ (علیهما السلام)، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ؟ وَإِنَّ الْإِمَامَةَخِلَافَةُ اللهِ (عزوجل) فِي أَرْضِهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ جَعَلَهُ اللهُ فِي صُلْبِ الْحُسَيْنِ دُونَ صُلْبِ الْحَسَنِ (علیهما السلام)؟ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ هُوَ الْحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ، «لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ 23» [الأنبياء: 23]»(1)(2).

* * *

ص: 42


1- وللمصنِّف (رحمة الله) كلام طويل ذيل هذا الخبر في كتابه معاني الأخبار (ص 127 - 131).
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في الخصال (ص 304 و305/ ح 84)، وفي معاني الأخبار (ص 126 و127/ باب معنىٰ الكلمات التي ابتلىٰ إبراهيمَ ربُّه بهنَّ فأتمَّهُنَّ/ ح 1).

الباب الرابع والثلاثون:

اشارة

ما روي عن أبي الحسن موسى ابن جعفر [علیهما

السلام] في النصِّ على القائم (علیه السلام) وغيبته وأنَّه الثاني عشر [من الأئمَّة (علیهم السلام]

ص: 43

ص: 44

[1/297] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عِيسَىٰ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَخِيهِ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرٍ (علیهما السلام)، قَالَ: «إِذَا فُقِدَ الْخَامِسُ مِنْ وُلْدِ السَّابِعِ فَاللهَ اللهَ فِي أَدْيَانِكُمْ لَا يُزِيلَنَّكُمْ أَحَدٌ عَنْهَا. يَا بُنَيَّ(1)، إِنَّهُ لَا بُدَّ لِصَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ مِنْ غَيْبَةٍ حَتَّىٰ يَرْجِعَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ مَنْ كَانَ يَقُولُ بِهِ، إِنَّمَا هِيَ مِحْنَةٌ مِنَ اللهِ (عزوجل) امْتَحَنَ بِهَا خَلْقَهُ، وَلَوْ عَلِمَ آبَاؤُكُمْ وَأَجْدَادُكُمْ دِيناً أَصَحَّ مِنْ هَذَا لَاتَّبَعُوهُ»، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، وَمَا الْخَامِسُ مِنْ وُلْدِ السَّابِعِ؟ فَقَالَ: «يَا بُنَيَّ، عُقُولُكُمْ تَضْعُفُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَحْلَامُكُمْ تَضِيقُ عَنْ حَمْلِهِ، وَلَكِنْ إِنْ تَعِيشُوا فَسَوْفَ تُدْرِكُونَهُ»(2)(3).

ص: 45


1- كذا في نُسَخ الكتاب وعلل الشرائع وغيبة الطوسي وغيبة النعماني <، وكفاية الأثر، والخطاب لأخيه عليِّ بن جعفر، ولعلَّه من باب اللطف والشفقة، أو يكون في الأصل: عليُّ بن جعفر، قال: حدَّثنا موسىٰ بن جعفر (علیهما السلام)... إلخ. وقوله: (يا بَنِيَّ) بصيغة الجمع من باب الشفقة أيضاً.
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 244 و245/ باب 178/ ح 4)، وابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 113/ ح 100)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 336/ باب في الغيبة/ ح 2)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 155 و156/ باب 10/ فصل 1/ ح 11)، والخزَّاز (رحمة الله) في كفاية الأثر (ص 268 و269)، والطبري (رحمة الله) في دلائل الإمامة (ص 534/ ح 516/120)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 166 و167/ ح 128).
3- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي (ج 6/ ص 250 و251): (قوله: «إذا فُقِدَ الخامس من ولد السابع» السابع موسىٰ بن جعفر (علیهما السلام)، والخامس هو الصاحب المنتظر. قوله: «فالله الله في أديانكم» الله منصوب بفعل مضمر، والتكرير للتأكيد، أي احفظوا الله أو أطيعوا في طاعتكم أو في أُموركم أو في سُبُلكم وطرائقكم، لأنَّ كلَّ ما جاء به النبيُّ (صلی الله علیه و آله) فهو سبيل وطريق إلىٰ الله تعالىٰ، والدِّين يُطلَق علىٰ كلِّ واحد كما يُطلَق علىٰ المجموع، والمقصود هو الأمر برعاية جانب الله (عزَّ شأنه) فيها وطلب رضاه، ثمّ أكَّده بقوله: «لا يزيِّلنَّكم عنها أحد» من شياطين الجنِّ والإنس بالخدعة والمكر والوعيد وإلقاء الشُّبُهات وأنواع التدليسات والتلبيسات. قوله: «يا بَنِيَّ» بفتح الباء وكسر النون علىٰ صيغة الجمع، بقرينة قوله: «ولو علم آباؤكم»، وهو خطاب مع أولاده، وليس علىٰ صيغة الإفراد خطاباً مع أخيه عليِّ بن جعفر، لإباء السياق، وعدم صحَّته بدون التجوُّز. قوله: «إنَّما هي محنة» المحنة بكسر الميم واحدة المِحَن التي يُمتَحن بها الإنسان من بليَّة وشدَّة محنة، وامتحنته أي اختبرته، والاسم المحنة، وقد جرت كلمة الله تعالىٰ على اختبار الناس بأنواع المِحَن والبلايا، ليُميِّز الجيِّد من الردي، ويظهر الصابر وغيره، كما قال (جلَّ شأنه): «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللهِ» [البقرة: 214]، وقال: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ 2» [العنكبوت: 2]، إلىٰ غير ذلك من الآيات الكثيرة. فإنْ قلت: حقيقة الاختبار طلب الخبر بالشيء ومعرفته لمن لا يكون عارفاً به، والله سبحانه عالم بمضمرات القلوب وخفيَّات الغيوب، فالمطيع في علمه متميِّز من العاصي، فما معنىٰ الاختبار في حقِّه؟ قلنا: اختباره تعالىٰ ليس إلَّا ليعلم غيره من خلقه طاعة من يطيع وعصيان من يعصي ويتميَّز ذلك عنده، فهو من باب الكناية، لأنَّ التميُّز من لوازم الاختبار وعوارضه، فأُطلق الملزوم وأُريد به اللازم كما هو شأن الكناية، أو قلنا: اختباره تعالىٰ استعارة بتشبيه فعله هذا ليثيب المطيع ثواباً جزيلاً ويُعذِّب العاصي عذاباً وبيلاً باختبار الإنسان لعبيده ليتميَّز عنده المطيع والعاصي ليثيب المطيع ويكرمه ويُعذِّب العاصي ويهينه، فأُطلق علىٰ فعله تعالىٰ الاختبار مجازاً. قوله: «ولو علم آباؤكم وأجدادكم ديناً أصحّ من هذا لاتَّبعوه» دلَّ علىٰ أنَّ هذا الدِّين أصحّ الأديان وليس دين أصحّ منه وإلَّا لاتَّبعه الصالحون المطهَّرون الذين شأنهم طلب الأصحّ والأفضل واتِّباع الأشرف والأكمل، ولعلَّ التفضُّل هنا مجرَّد عن معناه، فلا يلزم ثبوت الصحَّة لغير هذا الدِّين، وفيه حثٌّ علىٰ التمسُّك به وعدم مفارقته، وتأكيد لما مرَّ من قوله: «لا يزيِّلنَّكم عنها أحد»...، قوله: «من ولد السابع» كأنَّه سأل عن حقيقته وحقيقة صفاته المختصَّة به لا عن اسمه واسم أبيه، ولذلك أجاب (علیه السلام) بأنَّ عقولكم قاصرة عن إدراكه علىٰ هذا الوجه، لأنَّ حقيقة الإمام وصفاته لا يعلمها إلَّا الله سبحانه كما مرَّ سابقاً. قوله: «يا بَنِيَّ» الظاهر أنَّه علىٰ صيغة الجمع، وأنَّ عليَّ بن جعفر يدخل في الخطاب علىٰ سبيل التغليب. قوله: «ولكن إنْ تعيشوا فسوف تدركونه» لا يقال: كيف يُدركونه مع فقده؟ لأنَّا نقول: معناه: فسوف تُدركون زمانه أو فسوف تُدركونه قبل فقده وغيبته، أو نقول: معناه أنْ تعيشوا وتبقوا علىٰ هذا الدِّين فسوف تُدركونه بعد الظهور بالرجعة، وفيه بعد، والله أعلم). وقال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول (ج 4/ ص 34 و35): («إذا فُقِدَ» علىٰ بناء المجهول، أي غاب. والسابع هو نفسه (علیه السلام)، والخامس من ولده المهدي (علیه السلام)، ولعلَّه (علیه السلام) إنَّما عبَّر هكذا تعريضاً بالواقفيَّة فإنَّهم يزعمون أنَّ المهدي صاحب الغيبة هو السابع مع أنَّه الخامس من ولده. «فالله» منصوب علىٰ التحذير بتقدير اتَّقوا، والتكرار للتأكيد، نحو: الأسد الأسد. والجمع في «أديانكم» باعتبار تعدُّد المخاطبين، أو باعتبار أجزاء الدِّين. «يا بُنَيَّ» بضم الباء وفتح النون، وسمَّاه ابناً علىٰ وجه اللطف والشفقة، والأخ الصغير كالابن، وقد يُقرَأ بفتح الباء وكسر النون بأنْ يكون الخطاب لأولاده فقط أو لهم مع عليٍّ تغليباً، والأوَّل أظهر. والمحنة - بالكسر -: الاسم من امتحنه إذا اختبره، ونسبته إلىٰ الله مجازاً. «آباؤكم» أي رسول الله وأوصياؤه (علیهم السلام). «وأجدادكم» أي الأنبياء المتقدِّمين من أجدادهم، أو المراد بالآباء الأب مع الأجداد القريبة، وبالأجداد الأجداد البعيدة كالرسول وأمير المؤمنين والحسنين (علیهم السلام)، فإنَّ الحسن (علیه السلام) أيضاً من أجدادهم من قِبَل الأُمِّ، والخطاب إلىٰ عليٍّ وأضرابه وإنْ لم يكونوا حاضرين تغليباً، وربَّما يُؤيَّد الوجه الثاني بهذا. «أصحّ من هذا» أي القول بوجوب الحجَّة في كلِّ زمان، أو كون عدد الأئمَّة (علیهم السلام) اثنا عشر. «من الخامس» لعلَّ المراد السؤال عن كيفيَّة غيبته وخصوصيَّاتها وامتدادها، ولذا لم يجب (علیه السلام)، فإنَّها مزلَّة للعقول والأحلام، وكانوا لا يصبرون علىٰ كتمانها، وإذاعتها ممَّا يضرُّ بالإمام بل بأكثر الأنام من الخواصِّ والعوامِّ، وما قيل: إنَّ المراد السؤال عن درجات الإمام وصفاته ومنازله، فهو بعيد. «فسوف تُدركونه» أي زمانه أو نفسه (علیه السلام) قبل الغيبة لكونهم من الخواصِّ، والأوَّل أظهر، ولا استبعاد في إدراك بعض المقصودين بالخطاب ذلك الزمان، مع أنَّ صدق الشرطيَّة لا يستلزم وقوع المقدَّم ولا إمكانه).

ص: 46

[2/298] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَىٰ الْخَشَّابُ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَامِرٍ الْقَصَبَانِيِّ(1)، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا

ص: 47


1- عبَّاس بن عامر بن رباح أبو الفضل الثقفي القصباني، عنونه الشيخ في رجاله تارةً من أصحاب الكاظم (علیه السلام) (ص 341/ الرقم 5077/38)، وأُخرىٰ في باب من لم يروِ عنهم (علیهم السلام) (ص 434/ الرقم 6222/65)، وعنونه العلَّامة في القسم الأوَّل وقال: (الشيخ الصدوق الثقة) (خلاصة الأقوال: ص 210/ الرقم 7). والقصباني نسبة إلىٰ بيع القصب كما في اللباب (ج 3/ ص 40)، وهو خلاف القياس.

الْحَسَنِ مُوسَىٰ بْنَ جَعْفَرٍ (علیهما السلام) يَقُولُ: «صَاحِبُ هَذَا الْأَمْرِ مَنْ يَقُولُ النَّاسُ: لَمْ يُولَدْ بَعْدُ»(1).

[3/299] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ مُوسَىٰ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ الْبَجَلِيِّ وَأَبِي قَتَادَةَ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَخِيهِ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرٍ (علیهما السلام)، قَالَ: قُلْتُ: مَا تَأْوِيلُ قَوْلِ اللهِ (عزوجل): «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ 30»[الملك: 30]؟ فَقَالَ: «إِذَا فَقَدْتُمْ إِمَامَكُمْ فَلَمْ تَرَوْهُ فَمَا ذَا تَصْنَعُونَ؟»(2).

[4/300] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْهَمَدَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الْبَرْقِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ كَثِيرٍ الرَّقِّيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَىٰ بْنَ جَعْفَرٍ (علیهما السلام) عَنْ صَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ، قَالَ: «هُوَ الطَّرِيدُ الْوَحِيدُ الْغَرِيبُ الْغَائِبُ عَنْ أَهْلِهِ، المَوْتُورُ بِأَبِيهِ (علیه السلام)».

[5/301] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْهَمَدَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ السِّنْدِيِّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىٰ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرٍ (علیهما السلام) فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، أَنْتَ الْقَائِمُ بِالْحَقِّ؟ فَقَالَ: «أَنَا الْقَائِمُ بِالْحَقِّ، وَلَكِنَّ الْقَائِمَ الَّذِي يُطَهِّرُ الْأَرْضَ مِنْ أَعْدَاءِ اللهِ (عزوجل) وَيَمْلَؤُهَا عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً هُوَ الْخَامِسُ مِنْ وُلْدِي، لَهُ غَيْبَةٌ يَطُولُ أَمَدُهَا خَوْفاً عَلَىٰ نَفْسِهِ، يَرْتَدُّ فِيهَا أَقْوَامٌ وَيَثْبُتُ فِيهَا آخَرُونَ».

ص: 48


1- اعلم أنَّ الخبر يأتي أيضاً في باب ما روي عن الهادي (علیه السلام) في النصِّ علىٰ القائم وغيبته عن سعد، عن الخشَّاب، عن إسحاق بن محمّد بن أيُّوب، عن الهادي (علیه السلام) تحت الرقم (318/6).
2- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمام والتبصرة (ص 125/ ح 124)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 181 و182/ باب 10/ فصل 4/ ح 17)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 160/ ح 117).

ثُمَّ قَالَ (علیه السلام): «طُوبَىٰ لِشِيعَتِنَا، المُتَمَسِّكِينَ بِحَبْلِنَا فِي غَيْبَةِ قَائِمِنَا، الثَّابِتِينَ عَلَىٰ مُوَالَاتِنَا وَالْبَرَاءَةِ مِنْ أَعْدَائِنَا، أُولَئِكَ مِنَّا وَنَحْنُ مِنْهُمْ، قَدْ رَضُوا بِنَا أَئِمَّةً، وَرَضِينَا بِهِمْ شِيعَةً، فَطُوبَىٰ لَهُمْ، ثُمَّ طُوبَىٰ لَهُمْ، وَهُمْ وَاللهِ مَعَنَا فِي دَرَجَاتِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(1).

قال مصنِّف هذا الكتاب (رضی الله عنه): إحدىٰ العلل التي من أجلهاوقعت الغيبة الخوف كما ذكر في هذا الحديث، وقد كان موسىٰ بن جعفر (علیهما السلام) في ظهوره كاتماً لأمره، وكان شيعته لا تختلف إليه، ولا تجترون(2) علىٰ الإشارة خوفاً من طاغية زمانه حتَّىٰ إِنَّ هِشَامَ بْنَ الْحَكَمِ لَمَّا سُئِلَ فِي مَجْلِسِ يَحْيَىٰ بْنِ خَالِدٍ عَنِ الدَّلَالَةِ عَلَىٰ الْإِمَامِ أَخْبَرَ بِهَا، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: مَنْ هَذَا المَوْصُوفُ؟ قَالَ: صَاحِبُ الْقَصْرِ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ هَارُونُ الرَّشِيدُ، وَكَانَ هُوَ خَلْفَ السِّتْرِ قَدْ سَمِعَ كَلَامَهُ، فَقَالَ: أَعْطَانَا وَاللهِ مِنْ جِرَابِ النُّورَةِ(3)، فَلَمَّا عَلِمَ هِشَامٌ أَنَّهُ قَدْ أَتَىٰ هَرَبَ وَطَلَبَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَخَرَجَ إِلَىٰ الْكُوفَةِ وَمَاتَ بِهَا عِنْدَ بَعْضِ الشِّيعَةِ، فَلَمْ يَكُفَّ الطَّلَبَ عَنْهُ حَتَّىٰ وُضِعَ مَيِّتاً بِالْكُنَاسَةِ، وَكُتِبَتْ رُقْعَةٌ وَوُضِعَتْ مَعَهُ: هَذَا هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ الَّذِي يَطْلُبُهُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، حَتَّىٰ نَظَرَ إِلَيْهِ الْقَاضِي وَالْعُدُولُ وَصَاحِبُ المَعُونَةِ وَالْعَامِلُ، فَحِينَئِذٍ كَفَّ الطَّاغِيَةُ عَنِ الطَّلَبِ عَنْهُ (4).

ذكر كلام هشام بن الحَكَم (رضی الله عنه) في هذا المجلس وما آل إليه أمره:

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادٍ الْهَمَدَانِيُّ وَالْحُسَيْنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَاتَانَه (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي

ص: 49


1- رواه الخزَّاز (رحمة الله) في كفاية الأثر (ص 269 و270)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 240).
2- في بعض النُّسَخ: (لا تجسرون).
3- مثل بين العرب، والأصل فيه أنَّه سأل محتاج أميراً قسيَّ القلب شيئاً، فعلَّق علىٰ رأسه جراباً من النورة (الكلس) عند فمه وأنفه، وكلَّما تنفَّس دخل في أنفه شيء، فصار مثلاً.
4- في بعض النُّسَخ: (كفَّ الطلب عنه).

عَلِيٌّ الْأَسْوَارِيُّ، قَالَ: كَانَ لِيَحْيَىٰ بْنِ خَالِدٍ مَجْلِسٌ فِي دَارِهِ يَحْضُرُهُ المُتَكَلِّمُونَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ وَمِلَّةٍ يَوْمَ الْأَحَدِ، فَيَتَنَاظَرُونَ فِي أَدْيَانِهِمْ، يَحْتَجُّ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّشِيدَ، فَقَالَ لِيَحْيَىٰ بْنِ خَالِدٍ: يَا عَبَّاسِيُّ، مَا هَذَا المَجْلِسُ الَّذِي بَلَغَنِي فِي مَنْزِلِكَ يَحْضُرُهُ المُتَكَلِّمُونَ؟قَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مَا شَيْءٌ مِمَّا رَفَعَنِي بِهِ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ وَبَلَغَ بِي مِنَ الْكَرَامَةِ وَالرِّفْعَةِ أَحْسَنَ مَوْقِعاً عِنْدِي مِنْ هَذَا المَجْلِسِ، فَإِنَّهُ يَحْضُرُهُ كُلُّ قَوْمٍ مَعَ اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ، فَيَحْتَجُّ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَيُعْرَفُ المُحِقُّ مِنْهُمْ، وَيَتَبَيَّنُ لَنَا فَسَادُ كُلِّ مَذْهَبٍ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ.

فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: أَنَا أُحِبُّ أَنْ أَحْضُرَ هَذَا المَجْلِسَ وَأَسْمَعَ كَلَامَهُمْ عَلَىٰ أَنْ لَا يَعْلَمُوا بِحُضُورِي فَيَحْتَشِمُونِي وَلَا يُظْهِرُوا مَذَاهِبَهُمْ، قَالَ: ذَلِكَ إِلَىٰ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ مَتَىٰ شَاءَ، قَالَ: فَضَعْ يَدَكَ عَلَىٰ رَأْسِي أَنْ لَا تُعْلِمَهُمْ بِحُضُورِي، فَفَعَلَ [ذَلِكَ]، وَبَلَغَ الْخَبَرُ المُعْتَزِلَةَ، فَتَشَاوَرُوا بَيْنَهُمْ، وَعَزَمُوا عَلَىٰ أَنْ لَا يُكَلِّمُوا هِشَاماً إِلَّا فِي الْإِمَامَةِ، لِعِلْمِهِمْ بِمَذْهَبِ الرَّشِيدِ وَإِنْكَارِهِ عَلَىٰ مَنْ قَالَ بِالْإِمَامَةِ.

قَالَ: فَحَضَرُوا، وَحَضَرَ هِشَامٌ، وَحَضَرَ عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ الْإبَاضِيُّ، وَكَانَ مِنْ أَصْدَقِ النَّاسِ(1) لِهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ، وَكَانَ يُشَارِكُهُ فِي التِّجَارَةِ(2)، فَلَمَّا دَخَلَ هِشَامٌ سَلَّمَ عَلَىٰ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ مِنْ بَيْنِهِمْ، فَقَالَ يَحْيَىٰ بْنُ خَالِدٍ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ: يَا عَبْدَ اللهِ، كَلِّمْ هِشَاماً فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنَ الْإِمَامَةِ.

فَقَالَ هِشَامٌ: أَيُّهَا الْوَزِيرُ، لَيْسَ لَهُمْ عَلَيْنَا جَوَابٌ وَلَا مَسْأَلَةٌ، إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ مَعَنَا عَلَىٰ إِمَامَةِ رَجُلٍ، ثُمَّ فَارَقُونَا بِلَا عِلْمٍ وَلَا مَعْرِفَةٍ، فَلَا حِينَ كَانُوا مَعَنَا عَرَفُوا الْحَقَّ، وَلَا حِينَ فَارَقُوَنا عَلِمُوا عَلَىٰ مَا فَارَقُونَا، فَلَيْسَ لَهُمْ عَلَيْنَا مَسْأَلَةٌ وَلَا جَوَابٌ.

ص: 50


1- من الصداقة. والإباض - بكسر الهمزة - ومنه الإباضيَّة فرقة من الخوارج أصحاب عبد الله بن إباض التميمي. (الصحاح للجوهري: ج 3/ ص 1063/ مادَّة أبض).
2- في بعض النُّسَخ: (في المحاورة).

فَقَالَ بَيَانٌ(1) - وَكَانَ مِنَ الْحَرُورِيَّةِ -: أَنَا أَسْأَلُكَ يَا هِشَامُ، أَخْبِرْنِي عَنْأَصْحَابِ عَلِيٍّ يَوْمَ حَكَّمُوا الْحَكَمَيْنِ أَكَانُوا مُؤْمِنِينَ أَمْ كَافِرِينَ؟ قَالَ هِشَامٌ: كَانُوا ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ مُؤْمِنُونَ، وَصِنْفٌ مُشْرِكُونَ، وَصِنْفٌ ضُلَّالٌ، فَأَمَّا المُؤْمِنُونَ فَمَنْ قَالَ مِثْلَ قَوْلِي: إِنَّ عَلِيًّا (علیه السلام) إِمَامٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ (عزوجل)، وَمُعَاوِيَةَ لَا يَصْلُحُ لَهَا، فَآمَنُوا بِمَا قَالَ اللهُ (عزوجل) فِي عَلِيٍّ (علیه السلام) وَأَقَرُّوا بِهِ.

وَأَمَّا المُشْرِكُونَ فَقَوْمٌ قَالُوا: عَلِيٌّ إِمَامٌ، وَمُعَاوِيَةُ يَصْلُحُ لَهَا، فَأَشْرَكُوا إِذْ أَدْخَلُوا مُعَاوِيَةَ مَعَ عَلِيٍّ (علیه السلام).

وَأَمَّا الضُّلَّالُ فَقَوْمٌ خَرَجُوا عَلَىٰ الْحَمِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ لِلْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ [فَ-]لَمْ يَعْرِفُوا شَيْئاً مِنْ هَذَا وَهُمْ جُهَّالٌ.

قَالَ: فَأَصْحَابُ مُعَاوِيَةَ مَا كَانُوا؟ قَالَ: كَانُوا ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ كَافِرُونَ، وَصِنْفٌ مُشْرِكُونَ، وَصِنْفٌ ضُلَّالٌ.

فَأَمَّا الْكَافِرُونَ فَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ مُعَاوِيَةَ إِمَامٌ وَعَلِيٌّ لَا يَصْلُحُ لَهَا، فَكَفَرُوا مِنْ جِهَتَيْنِ إِذْ جَحَدُوا إِمَاماً مِنَ اللهِ (عزوجل) وَنَصَبُوا إِمَاماً لَيْسَ مِنَ اللهِ.

وَأَمَّا المُشْرِكُونَ فَقَوْمٌ قَالُوا: مُعَاوِيَةُ إِمَامٌ وَعَلِيٌّ يَصْلُحُ لَهَا، فَأَشْرَكُوا مُعَاوِيَةَ مَعَ عَلِيٍّ (علیه السلام).

وَأَمَّا الضُّلَّالُ فَعَلَىٰ سَبِيلِ أُولَئِكَ خَرَجُوا لِلْحَمِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ لِلْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ.

فَانْقَطَعَ بَيَانٌ عِنْدَ ذَلِكَ.

فَقَالَ ضِرَارٌ: وَأَنَا أَسْأَلُكَ يَا هِشَامُ فِي هَذَا، فَقَالَ هِشَامٌ: أَخْطَأْتَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّكُمْ كُلَّكُمْ مُجْتَمِعُونَ عَلَىٰ دَفْعِ إِمَامَةِ صَاحِبِي، وَقَدْ سَأَلَنِي هَذَا عَنْ مَسْأَلَةٍ، وَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تُثْنُوا بِالمَسْأَلَةِ عَلَيَّ حَتَّىٰ أَسْأَلَكَ يَا ضِرَارُ عَنْ مَذْهَبِكَ فِي هَذَا

ص: 51


1- في بعض النُّسَخ: (بنان)، وكذا فيما يأتي.

الْبَابِ، قَالَ ضِرَارٌ: فَسَلْ، قَالَ: أَتَقُولُ إِنَّ اللهَ (عزوجل)عَدْلٌ لَا يَجُورُ؟ قَالَ: نَعَمْ هُوَ عَدْلٌ لَا يَجُورُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ، قَالَ: فَلَوْ كَلَّفَ اللهُ المُقْعَدَ المَشْيَ إِلَىٰ المَسَاجِدِ وَالْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَكَلَّفَ الْأَعْمَىٰ قِرَاءَةَ المَصَاحِفِ وَالْكُتُبِ، أَتَرَاهُ كَانَ يَكُونُ عَادِلاً أَمْ جَائِراً؟ قَالَ ضِرَارٌ: مَا كَانَ اللهُ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ، قَالَ هِشَامٌ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اللهَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ عَلَىٰ سَبِيلِ الْجَدَلِ وَالْخُصُومَةِ، أَنْ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَلَيْسَ كَانَ فِي فِعْلِهِ جَائِراً إِذْ كَلَّفَهُ تَكْلِيفاً لَا يَكُونُ لَهُ السَّبِيلُ إِلَىٰ إِقَامَتِهِ وَأَدَائِهِ؟ قَالَ: لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكَانَ جَائِراً؟ قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ اللهِ (عزوجل) كَلَّفَ الْعِبَادَ دِيناً وَاحِداً لَا اخْتِلَافَ فِيهِ لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يَأْتُوا بِهِ كَمَا كَلَّفَهُمْ؟ قَالَ: بَلَىٰ، قَالَ: فَجَعَلَ لَهُمْ دَلِيلاً عَلَىٰ وُجُودِ ذَلِكَ الدِّينِ، أَوْ كَلَّفَهُمْ مَا لَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَىٰ وُجُودِهِ، فَيَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَلَّفَ الْأَعْمَىٰ قِرَاءَةَ الْكُتُبِ وَالمُقْعَدَ المَشْيَ إِلَىٰ المَسَاجِدِ وَالْجِهَادَ؟ قَالَ: فَسَكَتَ ضِرَارٌ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ وَلَيْسَ بِصَاحِبِكَ، قَالَ: فَتَبَسَّمَ هِشَامٌ، وَقَالَ: تَشَيَّعَ شَطْرُكَ(1) وَصِرْتَ إِلَىٰ الْحَقِّ ضَرُورَةً، وَلَا خِلَافَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ إِلَّا فِي التَّسْمِيَةِ، قَالَ ضِرَارٌ: فَإِنِّي أُرْجِعُ الْقَوْلَ عَلَيْكَ فِي هَذَا، قَالَ: هَاتِ، قَالَ ضِرَارٌ لِهِشَامٍ: كَيْفَ تَعْقِدُ الْإِمَامَةَ؟ قَالَ هِشَامٌ: كَمَا عَقَدَ اللهُ (عزوجل) النُّبُوَّةَ، قَالَ: فَهُوَ إِذاً نَبِيٌّ، قَالَ هِشَامٌ: لَا، لِأَنَّ النُّبُوَّةَ يَعْقِدُهَا أَهْلُ السَّمَاءِ، وَالْإِمَامَةَ يَعْقِدُهَا أَهْلُ الْأَرْضِ، فَعَقْدُ النُّبُوَّةِ بِالمَلَائِكَةِ، وَعَقْدُ الْإِمَامَةِ بِالنَّبِيِّ(2)، وَالْعَقْدَانِ جَمِيعاً بِأَمْرِ اللهِ (عزوجل)، قَالَ: فَمَا الدَّلِيلُ عَلَىٰ ذَلِكَ؟ قَالَ هِشَامٌ: الْاِضْطِرَارُ فِي هَذَا، قَالَ ضِرَارٌ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ هِشَامٌ: لَا يَخْلُو الْكَلَامُ فِي هَذَا مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ اللهُ (عزوجل) رَفَعَ التَّكْلِيفَ عَنِ الْخَلْقِ بَعْدَ الرَّسُولِ (صلی الله علیه و آله)، فَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ وَلَمْ يَنْهَهُمْ،فَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ السِّبَاعِ وَالْبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا، أَفَتَقُولُ هَذَا يَا ضِرَارُ إِنَّ التَّكْلِيفَ عَنِ النَّاسِ مَرْفُوعٌ بَعْدَ

ص: 52


1- أي بعضك، ولعلَّ المراد به لسانه حيث أقرَّ بوجود الدليل.
2- في بعض النُّسَخ: (إلَّا أنَّ النبوَّة تُعقَد بالملائكة والإمامة تُعقَد بالنبيِّ).

الرَّسُولِ (صلی الله علیه و آله)؟ قَالَ: لَا أَقُولُ هَذَا، قَالَ هِشَامٌ: فَالْوَجْهُ الثَّانِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النَّاسُ المُكَلَّفُونَ(1) قَدِ اسْتَحَالُوا بَعْدَ الرَّسُولِ (صلی الله علیه و آله) عُلَمَاءَ فِي مِثْلِ حَدِّ الرَّسُولِ فِي الْعِلْمِ حَتَّىٰ لَا يَحْتَاجَ أَحَدٌ إِلَىٰ أَحَدٍ، فَيَكُونُوا كُلُّهُمْ قَدِ اسْتَغْنَوْا بِأَنْفُسِهِمْ، وَأَصَابُوا الْحَقَّ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، أَفَتَقُولُ هَذَا إِنَّ النَّاسَ اسْتَحَالُوا عُلَمَاءَ حَتَّىٰ صَارُوا فِي مِثْلِ حَدِّ الرَّسُولِ فِي الْعِلْمِ بِالدِّينِ حَتَّىٰ لَا يَحْتَاجَ أَحَدٌ إِلَىٰ أَحَدٍ مُسْتَغْنِينَ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ غَيْرِهِمْ فِي إِصَابَةِ الْحَقِّ؟ قَالَ: لَا أَقُولُ هَذَا، وَلَكِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَىٰ غَيْرِهِمْ.

قَالَ: فَبَقِيَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ عَالِمٍ يُقِيمُهُ الرَّسُولُ لَهُمْ لَا يَسْهُو وَلَا يَغْلَطُ وَلَا يَحِيفُ، مَعْصُومٌ مِنَ الذُّنُوبِ، مُبَرَّءٌ مِنَ الْخَطَايَا، يَحْتَاجُ [النَّاسُ] إِلَيْهِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَىٰ أَحَدٍ، قَالَ: فَمَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟ قَالَ هِشَامٌ: ثَمَانُ دَلَالاتٍ أَرْبَعٌ فِي نَعْتِ نَسَبِهِ، وَأَرْبَعٌ فِي نَعْتِ نَفْسِهِ.

فَأَمَّا الْأَرْبَعُ الَّتِي فِي نَعْتِ نَسَبِهِ: فَإِنَّهُ يَكُونُ مَعْرُوفَ الْجِنْسِ، مَعْرُوفَ الْقَبِيلَةِ، مَعْرُوفَ الْبَيْتِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ صَاحِبِ الْمِلَّةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ إِشَارَةٌ، فَلَمْ يُرَ جِنْسٌ مِنْ هَذَا الْخَلْقِ أَشْهَرُ مِنْ جِنْسِ الْعَرَبِ الَّذِينَ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْمِلَّةِ وَالدَّعْوَةِ الَّذِي يُنَادَىٰ بِاسْمِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ عَلَىٰ الصَّوَامِعِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، فَتَصِلُ دَعْوَتُهُ إِلَىٰ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَعَالِمٍ وَجَاهِلٍ، مُقِرٍّ وَمُنْكِرٍ، فِي شَرْقِ الْأَرْضِ وَغَرْبِهَا، وَلَوْ جَازَ أَنْ تَكُونَ الْحُجَّةُ مِنَ اللهِ عَلَىٰ هَذَا الْخَلْقِ فِي غَيْرِ هَذَا الْجِنْسِ لَأَتَىٰ عَلَىٰ الطَّالِبِ المُرْتَادِدَهْرٌ مِنْ عَصْرِهِ لَا يَجِدُهُ، وَلَجَازَ أَنْ يَطْلُبَهُ فِي أَجْنَاسٍ مِنْ هَذَا الْخَلْقِ مِنَ الْعَجَمِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَكَانَ مِنْ حَيْثُ أَرَادَ اللهُ (عزوجل) أَنْ يَكُونَ صَلَاحٌ يَكُونُ فَسَادٌ، وَلَا يَجُوزُ هَذَا فِي حِكْمَةِ اللهِ (عزوجل) وَعَدْلُهُ أَنْ يَفْرُضَ عَلَىٰ النَّاسِ فَرِيضَةً لَا تُوجَدُ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ إِلَّا فِي هَذَا الْجِنْسِ لِاتِّصَالِهِ بِصَاحِبِ الْمِلَّةِ

ص: 53


1- صفة للناس. و(استحالوا) أي تحوَّلوا علماء لا يحتاجون إلىٰ علمه (علیه السلام) بعد أنْ يكون في زمان الرسول يحتاجون إليه في دينهم.

وَالدَّعْوَةِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْقَبِيلَةِ لِقُرْبِ نَسَبِهَا مِنْ صَاحِبِ الْمِلَّةِ وَهِيَ قُرَيْشٌ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْقَبِيلَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذِهِ الْقَبِيلَةِ إِلَّا فِي هَذَا الْبَيْتِ لِقُرْبِ نَسَبِهِ مِنْ صَاحِبِ الْمِلَّةِ وَالدَّعْوَةِ، وَلَمَّا كَثُرَ أَهْلُ هَذَا الْبَيْتِ وَتَشَاجَرُوا فِي الْإِمَامَةِ لِعُلُوِّهَا وَشَرَفِهَا ادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَلَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ صَاحِبِ الْمِلَّةِ وَالدَّعْوَةِ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ وَنَسَبِهِ كَيْ لَا يَطْمَعَ فِيهَا غَيْرُهُ.

وَأَمَّا الْأَرْبَعُ الَّتِي فِي نَعْتِ نَفْسِهِ: فَأَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ النَّاسِ كُلِّهِمْ بِفَرَائِضِ اللهِ وَسُنَنِهِ وَأَحْكَامِهِ حَتَّىٰ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ مِنْهَا دَقِيقٌ وَلَا جَلِيلٌ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْصُوماً مِنَ الذُّنُوبِ كُلِّهَا، وَأَنْ يَكُونَ أَشْجَعَ النَّاسِ، وَأَنْ يَكُونَ أَسْخَىٰ النَّاسِ.

فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ الْإِبَاضِيُّ: مِنْ أَيْنَ قُلْتَ: إِنَّهُ أَعْلَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِماً بِجَمِيعِ حُدُودِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ وَشَرَائِعِهِ وَسُنَنِهِ لَمْ يُؤْمَنْ عَلَيْهِ أَنْ يُقَلِّبَ الْحُدُودَ، فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ حَدَّهُ، وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ قَطَعَهُ، فَلَا يُقِيمُ لِلهِ (عزوجل) حَدًّا عَلَىٰ مَا أَمَرَ بِهِ، فَيَكُونُ مِنْ حَيْثُ أَرَادَ اللهُ صَلَاحاً يَقَعُ فَسَاداً.

قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ قُلْتَ: إِنَّهُ مَعْصُومٌ مِنَ الذُّنُوبِ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْصُوماً مِنَ الذُّنُوبِ دَخَلَ فِي الْخَطَإِ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكْتُمَ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَيَكْتُمَ عَلَىٰ حَمِيمِهِ وَقَرِيبِهِ، وَلَا يَحْتَجُّ اللهُ بِمِثْلِ هَذَا عَلَىٰ خَلْقِهِ.قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ قُلْتَ: إِنَّهُ أَشْجَعُ النَّاسِ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ فِئَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِي يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي الْحُرُوبِ، وَقَالَ اللهُ (عزوجل): «وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ» [الأنفال: 16]، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شُجَاعاً فَرَّ فَيَبُوءُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ يَبُوءُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ (عزوجل) حُجَّةَ اللهِ عَلَىٰ خَلْقِهِ.

قَالَ: [فَ]مِنْ أَيْنَ قُلْتَ: إِنَّهُ أَسْخَىٰ النَّاسِ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ خَازِنُ المُسْلِمِينَ، فَإِنْ

ص: 54

لَمْ يَكُنْ سَخِيًّا تَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَىٰ أَمْوَالِهِمْ(1) فَأَخَذَهَا فَكَانَ خَائِناً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْتَجَّ اللهُ عَلَىٰ خَلْقِهِ بِخَائِنٍ.

فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ ضِرَارٌ: فَمَنْ هَذَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ؟ فَقَالَ: صَاحِبُ الْقَصْرِ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ.

وَكَانَ هَارُونُ الرَّشِيدُ قَدْ سَمِعَ الْكَلَامَ كُلَّهُ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: أَعْطَانَا وَاللهِ مِنْ جِرَابِ النُّورَةِ، وَيْحَكَ يَا جَعْفَرُ - وَكَانَ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَىٰ جَالِساً مَعَهُ فِي السِّتْرِ - مَنْ يَعْنِي بِهَذَا؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، يَعْنِي بِهِ مُوسَىٰ بْنَ جَعْفَرٍ، قَالَ: مَا عَنَىٰ بِهَا غَيْرَ أَهْلِهَا(2)، ثُمَّ عَضَّ عَلَىٰ شَفَتَيْهِ وَقَالَ: مِثْلُ هَذَا حَيٌّ ويَبْقَىٰ لِي مُلْكِي سَاعَةً وَاحِدَةً؟! فَوَاللهِ لَلِسَانُ هَذَا أَبْلَغُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ سَيْفٍ، وَعَلِمَ يَحْيَىٰ أَنَّ هِشَاماً قَدْ أُتِيَ(3)، فَدَخَلَ السِّتْرَ فَقَالَ: يَا عَبَّاسِيُّ، وَيْحَكَ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، حَسْبُكَ تُكْفَىٰ تُكْفَىٰ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَىٰ هِشَامٍ فَغَمَزَهُ، فَعَلِمَ هِشَامٌ أَنَّهُ قَدْ أُتِيَ، فَقَامَ يُرِيهِمْ أَنَّهُ يَبُولُ أَوْ يَقْضِي حَاجَةً، فَلَبِسَ نَعْلَيْهِ وَانْسَلَّ، وَمَرَّ بِبَيْتِهِ وَأَمَرَهُمْ بِالتَّوَارِي، وَهَرَبَ وَمَرَّ مِنْ فَوْرِهِ نَحْوَالْكُوفَةِ، فَوَافَىٰ الْكُوفَةَ وَنَزَلَ عَلَىٰ بَشِيرٍ النَّبَّالِ - وَكَانَ مِنْ حَمَلَةِ الْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) -، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، ثُمَّ اعْتَلَّ عِلَّةً شَدِيدَةً، فَقَالَ لَهُ بَشِيرٌ: آتِيكَ بِطَبِيبٍ؟ قَالَ: لَا أَنَا مَيِّتٌ، فَلَمَّا حَضَرَهُ المَوْتُ قَالَ لِبَشِيرٍ: إِذَا فَرَغْتَ مِنْ جِهَازِي فَاحْمِلْنِي فِي جَوْفِ اللَّيْلِ وَضَعْنِي بِالْكُنَاسَةِ وَاكْتُبْ رُقْعَةً وَقُلْ: هَذَا هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ الَّذِي يَطْلُبُهُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ.

وَكَانَ هَارُونُ قَدْ بَعَثَ إِلَىٰ إِخْوَانِهِ وَأَصْحَابِهِ، فَأَخَذَ الْخَلْقَ بِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَهْلُ الْكُوفَةِ رَأَوْهُ، وَحَضَرَ الْقَاضِي وَصَاحِبُ المَعُونَةِ وَالْعَامِلُ وَالمُعَدِّلُونَ بِالْكُوفَةِ، وَكَتَبَ إِلَىٰ الرَّشِيدِ بِذَلِكَ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي كَفَانَا أَمْرَهُ، فَخَلَّىٰ عَمَّنْ كَانَ أَخَذَ بِهِ.

ص: 55


1- أي اشتاقت ونازعت نفسه إليه.
2- أي ما عنىٰ بقوله: (أمير المؤمنين) إلَّا من هو أمير المؤمنين عنده.
3- يعني وقع في الهلكة.

[6/302] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْهَمَدَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الْأَزْدِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ سَيِّدِي مُوسَىٰ بْنَ جَعْفَرٍ (علیهما السلام) عَنْ قَوْلِ اللهِ (عزوجل): «وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً» [لقمان: 20]، فَقَالَ (علیه السلام): «النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ الْإِمَامُ الظَّاهِرُ، وَالْبَاطِنَةُ الْإِمَامُ الْغَائِبُ»، فَقُلْتُ لَهُ: وَيَكُونُ فِي الْأَئِمَّةِ مَنْ يَغِيبُ؟ قَالَ: «نَعَمْ، يَغِيبُ عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ شَخْصُهُ، وَلَا يَغِيبُ عَنْ قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ الثَّانِي عَشَرَ مِنَّا، يُسَهِّلُ اللهُ لَهُ كُلَّ عَسِيرٍ، وَيُذَلِّلُ لَهُ كُلَّ صَعْبٍ، وَيُظْهِرُ لَهُ كُنُوزَ الْأَرْضِ، وَيُقَرِّبُ لَهُ كُلَّ بَعِيدٍ، وَيُبِيرُ بِهِ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ(1)، وَيُهْلِكُ عَلَىٰ يَدِهِ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ، ذَلِكَ ابْنُ سَيِّدَةِ الْإِمَاءِ الَّذِي تَخْفَىٰ عَلَىٰ النَّاسِ وِلَادَتُهُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ تَسْمِيَتُهُ حَتَّىٰ يُظْهِرَهُ اللهُ (عزوجل) فَيَمْلَأَ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراًوَظُلْماً»(2)(3)(4).

ص: 56


1- أباره الله: أهلكه. وفي بعض النُّسَخ: (يتبر)، والتبر: الكسر، والإهلاك كالتتبير. وفي بعض النُّسَخ: (يفني به).
2- رواه الخزَّاز في كفاية الأثر (ص 270 و271).
3- في هامش بعض النُّسَخ المخطوطة هكذا: (الذي ادَّعاه المصنِّف فيما تقدَّم من النهي عن ذكر اسمه (علیه السلام) يُقوِّيه ويُؤيِّده هذا الحديث، وإلَّا فالروايات التي ذكرها في هذه الأبواب عن الأئمَّة (علیهم السلام) في النهى عن ذكر اسمه (علیه السلام) يمكن أنْ يُحمَل النهي فيها علىٰ قبل الغيبة في زمان العبَّاسيَّة دون عصرنا هذا، لأنَّ التقيَّة كانت في ذلك الزمان أشدّ من هذا العصر. وإنَّما قلنا: (يمكن أنْ يُحمَل النهى علىٰ قبل غيبته (علیه السلام)) لأنَّ النهى لا يخلو من وجهين إمَّا خوفاً علىٰ الإمام وهو مفقود في هذا العصر إذ لا يقدر أحد أنْ يظفر به، وإمَّا خوفاً علىٰ القائل الذاكر باسمه، وهذا أيضاً منتفٍ إذ لا يُتصوَّر الضرر من مخالفي هذا العصر ولا التعرُّض به، لأنَّه لو كان أحد ينادي في الأسواق بأعلىٰ صوته: يا محمّد بن الحسن، لا يرىٰ أحد من المخالفين أنَّه سمع اسمه ويعرفه حتَّىٰ يُؤذىٰ قائله، وإذا كان كذلك فلِمَ لا يجوز للمؤمنين أنْ يسمُّوه ويتبرَّكوا ويتشرَّفوا بذكر اسمه (علیه السلام)؟ وأمَّا قبل غيبته الكبرىٰ كان الضرر متصوَّراً، لكن هذه الرواية تأبىٰ ذلك، والله أعلم).
4- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 51/ ص 32): (بيان: هذه التحديدات مصرِّحة في نفي قول من خصَّ ذلك بزمان الغيبة الصغرىٰ تعويلاً علىٰ بعض العلل المستنبطة والاستبعادات الوهميَّة).

قال مصنِّف هذا الكتاب (رضی الله عنه): لم أسمع هذا الحديث إلَّا من أحمد بن زياد ابن جعفر الهمداني (رضی الله عنه) بهمدان عند منصرفي من حجِّ بيت الله الحرام، وكان رجلاً ثقةً ديِّناً فاضلاً (رحمة الله عليه ورضوانه).

* * *

ص: 57

ص: 58

الباب الخامس والثلاثون:

ما روي عن الرضا عليِّ بن موسى (علیهما السلام) في النصِّ على القائم (علیه السلام) وفي غيبته وأنَّه الثاني عشر

ص: 59

ص: 60

[1/303] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ، قَالَ: قُلْتُ لِلرِّضَا (علیه السلام): إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ تَكُونَ صَاحِبَ هَذَا الْأَمْرِ، وَأَنْ يَرُدَّهُ اللهُ(1) (عزوجل) إِلَيْكَ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ، فَقَدْ بُويِعَ لَكَ وَضُرِبَتِ الدَّرَاهِمُ بِاسْمِكَ، فَقَالَ: «مَا مِنَّا أَحَدٌ اخْتَلَفَتْ إِلَيْهِ الْكُتُبُ، وَسُئِلَ عَنِ المَسَائِلِ، وَأَشَارَتْ إِلَيْهِ الْأَصَابِعُ، وَحُمِلَتْ إِلَيْهِ الْأَمْوَالُ إِلَّا اغْتِيلَ أَوْ مَاتَ عَلَىٰ فِرَاشِهِ حَتَّىٰ يَبْعَثَ اللهُ (عزوجل) لِهَذَا الْأَمْرِ رَجُلاً خَفِيَّ المَوْلِدِ وَالمَنْشَإِ غَيْرَ خَفِيٍّ فِي نَسَبِهِ»(2)(3).

ص: 61


1- في بعض النُّسَخ: (يسديه الله)، وفي بعضها: (يسوقه الله).
2- رواه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 341 و342/ باب في الغيبة/ ح 25) بسند آخر، والحلبي (رحمة الله) في تقريب المعارف (ص 431 و432).
3- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي (ج 6/ ص 269): (قوله: «إلَّا اغتيل أو مات علىٰ فراشه» الاغتيال الخدعة، يقال: قتله غيلة إذا خدعه فذهب به إلىٰ موضع فقتله، وكلمة (أو) للتنويع وهو التقسيم لا للشكِّ، لتنزُّه ساحة قدسه عنه، وصدق الشرطيَّة لا يتوقَّف علىٰ صدق طرفيها مطلقاً، فلا ينافي هذا ما تقرَّر من أنَّ الأئمَّة (علیهم السلام) كلُّهم مقتولين، بعضهم بالسيف وبعضهم بالسمِّ. قوله: «خفي الولادة والمنشأ غير خفي في نسبه» المراد بخفاء ولادته خفاؤها عند الأكثر بدليل علم بعض الخواصِّ بها، وبخفاء منشئه خفاء مكانه الذي ينشأ فيه ويأوي إليه، وبعدم خفاء نسبه كون نسبه معلوماً للخاصَّة والعامَّة فإنَّهم أيضاً قائلون بأنَّ المهدي (علیه السلام) من أولاد الحسين بن عليٍّ (علیهم السلام)). وقال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول (ج 4/ ص 57): («وأنْ يسوقه الله» في الإكمال: وأنْ يسدَّ به الله (عزوجل) إليك. «فقد بويع لك» أي بولاية العهد للمأمون. «وأُشير إليه بالأصابع» كناية عن الشهرة، وفي الإكمال: وأشارت إليه الأصابع. «إلَّا اغتيل» الاغتيال هو الأخذ بغتة، والقتل خديعة، ولعلَّ المراد به القتل بالحديد وبالموت على الفراش القتل بالسمِّ، أو المراد بالأوَّل الأعمّ وبالثاني الموت غيظاً من غير ظفر علىٰ العدو كما سيأتي. و(أو) للتقسيم لا للشكِّ. «خفي الولادة» أي وقت ولادته خفي عند جمهور الناس وإنْ اطَّلع عليه بعض الخواصِّ، والمنشأ: الوطن ومحلُّ النشو، أي لا يعلم جمهور الخلق في أيِّ موضع نما ونشأ، ومضت عليه السنون. «غير خفي في نسبه» فإنَّه يعلم جميع الشيعة أنَّه ابن الحسن العسكري (علیهما السلام)، بل المخالفون أيضاً يقولون إنَّه من ولد الحسين (علیه السلام)، وقيل: أي معلوم بالبرهان أنَّه ولد العسكري (علیهما السلام)).

[2/304] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ الْفَزَارِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ فَضَّالٍ، عَنِ الرَّيَّانِ بْنِ الصَّلْتِ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: سُئِلَ أَبُو الْحَسَنِ الرِّضَا (علیه السلام) عَنِ الْقَائِمِ (علیه السلام)، فَقَالَ: «لَا يُرَىٰ جِسْمُهُ وَلَا يُسَمَّىٰ بِاسْمِهِ»(1)(2).

[3/305] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍالْحِمْيَرِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ هِلَالٍ الْعَبَرْتَائِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَىٰ الرِّضَا (علیهما السلام)، قَالَ: قَالَ لِي: «لَا بُدَّ مِنْ فِتْنَةٍ صَمَّاءَ صَيْلَمٍ(3) يَسْقُطُ فِيهَا كُلُّ بِطَانَةٍ وَوَلِيجَةٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ فِقْدَانِ الشِّيعَةِ الثَّالِثَ مِنْ وُلْدِي، يَبْكِي عَلَيْهِ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ وَكُلُّ حَرَّىٰ وَحَرَّانَ وَكُلُّ حَزِينٍ وَلَهْفَانَ».

ص: 62


1- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 117/ ح 110)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 333/ باب في النهي عن الاسم/ ح 3)، والمسعودي في إثبات الوصيَّة (ص 266).
2- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي (ج 6/ ص 236): (قوله: «لا يُرىٰ جسمه ولا يُسمَّىٰ اسمه» الأوَّل إخبار عن غيبته، والثاني نهي في المعنىٰ عن التصريح باسمه، ولعلَّه في بعض الأزمنة لأجل الخوف). وقال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول (ج 4/ ص 17): (الظاهر أنَّ الاسم في هذه الأخبار لا يشمل الكنية واللقب).
3- الصيلم: الأمر الشديد والداهية. والفتنة الصمَّاء هي التي لا سبيل إلىٰ تسكينها لتناهيها في دهائها، لأنَّ الأصمَّ لا يسمع الاستغاثة ولا يقلع عمَّا يفعله، وقيل: هي كالحيَّة الصمَّاء التي لا تقبل الرقيَّ. (النهاية: ج 3/ ص 54). وبطانة الرجل: صاحب سرِّه والذي يشاوره. ووليجة الرجل: دخلاؤه وخاصَّته.

ثُمَّ قَالَ (علیه السلام): «بِأَبِي وأُمِّي سَمِيُّ جَدِّي (صلی الله علیه و آله) وَشَبِيهِي وَشَبِيهُ مُوسَىٰ بْنِ عِمْرَانَ (علیه السلام)، عَلَيْهِ جُيُوبُ النُّورِ، يَتَوَقَّدُ مِنْ شُعَاعِ ضِيَاءِ الْقُدْسِ(1)، يَحْزَنُ لِمَوْتِهِ أَهْلُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، كَمْ مِنْ حَرَّىٰ مُؤْمِنَةٍ، وَكَمْ مِنْ مُؤْمِنٍ مُتَأَسِّفٍ حَرَّانَ حَزِينٍ عِنْدَ فِقْدَانِ المَاءِ المَعِينِ، كَأَنِّي بِهِمْ آيِسٌ مَا كَانُوا قَدْ نُودُوا نِدَاءً يَسْمَعُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُ مَنْ قَرُبَ، يَكُونُ رَحْمَةً عَلَىٰ المُؤْمِنِينَ وَعَذَاباً عَلَىٰ الْكَافِرِينَ»(2)(3).

ص: 63


1- في بعض النُّسَخ: (سناء ضياء القدس).
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 2/ ص 9 و10/ ح 14)، وابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 114/ ح 102)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 186/ باب 10/ فصل 4/ ح 28)، والطبري (رحمة الله) في دلائل الإمامة (ص 460 و461/ ح 441/45)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 439 و440/ ح 431)، والراوندي (رحمة الله) في الخراج والجرائح (ج 3/ ص 1168 و1169).
3- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 51/ ص 153 و154): (أقول: لا يبعد أنْ يكون مأخوذاً من قولهم: صخرة صمَّاء، أي الصلبة المصمتة، كناية عن نهاية اشتباه الأمر فيها حتَّىٰ لا يمكن النفوذ فيها والنظر في باطنها وتحيُّر أكثر الخلق فيها، أو عن صلابتها وثباتها واستمرارها. والصيلم الداهية والأمر الشديد، ووقعة صيلمة أي مستأصلة. و(بطانة الرجل) صاحب سرِّه الذي يشاوره في أحواله. و(وليجة الرجل) دخلاؤه وخاصَّته، أي يزل فيها خواصُّ الشيعة. والمراد بالثالث الحسن العسكري، والظاهر رجوع الضمير في (عليه) إليه، ويحتمل رجوعه إلىٰ إمام الزمان المعلوم بقرينة المقام. وعلىٰ التقديرين المراد بقوله: «سميُّ جدِّي» القائم (علیه السلام). قوله (علیه السلام): «عليه جيوب النور» لعلَّ المعنىٰ أنَّ جيوب الأشخاص النورانيَّة من كُمَّل المؤمنين والملائكة المقرَّبين وأرواح المرسَلين تشتعل للحزن علىٰ غيبته وحيرة الناس فيه، وإنَّما ذلك لنور إيمانهم الساطع من شموس عوالم القدس. ويحتمل أنْ يكون المراد بجيوب النور الجيوب المنسوبة إلىٰ النور والتي يسطع منها أنوار فيضه وفضله تعالىٰ. والحاصل أنَّ عليه (صلوات الله عليه) أثواب قدسيَّة وخِلَع ربَّانيَّة تتَّقد من جيوبها أنوار فضله وهدايته تعالىٰ. ويُؤيِّده ما مرَّ في رواية محمّد بن الحنفيَّة عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله): «جلابيب النور». ويحتمل أنْ يكون (علىٰ) تعليليَّة، أي ببركة هدايته وفيضه (علیه السلام) يسطع من جيوب القابلين أنوار القدس من العلوم والمعارف الربَّانيَّة. قوله: «يُسمَع» علىٰ بناء المجهول أو المعلوم، وعلىٰ الأوَّل (من) حرف الجرِّ، وعلىٰ الثاني اسم موصول، وكذا الفقرة الثانية يحتمل الوجهين).

[4/306] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مِهْرَانَ(1)، عَنْ خَالِهِ أَحْمَدَ بْنِ زَكَرِيَّا، قَالَ: قَالَ لِيَ الرِّضَا عَلِيُّ بْنُ مُوسَىٰ (علیهما السلام): «أَيْنَ مَنْزِلُكَ بِبَغْدَادَ؟»، قُلْتُ: الْكَرْخُ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ أَسْلَمُ مَوْضِعٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ فِتْنَةٍ صَمَّاءَ صَيْلَمٍ تَسْقُطُ فِيهَا كُلُّ وَلِيجَةٍ وَبِطَانَةٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ فِقْدَانِ الشِّيعَةِ الثَّالِثَ مِنْ وُلْدِي».

[5/307] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْهَمَدَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُوسَىٰ الرِّضَا (علیهما السلام): «لَا دِينَلِمَنْ لَا وَرَعَ لَهُ، وَلَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا تَقِيَّةَ لَهُ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَعْمَلُكُمْ بِالتَّقِيَّةِ»، فَقِيلَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، إِلَىٰ مَتَىٰ؟ قَالَ: «إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ المَعْلُومِ، وَهُوَ يَوْمُ خُرُوجِ قَائِمِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، فَمَنْ تَرَكَ التَّقِيَّةَ قَبْلَ خُرُوجِ قَائِمِنَا فَلَيْسَ مِنَّا، فَقِيلَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، وَمَنِ الْقَائِمُ مِنْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ؟ قَالَ: «الرَّابِعُ مِنْ وُلْدِي، ابْنُ سَيِّدَةِ الْإِمَاءِ، يُطَهِّرُ اللهُ بِهِ الْأَرْضَ مِنْ كُلِّ جَوْرٍ، وَيُقَدِّسُهَا مِنْ كُلِّ ظُلْمٍ، [وَهُوَ] الَّذِي يَشُكُّ النَّاسُ فِي وِلَادَتِهِ، وَهُوَ صَاحِبُ الْغَيْبَةِ قَبْلَ خُرُوجِهِ، فَإِذَا خَرَجَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِهِ(2) وَوَضَعَ مِيزَانَ الْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ فَلَا يَظْلِمُ أَحَدٌ أَحَداً، وَهُوَ الَّذِي تُطْوَىٰ لَهُ الْأَرْضُ وَلَا يَكُونُ لَهُ ظِلٌّ، وَهُوَ الَّذِي يُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ يَسْمَعُهُ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ، يَقُولُ: أَلَا إِنَّ حُجَّةَ اللهِ قَدْ ظَهَرَ عِنْدَ بَيْتِ اللهِ فَاتَّبِعُوهُ، فَإِنَّ الْحَقَّ مَعَهُ وَفِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ (عزوجل): «إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ 4» [الشعراء: 4]»(3).

[6/308] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْهَمَدَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ

ص: 64


1- في بعض النُّسَخ: (محمّد بن حمدان).
2- في بعض النُّسَخ: (بنور ربِّها).
3- رواه الخزَّاز (رحمة الله) في كفاية الأثر (ص 274 و275)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 241).

ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ صَالِحٍ الْهَرَوِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ دِعْبِلَ بْنَ عَلِيٍّ الْخُزَاعِيَّ يَقُولُ: أَنْشَدْتُ مَوْلَايَ الرِّضَا عَلِيَّ بْنَ مُوسَىٰ (علیهما السلام) قَصِيدَتِيَ الَّتِي أَوَّلُهَا:

مَدَارِسُ

آيَاتٍ خَلَتْ مِنْ تِلَاوَةٍ *** وَمَنْزِلُ وَحْيٍ مُقْفِرُ الْعَرَصَاتِ

فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَىٰ قَوْلِي:

خُرُوجُ إِمَامٍ لَا مَحَالَةَ خَارِجٌ *** يَقُومُ عَلَىٰ اسْمِ اللهِ وَالْبَرَكَاتِ

يُمَيِّزُ فِينَا كُلَّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ *** وَيُجْزِي عَلَىٰ النَّعْمَاءِ وَالنَّقِمَاتِ

بَكَىٰ الرِّضَا (علیه السلام) بُكَاءً شَدِيداً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ فَقَالَ لِي: «يَا خُزَاعِيُّ، نَطَقَ رُوحُ الْقُدُسِ عَلَىٰ لِسَانِكَ بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ، فَهَلْ تَدْرِي مَنْ هَذَا الْإِمَامُ وَمَتَىٰ يَقُومُ؟»، فَقُلْتُ: لَا يَا مَوْلَايَ إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُ بِخُرُوجِ إِمَامٍ مِنْكُمْ يُطَهِّرُ الْأَرْضَ مِنَ الْفَسَادِ وَيَمْلَؤُهَا عَدْلًا [كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً]، فَقَالَ: «يَا دِعْبِلُ، الْإِمَامُ بَعْدِي مُحَمَّدٌ ابْنِي، وَبَعْدَ مُحَمَّدٍ ابْنُهُ عَلِيٌّ، وَبَعْدَ عَلِيٍّ ابْنُهُ الْحَسَنُ، وَبَعْدَ الْحَسَنِ ابْنُهُ الْحُجَّةُ الْقَائِمُ المُنْتَظَرُ فِي غَيْبَتِهِ، المُطَاعُ فِي ظُهُورِهِ، لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اللهُ (عزوجل) ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّىٰ يَخْرُجَ فَيَمْلَأَ الْأَرْضَ(1) عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً.

وَأَمَّا (مَتَىٰ) فَإِخْبَارٌ عَنِ الْوَقْتِ، فَقَدْ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (علیهم السلام) أَنَّ النَّبِيَّ (صلی الله علیه و آله) قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَتَىٰ يَخْرُجُ الْقَائِمُ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ؟ فَقَالَ (علیه السلام): مَثَلُهُ مَثَلُ السَّاعَةِ الَّتِي «لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً»(2) [الأعراف: 187]»(3).

ص: 65


1- في بعض النُّسَخ: (فيملأها).
2- وفي أكثر النُّسَخ: (لا يُجليها لوقتها إلَّا الله (عزوجل) ثقلت في السماوات...) الآية، لكن في العيون كما في المتن.
3- رواه المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 2/ ص 296 و297/ ح 35)، والخزَّاز (رحمة الله) في كفاية الأثر (ص 276 و277).

ولدعبل بن عليٍّ الخزاعي (رضی الله عنه) خبر آخر أحببت إيراده علىٰ أثر هذا الحديث الذي مضىٰ.

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ (رضی الله عنه)، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ هَاشِمٍ، عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ صَالِحٍ الْهَرَوِيِّ، قَالَ: دَخَلَدِعْبِلُ بْنُ عَلِيٍّ الْخُزَاعِيُّ (رضی الله عنه) عَلَىٰ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَىٰ الرِّضَا (علیهما السلام) بِمَرْوَ، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، إِنِّي قَدْ قُلْتُ فِيكُمْ قَصِيدَةً وَآلَيْتُ عَلَىٰ نَفْسِي(1) أَنْ لَا أُنْشِدَهَا أَحَداً قَبْلَكَ، فَقَالَ (علیه السلام): «هَاتِهَا»، فَأَنْشَدَهَا:

مَدَارِسُ آيَاتٍ خَلَتْ مِنْ تِلَاوَةٍ *** وَمَنْزِلُ وَحْيٍ مُقْفِرُ الْعَرَصَاتِ

فَلَمَّا بَلَغَ إِلَىٰ قَوْلِهِ:

أَرَىٰ فَيْئَهُمْ فِي غَيْرِهِمْ مُتَقَسِّماً *** وَأَيْدِيَهُمْ مِنْ فَيْئِهِمْ صَفِرَاتِ

بَكَىٰ أَبُو الْحَسَنِ الرِّضَا (علیه السلام) وَقَالَ: «صَدَقْتَ يَا خُزَاعِيُّ»، فَلَمَّا بَلَغَ إِلَىٰ قَوْلِهِ:

إِذَا وَتَرُوا مَدُّوا إِلَىٰ وَاتِرِيهِمْ *** أَكُفًّا عَنِ الْأَوْتَارِ مُنْقَبِضَاتِ

جَعَلَ أَبُو الْحَسَنِ (علیه السلام) يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: «أَجَلْ وَاللهِ مُنْقَبِضَاتٍ»، فَلَمَّا بَلَغَ إِلَىٰ قَوْلِهِ:

لَقَدْ خِفْتُ فِي الدُّنْيَا وَأَيَّامِ سَعْيِهَا *** وَإِنِّي لَأَرْجُو الْأَمْنَ بَعْدَ وَفَاتِي

قَالَ لَهُ الرِّضَا (علیه السلام): «آمَنَكَ اللهُ يَوْمَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ»، فَلَمَّا انْتَهَىٰ إِلَىٰ قَوْلِهِ:

وَقَبْرٌ بِبَغْدَادَ لِنَفْسٍ زَكِيَّةٍ *** تَضَمَّنَهُ الرَّحْمَنُ فِي الْغُرُفَاتِ

قَالَ لَهُ الرِّضَا (علیه السلام): «أَفَلَا أُلْحِقُ لَكَ بِهَذَا المَوْضِعِ بَيْتَيْنِ بِهِمَا تَمَامُ قَصِيدَتِكَ؟»، فَقَالَ: بَلَىٰ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، فَقَالَ (علیه السلام):

ص: 66


1- أي حلفت أو نذرت وجعلت علىٰ نفسي كذا وكذا.

«وَقَبْرٌ بِطُوسَ يَا لَهَا مِنْ مُصِيبَةٍ *** تَوَقَّدَ فِي الْأَحْشَاءِ بِالْحُرُقَاتِ (1)

إِلَىٰ الْحَشْرِ حَتَّىٰ يَبْعَثَ اللهُ قَائِماً *** يُفَرِّجُ عَنَّا الْهَمَّ وَالْكُرُبَاتِ».

فَقَالَ دِعْبِلٌ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، هَذَا الْقَبْرُ الَّذِي بِطُوسَ قَبْرُ مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ الرِّضَا (علیه السلام): «قَبْرِي، ولَا تَنْقَضِي الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي حَتَّىٰ تَصِيرَ طُوسُ مُخْتَلَفَ شِيعَتِي وَزُوَّارِي فِي غُرْبَتِي، أَلَا فَمَنْ زَارَنِي فِي غُرْبَتِي بِطُوسَ كَانَ مَعِي فِي دَرَجَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْفُوراً لَهُ».

ثُمَّ نَهَضَ الرِّضَا (علیه السلام) بَعْدَ فَرَاغِ دِعْبِلٍ مِنْ إِنْشَادِهِ الْقَصِيدَةَ وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَبْرَحَ مِنْ مَوْضِعِهِ، فَدَخَلَ الدَّارَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ سَاعَةٍ خَرَجَ الْخَادِمُ إِلَيْهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ رَضَوِيَّةٍ، فَقَالَ لَهُ: يَقُولُ لَكَ مَوْلَايَ: «اجْعَلْهَا فِي نَفَقَتِكَ»، فَقَالَ دِعْبِلٌ: وَاللهِ مَا لِهَذَا جِئْتُ، وَلَا قُلْتُ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ طَمَعاً فِي شَيْءٍ يَصِلُ إِلَيَّ، وَرَدَّ الصُّرَّةَ وَسَأَلَ ثَوْباً مِنْ ثِيَابِ الرِّضَا (علیه السلام) لِيَتَبَرَّكَ بِهِ وَيَتَشَرَّفَ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ الرِّضَا (علیه السلام) جُبَّةَ خَزٍّ مَعَ الصُّرَّةِ، وَقَالَ لِلْخَادِمِ: «قُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ [مَوْلَايَ]: خُذْ هَذِهِ الصُّرَّةَ فَإِنَّكَ سَتَحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَلَا تُرَاجِعْنِي فِيهَا»، فَأَخَذَ دِعْبِلٌ الصُّرَّةَ وَالْجُبَّةَ وَانْصَرَفَ، وَسَارَ مِنْ مَرْوَ فِي قَافِلَةٍ، فَلَمَّا بَلَغَ مِيَانَ قُوهَانَ(2) وَقَعَ عَلَيْهِمُ اللُّصُوصُ، وَأَخَذُوا الْقَافِلَةَ بِأَسْرِهَا وَكَتَفُوا أَهْلَهَا، وَكَانَ دِعْبِلٌ فِيمَنْ كُتِفَ، وَمَلَكَ اللُّصُوصُ الْقَافِلَةَ، وَجَعَلُوا يَقْسِمُونَهَا بَيْنَهُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ مُتَمَثِّلاً بِقَوْلِ دِعْبِلٍ مِنْ قَصِيدَتِهِ:

أَرَىٰ فَيْئَهُمْ فِي غَيْرِهِمْ مُتَقَسِّماً *** وَأَيْدِيَهُمْ مِنْ فَيْئِهِمْ صَفِرَاتِ

فَسَمِعَهُ دِعْبِلٌ، فَقَالَ لَهُ: لِمَنْ هَذَا الْبَيْتُ؟ فَقَالَ لَهُ: لِرَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ يُقَالُ لَهُ:

ص: 67


1- في بعض النُّسَخ: (ألحَّت علىٰ الأحشاء بالزفرات).
2- كذا أيضاً في العيون. وفي هامش بعض النُّسَخ: (قوهان قرية بقرب نيسابور).

دِعْبِلُ بْنُ عَلِيٍّ، فَقَالَ لَهُ دِعْبِلٌ: فَأَنَا دِعْبِلُ بْنُ عَلِيٍّ قَائِلُ هَذِهِ الْقَصِيدَةِالَّتِي مِنْهَا هَذَا الْبَيْتُ، فَوَثَبَ الرَّجُلُ إِلَىٰ رَئِيسِهِمْ وَكَانَ يُصَلِّي عَلَىٰ رَأْسِ تَلٍّ وَكَانَ مِنَ الشِّيعَةِ، فَأَخْبَرَهُ فَجَاءَ بِنَفْسِهِ حَتَّىٰ وَقَفَ عَلَىٰ دِعْبِلٍ، قَالَ لَهُ: أَنْتَ دِعْبِلٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ: أَنْشِدِ الْقَصِيدَةَ، فَأَنْشَدَهَا، فَحَلَّ كِتَافَهُ وَكِتَافَ جَمِيعِ أَهْلِ الْقَافِلَةِ(1) وَرَدَّ إِلَيْهِمْ جَمِيعَ مَا أَخَذَ مِنْهُمْ لِكَرَامَةِ دِعْبِلٍ، وَسَارَ دِعْبِلٌ حَتَّىٰ وَصَلَ إِلَىٰ قُمَّ، فَسَأَلَهُ أَهْلُ قُمَّ أَنْ يُنْشِدَهُمُ الْقَصِيدَةَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي مَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا صَعِدَ دِعْبِلٌ الْمِنْبَرَ فَأَنْشَدَهُمُ الْقَصِيدَةَ، فَوَصَلَهُ النَّاسُ مِنَ المَالِ وَالْخِلَعِ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ، وَاتَّصَلَ بِهِمْ خَبَرُ الْجُبَّةِ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْهُمْ بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا لَهُ: فَبِعْنَا شَيْئاً مِنْهَا بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَأَبَىٰ عَلَيْهِمْ، وَسَارَ عَنْ قُمَّ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ رُسْتَاقِ الْبَلَدِ لَحِقَ بِهِ قَوْمٌ مِنْ أَحْدَاثِ الْعَرَبِ فَأَخَذُوا الْجُبَّةَ مِنْهُ، فَرَجَعَ دِعْبِلٌ إِلَىٰ قُمَّ فَسَأَلَهُمْ رَدَّ الْجُبَّةِ عَلَيْهِ، فَامْتَنَعَ الْأَحْدَاثُ مِنْ ذَلِكَ، وَعَصَوُا المَشَايِخَ فِي أَمْرِهَا، وَقَالُوا لِدِعْبِلٍ: لَا سَبِيلَ لَكَ إِلَىٰ الْجُبَّةِ، فَخُذْ ثَمَنَهَا أَلْفَ دِينَارٍ، فَأَبَىٰ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا يَئِسَ مِنْ رَدِّ الْجُبَّةِ عَلَيْهِ سَأَلَهُمْ أَنْ يَدْفَعُوا إِلَيْهِ شَيْئاً مِنْهَا، فَأَجَابُوهُ إِلَىٰ ذَلِكَ، فَأَعْطَوْهُ بَعْضَهَا، وَدَفَعُوا إِلَيْهِ ثَمَنَ بَاقِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ، وَانْصَرَفَ دِعْبِلٌ إِلَىٰ وَطَنِهِ، فَوَجَدَ اللُّصُوصَ قَدْ أَخَذُوا جَمِيعَ مَا كَانَ لَهُ فِي مَنْزِلِهِ، فَبَاعَ الْمِائَةَ دِينَارٍ الَّتِي كَانَ الرِّضَا (علیه السلام) وَصَلَهُ بِهَا مِنَ الشِّيعَةِ كُلَّ دِينَارٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَحَصَلَ فِي يَدِهِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَتَذَكَّرَ قَوْلَ الرِّضَا (علیه السلام): «إِنَّكَ سَتَحْتَاجُ إِلَيْهَا»، وَكَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ لَهَا مِنْ قَلْبِهِ مَحَلٌّ فَرَمَدَتْ رَمَداً عَظِيماً، فَأَدْخَلَ أَهْلَ الطِّبِّ عَلَيْهَا، فَنَظَرُوا إِلَيْهَا فَقَالُوا: أَمَّا الْعَيْنُ الْيُمْنَىٰ فَلَيْسَ لَنَا فِيهَا حِيلَةٌ وَقَدْ ذَهَبَتْ، وَأَمَّا الْيُسْرَىٰ فَنَحْنُ نُعَالِجُهَا وَنَجْتَهِدُ وَنَرْجُو أَنْ تَسْلَمَ، فَاغْتَمَّ دِعْبِلٌلِذَلِكَ غَمًّا شَدِيداً، وَجَزِعَ عَلَيْهَا جَزَعاً عَظِيماً.

ص: 68


1- الكتاف حبل يُشَدُّ به.

ثُمَّ إِنَّهُ ذَكَرَ مَا مَعَهُ مِنْ فَضْلَةِ الْجُبَّةِ، فَمَسَحَهَا عَلَىٰ عَيْنَيِ الْجَارِيَةِ وَعَصَبَهَا بِعِصَابَةٍ مِنْهَا مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، فَأَصْبَحَتْ وَعَيْنَاهَا أَصَحُّ مِمَّا كَانَتَا، [وَكَأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَثَرُ مَرَضٍ قَطُّ] بِبَرَكَةِ [مَوْلَانَا] أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (علیه السلام)(1)(2).

[7/309] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْهَمَدَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّيَّانِ بْنِ الصَّلْتِ، قَالَ: قُلْتُ لِلرِّضَا (علیه السلام): أَنْتَ صَاحِبُ هَذَا الْأَمْرِ؟ فَقَالَ: «أَنَا صَاحِبُ هَذَا الْأَمْرِ، وَلَكِنِّي لَسْتُ بِالَّذِي أَمْلَؤُهَا عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً، وَكَيْفَ أَكُونُ ذَلِكَ عَلَىٰ مَا تَرَىٰ مِنْ ضَعْفِ بَدَنِي؟ وَإِنَّ الْقَائِمَ هُوَ الَّذِي إِذَا خَرَجَ كَانَ فِي سِنِّ الشُّيُوخِ وَمَنْظَرِ الشُّبَّانِ، قَوِيًّا فِي بَدَنِهِ حَتَّىٰ لَوْ مَدَّ يَدَهُ إِلَىٰ أَعْظَمِ شَجَرَةٍ عَلَىٰ وَجْهِ الْأَرْضِ لَقَلَعَهَا، وَلَوْ صَاحَ بَيْنَ الْجِبَالِ لَتَدَكْدَكَتْ صُخُورُهَا، يَكُونُ مَعَهُعَصَا مُوسَىٰ، وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ (علیه السلام)، ذَاكَ الرَّابِعُ مِنْ وُلْدِي، يُغَيِّبُهُ اللهُ فِي سِتْرِهِ مَا شَاءَ، ثُمَّ يُظْهِرُهُ فَيَمْلَأُ [بِهِ] الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»(3).

* * *

ص: 69


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 2/ ص 294 - 296/ ح 34)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 66 - 68).
2- لدعبل وقصيدته هذه حكايات، وقيل: إنَّه كتب هذه القصيدة علىٰ ثوب وأحرم فيه وأمر أنْ يُجعَل في جملة أكفانه، وتُوفِّي سنة (246ه) بشوش. وقيل: إنَّ ابنه رآه في المنام، فسُئِلَ عن حاله، فذكر أنَّه علىٰ سوء حال ومشقَّة لبعض أفعاله، فلقي رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقال له: «أنت دعبل؟»، قال: نعم، قال: «فأنشدني ما قلت في أولادي»، فأنشده قوله: لا أضحك الله سنَّ الدهر إنْ ضحكت *** وآل أحمد مظلومون قد قُهروا مشرَّدون نفوا عن عقر دارهم *** كأنَّهم قد جنوا ما ليس يغتفرُ فقال له: «أحسنت»، فشُفِّع (صلی الله علیه و آله) وأعطاه ثيابه، فأمن ونجا. راجع: عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 2/ ص 297 و298/ ح 6).
3- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 240 و241).

ص: 70

الباب السادس والثلاثون:

ما روي عن أبي جعفر الثاني محمّد بن عليٍّ [الجواد] (علیهما

السلام) في [النصِّ على] القائم (علیه السلام) وغيبته وأنَّه الثاني عشر من الأئمَّة (علیهم

السلام)

ص: 71

ص: 72

[1/310] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَىٰ الدَّقَّاقُ (رضی الله عنه)(1)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ هَارُونَ الصُّوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو تُرَابٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُوسَىٰ الرُّويَانِيُّ(2)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَظِيمِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهم السلام) [الْحَسَنِيُّ]، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىٰ سَيِّدِي مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرِ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهم السلام) وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنِ الْقَائِمِ أَهُوَ المَهْدِيُّ أَوْ غَيْرُهُ، فَابْتَدَأَنِي فَقَالَ لِي: «يَا أَبَا الْقَاسِمِ، إِنَّ الْقَائِمَ مِنَّا هُوَ المَهْدِيُّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُنْتَظَرَ فِي غَيْبَتِهِ، وَيُطَاعَ فِي ظُهُورِهِ، وَهُوَ الثَّالِثُ مِنْ وُلْدِي، وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً (صلی الله علیه و آله) بِالنُّبُوَّةِ وَخَصَّنَا بِالْإِمَامَةِ إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اللهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّىٰ يَخْرُجَ فِيهِ فَيَمْلَأَ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً، وَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ لَيُصْلِحُ لَهُ أَمْرَهُ فِي لَيْلَةٍ، كَمَا أَصْلَحَ أَمْرَ كَلِيمِهِ مُوسَىٰ (علیه السلام) إِذْ ذَهَبَ لِيَقْتَبِسَ لِأَهْلِهِ نَاراً فَرَجَعَ وَهُوَ رَسُولٌ نَبِيٌّ»، ثُمَّ قَالَ (علیه السلام): «أَفْضَلُ أَعْمَالِ شِيعَتِنَا انْتِظَارُ الْفَرَجِ»(3).

[2/311] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيُّ (رضی الله عنه)(4)، قَالَ:حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْكُوفِيُّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ الْآدَمِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَظِيمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْحَسَنِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَىٰ (علیهم السلام): إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ الْقَائِمَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ الَّذِي يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً، فَقَالَ (علیه السلام):

ص: 73


1- في بعض النُّسَخ: (عليُّ بن أحمد بن محمّد الدقَّاق).
2- تقدَّم ويأتي أنَّه في بعض النُّسَخ: (عبيد الله بن موسىٰ).
3- رواه الخزَّاز (رحمة الله) في كفاية الأثر (ص 280 و281)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 242).
4- في بعض النُّسَخ: (محمّد بن أحمد السناني)، وكلاهما واحد ظاهراً.

«يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا مِنَّا إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ بِأَمْرِ اللهِ (عزوجل)، وَهَادٍ إِلَىٰ دِينِ اللهِ، وَلَكِنَّ الْقَائِمَ الَّذِي يُطَهِّرُ اللهُ (عزوجل) بِهِ الْأَرْضَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْجُحُودِ، وَيَمْلَؤُهَا عَدْلاً وَقِسْطاً هُوَ الَّذِي تَخْفَىٰ عَلَىٰ النَّاسِ(1) وِلَادَتُهُ، وَيَغِيبُ عَنْهُمْ شَخْصُهُ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ تَسْمِيَتُهُ، وَهُوَ سَمِيُّ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) وَكَنِيُّهُ، وَهُوَ الَّذِي تُطْوَىٰ لَهُ الْأَرْضُ، وَيَذِلُّ لَهُ كُلُّ صَعْبٍ، [وَ]يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِهِ عِدَّةُ أَهْلِ بَدْرٍ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً مِنْ أَقَاصِي الْأَرْضِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ (عزوجل): «أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 148» [البقرة: 148]، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ لَهُ هَذِهِ الْعِدَّةُ مِنْ أَهْلِ الْإِخْلَاصِ أَظْهَرَ اللهُ أَمْرَهُ، فَإِذَا كَمَلَ لَهُ الْعَقْدُ وَهُوَ عَشَرَةُ آلَافِ رَجُلٍ خَرَجَ بِإِذْنِ اللهِ (عزوجل)، فَلَا يَزَالُ يَقْتُلُ أَعْدَاءَ اللهِ حَتَّىٰ يَرْضَىٰ اللهُ (عزوجل)».

قَالَ عَبْدُ الْعَظِيمِ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَيِّدِي، وَكَيْفَ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ (عزوجل) قَدْ رَضِيَ؟ قَالَ: «يُلْقِي فِي قَلْبِهِ الرَّحْمَةَ، فَإِذَا دَخَلَ المَدِينَةَ أَخْرَجَ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ فَأَحْرَقَهُمَا»(2).

[3/312] حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ اَلْعُبْدُوسُ الْعَطَّارُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمْدَانُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الصَّقْرُ بْنُ أَبِي دُلَفَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَعَلِيٍّ الرِّضَا (علیهما السلام) يَقُولُ: «إِنَّ الْإِمَامَ بَعْدِي ابْنِي عَلِيٌّ، أَمْرُهُ أَمْرِي، وَقَوْلُهُ قَوْلِي، وَطَاعَتُهُ طَاعَتِي، وَالْإِمَامُ بَعْدَهُ ابْنُهُ الْحَسَنُ، أَمْرُهُ أَمْرُ أَبِيهِ، وَقَوْلُهُ قَوْلُ أَبِيهِ، وَطَاعَتُهُ طَاعَةُ أَبِيهِ»، ثُمَّ سَكَتَ، فَقُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، فَمَنِ الْإِمَامُ بَعْدَ الْحَسَنِ؟ فَبَكَىٰ (علیه السلام) بُكَاءً شَدِيداً، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ مِنْ بَعْدِ الْحَسَنِ ابْنَهُ الْقَائِمَ بِالْحَقِّ المُنْتَظَرَ»، فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، لِمَ سُمِّيَ الْقَائِمَ؟ قَالَ: «لِأَنَّهُ يَقُومُ بَعْدَ مَوْتِ ذِكْرِهِ وَارْتِدَادِ أَكْثَرِ الْقَائِلِينَ بِإِمَامَتِهِ»، فَقُلْتُ لَهُ: وَلِمَ سُمِّيَ المُنْتَظَرَ؟ قَالَ: «لِأَنَّ لَهُ غَيْبَةً يَكْثُرُ أَيَّامُهَا وَيَطُولُ أَمَدُهَا، فَيَنْتَظِرُ

ص: 74


1- في بعض النُّسَخ: (عن الناس).
2- رواه الطبرسي (رحمة الله) في الاحتجاج (ج 2/ ص 249 و250).

خُرُوجَهُ المُخْلِصُونَ، وَيُنْكِرُهُ المُرْتَابُونَ، وَيَسْتَهْزِئُ بِذِكْرِهِ الْجَاحِدُونَ، ويَكْذِبُ فِيهَا الْوَقَّاتُونَ، وَيَهْلِكُ فِيهَا المُسْتَعْجِلُونَ، وَيَنْجُو فِيهَا المُسَلِّمُونَ»(1).

* * *

ص: 75


1- رواه الخزَّاز (رحمة الله) في كفاية الأثر (ص 283 و284)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 243 و244).

ص: 76

الباب السابع والثلاثون:

ما روي عن أبي الحسن عليِّ بن محمّد الهادي [علیهما

السلام] في النصِّ على القائم (علیه السلام) وغيبته وأنَّه الثاني عشر من الأئمَّة (علیهم السلام)

ص: 77

ص: 78

[1/313] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَىٰ الدَّقَّاقُ(1) وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْوَرَّاقُ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الصُّوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو تُرَابٍ عَبْدُ اللهِ ابْنُ مُوسَىٰ الرُّويَانِيُّ(2)، عَنْ عَبْدِ الْعَظِيمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْحَسَنِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىٰ سَيِّدِي عَلِيِّ بْنَ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام)، فَلَمَّا بَصُرَ بِي قَالَ لِي: «مَرْحَباً بِكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، أَنْتَ وَلِيُّنَا حَقًّا»، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكَ دِينِي فَإِنْ كَانَ مَرْضِيًّا ثَبَتُّ عَلَيْهِ حَتَّىٰ أَلْقَىٰ اللهَ (عزوجل)، فَقَالَ: «هَاتِ يَا أَبَا الْقَاسِمِ»، فَقُلْتُ: إِنِّي أَقُولُ: إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ وَاحِدٌ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، خَارِجٌ عَنِ الْحَدَّيْنِ حَدِّ الْإِبْطَالِ وَحَدِّ التَّشْبِيهِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا صُورَةٍ، وَلَا عَرَضٍ وَلَا جَوْهَرٍ، بَلْ هُوَ مُجَسِّمُ الْأَجْسَامِ، وَمُصَوِّرُ الصُّوَرِ، وَخَالِقُ الْأَعْرَاضِ وَالْجَوَاهِرِ، وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَالِكُهُ وَجَاعِلُهُ وَمُحْدِثُهُ، وَإِنَّ مُحَمَّداً (صلی الله علیه و آله) عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ شَرِيعَتَهُ خَاتِمَةُ الشَّرَائِعِ، فَلَا شَرِيعَةَ بَعْدَهَا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ(3).

وَأَقُولُ: إِنَّ الْإِمَامَ وَالْخَلِيفَةَ وَوَلِيَّ الْأَمْرِ بَعْدَهُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ الْحَسَنُ، ثُمَّ الْحُسَيْنُ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّد، ثُمَّ مُوسَىٰ بْنُ جَعْفَرٍ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُوسَىٰ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُعَلِيٍّ، ثُمَّ أَنْتَ يَا مَوْلَايَ، فَقَالَ (علیه السلام): «وَمِنْ بَعْدِي الْحَسَنُ ابْنِي، فَكَيْفَ لِلنَّاسِ بِالْخَلَفِ مِنْ بَعْدِهِ؟»، قَالَ:

ص: 79


1- في بعض النُّسَخ: (عليُّ بن أحمد بن محمّد الدقَّاق).
2- تقدَّم الكلام فيه، وفي بعض النُّسَخ والتوحيد: (عبيد الله بن موسىٰ).
3- كذا في جميع النُّسَخ، ولكن رواه المصنِّف (رحمة الله) في التوحيد وليس فيه قوله: (وإنَّ شريعته...) إلىٰ قوله: (يوم القيامة).

فَقُلْتُ: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا مَوْلَايَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يُرَىٰ شَخْصُهُ وَلَا يَحِلُّ ذِكْرُهُ بِاسْمِهِ حَتَّىٰ يَخْرُجَ فَيَمْلَأَ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»، قَالَ: فَقُلْتُ: أَقْرَرْتُ، وَأَقُولُ: إِنَّ وَلِيَّهُمْ وَلِيُّ اللهِ، وَعَدُوَّهُمْ عَدُوُّ اللهِ، وَطَاعَتَهُمْ طَاعَةُ اللهِ، وَمَعْصِيَتَهُمْ مَعْصِيَةُ اللهِ، وَأَقُولُ: إِنَّ الْمِعْرَاجَ حَقٌّ، وَالمُسَاءَلَةَ فِي الْقَبْرِ حَقٌّ، وَإِنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ، وَالصِّرَاطَ حَقٌّ، وَالْمِيزَانَ حَقٌّ، «وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ 7» [الحجّ: 7]، وَأَقُولُ: إِنَّ الْفَرَائِضَ الْوَاجِبَةَ بَعْدَ الْوَلَايَةِ: الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ وَالْأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ.

فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام): «يَا أَبَا الْقَاسِمِ، هَذَا وَاللهِ دِينُ اللهِ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ، فَاثْبُتْ عَلَيْهِ، ثَبَّتَكَ اللهُ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ[فِي] الْآخِرَةِ»(1).

[2/314] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْكَاتِبِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّيْمَرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَىٰ أَبِي الْحَسَنِ صَاحِبِ الْعَسْكَرِ (علیه السلام) أَسْأَلُهُ عَنِ الْفَرَجِ، فَكَتَبَ إِلَيَّ: «إِذَا غَابَ صَاحِبُكُمْ عَنْ دَارِ الظَّالِمِينَ فَتَوَقَّعُوا الْفَرَجَ»(2).[3/315] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْزِيَارَ، عَنْ أَخِيهِ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ(3)، قَالَ:

ص: 80


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 419 و420/ ح 557/24)، وفي التوحيد (ص 81 و82/ ح 37)، وفي صفات الشيعة (ص 48 - 50)، والخزَّاز (رحمة الله) في كفاية الأثر (ص 286 - 288)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 244 و245).
2- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 93/ ح 83)، والمسعودي في إثبات الوصيَّة (ص 269)، والحلبي (رحمة الله) في تقريب المعارف (ص 432)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1172/ ح 67).
3- هذا الخبر والذي قبله متَّحد إلَّا أنَّ في السابق عليُّ بن محمّد الصيمري عن عليِّ بن مهزيار، وفي هذا الخبر عليُّ بن مهزيار عن عليِّ بن محمّد، ولعلَّ أحدهما نسخة بدل عن الآخر فتوهَّم الكُتَّاب وجعلوه علىٰ زعمهم خبرين. وقيل: المراد هنا عليُّ بن محمّد التستري الذي عنونة العلَّامة في الإيضاح (ص 217/ الرقم 384)، وهو غير عليِّ بن محمّد الصيمري الذي في الخبر السابق، انتهىٰ. ثمّ اعلم أنَّ عليَّ بن محمّد بن زياد الصيمري هو صهر جعفر بن محمود الوزير علىٰ ابنة أُمِّ أحمد، وكان رجلاً من وجوه الشيعة وثقاتهم ومقدَّماً في الكتابة والأدب والعلم والمعرفة كما في إثبات الوصيَّة (ص 248)، والظاهر أنَّ الكاتب هو دون عليِّ بن مهزيار، والله أعلم.

كَتَبْتُ إِلَىٰ أَبِي الْحَسَنِ صَاحِبِ الْعَسْكَرِ (علیه السلام) أَسْأَلُهُ عَنِ الْفَرَجِ، فَكَتَبَ إِلَيَّ: «إِذَا غَابَ صَاحِبُكُمْ عَنْ دَارِ الظَّالِمِينَ فَتَوَقَّعُوا الْفَرَجَ».

[4/316] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي غَانِمٍ الْقَزْوِينِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ فَارِسٍ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا [وَنُوحٌ] وَأَيُّوبُ بْنُ نُوحٍ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَنَزَلْنَا عَلَىٰ وَادِي زُبَالَةَ، فَجَلَسْنَا نَتَحَدَّثُ، فَجَرَىٰ ذِكْرُ مَا نَحْنُ فِيهِ وَبُعْدُ الْأَمْرِ عَلَيْنَا، فَقَالَ أَيُّوبُ بْنُ نُوحٍ: كَتَبْتُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَذْكُرُ شَيْئاً مِنْ هَذَا، فَكَتَبَ إِلَيَّ: «إِذَا رُفِعَ عَلَمُكُمْ(1) مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ فَتَوَقَّعُوا الْفَرَجَ مِنْ تَحْتِأَقْدَامِكُمْ»(2)(3).

ص: 81


1- (علمكم) إمَّا بالتحريك أي من يُعلَم به سبيل الحقِّ، أو بالكسر يعنى صاحب علمكم.
2- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 131/ ح 137)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 341/ باب في الغيبة/ ح 24)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 193/ باب 10/ فصل 4/ ح 39).
3- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي (ج 6/ ص 268): (قوله: «إذا رُفِعَ علمكم من بين أظهركم» هذا أيضاً من علامات ظهوره (علیه السلام)، لأنَّ الناس في ذلك العصر معزولين عن العلم والعمل وموصوفين بالجهل والزلل، ولا همَّ لهم إلَّا السير في ميدان الضلالة والشقاوة، ولا عزم إلَّا السباق في مضمار الغواية والغباوة. قوله: «فتوقَّعوا الفرج من تحت أقدامكم» مبالغة في قرب زمان ظهوره حينئذٍ، أو كناية عن ظهوره قبل رجوعهم إلىٰ منازلهم). قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 51/ ص 159 و160): (بيان: (عَلَمكم) بالتحريك، أي مَنْ يُعلَم به سبيل الحقِّ، وهو الإمام (علیه السلام). أو بالكسر، أي صاحب عِلْمكم، فرجع إلىٰ الأوَّل. أو أصل العلم بأنْ تشيع الضلالة والجهالة في الخلق. وتوقُّع الفرج من تحت الأقدام كناية عن قربه وتيسُّر حصوله، فإنَّ من كانت قدماه علىٰ شيء فهو أقرب الأشياء به ويأخذه إذا رفعهما، فعلىٰ الأوَّلين المعنىٰ أنَّه لا بدَّ أنْ تكونوا في تلك الأزمان متوقِّعين للفرج كذلك، غير آيسين منه. ويحتمل أنْ يكون المراد ما هو أعمُّ من ظهور الإمام، أي يحصل لكم فرج إمَّا بالموت والوصول إلىٰ رحمة الله، أو ظهور الإمام، أو رفع شرِّ الأعادي بفضل الله. وعلىٰ الوجه الثالث الكلام محمول علىٰ ظاهره، فإنَّه إذا تمَّت جهالة الخلق وضلالتهم لا بدَّ من ظهور الإمام (علیه السلام) كما دلَّت الأخبار وعادة الله في الأُمَم الماضية عليه). وقال (رحمة الله) في مرآة العقول (ج 4/ ص 56): (إذا رفع علمكم: بالتحريك أي إمامكم الهادي لكم إلىٰ طريق الحقِّ، وربَّما يُقرَأ بالكسر أي صاحب علمكم، أو أصل العلم باعتبار خفاء الإمام فإنَّ أكثر الخلق في ذلك الزمان في الضلالة والجهالة، والأوَّل أظهر. وتوقُّع الفرج من تحت الأقدام كناية عن قربه وتيسُّر حصوله، فإنَّ من كان شيء تحت قدميه إذا رفعهما وجده، فالمعنىٰ أنَّه لا بدَّ أنْ تكونوا متوقِّعين للفرج كذلك وإنْ كان بعيداً، أو يكون المراد بالفرج إحدىٰ الحسنيين كما مرَّ. ويحتمل مع قراءة العلم بالكسر حمله علىٰ حقيقته، فإنَّ مع رفع العلم بين الخلق وشيوع الضلالة لا بدَّ من ظهوره (علیه السلام)، كما مرَّ أنَّه (علیه السلام) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلِئَت ظلماً وجوراً. وقيل: توقُّع الفرج من تحت الأقدام كناية عن الإطراق وترك الالتفات إلىٰ أهل الدنيا بالتواصي بالصبر فإنَّه مفتاح الفرج والخير كلِّه، وهو بعيد).

[5/317] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْعَلَوِيُّ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ دَاوُدَ بْنِ الْقَاسِمِ الْجَعْفَرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ صَاحِبَ الْعَسْكَرِ (علیه السلام) يَقُولُ: «الْخَلَفُ مِنْ بَعْدِي ابْنِيَ الْحَسَنُ، فَكَيْفَ لَكُمْ بِالْخَلَفِ مِنْ بَعْدِ الْخَلَفِ؟»، فَقُلْتُ: وَلِمَ جَعَلَنِيَ اللهُ فِدَاكَ؟ فَقَالَ: «لِأَنَّكُمْ لَا تَرَوْنَ شَخْصَهُ، وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ ذِكْرُهُ بِاسْمِهِ»، قُلْتُ: فَكَيْفَ نَذْكُرُهُ؟ قَالَ: قُولُوا الْحُجَّةُ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله)»(1)(2).

ص: 82


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 245/ باب 178/ ح 5)، وابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 118/ ح 112)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 328/ باب الإشارة والنصِّ علىٰ أبي محمّد (علیه السلام)/ ح 13) بسند آخر، والخصيبي (رحمة الله) في الهداية الكبرىٰ (ص 360)، والمسعودي في إثبات الوصيَّة (ص 245 و264)، والخزَّاز (رحمة الله) في كفاية الأثر (ص 288 و289)، والمفيد (رحمة الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 320 و349)، والحلبي (رحمة الله) في تقريب المعارف (ص 426 و427)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 202/ ح 169).
2- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي (ج 6/ ص 225): (قوله: «فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف» المراد بالخلف الأوَّل الحجَّة وبالخلف الثاني الحسن العسكري (علیه السلام)، و(كيف) للإنكار، أي لا يكون لكم العلم بالخلف بعد الخلف بشخصه أو بمكانه، أو لا يجوز لكم التسمية باسمه. قوله: «لا ترون شخصه» لعلَّ المراد نفي الرؤية عن جماعة أو كلَّما أرادوا أو في زمان الغيبة أو كناية عن غيبته وإلَّا فقد رآه جماعة كما سيجيء، والله أعلم. قوله: «ولا يحلُّ لكم ذكره باسمه» دلَّ علىٰ أنَّه لا يجوز تسميته باسمه مطلقاً، ولا يبعد تخصيصه بالغيبة الصغرىٰ أو بمحلِّ الخوف والتقيَّة كما يُشعِر به بعض الروايات الآتية، وربَّما يُشعِر به لفظ (لكم)، ويُؤيِّده وقوع التصريح باسمه في بعض الأدعية المأثورة، والاحتياط أمر آخر). وقال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول (ج 3/ ص 393): («فكيف لكم» أي يحصل العلم لكم بشخصه أو بمكانه أو يتمشَّىٰ الأمر لكم. «بالخلف» أي القائم (علیه السلام). «من بعد الخلف» أي أبي محمّد (علیه السلام). «لا ترون شخصه» أي عموماً أو في عموم الأوقات. «ولا يحلُّ لكم ذكره» ويدلُّ علىٰ حرمة تسميته (علیه السلام)).

[6/318] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُوسَىٰ الْخَشَّابُ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدِ [بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَىٰ] (علیهم السلام) يَقُولُ: «صَاحِبُ هَذَا الْأَمْرِ مَنْ يَقُولُ النَّاسُ: لَمْ يُولَدْ بَعْدُ»(1)(2).

[7/319] وَحَدَّثَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ مَعْقِلٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام) أَنَّهُ قَالَ: «صَاحِبُ هَذَا الْأَمْرِ مَنْ يَقُولُ النَّاسُ: إِنَّهُ لَمْ يُولَدْ بَعْدُ».

[8/320] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَدَقَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْغَفَّارِ، قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبُو جَعْفَرٍ الثَّانِي (علیه السلام) كَتَبَتِ الشِّيعَةُ إِلَىٰ أَبِي الْحَسَنِ صَاحِبِ الْعَسْكَرِ (علیه السلام) يَسْأَلُونَهُ عَنِ

ص: 83


1- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 109/ ح 94).
2- تقدَّم الخبر في باب ما روي عن موسىٰ بن جعفر (علیهما السلام) تحت الرقم (298/2)، فراجع.

الْأَمْرِ، فَكَتَبَ (علیه السلام): «الْأَمْرُ لِي مَا دُمْتُ حَيًّا، فَإِذَا نَزَلَتْ بِي مَقَادِيرُ اللهِ (عزوجل) آتَاكُمُاللهُ الْخَلَفَ مِنِّي، وَأَنَّىٰ لَكُمْ بِالْخَلَفِ بَعْدَ الْخَلَفِ»(1).

[9/321] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْهَمَدَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ المَوْصِلِيُّ، عَنِ الصَّقْرِ بْنِ أَبِي دُلَفَ، قَالَ: لَمَّا حَمَلَ المُتَوَكِّلُ سَيِّدَنَا أَبَا الْحَسَنِ (علیه السلام) جِئْتُ لِأَسْأَلَ عَنْ خَبَرِهِ، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيَّ حَاجِبُ المُتَوَكِّلِ(2)، فَأَمَرَ أَنْ أُدْخَلَ إِلَيْهِ، فَأُدْخِلْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا صَقْرُ، مَا شَأْنُكَ؟ فَقُلْتُ: خَيْرٌ أَيُّهَا الْأُسْتَاذُ، فَقَالَ: اقْعُدْ، قَالَ الصَّقْرُ: فَأَخَذَنِي مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ(3)، وَقُلْتُ: أَخْطَأْتُ فِي المَجِيءِ، قَالَ: فَوَحَىٰ النَّاسَ عَنْهُ(4)، ثُمَّ قَالَ: مَا شَأْنُكَ، وَفِيمَ جِئْتَ؟ قُلْتُ: لِخَبَرٍ مَا، قَالَ: لَعَلَّكَ جِئْتَ تَسْأَلُ عَنْ خَبَرِ مَوْلَاكَ، فَقُلْتُ لَهُ: وَمَنْ مَوْلَايَ؟ مَوْلَايَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: اسْكُتْ مَوْلَاكَ هُوَ الْحَقُّ لَا تَتَحَشَّمْنِي فَإِنِّي عَلَىٰ مَذْهَبِكَ، فَقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلهِ، فَقَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: اجْلِسْ حَتَّىٰ يَخْرُجَ صَاحِبُ الْبَرِيدِ، قَالَ: فَجَلَسْتُ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ لِغُلَامٍ لَهُ: خُذْ بِيَدِ الصَّقْرِ فَأَدْخِلْهُ إِلَىٰ الْحُجْرَةِ الَّتِي فِيهَا الْعَلَوِيُّ المَحْبُوسُ وَخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، قَالَ: فَأَدْخَلَنِي الْحُجْرَةَ وَأَوْمَأَ إِلَىٰ بَيْتٍ، فَدَخَلْتُ فَإِذَا هُوَ (علیه السلام) جَالِسٌ عَلَىٰ صَدْرِحَصِيرٍ وَبِحِذَاهُ قَبْرٌ مَحْفُورٌ، قَالَ: فَسَلَّمْتُ فَرَدَّ [عَلَيَّ السَّلَامَ]، ثُمَّ أَمَرَنِي بِالْجُلُوسِ فَجَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ

ص: 84


1- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 247).
2- في معاني الأخبار: (فنظر إليَّ الرازقي وكان حاجباً للمتوكِّل وأومأ إليَّ أنْ ادخل).
3- كذا في جميع النُّسَخ المخطوطة عندي، وفي الخصال والمعاني أيضاً، وفي المطبوع: (فأخذ فيما تقدَّم وما تأخَّر). وعليه فالمعنىٰ إمَّا أخذ بالسؤال عمَّا تقدَّم وعمَّا تأخَّر من الأُمور المختلفة لاستعلام حالي وسبب مجيئي، فلذا ندم علىٰ الذهاب إليه لئلَّا يطَّلع علىٰ حاله ومذهبه، أو الموصول فاعل (أخذني) بتقدير أي أخذني التفكُّر فيما تقدَّم من الأُمور من ظنِّه التشيُّع بي وفيما تأخَّر ممَّا يترتَّب علىٰ مجيئي من المفاسد. (راجع: بحار الأنوار: ج 56/ ص 21).
4- أي أشار إليهم أنْ يبعدوا عنه، أو علىٰ بناء التفعيل أي أعجلهم في الذهاب. وفي المعاني: (فأُوجئ الناس عنه) بصيغة المجهول، وأوجأ فلاناً عنه أي دفعه ونحَّاه.

لِي: «يَا صَقْرُ، مَا أَتَىٰ بِكَ؟»، قُلْتُ: يَا سَيِّدِي، جِئْتُ أَتَعَرَّفُ خَبَرَكَ، قَالَ: ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَىٰ الْقَبْرِ وَبَكَيْتُ، فَنَظَرَ إِلَيَّ وَقَالَ: «يَا صَقْرُ، لَا عَلَيْكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْنَا بِسُوءٍ»، فَقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلهِ، ثُمَّ قُلْتُ: يَا سَيِّدِي، حَدِيثٌ يُرْوَىٰ عَنِ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله) لَا أَعْرِفُ مَعْنَاهُ، قَالَ: فَمَا هُوَ؟ قُلْتُ: قَوْلُهُ (صلی الله علیه و آله): «لَا تُعَادُوا الْأَيَّامَ فَتُعَادِيَكُمْ» مَا مَعْنَاهُ؟

فَقَالَ: «نَعَمْ الْأَيَّامُ نَحْنُ، بِنَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، فَالسَّبْتُ اسْمُ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، وَالْأَحَدُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، وَالْاِثْنَيْنِ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، وَالثَّلَاثَاءُ عَلِيُّ ابْنُ الْحُسَيْنِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ [الصَّادِقُ]، وَالْأَرْبِعَاءُ مُوسَىٰ ابْنُ جَعْفَرٍ وَعَلِيُّ بْنُ مُوسَىٰ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَنَا، وَالْخَمِيسُ ابْنِيَ الْحَسَنُ، وَالْجُمُعَةُ ابْنُ ابْنِي، وَإِلَيْهِ تَجْتَمِعُ عِصَابَةُ الْحَقِّ، وَهُوَ الَّذِي يَمْلَؤُهَا قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً، فَهَذَا مَعْنَىٰ الْأَيَّامِ وَلَا تُعَادُوهُمْ فِي الدُّنْيَا فَيُعَادُوكُمْ فِي الْآخِرَةِ»، ثُمَّ قَالَ (علیه السلام): «وَدِّعْ واخْرُجْ فَلَا آمَنُ عَلَيْكَ»(1)(2).

[10/322] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْهَمَدَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ المَوْصِلِيُّ، قَالَ:حَدَّثَنَا الصَّقْرُ بْنُ أَبِي دُلَفَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الرِّضَا (علیهم السلام) يَقُولُ: «إِنَّ الْإِمَامَ بَعْدِي الْحَسَنُ ابْنِي، وَبَعْدَ الْحَسَنِ ابْنُهُ الْقَائِمُ الَّذِي يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»(3).

* * *

ص: 85


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في الخصال (ص 394 - 396/ ح 102)، وفي معاني الأخبار (ص 123 و124/ باب معنىٰ الحديث الذي روي عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله): «لا تعادوا الأيَّام فتعاديكم»/ ح 1)، والخزَّاز (رحمة الله) في كفاية الأثر (ص 289 - 292)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 245 - 247).
2- في الخصال في ذيل الخبر بيان للمصنِّف (رحمة الله)، وقال: (الأيَّام ليست بالأئمَّة ولكن كنَّىٰ (علیه السلام) بها عن الأئمَّة لئلَّا يُدرك معناه غير أهل الحقِّ)، ثمّ ذكر لكلامه شاهداً من آيات القرآن.
3- رواه الخزَّاز (رحمة الله) في كفاية الأثر (ص 292)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 247).

ص: 86

الباب الثامن والثلاثون:

اشارة

ما روي عن أبي محمّد الحسن ابن عليٍّ العسكري (علیهما

السلام) من وقوع الغيبة بابنه القائم (علیه السلام) وأنَّه الثاني عشر من الأئمَّة (علیهم السلام)

ص: 87

ص: 88

[1/323] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ سَعْدٍ الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىٰ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام) وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنِ الْخَلَفِ [مِنْ] بَعْدِهِ، فَقَالَ لِي مُبْتَدِئاً: «يَا أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ، إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ لَمْ يُخْلِ الْأَرْضَ مُنْذُ خَلَقَ آدَمَ (علیه السلام) وَلَا يُخْلِيهَا إِلَىٰ أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ مِنْ حُجَّةٍ لِلهِ عَلَىٰ خَلْقِهِ، بِهِ يَدْفَعُ الْبَلَاءَ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَبِهِ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَبِهِ يُخْرِجُ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ.

قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، فَمَنِ الْإِمَامُ وَالْخَلِيفَةُ بَعْدَكَ؟ فَنَهَضَ (علیه السلام) مُسْرِعاً فَدَخَلَ الْبَيْتَ، ثُمَّ خَرَجَ وَعَلَىٰ عَاتِقِهِ غُلَامٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ مِنْ أَبْنَاءِ الثَّلَاثِ سِنِينَ، فَقَالَ: «يَا أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ، لَوْ لَا كَرَامَتُكَ عَلَىٰ اللهِ (عزوجل) وَعَلَىٰ حُجَجِهِ مَا عَرَضْتُ عَلَيْكَ ابْنِي هَذَا، إِنَّهُ سَمِيُّ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) وَكَنِيُّهُ، الَّذِي يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً.

يَا أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ، مَثَلُهُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَثَلُ الْخَضِرِ (علیه السلام)، وَمَثَلُهُ مَثَلُ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَاللهِ لَيَغِيبَنَّ غَيْبَةً لَا يَنْجُو فِيهَا مِنَ الْهَلَكَةِ إِلَّا مَنْ ثَبَّتَهُ اللهُ (عزوجل) عَلَىٰ الْقَوْلِ بِإِمَامَتِهِ وَوَفَّقَهُ [فِيهَا] لِلدُّعَاءِ بِتَعْجِيلِ فَرَجِهِ».

فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا مَوْلَايَ فَهَلْ مِنْ عَلَامَةٍ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا قَلْبِي؟ فَنَطَقَ الْغُلَامُ (علیه السلام) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ فَصِيحٍ، فَقَالَ: «أَنَا بَقِيَّةُ اللهِ فِي أَرْضِهِ، وَالمُنْتَقِمُ مِنْ أَعْدَائِهِ، فَلَا تَطْلُبْ أَثَراً بَعْدَ عَيْنٍ يَا أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ».فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَخَرَجْتُ مَسْرُوراً فَرِحاً، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ عُدْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، لَقَدْ عَظُمَ سُرُورِي بِمَا مَنَنْتَ [بِهِ] عَلَيَّ، فَمَا السُّنَّةُ

ص: 89

الْجَارِيَةُ فِيهِ مِنَ الْخَضِرِ وَذِي الْقَرْنَيْنِ؟ فَقَالَ: «طُولُ الْغَيْبَةِ يَا أَحْمَدُ»، قُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، وَإِنَّ غَيْبَتَهُ لَتَطُولُ؟ قَالَ: «إِي وَرَبِّي حَتَّىٰ يَرْجِعَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ أَكْثَرُ الْقَائِلِينَ بِهِ، وَلَا يَبْقَىٰ إِلَّا مَنْ أَخَذَ اللهُ (عزوجل) عَهْدَهُ لِوَلَايَتِنَا، وَكَتَبَ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُ بِرُوحٍ مِنْهُ.

يَا أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ، هَذَا أَمْرٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ، وَسِرٌّ مِنْ سِرِّ اللهِ، وَغَيْبٌ مِنْ غَيْبِ اللهِ، فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَاكْتُمْهُ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ تَكُنْ مَعَنَا غَداً فِي عِلِّيِّينَ»(1).

قال مصنِّف هذا الكتاب (رضی الله عنه): لم أسمع بهذا الحديث إلَّا من عليِّ بن عبد الله الورَّاق، وجدت بخطِّه مثبتاً، فسألته عنه فرواه لي عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن إسحاق (رضی الله عنه) كما ذكرته(2).

* * *

ما روي من حديث الخضر (علیه السلام)

ما روي من حديث الخضر (علیه السلام)(3):

[1/324] حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَىٰ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَاهِشَامُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سُلَيْمَانَ(4)، قَالَ: قَرَأْتُ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللهِ (عزوجل) أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ عَبْداً صَالِحاً جَعَلَهُ اللهُ حُجَّةً عَلَىٰ عِبَادِهِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ نَبِيًّا، فَمَكَّنَ اللهُ لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً، فَوُصِفَتْ لَهُ عَيْنُ الْحَيَاةِ، وَقِيلَ لَهُ: مَنْ شَرِبَ مِنْهَا لَمْ يَمُتْ

ص: 90


1- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 248 و249).
2- ستأتي تتمَّة أحاديث هذا الباب في (ص 111)، عند قول المصنِّف: (رجعنا إلىٰ ذكر ما روي عن أبي محمّد الحسن العسكري (علیه السلام)).
3- ذكر المصنِّف هذا الفصل والذي بعده استطراداً بين باب أخبار أبي محمّد العسكري (علیه السلام)، ولذا جعلناه ممتازاً عن أخبار الباب.
4- عبد الله بن سليمان مشترك بين خمسة، ولم يُوثَّق أحد منهم، والخبر - كما ترىٰ - مقطوع أي غير مروي عن المعصوم (علیه السلام).

حَتَّىٰ يَسْمَعَ الصَّيْحَةَ، وَإِنَّهُ خَرَجَ فِي طَلَبِهَا حَتَّىٰ انْتَهَىٰ إِلَىٰ مَوْضِعٍ فِيهِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ عَيْناً، وَكَانَ الْخَضِرُ عَلَىٰ مُقَدِّمَتِهِ(1)، وَكَانَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَأَعْطَاهُ حُوتاً مَالِحاً، وَأَعْطَىٰ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ حُوتاً مَالِحاً، وَقَالَ لَهُمْ: لِيَغْسِلْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ حُوتَهُ عِنْدَ كُلِّ عَيْنٍ، فَانْطَلَقَ الْخَضِرُ (علیه السلام) إِلَىٰ عَيْنٍ مِنْ تِلْكَ الْعُيُونِ، فَلَمَّا غَمَسَ الْحُوتَ فِي المَاءِ حَيِيَ وَانْسَابَ فِي المَاءِ، فَلَمَّا رَأَىٰ الْخَضِرُ (علیه السلام) ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ ظَفِرَ بِمَاءِ الْحَيَاةِ فَرَمَىٰ بِثِيَابِهِ وَسَقَطَ فِي المَاءِ، فَجَعَلَ يَرْتَمِسُ فِيهِ وَيَشْرَبُ مِنْهُ فَرَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَىٰ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَمَعَهُ حُوتُهُ، وَرَجَعَ الْخَضِرُ وَلَيْسَ مَعَهُ الْحُوتُ فَسَأَلَهُ عَنْ قِصَّتِهِ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَشَرِبْتَمِنْ ذَلِكَ المَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَنْتَ صَاحِبُهَا، وَأَنْتَ الَّذِي خُلِقْتَ لِهَذِهِ الْعَيْنِ، فَأَبْشِرْ بِطُولِ الْبَقَاءِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مَعَ الْغَيْبَةِ عَنِ الْأَبْصَارِ إِلَىٰ النَّفْخِ فِي الصُّورِ»(2).

[2/325] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبَرْقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ جَدِّهِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ حَمْزَةَ ابْنِ حُمْرَانَ وَغَيْرِهِ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام)، قَالَ: «خَرَجَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ

ص: 91


1- يعنى علىٰ مقدّمة عسكر ذي القرنين، وهو غريب، لأنَّ الخضر إذا كان معاصراً لموسىٰ (علیه السلام) فكان علىٰ التقريب (1500) عام قبل الميلاد، وذو القرنين سواء كان إسكندر أو كورش كان بعد موسىٰ (علیه السلام) بقرون كثيرة، فإنَّ إسكندر في عام (330) قبل الميلاد، وكورش (550) قبل الميلاد، فلعلَّ المراد بذي القرنين رجل آخر غيرهما. هذا وقد نقل ابن قتيبة في معارفه (ص 54) عن وهب ابن منبه قال: (ذو القرنين هو رجل من الإسكندريَّة اسمه الإسكندروس، وكان حلم حلماً رأىٰ فيه أنَّه دنا من الشمس حتَّىٰ أخذ بقرنيها في شرقها وغربها، فقصَّ رؤياه علىٰ قومه، فسمُّوه ذا القرنين، وكان في الفترة بعد عيسىٰ (علیه السلام)) انتهىٰ. وعلىٰ أيِّ حالٍ تاريخ ذي القرنين والخضر في غاية تشويه والوهم والاضطراب، ونحن لا نقول في حقِّهما إلَّا ما قاله القرآن أو ما وافقه من الأخبار ونترك الزوائد لأهلها.
2- روىٰ قريباً منه العيَّاشي (رحمة الله) في تفسيره (ج 2/ ص 340 و341/ ح 77)، والراوندي (رحمة الله) في قَصص الأنبياء (ص 124/ ح 123).

ابْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ (علیهما السلام)(1) بِالمَدِينَةِ، فَتَضَجَّرَ وَاتَّكَأَ عَلَىٰ جِدَارٍ مِنْ جُدْرَانِهَا مُتَفَكِّراً إِذْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ، عَلَىٰ مَ حُزْنُكَ؟ عَلَىٰ الدُّنْيَا فَرِزْقُ [اللهِ(عزوجل] حَاضِرٌ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، أَمْ عَلَىٰ الْآخِرَةِ فَوَعْدٌ صَادِقٌ يَحْكُمُ فِيهِ مَلِكٌ قَادِرٌ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (علیه السلام): مَا عَلَىٰ هَذَا حُزْنِي، إِنَّمَا حُزْنِي عَلَىٰ فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: فَهَلْ رَأَيْتَ أَحَداً خَافَ اللهَ فَلَمْ يُنْجِهِ؟ أَمْ هَلْ رَأَيْتَ أَحَداً تَوَكَّلَ عَلَىٰ اللهِ فَلَمْ يَكْفِهِ؟ وَهَلْ رَأَيْتَ أَحَداً اسْتَجَارَ اللهَ فَلَمْ يُجِرْهُ(2)؟ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (علیه السلام): لَا، فَوَلَّىٰ الرَّجُلُ، فَقِيلَ: مَنْ هُوَ ذَاكَ؟ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: هَذَا هُوَ الْخَضِرُ (علیه السلام)».

قال مصنِّف هذا الكتاب (رضی الله عنه): جاء هذا الحديث هكذا، وقد روي في خبر آخر أنَّ ذلك كان مع عليِّ بن الحسين (علیهما السلام).

[3/326] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الْبَرْقِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ زَيْدٍ النَّيْسَابُورِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْهَاشِمِيُّ، عَنْ عَبْدِ

ص: 92


1- وهم الراوي، وإنَّما هو عليُّ بن الحسين (علیهما السلام)، فاشتبه عليه كما قال المصنِّف (رحمة الله). وذلك لأنَّه كانت فتنة ابن الزبير في سنة ثلاث وستِّين وهو بمكَّة وأخرج أهل المدينة عامل يزيد عثمان بن محمّد بن أبي سفيان ومروان بن الحَكَم وسائر بني أُميَّة من المدينة بإشارة ابن الزبير وهو بمكَّة، فوجَّه يزيد ابن معاوية مسلم بن عقبة في جيش عظيم لقتال ابن الزبير، فسار بهم حتَّىٰ نزل المدينة فقاتل أهلها وهزمهم وأباحها ثلاثة أيَّام - وهي وقعة الحرَّة المعروفة -، ثمّ سار مسلم بن عقبة إلىٰ مكَّة قاصداً قتال عبد الله بن الزبير، فتُوفِّي بالطريق ولم يصل، فدُفِنَ بقديد، وولي الجيش الحصين بن نمير السكوني، فمضىٰ بالجيش وحاصروا عبد الله بن الزبير وأُحرقت الكعبة حتَّىٰ انهدم جدارها وسقط سقفها وأتاهم الخبر بموت يزيد، فانكفأوا راجعين إلىٰ الشام. وبويع ابن الزبير علىٰ الخلافة سنة خمس وستِّين، وبنىٰ الكعبة، وبايعه أهل البصرة والكوفة، وقُتِلَ في أيَّام الحجَّاج سنة (73 ه). هذا، ثمّ اعلم أنَّ أبا جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر (علیهما السلام) في أيَّام ابن الزبير ابن ستّ عشرة سنة، وفي وقعة الحرَّة ابن سبع أو ثمان سنين، فكيف يلائم هذا مع ما في المتن؟ بل كان ذلك مع عليِّ بن الحسين (علیهما السلام)، لأنَّ فتنة ابن الزبير وخروجه وهدم البيت وبناءه الكعبة وقتله كلَّها في أيَّام السجَّاد (علیه السلام).
2- في بعض النُّسَخ: (استخار الله فلم يخره).

المَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ صَفْوَانَ صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، قَالَ: لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) ارْتَجَّ المَوْضِعُ بِالْبُكَاءِ(1) وَدَهِشَ النَّاسُ كَيَوْمَ قُبِضَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله)، فَجَاءَ رَجُلٌ بَاكٍ وَهُوَ مُسْرِعٌ(2) مُسْتَرْجِعٌ، وَهُوَ يَقُولُ: الْيَوْمَ انْقَطَعَتْ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ، حَتَّىٰ وَقَفَ عَلَىٰ بَابِ الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: رَحِمَكَ اللهُ يَا أَبَا الْحَسَنِ، كُنْتَ أَوَّلَ الْقَوْمِ إِسْلَاماً، وَأَخْلَصَهُمْ إِيمَاناً، وَأَشَدَّهُمْ يَقِيناً، وَأَخْوَفَهُمْ مِنَ اللهِ (عزوجل)،وَأَعْظَمَهُمْ عَنَاءً(3)، وَأَحْوَطَهُمْ عَلَىٰ رَسُولِهِ (صلی الله علیه و آله)، وَآمَنَهُمْ عَلَىٰ أَصْحَابِهِ، وَأَفْضَلَهُمْ مَنَاقِبَ، وَأَكْرَمَهُمْ سَوَابِقَ، وَأَرْفَعَهُمْ دَرَجَةً، وَأَقْرَبَهُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ، وَأَشْبَهَهُمْ بِهِ هَدْياً وَنُطْقاً وَسَمْتاً وَفِعْلاً(4)، وَأَشْرَفَهُمْ مَنْزِلَةً، وَأَكْرَمَهُمْ عَلَيْهِ، فَجَزَاكَ اللهُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَعَنْ رَسُولِهِ (صلی الله علیه و آله) وَعَنِ المُسْلِمِينَ خَيْراً، قَوِيتَ حِينَ ضَعُفَ أَصْحَابُهُ، وَبَرَزْتَ حِينَ اسْتَكَانُوا، وَنَهَضْتَ حِينَ وَهَنُوا، وَلَزِمْتَ مِنْهَاجَ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) إِذْ هَمَّ أَصْحَابُهُ.

كُنْتَ خَلِيفَتَهُ حَقًّا لَمْ تُنَازَعْ وَلَمْ تَضْرَعْ(5) بِرَغْمِ المُنَافِقِينَ، وَغَيْظِ الْكَافِرِينَ، وَكُرْهِ الْحَاسِدِينَ، وَضَغَنِ الْفَاسِقِينَ، فَقُمْتَ بِالْأَمْرِ حِينَ فَشِلُوا، وَنَطَقْتَ حِينَ تَتَعْتَعُوا(6)، وَمَضَيْتَ بِنُورِ اللهِ إِذْ وَقَفُوا، وَلَوِ اتَّبَعُوكَ لَهُدُوا، وَكُنْتَ أَخْفَضَهُمْ صَوْتاً، وَأَعْلَاهُمْ قُوَّتاً(7)، وَأَقَلَّهُمْ كَلَاماً، وَأَصْوَبَهُمْ مَنْطِقاً، وَأَكْبَرَهُمْ رَأْياً، وَأَشْجَعَهُمْ قَلْباً، وَأَشَدَّهُمْ يَقِيناً، وَأَحْسَنَهُمْ عَمَلاً، وَأَعْرَفَهُمْ بِالْأُمُورِ.

ص: 93


1- ارتجَّ، أي اضطرب.
2- في بعض النُّسَخ: (متضرِّع).
3- في بعض النُّسَخ: (أعظمهم غنىٰ). وأحوطهم، أي أشدّهم حياطةً وحفظاً وصيانةً وتعهُّداً.
4- الهدي: الطريقة والسيرة. والسمت: هيأة أهل الخير. وفي نسخة: (خُلقاً) مكان (نطقاً).
5- أي تذلّ. وفي بعض النُّسَخ: (تصرع) بالصاد المهملة.
6- التعتعة: التردُّد في الكلام من حصر أو عيّ.
7- في الكافي: (أعلاهم قنوتاً). وفي بعض نُسَخه: (قدماً).

كُنْتَ وَاللهِ لِلدِّينِ يَعْسُوباً، [أَوَّلاً حِينَ تَفَرَّقَ النَّاسُ، وَآخِراً حِينَ فَشِلُوا]، وَكُنْتَ بِالمُؤْمِنِينَ أَباً رَحِيماً، إِذْ صَارُوا عَلَيْكَ عِيَالاً، فَحَمَلْتَ أَثْقَالَ مَا عَنْهُ ضَعُفُوا، وَحَفِظْتَ مَا أَضَاعُوا، وَرَعَيْتَ مَا أَهْمَلُوا، وَشَمَّرْتَ إِذْ خَنَعُوا، وَعَلَوْتَ إِذْ هَلِعُوا، وَصَبَرْتَ إِذْ جَزِعُوا، وَأَدْرَكْتَ إِذْ تَخَلَّفُوا، وَنَالُوا بِكَ مَا لَمْيَحْتَسِبُوا.

كُنْتَ عَلَىٰ الْكَافِرِينَ عَذَاباً صَبًّا، وَلِلْمُؤْمِنِينَ غَيْثاً وَخِصْباً، فَطَرْتَ وَاللهِ بِنَعْمَائِهَا، وَفُزْتَ بِحِبَائِهَا، وَأَحْرَزْتَ سَوَابِقَهَا(1)، وَذَهَبْتَ بِفَضَائِلِهَا، لَمْ تُفْلَلْ حُجَّتُكَ(2)، وَلَمْ يَزِغْ قَلْبُكَ، وَلَمْ تَضْعُفْ بَصِيرَتُكَ، وَلَمْ تَجْبُنْ نَفْسُكَ، [وَلَمْ تَخُنْ(3)].

كُنْتَ كَالْجَبَلِ [الَّذِي] لَا تُحَرِّكُهُ الْعَوَاصِفُ، وَلَا تُزِيلُهُ الْقَوَاصِفُ، وَكُنْتَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله): ضَعِيفاً فِي بَدَنِكَ، قَوِيًّا فِي أَمْرِ اللهِ (عزوجل)، مُتَوَاضِعاً فِي نَفْسِكَ، عَظِيماً عِنْدَ اللهِ (عزوجل)، كَبِيراً فِي الْأَرْضِ، جَلِيلاً عِنْدَ المُؤْمِنِينَ، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِيكَ مَهْمَزٌ، وَلَا لِقَائِلٍ فِيكَ مَغْمَزٌ، وَلَا لِأَحَدٍ فِيكَ مَطْمَعٌ، وَلَا لِأَحَدٍ عِنْدَكَ هَوَادَةٌ(4)، الضَّعِيفُ الذَّلِيلُ عِنْدَكَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ حَتَّىٰ تَأْخُذَ لَهُ بِحَقِّهِ، وَالْقَوِيُّ الْعَزِيزُ عِنْدَكَ ضَعِيفٌ ذَلِيلٌ حَتَّىٰ تَأْخُذَ مِنْهُ الْحَقَّ، وَالْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ عِنْدَكَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، شَأْنُكَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ وَالرِّفْقُ، وَقَوْلُكَ حُكْمٌ وَحَتْمٌ، وَأَمْرُكَ حِلْمٌ وَحَزْمٌ، وَرَأْيُكَ عِلْمٌ وَعَزْمٌ فِيمَا فَعَلْتَ(5)، وَقَدْ نَهَجَ السَّبِيلُ، وَسَهُلَ الْعَسِيرُ، وَأُطْفِئَتِ النِّيرَانُ(6)، وَاعْتَدَلَ بِكَ

ص: 94


1- في هامش بعض النُّسَخ الجديدة: (سوابغها). والظاهر هو الصواب بقرينة النعماء والحباء. ولكن (بنعمائها) في بعض النُّسَخ (بعنانها)، و(حبائها) في بعض النُّسَخ (بجنانها).
2- في بعض النُّسَخ: (لم يفلل حدُّك).
3- في بعض نُسَخ الكافي: (لم تخر) من الخرور، وهو السقوط.
4- المهمز: العيب والوقيعة، والمغمز: المطعن والعيب أيضاً. والهوادة: اللين والرفق والرخصة والمحاباة، أي لا تأخذك عند وجوب حدِّ الله علىٰ أحد محاباة ورفق.
5- كذا في بعض النُّسَخ، وفي الكافي أيضاً، لكن في أكثر النُّسَخ: (وعزم فأقلعت).
6- في بعض النُّسَخ: (وأُطفئت بك النار).

الدِّينُ، وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ، وَقَوِيَ بِكَ الْإِيمَانُ، وَثَبَتَ بِكَ الْإِسْلَامُوَالمُؤْمِنُونَ، وَسَبَقْتَ سَبْقاً بَعِيداً، وَأَتْعَبْتَ مَنْ بَعْدَكَ تَعَباً شَدِيداً، فَجَلَلْتَ عَنِ الْبُكَاءِ، وَعَظُمَتْ رَزِيَّتُكَ فِي السَّمَاءِ، وَهَدَّتْ مُصِيبَتُكَ الْأَنَامَ، فَإِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، رَضِينَا مِنَ اللهِ (عزوجل) قَضَاهُ، وَسَلَّمْنَا لِلهِ أَمْرَهُ، فَوَاللهِ لَنْ يُصَابَ المُسْلِمُونَ بِمِثْلِكَ أَبَداً.

كُنْتَ لِلْمُؤْمِنِينَ كَهْفاً وَحِصْناً [وَقُنَّةً رَاسِياً]، وَعَلَىٰ الْكَافِرِينَ غِلْظَةً وَغَيْظاً، فَأَلْحَقَكَ اللهُ بِنَبِيِّهِ وَلَا حَرَمَنَا أَجْرَكَ وَلَا أَضَلَّنَا بَعْدَكَ. وَسَكَتَ الْقَوْمُ حَتَّىٰ انْقَضَىٰ كَلَامُهُ، وَبَكَىٰ وَأَبْكَىٰ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، ثُمَّ طَلَبُوهُ فَلَمْ يُصَادِفُوهُ (1).

[4/327] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ الْعَلَوِيُّ الْعَمْرِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ مُوسَىٰ الرِّضَا (علیه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ الْخَضِرَ (علیه السلام) شَرِبَ مِنْ مَاءِ الْحَيَاةِ، فَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ حَتَّىٰ يُنْفَخَ فِي الصُّورِ، وَإِنَّهُ لَيَأْتِينَا(2) فَيُسَلِّمُ، فَنَسْمَعُ صَوْتَهُ وَلَا نَرَىٰ شَخْصَهُ، وَإِنَّهُ لَيَحْضُرُ حَيْثُ مَا ذُكِرَ، فَمَنْ ذَكَرَهُ مِنْكُمْ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ لَيَحْضُرُ المَوْسِمَ كُلَّ سَنَةٍ فَيَقْضِي جَمِيعَ المَنَاسِكِ، وَيَقِفُ بِعَرَفَةَ فَيُؤَمِّنُ عَلَىٰ دُعَاءِ المُؤْمِنِينَ، وَسَيُؤْنِسُ اللهُ بِهِ وَحْشَةَ قَائِمِنَا فِي غَيْبَتِهِ وَيَصِلُ بِهِ وَحْدَتَهُ».

[5/328] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، قَالَ: قَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُوسَىٰالرِّضَا (علیه السلام): «لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) جَاءَ الْخَضِرُ (علیه السلام) فَوَقَفَ عَلَىٰ بَابِ الْبَيْتِ وَفِيهِ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ (علیهم السلام) وَرَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) قَدْ سُجِّيَ بِثَوْبِهِ، فَقَالَ:

ص: 95


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 312 - 314/ ح 363/11)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 454 - 456/ باب مولد أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)/ ح 4).
2- في بعض النُّسَخ: (ليلقانا).

السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ بَيْتِ مُحَمَّدٍ، «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» [آل عمران: 185]، إِنَّ فِي اللهِ خَلَفاً مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَعَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَدَرَكاً مِنْ كُلِّ فَائِتٍ، فَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ، وَثِقُوا بِهِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ. فَقَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام): هَذَا أَخِي الْخَضِرُ (علیه السلام) جَاءَ يُعَزِّيكُمْ بِنَبِيِّكُمْ (صلی الله علیه و آله)»(1).

[6/329] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضی الله عنه)، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَىٰ الرِّضَا (علیهما السلام)، قَالَ: «لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) أَتَاهُمْ آتٍ فَوَقَفَ عَلَىٰ بَابِ الْبَيْتِ فَعَزَّاهُمْ بِهِ، وَأَهْلُ الْبَيْتِ يَسْمَعُونَ كَلَامَهُ وَلَا يَرَوْنَهُ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام): هَذَا هُوَ الْخَضِرُ (علیه السلام) أَتَاكُمْ يُعَزِّيكُمْ بِنَبِيِّكُمْ (صلی الله علیه و آله)».

وكان اسم الخضر(2) خضرويه بن قابيل بن آدم (علیه السلام)، ويقال له: خضرون أيضاً، ويقال له: جعداً، وإنَّه إنَّما سُمِّي الخضر لأنَّه جلس علىٰ أرض بيضاء فاهتزَّت خضراء فسُمِّي الخضر لذلك، وهو أطول الآدميِّين عمراً، والصحيح أنَّ اسمه بليا(3) بن ملكان بن عامر بن أرفخشذ بن سامبن نوح(4). وقد أخرجت الخبر في ذلك مسنداً في كتاب (علل الشرائع والأحكام والأسباب)(5).

[7/330] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ كَاسِبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَيْمُونٍ المَكِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (علیهم السلام)، فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ يَقُولُ فِي آخِرِهِ: «لَمَّا

ص: 96


1- روىٰ قريباً منه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 3/ ص 222/ باب التعزِّي/ ح 8).
2- من كلام المصنِّف (رحمة الله).
3- في معاني الأخبار: (تاليا).
4- كذا، وفي المعارف لابن قتيبة: (بليا بن ملكان بن فالغ بن عامر بن شالخ بن أرفشخذ بن سام بن نوح).
5- راجع: علل الشرائع (ج 1/ ص 59 - 62/ باب 54/ ح 1).

تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) وَجَاءَتِ التَّعْزِيَةُ جَاءَهُمْ آتٍ يَسْمَعُونَ حِسَّهُ(1) وَلَا يَرَوْنَ شَخْصَهُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» [آل عمران: 185]، إِنَّ فِي اللهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَخَلَفاً مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَدَرَكاً مِنْ كُلِّ فَائِتٍ، فَبِاللهِ فَثِقُوا، وَإِيَّاهُ فَارْجُوا، فَإِنَّ المُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام): هَلْ تَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ [قَالُوا: لَا، قَالَ]: هَذَا هُوَ الْخَضِرُ (علیه السلام)»(2).

قال مصنِّف هذا الكتاب (رضی الله عنه): إنَّ أكثر المخالفين يُسلِّمون لنا حديث الخضر (علیه السلام) ويعتقدون فيه أنَّه حيٌّ غائب عن الأبصار، وأنَّه حيث ذكر حضر، ولا يُنكِرون طول حياته، ولا يحملون حديثه علىٰعقولهم، ويدفعون كون القائم (علیه السلام) وطول حياته في غيبته، وعندهم أنَّ قدرة الله (عزوجل) تتناول إبقاءه إلىٰ يوم النفخ في الصور، وإبقاء إبليس مع لعنته إِلىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ المَعْلُومِ في غيبته. وأنَّها لا تتناول إبقاء حجَّة الله علىٰ عباده مدَّة طويلة في غيبته مع ورود الأخبار الصحيحة بالنصِّ عليه بعينه(3) و اسمه ونسبه عن الله تبارك وتعالىٰ وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعن الأئمَّة (علیهم السلام).

ما روي من حديث ذي القرنين:

[1/331] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ هَارُونَ بْنِ خَارِجَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)، قَالَ: «إِنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَلَكِنَّهُ كَانَ عَبْداً صَالِحاً أَحَبَّ اللهَ فَأَحَبَّهُ اللهُ، وَنَاصَحَ لِلهِ فَنَاصَحَهُ اللهُ، أَمَرَ قَوْمَهُ بِتَقْوَىٰ اللهِ فَضَرَبُوهُ عَلَىٰ قَرْنِهِ

ص: 97


1- يعني صوته. وفي بعض النُّسَخ: (صوته).
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 348 و349/ ح 421/13)، والفتَّال (رحمة الله) في روضة الواعظين (ص 71 و72).
3- في بعض النُّسَخ: (بغيبته).

فَغَابَ عَنْهُمْ زَمَاناً، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِمْ فَضَرَبُوهُ عَلَىٰ قَرْنِهِ الْآخَرِ، وَفِيكُمْ مَنْ هُوَ عَلَىٰ سُنَّتِهِ»(1).

[2/332] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْبَزَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْعُطَارِدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ ابْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ المَدَنِيِّ(2)، عَنْ عَمْرِو بْنِثَابِتٍ، عَنْ سِمَاكِ ابْنِ حَارِثٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَلِيًّا (علیه السلام): أَرَأَيْتَ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَيْفَ اسْتَطَاعَ أَنْ يَبْلُغَ المَشْرِقَ وَالمَغْرِبَ، قَالَ: «سَخَّرَ اللهُ لَهُ السَّحَابَ، وَمَدَّ لَهُ فِي الْأَسْبَابِ، وَبَسَطَ لَهُ النُّورَ، فَكَانَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ عَلَيْهِ سَوَاءً»(3).

[3/333] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أُورَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ يَزِيدَ الْأَرْجَنِيِّ(4)، عَنْ سَعْدِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، قَالَ: قَامَ ابْنُ الْكَوَّاءِ إِلَىٰ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) وَهُوَ عَلَىٰ الْمِنْبَرِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَخْبِرْنِي عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ أَنَبِيٌّ كَانَ أَوْ مَلِكٌ؟ وَأَخْبِرْنِي عَنْ قَرْنَيْهِ أَذَهَبٌ كَانَ أَوْ فِضَّةٌ؟ فَقَالَ لَهُ (علیه السلام): «لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا وَلَا مَلِكاً وَلَا كَانَ قَرْنَاهُ مِنْ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ عَبْداً أَحَبَّ اللهَ فَأَحَبَّهُ اللهُ، وَنَصَحَ لِلهِ فَنَصَحَهُ اللهُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ لِأَنَّهُ دَعَا قَوْمَهُ فَضَرَبُوهُ عَلَىٰ قَرْنِهِ فَغَابَ عَنْهُمْ حِيناً، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِمْ فَضُرِبَ عَلَىٰ قَرْنِهِ الْآخَرِ، وَفِيكُمْ مِثْلُهُ»(5).

ص: 98


1- رواه العيَّاشي (رحمة الله) في تفسيره (ج 2/ ص 339 و340/ ح 72)، وابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 121/ ح 116)، والراوندي (رحمة الله) في قَصص الأنبياء (ص 123/ ح 121).
2- محمّد بن إسحاق هو صاحب السيرة، وجدُّه كما في تهذيب التهذيب (ج 9/ ص 34/ الرقم 51): (يسار)، ولكن ضُبِطَ في هامش السيرة لابن هشام: (بشَّار).
3- سيرة ابن إسحاق (ج 4/ ص 185/ ح 262).
4- يزيد بن قيس، كان عامله علىٰ الريِّ وهمدان.
5- رواه العيَّاشي (رحمة الله) في تفسيره (ج 2/ ص 339/ ح 71)، والطبرسي (رحمة الله) في الاحتجاج (ج 1/ ص 340).

[4/334] حَدَّثَنَا أَبُو طَالِبٍ المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ الْعَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ نُصَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَىٰ، [عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَىٰ]، عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِعَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) يَقُولُ: «إِنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ عَبْداً صَالِحاً جَعَلَهُ اللهُ (عزوجل) حُجَّةً عَلَىٰ عِبَادِهِ، فَدَعَا قَوْمَهُ إِلَىٰ اللهِ وَأَمَرَهُمْ بِتَقْوَاهُ، فَضَرَبُوهُ عَلَىٰ قَرْنِهِ، فَغَابَ عَنْهُمْ زَمَاناً حَتَّىٰ قِيلَ: مَاتَ أَوْ هَلَكَ بِأَيِّ وَادٍ سَلَكَ؟ ثُمَّ ظَهَرَ وَرَجَعَ إِلَىٰ قَوْمِهِ، فَضَرَبُوهُ عَلَىٰ قَرْنِهِ الْآخَرِ، وَفِيكُمْ مَنْ هُوَ عَلَىٰ سُنَّتِهِ، وَإِنَّ اللهَ (عزوجل) مَكَّنَ لِذِي الْقَرْنَيْنِ فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَ لَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ(1) سَبَباً، وَبَلَغَ المَغْرِبَ وَالمَشْرِقَ، وَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ سَيَجْرِىٰ سُنَّتَهُ فِي الْقَائِمِ مِنْ وُلْدِي فَيُبَلِّغُهُ شَرْقَ الْأَرْضِ وغَرْبَهَا حَتَّىٰ لَا يَبْقَىٰ مَنْهَلٌ وَلَا مَوْضِعٌ مِنْ سَهْلٍ وَلَا جَبَلٍ وَطِئَهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ إِلَّا وَطِئَهُ، وَيُظْهِرُ اللهُ (عزوجل) لَهُ كُنُوزَ الْأَرْضِ وَمَعَادِنَهَا، وَيَنْصُرُهُ بِالرُّعْبِ، فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ بِهِ عَدْلًا وَقِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»(2).

وَمِمَّا رُوِيَ مِنْ سِيَاقِ حَدِيثِ ذِي الْقَرْنَيْنِ:

[5/335] حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَىٰ بْنِ سَعِيدٍ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِ[و] بْنِ سَعِيدٍ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَكَانَ قَارِئاً لِلْكُتُبِ، قَالَ: قَرَأْتُ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللهِ (عزوجل) أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَأُمَّهُ عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِهِمْ، وَلَيْسَ لَهَا وَلَدٌ غَيْرُهُ، يُقَالُ لَهُ: إِسْكَنْدَرُوسُ، وَكَانَ لَهُ أَدَبٌ وَخُلُقٌ وَعِفَّةٌ مِنْ وَقْتِ مَا كَانَ غُلَاماً إِلَىٰ أَنْ

ص: 99


1- في بعض النُّسَخ: (وآتاه من كلِّ شيء).
2- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 249 و250).

بَلَغَ رَجُلاً، وَكَانَ [قَدْ] رَأَىٰ فِي المَنَامِ كَأَنَّهُ دَنَا مِنَ الشَّمْسِ حَتَّىٰ أَخَذَ بِقَرْنَيْهَا فِي شَرْقِهَا وَغَرْبِهَا، فَلَمَّا قَصَّ رُؤْيَاهُ عَلَىٰ قَوْمِهِ سَمَّوْهُ ذَا الْقَرْنَيْنِ، فَلَمَّا رَأَىٰ هَذِهِ الرُّؤْيَا بَعُدَتْهِمَّتُهُ وَعَلَا صَوْتُهُ وَعَزَّ فِي قَوْمِهِ.

وَكَانَ أَوَّلَ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ أَنْ قَالَ: أَسْلَمْتُ لِلهِ (عزوجل)، ثُمَّ دَعَا قَوْمَهُ إِلَىٰ الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمُوا هَيْبَةً لَهُ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَبْنُوا لَهُ مَسْجِداً فَأَجَابُوهُ إِلَىٰ ذَلِكَ، فَأَمَرَ أَنْ يَجْعَلُوا طُولَهُ أَرْبَعَمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَعَرْضَهُ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ، وَعَرْضَ حَائِطِهِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ ذِرَاعاً، وَعُلُوَّهُ إِلَىٰ السَّمَاءِ مِائَةَ ذِرَاعٍ، فَقَالُوا لَهُ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ، كَيْفَ لَكَ بِخَشَبٍ يَبْلُغُ مَا بَيْنَ الْحَائِطَيْنِ؟ فَقَالَ لَهُمْ: إِذَا فَرَغْتُمْ مِنْ بُنْيَانِ الْحَائِطَيْنِ فَاكْبِسُوهُ بِالتُّرَابِ حَتَّىٰ يَسْتَوِيَ الْكَبْسُ مَعَ حِيطَانِ المَسْجِدِ، فَإِذَا فَرَغْتُمْ مِنْ ذَلِكَ فَرَضْتُمْ عَلَىٰ كُلِّ رَجُلٍ مِنَ المُؤْمِنِينَ عَلَىٰ قَدْرِهِ(1) مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، ثُمَّ قَطَعْتُمُوهُ مِثْلَ قُلَامَةِ الظُّفُرِ، وَخَلَطْتُمُوهُ مَعَ ذَلِكَ الْكَبْسِ، وَعَمِلْتُمْ لَهُ خَشَباً مِنْ نُحَاسٍ وَصَفَائِحَ مِنْ نُحَاسٍ تُذِيبُونَ ذَلِكَ، وَأَنْتُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنَ الْعَمَلِ كَيْفَ شِئْتُمْ عَلَىٰ أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ، فَإِذَا فَرَغْتُمْ مِنْ ذَلِكَ دَعَوْتُمُ المَسَاكِينَ لِنَقْلِ ذَلِكَ التُّرَابِ، فَيُسَارِعُونَ فِيهِ مِنْ أَجْلِ مَا فِيهِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.

فَبَنَوُا المَسْجِدَ وَأَخْرَجَ المَسَاكِينُ ذَلِكَ التُّرَابَ وَقَدِ اسْتَقَلَّ السَّقْفُ بِمَا فِيهِ وَاسْتَغْنَىٰ، فَجَنَّدَهُمْ أَرْبَعَةَ أَجْنَادٍ فِي كُلِّ جُنْدٍ عَشْرَةُ آلَافٍ، ثُمَّ نَشَرَهُمْ فِي الْبِلَادِ، وَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِالمَسِيرِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ قَوْمُهُ، فَقَالُوا لَهُ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ، نَنْشُدُكَ بِاللهِ أَلَّا تُؤْثِرُ عَلَيْنَا بِنَفْسِكَ غَيْرَنَا، فَنَحْنُ أَحَقُّ بِرُؤْيَتِكَ، وَفِينَا كَانَ مَسْقَطُ رَأْسِكَ، وَبَيْنَنَا نَشَأْتَ وَرُبِّيتَ، وَهَذِهِ أَمْوَالُنَا وَأَنْفُسُنَا فَأَنْتَ الْحَاكِمُ فِيهَا، وَهَذِهِ أُمُّكَ عَجُوزَةٌ كَبِيرَةٌ، وَهِيَ أَعْظَمُ خَلْقِ اللهِ عَلَيْكَ حَقًّا، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعْصِيَهَا وَتُخَالِفَهَا،

ص: 100


1- أي علىٰ قدر حاله.

فَقَالَ لَهُمْ: وَاللهِ إِنَّ الْقَوْلَ لَقَوْلُكُمْ، وَإِنَّ الرَّأْيَ لَرَأْيُكُمْ،وَلَكِنَّنِي بِمَنْزِلَةِ المَأْخُوذِ بِقَلْبِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، يُقَادُ وَيُدْفَعُ مِنْ خَلْفِهِ، لَا يَدْرِي أَيْنَ يُؤْخَذُ بِهِ وَمَا يُرَادُ بِهِ، وَلَكِنْ هَلُمُّوا يَا مَعْشَرَ قَوْمِي فَادْخُلُوا هَذَا المَسْجِدَ وَأَسْلِمُوا عَنْ آخِرِكُمْ وَلَا تُخَالِفُوا عَلَيَّ فَتَهْلِكُوا.

ثُمَّ دَعَا دِهْقَانَ(1) الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَقَالَ لَهُ: اعْمُرْ مَسْجِدِي، وَعَزِّ عَنِّي أُمِّي، فَلَمَّا رَأَىٰ الدِّهْقَانُ جَزَعَ أُمِّهِ وطُولَ بُكَائِهَا احْتَالَ لَهَا لِيُعَزِّيَهَا بِمَا أَصَابَ النَّاسَ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا مِنَ المَصَائِبِ وَالْبَلَاءِ، فَصَنَعَ عِيداً عَظِيماً، ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنُهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الدِّهْقَانَ يُؤْذِنُكُمْ لِتَحْضُرُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ أَذَّنَ مُؤَذِّنُهُ: أَسْرِعُوا وَاحْذَرُوا أَنْ يَحْضُرَ هَذَا الْعِيدَ إِلَّا رَجُلٌ قَدْ عَرِيَ مِنَ الْبَلَايَا وَالمَصَائِبِ، فَاحْتُبِسَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَقَالُوا: لَيْسَ فِينَا أَحَدٌ عَرِيَ مِنَ الْبَلَاءِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ أُصِيبَ بِبَلَاءٍ أَوْ بِمَوْتِ حَمِيمٍ، فَسَمِعَتْ أُمُّ ذِي الْقَرْنَيْنِ هَذَا فَأَعْجَبَهَا وَلَمْ تَدْرِ مَا يُرِيدُ الدِّهْقَانُ، ثُمَّ إِنَّ الدِّهْقَانَ بَعَثَ مُنَادِياً يُنَادِي فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الدِّهْقَانَ قَدْ أَمَرَكُمْ أَنْ تَحْضُرُوهُ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، وَلَا يَحْضُرَهُ إِلَّا رَجُلٌ قَدِ ابْتُلِيَ وَأُصِيبَ وَفُجِعَ، وَلَا يَحْضُرَهُ أَحَدٌ عَرِيَ مِنَ الْبَلَاءِ، فَإِنَّهُ لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يُصِيبُهُ الْبَلَاءُ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ قَالَ النَّاسُ: هَذَا رَجُلٌ قَدْ كَانَ بَخِلَ ثُمَّ نَدِمَ فَاسْتَحْيَا فَتَدَارَكَ أَمْرَهُ وَمَحَا عَيْبَهُ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ خَطَبَهُمْ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي لَمْ أَجْمَعْكُمْ لِمَا دَعَوْتُكُمْ لَهُ، وَلَكِنِّي جَمَعْتُكُمْ لِأُكَلِّمَكُمْ فِي ذِي الْقَرْنَيْنِ وَفِيمَا فُجِعْنَا بِهِ مِنْ فَقْدِهِ وَفِرَاقِهِ، فَاذْكُرُوا آدَمَ(علیه السلام) فَإِنَّ اللهَ (عزوجل) خَلَقَهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ وَأَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ وَأَكْرَمَهُ بِكَرَامَةٍ لَمْ يُكْرِمْ بِهَا أَحَداً، ثُمَّ ابْتَلَاهُ بِأَعْظَمِ بَلِيَّةٍ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ الْخُرُوجُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَهِيَ المُصِيبَةُ الَّتِي لَا جَبْرَ لَهَا، ثُمَّ ابْتَلَىٰإِبْرَاهِيمَ (علیه السلام) مِنْ بَعْدِهِ

ص: 101


1- الدهقان: رئيس القرية، ومقدَّم أصحاب الزراعة.

بِالْحَرِيقِ، وَابْتَلَىٰ ابْنَهُ بِالذَّبْحِ، وَيَعْقُوبَ بِالْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ، وَيُوسُفَ بِالرِّقِّ، وَأَيُّوبَ بِالسُّقْمِ، وَيَحْيَىٰ بِالذَّبْحِ، وَزَكَرِيَّا بِالْقَتْلِ، وَعِيسَىٰ بِالْأَسْرِ(1)، وَخَلْقاً مِنْ خَلْقِ اللهِ كَثِيراً لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللهُ (عزوجل).

فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ قَالَ لَهُمْ: انْطَلِقُوا فَعَزُّوا أُمَّ الْإِسْكَنْدَرُوسِ لِنَنْظُرَ كَيْفَ صَبْرُهَا فَإِنَّهَا أَعْظَمُ مُصِيبَةً فِي ابْنِهَا، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهَا قَالُوا لَهَا: هَلْ حَضَرْتِ الْجَمْعَ الْيَوْمَ وَسَمِعْتِ الْكَلَامَ؟ قَالَتْ لَهُمْ: مَا خَفِيَ عَنِّي مِنْ أَمْرِكُمْ شَيْءٌ وَلَا سَقَطَ عَنِّي مِنْ كَلَامِكُمْ شَيْءٌ، وَمَا كَانَ فِيكُمْ أَحَدٌ أَعْظَمَ مُصِيبَةً بِإِسْكَنْدَرُوسَ مِنِّي، وَلَقَدْ صَبَّرَنِيَ اللهُ تَعَالَىٰ وَأَرْضَانِي وَرَبَطَ عَلَىٰ قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ أَجْرِي عَلَىٰ قَدْرِ ذَلِكَ، وَأَرْجُو لَكُمْ مِنَ الْأَجْرِ بِقَدْرِ مَا رُزِيتُمْ مِنْ فَقْدِ أَخِيكُمْ، وَأَنْ تُؤْجَرُوا عَلَىٰ قَدْرِ مَا نَوَيْتُمْ فِي أُمِّهِ، وَأَرْجُو أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي وَلَكُمْ وَيَرْحَمَنِي وَإِيَّاكُمْ.

فَلَمَّا رَأَوْا حُسْنَ عَزَائِهَا وَصَبْرَهَا انْصَرَفُوا عَنْهَا وَتَرَكُوهَا.

وَانْطَلَقَ ذُو الْقَرْنَيْنِ يَسِيرُ عَلَىٰ وَجْهِهِ حَتَّىٰ أَمْعَنَ فِي الْبِلَادِ يَؤُمُّ فِيالمَغْرِبِ، وَجُنُودُهُ يَوْمَئِذٍ المَسَاكِينُ، فَأَوْحَىٰ اللهُ (عزوجل) إِلَيْهِ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ، أَنْتَ حُجَّتِي عَلَىٰ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ مِنْ مَطْلِعِ الشَّمْسِ إِلَىٰ مَغْرِبِهَا، وَحُجَّتِي عَلَيْهِمْ، وَهَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاكَ.

ص: 102


1- إنْ قلت: إنَّ ذا القرنين كان قبل ميلاد عيسىٰ (علیه السلام) بقرون، فكيف يصحُّ ذلك القول؟ وقلت: إنْ قلنا: إنَّه بعد الميلاد فكيف يلائم قوله في آخر الخبر: (وكان عدَّة ما سار في البلاد من يوم بعثه الله (عزوجل) إلىٰ يوم قبضه الله خمسمائة عام)؟ قلنا: الأمر في أمثال هذه القَصص الغير المنقولة عن المعصوم سهل. وأوردها المصنِّف (رحمة الله) طرداً للباب نظير الذيول التي تداول في عصرنا في جميع المؤلَّفات من المؤلِّفين، ولعلَّ المصنِّف (رحمة الله) أوردها لأجل المواعظ البالغة التي ذُكِرَ في آخرها، ولكن اعلم أنَّه (رحمة الله) لم يحتجّ بأمثال هذه القَصص، وجلَّت ساحته عن الاحتجاج بها. ثمّ راجع في تحقيق ذي القرنين بحار الأنوار (ج 12/ ص 208 - 215/ من الطبع الحروفي).

فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ: يَا إِلَهِي، إِنَّكَ قَدْ نَدَبْتَنِي لِأَمْرٍ عَظِيمٍ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ غَيْرُكَ، فَأَخْبِرْنِي عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَيِّ قُوَّةٍ أُكَابِرُهُمْ(1)، وَبِأَيِّ عَدَدٍ أَغْلِبُهُمْ، وَبِأَيَّةِ حِيلَةٍ أَكِيدُهُمْ، وَبِأَيِّ صَبْرٍ أُقَاسِيهِمْ، وَبِأَيِّ لِسَانٍ أُكَلِّمُهُمْ، وَكَيْفَ لِي بِأَنْ أَعْرِفَ لُغَاتِهِمْ، وَبِأَيِّ سَمْعٍ أَعِي كَلَامَهُمْ، وَبِأَيِّ بَصَرٍ أَنْفُذُهُمْ، وَبِأَيِّ حُجَّةٍ أُخَاصِمُهُمْ، وَبِأَيِّ قَلْبٍ أَعْقِلُ عَنْهُمْ، وَبِأَيِّ حِكْمَةٍ أُدَبِّرُ أُمُورَهُمْ، وَبِأَيِّ حِلْمٍ أُصَابِرُهُمْ، وَبِأَيِّ قِسْطٍ أَعْدِلُ فِيهِمْ، وَبِأَيِّ مَعْرِفَةٍ أَفْصِلُ بَيْنَهُمْ، وَبِأَيِّ عِلْمٍ أُتْقِنُ أُمُورَهُمْ، وَبِأَيِّ عَقْلٍ أُحْصِيهِمْ، وَبِأَيِّ جُنْدٍ أُقَاتِلُهُمْ؟ فَإِنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي مِمَّا ذَكَرْتُ شَيْءٌ يَا رَبِّ، فَقَوِّنِي عَلَيْهِمْ فَإِنَّكَ الرَّبُّ الرَّحِيمُ الَّذِي لَا تُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها، وَلَا تُحَمِّلُهَا إِلَّا طَاقَتَهَا.

فَأَوْحَىٰ اللهُ (عزوجل) إِلَيْهِ: أَنِّي سَأُطَوِّقُكَ مَا حَمَّلْتُكَ، وَأَشْرَحُ لَكَ فَهْمَكَ فَتَفْقَهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَشْرَحُ لَكَ صَدْرَكَ فَتَسْمَعُ كُلَّ شَيْءٍ، وَأُطْلِقُ لِسَانَكَ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَأَفْتَحُ لَكَ سَمْعَكَ فَتَعِي كُلَّ شَيْءٍ، وَأَكْشِفُ لَكَ عَنْ بَصَرِكَ فَتُنْفِذُ كُلَّ شَيْءٍ، وَأُحْصِي لَكَ(2) فَلَا يَفُوتُكَ شَيْءٌ، وَأَحْفَظُ عَلَيْكَ فَلَا يَعْزُبُ عَنْكَ شَيْءٌ، وَأَشُدُّ [لَكَ] ظَهْرَكَ فَلَا يَهُولُكَ شَيْءٌ، وَأُلْبِسُكَ الْهَيْبَةَ فَلَا يَرُوعُكَ شَيْءٌ، وَأُسَدِّدُ لَكَ رَأْيَكَ فَتُصِيبُ كُلَّ شَيْءٍ، وَأُسَخِّرُ لَكَ جَسَدَكَ فَتُحْسِنُ كُلَّ شَيْءٍ، وَأُسَخِّرُ لَكَ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ وَأَجْعَلُهُمَا جُنْدَيْنِ مِنْ جُنُودِكَ، النُّورُ يَهْدِيكَ وَالظُّلْمَةُتَحُوطُكَ وَتَحُوشُ عَلَيْكَ الْأُمَمُ(3) مِنْ وَرَائِكَ.

فَانْطَلَقَ ذُو الْقَرْنَيْنِ بِرِسَالَةِ رَبِّهِ (عزوجل)، وَأَيَّدَهُ اللهُ تَعَالَىٰ بِمَا وَعَدَهُ، فَمَرَّ بِمَغْرِبِ الشَّمْسِ، فَلَا يَمُرُّ بِأُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا دَعَاهُمْ إِلَىٰ اللهِ (عزوجل)، فَإِنْ أَجَابُوهُ قَبِلَ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يُجِيبُوهُ أَغْشَاهُمُ الظُّلْمَةَ، فَأَظْلَمَتْ مَدَايِنُهُمْ وَقُرَاهُمْ وَحُصُونُهُمْ وَبُيُوتُهُمْ

ص: 103


1- في بعض النُّسَخ: (أُكاثرهم).
2- في بعض النُّسَخ: (وأُحضر لك).
3- حاش الصيد: جاءه من حواليه ليصرفه إلىٰ الحبالة. (القاموس المحيط: ج 2/ ص 270).

وَمَنَازِلُهُمْ، وَأُغْشِيَتْ أَبْصَارُهُمْ وَدَخَلَتْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَآنَافِهِمْ وَآذَانِهِمْ وَأَجْوَافِهِمْ، فَلَا يَزَالُونَ فِيهَا مُتَحَيِّرِينَ حَتَّىٰ يَسْتَجِيبُوا لِلهِ (عزوجل) وَيَعِجُّوا إِلَيْهِ، حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَ عِنْدَهَا الْأُمَّةَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ تَعَالَىٰ فِي كِتَابِهِ، فَفَعَلَ بِهِمْ مَا فَعَلَ بِمَنْ مَرَّ بِهِ [مِنْ] قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ فَرَغَ مِمَّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ المَغْرِبِ، وَوَجَدَ جَمْعاً وَعَدَداً لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللهُ، وَبَأْساً وَقُوَّةً لَا يُطِيقُهُ إِلَّا اللهُ (عزوجل)، وَأَلْسِنَةً مُخْتَلِفَةً وَأَهْوَاءً مُتَشَتِّتَةً وَقُلُوباً مُتَفَرِّقَةً، ثُمَّ مَشَىٰ عَلَىٰ الظُّلْمَةِ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ وَثَمَانَ لَيَالٍ وَأَصْحَابُهُ يَنْظُرُونَهُ، حَتَّىٰ انْتَهَىٰ إِلَىٰ الْجَبَلِ الَّذِي هُوَ مُحِيطٌ بِالْأَرْضِ كُلِّهَا، فَإِذَا هُوَ بِمَلَكٍ مِنَ المَلَائِكَةِ قَابِضٍ عَلَىٰ الْجَبَلِ، وَهُوَ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّي مِنَ الْآنِ إِلَىٰ مُنْتَهَىٰ الدَّهْرِ، سُبْحَانَ رَبِّي مِنْ أَوَّلِ الدُّنْيَا إِلَىٰ آخِرِهَا، سُبْحَانَ رَبِّي مِنْ مَوْضِعِ كَفِّي إِلَىٰ عَرْشِ رَبِّي، سُبْحَانَ رَبِّي مِنْ مُنْتَهَىٰ الظُّلْمَةِ إِلَىٰ النُّورِ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ ذُو الْقَرْنَيْنِ خَرَّ سَاجِداً، فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ حَتَّىٰ قَوَّاهُ اللهُ تَعَالَىٰ وَأَعَانَهُ عَلَىٰ النَّظَرِ إِلَىٰ ذَلِكَ المَلَكِ، فَقَالَ لَهُ المَلَكُ: كَيْفَ قَوِيتَ يَا ابْنَ آدَمَ عَلَىٰ أَنْ تَبْلُغَ إِلَىٰ هَذَا المَوْضِعِ وَلَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ مِنْ وُلْدِ آدَمَ قَبْلَكَ؟ قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ: قَوَّانِي عَلَىٰ ذَلِكَ الَّذِي قَوَّاكَ عَلَىٰ قَبْضِ هَذَا الْجَبَلِ وَهُوَ مُحِيطٌ بِالْأَرْضِ، قَالَ لَهُ المَلَكُ: صَدَقْتَ، قَالَ لَهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ: فَأَخْبِرْنِي عَنْكَ أَيُّهَا المَلَكُ، قَالَ: إِنِّي مُوَكَّلٌ بِهَذَاالْجَبَلِ وَهُوَ مُحِيطٌ بِالْأَرْضِ كُلِّهَا، وَلَوْ لَا هَذَا الْجَبَلُ لَانْكَفَأَتِ الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا، وَلَيْسَ عَلَىٰ وَجْهِ الْأَرْضِ جَبَلٌ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَهُوَ أَوَّلُ جَبَلٍ أَثْبَتَهُ اللهُ (عزوجل)(1)، فَرَأْسُهُ مُلْصَقٌ بِسَمَاءِ الدُّنْيَا، وَأَسْفَلُهُ فِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَىٰ، وَهُوَ مُحِيطٌ بِهَا كَالْحَلْقَةِ، وَلَيْسَ عَلَىٰ وَجْهِ الْأَرْضِ مَدِينَةٌ إِلَّا وَلَهَا عِرْقٌ إِلَىٰ هَذَا الْجَبَلِ، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ (عزوجل) أَنْ يُزَلْزِلَ مَدِينَةً أَوْحَىٰ إِلَيَّ فَحَرَّكْتُ الْعِرْقَ الَّذِي [مُتَّصِلٌ] إِلَيْهَا فَزَلْزَلَهَا.

فَلَمَّا أَرَادَ ذُو الْقَرْنَيْنِ الرُّجُوعَ قَالَ لِلْمَلَكِ: أَوْصِنِي، قَالَ المَلَكُ: لَا يَهُمَّنَّكَ

ص: 104


1- في بعض النُّسَخ: (أسَّسه الله (عزوجل)).

رِزْقُ غَدٍ، وَلَا تُؤَخِّرْ عَمَلَ الْيَوْمِ لِغَدٍ، وَلَا تَحْزَنْ عَلَىٰ مَا فَاتَكَ، وَعَلَيْكَ بِالرِّفْقِ، وَلَا تَكُنْ جَبَّاراً مُتَكَبِّراً.

ثُمَّ إِنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ رَجَعَ إِلَىٰ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ عَطَفَ بِهِمْ نَحْوَ المَشْرِقِ يَسْتَقْرِئُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ المَشْرِقِ مِنَ الْأُمَمِ، فَيَفْعَلُ بِهِمْ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِأُمَمِ المَغْرِبِ قَبْلَهُمْ، حَتَّىٰ إِذَا فَرَغَ [مِ]مَّا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ عَطَفَ نَحْوَ الرَّدْمِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ (عزوجل) فِي كِتَابِهِ، فَإِذَا هُوَ بِأُمَّةٍ ]لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً 93[ [الكهف: 93]، وَإِذَا [مَا] بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّدْمِ مَشْحُونٌ مِنْ أُمَّةٍ يُقَالُ لَهَا: يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، أَشْبَاهُ الْبَهَائِمِ، يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَوَالَدُونَ، وَهُمْ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ، وَفِيهِمْ مَشَابِهُ مِنَ النَّاسِ الْوُجُوهُ وَالْأَجْسَادُ وَالْخِلْقَةُ، وَلَكِنَّهُمْ قَدْ نُقِصُوا فِي الْأَبْدَانِ نَقْصاً شَدِيداً، وَهُمْ فِي طُولِ الْغِلْمَانِ، لَيْسَ مِنْهُمْ أُنْثَىٰ وَلَا ذَكَرٌ يُجَاوِزُ طُولُهُ خَمْسَةَ أَشْبَارٍ، وَهُمْ عَلَىٰ مِقْدَارٍ وَاحِدٍ فِي الْخَلْقِ وَالصُّورَةِ، عُرَاةٌ حُفَاةٌ لَا يَغْزِلُونَ وَلَا يَلْبَسُونَ وَلَا يَحْتَذُونَ، عَلَيْهِمْ وَبَرٌ كَوَبَرِ الْإِبِلِ يُوَارِيهِمْوَيَسْتُرُهُمْ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ(1)، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أُذُنَانِ إِحْدَاهُمَا ذَاتُ شَعَرٍ وَالْأُخْرَىٰ ذَاتُ وَبَرٍ، ظَاهِرُهُمَا وَبَاطِنُهُمَا، وَلَهُمْ مَخَالِبُ فِي مَوْضِعِ الْأَظْفَارِ، وَأَضْرَاسٌ وَأَنْيَابٌ كَأَضْرَاسِ السِّبَاعِ وَأَنْيَابِهَا، وَإِذَا نَامَ أَحَدُهُمْ افْتَرَشَ إِحْدَىٰ أُذُنَيْهِ وَالْتَحَفَ بِالْأُخْرَىٰ فَتَسَعُهُ لِحَافاً، وَهُمْ يُرْزَقُونَ تِنِّينَ الْبَحْرِ(2) فِي كُلِّ عَامٍ يَقْذِفُهُ إِلَيْهِمُ السَّحَابُ، فَيَعِيشُونَ بِهِ عَيْشاً خِصْباً وَيَصْلُحُونَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَمْطِرُونَهُ فِي إِبَّانِهِ(3) كَمَا

ص: 105


1- المروي عن أئمَّتنا (علیهم السلام) أنَّهم أقوام وحشيَّة غير متمدِّنين، بل يعيشون كالبهائم كما جاء في تفسير العيَّاشي (ج 2/ ص 350/ ح 84) عن أبي بصير، عن الباقر (علیه السلام)، قال: «لم يعلموا صنعة البيوت»، وفي تفسير القمِّي (ج 2/ ص 41): «لم يعلموا صنعة الثياب». وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): «إنَّ ذا القرنين ورد علىٰ قوم قد أحرقتهم الشمس وغيَّرت أجسادهم وألوانهم حتَّىٰ صيَّرتهم كالظلمة» (تفسير العيَّاشي: ج 2/ ص 343/ ح 79).
2- التنِّين نوع من الحيَّات.
3- إبَّانه أي وقته. وفي بعض النُّسَخ: (في أيَّام المطر).

يَسْتَمْطِرُ النَّاسُ المَطَرَ فِي إِبَّانِ المَطَرِ، وَإِذَا قُذِفُوا بِهِ خَصَبُوا وَسَمِنُوا وَتَوَالَدُوا وَكَثُرُوا وَأَكَلُوا مِنْهُ حَوْلًا كَامِلاً إِلَىٰ مِثْلِهِ مِنَ الْعَامِ المُقْبِلِ، وَلَا يَأْكُلُونَ مَعَهُ شَيْئاً غَيْرَهُ، وَهُمْ لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إِلَّا اللهُ (عزوجل) الَّذِي خَلَقَهُمْ، وَإِذَا أَخْطَأَهُمُ التِّنِّينُ قُحِطُوا وَأُجْدِبُوا وَجَاعُوا وَانْقَطَعَ النَّسْلُ وَالْوَلَدُ، وَهُمْ يَتَسَافَدُونَ كَمَا تَتَسَافَدُ الْبَهَائِمُ(1) عَلَىٰ ظَهْرِ الطَّرِيقِ وَحَيْثُ مَا الْتَقَوْا، وَإِذَا أَخْطَأَهُمُ التِّنِّينُ جَاعُوا وَسَاحُوا فِي الْبِلَادِ، فَلَا يَدَعُونَ شَيْئاً أَتَوْا عَلَيْهِ إِلَّا أَفْسَدُوهُ وَأَكَلُوهُ، فَهُمْ أَشَدُّ فَسَاداً فِيمَا أَتَوْا عَلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ مِنَ الْجَرَادِ وَالْبَرَدِ وَالْآفَاتِ كُلِّهَا، وَإِذَا أَقْبَلُوا مِنْ أَرْضٍ إِلَىٰ أَرْضٍ جَلَا أَهْلُهَا عَنْهَا وَخَلَّوْهَا، وَلَيْسَ يُغْلَبُونَ وَلَا يُدْفَعُونَ حَتَّىٰ لَا يَجِدُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِاللهِ تَعَالَىٰ مَوْضِعاً لِقَدَمِهِ، وَلَا يَخْلُو لِلْإِنْسَانِ قَدْرُ مَجْلِسِهِ، وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ أَيْنَ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ(2)، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَدْنُوَ مِنْهُمْ نَجَاسَةً وَقَذَراً وَسُوءَ حِلْيَةٍ، فَبِهَذَا غَلَبُوا، وَلَهُمْ حِسٌّ وَحَنِينٌ(3) إِذَا أَقْبَلُوا إِلَىٰ الْأَرْضِ يُسْمَعُ حِسُّهُمْ مِنْ مَسِيرَةِ مِائَةِ فَرْسَخٍ لِكَثْرَتِهِمْ، كَمَا يُسْمَعُ حِسُّ الرِّيحِ الْبَعِيدَةِ، أَوْ حِسُّ المَطَرِ الْبَعِيدِ، وَلَهُمْ هَمْهَمَةٌ إِذَا وَقَعُوا فِي الْبِلَادِ كَهَمْهَمَةِ النَّحْلِ إِلَّا أَنَّهُ أَشَدُّ وَأَعْلَىٰ صَوْتاً، يَمْلَأُ الْأَرْضَ حَتَّىٰ لَا يَكَادُ أَحَدٌ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْهَمِيمِ شَيْئاً، وَإِذَا أَقْبَلُوا إِلَىٰ أَرْضٍ حَاشُوا وُحُوشَهَا كُلَّهَا وَسِبَاعَهَا حَتَّىٰ لَا يَبْقَىٰ فِيهَا شَيْءٌ مِنْهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَمْلَئُونَهَا مَا بَيْنَ أَقْطَارِهَا، وَلَا يَتَخَلَّفُ وَرَاءَهُمْ مِنْ سَاكِنِ الْأَرْضِ شَيْءٌ فِيهِ رُوحٌ إِلَّا اجْتَلَبُوهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمْ أَكْثَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَأَمْرُهُمْ أَعْجَبُ مِنَ الْعَجَبِ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ عَرَفَ مَتَىٰ يَمُوتُ، وَذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ مِنْهُمْ ذَكَرٌ حَتَّىٰ يُولَدَ لَهُ أَلْفُ وَلَدٍ، وَلَا تَمُوتُ مِنْهُمْ أُنْثَىٰ حَتَّىٰ تَلِدَ أَلْفَ وَلَدٍ، فَبِذَلِكَ

ص: 106


1- السفاد: النكاح.
2- في بعض النُّسَخ: (كم من أوَّلهم إلىٰ آخرهم).
3- الحسُّ والحسيس: الصوت الخفيُّ. والحنين: الصوت الجليُّ.

عَرَفُوا آجَالَهُمْ، فَإِذَا وُلِدَ ذَلِكَ الْأَلْفُ بَرَزُوا لِلْمَوْتِ، وَتَرَكُوا طَلَبَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ المَعِيشَةِ وَالْحَيَاةِ، فَهَذِهِ قِصَّتُهُمْ مِنْ يَوْمَ خَلَقَهُمُ اللهُ (عزوجل) إِلَىٰ يَوْمِ يُفْنِيهِمْ.

ثُمَّ إِنَّهُمْ جَعَلُوا فِي زَمَانِ ذِي الْقَرْنَيْنِ يَدُورُونَ أَرْضاً أَرْضاً مِنَ الْأَرَضِينَ، وَأُمَّةً أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ، وَهُمْ إِذَا تَوَجَّهُوا لِوَجْهٍ لَمْ يَعْدِلُوا عَنْهُ أَبَداً وَلَا يَنْصَرِفُونَ يَمِيناً وَلَا شِمَالاً وَلَا يَلْتَفِتُونَ.

فَلَمَّا أَحَسَّتْ تِلْكَ الْأُمَمُ بِهِمْ وَسَمِعُوا هَمْهَمَتَهُمْ اسْتَغَاثُوا بِذِي الْقَرْنَيْنِ، وَذُو الْقَرْنَيْنِ يَوْمَئِذٍ نَازِلاً فِي نَاحِيَتِهِمْ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ وَقَالُوا: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّهُقَدْ بَلَغَنَا مَا آتَاكَ اللهُ مِنَ المُلْكِ وَالسُّلْطَانِ، وَمَا أَلْبَسَكَ اللهُ مِنَ الْهَيْبَةِ، وَمَا أَيَّدَكَ بِهِ مِنْ جُنُودِ أَهْلِ الْأَرْضِ وَمِنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ، وَإِنَّا جِيرَانُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سِوَىٰ هَذِهِ الْجِبَالِ، وَلَيْسَ لَهُمْ إِلَيْنَا طَرِيقٌ إِلَّا هَذَيْنِ الصَّدَفَيْنِ، وَلَوْ يَنْسِلُونَ أَجْلَوْنَا عَنْ بِلَادِنَا لِكَثْرَتِهِمْ حَتَّىٰ لَا يَكُونَ لَنَا فِيهَا قَرَارٌ، وَهُمْ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ كَثِيرٌ فِيهِمْ مَشَابِهُ مِنَ الْإِنْسِ وَهُمْ أَشْبَاهُ الْبَهَائِمِ، يَأْكُلُونَ مِنَ الْعُشْبِ، وَيَفْتَرِسُونَ الدَّوَابَّ وَالْوُحُوشَ كَمَا تَفْتَرِسُهَا السِّبَاعُ، وَيَأْكُلُونَ حَشَرَاتِ الْأَرْضِ كُلَّهَا مِنَ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَكُلِّ ذِي رُوحٍ مِمَّا خَلَقَ اللهُ تَعَالَىٰ، وَلَيْسَ [مِمَّا خَلَقَ اللهُ] (عزوجل) خَلْقٌ يَنْمُو نِمَاهُمْ وَزِيَادَتَهُمْ، فَلَا نَشُكُّ أَنَّهُمْ يَمْلَؤُونَ الْأَرْضَ وَيُجْلُونَ أَهْلَهَا مِنْهَا وَيُفْسِدُونَ فِيهَا، وَنَحْنُ نَخْشَىٰ كُلَّ وَقْتٍ أَنْ يَطْلُعَ عَلَيْنَا أَوَائِلُهُمْ مِنْ هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ، وَقَدْ آتَاكَ اللهُ (عزوجل) مِنَ الْحِيلَةِ وَالْقُوَّةِ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ، «فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَىٰ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا 94 قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً 95 آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ» [الكهف: 94 - 96]، قَالُوا: وَمِنْ أَيْنَ لَنَا مِنَ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ مَا يَسَعُ هَذَا الْعَمَلَ الَّذِي تُرِيدُ أَنْ تَعْمَلَ؟ قَالَ: إِنِّي سَأَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَعْدِنِ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ، فَضَرَبَ لَهُمْ فِي جَبَلَيْنِ حَتَّىٰ فَتَقَهُمَا، فَاسْتَخْرَجَ لَهُمْ مِنْهُمَا مَعْدِنَيْنِ مِنَ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ، قَالُوا: فَبِأَيِّ قُوَّةٍ نَقْطَعُ الْحَدِيدَ

ص: 107

وَالنُّحَاسَ؟ فَاسْتَخْرَجَ لَهُمْ مَعْدِناً آخَرَ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ يُقَالُ لَهَا: السَّامُورُ، وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضاً مِنَ الثَّلْجِ(1)، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ يُوضَعُ عَلَىٰ شَيْءٍ إِلَّا ذَابَ تَحْتَهُ، فَصَنَعَ لَهُمْ مِنْهُ أَدَاةً يَعْمَلُونَ بِهَا - وَبِهِ قَطَعَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ (علیه السلام) أَسَاطِينَ بَيْتِ المَقْدِسِ وَصُخُورَهُ جَاءَتْ بِهَا الشَّيَاطِينُ مِنْ تِلْكَالمَعَادِنِ -، فَجَمَعُوا مِنْ ذَلِكَ مَا اكْتَفَوْا بِهِ، فَأَوْقَدُوا عَلَىٰ الْحَدِيدِ حَتَّىٰ صَنَعُوا مِنْهُ زُبَراً مِثَالَ الصُّخُورِ، فَجَعَلَ حِجَارَتَهُ مِنْ حَدِيدٍ، ثُمَّ أَذَابَ النُّحَاسَ فَجَعَلَهُ كَالطِّينِ لِتِلْكَ الْحِجَارَةِ، ثُمَّ بَنَىٰ وَقَاسَ مَا بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ، فَوَجَدَهُ ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ، فَحَفَرَ لَهُ أَسَاساً حَتَّىٰ كَادَ أَنْ يَبْلُغَ المَاءَ، وَجَعَلَ عَرْضَهُ مِيلاً، وَجَعَلَ حَشْوَهُ زُبَرَ الْحَدِيدِ، وَأَذَابَ النُّحَاسَ فَجَعَلَهُ خِلَالَ الْحَدِيدِ، فَجَعَلَ طَبَقَةً مِنْ نُحَاسٍ وَأُخْرَىٰ مِنْ حَدِيدٍ حَتَّىٰ سَاوَىٰ الرَّدْمَ بِطُولِ الصَّدَفَيْنِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ بُرْدُ حِبَرَةٍ مِنْ صُفْرَةِ النُّحَاسِ وَحُمْرَتِهِ وَسَوَادِ الْحَدِيدِ، فَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ يَنْتَابُونَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَسِيحُونَ فِي بِلَادِهِمْ حَتَّىٰ إِذَا وَقَعُوا إِلَىٰ ذَلِكَ الرَّدْمِ حَبَسَهُمْ، فَرَجَعُوا يَسِيحُونَ فِي بِلَادِهِمْ، فَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ حَتَّىٰ تَقْرُبَ السَّاعَةُ وَتَجِيءَ أَشْرَاطُهَا، فَإِذَا جَاءَ أَشْرَاطُهَا وَهُوَ قِيَامُ الْقَائِمِ (علیه السلام) فَتَحَهُ اللهُ (عزوجل) لَهُمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ (عزوجل): «حَتَّىٰ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ 96» [الأنبياء: 96].

فَلَمَّا فَرَغَ ذُو الْقَرْنَيْنِ مِنْ عَمَلِ السَّدِّ انْطَلَقَ عَلَىٰ وَجْهِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ وَجُنُودَهُ إِذْ مَرَّ عَلَىٰ شَيْخٍ يُصَلِّي، فَوَقَفَ عَلَيْهِ بِجُنُودِهِ حَتَّىٰ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ: كَيْفَ لَمْ يُرَوِّعْكَ مَا حَضَرَكَ مِنَ الْجُنُودِ؟ قَالَ: كُنْتُ أُنَاجِي مَنْ هُوَ أَكْثَرُ جُنُوداً مِنْكَ، وَأَعَزُّ سُلْطَاناً وَأَشَدُّ قُوَّةً، وَلَوْ صَرَفْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ مَا أَدْرَكْتُ حَاجَتِي قِبَلَهُ، فَقَالَ لَهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ: فَهَلْ لَكَ أَنْ تَنْطَلِقَ مَعِي فَأُوَاسِيَكَ

ص: 108


1- في بعض النُّسَخ: (وهو أشدّ شيء بياضاً). والسامور: الماس المعروف اليوم كما في بحر الجواهر (ص 202)، ولا يُذيب شيئاً بل يقطعه.

بِنَفْسِي وَأَسْتَعِينَ بِكَ عَلَىٰ بَعْضِ أُمُورِي؟ قَالَ: نَعَمْ إِنْ ضَمِنْتَ لِي أَرْبَعاً(1): نَعِيماً لَا يَزُولُ، وَصِحَّةً لَا سُقْمَ فِيهَا، وَشَبَاباً لَا هَرَمَ فِيهِ، وَحَيَاةً لَا مَوْتَ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ: أَيُّ مَخْلُوقٍ يَقْدِرُ عَلَىٰ هَذِهِالْخِصَالِ؟ فَقَالَ الشَّيْخُ: فَإِنِّي مَعَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَىٰ هَذِهِ الْخِصَالِ(2) وَيَمْلِكُهَا وَإِيَّاكَ.

ثُمَّ مَرَّ بِرَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ لِذِي الْقَرْنَيْنِ: أَخْبِرْنِي عَنْ شَيْئَيْنِ مُنْذُ خَلَقَهُمَا اللهُ تَعَالَىٰ قَائِمَيْنِ، وَعَنْ شَيْئَيْنِ جَارِيَيْنِ، وَشَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَشَيْئَيْنِ مُتَبَاغِضَيْنِ، فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ: أَمَّا الشَّيْئَانِ الْقَائِمَانِ فَالسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، وَأَمَّا الشَّيْئَانِ الْجَارِيَانِ فَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَأَمَّا الشَّيْئَانِ المُخْتَلِفَانِ فَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَأَمَّا الشَّيْئَانِ المُتَبَاغِضَانِ فَالمَوْتُ وَالْحَيَاةُ، فَقَالَ: انْطَلِقْ فَإِنَّكَ عَالِمٌ.

فَانْطَلَقَ ذُو الْقَرْنَيْنِ يَسِيرُ فِي الْبِلَادِ حَتَّىٰ مَرَّ بِشَيْخٍ يُقَلِّبُ: جَمَاجِمَ المَوْتَىٰ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ بِجُنُودِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي أَيُّهَا الشَّيْخُ لِأَيِّ شَيْءٍ تُقَلِّبُ هَذِهِ الْجَمَاجِمَ؟ قَالَ: لِأَعْرِفَ الشَّرِيفَ عَنِ الْوَضِيعِ فَمَا عَرَفْتُ، فَإِنِّي لَأُقَلِّبُهَا مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً.

فَانْطَلَقَ ذُو الْقَرْنَيْنِ وَتَرَكَهُ، وَقَالَ: مَا أَرَاكَ عَنَيْتَ بِهَذَا أَحَداً غَيْرِي.

فَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ إِذْ وَقَعَ إِلَىٰ الْأُمَّةِ الْعَالِمَةِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ الَّذِينَ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ، فَوَجَدَ أُمَّةً مُقْسِطَةً عَادِلَةً يَقْسِمُونَ بِالسَّوِيَّةِ، وَيَحْكُمُونَ بِالْعَدْلِ، وَيَتَوَاسَوْنَ وَيَتَرَاحَمُونَ، حَالُهُمْ وَاحِدَةٌ، وَكَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةٌ، وَقُلُوبُهُمْ مُؤْتَلِفَةٌ، وَطَرِيقَتُهُمْ مُسْتَقِيمَةٌ، وَسِيرَتُهُمْ جَمِيلَةٌ، وَقُبُورُ مَوْتَاهُمْ فِي أَفْنِيَتِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْوَابِ دُورِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، وَلَيْسَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ أُمَرَاءُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ قُضَاةٌ، وَلَيْسَ فِيهِمْ أَغْنِيَاءُ وَلَا مُلُوكٌ وَلَا أَشْرَافٌ، وَلَا يَتَفَاوَتُونَ وَلَا يَتَفَاضَلُونَ وَلَا يَخْتَلِفُونَ وَلَا يَتَنَازَعُونَ وَلَا يَسْتَبُّونَ وَلَا يَقْتَتِلُونَ، وَلَا تُصِيبُهُمُ الْآفَاتُ.

ص: 109


1- في بعض النُّسَخ: (أربع خصال).
2- في بعض النُّسَخ: (فإنَّ معي من يقدر عليها).

فَلَمَّا رَأَىٰ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ مُلِئَ مِنْهُمْ عَجَباً، فَقَالَ: أَيُّهَا الْقَوْمُ أَخْبِرُونِيخَبَرَكُمْ فَإِنِّي قَدْ دُرْتُ الْأَرْضَ شَرْقَهَا وَغَرْبَهَا وَبَرَّهَا وَبَحْرَهَا وَسَهْلَهَا وَجَبَلَهَا وَنُورَهَا وَظُلْمَتَهَا فَلَمْ أَلْقَ مِثْلَكُمْ(1)، فَأَخْبِرُونِي مَا بَالُ قُبُورِ مَوْتَاكُمْ عَلَىٰ أَفْنِيَتِكُمْ وَعَلَىٰ أَبْوَابِ بُيُوتِكُمْ؟ قَالُوا: فَعَلْنَا ذَلِكَ عَمْداً لِئَلَّا نَنْسَىٰ المَوْتَ، وَلَا يَخْرُجَ ذِكْرُهُ مِنْ قُلُوبِنَا، قَالَ: فَمَا بَالُ بُيُوتِكُمْ لَيْسَ عَلَيْهَا أَبْوَابٌ؟ فَقَالُوا: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِينَا لِصٌّ وَلَا ظَنِينٌ(2)، وَلَيْسَ فِينَا إِلَّا الْأَمِينُ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ؟ قَالُوا: لِأَنَّنَا لَا نَتَظَالَمُ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ بَيْنَكُمْ حُكَّامٌ؟ قَالُوا: لِأَنَّنَا لَا نَخْتَصِمُ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ مُلُوكٌ؟ قَالُوا: لِأَنَّنَا لَا نَتَكَاثَرُ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ أَشْرَافٌ؟ قَالُوا: لِأَنَّنَا لَا نَتَنَافَسُ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تَتَفَاضَلُونَ وَلَا تَتَفَاوَتُونَ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا مُتَوَاسُونَ مُتَرَاحِمُونَ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تَتَنَازَعُونَ وَلَا تَخْتَلِفُونَ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أُلْفَةِ قُلُوبِنَا، وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِنَا، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تَسْتَبُّونَ وَلَا تَقْتَتِلُونَ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا غَلَبْنَا طَبَائِعَنَا بِالْعَزْمِ، وَسُسْنَا أَنْفُسَنَا بِالْحِلْمِ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ كَلِمَتُكُمْ وَاحِدَةٌ وَطَرِيقَتُكُمْ مُسْتَقِيمَةٌ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا لَا نَتَكَاذَبُ وَلَا نَتَخَادَعُ، وَلَا يَغْتَابُ بَعْضُنَا بَعْضاً، قَالَ: فَأَخْبِرُونِي لِمَ لَيْسَ فِيكُمْ مِسْكِينٌ وَلَا فَقِيرٌ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا نَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ فَظٌّ وَلَا غَلِيظٌ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ الذُّلِّ وَالتَّوَاضُعِ، قَالَ: فَلِمَ جَعَلَكُمُ اللهُ أَطْوَلَ النَّاسِ أَعْمَاراً؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا نَتَعَاطَىٰ الْحَقَّ وَنَحْكُمُ بِالْعَدْلِ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تُقْحَطُونَ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا لَا نَغْفَلُ عَنِ الْاِسْتِغْفَارِ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تَحْزَنُونَ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا وَطَّنَّا أَنْفُسَنَا عَلَىٰ الْبَلَاءِ وَحَرَصْنَا عَلَيْهِ فَعَزَّيْنَا أَنْفُسَنَا(3)، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تُصِيبُكُمُ الْآفَاتُ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا لَا نَتَوَكَّلُ

ص: 110


1- في بعض النُّسَخ: (فلم أرَ مثلكم).
2- في بعض النُّسَخ: (ليس فينا لصٌّ ولا خائن).
3- عزَّىٰ تعزية - الرجل -: سلَّاه.

عَلَىٰ غَيْرِ اللهِ [عزوجل]، وَلَا نَسْتَمْطِرُ بِالْأَنْوَاءِ(1) وَالنُّجُومِ، قَالَ: فَحَدِّثُونِي أَيُّهَا الْقَوْمُ أَهَكَذَا وَجَدْتُمْ آبَاءَكُمْ يَفْعَلُونَ؟ قَالُوا: وَجَدْنَا آبَاءَنَا يَرْحَمُونَ مِسْكِينَهُمْ، وَيُوَاسُونَ فَقِيرَهُمْ، وَيَعْفُونَ عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ، وَيُحْسِنُونَ إِلَىٰ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمُسِيئِهِمْ، وَيَصِلُونَ أَرْحَامَهُمْ، وَيُؤَدُّونَ أَمَانَاتِهِمْ، وَيَصْدُقُونَ وَلَا يَكْذِبُونَ، فَأَصْلَحَ اللهُ بِذَلِكَ أَمْرَهُمْ.

فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ ذُو الْقَرْنَيْنِ حَتَّىٰ قُبِضَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِمْ عُمُرٌ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَهُ السِّنُّ، وَأَدْرَكَهُ الْكِبَرُ، وَكَانَ عِدَّةُ مَا سَارَ فِي الْبِلَادِ مِنْ يَوْمَ بَعَثَهُ اللهُ (عزوجل) إِلَىٰ يَوْمَ قَبَضَهُ اللهُ خَمْسَمِائَةِ عَامٍ.

* * *

رجعنا إلىٰ ذكر ما روي عن أبي محمّد الحسن العسكري (علیه السلام) بالنصِّ علىٰ ابنه القائم صاحب الزمان (علیه السلام):

[2/336] حَدَّثَنَا أَبُو طَالِبٍ المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ الْعَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ الْعَيَّاشِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَلْخِيُّ(2)، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ(3) بْنِ هَارُونَ الدَّقَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِقَاسِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْتَرِ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مَنْقُوشٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىٰ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ

ص: 111


1- النوء: النجم، جمعه أنواء. والأنواء ثمان وعشرون منزلة، ينزل القمر كلَّ ليلة في منزلة منها...، ويسقط في الغرب كلَّ ثلاث عشرة ليلة منزلة مع طلوع الفجر وتطلع أُخرىٰ مقابلها ذلك الوقت في الشرق فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة. وكانت العرب تزعم أنَّ مع سقوط المنزلة وطلوع رقيبها يكون مطر، وينسبونه إليها، فيقولون: مطرنا بنوء كذا. وإنَّما سُمّي نوءاً لأنَّه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء الطالع بالمشرق. [و]ينوء نوءاً أي نهض وطلع. (النهاية: ج 5/ ص 122).
2- هو آدم بن محمّد القلانسي، من أهل بلخ، لم يرو عن الأئمَّة (علیهم السلام)، قيل: إنَّه كان يقول بالتفويض. (خلاصة الأقوال: ص 326/ الرقم 5).
3- في بعض النُّسَخ: (عليُّ بن الحسن).

ابْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام) وَهُوَ جَالِسٌ عَلَىٰ دُكَّانٍ فِي الدَّارِ، وَعَنْ يَمِينِهِ بَيْتٌ عَلَيْهِ سِتْرٌ مُسَبَّلٌ، فَقُلْتُ لَهُ: [يَا] سَيِّدِي، مَنْ صَاحِبُ هَذَا الْأَمْرِ؟ فَقَالَ: «ارْفَعِ السِّتْرَ»، فَرَفَعْتُهُ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا غُلَامٌ خُمَاسِيٌّ(1) لَهُ عَشْرٌ أَوْ ثَمَانٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَاضِحُ الْجَبِينِ، أَبْيَضُ الْوَجْهِ، دُرِّيُّ المُقْلَتَيْنِ، شَثْنُ الْكَفَّيْنِ، مَعْطُوفُ الرُّكْبَتَيْنِ، فِي خَدِّهِ الْأَيْمَنِ خَالٌ، وَفِي رَأْسِهِ ذُؤَابَةٌ، فَجَلَسَ عَلَىٰ فَخِذِ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام)، ثُمَّ قَالَ لِي: «هَذَا صَاحِبُكُمْ»، ثُمَّ وَثَبَ فَقَالَ لَهُ: «يَا بُنَيَّ ادْخُلْ إِلَىٰ الْوَقْتِ المَعْلُومِ»، فَدَخَلَ الْبَيْتَ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا يَعْقُوبُ، انْظُرْ مَنْ فِي الْبَيْتِ»، فَدَخَلْتُ فَمَا رَأَيْتُ أَحَداً(2)(3).

[3/337] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَىٰ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ وَهْبٍ الْبَغْدَادِيُ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام) تَوْقِيعٌ: «زَعَمُوا أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ قَتْلِي لِيَقْطَعُوا هَذَا النَّسْلَ، وَقَدْ كَذَّبَ اللهُ (عزوجل) قَوْلَهُمْ، وَالْحَمْدُ لِلهِ»(4).

[4/338] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِصَامٍ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكُلَيْنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلَّانٌ الرَّازِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِيبَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَمَّا حَمَلَتْ جَارِيَةُ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام) قَالَ: «سَتَحْمِلِينَ ذَكَراً، وَاسْمُهُ مُحَمَّدٌ، وَهُوَ الْقَائِمُ مِنْ بَعْدِي»(5).

[5/339] حَدَّثَنَا أَبُو طَالِبٍ المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ الْعَلَوِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ:

ص: 112


1- في النهاية (ج 2/ ص 79): (الخماسيَّان: طول كلِّ واحد منهما خمسة أشبار، والأُنثىٰ خماسيَّة، ولا يقال: سداسي ولا سباعي ولا غير الخمسة).
2- سيأتي الحديث في باب من شاهد القائم (علیه السلام) تحت الرقم (391/5) بهذا السند أيضاً.
3- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 250)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 958 و959).
4- رواه الخزَّاز في كفاية الأثر (ص 293).
5- رواه الخزَّاز (رحمة الله) في كفاية الأثر (ص 293 و294).

حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ كُلْثُومٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الرَّازِيُّ، قَالَ: خَرَجَ بَعْضُ إِخْوَانِي مِنْ أَهْلِ الرَّيِّ مُرْتَاداً بَعْدَ مُضِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام)، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ مَغْمُوماً مُتَفَكِّراً فِيمَا خَرَجَ لَهُ يَبْحَثُ حَصَىٰ المَسْجِدِ بِيَدِهِ فَظَهَرَتْ لَهُ حَصَاةٌ فِيهَا مَكْتُوبٌ: مُحَمَّدٌ، قَالَ الرَّجُلُ: فَنَظَرْتُ إِلَىٰ الْحَصَاةِ فَإِذَا فِيهَا كِتَابَةٌ ثَابِتَةٌ(1) مَخْلُوقَةٌ غَيْرُ مَنْقُوشَةٍ.

[6/340] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ الْفَزَارِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ المَدَائِنِيُّ، عَنْ أَبِي غَانِمٍ(2)، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ (علیهما السلام) يَقُولُ: «فِي سَنَةِ مِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ تَفْتَرِقُ شِيعَتِي».

فَفِيهَا قُبِضَ أَبُو مُحَمَّدٍ (علیه السلام) وَتَفَرَّقَتِ الشِّيعَةُ وَأَنْصَارُهُ، فَمِنْهُمْ مَنِ انْتَمَىٰ إِلَىٰ جَعْفَرٍ(3)، وَمِنْهُمْ مَنْ تَاهَ، وَ[مِنْهُمْ مَنْ] شَكَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَقَفَ عَلَىٰ تَحَيُّرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ عَلَىٰ دِينِهِ بِتَوْفِيقِ اللهِ (عزوجل).

[7/341] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ الْعَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ الْعَيَّاشِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ كُلْثُومٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الرَّازِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ الْعَسْكَرِيَّ (علیهما السلام) يَقُولُ: «الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي لَمْ يُخْرِجْنِي مِنَ الدُّنْيَا حَتَّىٰ أَرَانِي الْخَلَفَ مِنْ بَعْدِي، أَشْبَهَ النَّاسِ بِرَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) خَلْقاً وَخُلْقاً، يَحْفَظُهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ فِي غَيْبَتِهِ، ثُمَّ يُظْهِرُهُ فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلاً وَقِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»(4).

ص: 113


1- في بعض النُّسَخ: (ناتئة). ونتأ ينتؤ نتوءاً: خرج من موضعه. وتنفُّخ وبعضو ورم فهو ناتئ.
2- كذا، وفي بعض النُّسَخ: (أبي حاتم). وفي هامش بعض المخطوط عن حاشية رجال الميرزا: (أبو غانم لا أعرفه، روىٰ خبراً عنه عيسىٰ بن مهران في باب ضمان النفوس من كتاب قصاص التهذيب).
3- انتمىٰ: أي انتسب. وفي بعض النُّسخ: (آل). وتاه يتيه: إذا تحيَّر وضلَّ.
4- رواه الخزَّاز (رحمة الله) في كفاية الأثر (ص 294 و295).

[8/342] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ ابْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَىٰ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ وَهْبٍ الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ (علیهما السلام) يَقُولُ: «كَأَنِّي بِكُمْ وَقَدِ اخْتَلَفْتُمْ بَعْدِي فِي الْخَلَفِ مِنِّي، أَمَا إِنَّ المُقِرَّ بِالْأَئِمَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) المُنْكِرَ لِوَلَدِي كَمَنْ أَقَرَّ بِجَمِيعِ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ ثُمَّ أَنْكَرَ نُبُوَّةَ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، وَالمُنْكِرُ لِرَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) كَمَنْ أَنْكَرَ جَمِيعَ أَنْبِيَاءِ اللهِ، لِأَنَّ طَاعَةَ آخِرِنَا كَطَاعَةِ أَوَّلِنَا، وَالمُنْكِرَ لِآخِرِنَا كَالمُنْكِرِ لِأَوَّلِنَا، أَمَا إِنَّ لِوَلَدِي غَيْبَةً يَرْتَابُ فِيهَا النَّاسُ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللهُ (عزوجل)»(1).

[9/343] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَلِيِّ ابْنِ هَمَّامٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ الْعَمْرِيَّ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سُئِلَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ (علیهماالسلام) وَأَنَا عِنْدَهُ عَنِ الْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ آبَائِهِ (علیهم السلام) «أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ لِلهِ عَلَىٰ خَلْقِهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»، فَقَالَ (علیه السلام): «إِنَّ هَذَا حَقٌّ كَمَا أَنَّ النَّهَارَ حَقٌّ»، فَقِيلَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، فَمَنِ الْحُجَّةُ وَالْإِمَامُ بَعْدَكَ؟ فَقَالَ: «ابْنِي مُحَمَّدٌ، هُوَ الْإِمَامُ وَالْحُجَّةُ بَعْدِي، مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْهُ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً. أَمَا إِنَّ لَهُ غَيْبَةً يَحَارُ فِيهَا الْجَاهِلُونَ، وَيَهْلِكُ فِيهَا المُبْطِلُونَ، وَيَكْذِبُ فِيهَا الْوَقَّاتُونَ، ثُمَّ يَخْرُجُ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَىٰ الْأَعْلَامِ الْبِيضِ تَخْفِقُ فَوْقَ رَأْسِهِ بِنَجَفِ الْكُوفَةِ»(2).

* * *

ص: 114


1- رواه الخزَّاز (رحمة الله) في كفاية الأثر (ص 295 و296)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 252 و253).
2- رواه الخزَّاز (رحمة الله) في كفاية الأثر (ص 296)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 253).

الباب التاسع والثلاثون:

في من أنكر القائم الثاني عشر

من الأئمَّة (علیهم السلام)

ص: 115

ص: 116

[1/344] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَىٰ، عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «مَنْ أَنْكَرَ وَاحِداً مِنَ الْأَحْيَاءِ فَقَدْ أَنْكَرَ الْأَمْوَاتَ»(1).

[2/345] وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ وَالْحَسَنُ بْنُ مَتِّيلٍ الدَّقَّاقُ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ وَيَعْقُوبُ بْنُ يَزِيدَ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ جَمِيعاً، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ وَصَفْوَانَ بْنِ يَحْيَىٰ جَمِيعاً، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْكَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «مَنْ أَنْكَرَ وَاحِداً مِنَ الْأَحْيَاءِ فَقَدْ أَنْكَرَ الْأَمْوَاتَ».

[3/346] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): مَنْ عَرَفَ الْأَئِمَّةَ وَلَمْ يَعْرِفِ الْإِمَامَ الَّذِي فِي زَمَانِهِ أَمُؤْمِنٌ هُوَ؟ قَالَ: «لَا»، قُلْتُ: أَمُسْلِمٌ هُوَ؟ قَالَ: «نَعَمْ»(2).قال مصنِّف هذا الكتاب (رضی الله عنه): الإسلام هو إقرار بالشهادتين، وهو الذي به تُحقَن الدماء والأموال، والثواب علىٰ الإيمان، وَقَالَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله): «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ فَقَدْ حُقِنَ مَالُهُ وَدَمُهُ إِلَّا بِحَقِّهِمَا، وَحِسَابُهُ عَلَىٰ اللهِ (عزوجل)».

ص: 117


1- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 90/ ح 79)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 373/ باب من ادَّعىٰ الإمامة.../ ح 8)، وابن عقدة في فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام) (ص 150/ ح 144)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 128/ باب 7/ ح 4 و5) بسندين.
2- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 90/ ح 78).

[4/347] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ الْآدَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مَحْبُوبٍ(1)، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعَبْدِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ(2)، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «مَنْ أَقَرَّ بِالْأَئِمَّةِ مِنْ آبَائِي وَوُلْدِي، وَجَحَدَ المَهْدِيَّ مِنْ وُلْدِي كَانَ كَمَنْ أَقَرَّ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَجَحَدَ مُحَمَّداً (صلی الله علیه و آله)»، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، وَمَنِ المَهْدِيُّ مِنْ وُلْدِكَ؟ قَالَ: «الْخَامِسُ مِنْ وُلْدِ السَّابِعِ، يَغِيبُ عَنْهُمْ شَخْصُهُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ تَسْمِيَتُهُ»(3).

[5/348] حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِدْرِيسَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ صَفْوَانَ [بْنِ مِهْرَانَ]، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام) أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَقَرَّ بِجَمِيعِ الْأَئِمَّةِ، وَجَحَدَ المَهْدِيَّ كَانَ كَمَنْ أَقَرَّ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَجَحَدَ مُحَمَّداً (صلی الله علیه و آله) نُبُوَّتَهُ»، فَقِيلَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، فَمَنِ المَهْدِيُّ مِنْ وُلْدِكَ؟ قَالَ: «الْخَامِسُ مِنْ وُلْدِ السَّابِعِ، يَغِيبُ عَنْكُمْ شَخْصُهُ، وَلَا يَحِلُّ لَكُمْتَسْمِيَتُهُ»(4).

[6/349] حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبْدُوسٍ النَّيْسَابُورِيُّ الْعَطَّارُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ النَّيْسَابُورِيُّ، عَنْ حَمْدَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْهَمْدَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْفَضْلِ الْهَاشِمِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (علیهم السلام)، قَالَ: قَالَ

ص: 118


1- في أكثر النُّسَخ: (عن محمّد بن الحسن بن محبوب)، وهو تصحيف. ورواية سهل عن السرَّاد كثير، راجع: التهذيب (ج 1/ ص 80 و293 و298 و300) وغيرها، والكافي (ج 1/ ص 65 و92 و117 و132) وغيرها، وهكذا رواية السرَّاد عن العبدي، راجع: تهذيب الأحكام (ج 1/ ص 314، وج 4/ ص 216) وغير ذلك.
2- في بعض النُّسَخ: (عن أبي يعقوب).
3- قد مرَّ تحت الرقم (253/12)، فراجع.
4- قد مرَّ تحت الرقم (242/1)، فراجع.

رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «الْقَائِمُ مِنْ وُلْدِي اسْمُهُ اسْمِي، وَكُنْيَتُهُ كُنْيَتِي، وَشَمَائِلُهُ شَمَائِلِي، وَسُنَّتُهُ سُنَّتِي، يُقِيمُ النَّاسَ عَلَىٰ مِلَّتِي وَشَرِيعَتِي، وَيَدْعُوهُمْ إِلَىٰ كِتَابِ رَبِّي (عزوجل)، مَنْ أَطَاعَهُ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَاهُ فَقَدْ عَصَانِي، وَمَنْ أَنْكَرَهُ فِي غَيْبَتِهِ فَقَدْ أَنْكَرَنِي، وَمَنْ كَذَّبَهُ فَقَدْ كَذَّبَنِي، وَمَنْ صَدَّقَهُ فَقَدْ صَدَّقَنِي، إِلَىٰ اللهِ أَشْكُو المُكَذِّبِينَ لِي فِي أَمْرِهِ، وَالْجَاحِدِينَ لِقَوْلِي فِي شَأْنِهِ، وَالمُضِلِّينَ لِأُمَّتِي عَنْ طَرِيقَتِهِ، «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ 227» [الشعراء: 227]»(1).

[7/350] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَىٰ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ الصَّادِقِ (علیه السلام) فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ يَقُولُ فِي آخِرِهِ: «كَيْفَ يَهْتَدِي مَنْ لَمْ يُبْصِرْ؟ وكَيْفَ يُبْصِرُ مَنْ لَمْ يُنْذَرْ؟ اتَّبِعُوا قَوْلَ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، وَأَقِرُّوا بِمَا نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللهِ (عزوجل)، وَاتَّبِعُوا آثَارَ الْهُدَىٰ فَإِنَّهَا عَلَامَاتُ الْأَمَانَةِ وَالتُّقَىٰ،وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ رَجُلٌ عِيسَىٰ بْنَ مَرْيَمَ (علیه السلام) وَأَقَرَّ بِمَنْ سِوَاهُ مِنَ الرُّسُلِ (علیهم السلام) لَمْ يُؤْمِنْ، اقْصِدُوا الطَّرِيقَ بِالْتِمَاسِ المَنَارِ، وَالْتَمِسُوا مِنْ وَرَاءِ الْحُجُبِ الْآثَارَ، تَسْتَكْمِلُوا أَمْرَ دِينِكُمْ، وَتُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ»(2)(3).

ص: 119


1- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 227).
2- رواه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 181 - 183/ باب معرفة الإمام والردِّ إليه/ ح 6).
3- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول (ج 2/ ص 311 و312): (بيَّن (علیه السلام) أنَّ الاهتداء لا يكون إلَّا بإبصار القلب والتميُّز بين الحقِّ والباطل، ولا يكون ذلك الإبصار إلَّا بالتدبُّر والتفكُّر في الآيات والأخبار. «اتَّبعوا رسول الله» فذلكة للبحث ونتيجة لما سبق، و«آثار الهدىٰ» الأئمَّة (علیهم السلام)، فإنَّهم علامة الهداية أو الدلائل الدالَّة علىٰ إمامتهم ووجوب متابعتهم. «فإنَّهم علامات الأمانة» أي المتَّصفون بها، أو بأقوالهم وأفعالهم تُعلَم أحكام الأمانة والتقوىٰ. ثمّ بيَّن(علیه السلام) وجوب الإقرار بجميع الأئمَّة (علیهم السلام)، واشتراط الإيمان به بأنَّه لو أقرَّ رجل بجميع الأنبياء وأنكر واحداً منهم لم ينفعه إيمانه، كما قال تعالىٰ: «لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ» [البقرة: 285]، فكذلك من أنكر واحداً من الأئمَّة (علیهم السلام) لم ينفعه إقراره بسائر الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام)، لأنَّ كلمة الأنبياء والأوصياء متَّفقة، وكلٌّ منهم مصدِّق بمن سواهم، فإنكار واحد منهم إنكار للجميع. «اقتصُّوا الطريق» يقال: قصَّ أثره واقتصَّه إلىٰ اتَّبعه، أي اتَّبعوا طريق الشيعة والدِّين، أو اتَّبعوا أثر من تجب متابعته في طريق الدِّين بطلب المنار الذي به يُعلَم الطريق وهو الإمام، والمنار - بفتح الميم -: محلُّ النور الذي يُنصَب علىٰ الطريق ليهتدي به الضالُّون في الظلمات. «والتمسوا» أي اطلبوا. «من وراء الحُجُب» أي حُجُب الشكوك والشُّبُهات والفتن التي صارت حجاباً بين الناس وفهم الحقِّ. «الآثار» أي آثار الهداية ودلائلها، وهم الأئمَّة (علیهم السلام)، أو دلائل إمامتهم، أو المعنىٰ إنْ لم يتيسَّر لكم الوصول إلىٰ الإمام فاطلبوا آثاره وأخباره من رواتها وحملتها، أو اطلبوا الإمام المحجوب بحجاب التقيَّة والخوف حتَّىٰ تصلوا إليه، فإذا فعلتم ما ذُكِرَ فقد أكملتم أمر دينكم بمعرفة الأئمَّة (علیهم السلام) ومتابعتهم، وآمنتم بالله حقَّ الإيمان وإلَّا فلستم بمؤمنين).

[8/351] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْهَمَدَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ غِيَاثِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (علیهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «مَنْ أَنْكَرَ الْقَائِمَ مِنْ وُلْدِي فَقَدْ أَنْكَرَنِي».

[9/352] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَىٰ الْخَشَّابِ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: قَالَ الصَّادِقُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام): «الْإِمَامُ عَلَمٌ فِيمَا بَيْنَ اللهِ (عزوجل) وَبَيْنَ خَلْقِهِ، فَمَنْ عَرَفَهُ كَانَ مُؤْمِناً، وَمَنْ أَنْكَرَهُ كَانَ كَافِراً».

[10/353] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)، قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ إِمَامٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَلَا يُعْذَرُ النَّاسُ حَتَّىٰ يَعْرِفُوا إِمَامَهُمْ»(1).

ص: 120


1- روىٰ قريباً منه البرقي (رحمة الله) في المحاسن (ج 1/ ص 155 و156/ ح 85).

[11/354] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنهم)، قَالُوا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ المُكَارِي، عَنْ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ ولَيْسَ لَهُ إِمَامٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةَ كُفْرٍ وَشِرْكٍ وَضَلَالَةٍ»(1).

[12/355] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ ابْنُ جَعْفَرٍ الْأَسَدِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَىٰ بْنُ عِمْرَانَ النَّخَعِيُّ، عَنْ عَمِّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ النَّوْفَلِيِّ، عَنْ غِيَاثِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (علیهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «مَنْ أَنْكَرَ الْقَائِمَ مِنْ وُلْدِي فِي زَمَانِ غَيْبَتِهِ [فَ]مَاتَ [فَقَدْ مَاتَ] مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».

[13/356] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ الْعَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ مُحَمَّدِ(2) بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُوسَىٰ الرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «يَا عَلِيُّ، أَنْتَ وَالْأَئِمَّةُ مِنْ وُلْدِكَ بَعْدِي حُجَجُ اللهِ (عزوجل) عَلَىٰ خَلْقِهِ، وَأَعْلَامُهُ فِي بَرِيَّتِهِ، مَنْ أَنْكَرَ وَاحِداً مِنْكُمْ فَقَدْ أَنْكَرَنِي، وَمَنْ عَصَىٰ وَاحِداً مِنْكُمْ فَقَدْ عَصَانِي، وَمَنْ جَفَا وَاحِداً مِنْكُمْ فَقَدْ جَفَانِي، وَمَنْ وَصَلَكُمْ فَقَدْ وَصَلَنِي، وَمَنْ أَطَاعَكُمْ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ وَالَاكُمْ فَقَدْ وَالَانِي، وَمَنْ عَادَاكُمْ فَقَدْ عَادَانِي، لِأَنَّكُمْ مِنِّي، خُلِقْتُمْ مِنْ طِينَتِي وَأَنَا مِنْكُمْ».

ص: 121


1- رواه ابن بوبيه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 83/ ح 71).
2- في بعض النُّسَخ: (عن محمّد بن عليٍّ، قال: حدَّثني عمران بن محمّد). وهو عمران بن موسىٰ الزيتوني الأشعري. وأمَّا راويه عليُّ بن محمّد فلعلَّه عليُّ بن محمّد بن مروان، وهو مهمل.

[14/357] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمْزَةُ بْنُ الْقَاسِمِ الْعَلَوِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍالْفَارِسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ قُدَامَةَ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ (علیه السلام)، قَالَ: «مَنْ شَكَّ فِي أَرْبَعَةٍ فَقَدْ كَفَرَ بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ، أَحَدُهَا مَعْرِفَةُ الْإِمَامِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَأَوَانٍ بِشَخْصِهِ وَنَعْتِهِ».

[15/358] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ وَيَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ جَمِيعاً، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ، عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ الْهِلَالِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ سَلْمَانَ وَمِنْ أَبِي ذَرٍّ وَمِنَ الْمِقْدَادِ حَدِيثاً عَنْ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَاتَ ولَيْسَ لَهُ إِمَامٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»، ثُمَّ عَرَضَهُ عَلَىٰ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَا: صَدَقُوا وَبَرُّوا، وَقَدْ شَهِدْنَا ذَلِكَ وَسَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، وَإِنَّ سَلْمَانَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ قُلْتَ: «مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ إِمَامٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» مَنْ هَذَا الْإِمَامُ؟ قَالَ: «مِنْ أَوْصِيَائِي يَا سَلْمَانُ، فَمَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي وَلَيْسَ لَهُ إِمَامٌ مِنْهُمْ يَعْرِفُهُ فَهِيَ مِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، فَإِنْ جَهِلَهُ وَعَادَاهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ، وَإِنْ جَهِلَهُ وَلَمْ يُعَادِهِ وَلَمْ يُوَالِ لَهُ عَدُوًّا فَهُوَ جَاهِلٌ وَلَيْسَ بِمُشْرِكٍ».

* * *

ص: 122

الباب الأربعون:

ما روي في أنَّ الإمامة لا تجتمع

في أخوين بعد الحسن والحسين (علیهما السلام)

ص: 123

ص: 124

[1/359] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ ثُوَيْرِ بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «لَا تَكُونُ الْإِمَامَةُ(1) فِي أَخَوَيْنِ بَعْدَ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ (علیهما السلام) أَبَداً، إِنَّهَا جَرَتْ(2) مِنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (علیهما السلام) كَمَا قَالَ اللهُ (عزوجل): «وَأُولُوا الْأَرحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ» [الأنفال: 75]، وَلَا تَكُونُ بَعْدَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ إِلَّا فِي الْأَعْقَابِ وَأَعْقَابِ الْأَعْقَابِ»(3).

[2/360] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ وَمُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ الْفَارِسِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ جَعْفَرٍ الْجَعْفَرِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «لَا تَجْتَمِعُ الْإِمَامَةُ فِي أَخَوَيْنِ بَعْدَ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ (علیهما السلام)، إِنَّمَا تَجْرِي فِي الْأَعْقَابِوَأَعْقَابِ الْأَعْقَابِ»(4)(5).

[3/361] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ

ص: 125


1- في الكافي بهذا الإسناد: (لا تعود الإمامة).
2- في الكافي: (إنَّما جرت).
3- رواه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 285 و286/ باب ثبات الإمامة في الأعقاب.../ ح 1)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 226/ ح 192).
4- في الكافي بإسناده، عن سليمان، عن حمَّاد، عنه (علیه السلام).
5- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 57/ ح 42)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 286/ باب ثبات الإمامة في الأعقاب.../ ح 4)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 226/ ح 191).

الْحُسَيْنِ السَّعْدَآبَادِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «أَبَىٰ اللهُ (عزوجل) أَنْ يَجْعَلَهَا (يَعْنِي الْإِمَامَةَ)(1) فِي أَخَوَيْنِ بَعْدَ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ (علیهما السلام)»(2).

[4/362] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبَانٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ، عَنْ سَوْرَةَ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) فِي قَوْلِ اللهِ (عزوجل): «وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ» [الزخرف: 28]، إِنَّهَا فِي الْحُسَيْنِ (علیه السلام) تَنْتَقِلُ مِنْ وَلَدٍ إِلَىٰ وَلَدٍ، لَا تَرْجِعُ إِلَىٰ أَخٍ وَلَا عَمٍّ».

[5/363] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، [عَنْ أَبِيهِ - خ]، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ نَصْرٍ، عَنْ أَبِي إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «لَا تَكُونُ الْإِمَامَةُ فِي أَخَوَيْنِبَعْدَ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ (علیهما السلام) أَبَداً، إِنَّمَا هِيَ فِي الْأَعْقَابِ وَأَعْقَابِ الْأَعْقَابِ».

[6/364] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ السَّعْدَآبَادِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبَرْقِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «لَمَّا وَلَدَتْ فَاطِمَةُ J الْحُسَيْنَ (علیه السلام) أَخْبَرَهَا أَبُوهَا (صلی الله علیه و آله) أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَقْتُلُهُ مِنْ بَعْدِهِ، قَالَتْ: وَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ (عزوجل) قَدْ أَخْبَرَنِي أَنْ يَجْعَلُ الْأَئِمَّةَ مِنْ وُلْدِهِ، قَالَتْ: قَدْ رَضِيتُ يَا رَسُولَ اللهِ».

ص: 126


1- من زيادات النُّسَّاخ أو المصنِّف (رحمة الله)، لعدم وجودها في الكافي والراوي واحد.
2- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 57 و58/ ح 41 و43)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 286/ باب ثبات الإمامة في الأعقاب.../ ح 2).

[7/365] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ وَمُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ بْنِ عُبَيْدِ جَمِيعاً، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَنْ عِيسَىٰ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْعَلَوِيِّ الْعُمَرِيِّ(1)، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ (علیهما السلام)، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنْ كَانَ كَوْنٌ - وَلَا أَرَانِي اللهُ يَوْمَكَ - فَبِمَنْ أَئْتَمُّ؟ قَالَ: فَأَوْمَأَ إِلَىٰ مُوسَىٰ (علیه السلام)، قُلْتُ: فَإِنْ مَضَىٰ مُوسَىٰ (علیه السلام) فَبِمَنْ أَئْتَمُّ؟ قَالَ: «بِوَلَدِهِ»، قُلْتُ: فَإِنْ مَضَىٰ وَلَدُهُ وَتَرَكَ أَخاً كَبِيراً وَابْناً صَغِيراً فَبِمَنْ أَئْتَمُّ؟ قَالَ: «بِوَلَدِهِ، ثُمَّ هَكَذَا أَبَداً»، قُلْتُ: فَإِنْ أَنَا لَمْ أَعْرِفْهُ وَلَمْ أَعْرِفْ مَوْضِعَهُ فَمَا أَصْنَعُ؟ قَالَ: «تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَوَلَّىٰ مَنْ بَقِيَ مِنْ حُجَجِكَ مِنْ وُلْدِ الْإِمَامِ المَاضِي، فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُكَ»(2).

[8/366] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رِئَابٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «لَمَّا أَنْ حَمَلَتْ(3) فَاطِمَةُ J بِالْحُسَيْنِ (علیه السلام) قَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): إِنَّ اللهَ (عزوجل) قَدْ وَهَبَ لَكِ غُلَاماً اسْمُهُ الْحُسَيْنُ، تَقْتُلُهُ أُمَّتِي، قَالَتْ: فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ (عزوجل) قَدْ وَعَدَنِي فِيهِ عِدَةً، قَالَتْ: وَمَا وَعَدَكَ؟ قَالَ: وَعَدَنِي أَنْ يَجْعَلَ الْإِمَامَةَ مِنْ بَعْدِهِ فِي وُلْدِهِ، فَقَالَتْ: رَضِيتُ».

[9/367] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضی الله عنه)، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ هِشَامِ ابْنِ سَالِمٍ، قَالَ: قُلْتُ لِلصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام): الْحَسَنُ أَفْضَلُ أَمِ الْحُسَيْنُ؟ فَقَالَ: «الْحَسَنُ أَفْضَلُ مِنَ الْحُسَيْنِ»، [قَالَ]: قُلْتُ: فَكَيْفَ صَارَتِ الْإِمَامَةُ مِنْ بَعْدِ

ص: 127


1- هو عيسىٰ بن عبد الله بن عمر بن عليِّ بن أبي طالب (علیه السلام).
2- قد مرَّ تحت الرقم (284/43)، فراجع.
3- في بعض النُّسَخ: (علقت).

الْحُسَيْنِ فِي عَقِبِهِ دُونَ وُلْدِ الْحَسَنِ؟ فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ أَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَ(1) سُنَّةَ مُوسَىٰ وَهَارُونَ جَارِيَةً فِي الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ (علیهما السلام)، أَلَا تَرَىٰ أَنَّهُمَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي النُّبُوَّةِ كَمَا كَانَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ شَرِيكَيْنِ فِي الْإِمَامَةِ، وَإِنَّ اللهَ (عزوجل) جَعَلَ النُّبُوَّةَ فِي وُلْدِ هَارُونَ وَلَمْ يَجْعَلْهَا فِي وُلْدِ مُوسَىٰ وَإِنْ كَانَ مُوسَىٰ أَفْضَلَ مِنْ هَارُونَ (علیهما السلام)»، قُلْتُ: فَهَلْ يَكُونُ إِمَامَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ: «لَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا صَامِتاً مَأْمُوماً لِصَاحِبِهِ، وَالْآخَرُ نَاطِقاًإِمَاماً لِصَاحِبِهِ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَا إِمَامَيْنِ نَاطِقَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَلَا»، قُلْتُ: فَهَلْ تَكُونُ الْإِمَامَةُ فِي أَخَوَيْنِ بَعْدَ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ (علیهما السلام)؟ قَالَ: «لَا، إِنَّمَا هِيَ جَارِيَةٌ فِي عَقِبِ الْحُسَيْنِ (علیه السلام)، كَمَا قَالَ اللهُ (عزوجل): «وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ» [الزخرف: 28]، ثُمَّ هِيَ جَارِيَةٌ فِي الْأَعْقَابِ وَأَعْقَابِ الْأَعْقَابِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

[10/368] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ(2)، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) فِي قَوْلِ اللهِ (عزوجل): «وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ 45» [الحجّ: 45]، فَقَالَ: «الْبِئْرُ المُعَطَّلَةُ الْإِمَامُ الصَّامِتُ، وَالْقَصْرُ المَشِيدُ الْإِمَامُ النَّاطِقُ»(3)(4).

ص: 128


1- في بعض النُّسَخ: (إنَّ الله تبارك وتعالىٰ لم يرد بذلك إلَّا أنْ يجعل...) إلخ، وفي بعضها: (إنَّ الله تبارك وتعالىٰ أبىٰ إلَّا أنْ يجعل...) إلخ.
2- عليُّ بن أبي حمزة البطائني أحد عُمَد الواقفة، كذَّاب متَّهم ملعون، قال العلَّامة (رحمة الله): (قال أبو الحسن عليُّ بن الحسن بن فضَّال: عليُّ بن أبي حمزة كذَّاب واقفي، متَّهم ملعون، وقد رويت عنه أحاديث كثيرة، وكتبت عنه تفسير القرآن كلَّه من أوَّله إلىٰ آخره إلَّا أنِّي لا أستحلُّ أنْ أروي عنه حديثاً واحداً) (خلاصة الأقوال: ص 362 و363/ الرقم 1).
3- قال القمِّي (رحمة الله) في تفسيره (ج 2/ ص 85): (قوله: «بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ» هي التي لا يُستسقىٰ منها، وهو الإمام الذي قد غاب فلا يُقتَبس منه العلم. والقصر المشيد هو المرتفع، وهو مثل لأمير المؤمنين (علیه السلام)).
4- رواه المصنِّف (رحمة الله) بسندين آخرين في معاني الأخبار (ص 111/ باب معنىٰ البئر المعطَّلة والقصر المشيد/ ح 1 و2)، ورواه بسند آخر الصفَّار (رحمة الله) في بصائر الدرجات (ص 525/ ج 10/ باب 18/ ح 4)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 427/ باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية/ ح 75).

الباب الحادي والأربعون:

ما روي في نرجس أُمِّ القائم (علیه السلام)

واسمها مليكة بنت يشوعا(1)بن قيصر المَلِك

ص: 129


1- في بعض النُّسَخ: (يوشعا)، وفي بعضها: (يستوعا).

ص: 130

[1/369] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَاتِمٍ النَّوْفَلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَىٰ الْوَشَّاءِ الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ طَاهِرٍ الْقُمِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرٍ الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: وَرَدْتُ كَرْبَلَاءَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، قَالَ: وَزُرْتُ قَبْرَ غَرِيبِ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، ثُمَّ انْكَفَأْتُ إِلَىٰ مَدِينَةِ السَّلَامِ مُتَوَجِّهاً إِلَىٰ مَقَابِرِ قُرَيْشٍ فِي وَقْتٍ قَدْ تَضَرَّمَتِ الْهَوَاجِرُ وَتَوَقَّدَتِ السَّمَائِمُ، فَلَمَّا وَصَلْتُ مِنْهَا إِلَىٰ مَشْهَدِ الْكَاظِمِ (علیه السلام) وَاسْتَنْشَقْتُ نَسِيمَ تُرْبَتِهِ المَغْمُورَةِ مِنَ الرَّحْمَةِ، المَحْفُوفَةِ بِحَدَائِقِ الْغُفْرَانِ أَكْبَبْتُ عَلَيْهَا بِعَبَرَاتٍ مُتَقَاطِرَةٍ، وَزَفَرَاتٍ مُتَتَابِعَةٍ، وَقَدْ حَجَبَ الدَّمْعُ طَرْفِي عَنِ النَّظَرِ، فَلَمَّا رَقَأَتِ الْعَبْرَةُ وَانْقَطَعَ النَّحِيبُ فَتَحْتُ بَصَرِي فَإِذَا أَنَا بِشَيْخٍ قَدِ انْحَنَىٰ صُلْبُهُ، وَتَقَوَّسَ مَنْكِبَاهُ، وَثَفِنَتْ جَبْهَتُهُ وَرَاحَتَاهُ، وَهُوَ يَقُولُ لِآخَرَ مَعَهُ عِنْدَ الْقَبْرِ: يَا ابْنَ أَخِي، لَقَدْ نَالَ عَمُّكَ شَرَفاً بِمَا حَمَّلَهُ السَّيِّدَانِ مِنْ غَوَامِضِ الْغُيُوبِ وَشَرَائِفِ الْعُلُومِ الَّتِي لَمْ يَحْمِلْ مِثْلَهَا إِلَّا سَلْمَانُ، وَقَدْ أَشْرَفَ عَمُّكَ عَلَىٰ اسْتِكْمَالِ المُدَّةِ وَانْقِضَاءِ الْعُمُرِ، وَلَيْسَ يَجِدُ فِي أَهْلِ الْوَلَايَةِ رَجُلاً يُفْضِي إِلَيْهِ بِسِرِّهِ، قُلْتُ: يَا نَفْسُ لَا يَزَالُ الْعَنَاءُ وَالمَشَقَّةُ يَنَالانِ مِنْكِ بِإِتْعَابِيَ الْخُفَّ وَالْحَافِرَ(1) فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَقَدْ قَرَعَ سَمْعِي مِنْ هَذَا الشَّيْخِ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَىٰ عِلْمٍ جَسِيمٍ وَأَثَرٍ عَظِيمٍ، فَقُلْتُ: أَيُّهَا الشَّيْخُ، وَمَنِ السَّيِّدَانِ؟ قَالَ: النَّجْمَانِ المُغَيَّبَانِ فِي الثَّرَىٰ بِسُرَّ مَنْ رَأَىٰ، فَقُلْتُ: إِنِّي أُقْسِمُ بِالمُوَالَاةِ وَشَرَفِ مَحَلِّ هَذَيْنِ السَّيِّدَيْنِ مِنَ الْإِمَامَةِ وَالْوِرَاثَةِ، أَنِّي خَاطِبٌ عِلْمَهُمَا، وَطَالِبٌآثَارَهُمَا، وَبَاذِلٌ مِنْ نَفْسِيَ الْأَيمَانَ المُؤَكَّدَةَ عَلَىٰ حِفْظِ أَسْرَارِهِمَا، قَالَ: إِنْ كُنْتَ صَادِقاً فِيمَا تَقُولُ فَأَحْضِرْ مَا صَحِبَكَ مِنَ الْآثَارِ عَنْ نَقَلَةِ أَخْبَارِهِمْ،

ص: 131


1- كناية عن البعير والفرس.

فَلَمَّا فَتَّشَ الْكُتُبَ وَتَصَفَّحَ الرِّوَايَاتِ مِنْهَا قَالَ: صَدَقْتَ، أَنَا بِشْرُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّخَّاسُ(1) مِنْ وُلْدِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، أَحَدُ مَوَالِي أَبِي الْحَسَنِ وَأَبِي مُحَمَّدٍ (علیهما السلام)، وَجَارُهُمَا بِسُرَّ مَنْ رَأَىٰ، قُلْتُ: فَأَكْرِمْ أَخَاكَ بِبَعْضِ مَا شَاهَدْتَ مِنْ آثَارِهِمَا، قَالَ: كَانَ مَوْلَانَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَسْكَرِيُّ (علیهما السلام) فَقَّهَنِي فِي أَمْرِ الرَّقِيقِ، فَكُنْتُ لَا أَبْتَاعُ وَلَا أَبِيعُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَاجْتَنَبْتُ بِذَلِكَ مَوَارِدَ الشُّبُهَاتِ حَتَّىٰ كَمَلَتْ مَعْرِفَتِي فِيهِ، فَأَحْسَنْتُ الْفَرْقَ [فِيمَا] بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.

فَبَيْنَمَا أَنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي مَنْزِلِي بِسُرَّ مَنْ رَأَىٰ وَقَدْ مَضَىٰ هَوَيٌّ(2) مِنَ اللَّيْلِ إِذْ قَرَعَ الْبَابَ قَارِعٌ، فَعَدَوْتُ مُسْرِعاً، فَإِذَا أَنَا بِكَافُورٍ الْخَادِمِ رَسُولِ مَوْلَانَا أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ ابْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام) يَدْعُونِي إِلَيْهِ، فَلَبِسْتُ ثِيَابِي وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَرَأَيْتُهُ يُحَدِّثُ ابْنَهُ أَبَا مُحَمَّدٍ وَأُخْتَهُ حَكِيمَةَ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ، فَلَمَّا جَلَسْتُ قَالَ: «يَا بِشْرُ، إِنَّكَ مِنْ وُلْدِ الْأَنْصَارِ، وَهَذِهِ الْوَلَايَةُ لَمْ تَزَلْ فِيكُمْ يَرِثُهَا خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ، فَأَنْتُمْ ثِقَاتُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، وَإِنِّي مُزَكِّيكَ وَمُشَرِّفُكَ بِفَضِيلَةٍ تَسْبِقُ بِهَا شَأْوُ الشِّيعَةِ(3) فِي المُوَالاةِ بِهَا، بِسِرٍّ أَطَّلِعُكَ عَلَيْهِوَأُنْفِذُكَ فِي ابْتِيَاعِ أَمَةٍ(4)»، فَكَتَبَ كِتَاباً مُلْصَقاً(5) بِخَطٍّ رُومِيٍّ وَلُغَةٍ رُومِيَّةٍ، وَطَبَعَ عَلَيْهِ بِخَاتَمِهِ، وَأَخْرَجَ شَسْتَقَةً(6) صَفْرَاءَ فِيهَا مِائَتَانِ وَعِشْرُونَ دِينَاراً، فَقَالَ: «خُذْهَا وَتَوَجَّهْ بِهَا إِلَىٰ بَغْدَادَ، وَاحْضُرْ مَعْبَرَ الْفُرَاتِ ضَحْوَةَ كَذَا، فَإِذَا

ص: 132


1- مهمل.
2- يعني زماناً غير قليل.
3- في بعض النُّسَخ: (سائر الشيعة). والشأو مصدر الأمد والغاية، يقال: فلان بعيد الشأو أي عالي الهمَّة.
4- في بعض النُّسَخ: (في تتبُّع أمره) مكان (في ابتياع أَمَة).
5- في بعض النُّسَخ: (مطلقاً)، وفي بعضها: (ملفَّقاً).
6- كذا في أكثر النُّسَخ، وفي بعض النُّسَخ: (الشنسقة)، والظاهر الصواب (الشنتقة)، معرب (چنته)، وفي بحار الأنوار: (شقة)، وهي بالكسر والضمِّ - السبيبة المقطوعة من الثياب المستطيلة. وعلىٰ أيٍّ المراد الصُّرَّة التي يجعل فيه الدنانير.

وَصَلَتْ إِلَىٰ جَانِبِكَ زَوَارِقُ السَّبَايَا وَبَرْزَنُ الْجَوَارِي مِنْهَا فَسَتَحْدِقُ بِهِمْ طَوَائِفُ المُبْتَاعِينَ مِنْ وُكَلَاءِ قُوَّادِ بَنِي الْعَبَّاسِ وَشَرَاذِمُ مِنْ فِتْيَانِ الْعِرَاقِ، فَإِذَا رَأَيْتَ ذَلِكَ فَأَشْرِفْ مِنَ الْبُعْدِ عَلَىٰ المُسَمَّىٰ عُمَرَ بْنَ يَزِيدَ النَّخَّاسَ عَامَّةَ نَهَارِكَ إِلَىٰ أَنْ يُبْرِزَ لِلْمُبْتَاعِينَ جَارِيَةً صِفَتُهَا كَذَا وَكَذَا، لَابِسَةً حَرِيرَتَيْنِ صَفِيقَتَيْنِ، تَمْتَنِعُ مِنَ السُّفُورِ وَلَمسِ المُعْتَرِضِ، وَالْاِنْقِيَادِ لِمَنْ يُحَاوِلُ لَمسَهَا، وَيَشْغَلُ نَظَرَهُ بِتَأَمُّلِ مَكَاشِفِهَا مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ الرَّقِيقِ، فَيَضْرِبُهَا النَّخَّاسُ فَتَصْرَخُ صَرْخَةً رُومِيَّةً، فَاعْلَمْ أَنَّهَا تَقُولُ: وَا هَتْكَ سِتْرَاهْ، فَيَقُولُ بَعْضُ المُبْتَاعِينَ: عَلَيَّ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ فَقَدْ زَادَنِي الْعَفَافُ فِيهَا رَغْبَةً، فَتَقُولُ بِالْعَرَبِيَّةِ: لَوْ بَرَزْتَ فِي زِيِّ سُلَيْمَانَ وَعَلَىٰ مِثْلِ سَرِيرِ مُلْكِهِ مَا بَدَتْ لِي فِيكَ رَغْبَةٌ، فَاشْفَقْ عَلَىٰ مَالِكَ، فَيَقُولُ النَّخَّاسُ: فَمَا الْحِيلَةُ وَلَا بُدَّ مِنْ بَيْعِكِ، فَتَقُولُ الْجَارِيَةُ: وَمَا الْعَجَلَةُ وَلَا بُدَّ مِنِ اخْتِيَارِ مُبْتَاعٍ يَسْكُنُ قَلْبِي [إِلَيْهِ وَ]إِلَىٰ أَمَانَتِهِ وَدِيَانَتِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قُمْ إِلَىٰ عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ النَّخَّاسِ وَقُلْ لَهُ: إِنَّ مَعِي كِتَاباً مُلْصَقاً لِبَعْضِ الْأَشْرَافِ كَتَبَهُ بِلُغَةٍ رُومِيَّةٍ وَخَطٍّ رُومِيٍّ، وَوَصَفَ فِيهِ كَرَمَهُ وَوَفَاءَهُ وَنُبْلَهُ وَسَخَاءَهُ، فَنَاوِلْهَا لِتَتَأَمَّلَ مِنْهُ أَخْلَاقَ صَاحِبِهِ، فَإِنْ مَالَتْ إِلَيْهِ وَرَضِيَتْهُ،فَأَنَا وَكِيلُهُ فِي ابْتِيَاعِهَا مِنْكَ».

قَالَ بِشْرُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّخَّاسُ: فَامْتَثَلْتُ جَمِيعَ مَا حَدَّهُ لِي مَوْلَايَ أَبُو الْحَسَنِ (علیه السلام) فِي أَمْرِ الْجَارِيَةِ، فَلَمَّا نَظَرَتْ فِي الْكِتَابِ بَكَتْ بُكَاءً شَدِيداً، وَقَالَتْ لِعُمَرَ بْنِ يَزِيدَ النَّخَّاسِ: بِعْنِي مِنْ صَاحِبِ هَذَا الْكِتَابِ، وَحَلَفَتْ بِالمُحَرِّجَةِ المُغَلَّظَةِ(1) إِنَّهُ مَتَىٰ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهَا مِنْهُ قَتَلَتْ نَفْسَهَا، فَمَا زِلْتُ أُشَاحُّهُ فِي ثَمَنِهَا حَتَّىٰ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَىٰ مِقْدَارِ مَا كَانَ أَصْحَبَنِيهِ مَوْلَايَ (علیه السلام) مِنَ الدَّنَانِيرِ فِي الشَّسْتَقَةِ الصَّفْرَاءِ، فَاسْتَوْفَاهُ مِنِّي وَتَسَلَّمْتُ مِنْهُ الْجَارِيَةَ ضَاحِكَةً مُسْتَبْشِرَةً، وَانْصَرَفْتُ بِهَا إِلَىٰ حُجْرَتِيَ الَّتِي كُنْتُ آوِي إِلَيْهَا بِبَغْدَادَ، فَمَا أَخَذَهَا الْقَرَارُ حَتَّىٰ أَخْرَجَتْ كِتَابَ

ص: 133


1- المحرِّجة: اليمين الذي يُضيِّق المجال علىٰ الحالف ولا يبقىٰ له مندوحة عن برِّ قسمه. والمغلَّظة: المؤكَّدة.

مَوْلَاهَا (علیه السلام) مِنْ جَيْبِهَا وَهِيَ تَلْثِمُهُ(1) وَتَضَعُهُ عَلَىٰ خَدِّهَا وَتُطْبِقُهُ عَلَىٰ جَفْنِهَا وَتَمْسَحُهُ عَلَىٰ بَدَنِهَا، فَقُلْتُ تَعَجُّباً مِنْهَا: أَتَلْثِمِينَ كِتَاباً وَلَا تَعْرِفِينَ صَاحِبَهُ؟

قَالَتْ: أَيُّهَا الْعَاجِزُ الضَّعِيفُ المَعْرِفَةِ بِمَحَلِّ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ، أَعِرْنِي سَمْعَكَ وَفَرِّغْ لِي قَلْبَكَ، أَنَا مَلِيكَةُ بِنْتُ يَشُوعَا(2) بْنِ قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ، وَأُمِّي مِنْ وُلْدِ الْحَوَارِيِّينَ تُنْسَبُ إِلَىٰ وَصِيِّ المَسِيحِ شَمْعُونَ، أُنَبِّئُكَ الْعَجَبَ الْعَجِيبَ، إِنَّ جَدِّي قَيْصَرَ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَنِي مِنِ ابْنِ أَخِيهِ وَأَنَا مِنْ بَنَاتِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَجَمَعَ فِي قَصْرِهِ مِنْ نَسْلِ الْحَوَارِيِّينَ وَمِنَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ وَمِنْ ذَوِي الْأَخْطَارِ سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ، وَجَمَعَ مِنْ أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ وَقُوَّادِ الْعَسَاكِرِ وَنُقَبَاءِ الْجُيُوشِ وَمُلُوكِ الْعَشَائِرِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَأَبْرَزَ مِنْ بَهْوِ مُلْكِهِعَرْشاً مَسُوغاً(3) مِنْ أَصْنَافِ الْجَوَاهِرِ إِلَىٰ صَحْنِ الْقَصْرِ، فَرَفَعَهُ فَوْقَ أَرْبَعِينَ مِرْقَاةً، فَلَمَّا صَعِدَ ابْنُ أَخِيهِ وَأَحْدَقَتْ بِهِ الصُّلْبَانُ وَقَامَتِ الْأَسَاقِفَةُ عُكَّفاً وَنُشِرَتْ أَسْفَارُ الْإِنْجِيلِ تَسَافَلَتِ الصُّلْبَانُ(4) مِنَ الْأَعَالِي فَلَصِقَتْ بِالْأَرْضِ، وَتَقَوَّضَتِ الْأَعْمِدَةُ(5) فَانْهَارَتْ إِلَىٰ الْقَرَارِ، وَخَرَّ الصَّاعِدُ مِنَ الْعَرْشِ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَتَغَيَّرَتْ أَلْوَانُ الْأَسَاقِفَةِ، وَارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُمْ، فَقَالَ كَبِيرُهُمْ لِجَدِّي: أَيُّهَا المَلِكُ، أَعْفِنَا مِنْ مُلَاقَاةِ هَذِهِ النُّحُوسِ الدَّالَّةِ عَلَىٰ زَوَالِ هَذَا الدِّينِ المَسِيحِيِّ وَالمَذْهَبِ المَلِكَانِيِّ(6)، فَتَطَيَّرَ جَدِّي مِنْ ذَلِكَ تَطَيُّراً شَدِيداً، وَقَالَ

ص: 134


1- أي تُقبِّله.
2- في بعض النُّسَخ: (يوشعا).
3- في بعض النُّسَخ: (وأبرز هو من ملكه عرشاً مصنوعاً). والبهو: البيت المقدَّم أمام البيوت. وفي بعض النُّسَخ: (مصنوعاً) مكان (مسوغاً).
4- في بعض النُّسَخ: (تساقطت الصلبان).
5- في بعض النُّسَخ: (تفرَّقت الأعمدة)، وفي بعضها: (تقرَّضت).
6- الملكانيَّة أصحاب ملكا الذي ظهر بالروم واستولىٰ عليها. ومعظم الروم ملكانيَّة، قالوا: إنَّ الكلمة اتَّحدت بجسد المسيح. (الملل والنحل للشهرستاني: ج 1/ ص 222).

لِلْأَسَاقِفَةِ: أَقِيمُوا هَذِهِ الْأَعْمِدَةَ، وَارْفَعُوا الصُّلْبَانَ، وَأَحْضِرُوا أَخَا هَذَا المُدْبَرِ الْعَاثِرِ(1) المَنْكُوسِ جَدُّهُ لِأُزَوِّجَ مِنْهُ هَذِهِ الصَّبِيَّةَ فَيُدْفَعَ نُحُوسُهُ عَنْكُمْ بِسُعُودِهِ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ حَدَثَ عَلَىٰ الثَّانِي مَا حَدَثَ عَلَىٰ الْأَوَّلِ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ، وَقَامَ جَدِّي قَيْصَرُ مُغْتَمًّا وَدَخَلَ قَصْرَهُ وَأُرْخِيَتِ السُّتُورُ.

فَأُرِيتُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ كَأَنَّ المَسِيحَ وَالشَّمْعُونَ وَعِدَّةً مِنَ الْحَوَارِيِّينَ قَدِ اجْتَمَعُوا فِي قَصْرِ جَدِّي، وَنَصَبُوا فِيهِ مِنْبَراً يُبَارِي السَّمَاءَ عُلُوًّا(2) وَارْتِفَاعاً فِي المَوْضِعِ الَّذِي كَانَ جَدِّي نَصَبَ فِيهِ عَرْشَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ (صلی الله علیه و آله) مَعَ فِتْيَةٍ وَعِدَّةٍ مِنْ بَنِيهِ، فَيَقُومُ إِلَيْهِ المَسِيحُ فَيَعْتَنِقُهُ فَيَقُولُ: يَا رُوحَ اللهِ، إِنِّي جِئْتُكَ خَاطِباً مِنْ وَصِيِّكَ شَمْعُونَ فَتَاتَهُ مَلِيكَةَ لِابْنِي هَذَا - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَىٰ أَبِي مُحَمَّدٍ صَاحِبِ هَذَا الْكِتَابِ -، فَنَظَرَ المَسِيحُ إِلَىٰ شَمْعُونَ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَتَاكَ الشَّرَفُ، فَصِلْ رَحِمَكَ بِرَحِمِ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، فَصَعِدَ ذَلِكَ الْمِنْبَرَ وَخَطَبَ مُحَمَّدٌ (صلی الله علیه و آله) وَزَوَّجَنِي، وَشَهِدَ المَسِيحُ (علیه السلام) وَشَهِدَ بَنُو مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) وَالْحَوَارِيُّونَ.

فَلَمَّا اسْتَيْقَظْتُ مِنْ نَوْمِي أَشْفَقْتُ أَنْ أَقُصَّ هَذِهِ الرُّؤْيَا عَلَىٰ أَبِي وَجَدِّي مَخَافَةَ الْقَتْلِ، فَكُنْتُ أُسِرُّهَا فِي نَفْسِي وَلَا أُبْدِيهَا لَهُمْ، وَضَرَبَ صَدْرِي بِمَحَبَّةِ أَبِي مُحَمَّدٍ حَتَّىٰ امْتَنَعْتُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَضَعُفَتْ نَفْسِي وَدَقَّ شَخْصِي، وَمَرِضْتُ مَرَضاً شَدِيداً، فَمَا بَقِيَ مِنْ مَدَائِنِ الرُّومِ طَبِيبٌ إِلَّا أَحْضَرَهُ جَدِّي وَسَأَلَهُ عَنْ دَوَائِي، فَلَمَّا بَرَّحَ بِهِ الْيَأْسُ(3) قَالَ: يَا قُرَّةَ عَيْنِي، فَهَلْ تَخْطُرُ بِبَالِكِ شَهْوَةٌ فَأُزَوِّدَكِهَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا؟ فَقُلْتُ: يَا جَدِّي، أَرَىٰ أَبْوَابَ الْفَرَجِ عَلَيَّ مُغْلَقَةً، فَلَوْ كَشَفْتَ الْعَذَابَ عَمَّنْ فِي سِجْنِكَ مِنْ أُسَارَىٰ المُسْلِمِينَ، وَفَكَكْتَ عَنْهُمُ الْأَغْلَالَ، وَتَصَدَّقْتَ عَلَيْهِمْ وَمَنَنْتَهُمْ بِالْخَلَاصِ لَرَجَوْتُ أَنْ يَهَبَ المَسِيحُ وَأُمُّهُ لِي عَافِيَةً وَشِفَاءً.

ص: 135


1- في بعض النُّسَخ: (العابر)، وفي بحار الأنوار نقلاً عن الغيبة للطوسي: (العاهر).
2- يبارى السماء: أي يعارضها.
3- برَّح به الأمر تبريحاً: (جهده وأضرَّ به).

فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَدِّي تَجَلَّدْتُ فِي إِظْهَارِ الصِّحَّةِ فِي بَدَنِي وَتَنَاوَلْتُ يَسِيراً مِنَ الطَّعَامِ، فَسَرَّ بِذَلِكَ جَدِّي وَأَقْبَلَ عَلَىٰ إِكْرَامِ الْأُسَارَىٰ [وَ]إِعْزَازِهِمْ.

فَرَأَيْتُ أَيْضاً بَعْدَ أَرْبَعِ لَيَالٍ كَأَنَّ سَيِّدَةَ النِّسَاءِ قَدْ زَارَتْنِي وَمَعَهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَأَلْفُ وَصِيفَةٍ مِنْ وَصَائِفِ الْجِنَانِ، فَتَقُولُ لِي مَرْيَمُ: هَذِهِ سَيِّدَةُ النِّسَاءِ أُمُّ زَوْجِكِ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام)، فَأَتَعَلَّقُ بِهَا وَأَبْكِي وَأَشْكُو إِلَيْهَاامْتِنَاعَ أَبِي مُحَمَّدٍ مِنْ زِيَارَتِي، فَقَالَتْ لِي سَيِّدَةُ النِّسَاءِ J: إِنَّ ابْنِي أَبَا مُحَمَّدٍ لَا يَزُورُكِ وَأَنْتِ مُشْرِكَةٌ بِاللهِ وَعَلَىٰ مَذْهَبِ النَّصَارَىٰ(1)، وَهَذِهِ أُخْتِي مَرْيَمُ تَبْرَؤُ إِلَىٰ اللهِ تَعَالَىٰ مِنْ دِينِكِ، فَإِنْ مِلْتِ إِلَىٰ رِضَا اللهِ (عزوجل) وَرِضَا المَسِيحِ وَمَرْيَمَ عَنْكِ وَزِيَارَةِ أَبِي مُحَمَّدٍ إِيَّاكِ فَتَقُولِي: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ - أَبِي - مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، فَلَمَّا تَكَلَّمْتُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ ضَمَّتْنِي سَيِّدَةُ النِّسَاءِ إِلَىٰ صَدْرِهَا، فَطَيَّبَتْ لِي نَفْسِي، وَقَالَتِ: الْآنَ تَوَقَّعِي زِيَارَةَ أَبِي مُحَمَّدٍ إِيَّاكِ، فَإِنِّي مُنْفِذُهُ إِلَيْكِ، فَانْتَبَهْتُ وَأَنَا أَقُولُ: وَا شَوْقَاهْ إِلَىٰ لِقَاءِ أَبِي مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الْقَابِلَةُ جَاءَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ (علیه السلام) فِي مَنَامِي، فَرَأَيْتُهُ كَأَنِّي أَقُولُ لَهُ: جَفَوْتَنِي يَا حَبِيبِي بَعْدَ أَنْ شَغَلْتَ قَلْبِي بِجَوَامِعِ حُبِّكَ، قَالَ: مَا كَانَ تَأْخِيرِي عَنْكِ إِلَّا لِشِرْكِكِ، وَإِذْ قَدْ أَسْلَمْتِ فَإِنِّي زَائِرُكِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ إِلَىٰ أَنْ يَجْمَعَ اللهُ شَمْلَنَا فِي الْعَيَانِ، فَمَا قَطَعَ عَنِّي زِيَارَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَىٰ هَذِهِ الْغَايَةِ.

قَالَ بِشْرٌ: فَقُلْتُ لَهَا: وَكَيْفَ وَقَعْتِ فِي الْأَسْرِ(2)؟ فَقَالَتْ: أَخْبَرَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي أَنَّ جَدَّكِ سَيُسَرِّبُ(3) جُيُوشاً إِلَىٰ قِتَالِ المُسْلِمِينَ يَوْمَ كَذَا، ثُمَّ يَتْبَعُهُمْ فَعَلَيْكِ بِاللِّحَاقِ بِهِمْ مُتَنَكِّرَةً فِي زِيِّ الْخَدَمِ مَعَ عِدَّةٍ مِنَ الْوَصَائِفِ مِنْ طَرِيقِ كَذَا، فَفَعَلْتُ، فَوَقَعَتْ عَلَيْنَا طَلَائِعُ المُسْلِمِينَ حَتَّىٰ كَانَ مِنْ أَمْرِي مَا رَأَيْتَ وَمَا شَاهَدْتَ،

ص: 136


1- كذا، وفي بحار الأنوار وفي بعض النُّسَخ: (علىٰ دين مذهب النصارىٰ).
2- في بعض النُّسَخ: (وكيف صرتِ في الأُسارىٰ).
3- أي سيُرسِل. وفي بحار الأنوار عن الغيبة للطوسي: (سيسرُّ).

وَمَا شَعَرَ أَحَدٌ [بِي] بِأَنِّي ابْنَةُ مَلِكِ الرُّومِ إِلَىٰ هَذِهِ الْغَايَةِ سِوَاكَ، وَذَلِكَ بِاطِّلَاعِي إِيَّاكَ عَلَيْهِ، وَقَدْ سَأَلَنِي الشَّيْخُ الَّذِي وَقَعْتُ إِلَيْهِ فِي سَهْمِ الْغَنِيمَةِ عَنِ اسْمِي فَأَنْكَرْتُهُ وَقُلْتُ: نَرْجِسُ، فَقَالَ: اسْمُ الْجَوَارِي.

فَقُلْتُ: الْعَجَبُ أَنَّكِ رُومِيَّةٌ وَلِسَانُكِ عَرَبِيٌّ، قَالَتْ: بَلَغَ مِنْ وُلُوعِ جَدِّيوَحَمْلِهِ إِيَّايَ عَلَىٰ تَعَلُّمِ الْآدَابِ أَنْ أَوْعَزَ(1) إِلَيَّ امْرَأَةَ تَرْجُمَانٍ لَهُ فِي الْاِخْتِلَافِ إِلَيَّ، فَكَانَتْ تَقْصُدُنِي صَبَاحاً وَمَسَاءً وَتُفِيدُنِي الْعَرَبِيَّةَ حَتَّىٰ اسْتَمَرَّ عَلَيْهَا لِسَانِي وَاسْتَقَامَ.

قَالَ بِشْرٌ: فَلَمَّا انْكَفَأْتُ بِهَا إِلَىٰ سُرَّ مَنْ رَأَىٰ(2) دَخَلْتُ عَلَىٰ مَوْلَانَا أَبِي الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيِّ (علیه السلام)، فَقَالَ لَهَا: «كَيْفَ أَرَاكِ اللهُ عِزَّ الْإِسْلَامِ وَذُلَّ النَّصْرَانِيَّةِ وَشَرَفَ أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله)؟»، قَالَتْ: كَيْفَ أَصِفُ لَكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي؟ قَالَ: «فَإِنِّي أُرِيدُ(3) أَنْ أُكْرِمَكِ، فَأَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ أَمْ بُشْرَىٰ لَكِ فِيهَا شَرَفُ الْأَبَدِ؟»، قَالَتْ: بَلِ الْبُشْرَىٰ(4)، قَالَ (علیه السلام): «فَأَبْشِرِي بِوَلَدٍ يَمْلِكُ الدُّنْيَا شَرْقاً وَغَرْباً وَيَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً»، قَالَتْ: مِمَّنْ؟ قَالَ (علیه السلام): «مِمَّنْ خَطَبَكِ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) لَهُ مِنْ لَيْلَةِ كَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا بِالرُّومِيَّةِ»، قَالَتْ: مِنَ المَسِيحِ وَوَصِيِّهِ؟ قَالَ: «فَمِمَّنْ زَوَّجَكِ المَسِيحُ وَوَصِيُّهُ؟»، قَالَتْ: مِنِ ابْنِكَ أَبِي مُحَمَّدٍ، قَالَ: «فَهَلْ تَعْرِفِينَهُ؟»، قَالَتْ: وَهَلْ خَلَوْتُ لَيْلَةً مِنْ زِيَارَتِهِ إِيَّايَ مُنْذُ اللَّيْلَةِ الَّتِي أَسْلَمْتُ فِيهَا عَلَىٰ يَدِ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ أُمِّهِ؟

فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ (علیه السلام): «يَا كَافُورُ، ادْعُ لِي أُخْتِي حَكِيمَةَ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَالَ (علیه السلام) لَهَا: «هَا هِيَهْ»، فَاعْتَنَقَتْهَا طَوِيلاً وَسُرَّتْ بِهَا كَثِيراً، فَقَالَ لَهَا مَوْلَانَا: «يَا

ص: 137


1- أوعز إليه في كذا: تقدَّمه.
2- انكفأت: أي رجعت.
3- في بعض النُّسَخ: (أُحِبُّ).
4- في بعض النُّسَخ: (قالت: بل الشرف).

بِنْتَ رَسُولِ اللهِ، أَخْرِجِيهَا إِلَىٰ مَنْزِلِكِوَعَلِّمِيهَا الْفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ فَإِنَّهَا زَوْجَةُ أَبِي مُحَمَّدٍ وَأُمُّ الْقَائِمِ (علیه السلام)»(1)(2).

* * *

ص: 138


1- رواه الطبري (رحمة الله) في دلائل الإمامة (ص 489 - 496/ ح 488/92)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 208 - 214/ح 178)، والعلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 51/ص 6 - 10/ح 12).
2- سيأتي في (ص 144) ما ينافيه في الجملة. ونقلنا هناك في عدم التنافي كلاماً.

الباب الثاني والأربعون:

ما روي في ميلاد القائم صاحب الزمان حجَّة الله بن الحسن بن عليِّ ابن محمّد بن عليِّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليِّ بن الحسين ابن عليِّ بن أبي طالب (صلوات الله عليهم)

ص: 139

ص: 140

[1/370] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحُسَيْنُ بْنُ رِزْقِ اللهِ(1)، قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَىٰ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهم السلام)، قَالَ: حَدَّثَتْنِي حَكِيمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهم السلام)، قَالَتْ: بَعَثَ إِلَيَّ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ (علیهما السلام)، فَقَالَ: «يَا عَمَّةُ، اجْعَلِي إِفْطَارَكِ [هَذِهِ] اللَّيْلَةَ عِنْدَنَا فَإِنَّهَا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ سَيُظْهِرُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ الْحُجَّةَ، وَهُوَ حُجَّتُهُ فِي أَرْضِهِ»، قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهُ: وَمَنْ أُمُّهُ؟ قَالَ لِي: «نَرْجِسُ»، قُلْتُ لَهُ: جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ مَا بِهَا أَثَرٌ، فَقَالَ: «هُوَ مَا أَقُولُ لَكِ»، قَالَتْ: فَجِئْتُ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ وَجَلَسْتُ جَاءَتْ تَنْزِعُ خُفِّي وَقَالَتْ لِي: يَا سَيِّدَتِي [وَسَيِّدَةَ أَهْلِي]، كَيْفَ أَمْسَيْتِ؟ فَقُلْتُ: بَلْ أَنْتِ سَيِّدَتِي وَسَيِّدَةُ أَهْلِي، قَالَتْ: فَأَنْكَرَتْ قَوْلِي وَقَالَتْ: مَا هَذَا يَا عَمَّةُ؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهَا: يَا بُنَيَّةُ، إِنَّ اللهَ تَعَالَىٰ سَيَهَبُ لَكِ فِي لَيْلَتِكِ هَذِهِ غُلَاماً سَيِّداً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَتْ: فَخَجِلَتْ وَاسْتَحْيَتْ.

فَلَمَّا أَنْ فَرَغْتُ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ أَفْطَرْتُ وَأَخَذْتُ مَضْجَعِيفَرَقَدْتُ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ قُمْتُ إِلَىٰ الصَّلَاةِ، فَفَرَغْتُ مِنْ صَلَاتِي وَهِيَ نَائِمَةٌ لَيْسَ بِهَا حَادِثٌ، ثُمَّ جَلَسْتُ مُعَقِّبَةً، ثُمَّ اضْطَجَعْتُ ثُمَّ انْتَبَهْتُ فَزِعَةً وَهِيَ رَاقِدَةٌ، ثُمَّ قَامَتْ فَصَلَّتْ وَنَامَتْ.

ص: 141


1- كذا في النُّسَخ المصحَّحة، ولم أجده. وفي بعض النُّسَخ: (الحسين بن عبيد الله) وهو السعدي يُرمىٰ بالغلوِّ، وقال النجاشي في رجاله (ص 42/ الرقم 86): (له كُتُب صحيحة الحديث). وأمَّا موسىٰ بن محمّد فمهمل، ولم أجده إلَّا في عمدة الطالب (ص 125) في عقب القاسم بن حمزة بن موسىٰ (علیه السلام).

قَالَتْ حَكِيمَةُ: وَخَرَجْتُ أَتَفَقَّدُ الْفَجْرَ، فَإِذَا أَنَا بِالْفَجْرِ الْأَوَّلِ كَذَنَبِ السِّرْحَانِ وَهِيَ نَائِمَةٌ، فَدَخَلَنِي الشُّكُوكُ، فَصَاحَ بِي أَبُو مُحَمَّدٍ (علیه السلام) مِنَ المَجْلِسِ فَقَالَ: «لَا تَعْجَلِي يَا عَمَّةُ، فَهَاكِ الْأَمْرُ قَدْ قَرُبَ»، قَالَتْ: فَجَلَسْتُ وَقَرَأْتُ الم السَّجْدَةَ وَيس، فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ إِذِ انْتَبَهَتْ فَزِعَةً، فَوَثَبْتُ إِلَيْهَا فَقُلْتُ: اسْمُ اللهِ عَلَيْكِ، ثُمَّ قُلْتُ لَهَا: أَتَحِسِّينَ شَيْئاً؟ قَالَتْ: نَعَمْ يَا عَمَّةُ، فَقُلْتُ لَهَا: اجْمَعِي نَفْسَكِ وَاجْمَعِي قَلْبَكِ، فَهُوَ مَا قُلْتُ لَكِ، قَالَتْ: فَأَخَذَتْنِي فَتْرَةٌ وَأَخَذَتْهَا فَتْرَةٌ، فَانْتَبَهْتُ بِحِسِّ سَيِّدِي، فَكَشَفْتُ الثَّوْبَ عَنْهُ، فَإِذَا أَنَا بِهِ (علیه السلام) سَاجِداً يَتَلَقَّىٰ الْأَرْضَ بِمَسَاجِدِهِ، فَضَمَمْتُهُ إِلَيَّ، فَإِذَا أَنَا بِهِ نَظِيفٌ مُتَنَظِّفٌ، فَصَاحَ بِي أَبُو مُحَمَّدٍ (علیه السلام): «هَلُمِّي إِلَيَّ ابْنِي يَا عَمَّةُ»، فَجِئْتُ بِهِ إِلَيْهِ، فَوَضَعَ يَدَيْهِ تَحْتَ أَلْيَتَيْهِ وَظَهْرِهِ، وَوَضَعَ قَدَمَيْهِ عَلَىٰ صَدْرِهِ، ثُمَّ أَدْلَىٰ لِسَانَهُ فِي فِيهِ، وَأَمَرَّ يَدَهُ عَلَىٰ عَيْنَيْهِ وَسَمْعِهِ وَمَفَاصِلِهِ، ثُمَّ قَالَ: «تَكَلَّمْ يَا بُنَيَّ»، فَقَالَ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله)»، ثُمَّ صَلَّىٰ عَلَىٰ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ وَعَلَىٰ الْأَئِمَّةِ (علیهم السلام) إِلَىٰ أَنْ وَقَفَ عَلَىٰ أَبِيهِ، ثُمَّ أَحْجَمَ(1).

ثُمَّ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ (علیه السلام): «يَا عَمَّةُ، اذْهَبِي بِهِ إِلَىٰ أُمِّهِ لِيُسَلِّمَ عَلَيْهَا وَأْتِينِي بِهِ»، فَذَهَبْتُ بِهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهَا وَرَدَدْتُهُ فَوَضَعْتُهُ فِي المَجْلِسِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا عَمَّةُ، إِذَا كَانَ يَوْمُ السَّابِعِ فَأْتِينَا»، قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ جِئْتُ لِأُسَلِّمَ عَلَىٰ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام)، وَكَشَفْتُ السِّتْرَ لِأَتَفَقَّدَ سَيِّدِي (علیهالسلام)، فَلَمْ أَرَهُ، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا فَعَلَ سَيِّدِي؟ فَقَالَ: «يَا عَمَّةُ، اسْتَوْدَعْنَاهُ الَّذِي اسْتَوْدَعَتْهُ أُمُّ مُوسَىٰ مُوسَىٰ (علیه السلام)».

قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ جِئْتُ فَسَلَّمْتُ وَجَلَسْتُ، فَقَالَ: «هَلُمِّي إِلَيَّ ابْنِي»، فَجِئْتُ بِسَيِّدِي (علیه السلام) وَهُوَ فِي الْخِرْقَةِ، فَفَعَلَ بِهِ كَفَعْلَتِهِ الْأُولَىٰ، ثُمَّ أَدْلَىٰ لِسَانَهُ فِي فِيهِ كَأَنَّهُ يُغَذِّيهِ لَبَناً أَوْ عَسَلاً، ثُمَّ قَالَ: «تَكَلَّمْ يَا بُنَيَّ»، فَقَالَ: «أَشْهَدُ

ص: 142


1- أي سكت. أحجم عنه: أي كفَّ ونكص هيبةً.

أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»، وَثَنَّىٰ بِالصَّلَاةِ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَعَلَىٰ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ وَعَلَىٰ الْأَئِمَّةِ الطَّاهِرِينَ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ) حَتَّىٰ وَقَفَ عَلَىٰ أَبِيهِ (علیه السلام)، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَىٰ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ 5 وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ 6» [القَصص: 5 و6]، قَالَ مُوسَىٰ: فَسَأَلْتُ عُقْبَةَ الْخَادِمَ عَنْ هَذِهِ، فَقَالَتْ: صَدَقَتْ حَكِيمَةُ(1).

[2/371] حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِدْرِيسَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ عَبْدِ اللهِ الطُّهَوِيُّ(2)، قَالَ: قَصَدْتُ حَكِيمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ (علیه السلام) بَعْدَ مُضِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام) أَسْأَلُهَا عَنِ الْحُجَّةِ وَمَا قَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْحَيْرَةِ الَّتِي هُمْ فِيهَا، فَقَالَتْ لِي: اجْلِسْ، فَجَلَسْتُ،ثُمَّ قَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ لَا يُخْلِي الْأَرْضَ مِنْ حُجَّةٍ نَاطِقَةٍ أَوْ صَامِتَةٍ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا فِي أَخَوَيْنِ بَعْدَ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ (علیهما السلام)، تَفْضِيلاً لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، وَتَنْزِيهاً لَهُمَا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ عَدِيلُهُمَا، إِلَّا أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ خَصَّ وُلْدَ الْحُسَيْنِ بِالْفَضْلِ عَلَىٰ وُلْدِ الْحَسَنِ(علیهما السلام)، كَمَا خَصَّ وُلْدَ هَارُونَ عَلَىٰ وُلْدِ مُوسَىٰ (علیه السلام)، وَإِنْ كَانَ مُوسَىٰ حُجَّةً عَلَىٰ هَارُونَ، وَالْفَضْلُ لِوُلْدِهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا بُدَّ لِلْأُمَّةِ مِنْ حَيْرَةٍ يَرْتَابُ فِيهَا المُبْطِلُونَ وَيَخْلُصُ فِيهَا المُحِقُّونَ، كَيْ لَا يَكُونَ لِلْخَلْقِ عَلَىٰ اللهِ حُجَّةٌ، وَإِنَّ الْحَيْرَةَ لَا بُدَّ وَاقِعَةٌ بَعْدَ مُضِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ (علیه السلام)، فَقُلْتُ: يَا مَوْلَاتِي، هَلْ كَانَ لِلْحَسَنِ (علیه السلام) وَلَدٌ؟

ص: 143


1- رواه الفتَّال (رحمة الله) في روضة الواعظين (ص 256 و257)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 214 - 217).
2- في بعض النُّسَخ: (الطهوي)، وفي بعضها: (الظهري)، وفي بعضها: (الزهري)، وفي بعضها: (المطهَّري)، وفي بعضها: (الطهري)، ولم أجد بهذه العناوين في أصحاب الهادي (علیه السلام) أحداً، نعم ذُكِرَ الطهومي في جامع الرواة (ج 2/ ص 142) من أصحاب الرضا (علیه السلام)، لكن حاله مجهول.

فَتَبَسَّمَتْ ثُمَّ قَالَتْ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْحَسَنِ (علیه السلام) عَقِبٌ فَمَنِ الْحُجَّةُ مِنْ بَعْدِهِ وَقَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنَّهُ لَا إِمَامَةَ لِأَخَوَيْنِ بَعْدَ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ (علیهما السلام)، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدَتِي، حَدِّثِينِي بِوِلَادَةِ مَوْلَايَ وَغَيْبَتِهِ (علیه السلام)، قَالَتْ: نَعَمْ، كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا: نَرْجِسُ، فَزَارَنِي ابْنُ أَخِي، فَأَقْبَلَ يَحْدِقُ النَّظَرَ إِلَيْهَا، فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَيِّدِي، لَعَلَّكَ هَوِيتَهَا فَأُرْسِلُهَا إِلَيْكَ؟ فَقَالَ لَهَا: «لَا يَا عَمَّةُ، وَلَكِنِّي أَتَعَجَّبُ مِنْهَا»، فَقُلْتُ: وَمَا أَعْجَبَكَ [مِنْهَا]؟ فَقَالَ (علیه السلام): «سَيَخْرُجُ مِنْهَا وَلَدٌ كَرِيمٌ عَلَىٰ اللهِ (عزوجل) الَّذِي يَمْلَأُ اللهُ بِهِ الْأَرْضَ عَدْلاً وَقِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»، فَقُلْتُ: فَأُرْسِلُهَا إِلَيْكَ يَا سَيِّدِي؟ فَقَالَ: «اسْتَأْذِنِي فِي ذَلِكَ أَبِي (علیه السلام)»، قَالَتْ: فَلَبِسْتُ ثِيَابِي وَأَتَيْتُ مَنْزِلَ أَبِي الْحَسَنِ (علیه السلام)، فَسَلَّمْتُ وَجَلَسْتُ، فَبَدَأَنِي (علیه السلام) وَقَالَ: «يَا حَكِيمَةُ، ابْعَثِي نَرْجِسَ إِلَىٰ ابْنِي أَبِي مُحَمَّدٍ»، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي(1)، عَلَىٰ هَذَا قَصَدْتُكَ، عَلَىٰ أَنْأَسْتَأْذِنَكَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لِي: «يَا مُبَارَكَةُ، إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ أَحَبَّ أَنْ يُشْرِكَكِ فِي الْأَجْرِ وَيَجْعَلَ لَكِ فِي الْخَيْرِ نَصِيباً»، قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ رَجَعْتُ إِلَىٰ مَنْزِلِي وَزَيَّنْتُهَا وَوَهَبْتُهَا لِأَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام)، وَجَمَعْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فِي مَنْزِلِي، فَأَقَامَ عِنْدِي أَيَّاماً، ثُمَّ مَضَىٰ إِلَىٰ وَالِدِهِ (علیهما السلام)، وَوَجَّهْتُ بِهَا مَعَهُ.

قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَمَضَىٰ أَبُو الْحَسَنِ (علیه السلام)، وَجَلَسَ أَبُو مُحَمَّدٍ (علیه السلام) مَكَانَ وَالِدِهِ، وَكُنْتُ أَزُورُهُ كَمَا كُنْتُ أَزُورُ وَالِدَهُ، فَجَاءَتْنِي نَرْجِسُ يَوْماً تَخْلَعُ خُفِّي، فَقَالَتْ: يَا مَوْلَاتِي، نَاوِلِينِي خُفَّكِ، فَقُلْتُ: بَلْ أَنْتِ سَيِّدَتِي وَمَوْلَاتِي، وَاللهِ لَا أَدْفَعُ إِلَيْكِ خُفِّي لِتَخْلَعِيهِ، وَلَا لِتَخْدُمِينِي، بَلْ أَنَا أَخْدُمُكِ عَلَىٰ بَصَرِي، فَسَمِعَ أَبُو مُحَمَّدٍ (علیه السلام) ذَلِكَ، فَقَالَ: «جَزَاكِ اللهُ يَا عَمَّةُ خَيْراً»، فَجَلَسْتُ عِنْدَهُ إِلَىٰ وَقْتِ غُرُوبِ

ص: 144


1- قيل: لا منافاة بين هذا الحديث والذي سبق، لأنَّ في الذي سبق قال (علیه السلام): «يا بنت رسول الله أخرجيها وعلِّميها الفرائض والسُّنَن فإنَّها زوجة أبي محمّد وأُمُّ القائم (علیه السلام)»، فكانت هي عند حكيمة في تلك الحالة حتَّىٰ اشتهرت بجارية حكيمة وجرىٰ الأمر بعد كما في هذا الخبر.

الشَّمْسِ، فَصِحْتُ بِالْجَارِيَةِ وَقُلْتُ: نَاوِلِينِي ثِيَابِي لِأَنْصَرِفَ، فَقَالَ (علیه السلام): «لَا يَا عَمَّتَا بِيتِيَ اللَّيْلَةَ عِنْدَنَا فَإِنَّهُ سَيُولَدُ اللَّيْلَةَ المَوْلُودُ الْكَرِيمُ عَلَىٰ اللهِ (عزوجل) الَّذِي يُحْيِي اللهُ (عزوجل) بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها»، فَقُلْتُ: مِمَّنْ يَا سَيِّدِي؟ وَلَسْتُ أَرَىٰ بِنَرْجِسَ شَيْئاً مِنْ أَثَرِ الْحَبَلِ، فَقَالَ: «مِنْ نَرْجِسَ لَا مِنْ غَيْرِهَا»، قَالَتْ: فَوَثَبْتُ إِلَيْهَا فَقَلَبْتُهَا ظَهْراً لِبَطْنٍ فَلَمْ أَرَ بِهَا أَثَرَ حَبَلٍ، فَعُدْتُ إِلَيْهِ (علیه السلام) فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا فَعَلْتُ، فَتَبَسَّمَ ثُمَّ قَالَ لِي: «إِذَا كَانَ وَقْتُ الْفَجْرِ يَظْهَرُ لَكِ بِهَا الْحَبَلُ، لِأَنَّ مَثَلَهَا مَثَلُ أُمِّ مُوسَىٰ (علیه السلام) لَمْ يَظْهَرْ بِهَا الْحَبَلُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا أَحَدٌ إِلَىٰ وَقْتِ وِلَادَتِهَا، لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَشُقُّ بُطُونَ الْحُبَالَي فِي طَلَبِ مُوسَىٰ (علیه السلام)، وَهَذَا نَظِيرُ مُوسَىٰ (علیه السلام)».قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَعُدْتُ إِلَيْهَا فَأَخْبَرْتُهَا بِمَا قَالَ، وَسَأَلْتُهَا عَنْ حَالِهَا، فَقَالَتْ: يَا مَوْلَاتِي، مَا أَرَىٰ بِي شَيْئاً مِنْ هَذَا، قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَلَمْ أَزَلْ أَرْقُبُهَا إِلَىٰ وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَهِيَ نَائِمَةٌ بَيْنَ يَدَيَّ لَا تَقْلِبُ جَنْباً إِلَىٰ جَنْبٍ حَتَّىٰ إِذَا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ وَقْتُ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَثَبَتْ فَزِعَةً، فَضَمَمْتُهَا إِلَىٰ صَدْرِي وَسَمَّيْتُ عَلَيْهَا(1)، فَصَاحَ [إِلَيَّ] أَبُو مُحَمَّدٍ (علیه السلام) وَقَالَ: «اقْرَئِي عَلَيْهَا «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ 1»»، فَأَقْبَلْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهَا، وَقُلْتُ لَهَا: مَا حَالُكِ؟ قَالَتْ: ظَهَرَ [بِيَ] الْأَمْرُ الَّذِي أَخْبَرَكِ بِهِ مَوْلَايَ، فَأَقْبَلْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهَا كَمَا أَمَرَنِي، فَأَجَابَنِي الْجَنِينُ مِنْ بَطْنِهَا يَقْرَأُ مِثْلَ مَا أَقْرَأُ، وَسَلَّمَ عَلَيَّ.

قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَفَزِعْتُ لِمَا سَمِعْتُ، فَصَاحَ بِي أَبُو مُحَمَّدٍ (علیه السلام): «لَا تَعْجَبِي مِنْ أَمْرِ اللهِ (عزوجل)، إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ يُنْطِقُنَا بِالْحِكْمَةِ صِغَاراً، وَيَجْعَلُنَا حُجَّةً فِي أَرْضِهِ كِبَاراً»، فَلَمْ يَسْتَتِمَّ الْكَلَامَ حَتَّىٰ غِيبَتْ عَنِّي نَرْجِسُ فَلَمْ أَرَهَا كَأَنَّهُ ضُرِبَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا حِجَابٌ، فَعَدَوْتُ نَحْوَ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام) وَأَنَا صَارِخَةٌ، فَقَالَ لِي: «ارْجِعِي يَا عَمَّةُ فَإِنَّكِ سَتَجِدِيهَا فِي مَكَانِهَا».

قَالَتْ: فَرَجَعْتُ، فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ كُشِفَ الْغِطَاءُ الَّذِي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا، وَإِذَا أَنَا

ص: 145


1- يعني: قلت: اسم الله عليك، كما مرَّ في الحديث السابق.

بِهَا وَعَلَيْهَا مِنْ أَثَرِ النُّورِ مَا غَشِيَ بَصَرِي، وَإِذَا أَنَا بِالصَّبِيِّ (علیه السلام) سَاجِداً لِوَجْهِهِ(1) جَاثِياً عَلَىٰ رُكْبَتَيْهِ رَافِعاً سَبَّابَتَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، [وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ]، وَأَنَّ جَدِّي مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَأَنَّ أَبِي أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ»، ثُمَّ عَدَّ إِمَاماً إِمَاماً إِلَىٰ أَنْ بَلَغَ إِلَىٰ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ(2):«اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، وَأَتْمِمْ لِي أَمْرِي، وَثَبِّتْ وَطْأَتِي، وَامْلَإِ الْأَرْضَ بِي عَدْلاً وَقِسْطاً».

فَصَاحَ بِي أَبُو مُحَمَّدٍ (علیه السلام)، فَقَالَ: «يَا عَمَّةُ، تَنَاوَلِيهِ وَهَاتِيهِ»، فَتَنَاوَلْتُهُ وَأَتَيْتُ بِهِ نَحْوَهُ، فَلَمَّا مَثَلْتُ بَيْنَ يَدَيْ أَبِيهِ وَهُوَ عَلَىٰ يَدَيَّ سَلَّمَ عَلَىٰ أَبِيهِ، فَتَنَاوَلَهُ الْحَسَنُ (علیه السلام) مِنِّي، [وَالطَّيْرُ تُرَفْرِفُ عَلَىٰ رَأْسِهِ]، وَنَاوَلَهُ لِسَانَهُ فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: «امْضِي بِهِ إِلَىٰ أُمِّهِ لِتُرْضِعَهُ وَرُدِّيهِ إِلَيَّ»، قَالَتْ: فَتَنَاوَلْتُهُ أُمَّهُ فَأَرْضَعَتْهُ، فَرَدَدْتُهُ إِلَىٰ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام) وَالطَّيْرُ تُرَفْرِفُ عَلَىٰ رَأْسِهِ، فَصَاحَ بِطَيْرٍ مِنْهَا فَقَالَ لَهُ: «احْمِلْهُ وَاحْفَظْهُ وَرُدَّهُ إِلَيْنَا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْماً»، فَتَنَاوَلَهُ الطَّيْرُ وَطَارَ بِهِ فِي جَوِّ السَّمَاءِ وَاتَّبَعَهُ سَائِرُ الطَّيْرِ، فَسَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ (علیه السلام) يَقُولُ: «أَسْتَوْدِعُكَ اللهَ الَّذِي أَوْدَعَتْهُ أُمُّ مُوسَىٰ مُوسَىٰ»، فَبَكَتْ نَرْجِسُ، فَقَالَ لَهَا: «اسْكُتِي فَإِنَّ الرَّضَاعَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ ثَدْيِكِ، وَسَيُعَادُ إِلَيْكِ كَمَا رُدَّ مُوسَىٰ إِلَىٰ أُمِّهِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ (عزوجل): «فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ» [القَصص: 13]».

قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا الطَّيْرُ؟ قَالَ: «هَذَا رُوحُ الْقُدُسِ المُوَكَّلُ بِالْأَئِمَّةِ (علیهم السلام) يُوَفِّقُهُمْ وَيُسَدِّدُهُمْ وَيُرَبِّيهِمْ بِالْعِلْمِ(3)».

قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْماً رُدَّ الْغُلَامُ، وَوُجِّهَ إِلَيَّ ابْنِ أَخِي(علیه السلام) فَدَعَانِي، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَنَا بِالصَّبِيِّ مُتَحَرِّكٌ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي،

ص: 146


1- في بعض النُّسَخ: (علىٰ وجهه).
2- في بعض النُّسَخ: (فقال (علیه السلام)).
3- في بعض النُّسَخ: (يُزيِّنهم بالعلم).

هَذَا ابْنُ سَنَتَيْنِ، فَتَبَسَّمَ (علیه السلام)، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ أَوْلَادَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ إِذَا كَانُوا أَئِمَّةً يَنْشَؤُونَ بِخِلَافِ مَا يَنْشَؤُ غَيْرُهُمْ، وَإِنَّ الصَّبِيَّ مِنَّا إِذَا كَانَ أَتَىٰ عَلَيْهِ شَهْرٌ كَانَ كَمَنْ أَتَىٰ عَلَيْهِ سَنَةٌ،وَإِنَّ الصَّبِيَّ مِنَّا لَيَتَكَلَّمُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْبُدُ رَبَّهُ (عزوجل)، [وَ]عِنْدَ الرَّضَاعِ تُطِيعُهُ المَلَائِكَةُ وَتَنْزِلُ عَلَيْهِ صَبَاحاً وَمَسَاءً».

قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَلَمْ أَزَلْ أَرَىٰ ذَلِكَ الصَّبِيَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْماً إِلَىٰ أَنْ رَأَيْتُهُ رَجُلاً(1) قَبْلَ مُضِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام) بِأَيَّامٍ قَلَائِلَ فَلَمْ أَعْرِفْهُ، فَقُلْتُ لِابْنِ أَخِي (علیه السلام): مَنْ هَذَا الَّذِي تَأْمُرُنِي أَنْ أَجْلِسَ بَيْنَ يَدَيْهِ؟ فَقَالَ لِي: «هَذَا ابْنُ نَرْجِسَ، وَهَذَا خَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي، وَعَنْ قَلِيلٍ تَفْقِدُونِّي، فَاسْمَعِي لَهُ وَأَطِيعِي».

قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَمَضَىٰ أَبُو مُحَمَّدٍ (علیه السلام) بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ قَلَائِلَ، وَافْتَرَقَ النَّاسُ كَمَا تَرَىٰ، وَوَاللهِ إِنِّي لَأَرَاهُ صَبَاحاً وَمَسَاءً، وَإِنَّهُ لَيُنْبِئُنِي عَمَّا تَسْأَلُونَ عَنْهُ فَأُخْبِرُكُمْ، وَوَاللهِ إِنِّي لَأُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنِ الشَّيْءِ فَيَبْدَأُنِي بِهِ، وَإِنَّهُ لَيَرُدُّ عَلَيَّ الْأَمْرَ فَيَخْرُجُ إِلَيَّ مِنْهُ جَوَابُهُ مِنْ سَاعَتِهِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَتِي، وَقَدْ أَخْبَرَنِي الْبَارِحَةَ بِمَجِيئِكَ إِلَيَّ وَأَمَرَنِي أَنْ أُخْبِرَكَ بِالْحَقِّ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: فَوَاللهِ لَقَدْ أَخْبَرَتْنِي حَكِيمَةُ بِأَشْيَاءَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا أَحَدٌ إِلَّا اللهُ (عزوجل)، فَعَلِمْتُ أَنَّ ذَلِكَ صِدْقٌ وَعَدْلٌ مِنَ اللهِ (عزوجل)، لِأَنَّ اللهَ (عزوجل) قَدْ أَطْلَعَهُ عَلَىٰ مَا لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ (2).

[3/372] حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُورٍ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ مُعَلَّىٰ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَصْرِيِّ(3)، قَالَ: خَرَجَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام) حِينَ قُتِلَ الزُّبَيْرِيُّ: «هَذَا جَزَاءُ مَنِ افْتَرَىٰعَلَىٰ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ فِي أَوْلِيَائِهِ، زَعَمَ أَنَّهُ

ص: 147


1- فيه غرابة، لأنَّ كلَّ من رآه (علیه السلام) في أيَّام أبيه رآه وهو صبيٌّ.
2- رواه الفتَّال (رحمة الله) في روضة الواعظين (ص 257 - 260).
3- كذا في جميع النُّسَخ، وقد سقط هنا: (عن أحمد بن محمّد بن عبد الله) كما في الكافي والإرشاد.

يَقْتُلُنِي وَلَيْسَ لِي عَقِبٌ، فَكَيْفَ رَأَىٰ قُدْرَةَ اللهِ (عزوجل)؟»، وَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ وَسَمَّاهُ (م ح م د) سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ (1)(2).

[4/373] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِصَامٍ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكُلَيْنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: وُلِدَ الصَّاحِبُ (علیه السلام) لِلنِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ (3).

[5/374] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ (رضی الله عنهما)، قَالَ-[ا]: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُوسَىٰبْنِ جَعْفَرٍ (علیهما السلام)، عَنِ السَّيَّارِيِّ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي نَسِيمٌ وَمَارِيَةُ، قَالَتَا: إِنَّهُ لَمَّا سَقَطَ صَاحِبُ الزَّمَانِ (علیه السلام) مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ جَاثِياً عَلَىٰ رُكْبَتَيْهِ، رَافِعاً سَبَّابَتَيْهِ إِلَىٰ السَّمَاءِ، ثُمَّ عَطَسَ فَقَالَ: «الْحَمْدُ

ص: 148


1- رواه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 514/ باب مولد الصاحب (علیه السلام)/ ح 1)، والمفيد (رحمة الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 349)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 231/ ح 198).
2- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 51/ ص 4): (بيان: ربَّما يُجمَع بينه وبين ما ورد من خمس وخمسين بكون السنة في هذا الخبر ظرفاً ل (خرج) أو (قُتِلَ). أو إحداهما علىٰ الشمسيَّة والأُخرىٰ علىٰ القمريَّة)، قال محقِّق البحار: (ولكن الأخير غير صحيح لأنَّ السنة القمريَّة في خمس وخمسين ومائتي سنة يزيد علىٰ السنة الشمسية بسبع سنوات لا بسنة واحدة. فكانت السنة الشمسيَّة سنة تسع وأربعين ومائتين، والقمريَّة ستّ وخمسين ومائتين). وقال (رحمة الله) في مرآة العقول (ج 6/ ص 171): (وكان الزبيري كان من أولاد الزبير، ولم نعثر علىٰ قصَّة قتله وتعيين شخصه. (ووُلِدَ له) كلام أحمد، وإنَّما أتىٰ بالحروف المقطَّعة لتحريم التسمية، وقوله: (سنة ستّ) يخالف التاريخ المذكور في العنوان، وقد يُتكلَّف بجعله ظرفاً لخرج، أو قتل، وقد يُجمَع بينهما بحمل إحداهما علىٰ الشمسيَّة والأُخرىٰ علىٰ القمريَّة).
3- كذا، ولم أجده في الكافي، غير أنَّ فيه بعد عنوان الباب بدون ذكر السند هكذا: (وُلِدَ (علیه السلام) للنصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين) (الكافي: ج 1/ ص 514/ باب مولد الصاحب (علیه السلام)).

لِلهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، وَصَلَّىٰ اللهُ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، زَعَمَتِ الظَّلَمَةُ أَنَّ حُجَّةَ اللهِ دَاحِضَةٌ، لَوْ أُذِنَ لَنَا فِي الْكَلَامِ لَزَالَ الشَّكُ»(1).

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ: وَحَدَّثَتْنِي نَسِيمٌ خَادِمُ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام)، قَالَتْ: قَالَ لِي صَاحِبُ الزَّمَانِ (علیه السلام) وَقَدْ دَخَلْتُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْلِدِهِ بِلَيْلَةٍ، فَعَطَسْتُ عِنْدَهُ، فَقَالَ لِي: «يَرْحَمُكِ اللهُ»، قَالَتْ نَسِيمٌ: فَفَرِحْتُ بِذَلِكَ، فَقَالَ لِي (علیه السلام): «أَلَا أُبَشِّرُكِ فِي الْعُطَاسِ؟»، فَقُلْتُ: بَلَىٰ [يَا مَوْلَايَ]، فَقَالَ: «هُوَ أَمَانٌ مِنَ المَوْتِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ»(2).

[6/375] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَاجِيلَوَيْهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ (رضی الله عنهم)، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ رِيَاحٍ الْبَصْرِيُّ(3)، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْعَمْرِيِّ، قَالَ: لَمَّا وُلِدَ السَّيِّدُ (علیه السلام) قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ (علیه السلام): «ابْعَثُوا إِلَىٰ أَبِي عَمْرٍو(4)»، فَبُعِثَ إِلَيْهِ، فَصَارَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: اشْتَرِ عَشَرَةَ آلَافِ رِطْلِ خُبْزٍ، وَعَشَرَةَ آلَافِ رِطْلِ لَحْمٍ، وَفَرِّقْهُ - أَحْسَبُهُ قَالَ: عَلَىٰ بَنِي هَاشِمٍ -، وَعُقَّ عَنْهُ بِكَذَا وَكَذَا شَاةً»(5).

[7/376] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَامُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَلِيٍّ الْخَيْزَرَانِيُ، عَنْ جَارِيَةٍ لَهُ كَانَ أَهْدَاهَا لِأَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام)، فَلَمَّا أَغَارَ جَعْفَرٌ الْكَذَّابُ عَلَىٰ الدَّارِ جَاءَتْهُ فَارَّةً مِنْ جَعْفَرٍ، فَتَزَوَّجَ بِهَا.

قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: فَحَدَّثَتْنِي أَنَّهَا حَضَرَتْ وِلَادَةَ السَّيِّدِ (علیه السلام)، وَأَنَّ اسْمَ أُمِّ السَّيِّدِ: صَقِيلُ، وَأَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ (علیه السلام) حَدَّثَهَا بِمَا يَجْرِي عَلَىٰ عِيَالِهِ، فَسَأَلَتْهُ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ (عزوجل) لَهَا

ص: 149


1- روىٰ قريباً منه الطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 244 و245/ ح 211).
2- رواه الطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 232/ ح 200).
3- مهمل. وفي بعض النُّسَخ: (إسحاق بن نوح)، وفي بعضها: (إسحاق بن روح)، ولم أجده.
4- يعني عثمان بن سعيد.
5- رواه الفتَّال (رحمة الله) في روضة الواعظين (ص 260).

أَنْ يُجْعَلَ مَنِيَّتُهَا قَبْلَهُ، فَمَاتَتْ فِي حَيَاةِ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام)(1)، وَعَلَىٰ قَبْرِهَا لَوْحٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ: هَذَا قَبْرُ أُمِّ مُحَمَّدٍ.

قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَسَمِعْتُ هَذِهِ الْجَارِيَةَ تَذْكُرُ أَنَّهُ لَمَّا وُلِدَ السَّيِّدُ (علیه السلام) رَأَتْ لَهَا نُوراً سَاطِعاً قَدْ ظَهَرَ مِنْهُ وَبَلَغَ أُفُقَ السَّمَاءِ، وَرَأَتْ طُيُوراً بَيْضَاءَ تَهْبِطُ مِنَ السَّمَاءِ وَتَمْسَحُ أَجْنِحَتَهَا عَلَىٰ رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَسَائِرِ جَسَدِهِ ثُمَّ تَطِيرُ، فَأَخْبَرْنَا أَبَا مُحَمَّدٍ (علیه السلام) بِذَلِكَ، فَضَحِكَ ثُمَّ قَالَ: «تِلْكَ مَلَائِكَةٌ نَزَلَتْ لِلتَّبَرُّكِ بِهَذَا المَوْلُودِ، وَهِيَ أَنْصَارُهُ إِذَا خَرَجَ».

[8/377] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ ابْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْعَلَوِيُّ، عَنْ أَبِي غَانِمٍ الْخَادِمِ، قَالَ: وُلِدَ لِأَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام) وَلَدٌ فَسَمَّاهُ مُحَمَّداً، فَعَرَضَهُ عَلَىٰ أَصْحَابِهِ يَوْمَ الثَّالِثِ، وَقَالَ: «هَذَا صَاحِبُكُمْ مِنْ بَعْدِي، وَخَلِيفَتِي عَلَيْكُمْ، وهُوَ الْقَائِمُ الَّذِي تَمْتَدُّ إِلَيْهِ الْأَعْنَاقُ بِالْاِنْتِظَارِ، فَإِذَا امْتَلَأَتِ الْأَرْضُ جَوْراً وَظُلْماً خَرَجَ فَمَلَأَهَا قِسْطاً وَعَدْلاً».

[9/378] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْفَرَجِ(2) المُؤَذِّنُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هَارُونَ - رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِنَا - يَقُولُ: رَأَيْتُ صَاحِبَ الزَّمَانِ (علیه السلام)، وَكَانَ مَوْلِدُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ.

[10/379] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْكُوفِيُ أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ (علیه السلام) بَعَثَ إِلَىٰ بَعْضِ مَنْ سَمَّاهُ لِي بِشَاةٍ مَذْبُوحَةٍ، وَقَالَ: «هَذِهِ مِنْ عَقِيقَةِ ابْنِي مُحَمَّدٍ».

[11/380] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ

ص: 150


1- موتها قبل وفاة أبي محمّد مخالف لما سيجيء في الباب الآتي (باب ذكر من شاهد القائم (علیه السلام))، ولم أجد في غيره من الأحاديث أو التواريخ وفاتها قبل أبي محمّد (علیه السلام).
2- في بعض النُّسَخ: (عليُّ بن الحسين بن الفرج).

يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ المُنْذِرِ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي الْفَتْحِ، قَالَ: جَاءَنِي يَوْماً فَقَالَ لِيَ: الْبِشَارَةُ، وُلِدَ الْبَارِحَةَ فِي الدَّارِ مَوْلُودٌ لِأَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام) وَأَمَرَ بِكِتْمَانِهِ، قُلْتُ: وَمَا اسْمُهُ؟ قَالَ: سُمِّيَ بِمُحَمَّدٍ، وَكُنِّيَ بِجَعْفَرٍ(1).

[12/381] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ ابْنُ عَلِيِّ بْنِ زَكَرِيَّا بِمَدِينَةِ السَّلَامِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَلِيلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ غِيَاثِ بْنِ أَسِيدٍ، قَالَ: وُلِدَ الْخَلَفُ المَهْدِيُّ (علیه السلام) يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأُمُّهُ رَيْحَانَةُ، وَيُقَالُ لَهَا:نَرْجِسُ، وَيُقَالُ: صَقِيلُ، وَيُقَالُ: سَوْسَنُ، إِلَّا أَنَّهُ قِيلَ لِسَبَبِ الْحَمْلِ: صَقِيلُ(2)، وَكَانَ مَوْلِدُهُ (علیه السلام) لِثَمَانِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَوَكِيلُهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، فَلَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ أَوْصَىٰ إِلَىٰ ابْنِهِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، وَأَوْصَىٰ أَبُو جَعْفَرٍ إِلَىٰ أَبِي الْقَاسِمِ الْحُسَيْنِ بْنِ رُوحٍ، وَأَوْصَىٰ أَبُو الْقَاسِمِ إِلَىٰ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ السَّمُرِيِّ (رضی الله عنهم)، قَالَ: فَلَمَّا حَضَرَتِ السَّمُرِيَ الْوَفَاةُ سُئِلَ أَنْ يُوصِيَ فَقَالَ: لِلهِ أَمْرٌ هُوَ بَالِغُهُ، فَالْغَيْبَةُ التَّامَّةُ هِيَ الَّتِي وَقَعَتْ بَعْدَ مُضِيِّ السَّمُرِيِّ (رضی الله عنه)(3).

[13/382] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَكَرِيَّا بِمَدِينَةِ السَّلَامِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَلِيلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ غِيَاثِ بْنِ أَسِيدٍ(4)، قَالَ: شَهِدْتُ

ص: 151


1- سيجيء في باب ذكر من شاهد القائم (علیه السلام) تحت الرقم (410/24) من قول عقيد الخادم: (يُكنَّىٰ أبا القاسم، ويقال: أبو جعفر)، وتقدَّم فيما أخبر به الحسين (علیه السلام) تحت الرقم (215/5) آخر حديث: (الموتور بأبيه، المكنَّىٰ بعمِّه)، فتأمَّل.
2- إنَّما سُمّي صيقلاً أو صقيلاً لما اعتراه من النور والجلاء بسبب الحمل المنوَّر.
3- رواه الطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 393 و394/ ح 362).
4- كذا في بعض النُّسَخ المصحَّحة، وفي بعضها: (عن غياث بن أسد).

مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ الْعَمْرِيَّ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) يَقُولُ: لَمَّا وُلِدَ الْخَلَفُ المَهْدِيُّ (علیه السلام) سَطَعَ نُورٌ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهِ إِلَىٰ أَعْنَانِ السَّمَاءِ، ثُمَّ سَقَطَ لِوَجْهِهِ سَاجِداً لِرَبِّهِ تَعَالَىٰ ذِكْرُهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَهُوَ يَقُولُ: «شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 18 إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ» [آل عمران: 18 و19]، قَالَ: وَكَانَ مَوْلِدُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.

[14/383] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْعَمْرِيِّ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) أَنَّهُ قَالَ: وُلِدَ السَّيِّدُ (علیه السلام) مَخْتُوناً، وَسَمِعْتُ حَكِيمَةَ تَقُولُ: لَمْ يُرَ بِأُمِّهِ دَمٌ فِي نِفَاسِهَا، وَهَكَذَا سَبِيلُ أُمَّهَاتِ الْأَئِمَّةِ (علیهم السلام).

[15/384] حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبْدُوسٍ الْعَطَّارُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ النَّيْسَابُورِيُّ، عَنْ حَمْدَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ [يَ-]زِيدَ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الْأَزْدِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَىٰ بْنَ جَعْفَرٍ (علیهما السلام) يَقُولُ - لَمَّا وُلِدَ الرِّضَا (علیه السلام) -: «إِنَّ ابْنِي هَذَا وُلِدَ مَخْتُوناً طَاهِراً مُطَهَّراً، وَلَيْسَ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَحَدٌ يُولَدُ إِلَّا مَخْتُوناً طَاهِراً مُطَهَّراً، وَلَكِنْ سَنُمِرُّ المُوسَىٰ عَلَيْهِ لِإِصَابَةِ السُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ الْحَنِيفِيَّةِ»(1).

[16/385] حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مِهْرَانَ الْآبِيُّ الْأَزْدِيُّ الْعَرُوضِيُّ(2) بِمَرْوَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ إِسْحَاقَ الْقُمِّيُّ(3)، قَالَ: لَمَّا وُلِدَ الْخَلَفُ الصَّالِحُ (علیه السلام) وَرَدَ عَنْ مَوْلَانَا أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام) إِلَىٰ جَدِّي أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ(4) كِتَابٌ، فَإِذَا فِيهِ مَكْتُوبٌ بِخَطِّ يَدِهِ (علیه السلام) الَّذِي كَانَ تَرِدُ بِهِ

ص: 152


1- رواه الفتَّال (رحمة الله) في روضة الواعظين (ص 260)، والطبرسي (رحمة الله) في مكارم الأخلاق (ص 230).
2- راجع مقدّمة معاني الأخبار (ص 39/ تحت الرقم 13) المتن والهامش.
3- كذا، وفي نسخة: (أحمد بن الحسن بن أحمد إسحاق)، والمعنون في الرجال: (أحمد بن الحسن بن إسحاق بن سعد).
4- كذا.

التَّوْقِيعَاتُ عَلَيْهِ، وَفِيهِ: «وُلِدَ لَنَا مَوْلُودٌ فَلْيَكُنْ عِنْدَكَ مَسْتُوراً، وَعَنْ جَمِيعِ النَّاسِ مَكْتُوماً، فَإِنَّا لَمْ نُظْهِرْ عَلَيْهِ إِلَّا الْأَقْرَبَ لِقَرَابَتِهِ، وَالْوَلِيَّ لِوَلَايَتِهِ، أَحْبَبْنَا إِعْلَامَكَ لِيَسُرَّكَ اللهُ بِهِ، مِثْلَ مَا سَرَّنَا بِهِ(1)، وَالسَّلَامُ».

ذكر من هنَّأ أبا محمّد الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام) بولادة ابنه القائم (علیه السلام):

[17/386] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْعَبَّاسِ الْعَلَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْعَلَوِيُّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىٰ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام) بِسُرَّ مَنْ رَأَىٰ، فَهَنَّأْتُهُ بِوِلَادَةِ ابْنِهِ الْقَائِمِ (علیه السلام)(2).

* * *

ص: 153


1- في بعض النُّسَخ: (كما سرَّنا به).
2- روىٰ قريباً منه الطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 251/ ح 221).

ص: 154

الباب الثالث والأربعون:

ذكر من شاهد القائم (علیه السلام) ورآه وكلَّمه

ص: 155

ص: 156

[1/387] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْفَرَجِ(1) المُؤَذِّنُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هَارُونَ - رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِنَا - يَقُولُ: رَأَيْتُ صَاحِبَ الزَّمَانِ (علیه السلام) وَوَجْهُهُ يُضِيءُ كَأَنَّهُ الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَرَأَيْتُ عَلَىٰ سُرَّتِهِ شَعْراً يَجْرِي كَالْخَطِّ، وَكَشَفْتُ الثَّوْبَ عَنْهُ فَوَجَدْتُهُ مَخْتُوناً، فَسَأَلْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ (علیه السلام) عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «هَكَذَا وُلِدَ، وَهَكَذَا وُلِدْنَا، وَلَكِنَّا سَنُمِرُّ المُوسَىٰ عَلَيْهِ لِإِصَابَةِ السُّنَّةِ»(2).

[2/388] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ الْفَزَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ حُكَيْمٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَمْرِيُّ (رضی الله عنه)، قَالُوا: عَرَضَ عَلَيْنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ (علیهما السلام) وَنَحْنُ فِي مَنْزِلِهِ وَكُنَّا أَرْبَعِينَ رَجُلاً، فَقَالَ: «هَذَا إِمَامُكُمْ مِنْ بَعْدِي، وَخَلِيفَتِي عَلَيْكُمْ، أَطِيعُوهُ وَلَا تَتَفَرَّقُوا مِنْ بَعْدِي فِي أَدْيَانِكُمْ فَتَهْلِكُوا، أَمَا إِنَّكُمْ لَا تَرَوْنَهُ بَعْدَ يَوْمِكُمْ هَذَا(3)»، قَالُوا: فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ فَمَا مَضَتْ إِلَّا أَيَّامٌقَلَائِلُ حَتَّىٰ مَضَىٰ أَبُو مُحَمَّدٍ (علیه السلام)(4).

ص: 157


1- في بعض النُّسَخ: (الحسين بن الفرج).
2- رواه الطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 250/ ح 219)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 220)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 957).
3- يعنى أكثركم، أو عن قريب، فإنَّ الظاهر أنَّ محمّد بن عثمان العمري كان يراه في أيَّام سفارته. ويحتمل إيصال الكُتُب إليه من وراء الحجاب أو بوسائط، لكن ينافيه الخبر الآتي، وكذا ما سيأتي في الباب من أنَّه شاهد القائم (علیه السلام) تحت الرقم (395/9) و(396/10).
4- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 252).

[3/389] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، قَالَ: قُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْعَمْرِيِّ (رضی الله عنه): إِنِّي أَسْأَلُكَ سُؤَالَ إِبْرَاهِيمَ رَبَّهُ (عزوجل) حِينَ قَالَ لَهُ: «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَىٰ وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» [البقرة: 260]، فَأَخْبِرْنِي عَنْ صَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ هَلْ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَهُ رَقَبَةٌ مِثْلُ ذِي - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَىٰ عُنُقِهِ -.

[4/390] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الدَّقَّاقُ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِصَامٍ الْكُلَيْنِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْوَرَّاقُ (رضی الله عنهم)، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكُلَيْنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ(1) وَالْحَسَنُ ابْنَا عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسَبْعِين وَمِائَتَيْنِ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَبْدِيُّ - مِنْ عَبْدِ قَيْسٍ -، عَنْ ضَوْءِ بْنِ عَلِيٍّ الْعِجْلِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ سَمَّاهُ، قَالَ: أَتَيْتُ سُرَّ مَنْ رَأَىٰ فَلَزِمْتُ بَابَ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام)، فَدَعَانِي مِنْ غَيْرِ أَنْ أَسْتَأْذِنَ، فَلَمَّا دَخَلْتُ وَسَلَّمْتُ قَالَ لِي: «يَا أَبَا فُلَانٍ، كَيْفَ حَالُكَ؟»، ثُمَّ قَالَ لِي: «اقْعُدْ يَا فُلَانُ»، ثُمَّ سَأَلَنِي عَنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍمِنْ أَهْلِي، ثُمَّ قَالَ لِي: «مَا الَّذِي أَقْدَمَكَ عَلَيَّ؟»، قُلْتُ: رَغْبَةً فِي خِدْمَتِكَ، قَالَ لِي: فَقَالَ: «الْزَمِ الدَّارَ»، قَالَ: فَكُنْتُ فِي الدَّارِ مَعَ الْخَدَمِ، ثُمَّ صِرْتُ أَشْتَرِي لَهُمُ الْحَوَائِجَ مِنَ السُّوقِ، وَكُنْتُ أَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ إِذَا كَانَ فِي دَارِ الرِّجَالِ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ يَوْماً وَهُوَ فِي دَارِ الرِّجَالِ، فَسَمِعْتُ حَرَكَةً فِي الْبَيْتِ، فَنَادَانِي: «مَكَانَكَ لَا تَبْرَحْ»، فَلَمْ أَجْسُرْ أَخْرُجُ وَلَا أَدْخُلُ، فَخَرَجَتْ عَلَيَّ جَارِيَةٌ وَمَعَهَا شَيْءٌ مُغَطًّى، ثُمَّ نَادَانِي: «ادْخُلْ»، فَدَخَلْتُ، وَنَادَىٰ الْجَارِيَةَ، فَرَجَعَتْ، فَقَالَ لَهَا: «اكْشِفِي عَمَّا مَعَكِ»، فَكَشَفَتْ عَنْ غُلَامٍ أَبْيَضَ حَسَنِ الْوَجْهِ، وَكَشَفَتْ عَنْ

ص: 158


1- الظاهر هو محمّد بن عليِّ بن إبراهيم الهمداني، روىٰ عن أبيه عن جدِّه عن الرضا (علیه السلام)، وكان وكيل الناحية، وكذلك ابنه القاسم وأبوه عليٌّ وجدُّه إبراهيم بن محمّد. (منهج المقال). وقيل: المراد بعليٍّ عليُّ بن إبراهيم بن موسىٰ بن جعفر، والعلم عند الله.

بَطْنِهِ، فَإِذَا شَعْرٌ نَابِتٌ مِنْ لَبَّتِهِ إِلَىٰ سُرَّتِهِ، أَخْضَرُ لَيْسَ بِأَسْوَدَ، فَقَالَ: «هَذَا صَاحِبُكُمْ»، ثُمَّ أَمَرَهَا فَحَمَلَتْهُ فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّىٰ مَضَىٰ أَبُو مُحَمَّدٍ (علیه السلام).

قَالَ ضَوْءُ بْنُ عَلِيٍّ: فَقُلْتُ لِلْفَارِسِيِّ: كَمْ كُنْتَ تُقَدِّرُ لَهُ مِنَ السِّنِينَ؟ فَقَالَ: سَنَتَيْنِ. قَالَ الْعَبْدِيُّ: فَقُلْتُ لِضَوْءٍ: كَمْ تُقَدِّرُ لَهُ الْآنَ فِي وَقْتِنَا؟ قَالَ: أَرْبَعَةَ عَشْرَةَ سَنَةً. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ وَأَبُو عَبْدِ اللهِ(1): وَنَحْنُ نُقَدِّرُ لَهُ الْآنَ إِحْدَىٰ وَعِشْرِينَ سَنَةً(2)(3).

[5/391] حَدَّثَنَا أَبُو طَالِبٍ المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ الْعَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ الْعَيَّاشِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَلْخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِيعَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ ابْنِ هَارُونَ(4) الدَّقَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مَنْقُوشٍ(5)، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىٰ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام) وَهُوَ جَالِسٌ عَلَىٰ دُكَّانٍ فِي الدَّارِ وَعَنْ يَمِينِهِ بَيْتٌ وَعَلَيْهِ سَتْرٌ مُسْبَلٌ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَيِّدِي، مَنْ صَاحِبُ هَذَا الْأَمْرِ؟ فَقَالَ: «ارْفَعِ السِّتْرَ»، فَرَفَعْتُهُ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا غُلَامٌ خُمَاسِيٌّ لَهُ عَشْرٌ أَوْ ثَمَانٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَاضِحُ الْجَبِينِ، أَبْيَضُ الْوَجْهِ، دُرِّيُّ المُقْلَتَيْنِ، شَثْنُ الْكَفَّيْنِ، مَعْطُوفُ الرُّكْبَتَيْنِ(6)، فِي خَدِّهِ الْأَيْمَنِ خَالٌ،

ص: 159


1- يعني بأبي عليٍّ: محمّد بن عليِّ بن إبراهيم. وبأبي عبد الله: الحسن بن عليِّ بن إبراهيم الهمداني علىٰ ما مرَّ تحقيقه.
2- فبناءً علىٰ ذلك يكون الصاحب عند وفاة أبيه ابن سنتين، وهو مخالف للمشهور.
3- رواه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 514 و515/ باب مولد الصاحب (علیه السلام)/ ح 2)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 233 و234/ ح 202).
4- في بعض النُّسَخ: (عليُّ بن الحسين بن هارون).
5- في البحار: (يعقوب بن منفوس).
6- دُرِّى المقلتين: المراد به شدَّة بياض العين أو تلألؤ جميع الحدقة، من قولهم: (كوكب دُرِّئ) بالهمز ودونها. قوله: معطوف الركبتين: أي كانتا مائلتين إلىٰ القدَّام لعظمها وغلظهما، كما أنَّ شثن الكفَّين غلظهما، أي يميلان إلىٰ الغلظ والقصر. (راجع: بحار الأنوار: ج 52/ ص 25).

وَفِي رَأْسِهِ ذُؤَابَةٌ، فَجَلَسَ عَلَىٰ فَخِذِ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام)، ثُمَّ قَالَ لِي: «هَذَا هُوَ صَاحِبُكُمْ»، ثُمَّ وَثَبَ فَقَالَ لَهُ: «يَا بُنَيَّ، ادْخُلْ إِلَىٰ الْوَقْتِ المَعْلُومِ»، فَدَخَلَ الْبَيْتَ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا يَعْقُوبُ، انْظُرْ إِلَىٰ مَنْ فِي الْبَيْتِ»، فَدَخَلْتُ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَداً(1).

[6/392] حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ النَّوْفَلِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْقَصَبَانِيُّ الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْفَارِسِيُّ المُلَقَّبُ بِابْنِ جُرْمُوزٍ(2)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بِلَالِ بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: حَدَّثَنَاالْأَزْهَرِيُّ مَسْرُورُ بْنُ الْعَاصِ(3)، قَالَ: حَدَّثَنِي مُسْلِمُ ابْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ غَانِمَ بْنَ سَعِيدٍ الْهِنْدِيَّ بِالْكُوفَةِ فَجَلَسْتُ، فَلَمَّا طَالَتْ مُجَالَسَتِي إِيَّاهُ سَأَلْتُهُ عَنْ حَالِهِ، وَقَدْ كَانَ وَقَعَ إِلَيَّ شَيْءٌ مِنْ خَبَرِهِ، فَقَالَ: كُنْتُ بِبَلَدِ الْهِنْدِ بِمَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا: قِشْمِيرُ الدَّاخِلَةُ، وَنَحْنُ أَرْبَعُونَ رَجُلاً.

وَحَدَّثَنَا أَبِي (رحمة الله)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَلَّانٍ الْكُلَيْنِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ غَانِمٍ أَبِي سَعِيدٍ الْهِنْدِيِّ.

قَالَ عَلَّانٌ الْكُلَيْنِيُّ: وَحَدَّثَنِي جَمَاعَةٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ غَانِمٍ، ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مَلِكِ الْهِنْدِ(4) فِي قِشْمِيرَ الدَّاخِلَةِ وَنَحْنُ أَرْبَعُونَ رَجُلاً نَقْعُدُ حَوْلَ كُرْسِيِّ المَلِكِ، وَقَدْ قَرَأْنَا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ، يَفْزَعُ إِلَيْنَا فِي الْعِلْمِ، فَتَذَاكَرْنَا يَوْماً مُحَمَّداً (صلی الله علیه و آله) وَقُلْنَا: نَجِدُهُ فِي كُتُبِنَا، فَاتَّفَقْنَا عَلَىٰ أَنْ أَخْرُجَ فِي طَلَبِهِ وَأَبْحَثَ عَنْهُ، فَخَرَجْتُ وَمَعِي مَالٌ، فَقَطَعَ عَلَيَّ التُّرْكُ وَشَلَّحُونِي(5)، فَوَقَعْتُ إِلَىٰ

ص: 160


1- قد مرَّ تحت الرقم (336/2)، فراجع.
2- لم أجده ولا راويه ولا شيخه ولا شيخ شيخه إلىٰ آخر السند الأوَّل في أحد من كُتُب الرجال والتراجم التي كانت عندي. وفي بعض النُّسَخ: (ابن حرسون) مكان (ابن جرموز).
3- في بعض النُّسَخ: (الأزهر[ي] بن مسرور بن العبَّاس).
4- في بعض النُّسَخ المصحَّحة: (كنت أكون مع ملك الهند).
5- التشليح: التعرية.

كَابُلَ، وَخَرَجْتُ مِنْ كَابُلَ إِلَىٰ بَلْخٍ وَالْأَمِيرُ بِهَا ابْنُ أَبِي شَوْرٍ(1)، فَأَتَيْتُهُ وَعَرَّفْتُهُ مَا خَرَجْتُ لَهُ، فَجَمَعَ الْفُقَهَاءَ وَالْعُلَمَاءَ لِمُنَاظَرَتِي، فَسَأَلْتُهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله)، فَقَالَ: هُوَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، وَقَدْ مَاتَ، فَقُلْتُ: وَمَنْ كَانَ خَلِيفَتُهُ؟ فَقَالُوا: أَبُو بَكْرٍ، فَقُلْتُ: انْسِبُوهُ لِي، فَنَسَبُوهُ إِلَىٰ قُرَيْشٍ، فَقُلْتُ: لَيْسَ هَذَا بِنَبِيٍّ، إِنَّ النَّبِيَّ الَّذِي نَجِدُهُ فِي كُتُبِنَا خَلِيفَتُهُ ابْنُ عَمِّهِ وَزَوْجُ ابْنَتِهِ وَأَبُووُلْدِهِ، فَقَالُوا لِلْأَمِيرِ: إِنَّ هَذَا قَدْ خَرَجَ مِنَ الشِّرْكِ إِلَىٰ الْكُفْرِ، فَمُرْ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَنَا مُتَمَسِّكٌ بِدِينٍ وَلَا أَدَعُهُ إِلَّا بِبَيَانٍ.

فَدَعَا الْأَمِيرُ الْحُسَيْنَ بْنَ إِسْكِيبَ(2)، وَقَالَ لَهُ: يَا حُسَيْنُ، نَاظِرِ الرَّجُلَ، فَقَالَ: الْعُلَمَاءُ وَالْفُقَهَاءُ حَوْلَكَ فَمُرْهُمْ بِمُنَاظَرَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: نَاظِرْهُ كَمَا أَقُولُ لَكَ، وَاخْلُ بِهِ وَأَلْطِفْ لَهُ، فَقَالَ: فَخَلَا بِيَ الْحُسَيْنُ، وَسَأَلْتُهُ عَنْ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله)، فَقَالَ: هُوَ كَمَا قَالُوهُ لَكَ، غَيْرَ أَنَّ خَلِيفَتَهُ ابْنُ عَمِّهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ زَوْجُ ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ، وَأَبُو وُلْدِهِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، وَصِرْتُ إِلَىٰ الْأَمِيرِ فَأَسْلَمْتُ، فَمَضَىٰ بِي إِلَىٰ الْحُسَيْنِ فَفَقَّهَنِي، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي كُتُبِنَا أَنَّهُ لَا يَمْضِي خَلِيفَةٌ إِلَّا عَنْ خَلِيفَةٍ، فَمَنْ كَانَ خَلِيفَةُ عَلِيٍّ (علیه السلام)؟ قَالَ: الْحَسَنُ، ثُمَّ الْحُسَيْنُ، ثُمَّ سَمَّىٰ الْأَئِمَّةَ وَاحِداً وَاحِداً حَتَّىٰ بَلَغَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، ثُمَّ قَالَ لِي: تَحْتَاجُ أَنْ تَطْلُبَ خَلِيفَةَ الْحَسَنِ وَتَسْأَلَ عَنْهُ، فَخَرَجْتُ فِي الطَّلَبِ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ: وَوَافَىٰ مَعَنَا بَغْدَادَ، فَذَكَرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ رَفِيقٌ قَدْ صَحِبَهُ عَلَىٰ هَذَا الْأَمْرِ، فَكَرِهَ بَعْضَ أَخْلَاقِهِ فَفَارَقَهُ.

ص: 161


1- في بعض النُّسَخ: (أبي سور)، وفي الكافي: (داود بن العبَّاس بن أبي [أ]سود).
2- بالسين غير المعجمة والكاف المكسورة والباء المنقَّطة تحتها نقطتين والباء المنقَّطة تحتها نقطة المروزي المقيم بسمرقند وكشٍّ، قال العلَّامة: (من أصحاب أبي محمّد العسكري (علیه السلام) ثقة ثقة ثبت عالم متكلِّم مصنِّف الكُتُب، وله كُتُب ذكرناه في كتابنا الكبير. (خلاصة الأقوال: ص 115/ الرقم 8).

قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا يَوْماً وَقَدْ تَمَسَّحْتُ(1) فِي الصَّرَاةِ وَأَنَا مُفَكِّرٌ فِيمَا خَرَجْتُلَهُ إِذْ أَتَانِي آتٍ وَقَالَ لِي: أَجِبْ مَوْلَاكَ، فَلَمْ يَزَلْ يَخْتَرِقُ بِيَ المَحَالَّ حَتَّىٰ أَدْخَلَنِي دَاراً وَبُسْتَاناً، وَإِذَا بِمَوْلَايَ (علیه السلام) قَاعِدٌ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ كَلَّمَنِي بِالْهِنْدِيَّةِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، وَأَخْبَرَنِي عَنِ اسْمِي، وَسَأَلَنِي عَنِ الْأَرْبَعِينَ رَجُلاً بِأَسْمَائِهِمْ عَنِ اسْمِ رَجُلٍ رَجُلٍ، ثُمَّ قَالَ لِي: «تُرِيدُ الْحَجَّ مَعَ أَهْلِ قُمَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ؟ فَلَا تَحُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَانْصَرِفْ إِلَىٰ خُرَاسَانَ، وَحُجَّ مِنْ قَابِلٍ»، قَالَ: وَرَمَىٰ إِلَيَّ بِصُرَّةٍ، وَقَالَ: «اجْعَلْ هَذِهِ فِي نَفَقَتِكَ، وَلَا تَدْخُلْ فِي بَغْدَادَ إِلَىٰ دَارِ أَحَدٍ، وَلَا تُخْبِرْ بِشَيْءٍ مِمَّا رَأَيْتَ».

قَالَ مُحَمَّدٌ: فَانْصَرَفْنَا مِنَ الْعَقَبَةِ وَلَمْ يُقْضَ لَنَا الْحَجُّ، وَخَرَجَ غَانِمٌ إِلَىٰ خُرَاسَانَ وَانْصَرَفَ مِنْ قَابِلٍ حَاجًّا، فَبَعَثَ إِلَيْنَا(2) بِأَلْطَافٍ وَلَمْ يَدْخُلْ قُمَّ، وَحَجَّ وَانْصَرَفَ إِلَىٰ خُرَاسَانَ، فَمَاتَ (رحمة الله) بِهَا(3).

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ عَنِ الْكَابُليِّ(4) - وَقَدْ كُنْتُ رَأَيْتُهُ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ -، فَذَكَرَ(5) أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ كَابُلَ مُرْتَاداً أَوْ طَالِباً، وَأَنَّهُ وَجَدَ صِحَّةَ هَذَا الدِّينِ فِي الْإِنْجِيلِ وَبِهِ اهْتَدَىٰ.

فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ بِنَيْسَابُورَ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ فَتَرَصَّدْتُ لَهُ حَتَّىٰ لَقِيتُهُ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ خَبَرِهِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فِي الطَّلَبِ، وَأَنَّهُ أَقَامَ بِالمَدِينَةِ، فَكَانَ لَا يَذْكُرُهُ لِأَحَدٍ إِلَّا زَجَرَهُ، فَلَقِيَ شَيْخاً مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَهُوَ يَحْيَىٰ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُرَيْضِيُّ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُهُ بِصُرْيَاءَ، قَالَ: فَقَصَدْتُصُرْيَاءَ، فَجِئْتُ إِلَىٰ دِهْلِيزٍ

ص: 162


1- أي توضَّأت. وفي بعض النُّسَخ: (تمشَّيت)، وفي بعضها: (تمسَّيت) أي وصلت إليها في المساء. والصراة: نهران ببغداد كبرىٰ وصغرىٰ. وفي بعض النُّسَخ: (الفرات) مكان (الصراة).
2- في بعض النُّسَخ: (إليه).
3- إلىٰ هنا انتهىٰ ما في الكافي (ج 1/ ص 515 - 517/ باب مولد الصاحب (علیه السلام)/ ح 3).
4- الظاهر هو رفيق أبي سعيد غانم.
5- أي محمّد بن شاذان، يحتمل أبا سعيد، وهو بعيد.

مَرْشُوشٍ، وَطَرَحْتُ نَفْسِي عَلَىٰ الدُّكَّانِ، فَخَرَجَ إِلَيَّ غُلَامٌ أَسْوَدُ فَزَجَرَنِي وَانْتَهَرَنِي وَقَالَ لِي: قُمْ مِنْ هَذَا المَكَانِ وَانْصَرِفْ، فَقُلْتُ: لَا أَفْعَلُ، فَدَخَلَ الدَّارَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ وَقَالَ: ادْخُلْ، فَدَخَلْتُ فَإِذَا مَوْلَايَ (علیه السلام) قَاعِدٌ بِوَسَطِ الدَّارِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ سَمَّانِي بِاسْمٍ لِي لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ إِلَّا أَهْلِي بِكَابُلَ، وَأَخْبَرَنِي بِأَشْيَاءَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ نَفَقَتِي قَدْ ذَهَبَتْ فَمُرْ لِي بِنَفَقَةٍ، فَقَالَ لِي: «أَمَا إِنَّهَا سَتَذْهَبُ مِنْكَ بِكَذِبِكَ»، وَأَعْطَانِي نَفَقَةً، فَضَاعَ مِنِّي مَا كَانَتْ مَعِي وَسَلِمَ مَا أَعْطَانِي، ثُمَّ انْصَرَفْتُ السَّنَةَ الثَّانِيَةَ فَلَمْ أَجِدْ فِي الدَّارِ أَحَداً.

[7/393] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ الْكُوفِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّيْرَفِيِّ، عَنْ يَحْيَىٰ بْنِ المُثَنَّىٰ الْعَطَّارِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) يَقُولُ: «يَفْقِدُ النَّاسُ إِمَامَهُمْ، فَيَشْهَدُ المَوْسِمَ فَيَرَاهُمْ وَلَا يَرَوْنَهُ»(1).

[8/394] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْعَمْرِيِّ (رضی الله عنه)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَاللهِ إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْأَمْرِ لَيَحْضُرُ المَوْسِمَ كُلَّ سَنَةٍ فَيَرَىٰ النَّاسَ وَيَعْرِفُهُمْ ويَرَوْنَهُ وَلَا يَعْرِفُونَهُ(2).

[9/395] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ ابْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ الْعَمْرِيَّ (رضی الله عنه)، فَقُلْتُ لَهُ: أَرَأَيْتَ صَاحِبَ هَذَا الْأَمْرِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَآخِرُعَهْدِي بِهِ عِنْدَ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي»(3).

[10/396] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ

ص: 163


1- قد مرَّ بسندين آخرين تحت الرقم (275/34) و(290/49)، فراجع.
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في من لا يحضره الفقيه (ج 2/ ص 520/ ذيل الحديث 3115)، والطوسي(رحمة الله) في الغيبة (ص 363 و364/ ح 329).
3- رواه المصنِّف (رحمة الله) في من لا يحضره الفقيه (ج 2/ ص 520/ ذيل الحديث 3115)، والطوسي(رحمة الله) في الغيبة (ص 251 و364/ ح 222 و330).

ابْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ الْعَمْرِيَّ (رضی الله عنه) يَقُولُ: رَأَيْتُهُ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ) مُتَعَلِّقاً بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فِي المُسْتَجَارِ وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ انْتَقِمْ لِي مِنْ أَعْدَائِي»(1).

[11/397] حَدَّثَنَا أَبُو طَالِبٍ المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَلْخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الدَّقَّاقُ(2)، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَلَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي نَسِيمُ خَادِمَةُ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام)، قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَىٰ صَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ (علیه السلام) بَعْدَ مَوْلِدِهِ بِلَيْلَةٍ، فَعَطَسْتُ عِنْدَهُ، قَالَ لِي: «يَرْحَمُكِ اللهُ»، قَالَتْ نَسِيمُ: فَفَرِحْتُ [بِذَلِكَ]، فَقَالَ لِي (علیه السلام): «أَلَا أُبَشِّرُكِ فِي الْعُطَاسِ؟»، قُلْتُ: بَلَىٰ، قَالَ: «هُوَ أَمَانٌ مِنَ المَوْتِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ»(3).

[12/398] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَلَوِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي طَرِيفٌ أَبُو نَصْرٍ(4)، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىٰ صَاحِبِ الزَّمَانِ (علیه السلام)، فَقَالَ: «عَلَيَّ بِالصَّنْدَلِ الْأَحْمَرِ»، فَأَتَيْتُهُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَتَعْرِفُنِي؟»، قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: «مَنْأَنَا؟»، فَقُلْتُ: أَنْتَ سَيِّدِي وَابْنُ سَيِّدِي، فَقَالَ: «لَيْسَ عَنْ هَذَا سَأَلْتُكَ»، قَالَ طَرِيفٌ: فَقُلْتُ: جَعَلَنِيَ اللهُ فِدَاكَ، فَبَيِّنْ لِي(5)، قَالَ: «أَنَا خَاتَمُ الْأَوْصِيَاءِ، وَبِي يَدْفَعُ اللهُ (عزوجل) الْبَلَاءَ عَنْ أَهْلِي وَشِيعَتِي»(6).

ص: 164


1- المصدر السابق.
2- في بعض النُّسَخ: (عليُّ بن الحسين الدقَّاق) كما مرَّ.
3- قد مرَّ تحت الرقم (374/5)، فراجع.
4- في بعض النُّسَخ: (أبو نصير).
5- في بعض النُّسَخ: (فسِّر لي).
6- رواه الخصيبي (رحمة الله) في الهداية الكبرىٰ (ص 358)، والمسعودي في إثبات الوصيَّة (ص 261)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 246/ ح 215)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 1/ ص 458/ ح 3).

[13/399] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ الْعَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ أَبُو عَبْدِ اللهِ الْبَلْخِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ السُّورِيُّ، قَالَ: صِرْتُ إِلَىٰ بُسْتَانِ بَنِي عَامِرٍ، فَرَأَيْتُ غِلْمَاناً يَلْعَبُونَ فِي غَدِيرِ مَاءٍ وَفَتًى جَالِساً عَلَىٰ مُصَلًّى وَاضِعاً كُمَّهُ عَلَىٰ فِيهِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: (م ح م د) ابْنُ الْحَسَنِ (علیه السلام)، وَكَانَ فِي صُورَةِ أَبِيهِ (علیه السلام)(1).

[14/400] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ عِنْدَ الْعَمْرِيِّ (رضی الله عنه)، فَقُلْتُ لِلْعَمْرِيِّ: إِنِّي أَسْأَلُكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ كَمَا قَالَ اللهُ (عزوجل) فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ: «أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَىٰ وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» [البقرة: 260]، هَلْ رَأَيْتَ صَاحِبِي؟ فَقَالَ لِي: نَعَمْ، وَلَهُ عُنُقٌ مِثْلُ ذِي - وَأَوْمَأَ بِيَدَيْهِ جَمِيعاً إِلَىٰ عُنُقِهِ -، قَالَ: قُلْتُ: فَالْاِسْمُ، قَالَ: إِيَّاكَ أَنْ تَبْحَثَ عَنْ هَذَا، فَإِنَّ عِنْدَ الْقَوْمِ أَنَّ هَذَا النَّسْلَ قَدِ انْقَطَعَ.

[15/401] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ الْعَلَوِيُّ الْعَمْرِيُّ(رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مَعْرُوفٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبَلْخِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قَنْبَرَ الْكَبِيرِ مَوْلَىٰ الرِّضَا (علیه السلام)، قَالَ: خَرَجَ صَاحِبُ الزَّمَانِ عَلَىٰ جَعْفَرٍ الْكَذَّابِ مِنْ مَوْضِعٍ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ عِنْدَمَا نَازَعَ فِي الْمِيرَاثِ بَعْدَ مُضِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام)، فَقَالَ لَهُ: «يَا جَعْفَرُ، مَا لَكَ تَعَرَّضُ فِي حُقُوقِي؟»، فَتَحَيَّرَ جَعْفَرٌ وَبُهِتَ، ثُمَّ غَابَ عَنْهُ، فَطَلَبَهُ جَعْفَرٌ بَعْدَ ذَلِكَ فِي النَّاسِ فَلَمْ يَرَهُ، فَلَمَّا مَاتَتِ الْجَدَّةُ أُمُّ الْحَسَنِ أَمَرَتْ أَنْ تُدْفَنَ فِي الدَّارِ، فَنَازَعَهُمْ وَقَالَ: هِيَ دَارِي لَا تُدْفَنُ فِيهَا، فَخَرَجَ (علیه السلام) فَقَالَ: «يَا جَعْفَرُ أَدَارُكَ هِيَ؟»، ثُمَّ غَابَ عَنْهُ فَلَمْ يَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ (2).

ص: 165


1- رواه الراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 959 و960).
2- رواه الراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 960).

[16/402] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْأَسَدِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْكُوفِيِ أَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدَ مَنِ انْتَهَىٰ إِلَيْهِ مِمَّنْ وَقَفَ عَلَىٰ مُعْجِزَاتِ صَاحِبِ الزَّمَانِ (علیه السلام) وَرَآهُ مِنَ الْوُكَلَاءِ بِبَغْدَادَ: الْعَمْرِيُّ وَابْنُهُ، وَحَاجِزٌ، وَالْبِلَالِيُّ، وَالْعَطَّارُ. وَمِنَ الْكُوفَةِ: الْعَاصِمِيُّ. وَمِنْ أَهْلِ الْأَهْوَازِ: مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَهْزِيَارَ. وَمِنْ أَهْلِ قُمَّ: أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ. وَمِنْ أَهْلِ هَمَدَانَ: مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ. وَمِنْ أَهْلِ الرَّيِّ: الْبَسَّامِيُّ، وَالْأَسَدِيُّ - يَعْنِي نَفْسَهُ -. وَمِنْ أَهْلِ آذَرْبِيجَانَ: الْقَاسِمُ بْنُ الْعَلَاءِ. وَمِنْ أَهْلِ نَيْسَابُورَ: مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ.

وَمِنْ غَيْرِ الْوُكَلَاءِ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ: أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي حُلَيْسٍ(1)، وَأَبُو عَبْدِ اللهِ الْكِنْدِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللهِ الْجُنَيْدِيُّ، وَهَارُونُ الْقَزَّازُ، وَالنِّيليُّ، وَأَبُو الْقَاسِمِبْنُ دُبَيْسٍ(2)، وَأَبُو عَبْدِ اللهِ بْنُ فَرُّوخٍ، وَمَسْرُورٌ الطَّبَّاخُ مَوْلَىٰ أَبِي الْحَسَنِ (علیه السلام)، وَأَحْمَدُ وَمُحَمَّدٌ ابْنَا الْحَسَنِ، وَإِسْحَاقُ الْكَاتِبُ مِنْ بَنِي نَيْبَخْتٍ(3)، وَصَاحِبُ النَّوَاءِ، وَصَاحِبُ الصُّرَّةِ المَخْتُومَةِ. وَمِنْ هَمَدَانَ: مُحَمَّدُ بْنُ كِشْمِرْدَ، وَجَعْفَرُ بْنُ حَمْدَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ. وَمِنَ الدِّينَوَرِ: حَسَنُ بْنُ هَارُونَ، وَأَحْمَدُ بْنُ أُخَيَّةَ(4)، وَأَبُو الْحَسَنِ. وَمِنْ أَصْفَهَانَ: ابْنُ بَاذْشَالَةَ(5). وَمِنَ الصَّيْمَرَةِ: زَيْدَانُ. وَمِنْ قُمَّ: الْحَسَنُ بْنُ النَّضْرِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَأَبُوهُ، وَالْحَسَنُ بْنُ يَعْقُوبَ. وَمِنْ أَهْلِ الرَّيِّ: الْقَاسِمُ بْنُ مُوسَىٰ وَابْنُهُ، وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ هَارُونَ، وَصَاحِبُ الْحَصَاةِ، وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكُلَيْنِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الرَّفَّاءُ.

ص: 166


1- في بعض النُّسَخ: (أبي حابس)، وفي بعضها: (أبي عابس).
2- في بعض النُّسَخ: (بن دميس)، وفي بعضها: (رميس)، وفي بعضها: (دبيش).
3- كذا في النُّسَخ المصحَّحة. وفي نسخة: (بني نوبخت). وفي بعضها: (صاحب الفراء) مكان (صاحب النواء).
4- في بعض النُّسَخ: (أحمد أخوه).
5- في بعض النُّسَخ: (ابن پاشاكة).

وَمِنْ قَزْوِينَ: مِرْدَاسٌ، وَعَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ. وَمِنْ فَاقْتَرَ(1): رَجُلَانِ. وَمِنْ شَهْرَزُورَ: ابْنُ الْخَالِ. وَمِنْ فَارِسٍ: المَحْرُوجُ(2). وَمِنْ مَرْوَ: صَاحِبُ الْأَلْفِ دِينَارٍ، وَصَاحِبُ المَالِ وَالرُّقْعَةِ الْبَيْضَاءِ، وَأَبُو ثَابِتٍ. وَمِنْ نَيْسَابُورَ: مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ صَالِحٍ. وَمِنَ الْيَمَنِ: الْفَضْلُ بْنُ يَزِيدَ، وَالْحَسَنُ ابْنُهُ، وَالْجَعْفَرِيُّ، وَابْنُ الْأَعْجَمِيِّ، وَالشِّمْشَاطِيُّ. وَمِنْ مِصْرَ: صَاحِبُ المَوْلُودَيْنِ(3)، وَصَاحِبُالمَالِ بِمَكَّةَ، وَأَبُو رَجَاءٍ. وَمِنْ نَصِيبِينَ: أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْوَجْنَاءِ. وَمِنَ الْأَهْوَازِ: الْحُصَيْنِيُ (4)(5).

[17/403] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْكُوفِيُّ المَعْرُوفُ بِأَبِي الْقَاسِمِ الْخَدِيجِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الرَّقِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ وَجْنَاءَ النَّصِيبِيُّ، قَالَ: كُنْتُ سَاجِداً تَحْتَ الْمِيزَابِ فِي رَابِعِ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ حِجَّةً بَعْدَ الْعَتَمَةِ، وَأَنَا أَتَضَرَّعُ فِي الدُّعَاءِ إِذْ حَرَّكَنِي مُحَرِّكٌ، فَقَالَ: قُمْ يَا حَسَنَ بْنَ وَجْنَاءَ، قَالَ: فَقُمْتُ فَإِذَا جَارِيَةٌ صَفْرَاءُ نَحِيفَةُ الْبَدَنِ أَقُولُ: إِنَّهَا مِنْ أَبْنَاءِ أَرْبَعِينَ فَمَا فَوْقَهَا، فَمَشَتْ بَيْنَ يَدَيَّ وَأَنَا لَا أَسْأَلُهَا عَنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ أَتَتْ بِي إِلَىٰ دَارِ خَدِيجَةَ J وَفِيهَا بَيْتٌ بَابُهُ فِي وَسَطِ الْحَائِطِ وَلَهُ دَرَجُ سَاجٍ يُرْتَقَىٰ، فَصَعِدَتِ الْجَارِيَةُ، وَجَاءَنِي النِّدَاءُ: «اصْعَدْ يَا حَسَنُ»، فَصَعِدْتُ، فَوَقَفْتُ بِالْبَابِ، فَقَالَ لِي صَاحِبُ الزَّمَانِ (علیه السلام): «يَا حَسَنُ، أَتَرَاكَ خَفِيتَ عَلَيَّ، وَاللهِ مَا مِنْ وَقْتٍ فِي حَجِّكَ إِلَّا وَأَنَا مَعَكَ فِيهِ»، ثُمَّ جَعَلَ يَعُدُّ عَلَيَّ أَوْقَاتِي، فَوَقَعْتُ [مَغْشِيًّا] عَلَىٰ وَجْهِي، فَحَسِسْتُ بِيَدٍ قَدْ وَقَعَتْ عَلَيَّ فَقُمْتُ، فَقَالَ لِي: «يَا حَسَنُ،

ص: 167


1- في بعض النُّسَخ: (قابس)، وفي بعض النُّسَخ: (قائن).
2- في بعض النُّسَخ: (المحووج).
3- في بعض النُّسَخ المصحَّحة: (صاحبا المولودين). ولعلَّ المراد من سيجيء ذكرهما في باب ذكر التوقيعات.
4- في بعض النُّسَخ المصحَّحة: (الخصيبي)، وفي بعضها: (الحضيني).
5- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 273 - 275).

الْزَمْ دَارَ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام)، وَلَا يُهِمَّنَّكَ طَعَامُكَ وَلَا شَرَابُكَ وَلَا مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَكَ»، ثُمَّ دَفَعَ إِلَيَّ دَفْتَراً فِيهِ دُعَاءُ الْفَرَجِ وَصَلَاةٌ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «بِهَذَا فَادْعُ، وَهَكَذَا صَلِّ عَلَيَّ، وَلَا تُعْطِهِ إِلَّا مُحِقِّي أَوْلِيَائِي فَإِنَّ اللهَ (عزوجل) مُوَفِّقُكَ»، فَقُلْتُ: يَا مَوْلَايَ، لَا أَرَاكَ بَعْدَهَا؟ فَقَالَ: «يَا حَسَنُ، إِذَا شَاءَ اللهُ»، قَالَ: فَانْصَرَفْتُ مِنْ حِجَّتِي وَلَزِمْتُ دَارَ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام) فَأَنَا أَخْرُجُ مِنْهَا فَلَا أَعُودُ إِلَيْهَا إِلَّا لِثَلَاثِ خِصَالٍ:لِتَجْدِيدِ وُضُوءٍ، أَوْ لِنَوْمٍ، أَوْ لِوَقْتِ الْإِفْطَارِ، وَأَدْخُلُ بَيْتِي وَقْتَ الْإِفْطَارِ، فَأُصِيبُ رُبَاعِيًّا مَمْلُوءاً مَاءً وَرَغِيفاً عَلَىٰ رَأْسِهِ وَعَلَيْهِ مَا تَشْتَهِي نَفْسِي بِالنَّهَارِ، فَآكُلُ ذَلِكَ فَهُوَ كِفَايَةٌ لِي، وَكِسْوَةُ الشِّتَاءِ فِي وَقْتِ الشِّتَاءِ، وَكِسْوَةُ الصَّيْفِ فِي وَقْتِ الصَّيْفِ، وَإِنِّي لَأَدْخُلُ المَاءَ بِالنَّهَارِ فَأَرُشُّ الْبَيْتَ وَأَدَعُ الْكُوزَ فَارِغاً فَأُوتَىٰ بِالطَّعَامِ(1)، وَلَا حَاجَةَ لِي إِلَيْهِ فَأَصَّدَّقُ بِهِ لَيْلاً كَيْ لَا يَعْلَمَ بِي مَنْ مَعِي (2).

[18/404] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْخَدِيجِيُّ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَزْدِيُّ(3)، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا فِي الطَّوَافِ قَدْ طُفْتُ سِتًّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَطُوفَ السَّابِعَ، فَإِذَا أَنَا بِحَلْقَةٍ عَنْ يَمِينِ الْكَعْبَةِ وَشَابٍّ حَسَنِ الْوَجْهِ طَيِّبِ الرَّائِحَةِ هَيُوبٍ مَعَ هَيْبَتِهِ مُتَقَرِّبٌ إِلَىٰ النَّاسِ يَتَكَلَّمُ، فَلَمْ أَرَ أَحْسَنَ مِنْ كَلَامِهِ وَلَا أَعْذَبَ مِنْ نُطْقِهِ وَحُسْنِ جُلُوسِهِ، فَذَهَبْتُ أُكَلِّمُهُ، فَزَبَرَنِي النَّاسُ، فَسَأَلْتُ بَعْضَهُمْ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا ابْنُ رَسُولِ اللهِ يَظْهَرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَوْماً لِخَوَاصِّهِ يُحَدِّثُهُمْ، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، مُسْتَرْشِداً أَتَيْتُكَ فَأَرْشِدْنِي هَدَاكَ اللهُ، فَنَاوَلَنِي (علیه السلام) حَصَاةً، فَحَوَّلْتُ وَجْهِي، فَقَالَ لِي بَعْضُ جُلَسَائِهِ: مَا الَّذِي دَفَعَ إِلَيْكَ؟ فَقُلْتُ: حَصَاةً، وَكَشَفْتُ عَنْهَا فَإِذَا أَنَا بِسَبِيكَةِ ذَهَبٍ، فَذَهَبْتُ فَإِذَا أَنَا

ص: 168


1- في بعض النُّسَخ: (وأواني الطعام).
2- رواه ابن حمزة (رحمة الله) في الثاقب في المناقب (ص 612 و613/ ح 558/6)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 961 و962).
3- مضطرب، ففي الغيبة للطوسي: (عن عليِّ بن إبراهيم الفدكي، عن الأودي).

بِهِ (علیه السلام) قَدْ لَحِقَنِي، فَقَالَ لِي: «ثَبَتَتْ عَلَيْكَ الْحُجَّةُ، وَظَهَرَ لَكَ الْحَقُّ، وَذَهَبَ عَنْكَ الْعَمَىٰ، أَتَعْرِفُنِي؟»، فَقُلْتُ: لَا، فَقَالَ (علیه السلام): «أَنَا المَهْدِيُّ، [وَ]أَنَا قَائِمُ الزَّمَانِ، أَنَا الَّذِي أَمْلَؤُهَا عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً، إِنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْحُجَّةٍ، وَلَا يَبْقَىٰ النَّاسُ فِي فَتْرَةٍ، وَهَذِهِ أَمَانَةٌ لَا تُحَدِّثْ بِهَا إِلَّا إِخْوَانَكَ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ»(1).

[19/405] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ ابْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَهْزِيَارَ(2)، قَالَ: قَدِمْتُ مَدِينَةَ الرَّسُولِ (صلی الله علیه و آله)، فَبَحَثْتُ عَنْ أَخْبَارِ آلِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْأَخِيرِ (علیهما السلام)، فَلَمْ أَقَعْ عَلَىٰ شَيْءٍ مِنْهَا، فَرَحَلْتُ مِنْهَا إِلَىٰ مَكَّةَ مُسْتَبْحِثاً عَنْ ذَلِكَ، فَبَيْنَمَا أَنَا فِي الطَّوَافِ إِذْ تَرَاءَىٰ لِي فَتًى أَسْمَرُ اللَّوْنِ، رَائِعُ الْحُسْنِ، جَمِيلُ المَخِيلَةِ، يُطِيلُ التَّوَسُّمَ فِيَّ، فَعُدْتُ إِلَيْهِ مُؤَمِّلًا مِنْهُ عِرْفَانَ مَا قَصَدْتُ لَهُ، فَلَمَّا قَرُبْتُ مِنْهُ سَلَّمْتُ، فَأَحْسَنَ الْإِجَابَةَ، ثُمَّ قَالَ: مِنْ أَيِّ الْبِلَادِ أَنْتَ؟ قُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، قَالَ: مِنْ أَيِّ الْعِرَاقِ؟ قُلْتُ: مِنَ الْأَهْوَازِ، فَقَالَ: مَرْحَباً بِلِقَائِكَ، هَلْ تَعْرِفُ بِهَا جَعْفَرَ بْنَ حَمْدَانَ الْحُصَيْنِيَّ(3)، قُلْتُ: دُعِيَ فَأَجَابَ، قَالَ: رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ، مَا كَانَ أَطْوَلَ لَيْلَهُ وَأَجْزَلَ نَيْلَهُ، فَهَلْ تَعْرِفُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مَهْزِيَارَ؟ قُلْتُ: أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْزِيَارَ، فَعَانَقَنِي مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَباً بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ، مَا فَعَلْتَ بِالْعَلَامَةِ الَّتِي وَشَّجَتْ(4) بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام)؟ فَقُلْتُ: لَعَلَّكَ تُرِيدُ الْخَاتَمَ الَّذِي آثَرَنِيَ اللهُ بِهِ مِنَالطَّيِّبِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ

ص: 169


1- رواه الطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 253 و254/ ح 223)، وابن حمزة (رحمة الله) في الثاقب في المناقب (ص 613 و614/ ح 559/7)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 784 و785/ ح 110).
2- سيجيء نحو هذه الحكاية عن محمّد بن عليِّ بن مهزيار عن أبيه، واستُشكِلَ فيهما، لتقدُّم زمانهما من عصر الغيبة.
3- في بعض النُّسَخ المصحَّحة: (الخصيبي).
4- في النهاية (ج 5/ ص 187): (منه حديث عليٍّ [علیه السلام]: «ووشَّج بينها وبين أزواجها»، أي خلَّط وألَّف، يقال: وشَّج الله بينهما توشيجاً).

عَلِيٍّ (علیهما السلام)؟ فَقَالَ: مَا أَرَدْتُ سِوَاهُ، فَأَخْرَجْتُهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ اسْتَعْبَرَ وَقَبَّلَهُ، ثُمَّ قَرَأَ كِتَابَتَهُ، فَكَانَتْ: (يَا اللهُ، يَا مُحَمَّدُ، يَا عَلِيُّ)، ثُمَّ قَالَ: بِأَبِي يَداً طَالَمَا جُلْتَ فِيهَا(1).

وَتَرَاخَىٰ بِنَا فَنُونُ الْأَحَادِيثِ(2)، إِلَىٰ أَنْ قَالَ لِي: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، أَخْبِرْنِي عَنْ عَظِيمِ مَا تَوَخَّيْتَ بَعْدَ الْحَجِّ، قُلْتُ: وَأَبِيكَ مَا تَوَخَّيْتُ إِلَّا مَا سَأَسْتَعْلِمُكَ مَكْنُونَهُ، قَالَ: سَلْ عَمَّا شِئْتَ فَإِنِّي شَارِحٌ لَكَ إِنْ شَاءَ اللهُ، قُلْتُ: هَلْ تَعْرِفُ مِنْ أَخْبَارِ آلِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ (علیه السلام) شَيْئاً؟ قَالَ لِي: وَايْمُ اللهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ الضَّوْءَ بِجَبِينِ(3) مُحَمَّدٍ وَمُوسَىٰ ابْنَيِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهم السلام)، ثُمَّ إِنِّي لَرَسُولُهُمَا إِلَيْكَ قَاصِداً لِإِنْبَائِكَ أَمْرَهُمَا، فَإِنْ أَحْبَبْتَ لِقَاءَهُمَا وَالْاِكْتِحَالَ بِالتَّبَرُّكِ بِهِمَا فَارْتَحِلْ مَعِي إِلَىٰ الطَّائِفِ، وَلْيَكُنْ ذَلِكَ فِي خُفْيَةٍ مِنْ رِجَالِكَ وَاكْتِتَامٍ.

قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَشَخَصْتُ مَعَهُ إِلَىٰ الطَّائِفِ أَتَخَلَّلُ رَمْلَةً فَرَمْلَةً حَتَّىٰ أَخَذَ فِي بَعْضِ مَخَارِجِ الْفَلَاةِ، فَبَدَتْ لَنَا خَيْمَةُ شَعَرٍ، قَدْ أَشْرَفَتْ عَلَىٰ أَكَمَةِ رَمْلٍ، تَتَلَأْلَأُ تِلْكَ الْبِقَاعُ مِنْهَا تَلَأْلُؤاً، فَبَدَرَنِي إِلَىٰ الْإِذْنِ، وَدَخَلَ مُسَلِّماً عَلَيْهِمَا، وَأَعْلَمَهُمَا بِمَكَانِي، فَخَرَجَ عَلَيَّ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْأَكْبَرُ سِنًّا (م ح م د) ابْنُ الْحَسَنِ(علیهما السلام)، وَهُوَ غُلَامٌ أَمْرَدُ، نَاصِعُ اللَّوْنِ، وَاضِحُ الْجَبِينِ، أَبْلَجُ الْحَاجِبِ، مَسْنُونُ الْخَدَّيْنِ، أَقْنَىٰ الْأَنْفِ، أَشَمُّ أَرْوَعُ، كَأَنَّهُ غُصْنُ بَانٍ، وَكَأَنَّ صَفْحَةَ غُرَّتِهِ كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ، بِخَدِّهِ الْأَيْمَنِ خَالٌ كَأَنَّهُ

ص: 170


1- يعنى بأبي فديت يد أبي محمّد العسكري (علیه السلام) التي طالما جلت أيُّها الخاتم فيها. وفي بعض النُّسَخ: (بأبي بنان طالما جلت فيها).
2- كذا في جميع النُّسَخ، ووقع في نسخة العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في البحار تصحيف.
3- في بحار الأنوار: (الضريحين). وقال في بيانه: (البعيدين عن الناس). وقال: (قال الجوهري: الضريح: البعيد...) إلخ. والصريح: الخالص، والمراد خالص النسب. وفي بعض النُّسَخ: (الضويحين) تثنية الضويحة مصغَّر الضاحة بمعنىٰ البصر والعين، والتصغير للمحبَّة. فالمعنىٰ البصرين أو العينين المحبوبين، لكنَّه بعيد لما سيجيء تحت الرقم (408/22): (أتعرف الصريحين؟ قلت: نعم، قال: ومن هما؟ قلت: محمّد وموسىٰ).

فُتَاتُ مِسْكٍ عَلَىٰ بَيَاضِ الْفِضَّةِ، وَإِذَا بِرَأْسِهِ وَفْرَةٌ سَحْمَاءُ(1) سَبِطَةٌ تُطَالِعُ شَحْمَةَ أُذُنِهِ، لَهُ سَمْتٌ مَا رَأَتِ الْعُيُونُ أَقْصَدَ مِنْهُ وَلَا أَعْرَفَ حُسْناً وَسَكِينَةً وَحَيَاءً.

فَلَمَّا مَثُلَ لِي أَسْرَعْتُ إِلَىٰ تَلَقِّيهِ، فَأَكْبَبْتُ عَلَيْهِ أَلْثِمُ كُلَّ جَارِحَةٍ مِنْهُ، فَقَالَ لِي: «مَرْحَباً بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ، لَقَدْ كَانَتِ الْأَيَّامُ تَعِدُنِي وُشْكَ لِقَائِكَ، وَالمَعَاتِبَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَلَىٰ تَشَاحُطِ الدَّارِ وَتَرَاخِي المَزَارِ(2)، تَتَخَيَّلُ لِي صُورَتَكَ حَتَّىٰ كَأَنَّا لَمْ نَخْلُ طَرْفَةَ عَيْنٍ مِنْ طِيبِ المُحَادَثَةِ وَخَيَالِ المُشَاهَدَةِ، وأَنَا أَحْمَدُ اللهَ رَبِّي وَلِيَّ الْحَمْدِ عَلَىٰ مَا قَيَّضَ مِنَ التَّلَاقِي وَرَفَّهَ مِنْ كُرْبَةِ التَّنَازُعِ(3) وَالْاِسْتِشْرَافِ عَنْ أَحْوَالِهَا مُتَقَدِّمِهَا وَمُتَأَخِّرِهَا».

فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا زِلْتُ أَفْحَصُ عَنْ أَمْرِكَ بَلَداً فَبَلَداً مُنْذُ اسْتَأْثَرَ اللهُ بِسَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام)، فَاسْتَغْلَقَ عَلَيَّ ذَلِكَ حَتَّىٰ مَنَّ اللهُ عَلَيَّبِمَنْ أَرْشَدَنِي إِلَيْكَ وَدَلَّنِي عَلَيْكَ، وَالشُّكْرُ لِلهِ عَلَىٰ مَا أَوْزَعَنِي(4) فِيكَ مِنْ كَرِيمِ الْيَدِ وَالطَّوْلِ.

ثُمَّ نَسَبَ نَفْسَهُ وَأَخَاهُ مُوسَىٰ(5) وَاعْتَزَلَ بِي نَاحِيَةً، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ أَبِي (علیه السلام)

ص: 171


1- الناصع: الخالص. والبلجة: نقاوة ما بين الحاجبين، يقال: رجل أبلج بيِّن البلج إذا لم يكن مقروناً. والمسنون: المملس، ورجل مسنون الوجه إذا كان في وجهه وأنفه طول. والشمم: ارتفاع في قصبة الأنف مع استواء أعلاه، فإنْ كان فيها احديداب فهو القنىٰ. والوفرة: الشعرة إلىٰ شحمة الأُذُن. والسحماء: السوداء. وشعر سبط أي مترسِّل غير جعد. والسمت: هيأة أهل الخير. (الصحاح للجوهري: ج 1/ ص 254/ مادَّة سمت).
2- الوشك - بالفتح والضمِّ -: السرعة. والمعاتب المراضى من قولهم: استعتبته فأعتبني أي استرضيته فأرضاني. وتشاحط الدار: تباعدها.
3- التقييض: التيسير والتسهيل. والتنازع: التساوق، من قولهم: نازعت النفس إلىٰ كذا أي اشتاقت. وفي بعض النُّسَخ: (التنارح) أي التباعد.
4- أي ألهمني.
5- هذا خلاف ما أجمعت عليه الشيعة الإماميَّة من أنَّه ليس لأبي محمّد ولد إلَّا القائم (عليه وعلىٰ آبائه السلام)، فتأمَّل.

عَهِدَ إِلَيَّ أَنْ لَا أُوَطِّنَ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا أَخْفَاهَا وَأَقْصَاهَا إِسْرَاراً لِأَمْرِي، وَتَحْصِيناً لِمَحَلِّي، لِمَكَائِدِ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالمَرَدَةِ مِنْ أَحْدَاثِ الْأُمَمِ الضَّوَالِّ، فَنَبَذَنِي إِلَىٰ عَالِيَةِ الرِّمَالِ، وَجُبْتُ صَرِائِمَ الْأَرْضِ(1) يُنْظِرُنِي الْغَايَةَ الَّتِي عِنْدَهَا يَحُلُّ الْأَمْرُ وَيَنْجَلِي الْهَلَعُ(2).

وَكَانَ (علیه السلام) أَنْبَطَ لِي(3) مِنْ خَزَائِنِ الْحِكَمِ وَكَوَامِنِ الْعُلُومِ مَا إِنْ أَشَعْتُ إِلَيْكَ(4) مِنْهُ جُزْءاً أَغْنَاكَ عَنِ الْجُمْلَةِ.

[وَاعْلَمْ] يَا أَبَا إِسْحَاقَ، أَنَّهُ قَالَ (علیه السلام): يَا بُنَيَّ، إِنَّ اللهَ (جَلَّ ثَنَاؤُهُ) لَمْ يَكُنْ لِيُخْلِيَ أَطْبَاقَ أَرْضِهِ وَأَهْلَ الْجِدِّ فِي طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ بِلَا حُجَّةٍ يُسْتَعْلَىٰ بِهَا، وَإِمَامٍ يُؤْتَمُّ بِهِ، وَيُقْتَدَىٰ بِسَبِيلِ سُنَّتِهِ وَمِنْهَاجِ قَصْدِهِ، وَأَرْجُو يَا بُنَيَّ أَنْ تَكُونَ أَحَدَ مَنْ أَعَدَّهُ اللهُ لِنَشْرِ الْحَقِّ وَوَطْءِ الْبَاطِلِ(5) وَإِعْلَاءِ الدِّينِ وَإِطْفَاءِ الضَّلَالِ،فَعَلَيْكَ يَا بُنَيَّ بِلُزُومِ خَوَافِي الْأَرْضِ، وَتَتَبُّعِ أَقَاصِيهَا، فَإِنَّ لِكُلِّ وَلِيٍّ لِأَوْلِيَاءِ اللهِ (عزوجل) عَدُوًّا مُقَارِعاً وَضِدًّا مُنَازِعاً افْتِرَاضاً لِمُجَاهَدَةِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَخَلَاعَةِ أُولِي الْإِلْحَادِ والْعِنَادِ، فَلَا يُوحِشَنَّكَ ذَلِكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ قُلُوبَ أَهْلِ الطَّاعَةِ وَالْإِخْلَاصِ نُزَّعٌ إِلَيْكَ(6) مِثْلَ الطَّيْرِ إِلَىٰ

ص: 172


1- العالية: كلُّ ما كان من جهة نجد من المدينة من قراها وعمائرها إلىٰ تهامة العالية، وما كان دون ذلك السافلة. (مراصد الاطِّلاع: ج 2/ ص 911). وجبت صرائم الأرض: أي قطعت ودرت ما انصرم من معظم الرمل يعنى الأراضي المحصود زرعها. وفي بعض النُّسخ: (خبت) بالخاء المعجمة، وهو المطمئنُّ من الأرض فيه رمل.
2- الهلع: الجزع.
3- أنبط الحفار: بلغ الماء. ونبج الماء: نبع. والمراد أظهر وأفشىٰ.
4- في بعض النُّسَخ: (أشعب) أي أفرق وأجزء.
5- في بعض النُّسَخ: (وطي الباطل).
6- نُزَّع - كرُكَّع - أي مشتاقون إليك. وقد يُقرء: (تَرَع) بالتحريك، والترع - محرَّكة -: الإسراع إلىٰ الشيء والامتلاء. في القاموس المحيط (ج 3/ ص 9): (ترع - كفرح - فهو ترع، وفلان اقتحم الأُمور مرحاً ونشاطاً فهو تريع)، ولعلَّ المختار أنسب كما في بحار الأنوار. لكن في بعض النُّسَخ المصحَّحة: (إنَّ قلوب أهل الطاعة والإخلاص تترع أشدّ ترعاً إليك من الطير...) إلخ.

أَوْكَارِهَا، وَهُمْ مَعْشَرٌ يَطَّلِعُونَ بِمَخَائِلِ الذِّلَّةِ وَالْاِسْتِكَانَةِ(1)، وَهُمْ عِنْدَ اللهِ بَرَرَةٌ أَعِزَّاءُ، يَبْرُزُونَ بِأَنْفُسٍ مُخْتَلِفَةٍ مُحْتَاجَةٍ(2)، وَهُمْ أَهْلُ الْقَنَاعَةِ وَالْاِعْتِصَامِ، اسْتَنْبَطُوا الدِّينَ فَوَازَرُوهُ عَلَىٰ مُجَاهَدَةِ الْأَضْدَادِ، خَصَّهُمُ اللهُ بِاحْتِمَالِ الضَّيْمِ فِي الدُّنْيَا(3)، لِيَشْمُلَهُمْ بِاتِّسَاعِ الْعِزِّ فِي دَارِ الْقَرَارِ، وَجَبَلَهُمْ(4) عَلَىٰ خَلَائِقِ الصَّبْرِ لِتَكُونَ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ الْحُسْنَىٰ، وَكَرَامَةُ حُسْنِ الْعُقْبَىٰ.

فَاقْتَبِسْ يَا بُنَيَّ نُورَ الصَّبْرِ عَلَىٰ مَوَارِدِ أُمُورِكَ تَفُزْ بِدَرْكِ الصُّنْعِ فِي مَصَادِرِهَا، وَاسْتَشْعِرِ الْعِزَّ فِيمَا يَنُوبُكَ تُحْظَ بِمَا تُحْمَدُ غِبَّهُ إِنْ شَاءَ اللهُ(5)،وكَأَنَّكَ يَا بُنَيَّ بِتَأْيِيدِ نَصْرِ اللهِ [وَ]قَدْ آنَ، وَتَيْسِيرِ الْفَلْجِ وَعُلُوِّ الْكَعْبِ، [وَ]قَدْ حَانَ(6) وَكَأَنَّكَ بِالرَّايَاتِ الصُّفْرِ وَالْأَعْلَامِ الْبِيضِ تَخْفِقُ عَلَىٰ أَثْنَاءِ أَعْطَافِكَ(7) مَا بَيْنَ الْحَطِيمِ وَزَمْزَمَ، وَكَأَنَّكَ بِتَرَادُفِ الْبَيْعَةِ وَتَصَافِي الْوَلَاءِ(8) يَتَنَاظَمُ عَلَيْكَ تَنَاظُمَ الدُّرِّ فِي مَثَانِي الْعُقُودِ ،

ص: 173


1- أي يدخلون في أُمور هي مظانُّ المذلَّة، أو يطلعون ويخرجون بين الناس مع أحوال هي مظانُّها.
2- في بعض النُّسَخ: (بررة أغرَّاء) بإعجام العين وإهمال الراء، جمع الأغرّ، من غرَّ الأماجد وغرَّ المحجَّلين. وفي بعض النُّسَخ: (بأنفس مخبلة محتاجة). والخبل: فساد العقل، والمختار هو الصواب.
3- الضيم: الظلم.
4- أي خلقهم وفطرهم.
5- أي اصبر علىٰ المكاره والبلايا وما يرد عليك منها حتَّىٰ تفوز بدرك ما صنع الله إليك ومعروفه لديك في إرجاع المكاره وصرفها عنك. واستشعر العزَّ في ما ينوبك، أي أضمر العزَّ والنصرة والغلبة في قلبك لأجل الغيبة من خوفك عن الناس، واصبر وانتظر الفرج فيما أصابك من هذه النوائب. أو اعلم وأيقن بأنَّ ما ينوبك من البلايا والمحن هو سبب لعزِّك وقربك وسعادتك. والغبُّ: المآل والعاقبة. وفي بعض النُّسَخ: (بما تُحمَد عليه).
6- علوُّ الكعب كناية عن الغلبة والعزِّ والشرف.
7- أثناء الشيء: قواه وطاقاته. والمراد بالأعطاف جوانبها. والخفق: الاضطراب، وخفقت الراية تحرَّك واضطرب.
8- في الكنز: (تصافىٰ) يعني الودُّ الخالص. وفي بعض النُّسَخ: (تصادف).

وَتَصَافُقَ الْأَكُفِّ عَلَىٰ جَنَبَاتِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ(1) تَلُوذُ بِفِنَائِكَ مِنْ مَلَإٍ بَرَأَهُمُ اللهُ مِنْ طَهَارَةِ الْوِلَادَةِ وَنَفَاسَةِ التُّرْبَةِ، مُقَدَّسَةً قُلُوبُهُمْ مِنْ دَنَسِ النِّفَاقِ، مُهَذَّبَةً أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ رِجْسِ الشِّقَاقِ، لَيِّنَةً عَرَائِكُهُمْ لِلدِّينِ(2)، خَشِنَةً ضَرَائِبُهُمْ عَنِ الْعُدْوَانِ، وَاضِحَةً بِالْقَبُولِ أَوْجُهُهُمْ، نَضِرَةً بِالْفَضْلِ عِيدَانُهُمْ(3)، يَدِينُونَ بِدِينِ الْحَقِّ وَأَهْلِهِ، فَإِذَا اشْتَدَّتْ أَرْكَانُهُمْ وَتَقَوَّمَتْ أَعْمَادُهُمْ، فَدَّتْ بِمُكَانَفَتِهِمْ(4) طَبَقَاتُ الْأُمَمِ إِلَىٰ إِمَامٍ، إِذْ تَبِعَتْكَ فِيظِلَالِ شَجَرَةِ دَوْحَةٍ تَشَعَّبَتْ أَفْنَانُ غُصُونِهَا عَلَىٰ حَافَاتِ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ(5)، فَعِنْدَهَا يَتَلَأْلَأُ صُبْحُ الْحَقِّ، وَيَنْجَلِي ظَلَامُ الْبَاطِلِ، وَيَقْصِمُ اللهُ بِكَ الطُّغْيَانَ، وَيُعِيدُ مَعَالِمَ الْإِيمَانِ، يَظْهَرُ بِكَ اسْتِقَامَةُ الْآفَاقِ وَسَلَامُ الرِّفَاقِ، يَوَدُّ الطِّفْلُ فِي المَهْدِ لَوِ اسْتَطَاعَ إِلَيْكَ نُهُوضاً، وَنَوَاشِطُ الْوَحْشِ لَوْ تَجِدُ نَحْوَكَ مَجَازاً، تَهْتَزُّ بِكَ(6) أَطْرَافُ الدُّنْيَا بَهْجَةً، وَتَنْشُرُ عَلَيْكَ أَغْصَانُ الْعِزِّ نَضْرَةً، وَتَسْتَقِرُّ بَوَانِي الْحَقِّ فِي قَرَارِهَا، وَتَؤُوبُ شَوَارِدُ الدِّينِ(7) إِلَىٰ أَوْكَارِهَا، تَتَهَاطَلُ عَلَيْكَ سَحَائِبُ الظَّفَرِ، فَتَخْنُقُ كُلَّ عَدُوٍّ، وَتَنْصُرُ كُلَّ وَلِيٍّ، فَلَا يَبْقَىٰ عَلَىٰ وَجْهِ الْأَرْضِ جَبَّارٌ قَاسِطٌ وَلَا

ص: 174


1- أي العقود المثنيَّة المعقودة التي لا يتطرَّق إليها التبدُّد. أو في موضع ثنيِّها فإنَّها في تلك المواضع أجمع وأكثف. والتصافق: ضرب اليد على اليد عند البيعة، من صفقت له بالبيع أي ضربت بيدي على يده. والجنبات: الأطراف.
2- العرائك: جمع عريكة وهي الطبيعة، وكذا الضرائب جمع ضريبة وهي الطبيعة أيضاً والسيف وحدُّه.
3- العيدان - بالفتح -: الطوال من النخل.
4- فدَّ يفدُّ - كفرَّ يفرُّ -: عدا وركض. والمكانفة: المعاونة. والأعماد: جمع عمود من غير قياس.
5- إذ تبعتك: أي بايعك وتابعك هؤلاء المؤمنون. والدوحة: الشجرة العظيمة. والأفنان: الأغصان. وفي بعض النُّسَخ: (بسقت أفنان غصونها)، وبسق النخل بسوقاً: طال. والحافات: الجوانب.
6- الناشط: الثور الوحشي يخرج من أرض إلىٰ أرض. وتهتزُّ: أي تتحرَّك.
7- بواني الحقِّ: أساسها. وفي بعض النُّسَخ: (بواني العزِّ) أي الخصال التي تبني العزَّ وتُؤسِّسها. وآب يؤوب أوباً فهو آبٍ أي راجع. وشرد البعير أي نفر فهو شارد. والوكر: عشُّ الطائر، جمعها أوكار. وتهاطل السحاب أي تتابع بالمطر.

جَاحِدٌ غَامِطٌ وَلَا شَانِئٌ مُبْغِضٌ وَلَا مُعَانِدٌ كَاشِحٌ (1)، «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَىٰ اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً 3» [الطلاق: 3]».

ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا إِسْحَاقَ، لِيَكُنْ مَجْلِسِي هَذَا عِنْدَكَ مَكْتُوماً إِلَّا عَنْ أَهْلِ التَّصْدِيقِ وَالْأُخُوَّةِ الصَّادِقَةِ فِي الدِّينِ، إِذَا بَدَتْ لَكَ أَمَارَاتُ الظُّهُورِ وَالتَّمَكُّنِ فَلَا تُبْطِئْ بِإِخْوَانِكَ عَنَّا، وَبَاهِرِ المُسَارَعَةَ (2) إِلَىٰ مَنَارِ الْيَقِينِ وَضِيَاءِمَصَابِيحِ الدِّينِ تَلْقَ رُشْداً إِنْ شَاءَ اللهُ».

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْزِيَارَ: فَمَكَثْتُ عِنْدَهُ حِيناً أَقْتَبِسُ مَا أُؤَدِّي إِلَيْهِمْ (3) مِنْ مُوضِحَاتِ الْأَعْلَامِ وَنَيِّرَاتِ الْأَحْكَامِ، وَأَرْوِي نَبَاتَ الصُّدُورِ مِنْ نَضَارَةِ مَا ادَّخَرَهُ اللهُ فِي طَبَائِعِهِ مِنْ لَطَائِفِ الْحِكَمِ وَطَرَائِفِ فَوَاضِلِ الْقِسَمِ حَتَّىٰ خِفْتُ إِضَاعَةَ مُخَلَّفِي بِالْأَهْوَازِ لِتَرَاخِي اللِّقَاءِ عَنْهُمْ، فَاسْتَأْذَنْتُهُ بِالْقُفُولِ، وَأَعْلَمْتُهُ عَظِيمَ مَا أَصْدُرُ بِهِ عَنْهُ مِنَ التَّوَحُّشِ لِفُرْقَتِهِ وَالتَّجَرُّعِ لِلظَّعْنِ عَنْ مَحَالِّهِ (4)، فَأَذِنَ وَأَرْدَفَنِي مِنْ صَالِحِ دُعَائِهِ مَا يَكُونُ لِي ذُخْراً عِنْدَ اللهِ وَلِعَقِبِي وَقَرَابَتِي إِنْ شَاءَ اللهُ.

فَلَمَّا أَزِفَ ارْتِحَالِي (5) وَتَهَيَّأَ اعْتِزَامُ نَفْسِي غَدَوْتُ عَلَيْهِ مُوَدِّعاً وَمُجَدِّداً لِلْعَهْدِ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِ مَالاً كَانَ مَعِي يَزِيدُ عَلَىٰ خَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَسَأَلْتُهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ بِالْأَمْرِ بِقَبُولِهِ مِنِّي، فَابْتَسَمَ وَقَالَ: «يَا أَبَا إِسْحَاقَ، اسْتَعِنْ بِهِ عَلَىٰ مُنْصَرَفِكَ فَإِنَّ

ص: 175


1- الغامط: الحاقر للحقِّ، وغمط العافية لم يشكرها، وغمط أهله بطر بالنعمة. والشانئ: العائب. والكاشح: الذي يضمر لك العداوة.
2- في هامش بعض النُّسَخ عن المحكم لابن سيِّدة: (بهر عليه أي غلبه وفاق علىٰ غيره في العلم والمسارعة) انتهىٰ. وفي بعض النُّسَخ: (ناهز المسارعة)، وفي بحار الأنوار: (باهل المسارعة). ثمّ اعلم أنَّ هذه الجملة يتضمَّن بقاء إبراهيم بن مهزيار إلىٰ يوم خروجه، ولا يخفىٰ ما فيه.
3- يعنى أُؤدِّي إلىٰ إخواني. وقوله: (إليهم) ليس في بعض النُّسَخ.
4- القفول: الرجوع من السفر. والظعن: السير والارتحال.
5- أي دنا رجعتي. والاعتزام: العزم، أو لزوم القصد في المشي. وقد يُقرء (الاغترام) بالغين المعجمة والراء المهملة من الغرامة كأنَّه يغرم نفسه بسوء صنيعه في مفارقة مولاه.

الشُّقَّةَ قُذْفَةٌ وَفَلَوَاتِ الْأَرْضِ أَمَامَكَ جُمَّةٌ (1)، وَلَا تَحْزَنْ لِإِعْرَاضِنَا عَنْهُ، فَإِنَّا قَدْ أَحْدَثْنَا لَكَ شُكْرَهُ وَنَشْرَهُ، وَرَبَضْنَاهُ عِنْدَنَا بِالتَّذْكِرَةِوَقَبُولِ الْمِنَّةِ، فَبَارَكَ اللهُ فِيمَا خَوَّلَكَ، وَأَدَامَ لَكَ مَا نَوَّلَكَ (2)، وَكَتَبَ لَكَ أَحْسَنَ ثَوَابِ المُحْسِنِينَ وَأَكْرَمَ آثَارِ الطَّائِعِينَ، فَإِنَّ الْفَضْلَ لَهُ وَمِنْهُ، وَأَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرُدَّكَ إِلَىٰ أَصْحَابِكَ بِأَوْفَرِ الْحَظِّ مِنْ سَلَامَةِ الْأَوْبَةِ وَأَكْنَافِ الْغِبْطَةِ بِلِينِ المُنْصَرَفِ، وَلَا أَوْعَثَ اللهُ لَكَ سَبِيلاً (3)، وَلَا حَيَّرَ لَكَ دَلِيلاً، وَاسْتَوْدِعْهُ نَفْسَكَ وَدِيعَةً لَا تَضِيعُ وَلَا تَزُولُ بِمَنِّهِ وَلُطْفِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ.

يَا أَبَا إِسْحَاقَ، قَنَّعَنَا بِعَوَائِدِ إِحْسَانِهِ وَفَوَائِدِ امْتِنَانِهِ، وَصَانَ أَنْفُسَنَا عَنْ مُعَاوَنَةِ الْأَوْلِيَاءِ لَنَا عَنِ الْإِخْلَاصِ فِي النِّيَّةِ، وَإِمْحَاضِ النَّصِيحَةِ، وَالمُحَافَظَةِ عَلَىٰ مَا هُوَ أَنْقَىٰ وَأَتْقَىٰ وَأَرْفَعُ ذِكْراً (4)».

قَالَ: فَأَقْفَلْتُ عَنْهُ (5) حَامِداً لِلهِ (عزوجل) عَلَىٰ مَا هَدَانِي وَأَرْشَدَنِي، عَالِماً بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُنْ لِيُعَطِّلَ أَرْضَهُ وَلَا يُخْلِيهَا مِنْ حُجَّةٍ وَاضِحَةٍ، وَإِمَامٍ قَائِمٍ، وَأَلْقَيْتُ (6) هَذَا الْخَبَرَ المَأْثُورَ وَالنَّسَبَ المَشْهُورَ تَوَخِّياً لِلزِّيَادَةِ فِي بَصَائِرِ أَهْلِ الْيَقِينِ، وَتَعْرِيفاً لَهُمْ مَا مَنَّ اللهُ (عزوجل) بِهِ مِنْ إِنْشَاءِ الذُّرِّيَّةِ الطَّيِّبَةِ وَالتُّرْبَةِ الزَّكِيَّةِ، وَقَصَدْتُ أَدَاءَ الْأَمَانَةِ وَالتَّسْلِيمَ

ص: 176


1- الشقَّة - بالضمِّ والكسر -: البعد والناحية يقصدها المسافر، والسفر البعيد والمشقَّة. (القاموس). وفلاة قذف - محرَّكة وبضمَّتين وكصبور -: أي بعيدة. والجمَّة - بفتح الجيم وضمِّها -: معظم الشيء أو الكثير منه.
2- ربضت الشاة: أقامت في مربضها. وربضه بالمكان تربيضاً ثبَّته فيه، والدوابّ: آواها في المربض. وخوَّله الشيء: أعطاه إيَّاه متفضِّلاً، أو ملَّكه إيَّاه. ونوَّله تنويلاً: أعطاه نوالاً، ونوَّله معروفه: أعطاه إيَّاه.
3- الأوبة: الرجوع. والأكناف إمَّا بكسر الهمزة مصدر أكنفه أي صانه وحفظه وأعانه وأحاطه، أو بفتحها جمع الكنف - محرَّكة - وهو الحرز والستر والجانب والظلُّ والناحية. ووعث الطريق: تعسُّر سلوكه، والوعث: الطريق العسر، والوعثاء: المشقَّة.
4- في بعض النُّسَخ: (ما هو أبقىٰ وأتقىٰ وأرفع ذكراً).
5- أي رجعت عنه. وفي بعض النُّسَخ: (فأقلعت عنه) أي تركته.
6- في بعض النُّسَخ: (وألفت).

لِمَا اسْتَبَانَ، لِيُضَاعِفَ اللهُ (عزوجل) الْمِلَّةَ الْهَادِيَةَ، وَالطَّرِيقَةَ المُسْتَقِيمَةَ المَرْضِيَّةَ (1) قُوَّةَ عَزْمٍوَتَأْيِيدَ نِيَّةٍ، وَشِدَّةَ أُزُرٍ، وَاعْتِقَادَ عِصْمَةٍ، وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلىٰ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (2).

[20/406] وَسَمِعْنَا شَيْخاً (3) مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ يُقَالُ لَهُ: أَحْمَدُ بْنُ فَارِسٍ الْأَدِيبُ يَقُولُ: سَمِعْتُ بِهَمَدَانَ حِكَايَةً حَكَيْتُهَا كَمَا سَمِعْتُهَا لِبَعْضِ إِخْوَانِي، فَسَأَلَنِي أَنْ أُثْبِتَهَا لَهُ بِخَطِّي وَلَمْ أَجِدْ إِلَىٰ مُخَالَفَتِهِ سَبِيلاً، وَقَدْ كَتَبْتُهَا وَعُهْدَتُهَا عَلَىٰ مَنْ حَكَاهَا:

وَذَلِكَ أَنَّ بِهَمَدَانَ نَاساً يُعْرَفُونَ بِبَنِي رَاشِدٍ، وَهُمْ كُلُّهُمْ يَتَشَيَّعُونَ، وَمَذْهَبُهُمْ مَذْهَبُ أَهْلِ الْإِمَامَةِ، فَسَأَلْتُ عَنْ سَبَبِ تَشَيُّعِهِمْ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ هَمْدَانَ، فَقَالَ لِي شَيْخٌ مِنْهُمْ - رَأَيْتُ فِيهِ صَلَاحاً وَسَمْتاً -: إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ جَدَّنَا الَّذِي نَنْتَسِبُ إِلَيْهِ خَرَجَ حَاجًّا، فَقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا صَدَرَ مِنَ الْحَجِّ وَسَارُوا مَنَازِلَ فِي الْبَادِيَةِ، قَالَ: فَنَشَطْتُ فِي النُّزُولِ وَالمَشْيِ، فَمَشَيْتُ طَوِيلاً حَتَّىٰ أَعْيَيْتُ وَنَعَسْتُ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: أَنَامُ نَوْمَةً تُرِيحُنِي، فَإِذَا جَاءَ أَوَاخِرُ الْقَافِلَةِ قُمْتُ، قَالَ: فَمَا انْتَبَهْتُ إِلَّا بِحَرِّ الشَّمْسِ وَلَمْ أَرَ أَحَداً، فَتَوَحَّشْتُ وَلَمْ أَرَ طَرِيقاً وَلَا أَثَراً، فَتَوَكَّلْتُ عَلَىٰ اللهِ (عزوجل) وَقُلْتُ: أَسِيرُ حَيْثُ وَجَّهَنِي، وَمَشَيْتُ غَيْرَ طَوِيلٍ، فَوَقَعْتُ فِي أَرْضٍ خَضْرَاءَ نَضْرَاءَ كَأَنَّهَا قَرِيبَةُ عَهْدٍ مِنْ غَيْثٍ، وَإِذَا تُرْبَتُهَا أَطْيَبُ تُرْبَةٍ، وَنَظَرْتُ فِي سَوَاءِ تِلْكَ الْأَرْضِ (4) إِلَىٰ قَصْرٍ يَلُوحُ كَأَنَّهُ سَيْفٌ، فَقُلْتُ: لَيْتَ شِعْرِي مَا هَذَا الْقَصْرُ الَّذِي لَمْ أَعْهَدْهُ وَلَمْ أَسْمَعْ بِهِ؟ فَقَصَدْتُهُ، فَلَمَّا بَلَغْتُ الْبَابَ رَأَيْتُ خَادِمَيْنِ أَبْيَضَيْنِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمَا فَرَدَّا رَدًّاجَمِيلاً، وَقَالَا: اجْلِسْ فَقَدْ أَرَادَ اللهُ بِكَ خَيْراً، فَقَامَ أَحَدُهُمَا وَدَخَلَ وَاحْتَبَسَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ

ص: 177


1- في بعض النُّسَخ: (والطبقة المرضيَّة) مكان (والطريقة...) إلخ.
2- راجع: بحار الأنوار (ج 52/ ص 32 - 40/ ح 28).
3- في هامش بعض النُّسَخ وبحار الأنوار كذا: (القصَّة مذكورة في كتاب السلطان المفرِّج عن أهل الإيمان عن أحوال صاحب الزمان، تأليف السيِّد عليِّ بن عبد الحميد).
4- أي وسطها.

خَرَجَ فَقَالَ: قُمْ فَادْخُلْ، فَدَخَلْتُ قَصْراً لَمْ أَرَ بِنَاءً أَحْسَنَ مِنْ بِنَائِهِ وَلَا أَضْوَأَ مِنْهُ، فَتَقَدَّمَ الْخَادِمُ إِلَىٰ سِتْرٍ عَلَىٰ بَيْتٍ فَرَفَعَهُ، ثُمَّ قَالَ لِي: ادْخُلْ، فَدَخَلْتُ الْبَيْتَ فَإِذَا فَتًى جَالِسٌ فِي وَسَطِ الْبَيْتِ وَقَدْ عُلِّقَ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنَ السَّقْفِ سَيْفٌ طَوِيلٌ تَكَادُ ظُبَتُهُ تَمَسُّ رَأْسَهُ (1)، وَالْفَتَىٰ [كَأَنَّهُ] بَدْرٌ يَلُوحُ فِي ظَلَامٍ، فَسَلَّمْتُ، فَرَدَّ السَّلَامَ بِأَلْطَفِ كَلَامٍ وَأَحْسَنِهِ، ثُمَّ قَالَ لِي: «أَتَدْرِي مَنْ أَنَا؟»، فَقُلْتُ: لَا وَاللهِ، فَقَالَ: «أَنَا الْقَائِمُ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله)، أَنَا الَّذِي أَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بِهَذَا السَّيْفِ - وَأَشَارَ إِلَيْهِ - فَأَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً».

فَسَقَطْتُ عَلَىٰ وَجْهِي، وَتَعَفَّرْتُ، فَقَالَ: «لَا تَفْعَلْ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، أَنْتَ فُلَانٌ مِنْ مَدِينَةٍ بِالْجَبَلِ يُقَالُ لَهَا: هَمَدَانُ؟»، فَقُلْتُ: صَدَقْتَ يَا سَيِّدِي وَمَوْلَايَ، قَالَ: «فَتُحِبُّ أَنْ تَئُوبَ إِلَىٰ أَهْلِكَ؟»، فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا سَيِّدِي وَأُبَشِّرُهُمْ بِمَا أَتَاحَ اللهُ (عزوجل) لِي، فَأَوْمَأَ إِلَىٰ الْخَادِمِ، فَأَخَذَ بِيَدِي وَنَاوَلَنِي صُرَّةً وَخَرَجَ وَمَشَىٰ مَعِي خُطُوَاتٍ، فَنَظَرْتُ إِلَىٰ ظِلَالٍ وَأَشْجَارٍ وَمَنَارَةِ مَسْجِدٍ، فَقَالَ: أَتَعْرِفُ هَذَا الْبَلَدَ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ بِقُرْبِ بَلَدِنَا بَلْدَةً تُعْرَفُ بِأَسَدْآبَاذَ وَهِيَ تُشْبِهُهَا، قَالَ: فَقَالَ: هَذِهِ أَسَدْآبَاذُ امْضِ رَاشِداً، فَالْتَفَتُّ فَلَمْ أَرَهُ.

فَدَخَلْتُ أَسَدْآبَاذَ وَإِذَا فِي الصُّرَّةِ أَرْبَعُونَ أَوْ خَمْسُونَ دِينَاراً، فَوَرَدْتُ هَمَدَانَ وَجَمَعْتُ أَهْلِي وَبَشَّرْتُهُمْ بِمَا يَسَّرَهُ اللهُ (عزوجل) لِي، وَلَمْ نَزَلْ بِخَيْرٍ مَا بَقِيَ مَعَنَا مِنْ تِلْكَ الدَّنَانِيرِ (2).

[21/407] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ النَّوْفَلِيُّ المَعْرُوفُ بِالْكِرْمَانِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَىٰ الْوَشَّاءُ الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا

ص: 178


1- ظُبة السيف - بالضمِّ مخفَّفاً -: طرفه، وحدُّ السيف والسنان.
2- رواه ابن حمزة (رحمة الله) في الثاقب في المناقب (ص 605 و606/ ح 553/1)، وراجع: السلطان المفرِّج عن أهل الإيمان (ص 62 - 64/ القصَّة 12)، وبحار الأنوار (ج 52/ ص 40 - 42/ ح 30).

أَحْمَدُ بْنُ طَاهِرٍ الْقُمِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرِ بْنِ سَهْلٍ الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَسْرُورٍ (1)، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْقُمِّيِّ، قَالَ: كُنْتُ امْرَأً لَهِجاً بِجَمْعِ الْكُتُبِ المُشْتَمِلَةِ عَلَىٰ غَوَامِضِ الْعُلُومِ وَدَقَائِقِهَا، كَلِفاً بِاسْتِظْهَارِ مَا يَصِحُّ لِي مِنْ حَقَائِقِهَا، مُغْرَماً (2) بِحِفْظِ مُشْتَبَهِهَا وَمُسْتَغْلَقِهَا، شَحِيحاً عَلَىٰ مَا أَظْفَرُ بِهِ مِنْ مُعْضَلَاتِهَا (3) وَمُشْكِلَاتِهَا، مُتَعَصِّباً لِمَذْهَبِ الْإِمَامِيَّةِ، رَاغِباً عَنِ الْأَمْنِ وَالسَّلَامَةِ، فِي انْتِظَارِ التَّنَازُعِ وَالتَّخَاصُمِ وَالتَّعَدِّي إِلَىٰ التَّبَاغُضِ وَالتَّشَاتُمِ، مُعَيِّباً لِلْفِرَقِ ذَوِي الْخِلَافِ، كَاشِفاً عَنْ مَثَالِبِ أَئِمَّتِهِمْ، هَتَّاكاً لِحُجُبِ قَادَتِهِمْ، إِلَىٰ أَنْ بُلِيتُ بِأَشَدِّ النَّوَاصِبِ مُنَازَعَةً، وَأَطْوَلِهِمْ مُخَاصَمَةً، وَأَكْثَرِهِمْ جَدَلاً، وَأَشْنَعِهِمْ سُؤَالاً، وَأَثْبَتِهِمْ عَلَىٰ الْبَاطِلِ قَدَماً.

فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ - وَأَنَا أُنَاظِرُهُ -: تَبًّا لَكَ وَلِأَصْحَابِكَ يَا سَعْدُ، إِنَّكُمْ مَعَاشِرَ الرَّافِضَةِ تَقْصِدُونَ عَلَىٰ المُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالطَّعْنِ عَلَيْهِمَا، وَتَجْحَدُونَ مِنْ رَسُولِ اللهِ وَلَايَتَهُمَا وَإِمَامَتَهُمَا، هَذَا الصِّدِّيقَ الَّذِي فَاقَ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ بِشَرَفِسَابِقَتِهِ، أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ مَا أَخْرَجَهُ مَعَ نَفْسِهِ إِلَىٰ الْغَارِ إِلَّا عِلْماً مِنْهُ أَنَّ الْخِلَافَةَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ المُقَلَّدُ لِأَمْرِ التَّأْوِيلِ وَالمُلْقَىٰ إِلَيْهِ أَزِمَّةُ الْأُمَّةِ، وَعَلَيْهِ المُعَوَّلُ فِي شَعْبِ الصَّدْعِ، وَلَمِّ الشَّعَثِ، وَسَدِّ الْخَلَلِ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَتَسْرِيبِ الْجُيُوشِ لِفَتْحِ بِلَادِ الشِّرْكِ (4)؟ وَكَمَا أَشْفَقَ عَلَىٰ نُبُوَّتِهِ أَشْفَقَ عَلَىٰ خِلَافَتِهِ، إِذْ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ الِاسْتِتَارِ وَالتَّوَارِي أَنْ يَرُومَ

ص: 179


1- رجال السند بعضهم مجهول الحال وبعضهم مهمل، والمتن متضمِّن لغرائب بعيد صدروها عن المعصوم (علیه السلام)، ويشتمل علىٰ أحكام تخالف ما صحَّ عنهم (علیهم السلام). مضافاً إلىٰ أنَّ الواسطة بين الصدوق وسعد بن عبد الله في جميع كُتُبه واحدة أبوه أو محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد كما هو المحقَّق عند من تتبَّع كُتُبه ومشيخته، وهنا بين المصنِّف (رحمة الله) وسعد خمس وسائط. وقد رواه الطبري (رحمة الله) في دلائل الإمامة بثلاث وسائط هم غير ما هنا.
2- لهجاً: أي حريصاً. كلفاً: أي مولعاً. مغرماً: أي محبًّا مشتاقاً.
3- في بعض النُّسَخ: (معاضلها).
4- تسريب الجيوش: بعثها قطعة قطعة.

الْهَارِبُ مِنَ الشَّرِّ مُسَاعَدَةً إِلَىٰ مَكَانٍ يَسْتَخْفِي فِيهِ، وَلَمَّا رَأَيْنَا النَّبِيَّ مُتَوَجِّهاً إِلَىٰ الْاِنْجِحَارِ، وَلَمْ تَكُنِ الْحَالُ تُوجِبُ اسْتِدْعَاءَ المُسَاعَدَةِ مِنْ أَحَدٍ، اسْتَبَانَ لَنَا قَصْدُ رَسُولِ اللهِ بِأَبِي بَكْرٍ لِلْغَارِ لِلْعِلَّةِ الَّتِي شَرَحْنَاهَا، وَإِنَّمَا أَبَاتَ عَلِيًّا عَلَىٰ فِرَاشِهِ لِمَا لَمْ يَكُنْ يَكْتَرِثُ بِهِ ولَمْ يَحْفِلْ بِهِ لِاسْتِثْقَالِهِ (1)، وَلِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ إِنْ قُتِلَ لَمْ يَتَعَذَّرْ عَلَيْهِ نَصْبُ غَيْرِهِ مَكَانَهُ لِلْخُطُوبِ الَّتِي كَانَ يَصْلُحُ لَهَا.

قَالَ سَعْدٌ: فَأَوْرَدْتُ عَلَيْهِ أَجْوِبَةً شَتَّىٰ، فَمَا زَالَ يُعَقِّبُ (2) كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِالنَّقْضِ وَالرَّدِّ عَلَيَّ.

ثُمَّ قَالَ: يَا سَعْدُ، وَدُونَكَهَا أُخْرَىٰ بِمِثْلِهَا تُخْطَمُ أُنُوفُ الرَّوَافِضِ (3)، أَلَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ الصِّدِّيقَ المُبَرَّأَ مِنْ دَنَسِ الشُّكُوكِ وَالْفَارُوقَ المُحَامِيَ عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ كَانَا يُسِرَّانِ النِّفَاقَ، وَاسْتَدْلَلْتُمْ بِلَيْلَةِ الْعَقَبَةِ؟ أَخْبِرْنِي عَنِ الصِّدِّيقِ وَالْفَارُوقِ أَسْلَمَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً؟

قَالَ سَعْدٌ: فَاحْتَلْتُ لِدَفْعِ هَذِهِ المَسْأَلَةِ عَنِّي خَوْفاً مِنَ الْإِلْزَامِ، وَحَذَراً مِنْأَنِّي إِنْ أَقْرَرْتُ لَهُ بِطَوْعِهِمَا (4) لِلْإِسْلَامِ احْتَجَّ بِأَنَّ بَدْءَ النِّفَاقِ وَنَشْأَهُ فِي الْقَلْبِ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ هُبُوبِ رَوَائِحِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَإِظْهَارِ الْبَأْسِ الشَّدِيدِ فِي حَمْلِ المَرْءِ عَلَىٰ مَنْ لَيْسَ يَنْقَادُ إِلَيْهِ قَلْبُهُ، نَحْوُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَىٰ: «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكينَ 84 فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا» [غافر: 84 و85]، وَإِنْ قُلْتُ: أَسْلَمَا كَرْهاً، كَانَ يَقْصِدُنِي بِالطَّعْنِ إِذْ لَمْ تَكُنْ ثَمَّةَ سُيُوفٌ مُنْتَضَاةٌ (5) كَانَتْ تُرِيهِمَا الْبَأْسَ.

ص: 180


1- ما اكترث له مع أكترث له: أي ما أُبالي. وما حفله وما حفل به: أي ما أُبالي به ولا أهتمُّ له.
2- في بعض النُّسَخ: (يقصد).
3- خطمه: أي ضرب أنفه.
4- في بعض النُّسَخ: (بطواعيَّتهما).
5- انتضىٰ السيف: سلَّه.

قَالَ سَعْدٌ: فَصَدَرْتُ عَنْهُ مُزْوَرًّا (1) قَدِ انْتَفَخَتْ أَحْشَائِي مِنَ الْغَضَبِ وَتَقَطَّعَ كَبِدِي مِنَ الْكَرْبِ، وَكُنْتُ قَدِ اتَّخَذْتُ طُومَاراً وَأَثْبَتُّ فِيهِ نَيِّفاً وَأَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً مِنْ صِعَابِ المَسَائِلِ لَمْ أَجِدْ لَهَا مُجِيباً، عَلَىٰ أَنْ أَسْأَلَ عَنْهَا خَبِيرَ أَهْلِ بَلَدِي أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ صَاحِبَ مَوْلَانَا أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام)، فَارْتَحَلْتُ خَلْفَهُ وَقَدْ كَانَ خَرَجَ قَاصِداً نَحْوَ مَوْلَانَا بِسُرَّ مَنْ رَأَىٰ، فَلَحِقْتُهُ فِي بَعْضِ المَنَازِلِ، فَلَمَّا تَصَافَحْنَا قَالَ: بِخَيْرٍ لِحَاقُكَ بِي، قُلْتُ: الشَّوْقُ ثُمَّ الْعَادَةُ فِي الْأَسْئِلَةِ، قَالَ: قَدْ تَكَافَيْنَا عَلَىٰ هَذِهِ الْخُطَّةِ الْوَاحِدَةِ، فَقَدْ بَرِحَ بِيَ الْقَرَمُ(2) إِلَىٰ لِقَاءِ مَوْلَانَا أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام)، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْ مَعَاضِلَ فِي التَّأْوِيلِ وَمَشَاكِلَ فِي التَّنْزِيلِ، فَدُونَكَهَا الصُّحْبَةَ المُبَارَكَةَ، فَإِنَّهَا تَقِفُ بِكَ عَلَىٰضَفَّةِ بَحْرٍ(3) لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا تَفْنَىٰ غَرَائِبُهُ، وَهُوَ إِمَامُنَا.

فَوَرَدْنَا سُرَّ مَنْ رَأَىٰ، فَانْتَهَيْنَا مِنْهَا إِلَىٰ بَابِ سَيِّدِنَا، فَاسْتَأْذَنَّا، فَخَرَجَ عَلَيْنَا الْإِذْنُ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَكَانَ عَلَىٰ عَاتِقِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ جِرَابٌ قَدْ غَطَّاهُ بِكِسَاءٍ طَبَرِيٍّ فِيهِ مِائَةٌ وَسِتُّونَ صُرَّةً مِنَ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، عَلَىٰ كُلِّ صُرَّةٍ مِنْهَا خَتْمُ صَاحِبِهَا.

قَالَ سَعْدٌ: فَمَا شَبَّهْتُ وَجْهَ مَوْلَانَا أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام) حِينَ غَشِيَنَا نُورُ وَجْهِهِ إِلَّا بِبَدْرٍ قَدِ اسْتَوْفَىٰ مِنْ لَيَالِيهِ أَرْبَعاً بَعْدَ عَشْرٍ، وَعَلَىٰ فَخِذِهِ الْأَيْمَنِ غُلَامٌ يُنَاسِبُ المُشْتَرِيَ فِي الْخِلْقَةِ وَالمَنْظَرِ، عَلَىٰ رَأْسِهِ فَرْقٌ بَيْنَ وَفْرَتَيْنِ كَأَنَّهُ أَلِفٌ بَيْنَ وَاوَيْنِ، وَبَيْنَ يَدَيْ مَوْلَانَا رُمَّانَةٌ ذَهَبِيَّةٌ تَلْمَعُ بَدَائِعُ نُقُوشِهَا وَسَطَ غَرَائِبِ الْفُصُوصِ المُرَكَّبَةِ

ص: 181


1- الإزورار عن الشيء: العدول عنه.
2- الخُطَّة - بالضمِّ -: شبه القصَّة والأمر والجهل. (ق). يعني تساوينا علىٰ هذه الحالة أي العادة في الأسئلة في القصَّة الواحدة في الأمر الواحد. وبرَّح به الأمر تبريحاً، وتباريح الشوق: توهُّجه. والقرم - محرَّكة -: شدَّة شهوة اللحم وكثر استعمالها حتَّىٰ قيل في الشوق إلىٰ الحبيب، والمراد هنا شدَّه الشوق. وفي بعض النُّسَخ: (برَّح بي الشوق).
3- ضفة البحر: ساحله. وفي بعض النُّسَخ: (ثقف بك).

عَلَيْهَا، قَدْ كَانَ أَهْدَاهَا إِلَيْهِ بَعْضُ رُؤَسَاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَبِيَدِهِ قَلَمٌ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْطُرَ بِهِ عَلَىٰ الْبَيَاضِ شَيْئاً قَبَضَ الْغُلَامُ عَلَىٰ أَصَابِعِهِ، فَكَانَ مَوْلَانَا يُدَحْرِجُ الرُّمَّانَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَشْغَلُهُ بِرَدِّهَا كَيْ لَا يَصُدَّهُ عَنْ كِتَابَةِ مَا أَرَادَ(1)، فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَأَلْطَفَ فِي الْجَوَابِ، وَأَوْمَأَ إِلَيْنَا بِالْجُلُوسِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ كِتْبَةِ الْبَيَاضِ الَّذِي كَانَ بِيَدِهِ، أَخْرَجَ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَجِرَابَهُ مِنْ طَيِّ كِسَائِهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَنَظَرَ الْهَادِي (علیه السلام)(2) إِلَىٰ الْغُلَامِ، وَقَالَ لَهُ: «يَا بُنَيَّ، فُضَّ الْخَاتَمَ عَنْ هَدَايَا شِيعَتِكَ وَمَوَالِيكَ»، فَقَالَ: «يَا مَوْلَايَ، أَيَجُوزُ أَنْ أَمُدَّ يَداً طَاهِرَةً إِلَىٰ هَدَايَا نَجِسَةٍ وَأَمْوَالٍ رَجِسَةٍ قَدْ شِيبَ أَحَلُّهَا بِأَحْرَمِهَا؟»، فَقَالَ مَوْلَايَ: «يَا ابْنَ إِسْحَاقَ، اسْتَخْرِجْ مَا فِي الْجِرَابِ لِيُمَيَّزَ مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِنْهَا»، فَأَوَّلُ صُرَّةٍ بَدَأَ أَحْمَدُ بِإِخْرَاجِهَا قَالَ الْغُلَامُ: «هَذِهِ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، مِنْ مَحَلَّةِ كَذَا بِقُمَّ، تَشْتَمِلُ عَلَىٰ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ دِينَاراً، فِيهَا مِنْ ثَمَنِ حَجِيرَةٍ بَاعَهَا صَاحِبُهَا وَكَانَتْ إِرْثاً لَهُ عَنْ أَبِيهِ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِينَاراً، وَمِنْ أَثْمَانِ تِسْعَةِ أَثْوَابٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ دِينَاراً، وَفِيهَا مِنْ أُجْرَةِ الْحَوَانِيتِ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ»، فَقَالَ مَوْلَانَا: «صَدَقْتَ يَا بُنَيَّ، دُلَّ الرَّجُلَ عَلَىٰ الْحَرَامِ مِنْهَا»، فَقَالَ (علیه السلام): «فَتِّشْ عَنْ دِينَارٍ رَازِيِّ السِّكَّةِ، تَأْرِيخُهُ سَنَةُ كَذَا، قَدِ انْطَمَسَ مِنْ نِصْفِ إِحْدَىٰ صَفْحَتَيْهِ نَقْشُهُ، وَقُرَاضَةٍ آمُلِيَّةٍ وَزْنُهَا رُبُعُ دِينَارٍ، وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِهَا أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الصُّرَّةِ وَزَنَ فِي شَهْرِ كَذَا

ص: 182


1- قال في هامش بحار الأنوار (ج 52/ ص 81) كذا: (فيه غرابة من حيث قبض الغلام (علیه السلام) علىٰ أصابع أبيه أبي محمّد (علیه السلام). وهكذا وجود رُمَّانة من ذهب يلعب بها لئلَّا يصدُّه عن الكتابة، وقد روىٰ في الكافي (ج 1/ ص 311) عن صفوان الجمَّال، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن صاحب هذا الأمر، فقال: «إنَّ صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب»، وأقبل أبو الحسن موسىٰ وهو صغير ومعه عناق مكّيَّة وهو يقول لها: «اسجدي لربِّك»، فأخذه أبو عبد الله (علیه السلام) وضمَّه إليه، وقال: «بأبي وأُمِّي من لا يلهو ولا يلعب») انتهىٰ. أقول: في طريق هذه الرواية معلَّىٰ بن محمّد البصري، قال العلَّامة (رحمة الله) في حقِّه: مضطرب الحديث والمذهب. وكذا النجاشي. وقال ابن الغضائري: نعرف حديثه ونُنكِره، يروي عن الضعفاء، ويجوز أنْ يُخرَّج شاهداً. راجع: جامع الرواة (ج 2/ ص 251).
2- كذا. ولعلَّه مصحَّف عن (مولاي (علیه السلام)).

مِنْ سَنَةِ كَذَا عَلَىٰ حَائِكٍ مِنْ جِيرَانِهِ مِنَ الْغَزْلِ مَنًّا وَرُبُعَ مَنٍّ فَأَتَتْ عَلَىٰ ذَلِكَ مُدَّةٌ، وَفِي انْتِهَائِهَا قَيَّضَ لِذَلِكَ الْغَزْلِ سَارِقٌ، فَأَخْبَرَ بِهِ الْحَائِكُ صَاحِبَهُ، فَكَذَّبَهُ وَاسْتَرَدَّ مِنْهُ بَدَلَ ذَلِكَ مَنًّا وَنِصْفَ مَنٍّ غَزْلاً أَدَقَّ مِمَّا كَانَ دَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَاتَّخَذَ مِنْ ذَلِكَ ثَوْباً، كَانَ هَذَا الدِّينَارُ مَعَ الْقُرَاضَةِ ثَمَنَهُ»، فَلَمَّا فَتَحَ رَأْسَ الصُّرَّةِ صَادَفَ رُقْعَةً فِي وَسْطِ الدَّنَانِيرِ بِاسْمِ مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ وَبِمِقْدَارِهَا عَلَىٰ حَسَبِ مَا قَالَ، وَاسْتَخْرَجَ الدِّينَارَ وَالْقُرَاضَةَ بِتِلْكَ الْعَلَامَةِ.

ثُمَّ أَخْرَجَ صُرَّةً أُخْرَىٰ، فَقَالَ الْغُلَامُ: «هَذِهِ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، مِنْ مَحَلَّةِ كَذَا بِقُمَّ، تَشْتَمِلُ عَلَىٰ خَمْسِينَ دِينَاراً، لَا يَحِلُّ لَنَا لَمسُهَا»، قَالَ: «وَكَيْفَ ذَاكَ؟»، قَالَ: «لِأَنَّهَا مِنْ ثَمَنِ حِنْطَةٍ حَافَ صَاحِبُهَا عَلَىٰ أَكَّارِهِ فِي المُقَاسَمَةِ،وَذَلِكَ أَنَّهُ قَبَضَ حِصَّتَهُ مِنْهَا بِكَيْلٍ وَافٍ، وَكَانَ مَا حَصَّ الْأَكَّارَ بِكَيْلٍ بَخْسٍ»، فَقَالَ مَوْلَانَا: «صَدَقْتَ يَا بُنَيَّ».

ثُمَّ قَالَ: «يَا أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ، احْمِلْهَا بِأَجْمَعِهَا لِتَرُدَّهَا أَوْ تُوصِيَ بِرَدِّهَا عَلَىٰ أَرْبَابِهَا، فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَائْتِنَا بِثَوْبِ الْعَجُوزِ».

قَالَ أَحْمَدُ: وَكَانَ ذَلِكَ الثَّوْبُ فِي حَقِيبَةٍ لِي فَنَسِيتُهُ(1).

فَلَمَّا انْصَرَفَ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ لِيَأْتِيَهُ بِالثَّوْبِ نَظَرَ إِلَيَّ مَوْلَانَا أَبُو مُحَمَّدٍ (علیه السلام)، فَقَالَ: «مَا جَاءَ بِكَ يَا سَعْدُ؟»، فَقُلْتُ: شَوَّقَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَلَىٰ لِقَاءِ مَوْلَانَا، قَالَ: «وَالمَسَائِلُ الَّتِي أَرَدْتَ أَنْ تَسْأَلَهُ عَنْهَا؟»، قُلْتُ: عَلَىٰ حَالِهَا يَا مَوْلَايَ، قَالَ: «فَسَلْ قُرَّةَ عَيْنِي - وَأَوْمَأَ إِلَىٰ الْغُلَامِ -»، فَقَالَ لِيَ الْغُلَامُ: «سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ مِنْهَا».

فَقُلْتُ لَهُ: مَوْلَانَا وابْنَ مَوْلَانَا، إِنَّا رُوِّينَا عَنْكُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) جَعَلَ طَلَاقَ نِسَائِهِ بِيَدِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام)، حَتَّىٰ أَرْسَلَ يَوْمَ الْجَمَلِ إِلَىٰ عَائِشَةَ: «إِنَّكِ قَدْ

ص: 183


1- الحقيبة: ما يُجعَل في مؤخَّر القتب أو السرج من الخرج، ويقال له بالفارسيَّة: الهكبة.

أَرْهَجْتِ عَلَىٰ الْإِسْلَامِ(1) وَأَهْلِهِ بِفِتْنَتِكِ، وَأَوْرَدْتِ بَنِيكِ حِيَاضَ الْهَلَاكِ بِجَهْلِكِ، فَإِنْ كَفَفْتِ عَنِّي غَرْبَكِ(2) وَإِلَّا طَلَّقْتُكِ»، وَنِسَاءُ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) قَدْ كَانَ طَلَاقُهُنَّ وَفَاتَهُ، قَالَ: «مَا الطَّلَاقُ؟»، قُلْتُ: تَخْلِيَةُ السَّبِيلِ، قَالَ: «فَإِذَا كَانَ طَلَاقُهُنَّ وَفَاةَ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) قَدْ خُلِّيَتْ لَهُنَّ السَّبِيلُ، فَلِمَ لَا يَحِلُّ لَهُنَّ الْأَزْوَاجُ؟»، قُلْتُ: لِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ حَرَّمَ الْأَزْوَاجَ عَلَيْهِنَّ، قَالَ: «كَيْفَ وَقَدْ خَلَّىٰ المَوْتُ سَبِيلَهُنَّ؟»، قُلْتُ: فَأَخْبِرْنِي يَا ابْنَ مَوْلَايَ عَنْ مَعْنَىٰ الطَّلَاقِ الَّذِيفَوَّضَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) حُكْمَهُ إِلَىٰ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام)، قَالَ: «إِنَّ اللهَ تَقَدَّسَ اسْمُهُ عَظَّمَ شَأْنَ نِسَاءِ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله)، فَخَصَّهُنَّ بِشَرَفِ الْأُمَّهَاتِ، فَقَالَ رَسُولُ الله: يَا أَبَا الْحَسَنِ، إِنَّ هَذَا الشَّرَفَ بَاقٍ لَهُنَّ مَا دُمْنَ لِلهِ عَلَىٰ الطَّاعَةِ، فَأَيَّتُهُنَّ عَصَتِ اللهَ بَعْدِي بِالْخُرُوجِ عَلَيْكَ فَأَطْلِقْ لَهَا فِي الْأَزْوَاجِ، وَأَسْقِطْهَا مِنْ شَرَفِ أُمُومَةِ المُؤْمِنِينَ(3)».

قُلْتُ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْفَاحِشَةِ المُبَيِّنَةِ الَّتِي إِذَا أَتَتِ المَرْأَةُ بِهَا فِي عِدَّتِهَا حَلَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ بَيْتِهِ، قَالَ: «الْفَاحِشَةُ الْمُبَيِّنَةُ هِيَ السَّحْقُ دُونَ الزِّنَا(4)، فَإِنَّ المَرْأَةَ إِذَا زَنَتْ وَأُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ لَيْسَ لِمَنْ أَرَادَهَا أَنْ يَمْتَنِعَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ التَّزَوُّجِ بِهَا لِأَجْلِ الْحَدِّ، وَإِذَا سَحَقَتْ وَجَبَ عَلَيْهَا الرَّجْمُ، وَالرَّجْمُ خِزْيٌ، وَمَنْ قَدْ أَمَرَ اللهُ بِرَجْمِهِ فَقَدْ أَخْزَاهُ، وَمَنْ أَخْزَاهُ فَقَدْ أَبْعَدَهُ، وَمَنْ أَبْعَدَهُ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْرَبَهُ».

ص: 184


1- الإرهاج: إثارة الغبار.
2- الغرب - بتقديم الغين المعجمة علىٰ الراء -: الحدَّة.
3- في بعض النُّسَخ: (من شرف أُمَّهات المؤمنين).
4- كذا، ولم يعمل به أحد من الفقهاء، بل فسَّروا الفاحشة بما يوجب الحدَّ أو إيذائها أهل الرجل بلسانها أو بفعلها، فتخرج للأوَّل لإقامة الحدِّ ثمّ تُرَدُّ إلىٰ مسكنها عاجلاً. وفي الثاني تخرج إلىٰ مسكن آخر يناسب حالها. ثمّ ما فيه أنَّ السحق يوجب الرجم أيضاً خلاف ما أجمعت الإماميَّة عليه من أنَّه كالزنا في الحدِّ، بل دون الزنا بإيجابه الجلد ولو كان من محصنة. وقد روىٰ المصنِّف (رحمة الله) في من لا يحضره الفقيه (ج 4/ ص 42 و43/ ح 5048) عن هشام وحفص البختري أنَّه دخل نسوة علىٰ أبي عبد الله (علیه السلام)، فسألته امرأة منهنَّ عن السحق، فقال: «حدُّها حدُّ الزاني...» الخبر.

قُلْتُ: فَأَخْبِرْنِي يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ عَنْ أَمْرِ اللهِ لِنَبِيِّهِ مُوسَىٰ (علیه السلام): «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوَىٰ 12» [طه: 12]، فَإِنَّ فُقَهَاءَ الْفَرِيقَيْنِ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ إِهَابِ المَيْتَةِ، فَقَالَ (علیه السلام): «مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدِ افْتَرَىٰ عَلَىٰ مُوسَىٰ وَاسْتَجْهَلَهُ فِي نُبُوَّتِهِ(1)، لِأَنَّهُ مَا خَلَا الْأَمْرُ فِيهَامِنْ خَطِيئَتَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ مُوسَىٰ فِيهِمَا جَائِزَةً أَوْ غَيْرَ جَائِزَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ جَائِزَةً جَازَ لَهُ لُبْسُهُمَا فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُقَدَّسَةً مُطَهَّرَةً فَلَيْسَتْ بِأَقْدَسَ وَأَطْهَرَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ غَيْرَ جَائِزَةٍ فِيهِمَا فَقَدْ أَوْجَبَ عَلَىٰ مُوسَىٰ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفِ الْحَلَالَ مِنَ الْحَرَامِ وَمَا عَلِمَ مَا تَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ وَمَا لَمْ تَجُزْ، وَهَذَا كُفْرٌ(2)».

قُلْتُ: فَأَخْبِرْنِي يَا مَوْلَايَ عَنِ التَّأْوِيلِ فِيهِمَا، قَالَ: «إِنَّ مُوسَىٰ نَاجَىٰ رَبَّهُ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، إِنِّي قَدْ أَخْلَصْتُ لَكَ المَحَبَّةَ مِنِّي، وَغَسَلْتُ قَلْبِي عَمَّنْ سِوَاكَ، وَكَانَ شَدِيدَ الْحُبِّ لِأَهْلِهِ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَىٰ: «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ» أَيْ انْزِعْ حُبَّ أَهْلِكَ مِنْ قَلْبِكَ إِنْ كَانَتْ مَحَبَّتُكَ لِي خَالِصَةً، وَقَلْبَكَ مِنَ المَيْلِ إِلَىٰ مَنْ سِوَايَ مَغْسُولاً (3)».

قُلْتُ: فَأَخْبِرْنِي يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ عَنْ تَأْوِيلِ: «كهيعص 1» [مريم: 1]، قَالَ: «هَذِهِ الْحُرُوفُ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ، أَطْلَعَ اللهُ عَلَيْهَا عَبْدَهُ زَكَرِيَّا، ثُمَّ قَصَّهَا عَلَىٰ

ص: 185


1- إنَّ موسىٰ (علیه السلام) لم يكن نبيًّا حينذاك، فتأمَّل.
2- غريب جدًّا، فإنَّ المصنِّف (رحمة الله) روىٰ في علل الشرائع (ج 1/ ص 66/ باب 55/ ح 1): عن محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد 2، قال: حدَّثنا محمّد بن الحسن الصفَّار، قال: حدَّثنا يعقوب بن يزيد، عن محمّد بن أبي عمير، عن أبان بن عثمان، عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «قال الله (عزوجل) لموسىٰ (علیه السلام): «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ» لأنَّها من جلد حمار ميِّت»، والخبر صحيح أو حسن كالصحيح، مع أنَّ ابن الوليد الراوي للخبر هو من نقدة الآثار. ولا يعارضه خبر المتن من حيث السند.
3- محبَّة الله تعالىٰ خالصاً لم تكن مخالفاً لمحبَّة الأهل، وقد كان النبيُّ (صلی الله علیه و آله) يُحِبُّ فاطمة وبعلها وبنيها (علیهم السلام) حبًّا شديداً، فتأمَّل فيه، وهذه المطالب بعيد صدورها عن المعصوم، وربَّما تُقوِّي القول بموضوعيَّة الخبر، والعلم عند الله.

مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله)، وَذَلِكَ أَنَّ زَكَرِيَّا سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ أَسْمَاءَ الْخَمْسَةِ، فَأَهْبَطَ عَلَيْهِ جَبْرَئِيلَ فَعَلَّمَهُ إِيَّاهَا، فَكَانَ زَكَرِيَّا إِذَا ذَكَرَ مُحَمَّداً وَعَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ سُرِّيَ عَنْهُ هَمُّهُ وَانْجَلَىٰ كَرْبُهُ، وَإِذَا ذَكَرَ الْحُسَيْنَ خَنَقَتْهُالْعَبْرَةُ، وَوَقَعَتْ عَلَيْهِ الْبُهْرَةُ (1)، فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: يَا إِلَهِي، مَا بَالِي إِذَا ذَكَرْتُ أَرْبَعاً مِنْهُمْ تَسَلَّيْتُ بِأَسْمَائِهِمْ مِنْ هُمُومِي، وَإِذَا ذَكَرْتُ الْحُسَيْنَ تَدْمَعُ عَيْنِي وَتَثُورُ زَفْرَتِي؟ فَأَنْبَأَهُ اللهُ تَعَالَىٰ عَنْ قِصَّتِهِ، وَقَالَ: «كهيعص 1»، فَالْكَافُ اسْمُ كَرْبَلَاءَ، وَالْهَاءُ هَلَاكُ الْعِتْرَةِ، وَالْيَاءُ يَزِيدُ، وَهُوَ ظَالِمُ الْحُسَيْنِ (علیه السلام)، وَالْعَيْنُ عَطَشُهُ، وَالصَّادُ صَبْرُهُ (2). فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ زَكَرِيَّا لَمْ يُفَارِقْ مَسْجِدَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَمَنَعَ فِيهَا النَّاسَ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَأَقْبَلَ عَلَىٰ الْبُكَاءِ وَالنَّحِيبِ، وَكَانَتْ نُدْبَتُهُ: إِلَهِي أَتُفَجِّعُ خَيْرَ خَلْقِكَ بِوَلَدِهِ؟ إِلَهِي أَتُنْزِلُ بَلْوَىٰ هَذِهِ الرَّزِيَّةِ بِفِنَائِهِ؟ إِلَهِي أَتُلْبِسُ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ ثِيَابَ هَذِهِ المُصِيبَةِ؟ إِلَهِي أَتُحِلُّ كُرْبَةَ هَذِهِ الْفَجِيعَةِ بِسَاحَتِهِمَا؟ ثُمَّ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي وَلَداً تَقَرُّ بِهِ عَيْنِي عَلَىٰ الْكِبَرِ، وَاجْعَلْهُ وَارِثاً وَصِيًّا، وَاجْعَلْ مَحَلَّهُ مِنِّي مَحَلَّ الْحُسَيْنِ، فَإِذَا رَزَقْتَنِيهِ فَافْتِنِّي بِحُبِّهِ، ثُمَّ فَجِّعْنِي بِهِ كَمَا تُفَجِّعُ مُحَمَّداً حَبِيبَكَ بِوَلَدِهِ. فَرَزَقَهُ اللهُ يَحْيَىٰ وَفَجَّعَهُ بِهِ. وَكَانَ حَمْلُ يَحْيَىٰ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَحَمْلُ الْحُسَيْنِ (علیه السلام) كَذَلِكَ، وَلَهُ قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ».

قُلْتُ: فَأَخْبِرْنِي يَا مَوْلَايَ عَنِ الْعِلَّةِ الَّتِي تَمْنَعُ الْقَوْمَ مِنِ اخْتِيَارِ إِمَامٍ لِأَنْفُسِهِمْ، قَالَ: «مُصْلِحٍ أَوْ مُفْسِدٍ؟»، قُلْتُ: مُصْلِحٍ، قَالَ: «فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ خِيَرَتُهُمْ عَلَىٰ المُفْسِدِ بَعْدَ أَنْ لَا يَعْلَمَ أَحَدٌ مَا يَخْطُرُ بِبَالِ غَيْرِهِ مِنْ صَلَاحٍ أَوْ فَسَادٍ؟»، قُلْتُ: بَلَىٰ، قَالَ: «فَهِيَ الْعِلَّةُ، وَأُورِدُهَا لَكَ بِبُرْهَانٍ يَنْقَادُ لَهُ عَقْلُكَ (3)، أَخْبِرْنِي عَنِ الرُّسُلِ الَّذِينَ اصْطَفَاهُمُ اللهُ تَعَالَىٰ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ وَأَيَّدَهُمْبِالْوَحْيِ

ص: 186


1- البهر: تتابع النفس وانقطاعه كما يحصل بعد الإعياء والعَدْو الشديد.
2- وفُسِّر بغير ذلك، راجع: معاني الأخبار (ص 22 - 28/ باب معنىٰ الحروف المقطَّعة في أوايل السور من القرآن)، وتفسير القمِّي (ج 2/ ص 48).
3- في بعض النُّسَخ: (يثق بعقلك).

وَالْعِصْمَةِ، إِذْ هُمْ أَعْلَامُ الْأُمَمِ (1) وَأَهْدَىٰ إِلَىٰ الْاِخْتِيَارِ مِنْهُمْ مِثْلُ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ (علیهما السلام)، هَلْ يَجُوزُ مَعَ وُفُورِ عَقْلِهِمَا وَكَمَالِ عِلْمِهِمَا إِذَا هَمَّا بِالْاِخْتِيَارِ أَنْ يَقَعَ خِيَرَتُهُمَا عَلَىٰ المُنَافِقِ وَهُمَا يَظُنَّانِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ؟»، قُلْتُ: لَا، فَقَالَ: «هَذَا مُوسَىٰ كَلِيمُ اللهِ مَعَ وُفُورِ عَقْلِهِ وَكَمَالِ عِلْمِهِ وَنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ اخْتَارَ مِنْ أَعْيَانِ قَوْمِهِ وَوُجُوهِ عَسْكَرِهِ لِمِيقَاتِ رَبِّهِ سَبْعِينَ رَجُلاً مِمَّنْ لَا يَشُكُّ فِي إِيمَانِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ، فَوَقَعَتْ خِيَرَتُهُ عَلَىٰ المُنَافِقِينَ، قَالَ اللهُ تَعَالَىٰ: «وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا» [الأعراف: 155] إِلَىٰ قَوْلِهِ: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَىٰ اللهَ جَهْرَةً» [البقرة: 55]، «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ» [النساء: 153]، فَلَمَّا وَجَدْنَا اخْتِيَارَ مَنْ قَدِ اصْطَفَاهُ اللهُ لِلنُّبُوَّةِ وَاقِعاً عَلَىٰ الْأَفْسَدِ دُونَ الْأَصْلَحِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ الْأَصْلَحُ دُونَ الْأَفْسَدِ، عَلِمْنَا أَنْ لَا اخْتِيَارَ إِلَّا لِمَنْ يَعْلَمُ مَا تُخْفِي الصُّدُورُ وَمَا تَكِنُّ الضَّمَائِرُ وَتَتَصَرَّفُ عَلَيْهِ السَّرَائِرُ، وَأَنْ لَا خَطَرَ لِاخْتِيَارِ المُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بَعْدَ وُقُوعِ خِيَرَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَىٰ ذَوِي الْفَسَادِ لَمَّا أَرَادُوا أَهْلَ الصَّلَاحِ».

ثُمَّ قَالَ مَوْلَانَا: «يَا سَعْدُ، وَحِينَ ادَّعَىٰ خَصْمُكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) لَمَّا أَخْرَجَ مَعَ نَفْسِهِ مُخْتَارَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَىٰ الْغَارِ إِلَّا عِلْماً مِنْهُ أَنَّ الْخِلَافَةَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ المُقَلَّدُ أُمُورَ التَّأْوِيلِ وَالمُلْقَىٰ إِلَيْهِ أَزِمَّةُ الْأُمَّةِ وَعَلَيْهِ المُعَوَّلُ فِي لَمِّ الشَّعَثِ وَسَدِّ الْخَلَلِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَتَسْرِيبِ الْجُيُوشِ لِفَتْحِ بِلَادِ الْكُفْرِ، فَكَمَا أَشْفَقَ عَلَىٰ نُبُوَّتِهِ أَشْفَقَ عَلَىٰ خِلَافَتِهِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مِنْ حُكْمِ الْاِسْتِتَارِ وَالتَّوَارِي أَنْ يَرُومَ الْهَارِبُ مِنَ الشَّرِّ مُسَاعَدَةً مِنْ غَيْرِهِ إِلَىٰ مَكَانٍ يَسْتَخْفِي فِيهِ، وَإِنَّمَا أَبَاتَ عَلِيًّا عَلَىٰ فِرَاشِهِ لِمَا لَمْ يَكُنْ يَكْتَرِثُ لَهُ وَلَمْ يَحْفِلْ بِهِ لِاسْتِثْقَالِهِ إِيَّاهُ وَعِلْمِهِ أَنَّهُ إِنْ قُتِلَ لَمْ يَتَعَذَّرْ عَلَيْهِ نَصْبُ غَيْرِهِ مَكَانَهُ لِلْخُطُوبِ الَّتِي كَانَ يَصْلُحُلَهَا، فَهَلَّا نَقَضْتَ عَلَيْهِ دَعْوَاهُ بِقَوْلِكَ: أَلَيْسَ قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، فَجَعَلَ هَذِهِ مَوْقُوفَةً عَلَىٰ أَعْمَارِ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ هُمُ الْخُلَفَاءُ

ص: 187


1- كذا، والظاهر: أعلم الأُمَم.

الرَّاشِدُونَ فِي مَذْهَبِكُمْ؟ فَكَانَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ قَوْلِهِ لَكَ: بَلَىٰ، قُلْتَ: فَكَيْفَ تَقُولُ حِينَئِذٍ، أَلَيْسَ كَمَا عَلِمَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) أَنَّ الْخِلَافَةَ مِنْ بَعْدِهِ لِأَبِي بَكْرٍ عَلِمَ أَنَّهَا مِنْ بَعْدِ أَبِي بَكْرٍ لِعُمَرَ وَمِنْ بَعْدِ عُمَرَ لِعُثْمَانَ وَمِنْ بَعْدِ عُثْمَانَ لِعَلِيٍّ؟ فَكَانَ أَيْضاً لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ قَوْلِهِ لَكَ: نَعَمْ، ثُمَّ كُنْتَ تَقُولُ لَهُ: فَكَانَ الْوَاجِبَ عَلَىٰ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) أَنْ يُخْرِجَهُمْ جَمِيعاً [عَلَىٰ التَّرْتِيبِ] إِلَىٰ الْغَارِ وَيُشْفِقَ عَلَيْهِمْ كَمَا أَشْفَقَ عَلَىٰ أَبِي بَكْرٍ وَلَا يَسْتَخِفَّ بِقَدْرِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ بِتَرْكِهِ إِيَّاهُمْ وَتَخْصِيصِهِ أَبَا بَكْرٍ وَإِخْرَاجِهِ مَعَ نَفْسِهِ دُونَهُمْ.

وَلَمَّا قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الصِّدِّيقِ وَالْفَارُوقِ أَسْلَمَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً؟ لِمَ لَمْ تَقُلْ لَهُ: بَلْ أَسْلَمَا طَمَعاً؟ وَذَلِكَ بِأَنَّهُمَا كَانَا يُجَالِسَانِ الْيَهُودَ وَيَسْتَخْبِرَانِهِمْ عَمَّا كَانُوا يَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ وَفِي سَائِرِ الْكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ النَّاطِقَةِ بِالمَلَاحِمِ مِنْ حَالٍ إِلَىٰ حَالٍ مِنْ قِصَّةِ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) وَمِنْ عَوَاقِبِ أَمْرِهِ (1)، فَكَانَتِ الْيَهُودُ تَذْكُرُ أَنَّ مُحَمَّداً يُسَلَّطُ عَلَىٰ الْعَرَبِ كَمَا كَانَ بُخْتَنَصَّرُ سُلِّطَ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الظَّفَرِ بِالْعَرَبِ كَمَا ظَفِرَ بُخْتَنَصَّرُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، غَيْرَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي دَعْوَاهُ أَنَّهُ نَبِيٌّ (2). فَأَتَيَا مُحَمَّداً فَسَاعَدَاهُ عَلَىٰ شَهَادَةِ أَنْ لَاإِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَبَايَعَاهُ طَمَعاً فِي أَنْ يَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ جِهَتِهِ وَلَايَةَ بَلَدٍ إِذَا اسْتَقَامَتْ أُمُورُهُ وَاسْتَتَبَّتْ (3) أَحْوَالُهُ، فَلَمَّا أَيِسَا مِنْ ذَلِكَ تَلَثَّمَا وَصَعِدَا الْعَقَبَةَ مَعَ عِدَّةٍ مِنْ أَمْثَالِهِمَا مِنَ المُنَافِقِينَ عَلَىٰ أَنْ يَقْتُلُوهُ، فَدَفَعَ اللهُ تَعَالَىٰ كَيْدَهُمْ وَرَدَّهُمْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، كَمَا أَتَىٰ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ عَلِيًّا (علیه السلام) فَبَايَعَاهُ،

ص: 188


1- قيل: هذا خلاف الاعتبار، لأنَّ أهل مكَّة كلّهم مشركون، وليس بينهم أهل الكتاب لاسيّما اليهود، مع أنَّهما ليسا من أهل التحقيق. وخبر إسلام الثاني مشهور، ولا يمتنع إيمان أحد طوعاً ثمّ كفره، كما لا يمتنع أنْ يكون مَلَكاً مقرَّباً ثمّ صار رجيماً كما هو حال كثير من الصحابة كطلحة والزبير وخالد بن الوليد وأضرابهم الذين ارتدُّوا.
2- قيل: هذا مخالف لقوله تعالىٰ في شأن اليهود: «وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَىٰ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ» (البقرة: 89).
3- استتبَّ له الأمر: أي استقام.

وَطَمَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنَالَ مِنْ جِهَتِهِ وَلَايَةَ بَلَدٍ، فَلَمَّا أَيِسَا نَكَثَا بَيْعَتَهُ وَخَرَجَا عَلَيْهِ، فَصَرَعَ اللهُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَصْرَعَ أَشْبَاهِهِمَا مِنَ النَّاكِثِينَ».

قَالَ سَعْدٌ: ثُمَّ قَامَ مَوْلَانَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْهَادِي (علیه السلام) لِلصَّلَاةِ مَعَ الْغُلَامِ، فَانْصَرَفْتُ عَنْهُمَا، وَطَلَبْتُ أَثَرَ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ، فَاسْتَقْبَلَنِي بَاكِياً، فَقُلْتُ: مَا أَبْطَأَكَ وَأَبْكَاكَ؟ قَالَ: قَدْ فَقَدْتُ الثَّوْبَ الَّذِي سَأَلَنِي مَوْلَايَ إِحْضَارَهُ، قُلْتُ: لَا عَلَيْكَ، فَأَخْبِرْهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ مُسْرِعاً وَانْصَرَفَ مِنْ عِنْدِهِ مُتَبَسِّماً وَهُوَ يُصَلِّي عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: مَا الْخَبَرُ؟ قَالَ: وَجَدْتُ الثَّوْبَ مَبْسُوطاً تَحْتَ قَدَمَيْ مَوْلَانَا يُصَلِّي عَلَيْهِ.

قَالَ سَعْدٌ: فَحَمِدْنَا اللهَ تَعَالَىٰ عَلَىٰ ذَلِكَ، وَجَعَلْنَا نَخْتَلِفُ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَىٰ مَنْزِلِ مَوْلَانَا أَيَّاماً، فَلَا نَرَىٰ الْغُلَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْوَدَاعِ دَخَلْتُ أَنَا وَأَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَكَهْلَانِ مِنْ أَهْلِ بَلَدِنَا (1)، وَانْتَصَبَ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَائِماً، وَقَالَ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، قَدْ دَنَتِ الرِّحْلَةُ، وَاشْتَدَّ الْمِحْنَةُ (2)، فَنَحْنُ نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَىٰ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَىٰ المُصْطَفَىٰ جَدِّكَ، وَعَلَىٰ المُرْتَضَىٰ أَبِيكَ، وَعَلَىٰ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ أُمِّكَ، وَعَلَىٰ سَيِّدَيْ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَمِّكَ وَأَبِيكَ، وَعَلَىٰ الْأَئِمَّةِ الطَّاهِرِينَ مِنْ بَعْدِهِمَاآبَائِكَ، وَأَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وُلْدِكَ، وَنَرْغَبُ إِلَىٰ اللهِ أَنْ يُعْلِيَ كَعْبَكَ وَيَكْبِتَ عَدُوَّكَ، وَلَا جَعَلَ اللهُ هَذَا آخِرَ عَهِدْنَا مِنْ لِقَائِكَ.

قَالَ: فَلَمَّا قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ اسْتَعْبَرَ مَوْلَانَا حَتَّىٰ اسْتَهَلَّتْ دُمُوعُهُ وَتَقَاطَرَتْ عَبَرَاتُهُ، ثُمَّ قَالَ: «يَا ابْنَ إِسْحَاقَ، لَا تُكَلِّفْ فِي دُعَائِكَ شَطَطاً فَإِنَّكَ مُلَاقِ اللهَ تَعَالَىٰ فِي صَدْرِكَ هَذَا»، فَخَرَّ أَحْمَدُ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: سَأَلْتُكَ بِاللهِ وَبِحُرْمَةِ جَدِّكَ إِلَّا شَرَّفْتَنِي بِخِرْقَةٍ أَجْعَلُهَا كَفَناً، فَأَدْخَلَ مَوْلَانَا يَدَهُ تَحْتَ الْبِسَاطِ، فَأَخْرَجَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَماً، فَقَالَ: «خُذْهَا وَلَا تُنْفِقْ عَلَىٰ نَفْسِكَ غَيْرَهَا، فَإِنَّكَ لَنْ تَعْدَمَ مَا سَأَلْتَ، وَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ لَنْ يَضِيعَ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً».

ص: 189


1- في بعض النُّسَخ: (من أهل أرضنا).
2- في بعض النُّسَخ: (واستدَّ الراحلة).

قَالَ سَعْدٌ: فَلَمَّا انْصَرَفْنَا بَعْدَ مُنْصَرَفِنَا مِنْ حَضْرَةِ مَوْلَانَا مِنْ حُلْوَانَ عَلَىٰ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ حُمَّ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَثَارَتْ بِهِ عِلَّةٌ صَعْبَةٌ أَيِسَ مِنْ حَيَاتِهِ فِيهَا، فَلَمَّا وَرَدْنَا حُلْوَانَ وَنَزَلْنَا فِي بَعْضِ الْخَانَاتِ دَعَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ كَانَ قَاطِناً بِهَا (1)، ثُمَّ قَالَ: تَفَرَّقُوا عَنِّي هَذِهِ اللَّيْلَةَ وَاتْرُكُونِي وَحْدِي، فَانْصَرَفْنَا عَنْهُ وَرَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا إِلَىٰ مَرْقَدِهِ.

قَالَ سَعْدٌ: فَلَمَّا حَانَ أَنْ يَنْكَشِفَ اللَّيْلُ عَنِ الصُّبْحِ أَصَابَتْنِي فِكْرَةٌ (2)، فَفَتَحْتُ عَيْنِي، فَإِذَا أَنَا بِكَافُورٍ الْخَادِمِ (خَادِمِ مَوْلَانَا أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام)) وَهُوَ يَقُولُ: أَحْسَنَ اللهُ بِالْخَيْرِ عَزَاكُمْ، وَجَبَرَ بِالمَحْبُوبِ رَزِيَّتَكُمْ، قَدْ فَرَغْنَا مِنْ غُسْلِ صَاحِبِكُمْ وَمِنْ تَكْفِينِهِ، فَقُومُوا لِدَفْنِهِ فَإِنَّهُ مِنْ أَكْرَمِكُمْ مَحَلًّا عِنْدَ سَيِّدِكُمْ. ثُمَّ غَابَ عَنْ أَعْيُنِنَا، فَاجْتَمَعْنَا عَلَىٰ رَأْسِهِ بِالْبُكَاءِ وَالْعَوِيلِ حَتَّىٰ قَضَيْنَا حَقَّهُ،وَفَرَغْنَا مِنْ أَمْرِهِ (رحمة الله)(3) (4).

[22/408] حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ

ص: 190


1- أي مقيماً بحلوان.
2- في بعض النُّسَخ: (وكزة)، والوكز كالوعد: الدفع والطعن والضرب بجمع الكفِّ.
3- اعلم أنَّ ما تضمَّنه الخبر من وفاة أحمد بن إسحاق القمِّي في حياة أبي محمّد العسكري (علیه السلام) مخالف لما أجمعت عليه الرجاليُّون من بقائه بعده (علیه السلام)، قال الشيخ في كتاب الغيبة (415 - 417): (وقد كان في زمان السفراء المحمودين أقوام ثقات ترد عليهم التوقيعات من قِبَل المنصوبين للسفارة من الأصل...)، ثمّ ساق الكلام إلىٰ أنْ قال: (ومنهم أحمد بن إسحاق وجماعة خرج التوقيع في مدحهم، روىٰ أحمد بن إدريس، عن أحمد بن محمّد بن عيسىٰ، عن أبي محمّد الرازي، قال: كنت وأحمد بن أبي عبد الله بالعسكر، فورد علينا رسول من قِبَل الرجل، فقال: «أحمد بن إسحاق الأشعري، وإبراهيم بن محمّد الهمداني، وأحمد بن حمزة بن اليسع ثقات جميعاً»). وفي ربيع الشيعة لابن طاوس: أنَّه من السفراء والأبواب المعروفين الذين لا تختلف الشيعة القائلون بإمامة الحسن ابن عليٍّ (علیهما السلام) فيهم. راجع: منهج المقال (ج 2/ ص 27 و28).
4- رواه الطبري (رحمة الله) في دلائل الإمامة (ص 506 - 517/ ح 492/96)، وراجع: بحار الأنوار (ج 52/ ص 78 - 89/ ح 1).

ابْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهم السلام)، قَالَ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِ أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوَالُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَهْزِيَارَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ جَدِّي عَلِيَّ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَهْزِيَارَ(1) يَقُولُ:كُنْتُ نَائِماً فِي مَرْقَدِي إِذْ رَأَيْتُ فِي مَا يَرَىٰ النَّائِمُ قَائِلاً يَقُولُ لِي: حُجَّ

ص: 191


1- في بعض النُّسَخ: (محمّد بن عليٍّ، قال: سمعت أبي يقول: سمعت جدِّي عليَّ بن مهزيار)، وهو كما ترىٰ مضطرب، لأنَّ عليَّ بن إبراهيم أبوه دون جدِّه، وفي نسخة مصحَّحة: (محمّد بن الحسن بن عليِّ بن إبراهيم بن مهزيار، قال: سمعت أبي يقول: سمعت جدِّي عليَّ بن مهزيار) وجعل إبراهيم نسخة بدل لمهزيار. ولكن فيما يأتي بعد كلُّها: (عليّ بن مهزيار)، وفي بحار الأنوار: (سمعت جدِّي عليَّ بن مهزيار)، وكذا في ما يأتي في كلِّ المواضع: (عليّ بن مهزيار). ثمّ اعلم أنَّ عليَّ بن إبراهيم بن مهزيار لم يكن مذكورا في كُتُب الرجال، بل المذكور أبو الحسن عليُّ ابن مهزيار وابنه محمّد بن عليٍّ وأبو إسحاق إبراهيم بن مهزيار وابنه محمّد بن إبراهيم، وكان عليُّ ابن مهزيار يروي عنه أخوه إبراهيم، وكان من أصحاب الرضا (علیه السلام)، ثمّ اختصَّ بأبي جعفر الثاني، وكذلك بأبي الحسن الثالث (علیهما السلام)، وتوكَّل لهم. وكان أبو إسحاق إبراهيم بن مهزيار من أصحاب أبي جعفر وأبي الحسن (علیهما السلام). وفي (ربيع الشيعة) أنَّه من وكلاء القائم، وكذا ابنه محمّد بن إبراهيم، وليس غير هؤلاء من أسماء أبناء مهزيار مذكورين في الرجال. هذا، ثمّ اعلم أيضاً أنَّ ملاقاة عليِّ بن مهزيار للقائم (علیه السلام) بعيد جدًّا لتقدُّم زمانه، ففي الكافي (ج 4/ ص 310/ باب بدون العنوان/ ح 1) عن محمّد بن يحيىٰ، عمَّن حدَّثه، عن إبراهيم بن مهزيار، قال: كتبت إلىٰ أبي محمّد (علیه السلام) أنَّ مولاك عليَّ بن مهزيار أوصىٰ أنْ يُحَجَّ عنه من ضيعة صيَّر ربعها لك في كلِّ سنة حجَّة إلىٰ عشرين ديناراً، وأنَّه قد انقطع طريق البصرة فتضاعف المؤونة علىٰ الناس فليس يكتفون بعشرين ديناراً، وكذلك أوصىٰ عدَّة مواليك في حججهم، فكتب: «يُجعَل ثلاث حجج حجَّتين إنْ شاء الله»، وهذا الخبر وأمثاله ظاهرة في موت عليِّ بن مهزيار في أيَّام العسكري (علیه السلام) وعدم إدراكه عصر الغيبة. وأمَّا ملاقاة أخيه إبراهيم بن مهزيار مع خصوصيَّات ذكره من سفره وبحثه عن أخبار آل أبي محمّد (علیه السلام) مع أنَّه من وكلائه فمستبعد أيضاً بحسب بعض الرويات، روىٰ الكشِّي (رحمة الله) بإسناده عن محمّد بن إبراهيم بن مهزيار أنَّ أباه إبراهيم لمَّا حضره الموت دفع إليه مالاً وأعطاه علامة وقال: من أتاك بها فادفع إليه، ولم يعلم بالعلامة إلَّا الله تعالىٰ، ثمّ جاءه شيخ فقال: أنا العمري، هات المال الذي عندك، وهو كذا وكذا ومعه العلامة، فدفع إليه المال. (راجع: اختيار معرفة الرجال: ج 2/ ص 813/ ح 1015). وهو ظاهر في كونه من سفراء الصاحب (علیه السلام). وروىٰ نحوه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 518/ باب مولد الصاحب (علیه السلام)/ ح 5)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 281 و282/ ح 239) أيضاً.

فَإِنَّكَ تَلْقَىٰ صَاحِبَ زَمَانِكَ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: فَانْتَبَهْتُ وَأَنَا فَرِحٌ مَسْرُورٌ(1)، فَمَا زِلْتُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّىٰ انْفَجَرَ عَمُودُ الصُّبْحِ، وَفَرَغْتُ مِنْ صَلَاتِي، وَخَرَجْتُ أَسْأَلُ عَنِ الْحَاجِّ، فَوَجَدْتُ فِرْقَةً تُرِيدُ الْخُرُوجَ، فَبَادَرْتُ مَعَ أَوَّلِ مَنْ خَرَجَ، فَمَا زِلْتُ كَذَلِكَ حَتَّىٰ خَرَجُوا وَخَرَجْتُ بِخُرُوجِهِمْ أُرِيدُ الْكُوفَةَ، فَلَمَّا وَافَيْتُهَا نَزَلْتُ عَنْ رَاحِلَتِي، وَسَلَّمْتُ مَتَاعِي إِلَىٰ ثِقَاتِ إِخْوَانِي، وَخَرَجْتُ أَسْأَلُ عَنْ آلِ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام)، فَمَا زِلْتُ كَذَلِكَ، فَلَمْ أَجِدْ أَثَراً، وَلَا سَمِعْتُ خَبَراً، وَخَرَجْتُ فِي أَوَّلِ مَنْ خَرَجَ أُرِيدُ المَدِينَةَ، فَلَمَّا دَخَلْتُهَا لَمْ أَتَمَالَكْ أَنْ نَزَلْتُ عَنْ رَاحِلَتِي، وَسَلَّمْتُ رَحْلِي إِلَىٰ ثِقَاتِ إِخْوَانِي، وَخَرَجْتُ أَسْأَلُ عَنِ الْخَبَرِ وَأَقْفُو الْأَثَرَ، فَلَا خَبَراً سَمِعْتُ، وَلَا أَثَراً وَجَدْتُ، فَلَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ إِلَىٰ أَنْ نَفَرَ النَّاسُ إِلَىٰ مَكَّةَ، وَخَرَجْتُ مَعَ مَنْ خَرَجَ حَتَّىٰ وَافَيْتُ مَكَّةَ، وَنَزَلْتُ فَاسْتَوْثَقْتُ مِنْ رَحْلِي، وَخَرَجْتُ أَسْأَلُ عَنْ آلِ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام)، فَلَمْ أَسْمَعْ خَبَراً، وَلَا وَجَدْتُ أَثَراً، فَمَا زِلْتُ بَيْنَ الْإِيَاسِ وَالرَّجَاءِ مُتَفَكِّراً فِي أَمْرِي وَعَائِباً عَلَىٰ نَفْسِي، وَقَدْ جَنَّ اللَّيْلُ، فَقُلْتُ: أَرْقُبُ إِلَىٰ أَنْ يَخْلُوَ لِي وَجْهُ الْكَعْبَةِ لِأَطُوفَ بِهَا وَأَسْأَلُ اللهَ (عزوجل) أَنْ يُعَرِّفَنِي أَمَلِي فِيهَا، فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ وَقَدْ خَلَا لِي وَجْهُ الْكَعْبَةِ إِذْ قُمْتُ إِلَىٰ الطَّوَافِ، فَإِذَا أَنَا بِفَتًى مَلِيحِ الْوَجْهِ، طَيِّبِ الرَّائِحَةِ، مُتَّزِرٍ بِبُرْدَةٍ، مُتَّشِحٍ بِأُخْرَىٰ، وَقَدْ عَطَفَ بِرِدَائِهِ عَلَىٰ عَاتِقِهِ، فَرُعْتُهُ(2)، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ،

ص: 192


1- في بعض النُّسَخ: (فانتبهت فرحاً مسروراً).
2- أي خفته. وفي بعض النُّسَخ: (فحرَّكته).

فَقَالَ: مِمَّنِ الرَّجُلُ؟ فَقُلْتُ: مِنَ الْأَهْوَازِ، فَقَالَ: أَتَعْرِفُ بِهَا ابْنَ الْخَصِيبِ؟ فَقُلْتُ: رَحِمَهُ اللهُ دُعِيَ فَأَجَابَ، فَقَالَ: رَحِمَهُ اللهِ، لَقَدْ كَانَ بِالنَّهَارِ صَائِماً، وَبِاللَّيْلِ قَائِماً، وَلِلْقُرْآنِ تَالِياً، وَلَنَامُوَالِياً، فَقَالَ: أَتَعْرِفُ بِهَا عَلِيَّ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَهْزِيَارَ؟ فَقُلْتُ: أَنَا عَلِيٌّ، فَقَالَ: أَهْلاً وَسَهْلاً بِكَ يَا أَبَا الْحَسَنِ، أَتَعْرِفُ الصَّرِيحَيْنِ(1)؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: وَمَنْ هُمَا؟ قُلْتُ: مُحَمَّدٌ وَمُوسَىٰ، ثُمَّ قَالَ: مَا فَعَلْتَ الْعَلَامَةَ الَّتِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام)؟ فَقُلْتُ: مَعِي، فَقَالَ: أَخْرِجْهَا إِلَيَّ، فَأَخْرَجْتُهَا إِلَيْهِ خَاتَماً حَسَناً عَلَىٰ فَصِّهِ: (مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ)، فَلَمَّا رَأَىٰ ذَلِكَ بَكَىٰ [مَلِيًّا وَرَنَّ شَجِيًّا، فَأَقْبَلَ يَبْكِي بُكَاءً] طَوِيلاً، وَهُوَ يَقُولُ: رَحِمَكَ اللهُ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، فَلَقَدْ كُنْتَ إِمَاماً عَادِلاً، ابْنَ أَئِمَّةٍ وَأَبَا إِمَامٍ، أَسْكَنَكَ اللهُ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَىٰ مَعَ آبَائِكَ (علیهم السلام). ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا الْحَسَنِ، صِرْ إِلَىٰ رَحْلِكَ وَكُنْ عَلَىٰ أُهْبَةٍ مِنْ كِفَايَتِكَ(2) حَتَّىٰ إِذَا ذَهَبَ الثُّلُثُ مِنَ اللَّيْلِ وَبَقِيَ الثُّلُثَانِ فَالْحَقْ بِنَا فَإِنَّكَ تَرَىٰ مُنَاكَ [إِنْ شَاءَ اللهُ].

قَالَ ابْنُ مَهْزِيَارَ: فَصِرْتُ إِلَىٰ رَحْلِي أُطِيلُ التَّفَكُّرَ حَتَّىٰ إِذَا هَجَمَ الْوَقْتُ(3)، فَقُمْتُ إِلَىٰ رَحْلِي وَأَصْلَحْتُهُ، وَقَدَّمْتُ رَاحِلَتِي وَحَمَلْتُهَا وَصِرْتُ فِي مَتْنِهَا حَتَّىٰ لَحِقْتُ الشِّعْبَ، فَإِذَا أَنَا بِالْفَتَىٰ هُنَاكَ يَقُولُ: أَهْلاً وَسَهْلاً بِكَ يَا أَبَا الْحَسَنِ، طُوبَىٰ لَكَ فَقَدْ أُذِنَ لَكَ، فَسَارَ وَسِرْتُ بِسَيْرِهِ حَتَّىٰ جَازَ بِي عَرَفَاتٍ وَمِنًى، وَصِرْتُ فِي أَسْفَلَ ذِرْوَةِ جَبَلِ الطَّائِفِ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا الْحَسَنِ انْزِلْ وَخُذْ فِي أُهْبَةِ الصَّلَاةِ، فَنَزَلَ وَنَزَلْتُ حَتَّىٰ فَرَغَ وَفَرَغْتُ، ثُمَّ قَالَ لِي: خُذْ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَأَوْجِزْ، فَأَوْجَزْتُ فِيهَا، وَسَلَّمَ وَعَفَّرَ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، ثُمَّ رَكِبَ وَأَمَرَنِي بِالرُّكُوبِ فَرَكِبْتُ، ثُمَّ سَارَ وَسِرْتُ بِسَيْرِهِ حَتَّىٰ عَلَا الذِّرْوَةَ، فَقَالَ: المَحْ هَلْ تَرَىٰ شَيْئاً؟ فَلَمَحْتُ فَرَأَيْتُ بُقْعَةً نَزِهَةً

ص: 193


1- تقدَّم الكلام فيه في (ص 170)، فراجع.
2- في بعض النُّسَخ: (أُهبة السفر من لقائنا).
3- في بعض النُّسَخ: (انهجم الليل).

كَثِيرَةَ الْعُشْبِ وَالْكَلَاءِ، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، أَرَىٰ بُقْعَةً نَزِهَةً كَثِيرَةَ الْعُشْبِ وَالْكَلَاءِ، فَقَالَ لِي: هَلْ تَرَىٰفِي أَعْلَاهَا شَيْئاً؟ فَلَمَحْتُ فَإِذَا أَنَا بِكَثِيبٍ مِنْ رَمْلٍ فَوْقَ بَيْتٍ مِنْ شَعْرٍ يَتَوَقَّدُ نُوراً، فَقَالَ لِي: هَلْ رَأَيْتَ شَيْئاً؟ فَقُلْتُ: أَرَىٰ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ مَهْزِيَارَ، طِبْ نَفْساً وَقَرَّ عَيْناً فَإِنَّ هُنَاكَ أَمَلَ كُلِّ مُؤَمِّلٍ، ثُمَّ قَالَ لِي: انْطَلِقْ بِنَا، فَسَارَ وَسِرْتُ حَتَّىٰ صَارَ فِي أَسْفَلِ الذِّرْوَةِ، ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ فَهَاهُنَا يَذِلُّ لَكَ كُلُّ صَعْبٍ، فَنَزَلَ وَنَزَلْتُ حَتَّىٰ قَالَ لِي: يَا ابْنَ مَهْزِيَارَ، خَلِّ عَنْ زِمَامِ الرَّاحِلَةِ، فَقُلْتُ: عَلَىٰ مَنْ أُخَلِّفُهَا وَلَيْسَ هَاهُنَا أَحَدٌ؟ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا حَرَمٌ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا وَلِيٌّ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا وَلِيٌّ، فَخَلَّيْتُ عَنِ الرَّاحِلَةِ، فَسَارَ وَسِرْتُ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْخِبَاءِ سَبَقَنِي وَقَالَ لِي: قِفْ هُنَاكَ إِلَىٰ أَنْ يُؤْذَنَ لَكَ، فَمَا كَانَ إِلَّا هُنَيْئَةً فَخَرَجَ إِلَيَّ وَهُوَ يَقُولُ: طُوبَىٰ لَكَ قَدْ أُعْطِيتَ سُؤْلَكَ.

قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ) وَهُوَ جَالِسٌ عَلَىٰ نَمَطٍ عَلَيْهِ نَطْعُ أَدِيمٍ(1) أَحْمَرَ، مُتَّكِئٌ عَلَىٰ مِسْوَرَةِ أَدِيمٍ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ، وَلَمَحْتُهُ فَرَأَيْتُ وَجْهَهُ مِثْلَ فِلْقَةِ قَمَرٍ، لَا بِالْخَرِقِ وَلَا بِالْبَزِقِ، وَلَا بِالطَّوِيلِ الشَّامِخِ وَلَا بِالْقَصِيرِ اللَّاصِقِ، مَمْدُودَ الْقَامَةِ، صَلْتَ الْجَبِينِ، أَزَجَّ الْحَاجِبَيْنِ(2)، أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ، أَقْنَىٰ الْأَنْفِ(3)، سَهْلَ الْخَدَّيْنِ، عَلَىٰ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ خَالٌ، فَلَمَّا أَنْ بَصُرْتُ بِهِ حَارَ عَقْلِي فِي نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ، فَقَالَ لِي: «يَا ابْنَ مَهْزِيَارَ، كَيْفَ خَلَّفْتَ إِخْوَانَكَ فِي الْعِرَاقِ؟»، قُلْتُ: فِي ضَنْكِ عَيْشٍ وَهَنَاةٍ، قَدْ تَوَاتَرَتْ عَلَيْهِمْ سُيُوفُ بَنِي الشَّيْصُبَانِ(4)، فَقَالَ: «قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ، كَأَنِّي بِالْقَوْمِ قَدْ قُتِلُوا فِي دِيَارِهِمْ وَأَخَذَهُمْ أَمْرُ رَبِّهِمْ لَيْلاً

ص: 194


1- النمط: ضرب من البُسُط. ويمكن أنْ يكون معرَّب نمد. والمسورة: متَّكأ من أدم.
2- الدعج: سواد العين، وقيل: شدَّة سواد العين في شدَّة بياضها. والأزجُّ: الأدقُّ.
3- أي ذو احديداب. وسهل الخدَّين: أي غير مرتفع الخدَّين لقلَّة لحمهما.
4- الهناة: الشرُّ والفساد. والشيصبان: اسم شيطان، وقبيلة من الجنِّ، والذَّكَر من النحل.

وَنَهَاراً»، فَقُلْتُ:مَتَىٰ يَكُونُ ذَلِكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ؟ قَالَ: «إِذَا حِيلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ سَبِيلِ الْكَعْبَةِ بِأَقْوَامٍ لَا خَلاقَ لَهُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُمْ بِرَاءٌ، وَظَهَرَتِ الْحُمْرَةُ فِي السَّمَاءِ ثَلَاثاً فِيهَا أَعْمِدَةٌ كَأَعْمِدَةِ اللُّجَيْنِ تَتَلَأْلَأُ نُوراً، وَيَخْرُجُ السَّرُوسِيُّ(1) مِنْ إِرْمِينِيَّةَ وَآذَرْبِيجَانَ يُرِيدُ وَرَاءَ الرَّيِّ الْجَبَلَ الْأَسْوَدَ المُتَلَاحِمَ بِالْجَبَلِ الْأَحْمَرِ لَزِيقَ جَبَلِ طَالَقَانَ، فَيَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المَرْوَزِيِّ وَقْعَةٌ صَيْلَمَانِيَّةٌ(2) يَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ وَيَهْرَمُ مِنْهَا الْكَبِيرُ، وَيَظْهَرُ الْقَتْلُ بَيْنَهُمَا، فَعِنْدَهَا تَوَقَّعُوا خُرُوجَهُ إِلَىٰ الزَّوْرَاءِ(3)، فَلَا يَلْبَثُ بِهَا حَتَّىٰ يُوَافِيَ بَاهَاتَ(4) ثُمَّ يُوَافِيَ وَاسِطَ الْعِرَاقِ، فَيُقِيمُ بِهَا سَنَةً أَوْ دُونَهَا، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَىٰ كُوفَانَ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ وَقْعَةٌ مِنَ النَّجَفِ إِلَىٰ الْحِيرَةِ إِلَىٰ الْغَرِيِّ وَقْعَةٌ شَدِيدَةٌ تَذْهَلُ مِنْهَا الْعُقُولُ، فَعِنْدَهَا يَكُونُ بَوَارُ الْفِئَتَيْنِ، وَعَلَىٰ اللهِ حَصَادُ الْبَاقِينَ»، ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَىٰ: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ» [يونس: 24]، فَقُلْتُ: سَيِّدِي يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، مَا الْأَمْرُ؟ قَالَ: «نَحْنُ أَمْرُ اللهِ وَجُنُودُهُ»، قُلْتُ: سَيِّدِي يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، حَانَ الْوَقْتُ؟ قَالَ: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُوَانْشَقَّ الْقَمَرُ 1» [القمر: 1](5).

ص: 195


1- نسبة إلىٰ سروس - بالمهملتين أوَّله وآخره وربَّما قيل بالمعجمة في آخره -: مدينة نفيسة في جبل نفوسه بإفريقية، وأهلها خوارج أُباضيَّة، ليس بها جامع ولا منبر ولا في قرية من قراها، وهي نحو من ثلاثمائة قرية لم يتَّفقوا علىٰ رجل يُقدِّمونه للصلاة. (مراصد الاطِّلاع: ج 2/ ص 711). وفي بعض النُّسَخ: (الشروسي)، ولم أجده. وإرمينية - بالكسر -: كورة بالروم. (القاموس المحيط: ج 4/ ص 229).
2- الصيلم: الأمر الشديد، ووقعة صيلمة أي مستأصلة. وفي نسخة: (صلبانيَّة).
3- الزوراء: دجلة بغداد وموضع بالمدينة قرب المسجد، كما في القاموس المحيط (ج 2/ ص 42). وفي مراصد الاطِّلاع (ج 2/ ص 674): (دجلة بغداد، وأرض كانت لأحيحة بن الجلاح).
4- في بحار الأنوار (ج 52/ ص 46): (ماهان)، وقال: أي الدينور ونهاوند.
5- احتمل العلَّامة المجلسي (رحمة الله) اتِّحاد هذا الخبر مع الذي تقدَّم تحت الرقم (405/19)، وقال: (العجب أنَّ محمّد بن أبي عبد الله عدَّ فيما مضىٰ محمّد بن إبراهيم بن مهزيار ممَّن رآه (علیه السلام) (يعني الصاحب)، ولم يعد أحداً من هؤلاء)، ثمّ قال: (اعلم أنَّ اشتمال هذه الأخبار علىٰ أنَّ له (علیه السلام) أخاً مسمَّىٰ بموسىٰ غريب) (بحار الأنوار: ج 52/ ص 47).

[23/409] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْهَمَدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ(1) الْعَلَوِيُّ الرَّقِّيُّ الْعُرَيْضِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْعَقِيقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو نُعَيْمٍ الْأَنْصَارِيُّ الزَّيْدِيُّ، قَالَ: كُنْتُ بِمَكَّةَ عِنْدَ المُسْتَجَارِ وَجَمَاعَةً مِنَ المُقَصِّرَةِ(2) وَفِيهِمُ المَحْمُودِيُّ وَعَلَّانٌ الْكُلَيْنِيُّ وَأَبُو الْهَيْثَمِ الدِّينَارِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ الْأَحْوَلُ الْهَمْدَانِيُّ، وَكَانُوا زُهَاءَ ثَلَاثِينَ رَجُلاً، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مُخْلِصٌ عَلِمْتُهُ غَيْرَ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ الْعَلَوِيِّ الْعَقِيقِيِّ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ فِي الْيَوْمِ السَّادِسِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا شَابٌّ مِنَ الطَّوَافِ عَلَيْهِ إِزَارَانِ مُحْرِمٌ [بِهِمَا]، وَفِي يَدِهِ نَعْلَانِ، فَلَمَّا رَأَيْنَاهُ قُمْنَا جَمِيعاً هَيْبَةً لَهُ، فَلَمْ يَبْقَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا قَامَ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَعَدَ وَالْتَفَتَ يَمِيناً وَشِمَالاً، ثُمَّ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا كَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) يَقُولُ فِي دُعَاءِ الْإِلْحَاحِ؟»، قُلْنَا: وَمَا كَانَ يَقُولُ؟ قَالَ: «كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الَّذِي بِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ، وَبِهِ تَقُومُ الْأَرْضُ، وَبِهِ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَبِهِ تَجْمَعُ بَيْنَ المُتَفَرِّقِ، وَبِهِ تُفَرِّقُ بَيْنَالمُجْتَمِعِ، وَبِهِ أَحْصَيْتَ عَدَدَ الرِّمَالِ، وَزِنَةَ الْجِبَالِ، وَكَيْلَ الْبِحَارِ، أَنْ تُصَلِّيَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَأَنْ تَجْعَلَ لِي مِنْ أَمْرِي فَرَجاً وَمَخْرَجاً».

ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ الطَّوَافَ، فَقُمْنَا لِقِيَامِهِ حِينَ انْصَرَفَ، وَأُنْسِينَا أَنْ نَقُولَ لَهُ: مَنْ هُوَ؟ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ خَرَجَ عَلَيْنَا مِنَ الطَّوَافِ، فَقُمْنَا كَقِيَامِنَا الْأَوَّل بِالْأَمْسِ، ثُمَّ جَلَسَ فِي مَجْلِسِهِ مُتَوَسِّطاً، ثُمَّ نَظَرَ يَمِيناً وَشِمَالاً، قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا كَانَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) يَقُولُ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ؟»، قُلْنَا: وَمَا كَانَ يَقُولُ؟ قَالَ:

ص: 196


1- في النسخة المصحَّحة: (أبو القاسم جعفر بن محمّد).
2- يعني في العمرة في الحجِّ.

«كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِلَيْكَ رُفِعَتِ الْأَصْوَاتُ، و[دُعِيَتِ الدَّعَوَاتُ]، وَلَكَ عَنَتِ الْوُجُوهُ، وَلَكَ خَضَعَتِ الرِّقَابُ، وَإِلَيْكَ التَّحَاكُمُ فِي الْأَعْمَالِ، يَا خَيْرَ مَسْؤُولٍ وَخَيْرَ مَنْ أَعْطَىٰ، يَا صَادِقُ يَا بَارِئُ، يَا مَنْ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ، يَا مَنْ أَمَرَ بِالدُّعَاءِ وَتَكَفَّلَ بِالْإِجَابَةِ، يَا مَنْ قَالَ: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» [غافر: 60]، يَا مَنْ قَالَ: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ 186» [البقرة: 186]، يَا مَنْ قَالَ: «يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ 53» [الزمر: 53]».

ثُمَّ نَظَرَ يَمِيناً وَشِمَالاً بَعْدَ هَذَا الدُّعَاءِ، فَقَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا كَانَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) يَقُولُ فِي سَجْدَةِ الشُّكْرِ؟»، قُلْنَا: وَمَا كَانَ يَقُولُ؟ قَالَ: «كَانَ يَقُولُ: يَا مَنْ لَا يَزِيدُهُ إِلْحَاحُ المُلِحِّينَ إِلَّا جُوداً وَكَرَماً، يَا مَنْ لَهُ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا مَنْ لَهُ خَزَائِنُ مَا دَقَّ وَجَلَّ، لَا تَمْنَعُكَ إِسَاءَتِي مِنْ إِحْسَانِكَ إِلَيَّ، إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تَفْعَلَ بِي مَا أَنْتَ أَهْلُهُ، وَأَنْتَ أَهْلُ الْجُودِ وَالْكَرَمِ وَالْعَفْوِ، يَا رَبَّاهْ يَا اللهُ افْعَلْ بِي مَا أَنْتَ أَهْلُهُ فَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَىٰ الْعُقُوبَةِ وَقَدِ اسْتَحْقَقْتُهَا، لَا حُجَّةَ لِي وَلَا عُذْرَ لِي عِنْدَكَ، أَبُوءُ إِلَيْكَ بِذُنُوبِي كُلِّهَا، وأَعْتَرِفُ بِهَا كَيْ تَعْفُوَ عَنِّي، وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهَا مِنِّي، بُؤْتُ إِلَيْكَ بِكُلِّ ذَنْبٍ أَذْنَبْتُهُ، وَبِكُلِّخَطِيئَةٍ أَخْطَأْتُهَا، وَبِكُلِّ سَيِّئَةٍ عَمِلْتُهَا، يَا رَبِّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْ وَتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ».

وَقَامَ فَدَخَلَ الطَّوَافَ فَقُمْنَا لِقِيَامِهِ، وَعَادَ مِنْ غَدٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَقُمْنَا لِاسْتِقْبَالِهِ كَفِعْلِنَا فِيمَا مَضَىٰ(1)، فَجَلَسَ مُتَوَسِّطاً وَنَظَرَ يَمِيناً وَشِمَالاً، فَقَالَ: «كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ سَيِّدُ الْعَابِدِينَ (علیه السلام) يَقُولُ فِي سُجُودِهِ فِي هَذَا المَوْضِعِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَىٰ الْحِجْرِ نَحْوَ الْمِيزَابِ -: عُبَيْدُكَ بِفِنَائِكَ(2)، مِسْكِينُكَ بِبَابِكَ، أَسْأَلُكَ مَا لَا يَقْدِرُ

ص: 197


1- في بعض النُّسَخ: (لإقباله كقيامنا فيما مضىٰ).
2- زاد في بعض النُّسَخ: (فقيرك بفنائك).

عَلَيْهِ سِوَاكَ»، ثُمَّ نَظَرَ يَمِيناً وَشِمَالاً، وَنَظَرَ إِلَىٰ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ الْعَلَوِيِّ، فَقَالَ: «يَا مُحَمَّدَ بْنَ الْقَاسِمِ، أَنْتَ عَلَىٰ خَيْرٍ إِنْ شَاءَ اللهُ»، وَقَامَ فَدَخَلَ الطَّوَافَ، فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنَّا إِلَّا وَقَدْ تَعَلَّمَ مَا ذَكَرَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَ[أُ]نْسِينَا أَنْ نَتَذَاكَرَ أَمْرَهُ إِلَّا فِي آخِرِ يَوْمٍ، فَقَالَ لَنَا المَحْمُودِيُّ: يَا قَوْمِ، أَتَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا وَاللهِ صَاحِبُ الزَّمَانِ (علیه السلام)، فَقُلْنَا: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا أَبَا عَلِيٍّ؟ فَذَكَرَ أَنَّهُ مَكَثَ يَدْعُو رَبَّهُ (عزوجل) وَيَسْأَلُهُ أَنْ يُرِيَهُ صَاحِبَ الْأَمْرِ سَبْعَ سِنِينَ، قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا يَوْماً فِي عَشِيَّةِ عَرَفَةَ، فَإِذَا بِهَذَا الرَّجُلِ بِعَيْنِهِ، فَدَعَا بِدُعَاءٍ وَعَيْتُهُ، فَسَأَلْتُهُ مِمَّنْ هُوَ، فَقَالَ: «مِنَ النَّاسِ»، فَقُلْتُ: مِنْ أَيِّ النَّاسِ مِنْ عَرَبِهَا أَوْ مَوَالِيهَا؟ فَقَالَ: «مِنْ عَرَبِهَا»، فَقُلْتُ: مِنْ أَيِّ عَرَبِهَا؟ فَقَالَ: «مِنْ أَشْرَفِهَا وَأَشْمَخِهَا(1)»، فَقُلْتُ: وَمَنْ هُمْ؟ فَقَالَ: «بَنُو هَاشِمٍ»، فَقُلْتُ: مِنْ أَيِّ بَنِي هَاشِمٍ؟ فَقَالَ: «مِنْ أَعْلَاهَا ذِرْوَةً وَأَسْنَاهَا رِفْعَةً»، فَقُلْتُ: وَمِمَّنْ هُمْ؟ فَقَالَ: «مِمَّنْ فَلَقَ الْهَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَصَلَّىٰ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ»، فَقُلْتُ: إِنَّهُ عَلَوِيٌّ، فَأَحْبَبْتُهُ عَلَىٰ الْعَلَوِيَّةِ، ثُمَّ افْتَقَدْتُهُ مِنْ بَيْنِيَدَيَّ، فَلَمْ أَدْرِ كَيْفَ مَضَىٰ فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ، فَسَأَلْتُ الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا حَوْلَهُ: أَتَعْرِفُونَ هَذَا الْعَلَوِيَّ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَحُجُّ مَعَنَا كُلَّ سَنَةٍ مَاشِياً، فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ وَاللهِ مَا أَرَىٰ بِهِ أَثَرَ مَشْيٍ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ إِلَىٰ المُزْدَلِفَةِ كَئِيباً حَزِيناً عَلَىٰ فِرَاقِهِ، وَبِتُّ فِي لَيْلَتِي تِلْكَ، فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)(2)، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، رَأَيْتَ طَلِبَتَكَ؟ فَقُلْتُ: وَمَنْ ذَاكَ يَا سَيِّدِي؟ فَقَالَ: الَّذِي رَأَيْتَهُ فِي عَشِيَّتِكَ فَهُوَ صَاحِبُ زَمَانِكُمْ. فَلَمَّا سَمِعْنَا ذَلِكَ مِنْهُ عَاتَبْنَاهُ عَلَىٰ أَلَّا يَكُونَ أَعْلَمَنَا ذَلِكَ، فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ نَاسِياً أَمْرَهُ إِلَىٰ وَقْتِ مَا حَدَّثَنَا(3).

ص: 198


1- في بعض النُّسَخ: (من أسمحها).
2- في بعض النُّسَخ: (فرأيت رسول الله (صلی الله علیه و آله)).
3- رواه الطبري (رحمة الله) في دلائل الإمامة (ص 542 - 545/ ح 523/127)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 259 - 263/ ح 227).

وحدَّثنا بهذا الحديث عمَّار بن الحسين بن إسحاق الأُسروشني(1) (رضی الله عنه) بجبل بوتك من أرض فرغانة، قال: حدَّثني أبو العبَّاس أحمد بن الخضر، قال: حدَّثني أبو الحسين محمّد بن عبد الله الإسكافي، قال: حدَّثني سُلَيم، عن أبي نعيم الأنصاري(2)، قال: كنت بالمستجار بمكَّة أنا وجماعة من المقصِّرة فيهم المحمودي وعلَّان الكليني...، وذكر الحديث مثله سواء.وحدَّثنا أبو بكر محمّد بن محمّد بن عليِّ بن محمّد بن حاتم، قال: حدَّثنا أبو الحسين عبيد الله بن محمّد بن جعفر القصباني البغدادي، قال: حدَّثني أبو محمّد عليُّ بن محمّد بن أحمد بن الحسين الماذرائي(3)، قال: حدَّثنا أبو جعفر محمّد بن عليٍّ المنقذي الحسني بمكَّة، قال: كنت جالساً بالمستجار وجماعة من المقصِّرة وفيهم المحمودي وأبو الهيثم الديناري وأبو جعفر الأحول وعلَّان الكليني والحسن بن وجناء، وكان زهاء ثلاثين رجلاً...، وذكر الحديث مثله سواء.

[24/410] حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ [عَلِيِّ بْنِ] مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ ابْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهم السلام)، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحُسَيْنِ الْحَسَنَ بْنَ وَجْنَاءَ يَقُولُ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ جَدِّهِ(4) أَنَّهُ كَانَ فِي دَارِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام)، فَكَبَسَتْنَا الْخَيْلُ وَفِيهِمْ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ الْكَذَّابُ، وَاشْتَغَلُوا بِالنَّهْبِ وَالْغَارَةِ، وَكَانَتْ هِمَّتِي فِي مَوْلَايَ

ص: 199


1- في اللباب (ج 1/ ص 54): (الأُسروشني - بضمِّ الألف وسكون السين المهملة وضمِّ الراء وسكون الواو وفتح الشين المعجمة وفي آخرها نون -، هذه النسبة إلىٰ أُسروشنة وهي بلدة كبيرة وراء سمرقند من سيحون، خرج منها جماعة من العلماء في كلِّ فنٍّ...) إلخ. وقال في مراصد الاطِّلاع (ج 1/ ص 72): (كذا ذكره السمعاني بالسين المهملة، والأشهر الأعرف أنَّه بالشين المعجمة). أقول: وفي بعض النُّسَخ: (أشروسني) كما في ضبط المراصد.
2- هو محمّد بن أحمد الأنصاري. وفي بعض النُّسَخ: (سُلَيم بن أبي نعيم الأنصاري).
3- في بعض النُّسَخ: (المادرائي) بإهمال الدال.
4- في بعض النُّسَخ: (عن جدِّي).

الْقَائِمِ (علیه السلام). قَالَ: فَإِذَا [أَنَا] بِهِ (علیه السلام) قَدْ أَقْبَلَ وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَابِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَهُوَ (علیه السلام) ابْنُ سِتِّ سِنِينَ، فَلَمْ يَرَهُ أَحَدٌ حَتَّىٰ غَابَ (1).

وَوَجَدْتُ مُثْبَتاً فِي بَعْضِ الْكُتُبِ المُصَنَّفَةِ فِي التَّوَارِيخِ وَلَمْ أَسْمَعْهُ إِلَّا عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبَّادٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَاتَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ (علیهما السلام) يَوْمَ جُمُعَةٍ مَعَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ، وَكَانَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ قَدْ كَتَبَ بِيَدِهِ كُتُباً كَثِيرَةً إِلَىٰ المَدِينَةِ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْهُ سَنَةَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَحْضُرْ[هُ] فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَّا صَقِيلُ الْجَارِيَةُ، وَعَقِيدٌ الْخَادِمُ، وَمَنْ عَلِمَ اللهُ (عزوجل) غَيْرُهُمَا.

قَالَ عَقِيدٌ: فَدَعَا بِمَاءٍ قَدْ أُغْلِيَ بِالمَصْطَكِي (2)، فَجِئْنَا بِهِ إِلَيْهِ، فَقَالَ: «أَبْدَأُ بِالصَّلَاةِ، هَيِّئُونِي»، فَجِئْنَا بِهِ وَبَسَطْنَا فِي حَجْرِهِ الْمِنْدِيلَ، فَأَخَذَ مِنْ صَقِيلَ المَاءَ، فَغَسَلَ بِهِ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ مَرَّةً مَرَّةً، وَمَسَحَ عَلَىٰ رَأْسِهِ وَقَدَمَيْهِ مَسْحاً، وَصَلَّىٰ صَلَاةَ الصُّبْحِ عَلَىٰ فِرَاشِهِ، وَأَخَذَ الْقَدَحَ لِيَشْرَبَ فَأَقْبَلَ الْقَدَحُ يَضْرِبُ ثَنَايَاهُ وَيَدُهُ تَرْتَعِدُ، فَأَخَذَتْ صَقِيلُ الْقَدَحَ مِنْ يَدِهِ.

وَمَضَىٰ مِنْ سَاعَتِهِ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ)، وَدُفِنَ فِي دَارِهِ بِسُرَّ مَنْ رَأَىٰ إِلَىٰ جَانِبِ أَبِيهِ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا)، فَصَارَ إِلَىٰ كَرَامَةِ اللهِ (عزوجل)، وَقَدْ كَمَلَ عُمُرُهُ تِسْعاً وَعِشْرِينَ سَنَةً.

قَالَ: وَقَالَ لِي عَبَّادٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: قَدِمَتْ أُمُّ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام) مِنَ المَدِينَةِ، وَاسْمُهَا: حَدِيثُ، حِينَ اتَّصَلَ بِهَا الْخَبَرُ إِلَىٰ سُرَّ مَنْ رَأَىٰ، فَكَانَتْ لَهَا أَقَاصِيصُ يَطُولُ شَرْحُهَا مَعَ أَخِيهِ جَعْفَرٍ وَمُطَالَبَتُهُ إِيَّاهَا بِمِيرَاثِهِ وَسِعَايَتُهُ بِهَا إِلَىٰ السُّلْطَانِ وَكَشْفُهُ مَا أَمَرَ اللهُ (عزوجل) بِسَتْرِهِ، فَادَّعَتْ عِنْدَ ذَلِكَ صَقِيلُ أَنَّهَا حَامِلٌ، فَحُمِلَتْ إِلَىٰ دَارِ المُعْتَمِدِ، فَجَعَلَ نِسَاءُ المُعْتَمِدِ وَخَدَمُهُ وَنِسَاءُ المُوَفَّقِ وَخَدَمُهُ وَنِسَاءُ الْقَاضِي ابْنِ أَبِي

ص: 200


1- رواه الراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 960 و961).
2- علك رومي. (العين للفراهيدي: ج 5/ ص 425).

الشَّوَارِبِ يَتَعَاهَدْنَ أَمْرَهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَيُرَاعُونَ إِلَىٰ أَنْ دَهَمَهُمْ أَمْرُ الصِّغَارِ وَمَوْتُ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ يَحْيَىٰ بْنِ خَاقَانَ بَغْتَةً، وَخُرُوجُهُمْ مِنْ سُرَّ مَنْ رَأَىٰ، وَأَمْرُ صَاحِبِ الزِّنْجِ بِالْبَصْرَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَشَغَلَهُمْ ذَلِكَ عَنْهَا.

وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ حَبَّابٌ(1): حَدَّثَنِي أَبُو الْأَدْيَانِ، قَالَ:قَالَ عَقِيدٌ الْخَادِمُ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ خَيْرَوَيْهِ التُّسْتَرِيُّ، وَقَالَ حَاجِزٌ الْوَشَّاءُ(2)، كُلُّهُمْ حَكَوْا عَنْ عَقِيدٍ الْخَادِمِ.

وَقَالَ أَبُو سَهْلِ بْنُ نَوْبَخْتَ: قَالَ عَقِيدٌ الْخَادِمُ: وُلِدَ وَلِيُّ اللهِ الْحُجَّةُ بْنُ الْحَسَنِ ابْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ) لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ غُرَّةَ شَهْرِ رَمَضَانَ(3) سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَيُكَنَّىٰ أَبَا الْقَاسِمِ، وَيُقَالُ: أَبُو جَعْفَرٍ، وَلَقَبُهُ المَهْدِيُّ، وَهُوَ حُجَّةُ اللهِ (عزوجل) فِي أَرْضِهِ عَلَىٰ جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَأُمُّهُ صَقِيلُ الْجَارِيَةُ، وَمَوْلِدُهُ بِسُرَّ مَنْ رَأَىٰ فِي دَرْبِ الرَّاضَةِ(4)، وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وِلَادَتِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَظْهَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَتَمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَهَىٰ عَنْ ذِكْرِ خَبَرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْدَىٰ ذِكْرَهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِهِ.

وَحَدَّثَ أَبُو الْأَدْيَانِ، قَالَ: كُنْتُ أَخْدُمُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهم السلام)، وَأَحْمِلُ كُتُبَهُ إِلَىٰ الْأَمْصَارِ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فِي عِلَّتِهِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ)، فَكَتَبَ مَعِي كُتُباً، وَقَالَ: «امْضِ بِهَا إِلَىٰ المَدَائِنِ، فَإِنَّكَ سَتَغِيبُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً، وَتَدْخُلُ إِلَىٰ سُرَّ مَنْ رَأَىٰ يَوْمَ الْخَامِسَ عَشَرَ، وَتَسْمَعُ الْوَاعِيَةَ فِي دَارِي، وَتَجِدُنِي عَلَىٰ

ص: 201


1- في بعض النُّسَخ: (قال أبو الحسن محمّد بن عليِّ بن حبَّاب)، وفي بعضها: (خشَّاب).
2- في بعض النُّسَخ: (حاجب الوشَّاء)، وكذا ما يأتي.
3- في بعض النُّسَخ: (ليلة الجمعة من شهر رمضان).
4- في بعض النُّسَخ: (درب الرصافة)، وبعضها: (دار الرصافة).

المُغْتَسَلِ»، قَالَ أَبُو الْأَدْيَانِ: فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَمَنْ؟ قَالَ: «مَنْ طَالَبَكَ بِجَوَابَاتِ كُتُبِي فَهُوَ الْقَائِمُ مِنْ بَعْدِي»، فَقُلْتُ: زِدْنِي، فَقَالَ: «مَنْ يُصَلِّي عَلَيَّ فَهُوَ الْقَائِمُ بَعْدِي»، فَقُلْتُ: زِدْنِي، فَقَالَ: «مَنْ أَخْبَرَ بِمَا فِي الْهِمْيَانِ فَهُوَ الْقَائِمُ بَعْدِي»، ثُمَّ مَنَعَتْنِيهَيْبَتُهُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَمَّا فِي الْهِمْيَانِ.

وَخَرَجْتُ بِالْكُتُبِ إِلَىٰ المَدَائِنِ، وَأَخَذْتُ جَوَابَاتِهَا، وَدَخَلْتُ سُرَّ مَنْ رَأَىٰ يَوْمَ الْخَامِسَ عَشَرَ كَمَا ذَكَرَ لِي (علیه السلام)، فَإِذَا أَنَا بِالْوَاعِيَةِ فِي دَارِهِ، وَإِذَا بِهِ عَلَىٰ المُغْتَسَلِ، وَإِذَا أَنَا بِجَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ أَخِيهِ بِبَابِ الدَّارِ وَالشِّيعَةُ مِنْ حَوْلِهِ يُعَزُّونَهُ وَيُهَنُّونَهُ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنْ يَكُنْ هَذَا الْإِمَامُ فَقَدْ بَطَلَتِ الْإِمَامَةُ، لِأَنِّي كُنْتُ أَعْرِفُهُ يَشْرَبُ النَّبِيذَ، وَيُقَامِرُ فِي الْجَوْسَقِ، وَيَلْعَبُ بِالطُّنْبُورِ، فَتَقَدَّمْتُ فَعَزَّيْتُ وَهَنَّيْتُ، فَلَمْ يَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ، ثُمَّ خَرَجَ عَقِيدٌ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي، قَدْ كُفِّنَ أَخُوكَ، فَقُمْ وَصَلِّ عَلَيْهِ، فَدَخَلَ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ وَالشِّيعَةُ مِنْ حَوْلِهِ يَقْدُمُهُمُ السَّمَّانُ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَتِيلُ المُعْتَصِمِ المَعْرُوفُ بِسَلَمَةَ.

فَلَمَّا صِرْنَا فِي الدَّارِ إِذَا نَحْنُ بِالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ) عَلَىٰ نَعْشِهِ مُكَفَّناً، فَتَقَدَّمَ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ لِيُصَلِّيَ عَلَىٰ أَخِيهِ، فَلَمَّا هَمَّ بِالتَّكْبِيرِ خَرَجَ صَبِيٌّ بِوَجْهِهِ سُمْرَةٌ، بِشَعْرِهِ قَطَطٌ، بِأَسْنَانِهِ تَفْلِيجٌ، فَجَبَذَ بِرِدَاءِ جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ وَقَالَ: «تَأَخَّرْ يَا عَمِّ فَأَنَا أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَىٰ أَبِي»، فَتَأَخَّرَ جَعْفَرٌ، وَقَدِ ارْبَدَّ وَجْهُهُ وَاصْفَرَّ(1)، فَتَقَدَّمَ الصَّبِيُّ وَصَلَّىٰ عَلَيْهِ، وَدُفِنَ إِلَىٰ جَانِبِ قَبْرِ أَبِيهِ (علیهما السلام)، ثُمَّ قَالَ: «يَا بَصْرِيُّ، هَاتِ جَوَابَاتِ الْكُتُبِ الَّتِي مَعَكَ»، فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ بَيِّنَتَانِ(2)، بَقِيَ الْهِمْيَانُ.

ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَىٰ جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ وَهُوَ يَزْفِرُ، فَقَالَ لَهُ حَاجِزٌ الْوَشَّاءُ: يَا سَيِّدِي، مَنِ الصَّبِيُّ؟ لِنُقِيمَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ، وَلَا أَعْرِفُهُ.

ص: 202


1- اربدَّ وجهه: أي تغيَّر إلىٰ الغبرة.
2- في بعض النُّسَخ: (هذه اثنتان).

فَنَحْنُ جُلُوسٌ إِذْ قَدِمَ نَفَرٌ مِنْ قُمَّ، فَسَأَلُوا عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهماالسلام)، فَعَرَفُوا مَوْتَهُ، فَقَالُوا: فَمَنْ [نُعَزِّي]؟ فَأَشَارَ النَّاسُ إِلَىٰ جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَعَزَّوْهُ وَهَنَّوْهُ، وَقَالُوا: إِنَّ مَعَنَا كُتُباً وَمَالاً، فَتَقُولُ مِمَّنِ الْكُتُبُ، وَكَمِ المَالُ، فَقَامَ يَنْفُضُ أَثْوَابَهُ وَيَقُولُ: تُرِيدُونَ مِنَّا أَنْ نَعْلَمَ الْغَيْبَ.

قَالَ: فَخَرَجَ الْخَادِمُ، فَقَالَ: مَعَكُمْ كُتُبُ فُلَانٍ وَفُلَانٍ [وَفُلَانٍ]، وَهِمْيَانٌ فِيهِ أَلْفُ دِينَارٍ وَعَشَرَةُ دَنَانِيرَ مِنْهَا مَطْلِيَّةٌ، فَدَفَعُوا إِلَيْهِ الْكُتُبَ وَالمَالَ وَقَالُوا: الَّذِي وَجَّهَ بِكَ لِأَخْذِ ذَلِكَ(1) هُوَ الْإِمَامُ.

فَدَخَلَ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَىٰ المُعْتَمِدِ وَكَشَفَ لَهُ ذَلِكَ، فَوَجَّهَ المُعْتَمِدُ بِخَدَمِهِ، فَقَبَضُوا عَلَىٰ صَقِيلَ الْجَارِيَةِ، فَطَالَبُوهَا بِالصَّبِيِّ، فَأَنْكَرَتْهُ وَادَّعَتْ حَبْلاً بِهَا لِتُغَطِّيَ حَالَ الصَّبِيِّ، فَسُلِّمَتْ إِلَىٰ ابْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ الْقَاضِي، وَبَغَتَهُمْ مَوْتُ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ يَحْيَىٰ بْنِ خَاقَانَ فَجْأَةً، وَخُرُوجُ صَاحِبِ الزِّنْجِ بِالْبَصْرَةِ، فَشُغِلُوا بِذَلِكَ عَنِ الْجَارِيَةِ، فَخَرَجَتْ عَنْ أَيْدِيهِمْ، وَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2).

[25/411] حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مِهْرَانَ الْآبِيُّ الْعَرُوضِيُّ (رضی الله عنه) بِمَرْوَ، قَالَ: حَدَّثَنَا [أَبُو] الْحُسَيْنِ [بْنُ] زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ سِنَانٍ المَوْصِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: لَمَّا قُبِضَ سَيِّدُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْعَسْكَرِيُّ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا) وَفَدَ(3) مِنْ قُمَّ وَالْجِبَالِ وُفُودٌ بِالْأَمْوَالِ الَّتِي كَانَتْ تُحْمَلُ عَلَىٰ الرَّسْمِ وَالْعَادَةِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ خَبَرُ وَفَاةِ الْحَسَنِ (علیه السلام)، فَلَمَّا أَنْ وَصَلُوا إِلَىٰ سُرَّ مَنْ رَأَىٰ سَأَلُوا عَنْ سَيِّدِنَا الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام)، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّهُ قَدْ فُقِدَ، فَقَالُوا: وَمَنْ وَارِثُهُ؟ قَالُوا: أَخُوهُ

ص: 203


1- في بعض النُّسَخ: (لأجل ذلك).
2- رواه الراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1101 - 1104/ ح 23).
3- في بعض النُّسَخ: (أتىٰ).

جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ، فَسَأَلُوا عَنْهُ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّهُ قَدْ خَرَجَ مُتَنَزِّهاً، وَرَكِبَ زَوْرَقاً فِي دِجْلَةَ يَشْرَبُ وَمَعَهُ المُغَنُّونَ، قَالَ: فَتَشَاوَرَ الْقَوْمُ(1)، فَقَالُوا: هَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ صِفَةِ الْإِمَامِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: امْضُوا بِنَا حَتَّىٰ نَرُدَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ عَلَىٰ أَصْحَابِهَا.

فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ الْقُمِّيُّ: قِفُوا بِنَا حَتَّىٰ يَنْصَرِفَ هَذَا الرَّجُلُ وَنَخْتَبِرَ أَمْرَهُ بِالصِّحَّةِ.

قَالَ: فَلَمَّا انْصَرَفَ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَقَالُوا: يَا سَيِّدَنَا، نَحْنُ مِنْ أَهْلِ قُمَّ، وَمَعَنَا جَمَاعَةٌ مِنَ الشِّيعَةِ وَغَيْرِهَا، وَكُنَّا نَحْمِلُ إِلَىٰ سَيِّدِنَا أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْأَمْوَالَ، فَقَالَ: وَأَيْنَ هِيَ؟ قَالُوا: مَعَنَا، قَالَ: احْمِلُوهَا إِلَيَّ، قَالُوا: لَا، إِنَّ لِهَذِهِ الْأَمْوَالِ خَبَراً طَرِيفاً، فَقَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ تُجْمَعُ وَيَكُونُ فِيهَا مِنْ عَامَّةِ الشِّيعَةِ الدِّينَارُ وَالدِّينَارَانِ، ثُمَّ يَجْعَلُونَهَا فِي كِيسٍ وَيَخْتِمُونَ عَلَيْهِ، وَكُنَّا إِذَا وَرَدْنَا بِالمَالِ عَلَىٰ سَيِّدِنَا أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام) يَقُولُ: «جُمْلَةُ المَالِ كَذَا وَكَذَا دِينَاراً، مِنْ عِنْدِ فُلَانٍ كَذَا، وَمِنْ عِنْدِ فُلَانٍ كَذَا» حَتَّىٰ يَأْتِيَ عَلَىٰ أَسْمَاءِ النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَيَقُولُ مَا عَلَىٰ الْخَوَاتِيمِ مِنْ نَقْشٍ، فَقَالَ جَعْفَرٌ: كَذَبْتُمْ، تَقُولُونَ عَلَىٰ أَخِي مَا لَا يَفْعَلُهُ، هَذَا عِلْمُ الْغَيْبِ وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ.

قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ الْقَوْمُ كَلَامَ جَعْفَرٍ جَعَلَ بَعْضُهُمْ يَنْظُرُ إِلَىٰ بَعْضٍ، فَقَالَ لَهُمْ: احْمِلُوا هَذَا المَالَ إِلَيَّ، قَالُوا: إِنَّا قَوْمٌ مُسْتَأْجِرُونَ وُكَلَاءُ لِأَرْبَابِ المَالِ، وَلَا نُسَلِّمُ المَالَ إِلَّا بِالْعَلَامَاتِ الَّتِي كُنَّا نَعْرِفُهَا مِنْ سَيِّدِنَا الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام)، فَإِنْ كُنْتَ الْإِمَامَ فَبَرْهِنْ لَنَا وَإِلَّا رَدَدْنَاهَا إِلَىٰ أَصْحَابِهَا، يَرَوْنَ فِيهَا رَأْيَهُمْ.قَالَ: فَدَخَلَ جَعْفَرٌ عَلَىٰ الْخَلِيفَةِ - وَكَانَ بِسُرَّ مَنْ رَأَىٰ -، فَاسْتَعْدَىٰ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا أُحْضِرُوا قَالَ الْخَلِيفَةُ: احْمِلُوا هَذَا المَالَ إِلَىٰ جَعْفَرٍ، قَالُوا: أَصْلَحَ اللهُ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ

ص: 204


1- في بعض النُّسَخ: (فتثوَّر القوم).

إِنَّا قَوْمٌ مُسْتَأْجِرُونَ وُكَلَاءُ لِأَرْبَابِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ، وَهِيَ وَدَاعَةٌ لِجَمَاعَةٍ، وَأَمَرُونَا بِأَنْ لَا نُسَلِّمَهَا إِلَّا بِعَلَامَةٍ وَدَلَالَةٍ، وَقَدْ جَرَتْ بِهَذِهِ الْعَادَةِ مَعَ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام)، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ: فَمَا كَانَتِ الْعَلَامَةُ الَّتِي كَانَتْ مَعَ أَبِي مُحَمَّدٍ؟ قَالَ الْقَوْمُ: كَانَ يَصِفُ لَنَا الدَّنَانِيرَ وَأَصْحَابَهَا وَالْأَمْوَالَ وَكَمْ هِيَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَلَّمْنَاهَا إِلَيْهِ، وَقَدْ وَفَدْنَا إِلَيْهِ مِرَاراً، فَكَانَتْ هَذِهِ عَلَامَتُنَا مَعَهُ وَدِلَالَتُنَا، وَقَدْ مَاتَ، فَإِنْ يَكُنْ هَذَا الرَّجُلُ صَاحِبَ هَذَا الْأَمْرِ فَلْيُقِمْ لَنَا مَا كَانَ يُقِيمُهُ لَنَا أَخُوهُ، وَإِلَّا رَدَدْنَاهَا إِلَىٰ أَصْحَابِهَا، فَقَالَ جَعْفَرٌ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَذَّابُونَ يَكْذِبُونَ عَلَىٰ أَخِي، وَهَذَا عِلْمُ الْغَيْبِ، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ: الْقَوْمُ رُسُلٌ، «وَمَا عَلَىٰ الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ 54» [النور: 54]، قَالَ: فَبُهِتَ جَعْفَرٌ وَلَمْ يَرُدَّ جَوَاباً، فَقَالَ الْقَوْمُ: يَتَطَوَّلُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ بِإِخْرَاجِ أَمْرِهِ إِلَىٰ مَنْ يُبَدْرِقُنَا(1) حَتَّىٰ نَخْرُجَ مِنْ هَذِهِ الْبَلْدَةِ.

قَالَ: فَأَمَرَ لَهُمْ بِنَقِيبٍ فَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا، فَلَمَّا أَنْ خَرَجُوا مِنَ الْبَلَدِ خَرَجَ إِلَيْهِمْ غُلَامٌ أَحْسَنُ النَّاسِ وَجْهاً، كَأَنَّهُ خَادِمٌ، فَنَادَىٰ: يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، وَيَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، أَجِيبُوا مَوْلَاكُمْ، قَالَ: فَقَالُوا: أَنْتَ مَوْلَانَا؟ قَالَ: مَعَاذَ اللهِ، أَنَا عَبْدُ مَوْلَاكُمْ، فَسِيرُوا إِلَيْهِ، قَالُوا: فَسِرْنَا [إِلَيْهِ] مَعَهُ حَتَّىٰ دَخَلْنَا دَارَ مَوْلَانَا الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام)، فَإِذَا وَلَدُهُ الْقَائِمُ سَيِّدُنَا (علیه السلام) قَاعِدٌ عَلَىٰ سَرِيرٍ كَأَنَّهُ فِلْقَةُ قَمَرٍ، عَلَيْهِ ثِيَابٌ خُضْرٌ، فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْنَا السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: «جُمْلَةُ المَالِ كَذَا وَكَذَا دِينَاراً، حَمَلَ فُلَانٌ كَذَا، [وَحَمَلَ] فُلَانٌ كَذَا»، وَلَمْيَزَلْ يَصِفُ حَتَّىٰ وَصَفَ الْجَمِيعَ.

ثُمَّ وَصَفَ ثِيَابَنَا وَرِحَالَنَا وَمَا كَانَ مَعَنَا مِنَ الدَّوَابِّ، فَخَرَرْنَا سُجَّداً لِلهِ (عزوجل) شُكْراً لِمَا عَرَّفَنَا، وَقَبَّلْنَا الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَأَلْنَاهُ عَمَّا أَرَدْنَا فَأَجَابَ، فَحَمَلْنَا إِلَيْهِ الْأَمْوَالَ، وَأَمَرَنَا الْقَائِمُ (علیه السلام) أَنْ لَا نَحْمِلُ إِلَىٰ سُرَّ مَنْ رَأَىٰ بَعْدَهَا شَيْئاً مِنَ المَالِ، فَإِنَّهُ يَنْصِبُ لَنَا بِبَغْدَادَ رَجُلاً يَحْمِلُ إِلَيْهِ الْأَمْوَالَ وَيَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهِ التَّوْقِيعَاتُ، قَالُوا:

ص: 205


1- من البدرقة. وفي بعض النُّسَخ بالذال المعجمة، بهذا المعنىٰ أيضاً.

فَانْصَرَفْنَا مِنْ عِنْدِهِ، وَدَفَعَ إِلَىٰ أَبِي الْعَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْقُمِّيِّ الْحِمْيَرِيِّ شَيْئاً مِنَ الْحَنُوطِ وَالْكَفَنِ، فَقَالَ لَهُ: «أَعْظَمَ اللهُ أَجْرَكَ فِي نَفْسِكَ»، قَالَ: فَمَا بَلَغَ أَبُو الْعَبَّاسِ عَقَبَةَ هَمْدَانَ حَتَّىٰ تُوُفِّيَ (رحمة الله).

وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ نَحْمِلُ الْأَمْوَالَ إِلَىٰ بَغْدَادَ إِلَىٰ النُّوَّابِ المَنْصُوبِينَ بِهَا، وَيَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهِمُ التَّوْقِيعَاتُ (1).

قال مصنِّف هذا الكتاب (رضی الله عنه): هذا الخبر يدلُّ علىٰ أنَّ الخليفة كان يعرف هذا الأمر، كيف هو [وأين هو] وأين موضعه، فلهذا كفَّ عن القوم عمَّا معهم من الأموال، ودفع جعفر الكذَّاب عن مطالبتهم(2)، ولم يأمرهم بتسليمها إليه، إلَّا أنَّه كان يُحِبُّ أنْ يخفىٰ هذا الأمر ولا يُنشَر لئلَّا يهتدي إليه الناس فيعرفونه.

وقد كان جعفر الكذَّاب حمل إلىٰ الخليفة عشرين ألف دينار لمَّا تُوفِّي الحسن ابن عليٍّ (علیهما السلام)، وقال: يا أمير المؤمنين، تجعل لي مرتبة أخي الحسن ومنزلته، فقال الخليفة: اعلم أنَّ منزلة أخيك لم تكن بنا إنَّما كانتبالله (عزوجل) ونحن كنَّا نجتهد في حطِّ منزلته والوضع منه، وكان الله (عزوجل) يأبىٰ إلَّا أنْ يزيده كلَّ يوم رفعةً لما كان فيه من الصيانة وحسن السمت(3) والعلم والعبادة، فإنْ كنت عند شيعة أخيك بمنزلته فلا حاجة بك إلينا، وإنْ لم تكن عندهم بمنزلته ولم يكن فيك ما كانَ فِي أَخِيكَ لَمْ نُغْنِ عَنْكَ فِي ذَلِكَ شَيْئاً.

* * *

ص: 206


1- رواه ابن حمزة (رحمة الله) في الثاقب في المناقب (ص 608 - 611/ ح 555/3)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1104 - 1108/ ح 24).
2- في بعض النُّسَخ: (عنهم) مكان (عن مطالبتهم).
3- السمت - بفتح المهملة -: هيأة أهل الخير. وتقدَّم تفصيله سابقاً في رواية أحمد بن عبيد الله بن يحيىٰ بن خاقان في (ج 1/ ص 61 - 65)، فراجع.

الباب الرابع والأربعون:

علَّة الغيبة

ص: 207

ص: 208

[1/412] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «صَاحِبُ هَذَا الْأَمْرِ تَعْمَىٰ وِلَادَتُهُ عَلَىٰ [هَذَا] الْخَلْقِ لِئَلَّا يَكُونَ لِأَحَدٍ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ إِذَا خَرَجَ».

[2/413] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «يُبْعَثُ الْقَائِمُ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ لِأَحَدٍ»(1).

[3/414] حَدَّثَنَا أَبِي (رحمة الله)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ وَالْحَسَنِ بْنِ ظَرِيفٍ جَمِيعاً، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «يَقُومُ الْقَائِمُ (علیه السلام) وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ»(2).

[4/415] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَىٰ الرِّضَا (علیهما السلام) أَنَّهُ قَالَ: «كَأَنِّيبِالشِّيعَةِ عِنْدَ فَقْدِهِمُ الثَّالِثَ(3) مِنْ وُلْدِي كَالنَّعَمِ يَطْلُبُونَ المَرْعَىٰ فَلَا يَجِدُونَهُ»، قُلْتُ لَهُ: وَلِمَ ذَاكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ؟ قَالَ: «لِأَنَّ إِمَامَهُمْ يَغِيبُ عَنْهُمْ»، فَقُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَ: «لِئَلَّا يَكُونَ لِأَحَدٍ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ إِذَا قَامَ بِالسَّيْفِ»(4).

ص: 209


1- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 116/ ح 106).
2- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 116/ ح 107).
3- المراد به أبو محمّد (علیه السلام). وفي بعض النُّسَخ: (عند فقدهم الرابع)، فالمراد الحجَّة ¨.
4- رواه المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 247/ ح 6)، وعلل الشرائع (ج 1/ ص 245/ باب 179/ ح 6).

[5/416] حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَطَّارُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو الْكَشِّيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَبْرَئِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَىٰ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «صَاحِبُ هَذَا الْأَمْرِ تَغِيبُ وِلَادَتُهُ عَنْ هَذَا الْخَلْقِ كَيْ لَا يَكُونَ لِأَحَدٍ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ إِذَا خَرَجَ، وَيُصْلِحُ اللهُ (عزوجل) أَمْرَهُ فِي لَيْلَةٍ [وَاحِدَةٍ]».

[6/417] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ الْعَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ وَحَيْدَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ جَمِيعاً، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَبْرَئِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، عَنْ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرٍ الْبَغْدَادِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّيْرَفِيُّ، عَنْ حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «إِنَّ لِلْقَائِمِ مِنَّا غَيْبَةً يَطُولُ أَمَدُهَا»، فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، وَلِمَ ذَلِكَ؟ قَالَ: «لِأَنَّ اللهَ (عزوجل) أَبَىٰ إِلَّا أَنْ تَجْرِيَ فِيهِ سُنَنُ الْأَنْبِيَاءِ (علیهم السلام) فِي غَيْبَاتِهِمْ، وَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ يَا سَدِيرُ مِنِ اسْتِيفَاءِ مَدَدِ غَيْبَاتِهِمْ، قَالَ اللهُ تَعَالَىٰ: «لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ 19» [الانشقاق: 19]، أَيْ سَنَنَ مَنْ كَانَقَبْلَكُمْ»(1).

[7/418] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَىٰ الرَّوَّاسِيِّ، عَنْ خَالِدِ بْنِ نَجِيحٍ الْجَوَّازِ(2)، عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «يَا زُرَارَةُ، لَا بُدَّ لِلْقَائِمِ مِنْ غَيْبَةٍ»، قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَ: «يَخَافُ عَلَىٰ نَفْسِهِ - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَىٰ بَطْنِهِ -».

[8/419] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمْدَانُ بْنُ أَحْمَدَ الْقَلَانِسِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَىٰ، عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (علیه السلام) يَقُولُ:

ص: 210


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 245/ باب 179/ ح 7).
2- في بعض النُّسَخ: (الجوان)، ولعلَّه هو الصواب.

«إِنَّ لِلْقَائِمِ غَيْبَةً قَبْلَ أَنْ يَقُومَ»، قَالَ: قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَ: «يَخَافُ - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَىٰ بَطْنِهِ -»(1).

[9/420] حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبْدُوسٍ الْعَطَّارُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَمْدَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رِئَابٍ، عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (علیه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ لِلْقَائِمِ غَيْبَةً قَبْلَ ظُهُورِهِ»، قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَ: «يَخَافُ - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَىٰ بَطْنِهِ -»، قَالَ زُرَارَةُ: يَعْنِي الْقَتْلَ (2).

[10/421] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضی الله عنه)، قَالَ:حَدَّثَنِي عَمِّي مُحَمَّدُ ابْنُ أَبِي الْقَاسِمِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبَرْقِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ، عَنْ صَفْوَانَ ابْنِ يَحْيَىٰ، عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «لِلْقَائِمِ غَيْبَةٌ قَبْلَ قِيَامِهِ»، قُلْتُ(3): وَلِمَ؟ قَالَ: «يَخَافُ عَلَىٰ نَفْسِهِ الذَّبْحَ».

[11/422] حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبْدُوسٍ الْعَطَّارُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمْدَانُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ المَدَائِنِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْفَضْلِ الْهَاشِمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ الصَّادِقَ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام) يَقُولُ: «إِنَّ لِصَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ غَيْبَةً لَا بُدَّ مِنْهَا يَرْتَابُ فِيهَا كُلُّ مُبْطِلٍ»، فَقُلْتُ: وَلِمَ جُعِلْتُ فِدَاكَ؟ قَالَ: «لِأَمْرٍ لَمْ يُؤْذَنْ لَنَا فِي كَشْفِهِ لَكُمْ(4)»، قُلْتُ: فَمَا وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي غَيْبَتِهِ؟ قَالَ: «وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي غَيْبَتِهِ وَجْهُ الْحِكْمَةِ(5) فِي غَيْبَاتِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ حُجَجِ اللهِ تَعَالَىٰ

ص: 211


1- قد مرَّ تحت الرقم (265/24)، فراجع.
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 246/ باب 179/ ح 9)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 332/ ح 274).
3- في بعض النُّسَخ: (قيل).
4- يعني علىٰ التفصيل.
5- يعني علىٰ سبيل الإجمال.

ذِكْرُهُ، إِنَّ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ لَا يَنْكَشِفُ إِلَّا بَعْدَ ظُهُورِهِ كَمَا لَمْ يَنْكَشِفْ وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِيمَا أَتَاهُ الْخَضِرُ (علیه السلام) مِنْ خَرْقِ السَّفِينَةِ وَقَتْلِ الْغُلَامِ وَإِقَامَةِ الْجِدَارِ لِمُوسَىٰ (علیه السلام) إِلَىٰ وَقْتِ افْتِرَاقِهِمَا(1). يَا ابْنَ الْفَضْلِ، إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَمْرٌ مِنْ [أَمْرِ] اللهِ تَعَالَىٰ وَسِرٌّ مِنْ سِرِّ اللهِ وَغَيْبٌ مِنْ غَيْبِ اللهِ، وَمَتَىٰ عَلِمْنَا أَنَّهُ (عزوجل) حَكِيمٌ صَدَّقْنَا بِأَنَّ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا حِكْمَةٌ وَإِنْ كَانَ وَجْهُهَا غَيْرَمُنْكَشِفٍ»(2).

* * *

ص: 212


1- في بعض النُّسَخ: (إلَّا وقت افتراقهما).
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 245 و246/ باب 179/ ح 8).

الباب الخامس والأربعون:

اشارة

ذكر التوقيعات الواردة عن القائم (علیه السلام)

ص: 213

ص: 214

[1/423] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ الْعَلَوِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ وَحَيْدَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّمَرْقَنْدِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَلْخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الدَّقَّاقُ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَا: سَمِعْنَا عَلِيَّ بْنَ عَاصِمٍ الْكُوفِيَّ يَقُولُ: خَرَجَ فِي تَوْقِيعَاتِ صَاحِبِ الزَّمَانِ: «مَلْعُونٌ مَلْعُونٌ مَنْ سَمَّانِي فِي مَحْفِلٍ مِنَ النَّاسِ»(1).

[2/424] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَىٰ صَاحِبِ الزَّمَانِ (علیه السلام): إِنَّ أَهْلَ بَيْتِي يُؤْذُونَنِي وَيُقْرِعُونَنِي(2) بِالْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ آبَائِكَ (علیهم السلام) أَنَّهُمْ قَالُوا: «قُوَّامُنَا وَخُدَّامُنَا شِرَارُ خَلْقِ اللهِ»، فَكَتَبَ (علیه السلام): «وَيْحَكُمْ أَمَا تَقْرَءُونَ مَا قَالَ (عزوجل): «وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَىٰ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًىظاهِرَةً» [سبأ: 18]، وَنَحْنُ وَاللهِ الْقُرَىٰ الَّتِي بَارَكَ اللهُ فِيهَا، وَأَنْتُمُ الْقُرَىٰ الظَّاهِرَةُ»(3).

ص: 215


1- قال عليُّ بن عيسىٰ الإربلي (رحمة الله) في كشف الغمَّة (ج 3/ ص 326): (من العجب أنَّ الشيخ الطبرسي والشيخ المفيد (رحمهما الله تعالىٰ) قالا: إنَّه لا يجوز ذكر اسمه ولا كنيته، ثمّ يقولان: اسمه اسم النبيِّ (صلی الله علیه و آله) وكنيته كنيته (علیه السلام). وهما يظنَّان أنَّهما لم يذكرا اسمه ولا كنيته، وهذا عجيب. والذي أراه أنَّ المنع من ذلك إنَّما كان في وقت الخوف عليه والطلب له والسؤال عنه، فأمَّا الآن فلا، والله أعلم) انتهىٰ.
2- التقريع: التعنيف. (الصحاح للجوهري: ج 3/ ص 1264/ مادَّة قرع). وفي بعض النُّسَخ: (يفزعونني).
3- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 140/ ح 161).

قال عبد الله بن جعفر: وَحدثنا بهذا الحديث عليُّ بن محمّد الكليني، عن محمّد بن صالح، عن صاحب الزمان (علیه السلام).

[3/425] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَلِيٍّ مُحَمَّدَ بْنَ هَمَّامٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ الْعَمْرِيَّ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) يَقُولُ: خَرَجَ تَوْقِيعٌ بِخَطٍّ أَعْرِفُهُ: «مَنْ سَمَّانِي فِي مَجْمَعٍ مِنَ النَّاسِ بِاسْمِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ».

قَالَ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ هَمَّامٍ: وَكَتَبْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الْفَرَجِ مَتَىٰ يَكُونُ؟ فَخَرَجَ إِلَيَّ: «كَذَبَ الْوَقَّاتُونَ»(1).

[4/426] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِصَامٍ الْكُلَيْنِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكُلَيْنِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَعْقُوبَ(2)، قَالَ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ الْعَمْرِيَّ (رضی الله عنه) أَنْ يُوصِلَ لِي كِتَاباً قَدْ سَأَلْتُ فِيهِ عَنْ مَسَائِلَ أَشْكَلَتْ عَلَيَّ، فَوَرَدَ[تْ فِي] التَّوْقِيعِ بِخَطِّ مَوْلَانَا صَاحِبِ الزَّمَانِ (علیه السلام):

«أَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ أَرْشَدَكَ اللهُ وَثَبَّتَكَ مِنْ أَمْرِ المُنْكِرِينَ لِي مِنْ أَهْلِ بَيْتِنَا وَبَنِي عَمِّنَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ اللهِ (عزوجل) وَبَيْنَ أَحَدٍ قَرَابَةٌ، وَمَنْ أَنْكَرَنِي فَلَيْسَ مِنِّي، وَسَبِيلُهُ سَبِيلُ ابْنِ نُوحٍ (علیه السلام).

أَمَّا سَبِيلُ عَمِّي جَعْفَرٍ وَوُلْدِهِ فَسَبِيلُ إِخْوَةِ يُوسُفَ (علیه السلام).أَمَّا الْفُقَّاعُ فَشُرْبُهُ حَرَامٌ، وَلَا بَأْسَ بِالشَّلْمَابِ(3)، وَأَمَّا أَمْوَالُكُمْ فَلَا

ص: 216


1- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 270).
2- مجهول الحال لم أجده في الرجال ولا الكُتُب إلَّا في نظير هذا الباب.
3- شراب يُتَّخذ من الشيلم، وهو الزوان الذي يكون في البُرِّ، (قال أبو حنيفة: الشيلم حبٌّ صغار مستطيل أحمر قائم كأنَّه في خلقة سوس الحنطة ولا يُسكِر، ولكنَّه يمرُّ الطعام إمراراً شديداً. وقال مرَّة: نبات الشيلم سُطاح، وهو يذهب علىٰ الأرض، وورقته كورقة الخلاف البلخي شديدة الخضرة رطبة، قال: والناس يأكلون ورقه إذا كان رطباً وهو طيِّب لا مرارة له وحبُّه أعقىٰ من الصبر. (تاج العروس: ج 16/ ص 391/ مادَّة شلم). وقال أُستاذنا الشعراني في هامش الوسائل (ج 17/ ص 291): (إنَّ الشلماب شراب يُتَّخذ من الشيلم، وهو حبٌّ شبيه بالشعير، وفيه تخدير نظير البنج، وإنْ اتَّفق وقوعه في الحنطة وعُمِلَ منه الخبز أورث السدر والدوار والنوم، ويكثر نباته في مزرع الحنطة، ويُتوهَّم حرمته لمكان التخدير واشتباه التخدير بالإسكار عند العوامِّ).

نَقْبَلُهَا إِلَّا لِتَطَهَّرُوا، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصِلْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَقْطَعْ، فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ.

وَأَمَّا ظُهُورُ الْفَرَجِ فَإِنَّهُ إِلَىٰ اللهِ تَعَالَىٰ ذِكْرُهُ، وَكَذَبَ الْوَقَّاتُونَ.

وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْحُسَيْنَ (علیه السلام) لَمْ يُقْتَلْ فَكُفْرٌ وَتَكْذِيبٌ وَضَلَالٌ.

وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَىٰ رُوَاةِ حَدِيثِنَا(1) فَإِنَّهُمْ حُجَّتِيعَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اللهِ عَلَيْهِمْ.

وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَمْرِيُّ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ) فَإِنَّهُ ثِقَتِي وَكِتَابُهُ كِتَابِي.

وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ الْأَهْوَازِيُّ فَسَيُصْلِحُ اللهُ لَهُ قَلْبَهُ وَيُزِيلُ عَنْهُ شَكَّهُ.

وَأَمَّا مَا وَصَلْتَنَا بِهِ فَلَا قَبُولَ عِنْدَنَا إِلَّا لِمَا طَابَ وَطَهُرَ، وَثَمَنُ المُغَنِّيَةِ حَرَامٌ(2).

ص: 217


1- قيل: الحوادث الواقعة ما يُحتاج فيه إلىٰ الحاكم كأموال اليتامىٰ فيثبت فيه ولاية الفقيه. وليس بشيء، والظاهر ما يتَّفق للناس من المسائل التي لا يعلمون حكمها فلا بدَّ لهم أنْ يرجعوا فيها إلىٰ من يستنبطها من الأحاديث الواردة عنهم. والمراد برواة الحديث الفقهاء الذين يفقهون الحديث ويعلمون خاصَّه وعامَّه ومحكمه ومتشابهه، ويعرفون صحيحه من سقيمه، وحسنه من مختلفه، والذين لهم قوَّة التفكيك بين الصريح منه والدخيل، وتمييز الأصيل من المزيَّف المتقوَّل، لا الذين يقرؤون الكُتُب المعروفة ويحفظون ظاهراً من ألفاظه ولا يفهمون معناه وليس لهم منَّة الاستنباط وإنْ زعموا أنَّهم حملة الحديث.
2- في بعض النُّسَخ: (ثمن القينة حرام) يعني الإماء المغنِّيات.

وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ بْنِ نُعَيْمٍ فَهُوَ رَجُلٌ مِنْ شِيعَتِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ.

وَأَمَّا أَبُو الْخَطَّابِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي زَيْنَبَ الْأَجْدَعُ فَمَلْعُونٌ، وَأَصْحَابُهُ مَلْعُونُونَ، فَلَا تُجَالِسْ أَهْلَ مَقَالَتِهِمْ فَإِنِّي مِنْهُمْ بَرِيءٌ وَآبَائِي (علیهم السلام) مِنْهُمْ بِرَاءٌ.

وَأَمَّا المُتَلَبِّسُونَ بِأَمْوَالِنَا فَمَنِ اسْتَحَلَّ مِنْهَا شَيْئاً فَأَكَلَهُ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ النِّيرَانَ.

وَأَمَّا الْخُمُسُ فَقَدْ أُبِيحَ لِشِيعَتِنَا وَجُعِلُوا مِنْهُ فِي حِلٍّ إِلَىٰ وَقْتِ ظُهُورِ أَمْرِنَا لِتَطِيبَ وِلَادَتُهُمْ وَلَا تَخْبُثَ.

وَأَمَّا نَدَامَةُ قَوْمٍ قَدْ شَكُّوا فِي دِينِ اللهِ (عزوجل) عَلَىٰ مَا وَصَلُونَا بِهِ فَقَدْ أَقَلْنَا مَنِ اسْتَقَالَ، وَلَا حَاجَةَ فِي صِلَةِ الشَّاكِّينَ.

وَأَمَّا عِلَّةُ مَا وَقَعَ مِنَ الْغَيْبَةِ فَإِنَّ اللهَ (عزوجل) يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» [المائدة: 101]، إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ آبَائِي (علیهم السلام) إِلَّا وَقَدْ وَقَعَتْ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ لِطَاغِيَةِ زَمَانِهِ، وَإِنِّي أَخْرُجُ حِينَ أَخْرُجُ وَلَا بَيْعَةَ لِأَحَدٍ مِنَ الطَّوَاغِيتِ فِي عُنُقِي.وَأَمَّا وَجْهُ الْاِنْتِفَاعِ بِي فِي غَيْبَتِي فَكَالْاِنْتِفَاعِ بِالشَّمْسِ إِذَا غَيَّبَتْهَا عَنِ الْأَبْصَارِ السَّحَابُ، وَإِنِّي لَأَمَانٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ كَمَا أَنَّ النُّجُومَ أَمَانٌ لِأَهْلِ السَّمَاءِ، فَأَغْلِقُوا بَابَ السُّؤَالِ عَمَّا لَا يَعْنِيكُمْ، وَلَا تَتَكَلَّفُوا عِلْمَ مَا قَدْ كُفِيتُمْ، وَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ بِتَعْجِيلِ الْفَرَجِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فَرَجُكُمْ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا إِسْحَاقَ بْنَ يَعْقُوبَ وَعَلىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدىٰ»(1).

[5/427] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الرَّازِيِّ المَعْرُوفِ بِعَلَّانَ الْكُلَيْنِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ

ص: 218


1- رواه الطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 290 - 293/ ح 247)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 270 - 272)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1113 - 1115/ ح 30)، وأحمد بن عليٍّ الطبرسي (رحمة الله) في الاحتجاج (ج 2/ ص 281 - 284).

شَاذَانَ بْنِ نُعَيْمٍ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: اجْتَمَعَ عِنْدِي مَالٌ لِلْغَرِيمِ (علیه السلام)(1) خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، يَنْقُصُ مِنْهَا عِشْرِينَ دِرْهَماً، فَأَنِفْتُ(2) أَنْ أَبْعَثَ بِهَا نَاقِصَةً هَذَا الْمِقْدَارَ، فَأَتْمَمْتُهَا مِنْ عِنْدِي وَبَعَثْتُ بِهَا إِلَىٰ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ(3) وَلَمْ أَكْتُبْ مَالِي فِيهَا، فَأَنْفَذَ إِلَيَّ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْقَبْضَ، وَفِيهِ: «وَصَلَتْ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، لَكَ مِنْهَا عِشْرُونَ دِرْهَماً»(4).

[6/428] حَدَّثَنِي أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَعْقُوبَ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ الْعَمْرِيَّ (رضی الله عنه) يَقُولُ: صَحِبْتُ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ وَمَعَهُ مَالٌ لِلْغَرِيمِ (علیه السلام)، فَأَنْفَذَهُ فَرَدَّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ لَهُ: «أَخْرِجْ حَقَّ وُلْدِ عَمِّكَ مِنْهُ وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ»، فَبَقِيَ الرَّجُلُ مُتَحَيِّراً بَاهِتاً مُتَعَجِّباً، وَنَظَرَ فِي حِسَابِ المَالِ وَكَانَتْ فِي يَدِهِ ضَيْعَةٌ لِوُلْدِ عَمِّهِ قَدْ كَانَ رَدَّ عَلَيْهِمْ بَعْضَهَا وَزَوَىٰ عَنْهُمْ بَعْضَهَا، فَإِذَا الَّذِي نَضَّ لَهُمْ(5) مِنْ ذَلِكَ المَالِ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ كَمَا قَالَ (علیه السلام)، فَأَخْرَجَهُ وَأَنْفَذَ الْبَاقِيَ فَقَبِلَ (6).

ص: 219


1- في بعض النُّسَخ: (للقائم (علیه السلام)). وإطلاق الغريم علىٰ الصاحب لكونه صاحباً للحقِّ ¨.
2- أي كرهت. وفي بعض النُّسَخ: (فأبيت).
3- هو محمّد بن جعفر الأسدي أبو الحسين الرازي أحد الأبواب كما في رجال الطوسي (ص 439/ الرقم 6278/28).
4- رواه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 523 و524/ باب مولد الصاحب (علیه السلام)/ ح 23)، والمفيد (رحمة الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 365)، والحلبي (رحمة الله) في تقريب المعارف (ص 436 و437)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 265).
5- في النهاية (ج 5/ ص 72): (خذ صدقة ما نضَّ من أموالهم: أي حصل وظهر من أثمان أمتعتهم وغيرها).
6- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 140 و141/ ح 162)، والطبري (رحمة الله) في دلائل الإمامة (ص 525/ ح 498/102)، وابن حمزة (رحمة الله) في الثاقب في المناقب (ص 597/ ح 540/4)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 703/ ح 19)، وروىٰ قريباً منه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 519/ باب مولد الصاحب (علیه السلام)/ ح 8)، والمفيد (رحمة الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 356).

[7/429] حَدَّثَنِي أَبِي (رضی الله عنه)، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الرَّازِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ(1) بَعَثَ إِلَىٰ أَبِي عَبْدِ اللهِ بْنِ الْجُنَيْدِ وَهُوَ بِوَاسِطٍ غُلَاماً وَأَمَرَ بِبَيْعِهِ، فَبَاعَهُ وَقَبَضَ ثَمَنَهُ، فَلَمَّا عَيَّرَ الدَّنَانِيرَ نَقَصَتْ مِنَ التَّعْيِيرِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ قِيرَاطاً وَحَبَّةٌ، فَوَزَنَ مِنْ عِنْدِهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ قِيرَاطاً وَحَبَّةً وَأَنْفَذَهَا، فَرَدَّ عَلَيْهِ دِينَاراً وَزْنُهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ قِيرَاطاً وَحَبَّةٌ(2).

[8/430] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنه)، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الرَّازِيِّ المَعْرُوفِ بِعَلَّانَ الْكُلَيْنِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَبْرَئِيلَ الْأَهْوَازِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ ابْنَيِ الْفَرَجِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَهْزِيَارَ أَنَّهُ وَرَدَ الْعِرَاقَ شَاكًّا مُرْتَاداً، فَخَرَجَ إِلَيْهِ: «قُلْ لِلْمَهْزِيَارِيِّ قَدْ فَهِمْنَا مَا حَكَيْتَهُ عَنْ مَوَالِينَا بِنَاحِيَتِكُمْ، فَقُلْ لَهُمْ: أَمَا سَمِعْتُمُ اللهَ (عزوجل) يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» [النساء: 59]؟ هَلْ أُمِرَ إِلَّا بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ أَولَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ (عزوجل) جَعَلَ لَكُمْ مَعَاقِلَ تَأْوُونَ إِلَيْهَا وَأَعْلَاماً تَهْتَدُونَ بِهَا مِنْ لَدُنْ آدَمَ (علیه السلام) إِلَىٰ أَنْ ظَهَرَ المَاضِي [أَبُو مُحَمَّدٍ] (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ)، كُلَّمَا غَابَ عَلَمٌ بَدَا عَلَمٌ، وَإِذَا أَفَلَ نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ؟ فَلَمَّا قَبَضَهُ اللهُ إِلَيْهِ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ (عزوجل) قَدْ قَطَعَ السَّبَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، كَلَّا مَا كَانَ ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ حَتَّىٰ تَقُومَ السَّاعَةُ(3) وَيَظْهَرَ أَمْرُ اللهِ (عزوجل) وَهُمْ كارِهُونَ.

يَا مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، لَا يَدْخُلْكَ الشَّكُّ فِيمَا قَدِمْتَ لَهُ، فَإِنَّ اللهَ (عزوجل) لَا يُخَلِّي الْأَرْضَ مِنْ حُجَّةٍ، أَلَيْسَ قَالَ لَكَ أَبُوكَ قَبْلَ وَفَاتِهِ: أَحْضِرِ السَّاعَةَ مَنْ يُعَيِّرُ هَذِهِ

ص: 220


1- يعني صاحب الأمر (علیه السلام).
2- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 141/ ح 163)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 268)، وابن حمزة (رحمة الله) في الثاقب في المناقب (ص 597/ ح 540/4)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 704/ ح 20).
3- في بعض النُّسَخ: (إلىٰ أنْ تقوم الساعة).

الدَّنَانِيرَ الَّتِي عِنْدِي؟ فَلَمَّا أُبْطِئَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَخَافَ الشَّيْخُ عَلَىٰ نَفْسِهِ الْوَحَا(1) قَالَ لَكَ: عَيِّرْهَا عَلَىٰ نَفْسِكَ، وَأَخْرَجَ إِلَيْكَ كِيساً كَبِيراً وَعِنْدَكَ بِالْحَضْرَةِ ثَلَاثَةُ أَكْيَاسٍ وَصُرَّةٌ فِيهَا دَنَانِيرُ مُخْتَلِفَةُ النَّقْدِ، فَعَيَّرْتَهَا وَخَتَمَ الشَّيْخُبِخَاتَمِهِ وَقَالَ لَكَ: اخْتِمْ مَعَ خَاتَمِي، فَإِنْ أَعِشْ فَأَنَا أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَاتَّقِ اللهَ فِي نَفْسِكَ أَوَّلًا ثُمَّ فِيَّ، فَخَلِّصْنِي وَكُنْ عِنْدَ ظَنِّي بِكَ. أَخْرِجْ رَحِمَكَ اللهُ الدَّنَانِيرَ الَّتِي اسْتَفْضَلْتَهَا مِنْ بَيْنِ النَّقْدَيْنِ مِنْ حِسَابِنَا وَهِيَ بِضْعَةَ عَشَرَ دِينَاراً وَاسْتَرِدَّ مِنْ قِبَلِكَ فَإِنَّ الزَّمَانَ أَصْعَبُ مِمَّا كَانَ، وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ».

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: وَقَدِمْتُ الْعَسْكَرَ زَائِراً فَقَصَدْتُ النَّاحِيَةَ فَلَقِيَتْنِي امْرَأَةٌ وَقَالَتْ: أَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَتْ لِي: انْصَرِفْ فَإِنَّكَ لَا تَصِلُ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَارْجِعِ اللَّيْلَةَ فَإِنَّ الْبَابَ مَفْتُوحٌ لَكَ، فَادْخُلِ الدَّارَ وَاقْصِدِ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ السِّرَاجُ، فَفَعَلْتُ وَقَصَدْتُ الْبَابَ فَإِذَا هُوَ مَفْتُوحٌ فَدَخَلْتُ الدَّارَ وَقَصَدْتُ الْبَيْتَ الَّذِي وَصَفَتْهُ، فَبَيْنَا أَنَا بَيْنَ الْقَبْرَيْنِ أَنْتَحِبُ وَأَبْكِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتاً وَهُوَ يَقُولُ: «يَا مُحَمَّدُ، اتَّقِ اللهَ وَتُبْ مِنْ كُلِّ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ(2)، فَقَدْ قُلِّدْتَ أَمْراً عَظِيماً»(3).

[9/431] وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الرَّازِيِّ، عَنْ نَصْرِ بْنِ الصَّبَّاحِ الْبَلْخِيِّ، قَالَ: كَانَ بِمَرْوَ كَاتِبٌ كَانَ لِلْخُوزِسْتَانِيِّ - سَمَّاهُ لِي نَصْرٌ -، وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ أَلْفُ دِينَارٍ لِلنَّاحِيَةِ، فَاسْتَشَارَنِي، فَقُلْتُ: ابْعَثْ بِهَا إِلَىٰ الْحَاجِزِيِّ، فَقَالَ: هُوَ فِي عُنُقِكَ إِنْ سَأَلَنِي اللهُ (عزوجل) عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ نَصْرٌ: فَفَارَقْتُهُ عَلَىٰ ذَلِكَ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ إِلَيْهِ بَعْدَ سَنَتَيْنِ، فَلَقِيتُهُ، فَسَأَلْتُهُ عَنِ المَالِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ بَعَثَ مِنَ المَالِ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ إِلَىٰ الْحَاجِزِيِّ ،

ص: 221


1- الوحا: السرعة والبدار، والمعنىٰ أنَّه خاف علىٰ نفسه سرعة الموت.
2- يعني من الوكالة، وقد تقدَّم في (ص 166) أنَّه من وكلاء الناحية.
3- رواه الطبري (رحمة الله) في دلائل الإمامة (ص 526/ ح 499/103)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1116 و1117/ ح 31).

فَوَرَدَ عَلَيْهِ وُصُولُهَا وَالدُّعَاءُ لَهُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: «كَانَ المَالُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَبَعَثْتَبِمِائَتَيْ دِينَارٍ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تُعَامِلَ أَحَداً فَعَامِلِ الْأَسَدِيَّ بِالرَّيِّ».

قَالَ نَصْرٌ: ووَرَدَ عَلَيَّ نَعْيُ حَاجِزٍ، فَجَزِعْتُ مِنْ ذَلِكَ جَزَعاً شَدِيداً وَاغْتَمَمْتُ لَهُ(1)، فَقُلْتُ لَهُ: وَلِمَ تَغْتَمُّ وَتَجْزَعُ وَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ بِدَلَالَتَيْنِ؟ قَدْ أَخْبَرَكَ بِمَبْلَغِ المَالِ، وَقَدْ نَعَىٰ إِلَيْكَ حَاجِزاً مُبْتَدِئاً(2).

[10/432] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الرَّازِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ الصَّبَّاحِ، قَالَ: أَنْفَذَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَلْخٍ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ إِلَىٰ حَاجِزٍ، وَكَتَبَ رُقْعَةً وَغَيَّرَ فِيهَا اسْمَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْوُصُولُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ (3).

[11/433] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي حَامِدٍ المَرَاغِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شَاذَانَ بْنِ نُعَيْمٍ، قَالَ: بَعَثَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَلْخٍ بِمَالٍ وَرُقْعَةٍ لَيْسَ فِيهَا كِتَابَةٌ قَدْ خَطَّ فِيهَا بِإِصْبَعِهِ كَمَا تَدُورُ مِنْ غَيْرِ كِتَابَةٍ، وَقَالَ لِلرَّسُولِ: احْمِلْ هَذَا المَالَ، فَمَنْ أَخْبَرَكَ بِقِصَّتِهِ وَأَجَابَ عَنِ الرُّقْعَةِ فَأَوْصِلْ إِلَيْهِ المَالَ، فَصَارَ الرَّجُلُ إِلَىٰ الْعَسْكَرِ وَقَدْ قَصَدَ جَعْفَراً وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: تُقِرُّ بِالْبَدَاءِ؟ قَالَ الرَّجُلُ: نَعَمْ، قَالَ لَهُ: فَإِنَّ صَاحِبَكَ قَدْ بَدَا لَهُ وَأَمَرَكَ أَنْ تُعْطِيَنِي المَالَ، فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ: لَا يُقْنِعُنِي هَذَا الْجَوَابُ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَجَعَلَ يَدُورُ عَلَىٰ أَصْحَابِنَا، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ رُقْعَةٌ، قَالَ: «هَذَا مَالٌ قَدْ كَانَ غُرِّرَ بِهِ(4)، وَكَانَ فَوْقَ صُنْدُوقٍ فَدَخَلَ اللُّصُوصُ

ص: 222


1- فيه تصحيف، والصواب: (فورد عليَّ نعي الحاجز، فأخبرته، فجزع من ذلك جزعاً شديداً واغتمَّ، فقلت له...) إلخ، كما يظهر من الخرائج. أو خطاب للنفس، و(له) زائد.
2- رواه الراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 695 و696/ ح 10).
3- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 141/ ح 164).
4- التغرير: حمل النفس علىٰ الخطر. وفي بعض النُّسَخ: (غُدِرَ به)، وفي بعضها: (عُوِّر به) من التعوير، وعُوِّر به أي صُرِّف عنه، قال في الصحاح (ج 2/ ص 762/ مادَّة عور): (عورته عن الأمر تعويراً أي صرفته عنه).

الْبَيْتَ وَأَخَذُوا مَا فِي الصُّنْدُوقِ وَسَلِمَ المَالُ، وَرُدَّتْ عَلَيْهِ الرُّقْعَةُ وَقَدْ كُتِبَ فِيهَا كَمَا تَدُورُ، وسَأَلْتَ الدُّعَاءَ، فَعَلَ اللهُ بِكَ وَفَعَلَ»(1).

[12/434] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّالِحِ، قَالَ: كَتَبْتُ أَسْأَلُهُ الدُّعَاءَ لباداشاله(2)، وَقَدْ حَبَسَهُ ابْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَسْتَأْذِنُ فِي جَارِيَةٍ لِي أَسْتَوْلِدُهَا، فَخَرَجَ: «اسْتَوْلِدْهَا، وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ، وَالمَحْبُوسُ يُخَلِّصُهُ اللهُ»، فَاسْتَوْلَدْتُ الْجَارِيَةَ فَوَلَدَتْ فَمَاتَتْ، وَخُلِّيَ عَنِ المَحْبُوسِ يَوْمَ خَرَجَ إِلَيَّ التَّوْقِيعُ (3).

قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ: وُلِدَ لِي مَوْلُودٌ، فَكَتَبْتُ أَسْتَأْذِنُ فِي تَطْهِيرِهِ يَوْمَ السَّابِعِ أَوِ الثَّامِنِ، فَلَمْ يَكْتُبْ شَيْئاً، فَمَاتَ المَوْلُودُ يَوْمَ الثَّامِنِ، ثُمَّ كَتَبْتُ أُخْبِرُ بِمَوْتِهِ، فَوَرَدَ: «سَيَخْلُفُ عَلَيْكَ غَيْرُهُ وَغَيْرُهُ، فَسَمِّهِ أَحْمَدَ وَمِنْ بَعْدِ أَحْمَدَ جَعْفَراً»، فَجَاءَ كَمَا قَالَ (علیه السلام).

قَالَ: وَتَزَوَّجْتُ بِامْرَأَةٍ سِرًّا، فَلَمَّا وَطِئْتُهَا عَلِقَتْ وَجَاءَتْ بِابْنَةٍ، فَاغْتَمَمْتُ وَضَاقَ صَدْرِي، فَكَتَبْتُ أَشْكُو ذَلِكَ، فَوَرَدَ: «سَتُكْفَاهَا»، فَعَاشَتْأَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ مَاتَتْ، فَوَرَدَ: «إِنَّ اللهَ ذُو أَنَاةٍ وَأَنْتُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»(4).

قَالَ: وَلَمَّا وَرَدَ نَعْيُ ابْنِ هِلَالٍ (لَعَنَهُ اللهُ)(5) جَاءَنِي الشَّيْخُ فَقَالَ لِي: أَخْرِجِ

ص: 223


1- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 141 و142/ ح 165)، والطبري (رحمة الله) في دلائل الإمامة (ص 527/ ح 501/105)، وابن حمزة (رحمة الله) في الثاقب في المناقب (ص 599/ ح 544/8)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1129 و1130/ ح 47).
2- كذا. وفي بعض النُّسَخ المصحَّحة صحَّحه ب (باداشاكه)، وعلىٰ ما في المتن كأنَّه اسم رجل مركَّب من فارسي هو (بادا) ومن (إنْ شاء الله)، فإنَّ أهل الفرس كثيراً ما يستعملونها (شاله).
3- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 142/ ح 166)، وابن حمزة (رحمة الله) في الثاقب في المناقب (ص 611/ ح 556/4).
4- رواه ابن حمزة (رحمة الله) في الثاقب في المناقب (ص 611 و612/ ح 557/5)،
5- يعنى أحمد بن هلال العبرتائي. والمراد بالشيخ (أبو القاسم الحسين بن روح) كما يظهر من كتاب الاحتجاج (ج 2/ ص 290).

الْكِيسَ الَّذِي عِنْدَكَ، فَأَخْرَجْتُهُ إِلَيْهِ، فَأَخْرَجَ إِلَيَّ رُقْعَةً فِيهَا: «وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ(1) مِنْ أَمْرِ الصُّوفِيِّ المُتَصَنِّعِ - يَعْنِي الْهِلَالِيَّ - فَبَتَرَ اللهُ عُمُرَهُ»، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ: «فَقَدْ قَصَدَنَا فَصَبَرْنَا عَلَيْهِ فَبَتَرَ اللهُ تَعَالَىٰ عُمُرَهُ بِدَعْوَتِنَا(2)».

[13/435] حَدَّثَنِي أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَلَّانٍ الْكُلَيْنِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْفَضْلِ الْيَمَانِيِّ، قَالَ: قَصَدْتُ سُرَّ مَنْ رَأَىٰ، فَخَرَجَتْ إِلَيَّ صُرَّةٌ فِيهَا دَنَانِيرُ وَثَوْبَانِ، فَرَدَدْتُهَا وَقُلْتُ فِي نَفْسِي: أَنَا عِنْدَهُمْ بِهَذِهِ المَنْزِلَةِ، فَأَخَذَتْنِي الْغِرَّةُ(3)، ثُمَّ نَدِمْتُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَتَبْتُ رُقْعَةً أَعْتَذِرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَسْتَغْفِرُ، وَدَخَلْتُ الْخَلَاءَ وَأَنَا أُحَدِّثُ نَفْسِي وَأَقُولُ: وَاللهِ لَئِنْ رُدَّتْ إِلَيَّ الصُّرَّةُ لَمْ أَحُلَّهَا وَلَمْ أُنْفِقْهَا حَتَّىٰ أَحْمِلَهَا إِلَىٰ وَالِدِي، فَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا مِنِّي، قَالَ: وَلَمْ يُشِرْ عَلَيَّ مَنْ قَبَضَهَا مِنِّي بِشَيْءٍ، وَلَمْ يَنْهَنِي عَنْ ذَلِكَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ: «أَخْطَأْتَ إِذْ لَمْ تُعْلِمْهُ، أَنَّا رُبَّمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ بِمَوَالِينَا، وَرُبَّمَا يَسْأَلُونَّا ذَلِكَ يَتَبَرَّكُونَ بِهِ»، وَخَرَجَ إِلَيَّ: «أَخْطَأْتَ بِرَدِّكِ بِرَّنَا، فَإِذَا اسْتَغْفَرْتَ اللهَ (عزوجل) فَاللهُ يَغْفِرُ لَكَ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ عَزِيمَتُكَ وَعَقْدُ نِيَّتِكَ أَنْ لَا تُحْدِثَ فِيهَاحَدَثاً وَلَا تُنْفِقَهَا فِي طَرِيقِكَ فَقَدْ صَرَفْنَاهَا عَنْكَ، وَأَمَّا الثَّوْبَانِ فَلَا بُدَّ مِنْهُمَا لِتُحْرِمَ فِيهِمَا».

قَالَ: وَكَتَبْتُ فِي مَعْنَيَيْنِ وَأَرَدْتُ أَنْ أَكْتُبَ فِي مَعْنًى ثَالِثٍ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَعَلَّهُ يَكْرَهُ ذَلِكَ، فَخَرَجَ إِلَيَّ الْجَوَابُ لِلْمَعْنَيَيْنِ وَالمَعْنَىٰ الثَّالِثِ الَّذِي طَوَيْتُهُ وَلَمْ أَكْتُبْهُ.

قَالَ: وَسَأَلْتُ طِيباً فَبَعَثَ إِلَيَّ بِطِيبٍ فِي خِرْقَةٍ بَيْضَاءَ، فَكَانَتْ مَعِي فِي المَحْمِلِ، فَنَفَرَتْ نَاقَتِي بِعُسْفَانَ(4) وَسَقَطَ مَحْمِلِي وَتَبَدَّدَ مَا كَانَ فِيهِ، فَجَمَعْتُ المَتَاعَ وَافْتَقَدْتُ الصُّرَّةَ، وَاجْتَهَدْتُ فِي طَلَبِهَا حَتَّىٰ قَالَ لِي بَعْضُ مَنْ مَعَنَا: مَا تَطْلُبُ؟

ص: 224


1- الخطاب للشيخ ظاهراً.
2- البتر بتقديم الموحَّدة علىٰ المثنَّاة: القطع.
3- في بعض النُّسَخ: (العزَّة)، وفي بعضها: (الغيرة).
4- كعثمان موضع علىٰ مرحلتين من مكَّة.

فَقُلْتُ: صُرَّةً كَانَتْ مَعِي، قَالَ: وَمَا كَانَ فِيهَا؟ قُلْتُ: نَفَقَتِي، قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ مَنْ حَمَلَهَا، فَلَمْ أَزَلْ أَسْأَلُ عَنْهَا حَتَّىٰ أَيِسْتُ مِنْهَا، فَلَمَّا وَافَيْتُ مَكَّةَ حَلَلْتُ عَيْبَتِي وَفَتَحْتُهَا فَإِذَا أَوَّلُ مَا بَدَرَ عَلَيَّ مِنْهَا الصُّرَّةُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ خَارِجاً فِي المَحْمِلِ، فَسَقَطَتْ حِينَ تَبَدَّدَ المَتَاعُ.

قَالَ: وَضَاقَ صَدْرِي بِبَغْدَادَ فِي مَقَامِي، وَقُلْتُ فِي نَفْسِي: أَخَافُ أَنْ لَا أَحُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَا أَنْصَرِفَ إِلَىٰ مَنْزِلِي، وَقَصَدْتُ أَبَا جَعْفَرٍ أَقْتَضِيهِ جَوَابَ رُقْعَةٍ كُنْتُ كَتَبْتُهَا، فَقَالَ لِي: صِرْ إِلَىٰ المَسْجِدِ الَّذِي فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّهُ يَجِيئُكَ رَجُلٌ يُخْبِرُكَ بِمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَقَصَدْتُ المَسْجِدَ وَأَنَا فِيهِ، إِذْ دَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ سَلَّمَ وَضَحِكَ، وَقَالَ لِي: أَبْشِرْ فَإِنَّكَ سَتَحُجُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَتَنْصَرِفُ إِلَىٰ أَهْلِكَ سَالِماً إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَىٰ.

قَالَ: وقَصَدْتُ ابْنَ وَجْنَاءَ أَسْأَلُهُ أَنْ يَكْتَرِيَ لِي وَيَرْتَادَ عَدِيلاً، فَرَأَيْتُهُ كَارِهاً، ثُمَّ لَقِيتُهُ بَعْدَ أَيَّامٍ فَقَالَ لِي: أَنَا فِي طَلَبِكَ مُنْذُ أَيَّامٍ، قَدْ كَتَبَ إِلَيَّ، وَأَمَرَنِيأَنْ أَكْتَرِيَ لَكَ وَأَرْتَادَ لَكَ عَدِيلاً ابْتِدَاءً، فَحَدَّثَنِي الْحَسَنُ أَنَّهُ وَقَفَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَىٰ عَشْرِ دَلَالاتٍ، وَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

[14/436] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الشِّمْشَاطِيِّ رَسُولِ جَعْفَرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْيَمَانِيِّ، قَالَ كُنْتُ مُقِيماً بِبَغْدَادَ، وَتَهَيَّأَتْ قَافِلَةُ الْيَمَانِيِّينَ لِلْخُرُوجِ، فَكَتَبْتُ أَسْتَأْذِنُ فِي الْخُرُوجِ مَعَهَا، فَخَرَجَ: «لَا تَخْرُجْ مَعَهَا فَمَا لَكَ فِي الْخُرُوجِ خِيَرَةٌ، وَأَقِمْ بِالْكُوفَةِ»، فَخَرَجَتِ الْقَافِلَةُ وَخَرَجَتْ عَلَيْهَا بَنُو حَنْظَلَةَ فَاجْتَاحُوهَا(1).

قَالَ: وَكَتَبْتُ أَسْتَأْذِنُ فِي رُكُوبِ المَاءِ، فَخَرَجَ: «لَا تَفْعَلْ»، فَمَا خَرَجَتْ سَفِينَةٌ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَّا خَرَجَتْ عَلَيْهَا الْبَوَارِجُ(2) فَقَطَعُوا عَلَيْهَا.

ص: 225


1- اجتاح الشيء: استأصله، والجائحة: الآفة.
2- جمع البارجة، وهي سفينة كبيرة للقتال، والشرِّير.

قَالَ: وَخَرَجْتُ زَائِراً إِلَىٰ الْعَسْكَرِ فَأَنَا فِي المَسْجِدِ [الْجَامِعِ] مَعَ المَغْرِبِ إِذْ دَخَلَ عَلَيَّ غُلَامٌ، فَقَالَ لِي: قُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ أَنَا؟ وَإِلَىٰ أَيْنَ أَقُومُ؟ فَقَالَ لِي: أَنْتَ عَلِيُّ ابْنُ مُحَمَّدٍ رَسُولُ جَعْفَرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْيَمَانِيِّ، قُمْ إِلَىٰ المَنْزِلِ، قَالَ: وَمَا كَانَ عَلِمَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا بِمُوَافَاتِي(1)، قَالَ: فَقُمْتُ إِلَىٰ مَنْزِلِهِ وَاسْتَأْذَنْتُ فِي أَنْ أَزُورَ مِنْ دَاخِلٍ فَأَذِنَ لِي (2).

[15/437] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْعَلَّانٍ الْكُلَيْنِيِّ، عَنِ الْأَعْلَمِ الْمِصْرِيِّ(3)، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْمِصْرِيِّ(4)، قَالَ: خَرَجْتُ فِي الطَّلَبِ بَعْدَ مُضِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام) بِسَنَتَيْنِ لَمْ أَقِفْ فِيهِمَا عَلَىٰ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ كُنْتُ بِالمَدِينَةِ فِي طَلَبِ وَلَدٍ لِأَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام) بِصُرْيَاءَ(5)، وَقَدْ سَأَلَنِي أَبُو غَانِمٍ أَنْ أَتَعَشَّىٰ عِنْدَهُ، وَأَنَا قَاعِدٌ مُفَكِّرٌ فِي نَفْسِي وَأَقُولُ: لَوْ كَانَ شَيْءٌ لَظَهَرَ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ، فَإِذَا هَاتِفٌ أَسْمَعُ صَوْتَهُ وَلَا أَرَىٰ شَخْصَهُ وَهُوَ يَقُولُ: «يَا نَصْرَ بْنَ عَبْدِ رَبِّهِ(6)، قُلْ لِأَهْلِ مِصْرَ: آمَنْتُمْ بِرَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) حَيْثُ رَأَيْتُمُوهُ؟»، قَالَ نَصْرٌ: وَلَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ اسْمَ أَبِي، وَذَلِكَ أَنِّي وُلِدْتُ بِالمَدَائِنِ، فَحَمَلَنِي النَّوْفَلِيُّ وَقَدْ مَاتَ أَبِي، فَنَشَأْتُ بِهَا، فَلَمَّا سَمِعْتُ الصَّوْتَ قُمْتُ مُبَادِراً وَلَمْ أَنْصَرِفْ إِلَىٰ أَبِي غَانِمٍ وَأَخَذْتُ طَرِيقَ مِصْرَ .

ص: 226


1- وافيت القوم: أتيتهم.
2- روىٰ قريباً منه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 519 و520/ باب مولد الصاحب (علیه السلام)/ ح 12)، والخصيبي (رحمة الله) في الهداية الكبرىٰ (ص 372)، والمفيد (رحمة الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 358 و359)، والحلبي (رحمة الله) في تقريب المعارف (ص 434)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 262).
3- في بعض النُّسَخ: (عن الأعلم البصري).
4- في بعض النُّسَخ: (البصري).
5- قد مرَّ هذه اللفظة في حكاية غانم الهندي تحت الرقم (392/6)، فراجع.
6- في بعض النُّسَخ: (نصر بن عبد الله).

قَالَ: وَكَتَبَ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ فِي وَلَدَيْنِ لَهُمَا، فَوَرَدَ: «أَمَّا أَنْتَ يَا فُلَانُ فَآجَرَكَ اللهُ»، وَدَعَا لِلْآخَرِ، فَمَاتَ ابْنُ المُعَزَّىٰ.

[16/438] قَالَ: وحَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْوَجْنَائِيُّ، قَالَ: اضْطَرَبَ أَمْرُ الْبَلَدِ وَثَارَتْ فِتْنَةٌ، فَعَزَمْتُ عَلَىٰ المُقَامِ بِبَغْدَادَ، [فَأَقَمْتُ] ثَمَانِينَ يَوْماً، فَجَاءَنِي شَيْخٌ وَقَالَ لِي: انْصَرِفْ إِلَىٰ بَلَدِكَ، فَخَرَجْتُ مِنْ بَغْدَادَ وَأَنَا كَارِهٌ، فَلَمَّا وَافَيْتُ سُرَّ مَنْ رَأَىٰ وَأَرَدْتُ المُقَامَ بِهَا لِمَا وَرَدَ عَلَيَّ مِنِ اضْطِرَابِ الْبَلَدِ، فَخَرَجْتُ فَمَا وَافَيْتُ المَنْزِلَ حَتَّىٰ تَلَقَّانِي الشَّيْخُ وَمَعَهُ كِتَابٌ مِنْ أَهْلِي يُخْبِرُونَنِي بِسُكُونِ الْبَلَدِ وَيَسْأَلُونِّي الْقُدُومَ.

[17/439] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ، قَالَ: كَانَتْ لِلْغَرِيمِ (علیه السلام) عَلَيَّ خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ، فَأَنَا لَيْلَةً بِبَغْدَادَ وَبِهَا رِيحٌ وَظُلْمَةٌ(1) وَقَدْ فَزِعْتُ فَزَعاً شَدِيداً وَفَكَّرْتُ فِيمَا عَلَيَّ وَلِي، وَقُلْتُ فِي نَفْسِي: حَوَانِيتُ اشْتَرَيْتُهَا بِخَمْسِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ دِينَاراً، وَقَدْ جَعَلْتُهَا لِلْغَرِيمِ (علیه السلام) بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ، قَالَ: فَجَاءَنِي مَنْ يَتَسَلَّمُ مِنِّي الْحَوَانِيتَ وَمَا كَتَبْتُ إِلَيْهِ فِي شَيْ ءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ أُطْلِقَ بِهِ لِسَانِي وَلَا أَخْبَرْتُ بِهِ أَحَداً.

[18/440] حَدَّثَنِي أَبِي (رضی الله عنه)، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ(2)، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي حُلَيْسٍ(3)، قَالَ: كُنْتُ أَزُورُ الْحُسَيْنَ (علیه السلام)(4) فِي النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَلَمَّا كَانَ سَنَةً مِنَ السِّنِينَ وَرَدْتُ الْعَسْكَرَ قَبْلَ شَعْبَانَ وَهَمَمْتُ أَنْ لَا أَزُورَ فِي شَعْبَانَ،

ص: 227


1- في بعض النُّسَخ: (وقد كان لها ريح وظلمة).
2- الظاهر سقط هنا: (عن علَّان الكليني) بقرينة ما تقدَّم في قصَّة الكابلي.
3- في بعض النُّسَخ: (أبي حابس)، والظاهر الصواب ما في المتن، لأنَّ في المحكى عن نسخة ثمينة من الخرائج والجرائح للراوندي: (قال أبو القاسم الحليسي: كنت أزور العسكر في شعبان في أوَّله ثمّ أزور الحسين (علیه السلام) في النصف...) إلخ، بأدنىٰ تفاوت في لفظها.
4- كذا. وفي بعض النُّسَخ: (أزور الحير)، والظاهر هو الأصوب، وهو اسم القصر الذي كان بسُرَّ من رأىٰ فيه قبر العسكريَّين (علیهما السلام)، والله أعلم.

فَلَمَّا دَخَلَ شَعْبَانُ قُلْتُ: لَا أَدَعُ زِيَارَةً كُنْتُ أَزُورُهَا، فَخَرَجْتُ زَائِراً، وَكُنْتُ إِذَا وَرَدْتُ الْعَسْكَرَ أَعْلَمْتُهُمْ بِرُقْعَةٍ أَوْ بِرِسَالَةٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ الدَّفْعَةِ قُلْتُ لِأَبِي الْقَاسِمِ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْوَكِيلِ: لَا تُعْلِمْهُمْ بِقُدُومِي، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَجْعَلَهَا زَوْرَةً خَالِصَةً، قَالَ: فَجَاءَنِي أَبُو الْقَاسِمِ وَهُوَ يَتَبَسَّمُ وَقَالَ: بُعِثَ إِلَيَّ بِهَذَيْنِ الدِّينَارَيْنِ، وَقِيلَ لِي: «ادْفَعْهُمَا إِلَىٰ الْحُلَيْسِيِّ، وَقُلْ لَهُ: مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ اللهِ (عزوجل) كَانَ اللهُ فِيحَاجَتِهِ»(1).

قَالَ: وَاعْتَلَلْتُ بِسُرَّ مَنْ رَأَىٰ عِلَّةً شَدِيدَةً أَشْفَقْتُ مِنْهَا، فَأَطْلَيْتُ(2) مُسْتَعِدًّا لِلْمَوْتِ، فَبَعَثَ إِلَيَّ بُسْتُوقَةً فِيهَا بَنَفْسَجِينٌ(3)، وَأُمِرْتُ بِأَخْذِهِ، فَمَا فَرَغْتُ حَتَّىٰ أَفَقْتُ مِنْ عِلَّتِي، وَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

قَالَ: وَمَاتَ لِي غَرِيمٌ، فَكَتَبْتُ أَسْتَأْذِنُ فِي الْخُرُوجِ إِلَىٰ وَرَثَتِهِ بِوَاسِطٍ، وَقُلْتُ: أَصِيرُ إِلَيْهِمْ حِدْثَانَ مَوْتِهِ لَعَلِّي أَصِلُ إِلَىٰ حَقِّي، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، ثُمَّ كَتَبْتُ ثَانِيَةً، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ سَنَتَيْنِ كَتَبَ إِلَيَّ ابْتِدَاءً: «صِرْ إِلَيْهِمْ»، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ، فَوَصَلَ إِلَيَّ حَقِّي.

قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: وَأَوْصَلَ أَبُو رُمَيْسٍ(4) عَشَرَةَ دَنَانِيرَ إِلَىٰ حَاجِزٍ، فَنَسِيَهَا حَاجِزٌ أَنْ يُوصِلَهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: «تَبْعَثُ بِدَنَانِيرِ أَبُو رُمَيْسٍ» ابْتِدَاءً.

قَالَ(5): وَكَتَبَ هَارُونُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ الْفُرَاتِ فِي أَشْيَاءَ، وَخَطَّ بِالْقَلَمِ بِغَيْرِ مِدَادٍ يَسْأَلُ الدُّعَاءَ لِابْنَيْ أَخِيهِ وَكَانَا مَحْبُوسَيْنِ، فَوَرَدَ عَلَيْهِ جَوَابُ كِتَابِهِ، وَفِيهِ دُعَاءٌ لِلْمَحْبُوسِينَ بِاسْمِهِمَا.

ص: 228


1- رواه ابن حمزة (رحمة الله) في الثاقب في المناقب (ص 569/ ح 513/13)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 1/ ص 443/ ح 24).
2- في بعض النُّسَخ: (أشفقت فيها). وأطلىٰ فلان إطلاءً: مالت عنقه للموت.
3- شيء يُعمَل من البنفسج والأنجبين كالسكنجبين.
4- في بعض النُّسَخ: (ابن رميس)، وفي بعضها: (أبو دميس).
5- يعني قال سعد أو علَّان الكليني، وهو الصواب، وهكذا إلىٰ آخر الخبر.

قَالَ: وَكَتَبَ رَجُلٌ مِنْ رَبَضِ حُمَيْدٍ يَسْأَلُ الدُّعَاءَ فِي حَمْلٍ لَهُ، فَوَرَدَ عَلَيْهِ: «الدُّعَاءُ فِي الْحَمْلِ قَبْلَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَسَتَلِدُ أُنْثَىٰ»، فَجَاءَ كَمَا قَالَ (علیه السلام).قَالَ: وَكَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَصْرِيُّ(1) يَسْأَلُ الدُّعَاءَ فِي أَنْ يُكْفَىٰ أَمْرَ بَنَاتِهِ، وَأَنْ يُرْزَقَ الْحَجَّ، وَيُرَدَّ عَلَيْهِ مَالُهُ، فَوَرَدَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ بِمَا سَأَلَ، فَحَجَّ مِنْ سَنَتِهِ وَمَاتَ مِنْ بَنَاتِهِ أَرْبَعٌ وَكَانَ لَهُ سِتٌّ، وَرُدَّ عَلَيْهِ مَالُهُ.

قَالَ: وَكَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزْدَاذَ(2) يَسْأَلُ الدُّعَاءَ لِوَالِدَيْهِ، فَوَرَدَ: «غَفَرَ اللهُ لَكَ وَلِوَالِدَيْكَ وَلِأُخْتِكَ المُتَوَفَّاةِ المُلَقَّبَةِ كلكي»، وَكَانَتْ هَذِهِ امْرَأَةً صَالِحَةً مُتَزَوِّجَةً بِجَوَّارٍ(3).

وَكَتَبْتُ فِي إِنْفَاذِ(4) خَمْسِينَ دِينَاراً لِقَوْمٍ مُؤْمِنِينَ مِنْهَا عَشَرَةُ دَنَانِيرَ لِابْنَةِ عَمٍّ لِي(5) لَمْ تَكُنْ مِنَ الْإِيمَانِ عَلَىٰ شَيْءٍ، فَجَعَلْتُ اسْمَهَا آخِرَ الرُّقْعَةِ وَالْفُصُولِ، أَلْتَمِسُ بِذَلِكَ الدَّلَالَةَ فِي تَرْكِ الدُّعَاءِ، فَخَرَجَ فِي فُصُولِ المُؤْمِنِينَ: «تَقَبَّلَ اللهُ مِنْهُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَثَابَكَ»، وَلَمْ يَدْعُ لِابْنَةِ عَمِّي بِشَيْءٍ.

قَالَ: وَأَنْفَذْتُ(6) أَيْضاً دَنَانِيرَ لِقَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، فَأَعْطَانِي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ دَنَانِيرَ، فَأَنْفَذْتُهَا بِاسْمِ أَبِيهِ مُتَعَمِّداً، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ دِينِ اللهِ عَلَىٰ شَيْءٍ، فَخَرَجَ الْوُصُولُ مِنْ عُنْوَانِ اسْمِهِ مُحَمَّدٍ.

ص: 229


1- في بعض النُّسَخ: (القصري).
2- محمّد بن يزداذ - بالياء المثنَّاة من تحت والزاي والدال المهملة والذال المعجمة -. (راجع: رجال ابن داود: ص 187/ الرقم 1537).
3- الجوَّار - ككتَّان -: الأكار.
4- في بعض النُّسَخ: (أنقاد).
5- في بعض النُّسَخ: (لابن عمِّي)، والضمائر فيما بعد مذكَّرة.
6- في بعض النُّسَخ: (وأنقدت)، ونقدته الدراهم، ونقدت له الدراهم: أي أعطيته فانتقدها أي قبضها. ونقدت الدراهم وانتقدتها إذا أخرجت منها الزيف. (الصحاح للجوهري: ج 2/ ص 544/ مادَّة نقد).

قَالَ: وَحَمَلْتُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الَّتِي ظَهَرَتْ لِي فِيهَا هَذِهِ الدَّلَالَةُ أَلْفَ دِينَارٍ، بَعَثَ بِهَا أَبُو جَعْفَرٍ وَمَعِي أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفٍ وَإِسْحَاقُ بْنُالْجُنَيْدِ، فَحَمَلَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْخُرْجَ إِلَىٰ الدُّورِ، وَاكْتَرَيْنَا ثَلَاثَةَ أَحْمِرَةٍ، فَلَمَّا بَلَغْتُ الْقَاطُولَ(1) لَمْ نَجِدْ حَمِيراً، فَقُلْتُ لِأَبِي الْحُسَيْنِ: احْمِلِ الْخُرْجَ الَّذِي فِيهِ المَالُ وَاخْرُجْ مَعَ الْقَافِلَةِ حَتَّىٰ أَتَخَلَّفَ فِي طَلَبِ حِمَارٍ لِإِسْحَاقَ بْنِ الْجُنَيْدِ يَرْكَبُهُ فَإِنَّهُ شَيْخٌ، فَاكْتَرَيْتُ لَهُ حِمَاراً وَلَحِقْتُ بِأَبِي الْحُسَيْنِ فِي الْحَيْرِ - حَيْرِ سُرَّ مَنْ رَأَىٰ - وَأَنَا أُسَامِرُهُ(2) وَأَقُولُ لَهُ: احْمَدِ اللهَ عَلَىٰ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ دَامَ لِي، فَوَافَيْتُ سُرَّ مَنْ رَأَىٰ وَأَوْصَلْتُ مَا مَعَنَا، فَأَخَذَهُ الْوَكِيلُ بِحَضْرَتِي وَوَضَعَهُ فِي مِنْدِيلٍ، وَبَعَثَ بِهِ مَعَ غُلَامٍ أَسْوَدَ، فَلَمَّا كَانَ الْعَصْرُ جَاءَنِي بِرُزَيْمَةٍ(3) خَفِيفَةٍ، وَلَمَّا أَصْبَحْنَا خَلَا بِي أَبُو الْقَاسِمِ وَتَقَدَّمَ أَبُو الْحُسَيْنِ وَإِسْحَاقٌ، فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ لِلْغُلَامِ: الَّذِي حَمَلَ الرُّزَيْمَةَ جَاءَنِي بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، وَقَالَ لِي: ادْفَعْهَا إِلَىٰ الرَّسُولِ الَّذِي حَمَلَ الرُّزَيْمَةَ، فَأَخَذْتُهَا مِنْهُ، فَلَمَّا خَرَجْتُ مِنْ بَابِ الدَّارِ قَالَ لِي أَبُو الْحُسَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ أَنْطِقَ أَوْ يَعْلَمَ أَنَّ مَعِي شَيْئاً: لَمَّا كُنْتُ مَعَكَ فِي الْحَيْرِ تَمَنَّيْتُ أَنْ يَجِئْنِي مِنْهُ دَرَاهِمُ أَتَبَرَّكُ بِهَا، وَكَذَلِكَ عَامُ أَوَّلَ حَيْثُ كُنْتُ مَعَكَ بِالْعَسْكَرِ، فَقُلْتُ لَهُ: خُذْهَا فَقَدْ آتَاكَ اللهُ، وَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

قَالَ: وَكَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ كُشْمَرْدَ يَسْأَلُ الدُّعَاءَ أَنْ يَجْعَلَ ابْنَهُ أَحْمَدَ مِنْ أُمِّ وَلَدِهِ فِي حِلٍّ، فَخَرَجَ: «وَالصَّقْرِيُّ أَحَلَّ اللهُ لَهُ ذَلِكَ»، فَأَعْلَمَ (علیه السلام) أَنَّ كُنْيَتَهُ أَبُو الصَّقْرِ.

قَالَ(4): وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ غَانِمٍ أَبِي سَعِيدٍ الْهِنْدِيِّ وَجَمَاعَةٍ،عَنْ

ص: 230


1- موضع علىٰ دجلة.
2- المسامرة: المحادثة بالليل. في بعض النُّسَخ: (أُسايره). وتقدَّم أنَّ الحير قصر كان بسُرَّ من رأىٰ.
3- تصغير (رزمة)، وهي بالكسر ما شُدَّ في ثوب واحد. وجاءني: أي أبو الحسين.
4- من هنا إلى تمام الخبر تقدَّم في باب من شاهد القائم (علیه السلام) تحت الرقم (392/6) عن سعد، عن علَّان الكليني، عن عليِّ بن قيس، عن غانم أبي سعيد الهندي، ولا مناسبة له ظاهراً بهذا الباب.

مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ غَانِمٍ، قَالَ: كُنْتُ أَكُونُ مَعَ مَلِكِ الْهِنْدِ بِقِشْمِيرَ الدَّاخِلَةِ وَنَحْنُ أَرْبَعُونَ رَجُلاً نَقْعُدُ حَوْلَ كُرْسِيِّ المَلِكِ، وَقَدْ قَرَأْنَا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ، وَيُفْزَعُ إِلَيْنَا فِي الْعِلْمِ، فَتَذَاكَرْنَا يَوْماً أَمْرَ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) وَقُلْنَا: نَجِدُهُ فِي كُتُبِنَا، وَاتَّفَقْنَا عَلَىٰ أَنْ أَخْرُجَ فِي طَلَبِهِ وَأَبْحَثَ عَنْهُ، فَخَرَجْتُ وَمَعِي مَالٌ، فَقَطَعَ عَلَيَّ التُّرْكُ وَشَلَّحُونِي، فَوَقَعْتُ إِلَىٰ كَابُلَ، وَخَرَجْتُ مِنْ كَابُلَ إِلَىٰ بَلْخٍ وَالْأَمِيرُ بِهَا ابْنُ أَبِي شَوْرٍ(1)، فَأَتَيْتُهُ وَعَرَّفْتُهُ مَا خَرَجْتُ لَهُ، فَجَمَعَ الْفُقَهَاءَ وَالْعُلَمَاءَ لِمُنَاظَرَتِي، فَسَأَلْتُهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله)، فَقَالَ: هُوَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَقَدْ مَاتَ، فَقُلْتُ: وَمَنْ كَانَ خَلِيفَتُهُ؟ فَقَالُوا: أَبُو بَكْرٍ، فَقُلْتُ: انْسِبُوهُ لِي، فَنَسَبُوهُ إِلَىٰ قُرَيْشٍ، فَقُلْتُ: لَيْسَ هَذَا بِنَبِيٍّ، إِنَّ النَّبِيَّ الَّذِي نَجِدُهُ فِي كُتُبِنَا خَلِيفَتُهُ ابْنُ عَمِّهِ وَزَوْجُ ابْنَتِهِ وَأَبُو وُلْدِهِ، فَقَالُوا لِلْأَمِيرِ: إِنَّ هَذَا قَدْ خَرَجَ مِنَ الشِّرْكِ إِلَىٰ الْكُفْرِ، مُرْ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَنَا مُتَمَسِّكٌ بِدِينٍ لَا أَدَعُهُ إِلَّا بِبَيَانٍ.

فَدَعَا الْأَمِيرُ الْحُسَيْنَ بْنَ إِسْكِيبَ، وَقَالَ لَهُ: نَاظِرِ الرَّجُلَ، فَقَالَ لَهُ: الْعُلَمَاءُ وَالْفُقَهَاءُ حَوْلَكَ فَمُرْهُمْ بِمُنَاظَرَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: نَاظِرْهُ كَمَا أَقُولُ لَكَ، وَاخْلُ بِهِ وَأَلْطِفْ لَهُ، فَقَالَ: فَخَلَا بِيَ الْحُسَيْنُ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله)، فَقَالَ: هُوَ كَمَا قَالُوهُ لَكَ، غَيْرَ أَنَّ خَلِيفَتَهُ ابْنُ عَمِّهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَمُحَمَّدٌ ابْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَهُوَ زَوْجُ ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ، وَأَبُو وَلَدَيْهِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَصِرْتُ إِلَىٰ الْأَمِيرِ فَأَسْلَمْتُ، فَمَضَىٰ بِي إِلَىٰ الْحُسَيْنِ فَفَقَّهَنِي، فَقُلْتُ: إِنَّانَجِدُ فِي كُتُبِنَا أَنَّهُ لَا يَمْضِي خَلِيفَةٌ إِلَّا عَنْ خَلِيفَةٍ، فَمَنْ كَانَ خَلِيفَةُ عَلِيٍّ (علیه السلام)؟ قَالَ: الْحَسَنُ، ثُمَّ الْحُسَيْنُ، ثُمَّ سَمَّىٰ الْأَئِمَّةَ حَتَّىٰ بَلَغَ إِلَىٰ الْحَسَنَ (علیه السلام)، ثُمَّ قَالَ: تَحْتَاجُ أَنْ تَطْلُبَ خَلِيفَةَ الْحَسَنِ وَتَسْأَلَ عَنْهُ، فَخَرَجْتُ فِي الطَّلَبِ .

ص: 231


1- في بعض النُّسَخ: (ابن أبي شبور).

فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ: فَوَافَىٰ مَعَنَا بَغْدَادَ، فَذَكَرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ رَفِيقٌ قَدْ صَحِبَهُ عَلَىٰ هَذَا الْأَمْرِ، فَكَرِهَ بَعْضَ أَخْلَاقِهِ فَفَارَقَهُ.

قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ وَقَدْ تَمَسَّحْتُ فِي الصَّرَاةِ(1) وَأَنَا مُفَكِّرٌ فِيمَا خَرَجْتُ لَهُ إِذْ أَتَانِي آتٍ وَقَالَ لِي: أَجِبْ مَوْلَاكَ، فَلَمْ يَزَلْ يَخْتَرِقُ بِيَ المَحَالَّ حَتَّىٰ أَدْخَلَنِي دَاراً وَبُسْتَاناً، وَإِذَا مَوْلَايَ (علیه السلام) قَاعِدٌ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ كَلَّمَنِي بِالْهِنْدِيَّةِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، وَأَخْبَرَنِي بِاسْمِي، وَسَأَلَنِي عَنِ الْأَرْبَعِينَ رَجُلاً بِأَسْمَائِهِمْ عَنِ اسْمِ رَجُلٍ رَجُلٍ، ثُمَّ قَالَ لِي: «تُرِيدُ الْحَجَّ مَعَ أَهْلِ قُمَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ؟ فَلَا تَحُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَانْصَرِفْ إِلَىٰ خُرَاسَانَ، وَحُجَّ مِنْ قَابِلٍ»، قَالَ: وَرَمَىٰ إِلَيَّ بِصُرَّةٍ، وَقَالَ: «اجْعَلْ هَذِهِ فِي نَفَقَتِكَ، وَلَا تَدْخُلْ فِي بَغْدَادَ إِلَىٰ دَارِ أَحَدٍ، وَلَا تُخْبِرْ بِشَيْءٍ مِمَّا رَأَيْتَ».

قَالَ مُحَمَّدٌ: فَانْصَرَفْنَا مِنَ الْعَقَبَةِ وَلَمْ يُقْضَ لَنَا الْحَجُّ، وَخَرَجَ غَانِمٌ إِلَىٰ خُرَاسَانَ وَانْصَرَفَ مِنْ قَابِلٍ حَاجًّا، وَبَعَثَ إِلَيْنَا بِأَلْطَافٍ وَلَمْ يَدْخُلْ قُمَّ، وَحَجَّ وَانْصَرَفَ إِلَىٰ خُرَاسَانَ، فَمَاتَ بِهَا (رحمة الله).

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ عَنِ الْكَابُليِّ - وَقَدْ كُنْتُ رَأَيْتُهُ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ -، فَذَكَرَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ كَابُلَ مُرْتَاداً طَالِباً، وَأَنَّهُ وَجَدَ صِحَّةَ هَذَا الدِّينِ فِي الْإِنْجِيلِ وَبِهِ اهْتَدَىٰ.فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ بِنَيْسَابُورَ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ(2) فَتَرَصَّدْتُ لَهُ حَتَّىٰ لَقِيتُهُ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ خَبَرِهِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فِي الطَّلَبِ، وَأَنَّهُ أَقَامَ بِالمَدِينَةِ، فَكَانَ لَا يَذْكُرُهُ لِأَحَدٍ إِلَّا زَجَرَهُ، فَلَقِيَ شَيْخاً مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَهُوَ يَحْيَىٰ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُرَيْضِيُّ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُهُ بِصُرْيَاءَ، قَالَ: فَقَصَدْتُ صُرْيَاءَ، وَجِئْتُ إِلَىٰ دِهْلِيزٍ مَرْشُوشٍ، فَطَرَحْتُ نَفْسِي عَلَىٰ الدُّكَّانِ، فَخَرَجَ إِلَيَّ غُلَامٌ أَسْوَدُ فَزَجَرَنِي وَانْتَهَرَنِي

ص: 232


1- تقدَّم سابقاً أنَّهما نهران بالعراق، وهما العظمىٰ والصغرىٰ.
2- يعني إلىٰ الحضرة (علیه السلام).

وَقَالَ لِي: قُمْ مِنْ هَذَا المَكَانِ وَانْصَرِفْ، فَقُلْتُ: لَا أَفْعَلُ، فَدَخَلَ الدَّارَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ وَقَالَ: ادْخُلْ، فَدَخَلْتُ فَإِذَا مَوْلَايَ (علیه السلام) قَاعِدٌ بِوَسَطِ الدَّارِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ سَمَّانِي بِاسْمٍ لِي لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ إِلَّا أَهْلِي بِكَابُلَ، وَأَجْرَىٰ لِي أَشْيَاءَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ نَفَقَتِي قَدْ ذَهَبَتْ فَمُرْ لِي بِنَفَقَةٍ، فَقَالَ لِي: «أَمَا إِنَّهَا سَتَذْهَبُ مِنْكَ بِكَذِبِكَ»، وَأَعْطَانِي نَفَقَةً، فَضَاعَ مِنِّي مَا كَانَ مَعِي وَسَلِمَ مَا أَعْطَانِي، ثُمَّ انْصَرَفْتُ السَّنَةَ الثَّانِيَةَ وَلَمْ أَجِدْ فِي الدَّارِ أَحَداً.

[19/441] حَدَّثَنِي أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْأَشْعَرِيُّ، قَالَ: كَانَتْ لِي زَوْجَةٌ مِنَ المَوَالِي قَدْ كُنْتُ هَجَرْتُهَا دَهْراً، فَجَاءَتْنِي فَقَالَتْ: إِنْ كُنْتَ قَدْ طَلَّقْتَنِي فَأَعْلِمْنِي، فَقُلْتُ لَهَا: لَمْ أُطَلِّقْكِ وَنِلْتُ مِنْهَا فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَكَتَبَتْ إِلَيَّ بَعْدَ أَشْهُرٍ تَدَّعِي أَنَّهَا حَامِلٌ، فَكَتَبْتُ فِي أَمْرِهَا وَفِي دَارٍ كَانَ صِهْرِي أَوْصَىٰ بِهَا لِلْغَرِيمِ (علیه السلام) أَسْأَلُ أَنْ يُبَاعَ مِنِّي وَأَنْ يُنَجَّمَ عَلَيَّ ثَمَنُهَا(1)، فَوَرَدَ الْجَوَابُ فِي الدَّارِ: «قَدْ أُعْطِيتَ مَا سَأَلْتَ»، وَكَفَّ عَنْ ذِكْرِ المَرْأَةِ وَالْحَمْلِ، فَكَتَبَتْ إِلَيَّ المَرْأَةُ بَعْدَ ذَلِكَ تُعْلِمُنِي أَنَّهَا كَتَبَتْ بِبَاطِلٍ وَأَنَّ الْحَمْلَ لَا أَصْلَ لَهُ، وَالْحَمْدُ لِلهِرَبِّ الْعَالَمِينَ.

[20/442] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَلِيٍّ المَتِّيليُّ(2)، قَالَ: جَاءَنِي أَبُو جَعْفَرٍ فَمَضَىٰ بِي إِلَىٰ الْعَبَّاسِيَّةِ وَأَدْخَلَنِي خَرِبَةً وَأَخْرَجَ كِتَاباً فَقَرَأَهُ عَلَيَّ، فَإِذَا فِيهِ شَرْحُ جَمِيعِ مَا حَدَثَ عَلَىٰ الدَّارِ، وَفِيهِ: «أَنَّ فُلَانَةَ - يَعْنِي أُمَّ عَبْدِ اللهِ - تُؤْخَذُ بِشَعْرِهَا وَتُخْرَجُ مِنَ الدَّارِ وَيُحْدَرُ بِهَا إِلَىٰ بَغْدَادَ فَتَقْعُدُ بَيْنَ يَدَيِ السُّلْطَانِ -» وَأَشْيَاءَ مِمَّا يَحْدُثُ، ثُمَّ قَالَ لِي: احْفَظْ، ثُمَّ مَزَّقَ الْكِتَابَ، وَذَلِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَحْدُثَ مَا حَدَثَ بِمُدَّةٍ.

ص: 233


1- أي يُقرِّر أدائه في أوقات معلومة متتابعة نجوماً لا دفعة واحدة.
2- في بعض النُّسَخ: (المسلي)، وفي بعضها: (النيلي).

[21/443] قَالَ(1): وَحَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ المَرْوَزِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: خَرَجْتُ إِلَىٰ الْعَسْكَرِ وَأُمُّ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام) فِي الْحَيَاةِ وَمَعِي جَمَاعَةٌ، فَوَافَيْنَا الْعَسْكَرَ، فَكَتَبَ أَصْحَابِي يَسْتَأْذِنُونَ فِي الزِّيَارَةِ مِنْ دَاخِلٍ بِاسْمِ رَجُلٍ رَجُلٍ، فَقُلْتُ: لَا تُثْبِتُوا اسْمِي فَإِنِّي لَا أَسْتَأْذِنُ، فَتَرَكُوا اسْمِي، فَخَرَجَ الْإِذْنُ: «ادْخُلُوا وَمَنْ أَبَىٰ أَنْ يَسْتَأْذِنَ».

[22/444] قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: كَتَبَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَرَجِ الرُّخَّجِيُّ فِي أَشْيَاءَ، وَكَتَبَ فِي مَوْلُودٍ وُلِدَ لَهُ يَسْأَلُ أَنْ يُسَمَّىٰ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْجَوَابُ فِيمَا سَأَلَ، وَلَمْ يُكْتَبْ إِلَيْهِ فِي المَوْلُودِ شَيْءٌ، فَمَاتَ الْوَلَدُ، وَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

قَالَ: وَجَرَىٰ بَيْنَ قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِنَا مُجْتَمِعِينَ عَلَىٰ كَلَامٍ فِي مَجْلِسٍ، فَكَتَبَ إِلَىٰ رَجُلٍ مِنْهُمْ شَرْحَ مَا جَرَىٰ فِي المَجْلِسِ.

[23/445] قَالَ: وَحَدَّثَنِي الْعَاصِمِيُ أَنَّ رَجُلًا تَفَكَّرَ فِي رَجُلٍ يُوصِلُ إِلَيْهِ مَا وَجَبَ لِلْغَرِيمِ (علیه السلام)، وَضَاقَ بِهِ صَدْرُهُ، فَسَمِعَ هَاتِفاً يَهْتِفُ بِهِ:«أَوْصِلْ مَا مَعَكَ إِلَىٰ حَاجِزٍ».

قَالَ: وَخَرَجَ أَبُو مُحَمَّدٍ السَّرْوِيُّ إِلَىٰ سُرَّ مَنْ رَأَىٰ وَمَعَهُ مَالٌ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ ابْتِدَاءً: «فَلَيْسَ فِينَا شَكٌّ وَلَا فِيمَنْ يَقُومُ مَقَامَنَا شَكٌّ، وَرُدَّ مَا مَعَكَ إِلَىٰ حَاجِزٍ».

[24/446] قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ، قَالَ: بَعَثْنَا مَعَ ثِقَةٍ مِنْ ثِقَاتِ إِخْوَانِنَا إِلَىٰ الْعَسْكَرِ شَيْئاً، فَعَمَدَ الرَّجُلُ فَدَسَّ فِيمَا مَعَهُ رُقْعَةً مِنْ غَيْرِ عِلْمِنَا، فَرُدَّتْ عَلَيْهِ الرُّقْعَةُ مِنْ غَيْرِ جَوَابٍ.

قَالَ(2) أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْكِنْدِيُّ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو طَاهِرٍ

ص: 234


1- يعني سعد بن عبد الله.
2- كلام سعد بن عبد الله، أو علَّان الكليني الساقط في السند علىٰ ما استظهرناه. وكذا قوله: (فقلت له) فيما يأتي. وضمير (له) راجع إلىٰ الحسين. وكذا المستتر في قوله: (فأخبر) فيما يأتي.

الْبِلَالِيُّ: التَّوْقِيعُ الَّذِي خَرَجَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام) فَعَلَّقُوهُ فِي الْخَلَفِ بَعْدَهُ وَدِيعَةٌ فِي بَيْتِكَ، فَقُلْتُ لَهُ: أُحِبُّ أَنْ تَنْسَخَ لِي مِنْ لَفْظِ التَّوْقِيعِ مَا فِيهِ، فَأَخْبَرَ أَبَا طَاهِرٍ بِمَقَالَتِي(1)، فَقَالَ لَهُ: جِئْنِي بِهِ حَتَّىٰ يَسْقُطَ الْإِسْنَادُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَخَرَجَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام) قَبْلَ مُضِيِّهِ بِسَنَتَيْنِ يُخْبِرُنِي بِالْخَلَفِ مِنْ بَعْدِهِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ بَعْدَ مُضِيِّهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يُخْبِرُنِي بِذَلِكَ(2)، فَلَعَنَ اللهُ مَنْ جَحَدَ أَوْلِيَاءَ اللهِ حُقُوقَهُمْ وَحَمَلَ النَّاسَ عَلَىٰ أَكْتَافِهِمْ،وَالْحَمْدُ لِلهِ كَثِيراً.

[25/447] قَالَ: وَكَتَبَ جَعْفَرُ بْنُ حَمْدَانَ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ المَسَائِلُ: اسْتَحْلَلْتُ بِجَارِيَةٍ وشَرَطْتُ عَلَيْهَا أَنْ لَا أَطْلُبَ وَلَدَهَا وَلَا أُلْزِمَهَا مَنْزِلِي، فَلَمَّا أَتَىٰ لِذَلِكَ مُدَّةٌ قَالَتْ لِي: قَدْ حَبِلْتُ، فَقُلْتُ لَهَا: كَيْفَ وَلَا أَعْلَمُ أَنِّي طَلَبْتُ مِنْكِ الْوَلَدَ؟ ثُمَّ غِبْتُ وَانْصَرَفْتُ وَقَدْ أَتَتْ بِوَلَدٍ ذَكَرٍ فَلَمْ أُنْكِرْهُ وَلَا قَطَعْتُ عَنْهَا الْإِجْرَاءَ وَالنَّفَقَةَ، وَلِي ضَيْعَةٌ قَدْ كُنْتُ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ إِلَيَّ هَذِهِ المَرْأَةُ سَبَّلْتُهَا عَلَىٰ وَصَايَايَ وَعَلَىٰ سَائِرِ وُلْدِي عَلَىٰ أَنَّ الْأَمْرَ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مِنْهُ إِلَيَّ أَيَّامَ حَيَاتِي، وَقَدْ أَتَتْ هَذِهِ بِهَذَا الْوَلَدِ، فَلَمْ أُلْحِقْهُ فِي الْوَقْفِ المُتَقَدِّمِ المُؤَبَّدِ، وَأَوْصَيْتُ إِنْ حَدَثَ بِي حَدَثُ المَوْتِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ مَا دَامَ صَغِيراً، فَإِذَا كَبِرَ أُعْطِيَ مِنْ هَذِهِ الضَّيْعَةِ جُمْلَةً مِائَتَيْ دِينَارٍ غَيْرَ مُؤَبَّدٍ، وَلَا يَكُونَ لَهُ وَلَا لِعَقِبِهِ بَعْدَ إِعْطَائِهِ ذَلِكَ فِي الْوَقْفِ شَيْءٌ، فَرَأْيُكَ أَعَزَّكَ اللهُ

ص: 235


1- في بعض النُّسَخ: (بمسألتي).
2- حاصل المعنىٰ أنَّ الحسين بن إسماعيل سمع من البلالي أنَّه قال: التوقيع الذي خرج إليَّ من أبي محمّد (علیه السلام) في أمر الخلف القائم هو من جملة ما أودعتك في بيتك - وكان قد أودعه أشياء كان في بيته -، فأخبر الحسين سعداً بما سمع منه، فقال سعد للحسين: أُحِبُّ أنْ ترىٰ التوقيع الذي عنده وتكتب لي من لفظه، فأخبر الحسين أبا طاهر بمقالة سعد، فقال أبو طاهر: جئني بسعد حتَّىٰ يسمع منِّي بلا واسطة، فلمَّا حضره أخبره بالتوقيع. كما قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 51/ ص 335)، وأيَّد بيانه بالخبر المروي في الكافي (ج 1/ ص 328/ باب الإشارة والنصِّ علىٰ صاحب الدار (علیه السلام)/ ح 1)، حيث روي هذا التوقيع عن محمّد بن عليِّ بن بلال.

فِي إِرْشَادِي فِيمَا عَمِلْتُهُ وَفِي هَذَا الْوَلَدِ بِمَا أَمْتَثِلُهُ وَالدُّعَاءِ لِي بِالْعَافِيَةِ وَخَيْرِ الدُّنْيَا والْآخِرَةِ.

جَوَابُهَا: «وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي اسْتَحَلَّ بِالْجَارِيَةِ وَشَرَطَ عَلَيْهَا أَنْ لَا يَطْلُبَ وَلَدَهَا، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي قُدْرَتِهِ، شَرْطُهُ عَلَىٰ الْجَارِيَةِ(1) شَرْطٌ عَلَىٰ اللهِ (عزوجل)، هَذَا مَا لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ، وَحَيْثُ عَرَفَ فِي هَذَا الشَّكَّوَلَيْسَ يَعْرِفُ الْوَقْتَ الَّذِي أَتَاهَا فِيهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُوجِبِ الْبَرَاءَةِ فِي وَلَدِهِ، وَأَمَّا إِعْطَاءُ الْمِائَتَيْ دِينَارٍ وَإِخْرَاجُهُ [إِيَّاهُ وَعَقِبَهُ] مِنَ الْوَقْفِ فَالمَالُ مَالُهُ فَعَلَ فِيهِ مَا أَرَادَ».

قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: حَسَبَ الْحِسَابَ قَبْلَ المَوْلُودِ، فَجَاءَ الْوَلَدُ مُسْتَوِياً(2).

وَقَالَ: وَجَدْتُ فِي نُسْخَةِ أَبِي الْحَسَنِ الْهَمْدَانِيِ: أَتَانِي أَبْقَاكَ اللهُ كِتَابُكَ والْكِتَابُ الَّذِي أَنْفَذْتُهُ.

وروىٰ هذا التوقيع الحسن بن عليِّ بن إبراهيم، عن السيَّاري.

[26/448] وَكَتَبَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّيْمَرِيُّ (رضی الله عنه) يَسْأَلُ كَفَناً، فَوَرَدَ: «إِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ سَنَةَ ثَمَانِينَ أَوْ إِحْدَىٰ وَثَمَانِينَ»، فَمَاتَ (رحمة الله) فِي الْوَقْتِ الَّذِي حَدَّهُ، وَبُعِثَ إِلَيْهِ بِالْكَفَنِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ(3).

ص: 236


1- في بعض النُّسَخ: (شرطه في الجارية...) إلخ. وفي بعض النُّسَخ: (شرط علىٰ الجارية شرطاً علىٰ الله)، وفي بعضها: (شرط علىٰ الجارية شرط علىٰ الله)، وكذا في بحار الأنوار، وقال المجلسي (رحمة الله): («شرط علىٰ الجارية» مبتدأ، و«شرط علىٰ الله» خبره، أو هما فعلان والأوَّل استفهام إنكاري). (بحار الأنوار: ج 53/ ص 187). وما اخترناه في المتن معناه ظاهر.
2- الظاهر أنَّ الرجل حسب حسابه التقديري قبل ميلاد الولد، فجاء الولد حسبما قدَّره فعرف أنَّه ولده. والله أعلم.
3- روىٰ قريباً منه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 524/ باب مولد الصاحب (علیه السلام)/ ح 27)، والمفيد (رحمة الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 366)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 283 و284 و297 و298/ ح 243 و253)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 266)، وابن حمزة (رحمة الله) في الثاقب في المناقب (ص 590/ ح 535/1)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 1/ ص 463 و464/ ح 8).

[27/449] [حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَهْزِيَارَ]، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْأَسَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىٰ حَكِيمَةَ(1) بِنْتِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الرِّضَا أُخْتِ أَبِي الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيِّ (علیهمالسلام) فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ بِالمَدِينَةِ، فكَلَّمْتُهَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، وَسَأَلْتُهَا عَنْ دِينِهَا، فَسَمَّتْ لِي مَنْ تَأْتَمُّ بِهِ، ثُمَّ قَالَتْ: فُلَانُ بْنُ الْحَسَنِ (علیه السلام)، فَسَمَّتْهُ، فَقُلْتُ لَهَا: جَعَلَنِيَ اللهُ فِدَاكِ مُعَايَنَةً أَوْ خَبَراً؟ فَقَالَتْ: خَبَراً عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام) كَتَبَ بِهِ إِلَىٰ أُمِّهِ، فَقُلْتُ لَهَا: فَأَيْنَ المَوْلُودُ(2)؟ فَقَالَتْ: مَسْتُورٌ، فَقُلْتُ: فَإِلَىٰ مَنْ تَفْزَعُ الشِّيعَةُ؟ فَقَالَتْ: إِلَىٰ الْجَدَّةِ أُمِّ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام)، فَقُلْتُ لَهَا: أَقْتَدِي بِمَنْ وَصِيَّتُهُ إِلَىٰ المَرْأَةِ(3)؟ فَقَالَتْ: اقْتِدَاءً بِالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهما السلام)، إِنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ (علیهما السلام) أَوْصَىٰ إِلَىٰ أُخْتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) فِي الظَّاهِرِ، وَكَانَ مَا يَخْرُجُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ مِنْ عِلْمٍ يُنْسَبُ إِلَىٰ زَيْنَبَ بِنْتِ عَلِيٍّ تَسَتُّراً عَلَىٰ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ قَالَتْ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ أَصْحَابُ أَخْبَارٍ، أَمَا رَوَيْتُمْ أَنَّ التَّاسِعَ مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ (علیه السلام) يُقْسَمُ مِيرَاثُهُ وَهُوَ فِي الْحَيَاةِ(4)(5)؟

[28/450] وَحَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَسْوَدُ (رضی الله عنه)، قَالَ: كُنْتُ أَحْمِلُ الْأَمْوَالَ الَّتِي تُجْعَلُ فِي بَابِ الْوَقْفِ إِلَىٰ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْعَمْرِيِّ (رضی الله عنه)، فَيَقْبِضُهَا مِنِّي، فَحَمَلْتُ إِلَيْهِ يَوْماً شَيْئاً مِنَ الْأَمْوَالِ فِي آخِرِ أَيَّامِهِ

ص: 237


1- في بعض النُّسَخ: (حليمة)، وفي بعضها: (خديجة).
2- في بعض النُّسَخ: (فأين الولد).
3- في بعض النُّسَخ: (اقتدأتم في وصيَّته بامرأة).
4- رواه الخصيبي (رحمة الله) في الهداية الكبرىٰ (ص 366 و367)، والمسعودي في إثبات الوصيَّة (ص 271 و272)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 230 و231/ ح 196).
5- لا مناسبة بين هذا الحديث وما يأتي وبين عنوان الباب.

قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثِ سِنِينَ، فَأَمَرَنِي بِتَسْلِيمِهِ إِلَىٰ أَبِي الْقَاسِمِ الرَّوْحِيِّ (رضی الله عنه)، وَكُنْتُ أُطَالِبُهُ بِالْقُبُوضِ،فَشَكَا ذَلِكَ إِلَىٰ أَبِي جَعْفَرٍ الْعَمْرِيِّ (رضی الله عنه)، فَأَمَرَنِي أَنْ لَا أُطَالِبَهُ بِالْقَبْضِ(1)، وَقَالَ: كُلَّمَا وَصَلَ إِلَىٰ أَبِي الْقَاسِمِ وَصَلَ إِلَيَّ، قَالَ: فَكُنْتُ أَحْمِلُ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَمْوَالَ إِلَيْهِ وَلَا أُطَالِبُهُ بِالْقُبُوضِ (2).

قال مصنِّف هذا الكتاب (رضی الله عنه): الدلالة في هذا الحديث هي في المعرفة بمبلغ ما يُحمَل إليه والاستغناء عن القبوض، ولا يكون ذلك إلَّا من أمر الله (عزوجل).

[29/451] وَحَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَسْوَدُ (رضی الله عنه) أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْعَمْرِيَّ حَفَرَ لِنَفْسِهِ قَبْراً وَسَوَّاهُ بِالسَّاجِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لِلنَّاسِ أَسْبَابٌ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ: قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَمْرِي. فَمَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَهْرَيْنِ (رضی الله عنه)(3).

[30/452] وَحَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَسْوَدُ (رضی الله عنه)، قَالَ: دَفَعَتْ إِلَيَّ امْرَأَةٌ سَنَةً مِنَ السِّنِينَ ثَوْباً، وَقَالَتْ: احْمِلْهُ إِلَىٰ الْعَمْرِيِّ (رضی الله عنه)، فَحَمَلْتُهُ مَعَ ثِيَابٍ كَثِيرَةٍ، فَلَمَّا وَافَيْتُ بَغْدَادَ أَمَرَنِي بِتَسْلِيمِ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَىٰ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْقُمِّيِّ، فَسَلَّمْتُهُ ذَلِكَ كُلَّهُ مَا خَلَا ثَوْبَ المَرْأَةِ، فَوَجَّهَ إِلَيَّ الْعَمْرِيُّ (رضی الله عنه) وَقَالَ: ثَوْبُ المَرْأَةِ سَلِّمْهُ إِلَيْهِ، فَذَكَرْتُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ امْرَأَةً سَلَّمَتْ إِلَيَّ ثَوْباً، وَطَلَبْتُهُ فَلَمْ أَجِدْهُ، فَقَالَ لِي: لَا تَغْتَمَّ فَإِنَّكَ سَتَجِدُهُ، فَوَجَدْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ الْعَمْرِيِّ (رضی الله عنه) نُسْخَةُ مَا كَانَ مَعِي.

[31/453] وَحَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَسْوَدُ (رضی الله عنه)، قَالَ: سَأَلَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَىٰ بْنِ بَابَوَيْهِ (رضی الله عنه) بَعْدَ مَوْتِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْعَمْرِيِّ (رضی الله عنه) أَنْ أَسْأَلَ أَبَا الْقَاسِمِ الرَّوْحِيَّ أَنْ يَسْأَلَ مَوْلَانَا صَاحِبَ الزَّمَانِ (علیه السلام) أَنْ يَدْعُوَ اللهَ (عزوجل)

ص: 238


1- في بعض النُّسَخ: (بالقبوض).
2- رواه الطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 370/ ح 338).
3- رواه الطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 365 و366/ ح 333)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 268)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1120/ ح 36).

أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَداً ذَكَراً، قَالَ: فَسَأَلْتُهُ، فَأَنْهَىٰ ذَلِكَ، ثُمَّ أَخْبَرَنِي بَعْدَ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَنَّهُ قَدْ دَعَا لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَأَنَّهُ سَيُولَدُ لَهُ وَلَدٌ مُبَارَكٌ يَنْفَعُ [اللهُ] بِهِ وَبَعْدَهُ أَوْلَادٌ.

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَسْوَدُ (رضی الله عنه): وَسَأَلْتُهُ فِي أَمْرِ نَفْسِي أَنْ يَدْعُوَ اللهَ لِي أَنْ يَرْزُقَنِي وَلَداً ذَكَراً، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَيْهِ، وَقَالَ: لَيْسَ إِلَىٰ هَذَا سَبِيلٌ، قَالَ: فَوُلِدَ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (رضی الله عنه) مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَبَعْدَهُ أَوْلَادٌ(1)، وَلَمْ يُولَدْ لِي شَيْءٌ(2).

قال مصنِّف هذا الكتاب (رضی الله عنه): كان أبو جعفر محمّد بن عليٍّ الأسود (رضی الله عنه) كثيراً ما يقول لي - إذا رآني أختلف إلىٰ مجلس شيخنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رضی الله عنه) وأرغب في كُتُب العلم وحفظه -: ليس بعجب أنْ تكون لك هذه الرغبة في العلم، وَأنت ولدت بدعاء الإمام (علیه السلام).

[32/454] حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ صَالِحُ بْنُ شُعَيْبٍ الطَّالَقَانِيُّ (رضی اللهعنه) فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَخْلَدٍ، قَالَ: حَضَرْتُ بَغْدَادَ عِنْدَ المَشَايِخِ (رضی الله عنهم)، فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّمُرِيُّ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) ابْتِدَاءً مِنْهُ: «رَحِمَ اللهُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَىٰ بْنِ بَابَوَيْهِ الْقُمِّيَّ»، قَالَ: فَكَتَبَ المَشَايِخُ تَارِيخَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَوَرَدَ الْخَبَرُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَضَىٰ أَبُو الْحَسَنِ السَّمُرِيُّ (رضی الله عنه) بَعْدَ ذَلِكَ فِي النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ(3).

ص: 239


1- في بعض النُّسَخ: (فوُلِدَ لعليِّ بن الحسين (رحمة الله) تلك السنة ابنه محمّد وبعده أولاد).
2- رواه الطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 320/ ح 266)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 268 و269)، وابن حمزة (رحمة الله) في الثاقب في المناقب (ص 614/ ح 560/8)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1124/ ح 43).
3- رواه الطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 394/ ح 364)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 269)، وابن حمزة (رحمة الله) في الثاقب في المناقب (ص 614/ ح 561/9)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1128/ ح 45).

[33/455] أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَتِّيلٍ، عَنْ عَمِّهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَتِّيلٍ(1)، قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ الْعَمْرِيَّ السَّمَّانَ (رضی الله عنه) الْوَفَاةُ كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ رَأْسِهِ أُسَائِلُهُ وَأُحَدِّثُهُ، وَأَبُو الْقَاسِمِ الْحُسَيْنُ بْنُ رُوحٍ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ ثُمَّ قَالَ لِي: قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أُوصِيَ إِلَىٰ أَبِي الْقَاسِمِ الْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ، قَالَ: فَقُمْتُ مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ(2) وَأَخَذْتُ بِيَدِ أَبِي الْقَاسِمِ وَأَجْلَسْتُهُ فِي مَكَانِي وَتَحَوَّلْتُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ (3).

[34/456] وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَتِّيلٍ، قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا: زَيْنَبُ مِنْ أَهْلِ آبَةَ - وَكَانَتْ امْرَأَةَ مُحَمَّدِ بْنِ عِبْدِيلٍ الْآبِيِّ - مَعَهَا ثَلَاثُمِائَةِ دِينَارٍ، فَصَارَتْ إِلَىٰ عَمِّي جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَتِّيلٍ، وَقَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ أُسَلِّمَ هَذَا المَالَ مِنْ يَدِي إِلَىٰ يَدِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ رَوْحٍ، قَالَ: فَأَنْفَذَنِي مَعَهَا أُتَرْجِمُعَنْهَا، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَىٰ أَبِي الْقَاسِمِ (رضی الله عنه) أَقْبَلَ يُكَلِّمُهَا بِلِسَانٍ آبِيٍّ فَصِيحٍ، فَقَالَ لَهَا: (زينب چونا، خويذا، كوابذا، چون استه)(4)، وَمَعْنَاهُ: كَيْفَ أَنْتِ؟ وَكَيْفَ كُنْتِ؟ وَمَا خَبَرُ صِبْيَانِكِ(5)؟ قَالَ: فَاسْتَغْنَتْ عَنِ التَّرْجُمَةِ، وَسَلَّمَتِ المَالَ وَرَجَعَتْ (6).

[35/457] وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَتِّيلٍ، قَالَ: قَالَ عَمِّي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ مَتِّيلٍ: دَعَانِي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ السَّمَّانُ المَعْرُوفُ بِالْعَمْرِيِّ (رضی الله عنه)، فَأَخْرَجَ إِلَيَّ ثُوَيْبَاتٍ مُعْلَمَةً وَصُرَّةً فِيهَا دَرَاهِمُ، فَقَالَ لِي: يَحْتَاجُ أَنْ تَصِيرَ بِنَفْسِكَ إِلَىٰ وَاسِطٍ

ص: 240


1- في بعض النُّسَخ وفي غيبة الشيخ: (جعفر بن أحمد بن متّيل).
2- في بعض النُّسَخ: (فقمت من مكاني).
3- رواه الطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 370/ ح 339).
4- لسان آوجي محلَّىٰ، معناه بالفارسيَّة الدارجة اليوم: (چطوري؟ خوشي؟ كجا بودى؟ بچههايت چطورند؟).
5- في بعض النُّسَخ: (كيف أنتِ؟ وكيف مكثتِ؟ وما خبر صبيانك؟).
6- رواه الطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 321/ ح 268)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1121/ ح 38).

فِي هَذَا الْوَقْتِ وَتَدْفَعَ مَا دَفَعْتُ إِلَيْكَ إِلَىٰ أَوَّلِ رَجُلٍ يَلْقَاكَ عِنْدَ صُعُودِكَ مِنَ المَرْكَبِ إِلَىٰ الشَّطِّ بِوَاسِطٍ، قَالَ: فَتَدَاخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ غَمٌّ شَدِيدٌ، وَقُلْتُ: مِثْلِي يُرْسَلُ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَيَحْمِلُ هَذَا الشَّيْءَ الْوَتْحَ(1)؟

قَالَ: فَخَرَجْتُ إِلَىٰ وَاسِطٍ وَصَعِدْتُ مِنَ المَرْكَبِ، فَأَوَّلُ رَجُلٍ يَلْقَانِي سَأَلْتُهُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قَطَاةٍ الصَّيْدَلَانِيِّ(2) وَكِيلِ الْوَقْفِ بِوَاسِطٍ، فَقَالَ: أَنَا هُوَ، مَنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: أَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَتِّيلٍ، قَالَ: فَعَرَفَنِي بِاسْمِي وَسَلَّمَ عَلَيَّ وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَتَعَانَقْنَا، فَقُلْتُ لَهُ: أَبُو جَعْفَرٍ الْعَمْرِيُّ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَدَفَعَ إِلَيَّ هَذِهِ الثُوَيْبَاتِ وَهَذِهِ الصُّرَّةَ لِأُسَلِّمَهَا إِلَيْكَ، فَقَالَ: الْحَمْدُلِلهِ، فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الْحَائِرِيَّ(3) قَدْ مَاتَ وَخَرَجْتُ لِإِصْلَاحِ كَفَنِهِ، فَحَلَّ الثِّيَابَ وَإِذَا فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ حِبَرٍ وَثِيَابٍ وَكَافُورٍ فِي الصُّرَّةِ، وَكِرَاءِ الْحَمَّالِينَ وَالْحَفَّارِ، قَالَ: فَشَيَّعْنَا جَنَازَتَهُ وَانْصَرَفْتُ (4).

[36/458] وَأَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ الْعَلَوِيُّ ابْنُ أَخِي طَاهِرٍ بِبَغْدَادَ طَرَفِ سُوقِ الْقُطْنِ فِي دَارِهِ، قَالَ: قَدِمَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْعَقِيقِيُّ بِبَغْدَادَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ إِلَىٰ عَلِيِّ بْنِ عِيسَىٰ بْنِ الْجَرَّاحِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ وَزِيرٌ فِي أَمْرِ ضَيْعَةٍ لَهُ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَهْلَ بَيْتِكَ فِي هَذَا الْبَلَدِ كَثِيرٌ، فَإِنْ ذَهَبْنَا نُعْطِي كُلَّمَا سَأَلُونَا طَالَ ذَلِكَ - أَوْ كَمَا قَالَ -، فَقَالَ لَهُ الْعَقِيقِيُّ: فَإِنِّي أَسْأَلُ مَنْ فِي يَدِهِ قَضَاءُ حَاجَتِي، فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَىٰ: مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ: اللهُ (عزوجل)، وَخَرَجَ مُغْضَباً، قَالَ: فَخَرَجْتُ وَأَنَا أَقُولُ: فِي اللهِ عَزَاءٌ مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَدَرَكٌ مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ .

ص: 241


1- الوتح - بالتحريك وككتف -: القليل التافه من الشيء.
2- الصيدلان قرية من قرىٰ واسط.
3- في بعض النُّسَخ: (العامري).
4- رواه ابن حمزة (رحمة الله) في الثاقب في المناقب (ص 598 و599/ ح 542/6)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1119 و1120/ ح 35).

قَالَ: فَانْصَرَفْتُ، فَجَاءَنِي الرَّسُولُ مِنْ عِنْدِ الْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ)، فَشَكَوْتُ إِلَيْهِ، فَذَهَبَ مَنْ عِنْدِي، فَأَبْلَغَهُ، فَجَاءَنِي الرَّسُولُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَدَداً وَوَزْناً وَمِنْدِيلٍ وَشَيْءٍ مِنْ حَنُوطٍ وَأَكْفَانٍ، وقَالَ لِي: مَوْلَاكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ: «إِذَا أَهَمَّكَ أَمْرٌ أَوْ غَمٌّ فَامْسَحْ بِهَذَا الْمِنْدِيلِ وَجْهَكَ، فَإِنَّ هَذَا مِنْدِيلُ مَوْلَاكَ (علیه السلام)، وَخُذْ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ وَهَذَا الْحَنُوطَ وَهَذِهِ الْأَكْفَانَ، وَسَتُقْضَىٰ حَاجَتُكَ فِي لَيْلَتِكَ هَذِهِ، وَإِذَا قَدِمْتَ إِلَىٰ مِصْرَ يَمُوتُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ مِنْ قَبْلِكَ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ تَمُوتُ بَعْدَهُ، فَيَكُونُ هَذَا كَفَنَكَ وَهَذَا حَنُوطَكَ وَهَذَا جَهَازَكَ».قَالَ: فَأَخَذْتُ ذَلِكَ وَحَفِظْتُهُ وَانْصَرَفَ الرَّسُولُ وَإِذَا أَنَا بِالمَشَاعِلِ عَلَىٰ بَابِي وَالْبَابُ يُدَقُّ، فَقُلْتُ لِغُلَامِي (خَيْرٍ): يَا خَيْرُ، انْظُرْ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ ذَا؟ فَقَالَ خَيْرٌ: هَذَا غُلَامُ حُمَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكَاتِبِ ابْنِ عَمِّ الْوَزِيرِ، فَأَدْخَلَهُ إِلَيَّ، فَقَالَ لِي: قَدْ طَلَبَكَ الْوَزِيرُ وَيَقُولُ لَكَ مَوْلَايَ حُمَيْدٌ: ارْكَبْ إِلَيَّ، قَالَ: فَرَكِبْتُ [وَخِبْتُ الشَّوَارِعُ وَالدُّرُوبُ] وَجِئْتُ إِلَىٰ شَارِعِ الرَّزَّازِينَ(1)، فَإِذَا بِحُمَيْدٍ قَاعِدٌ يَنْتَظِرُنِي، فَلَمَّا رَآنِي أَخَذَ بِيَدِي وَرَكِبْنَا، فَدَخَلْنَا عَلَىٰ الْوَزِيرِ، فَقَالَ لِيَ الْوَزِيرُ: يَا شَيْخُ، قَدْ قَضَىٰ اللهُ حَاجَتَكَ، وَاعْتَذَرَ إِلَيَّ وَدَفَعَ إِلَيَّ الْكُتُبَ مَكْتُوبَةً مَخْتُومَةً قَدْ فَرَغَ مِنْهَا، قَالَ: فَأَخَذْتُ ذَلِكَ وَخَرَجْتُ.

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ: فَحَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْعَقِيقِيُّ (رحمة الله) بِنَصِيبِينَ بِهَذَا، وَقَالَ لِي: مَا خَرَجَ هَذَا الْحَنُوطُ إِلَّا لِعَمَّتِي فُلَانَةَ لَمْ يُسَمِّهَا، وَقَدْ نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي(2)، وَلَقَدْ قَالَ لِيَ الْحُسَيْنُ بْنُ رَوْحٍ (رضی الله عنه): إِنِّي أَمْلِكُ الضَّيْعَةَ، وَقَدْ كَتَبَ لِي

ص: 242


1- في بعض النُّسَخ: (فركبت وفتحت الشوارع والدروب وجئت إلىٰ شارع الوزَّانين).
2- كذا في بحار الأنوار نقلاً عن الغيبة للطوسي (رحمة الله)، فيحتمل أنْ تكون عمَّته في بيت الحسين بن روح فخرج إليها. وفي بعض النُّسَخ من كمال الدِّين: (وقد بغيته لنفسي). والمعنىٰ ما خرج هذا الحنوط أوَّلاً إلَّا لعمَّتي، ثمّ طلبت حنوطاً لنفسي فخرج من الكفن والدراهم.

بِالَّذِي أَرَدْتُ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ وَقَبَّلْتُ رَأْسَهُ وَعَيْنَيْهِ، وَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، أَرِنِي الْأَكْفَانَ وَالْحَنُوطَ وَالدَّرَاهِمَ، قَالَ: فَأَخْرَجَ إِلَيَّ الْأَكْفَانَ وَإِذَا فِيهَا بُرْدُ حِبَرَةٍ مُسَهَّمٌ(1) مِنْ نَسِيجِ الْيَمَنِ وَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ مَرْوِيٌّ(2) وَعِمَامَةٌ، وَإِذَا الْحَنُوطُ فِي خَرِيطَةٍ، وَأَخْرَجَ إِلَيَّ الدَّرَاهِمَ،فَعَدَدْتُهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ [وَ]وَزْنُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، هَبْ لِي مِنْهَا دِرْهَماً أَصُوغُهُ خَاتَماً، قَالَ: وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ خُذْ مِنْ عِنْدِي مَا شِئْتَ، فَقُلْتُ: أُرِيدُ مِنْ هَذِهِ، وَأَلْحَحْتُ عَلَيْهِ، وَقَبَّلْتُ رَأْسَهُ وَعَيْنَيْهِ، فَأَعْطَانِي دِرْهَماً، فَشَدَدْتُهُ فِي مِنْدِيلٍ وَجَعَلْتُهُ فِي كُمِّي، فَلَمَّا صِرْتُ إِلَىٰ الْخَانِ فَتَحْتُ زِنْفِيلَجَةً(3) مَعِي وَجَعَلْتُ الْمِنْدِيلَ فِي الزِّنْفِيلَجَةِ وَقَيْدُ الدِّرْهَمِ مَشْدُودٌ، وَجَعَلْتُ كُتُبِي وَدَفَاتِرِي فَوْقَهُ، وَأَقَمْتُ أَيَّاماً، ثُمَّ جِئْتُ أَطْلُبُ الدِّرْهَمَ فَإِذَا الصُّرَّةُ مَصْرُورَةٌ بِحَالِهَا وَلَا شَيْءَ فِيهَا، فَأَخَذَنِي شِبْهُ الْوَسْوَاسِ، فَصِرْتُ إِلَىٰ بَابِ الْعَقِيقِيِّ، فَقُلْتُ لِغُلَامِهِ خَيْرٍ: أُرِيدُ الدُّخُولَ إِلَىٰ الشَّيْخِ، فَأَدْخَلَنِي إِلَيْهِ، فَقَالَ لِي: مَا لَكَ؟ فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، الدِّرْهَمُ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي إِيَّاهُ مَا أَصَبْتُهُ فِي الصُّرَّةِ، فَدَعَا بِالزِّنْفِيلَجَةِ وَأَخْرَجَ الدَّرَاهِمَ، فَإِذَا هِيَ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَدَداً وَوَزْناً، وَلَمْ يَكُنْ مَعِي أَحَدٌ أَتَّهِمُهُ. فَسَأَلْتُهُ فِي رَدِّهِ إِلَيَّ فَأَبَىٰ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَىٰ مِصْرَ وَأَخَذَ الضَّيْعَةَ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ [كَمَا قِيلَ]، ثُمَّ تُوُفِّيَ (رضی الله عنه) وَكُفِّنَ فِي الْأَكْفَانِ الَّذِي دُفِعَتْ إِلَيْهِ (4)(5).

ص: 243


1- المسهَّم: المخطَّط.
2- في بعض النُّسَخ: (فروي).
3- معرَّب زنبيلچه.
4- رواه الطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 317/ ح 265)، وراجع: بحار الأنوار (ج 51/ ص 337 - 339/ ح 64).
5- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 51/ ص 339): (بيان: قوله: (إلَّا لعمَّتي) أي ما خرج هذا الحنوط أوَّلاً إلَّا لعمَّتي ثمّ طلبت حنوطاً لنفسي فخرج مع الكفن والدراهم، واحتمال كون الحنوط لم يخرج له أصلاً وإنَّما أخذ حنوط عمَّته لنفسه فيكون رجوعاً عن الكلام الأوَّل بعيد. وفي غيبة الشيخ: (إلَّا إلىٰ عمَّتي فلانة ولم يُسَمّها وقد نعيت إليَّ نفسي) فيحتمل أنْ تكون عمَّته في بيت الحسين بن روح فخرج إليها. قوله: «وقد كُتِبَ» علىٰ بناء المجهول ليكون حالاً عن ضمير أملك أو تصديقاً لما أخبر به، أو علىٰ بناء المعلوم فالضمير المرفوع راجع إلىٰ الحسين، أي وقد كان كتب مطلبي إلىٰ القائم (علیه السلام) فلمَّا خرج أخبرني به قبل ردِّ الضيعة. والمسهم البرد المخطَّط).

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ شَاذَوَيْهِ المُؤَدِّبُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىٰ حَكِيمَةَ بِنْتِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الرِّضَا أُخْتِ أَبِي الْحَسَنِ صَاحِبِ الْعَسْكَرِ (علیهم السلام)، فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، فَكَلَّمْتُهَا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَسَأَلْتُهَا عَنْ دِينِهَا، فَسَمَّتْ لِي مَنْ تَأْتَمُّ بِهِمْ، ثُمَّ قَالَتْ: وَالْحُجَّةُ بْنُ الْحَسَنِ ابْنِ عَلِيٍّ، فَسَمَّتْهُ، فَقُلْتُ لَهَا: جَعَلَنِيَ اللهُ فِدَاكِ، مُعَايَنَةً أَوْ خَبَراً؟ فَقَالَتْ: خَبَراً عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام) كَتَبَ بِهِ إِلَىٰ أُمِّهِ، فَقُلْتُ لَهَا: فَأَيْنَ الْوَلَدُ؟ فَقَالَتْ: مَسْتُورٌ، فَقُلْتُ: إِلَىٰ مَنْ تَفْزَعُ الشِّيعَةُ؟ فَقَالَتْ [لِي]: إِلَىٰ الْجَدَّةِ أُمِّ أَبِي مُحَمَّدٍ (علیه السلام)، فَقُلْتُ لَهَا: أَقْتَدِي بِمَنْ وَصِيَّتُهُ إِلَىٰ امْرَأَةٍ؟ فَقَالَتْ: اقْتِدَاءً بِالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام)، فَإِنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ (علیهما السلام) أَوْصَىٰ إِلَىٰ أُخْتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ عَلِيٍّ فِي الظَّاهِرِ، فَكَانَ مَا يَخْرُجُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (علیهما السلام) مِنْ عِلْمٍ يُنْسَبُ إِلَىٰ زَيْنَبَ سَتْراً عَلَىٰ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (علیهما السلام)، ثُمَّ قَالَتْ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ أَصْحَابُ أَخْبَارٍ، أَمَا رَوَيْتُمْ أَنَّ التَّاسِعَ مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام) يُقْسَمُ مِيرَاثُهُ وَهُوَ فِي الْحَيَاةِ(1)؟

[37/459] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ الْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ)مَعَ جَمَاعَةٍ فِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ عِيسَىٰ الْقَصْرِيُّ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ لَهُ: سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَخْبِرْنِي عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام) أَهُوَ وَلِيُّ

ص: 244


1- تقدَّم الخبر تحت الرقم (449/27) مع الاختلاف في السند إلىٰ الأسدي. ولا مناسبة له بالباب.

اللهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَاتِلِهِ، أَهُوَ عَدُوُّ اللهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ الرَّجُلُ: فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّطَ اللهُ (عزوجل) عَدُوَّهُ عَلَىٰ وَلِيِّهِ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْحُسَيْنُ بْنُ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ): افْهَمْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ، اعْلَمْ أَنَّ اللهَ (عزوجل) لَا يُخَاطِبُ النَّاسَ بِمُشَاهَدَةِ الْعِيَانِ وَلَا يُشَافِهُهُمْ بِالْكَلَامِ، وَلَكِنَّهُ (عزوجل) يَبْعَثُ إِلَيْهِمْ رُسُلاً مِنْ أَجْنَاسِهِمْ وَأَصْنَافِهِمْ بَشَراً مِثْلَهُمْ، وَلَوْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رُسُلاً مِنْ غَيْرِ صِنْفِهِمْ وَصُوَرِهِمْ لَنَفَرُوا عَنْهُمْ وَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُمْ، فَلَمَّا جَاؤُوهُمْ وَكَانُوا مِنْ جِنْسِهِمْ يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ قَالُوا لَهُمْ: أَنْتُمْ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَلَا نَقْبَلُ مِنْكُمْ حَتَّىٰ تَأْتُونَّا بِشَيْءٍ نَعْجِزُ أَنْ نَأْتِيَ بِمِثْلِهِ فَنَعْلَمَ أَنَّكُمْ مَخْصُوصُونَ دُونَنَا بِمَا لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ اللهُ (عزوجل) لَهُمُ المُعْجِزَاتِ الَّتِي يَعْجِزُ الْخَلْقُ عَنْهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ جَاءَ بِالطُّوفَانِ بَعْدَ الْإِنْذَارِ وَالْإِعْذَارِ، فَغَرِقَ جَمِيعُ مَنْ طَغَىٰ وَتَمَرَّدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُلْقِيَ فِي النَّارِ فَكَانَتْ بَرْداً وَسَلَاماً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخْرَجَ مِنَ الْحَجَرِ الصَّلْدِ نَاقَةً وَأَجْرَىٰ مِنْ ضَرْعِهَا لَبَناً، وَمِنْهُمْ مَنْ فُلِقَ لَهُ الْبَحْرُ، وَفُجِّرَ لَهُ مِنَ الْحَجَرِ الْعُيُونُ، وَجُعِلَ لَهُ الْعَصَا الْيَابِسَةُ ثُعْبَاناً تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْرَأَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَأَحْيَا المَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللهِ، وَأَنْبَأَهُمْ بِمَا يَأْكُلُونَ وَمَا يَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنِ انْشَقَّ لَهُ الْقَمَرُ، وَكَلَّمَتْهُ الْبَهَائِمُ مِثْلُ الْبَعِيرِ وَالذِّئْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

فَلَمَّا أَتَوْا بِمِثْلِ ذَلِكَ وَعَجَزَ الْخَلْقُ عَنْ أَمْرِهِمْ وَعَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ(1) كَانَ مِنْ تَقْدِيرِ اللهِ (عزوجل) وَلُطْفِهِ بِعِبَادِهِ وحِكْمَتِهِ أَنْ جَعَلَ أَنْبِيَاءَهُ (علیهمالسلام) مَعَ هَذِهِ الْقُدْرَةِ وَالمُعْجِزَاتِ فِي حَالَةٍ غَالِبِينَ وَفِي أُخْرَىٰ مَغْلُوبِينَ، وَفِي حَالٍ قَاهِرِينَ وَفِي أُخْرَىٰ مَقْهُورِينَ وَلَوْ جَعَلَهُمُ اللهُ (عزوجل) فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ غَالِبِينَ وَقَاهِرِينَ وَلَمْ يَبْتَلِهِمْ وَلَمْ يَمْتَحِنْهُمْ لَاتَّخَذَهُمُ النَّاسُ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللهِ (عزوجل)، وَلَمَا عُرِفَ فَضْلُ صَبْرِهِمْ عَلَىٰ الْبَلَاءِ وَالْمِحَنِ وَالْاِخْتِبَارِ، وَلَكِنَّهُ (عزوجل) جَعَلَ أَحْوَالَهُمْ فِي ذَلِكَ كَأَحْوَالِ غَيْرِهِمْ لِيَكُونُوا فِي

ص: 245


1- في بعض النُّسَخ: (عجز الخلق من أُمَمهم عن أنْ يأتوا بمثله).

حَالِ الْمِحْنَةِ وَالْبَلْوَىٰ صَابِرِينَ، وَفِي حَالِ الْعَافِيَةِ وَالظُّهُورِ عَلَىٰ الْأَعْدَاءِ شَاكِرِينَ، وَيَكُونُوا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ مُتَوَاضِعِينَ غَيْرَ شَامِخِينَ وَلَا مُتَجَبِّرِينَ، وَلِيَعْلَمَ الْعِبَادُ أَنَّ لَهُمْ (علیهم السلام) إِلَهاً هُوَ خَالِقُهُمْ وَمُدَبِّرُهُمْ، فَيَعْبُدُوهُ وَيُطِيعُوا رُسُلَهُ، وَتَكُونُ حُجَّةُ اللهِ ثَابِتَةً عَلَىٰ مَنْ تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِيهِمْ وَادَّعَىٰ لَهُمُ الرُّبُوبِيَّةَ أَوْ عَانَدَ أَوْ خَالَفَ وَعَصَىٰ وَجَحَدَ بِمَا أَتَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ (علیهم السلام)، «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» [الأنفال: 42].

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضی الله عنه): فَعُدْتُ إِلَىٰ الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) مِنَ الْغَدِ وَأَنَا أَقُولُ فِي نَفْسِي: أَتَرَاهُ ذَكَرَ مَا ذَكَرَ لَنَا يَوْمَ أَمْسِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ؟ فَابْتَدَأَنِي، فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، لَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفَنِي الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِيَ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ فِي دِينِ اللهِ (عزوجل) بِرَأْيِي أَوْ مِنْ عِنْدِ نَفْسِي، بَلْ ذَلِكَ عَنِ الْأَصْلِ وَمَسْمُوعٌ عَنِ الْحُجَّةِ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ)(1).

[38/460] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ (رضی الله عنه)،قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ بْنِ نُعَيْمٍ الشَّاذَانِيُّ، قَالَ: اجْتَمَعَتْ عِنْدِي خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ يَنْقُصُ عِشْرِينَ دِرْهَماً، فَوَزَنْتُ مِنْ عِنْدِي عِشْرِينَ دِرْهَماً وَدَفَعْتُهُمَا إِلَىٰ أَبِي الْحُسَيْنِ الْأَسَدِيِّ (رضی الله عنه)، وَلَمْ أُعَرِّفْهُ أَمْرَ الْعِشْرِينَ، فَوَرَدَ الْجَوَابُ: «قَدْ وَصَلَتِ الْخَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ الَّتِي لَكَ فِيهَا عِشْرُونَ دِرْهَماً»(2).

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ: أَنْفَذْتُ بَعْدَ ذَلِكَ مَالاً وَلَمْ أُفَسِّرْ لِمَنْ هُوَ، فَوَرَدَ الْجَوَابُ: «وَصَلَ كَذَا وَكَذَا، مِنْهُ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا»(3).

ص: 246


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 241 - 243/ باب 177/ ح 1)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 324 - 326/ ح 273)، والراوندي (رحمة الله) في الدعوات (ص 66 - 68/ ح 164)، والطبرسي (رحمة الله) في الاحتجاج (ج 2/ ص 285 - 288).
2- تقدَّم الحديث سابقاً تحت الرقم (427/5)، فراجع.
3- رواه ابن حمزة (رحمة الله) في الثاقب في المناقب (ص 599/ ح 545/9).

قَالَ: وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْكُوفِيُّ: حَمَلَ رَجُلٌ مَالاً لِيُوصِلَهُ، وَأَحَبَّ أَنْ يَقِفَ عَلَىٰ الدَّلَالَةِ، فَوَقَّعَ (علیه السلام): «إِنِ اسْتَرْشَدْتَ أُرْشِدْتَ، وَإِنْ طَلَبْتَ وَجَدْتَ، يَقُولُ لَكَ مَوْلَاكَ: احْمِلْ مَا مَعَكَ»، قَالَ الرَّجُلُ: فَأَخْرَجْتُ مِمَّا مَعِي سِتَّةَ دَنَانِيرَ بِلَا وَزْنٍ وَحَمَلْتُ الْبَاقِيَ، فَخَرَجَ التَّوْقِيعُ: «يَا فُلَانُ، رُدَّ السِّتَّةَ دَنَانِيرَ الَّتِي أَخْرَجْتَهَا بِلَا وَزْنٍ وَوَزْنُهَا سِتَّةُ دَنَانِيرَ وَخَمْسَةُ دَوَانِيقَ وَحَبَّةٌ وَنِصْفٌ»، قَالَ الرَّجُلُ: فَوَزَنْتُ الدَّنَانِيرَ، فَإِذَا هِيَ(1) كَمَا قَالَ (علیه السلام)(2).

[39/461] حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَمَّارُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْحَاقَ الأسروشني (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْخَضِرِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ الْخُجَنْدِيُّ (رضی الله عنه)(3)، أَنَّهُ خَرَجَ إِلَيْهِ مِنْ صَاحِبِ الزَّمَانِ(علیه السلام) تَوْقِيعٌ بَعْدَ أَنْ كَانَ أُغْرِيَ بِالْفَحْصِ وَالطَّلَبِ وَسَارَ عَنْ وَطَنِهِ لِيَتَبَيَّنَ لَهُ مَا يَعْمَلُ عَلَيْهِ.

وَكَانَ نُسْخَةُ التَّوْقِيعِ: «مَنْ بَحَثَ فَقَدْ طَلَبَ، وَمَنْ طَلَبَ فَقَدْ دَلَّ، وَمَنْ دَلَّ فَقَدْ أَشَاطَ، وَمَنْ أَشَاطَ فَقَدْ أَشْرَكَ»، قَالَ: فَكَفَّ عَنِ الطَّلَبِ وَرَجَعَ (4).

وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ فِي أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ أَسْلَمَ بِحِسَابِ الْجُمَّلِ، وَعَقَدَ بِيَدِهِ ثَلَاثَةً وَسِتِّينَ أَنَّ مَعْنَاهُ إِلَهٌ أَحَدٌ جَوَادٌ(5).

[40/462] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ هَارُونَ الْقَاضِي (رضی الله عنه)(6)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ حَامِدٍ الْكَاتِبِ، قَالَ: كَانَ

ص: 247


1- في بعض النُّسَخ: (فإذا أنَّها)، وفي بعضها: (فإذا بها).
2- رواه ابن حمزة (رحمة الله) في الثاقب في المناقب (ص 600/ ح 546/10).
3- في بحار الأنوار (ج 51/ ص 340): (الجحدري)، وفي (ج 53/ ص 196) كما في المتن.
4- روىٰ قريباً منه الطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 323/ ح 271).
5- سيأتي مسنداً تحت الرقم (470/48)، فانتظر.
6- في بعض النُّسَخ: (أحمد بن هارون الفامي).

بِقُمَّ رَجُلٌ بَزَّازٌ مُؤْمِنٌ وَلَهُ شَرِيكٌ مُرْجِئِيٌّ، فَوَقَعَ بَيْنَهُمَا ثَوْبٌ نَفِيسٌ، فَقَالَ المُؤْمِنُ: يَصْلُحُ هَذَا الثَّوْبُ لِمَوْلَايَ، فَقَالَ لَهُ شَرِيكُهُ: لَسْتُ أَعْرِفُ مَوْلَاكَ، وَلَكِنْ افْعَلْ بِالثَّوْبِ مَا تُحِبُّ، فَلَمَّا وَصَلَ الثَّوْبُ إِلَيْهِ شَقَّهُ (علیه السلام) بِنِصْفَيْنِ طُولاً، فَأَخَذَ نِصْفَهُ وَرَدَّ النِّصْفَ، وَقَالَ: «لَا حَاجَةَ لَنَا فِي مَالِ المُرْجِئِيِ»(1).

[41/463] قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُ: وَخَرَجَ التَّوْقِيعُ إِلَىٰ الشَّيْخِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْعَمْرِيِّ فِي التَّعْزِيَةِ بِأَبِيهِ (رضی الله عنهما) فِي فَصْلٍ مِنَ الْكِتَابِ: «إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، تَسْلِيماً لِأَمْرِهِ وَرِضَاءً بِقَضَائِهِ،عَاشَ أَبُوكَ سَعِيداً وَمَاتَ حَمِيداً، فَرَحِمَهُ اللهُ وَأَلْحَقَهُ بِأَوْلِيَائِهِ وَمَوَالِيهِ (علیهم السلام)، فَلَمْ يَزَلْ مُجْتَهِداً فِي أَمْرِهِمْ، سَاعِياً فِيمَا يُقَرِّبُهُ إِلَىٰ اللهِ (عزوجل) وَإِلَيْهِمْ، نَضَّرَ اللهُ وَجْهَهُ وَأَقَالَهُ عَثْرَتَهُ».

وَفِي فَصْلٍ آخَرَ: «أَجْزَلَ اللهُ لَكَ الثَّوَابَ وَأَحْسَنَ لَكَ الْعَزَاءَ، رُزِئْتَ وَرُزِئْنَا وَأَوْحَشَكَ فِرَاقُهُ وَأَوْحَشَنَا، فَسَرَّهُ اللهُ فِي مُنْقَلَبِهِ، وَكَانَ مِنْ كَمَالِ سَعَادَتِهِ أَنْ رَزَقَهُ اللهُ (عزوجل) وَلَداً مِثْلَكَ يَخْلُفُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَيَقُومُ مَقَامَهُ بِأَمْرِهِ، وَيَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ، وَأَقُولُ: الْحَمْدُ لِلهِ، فَإِنَّ الْأَنْفُسَ طَيِّبَةٌ بِمَكَانِكَ وَمَا جَعَلَهُ اللهُ (عزوجل) فِيكَ وَعِنْدَكَ، أَعَانَكَ اللهُ وَقَوَّاكَ وَعَضَدَكَ وَوَفَّقَكَ، وَكَانَ اللهُ لَكَ وَلِيًّا وَحَافِظاً وَرَاعِياً وَكَافِياً وَمُعِيناً»(2).

توقيع من صاحب الزمان (علیه السلام):

كَانَ خَرَجَ إِلَىٰ الْعَمْرِيِّ وَابْنِهِ (رضی الله عنهما) رَوَاهُ سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ.

[42/464] قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللهِ جَعْفَرٌ (رضی الله عنه): وَجَدْتُهُ مُثْبَتاً عَنْهُ (رحمة الله): «وَفَّقَكُمَا اللهُ لِطَاعَتِهِ، وَثَبَّتَكُمَا عَلَىٰ دِينِهِ، وَأَسْعَدَكُمَا بِمَرْضَاتِهِ، انْتَهَىٰ إِلَيْنَا مَا ذَكَرْتُمَا

ص: 248


1- رواه ابن حمزة (رحمة الله) في الثاقب في المناقب (ص 600/ ح 547/11)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1132/ ح 52).
2- رواه الطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 361/ ح 323)، والطبرسي (رحمة الله) في الاحتجاج (ج 2/ ص 300 و301).

أَنَّ الْمِيثَمِيَّ(1) أَخْبَرَكُمَا عَنِ المُخْتَارِ وَمُنَاظَرَاتِهِ مَنْ لَقِيَ وَاحْتِجَاجِهِ بِأَنَّهُ لَا خَلَفَ غَيْرُ جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ وَتَصْدِيقِهِ إِيَّاهُ، وَفَهِمْتُ جَمِيعَ مَا كَتَبْتُمَا بِهِ مِمَّا قَالَ أَصْحَابُكُمَا عَنْهُ، وَأَنَا أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْعَمَىٰ بَعْدَ الْجَلَاءِ، وَمِنَ الضَّلَالَةِ بَعْدَ الْهُدَىٰ، وَمِنْ مُوبِقَاتِ الْأَعْمَالِ وَمُرْدِيَاتِالْفِتَنِ(2)، فَإِنَّهُ (عزوجل) يَقُولُ: «الم 1 أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ 2» [العنكبوت: 1 و2]، كَيْفَ يَتَسَاقَطُونَ فِي الْفِتْنَةِ، وَيَتَرَدَّدُونَ فِي الْحَيْرَةِ، وَيَأْخُذُونَ يَمِيناً وَشِمَالاً، فَارَقُوا دِينَهُمْ، أَمِ ارْتابُوا، أَمْ عَانَدُوا الْحَقَّ، أَمْ جَهِلُوا مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ الصَّادِقَةُ وَالْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ، أَوْ عَلِمُوا ذَلِكَ فَتَنَاسَوْا مَا يَعْلَمُونَ، إِنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ إِمَّا ظَاهِراً وَإِمَّا مَغْمُوراً.

أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا انْتِظَامَ أَئِمَّتِهِمْ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ (صلی الله علیه و آله) وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ إِلَىٰ أَنْ أَفْضَىٰ الْأَمْرُ بِأَمْرِ اللهِ (عزوجل) إِلَىٰ المَاضِي - يَعْنِي الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ (علیهما السلام) -، فَقَامَ مَقَامَ آبَائِهِ (علیهم السلام) يَهْدِي إِلَىٰ الْحَقِّ وَإِلىٰ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، كَانُوا نُوراً سَاطِعاً، وَشِهَاباً لَامِعاً، وَقَمَراً زَاهِراً، ثُمَّ اخْتَارَ اللهُ (عزوجل) لَهُ مَا عِنْدَهُ، فَمَضَىٰ عَلَىٰ مِنْهَاجِ آبَائِهِ (علیهم السلام) حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ عَلَىٰ عَهْدٍ عَهِدَهُ، وَوَصِيَّةٍ أَوْصَىٰ بِهَا إِلَىٰ وَصِيٍّ سَتَرَهُ اللهُ (عزوجل) بِأَمْرِهِ إِلَىٰ غَايَةٍ، وَأَخْفَىٰ مَكَانَهُ بِمَشِيئَتِهِ لِلْقَضَاءِ السَّابِقِ وَالْقَدَرِ النَّافِذِ، وَفِينَا مَوْضِعُهُ، وَلَنَا فَضْلُهُ، وَلَوْ قَدْ أَذِنَ اللهُ (عزوجل) فِيمَا قَدْ مَنَعَهُ عَنْهُ وَأَزَالَ عَنْهُ مَا قَدْ جَرَىٰ بِهِ مِنْ حُكْمِهِ لَأَرَاهُمُ الْحَقَّ ظَاهِراً بِأَحْسَنِ حِلْيَةٍ، وَأَبْيَنِ دَلَالَةٍ، وَأَوْضَحِ عَلَامَةٍ، وَلَأَبَانَ عَنْ نَفْسِهِ وَقَامَ بِحُجَّتِهِ، وَلَكِنَّ أَقْدَارَ اللهِ (عزوجل) لَا تُغَالَبُ، وَإِرَادَتَهُ لَا تُرَدُّ، وَتَوْفِيقَهُ لَا يُسْبَقُ، فَلْيَدَعُوا عَنْهُمُ اتِّبَاعَ الْهَوَىٰ، وَلْيُقِيمُوا عَلَىٰ أَصْلِهِمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، وَلَا يَبْحَثُوا عَمَّا سَتَرَ عَنْهُمْ فَيَأْثَمُوا، وَلَا يَكْشِفُوا سَتْرَ اللهِ (عزوجل) فَيَنْدَمُوا، وَلْيَعْلَمُوا أَنَّ الْحَقَّ مَعَنَا وَفِينَا، لَا يَقُولُ ذَلِكَ سِوَانَا إِلَّا كَذَّابٌ مُفْتَرٍ، وَلَا يَدَّعِيهِ غَيْرُنَا إِلَّا ضَالٌّ غَوِيٌّ ،

ص: 249


1- في النُّسَخ: (الهيثمي).
2- أي مهلكاتها. أوبقه: أهلكه.

فَلْيَقْتَصِرُوا مِنَّا عَلَىٰ هَذِهِ الْجُمْلَةِ دُونَ التَّفْسِيرِ، وَيَقْنَعُوا مِنْذَلِكَ بِالتَّعْرِيضِ دُونَ التَّصْرِيحِ إِنْ شَاءَ اللهُ».

الدعاء في غيبة القائم (علیه السلام):

[43/465] حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ المُكَتِّبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيِّ ابْنُ هَمَّامٍ بِهَذَا الدُّعَاءِ، وَذَكَرَ أَنَّ الشَّيْخَ الْعَمْرِيَّ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) أَمْلَاهُ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ، وَهُوَ الدُّعَاءُ فِي غَيْبَةِ الْقَائِمِ (علیه السلام):

«اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لَمْ أَعْرِفْ نَبِيَّكَ(1)، اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَبِيَّكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَبِيَّكَ لَمْ أَعْرِفْ حُجَّتَكَ، اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي.

اللَّهُمَّ لَا تُمِتْنِي مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَلَا تُزِغْ قَلْبِي بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنِي، اللَّهُمَّ فَكَمَا هَدَيْتَنِي بِوَلَايَةِ مَنَ فَرَضْتَ طَاعَتَهُ عَلَيَّ مِنْ وُلَاةِ أَمْرِكَ بَعْدَ رَسُولِكَ (صلواتك عليه وآله)، حَتَّىٰ وَالَيْتَ وُلَاةَ أَمْرِكَ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَعَلِيًّا وَمُحَمَّداً وَجَعْفَراً وَمُوسَىٰ وَعَلِيًّا وَمُحَمَّداً وَعَلِيًّا وَالْحَسَنَ وَالْحُجَّةَ الْقَائِمَ المَهْدِيَّ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ).

اللَّهُمَّ فَثَبِّتْنِي عَلَىٰ دِينِكَ، وَاسْتَعْمِلْنِي بِطَاعَتِكَ، وَلَيِّنْ قَلْبِي لِوَلِيِّ أَمْرِكَ، وَعَافِنِي مِمَّا امْتَحَنْتَ بِهِ خَلْقَكَ، وَثَبِّتْنِي عَلَىٰ طَاعَةِ وَلِيِّ أَمْرِكَ الَّذِي سَتَرْتَهُ عَنْ خَلْقِكَ، فَبِإِذْنِكَ غَابَ عَنْ بَرِيَّتِكَ، وَأَمْرَكَ يَنْتَظِرُ، وَأَنْتَ الْعَالِمُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ بِالْوَقْتِ الَّذِي فِيهِ صَلَاحُ أَمْرِ وَلِيِّكَ فِي الْإِذْنِ لَهُ بِإِظْهَارِ أَمْرِهِ وَكَشْفِ سِتْرِهِ، فَصَبِّرْنِي عَلَىٰ ذَلِكَ حَتَّىٰ لَا أُحِبَّ تَعْجِيلَ مَا أَخَّرْتَ وَلَا تَأْخِيرَ مَا عَجَّلْتَ، وَلَا أَكْشِفَ عَمَّا سَتَرْتَهُ، وَلَا أَبْحَثَ عَمَّا كَتَمْتَهُ، وَلَا أُنَازِعَكَ فِي تَدْبِيرِكَ، وَلَا أَقُولَ: لِمَ وَكَيْفَ وَمَا بَالُ وَلِيِّ الْأَمْرِ(2) لَا يَظْهَرُ وَقَدِ امْتَلَأَتِ الْأَرْضُ مِنَ الْجَوْرِ،وَأُفَوِّضُ أُمُورِي كُلَّهَا إِلَيْكَ.

ص: 250


1- في بعض النُّسَخ: (رسولك)، وكذا ما يأتي.
2- في بعض النُّسَخ: (وليّ أمر الله).

اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تُرِيَنِي وَلِيَّ أَمْرِكَ ظَاهِراً نَافِذاً لِأَمْرِكَ مَعَ عِلْمِي بِأَنَّ لَكَ السُّلْطَانَ وَالْقُدْرَةَ وَالْبُرْهَانَ وَالْحُجَّةَ وَالمَشِيئَةَ وَالْإِرَادَةَ وَالْحَوْلَ وَالْقُوَّةَ، فَافْعَلْ ذَلِكَ بِي وَبِجَمِيعِ المُؤْمِنِينَ حَتَّىٰ نَنْظُرَ إِلَىٰ وَلِيِّكَ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ) ظَاهِرَ المَقَالَةِ، وَاضِحَ الدَّلَالَةِ، هَادِياً مِنَ الضَّلَالَةِ، شَافِياً مِنَ الْجَهَالَةِ، أَبْرِزْ يَا رَبِّ مَشَاهِدَهُ، وَثَبِّتْ قَوَاعِدَهُ، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ تَقَرُّ عَيْنُهُ بِرُؤْيَتِهِ، وَأَقِمْنَا بِخِدْمَتِهِ، وَتَوَفَّنَا عَلَىٰ مِلَّتِهِ، وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ.

اللَّهُمَّ أَعِذْهُ مِنْ شَرِّ جَمِيعِ مَا خَلَقْتَ وَبَرَأْتَ وَذَرَأْتَ وَأَنْشَأْتَ وَصَوَّرْتَ، وَاحْفَظْهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ بِحِفْظِكَ الَّذِي لَا يَضِيعُ مَنْ حَفِظْتَهُ بِهِ، وَاحْفَظْ فِيهِ رَسُولَكَ وَوَصِيَّ رَسُولِكَ.

اللَّهُمَّ وَمُدَّ فِي عُمُرِهِ، وَزِدْ فِي أَجَلِهِ، وَأَعِنْهُ عَلَىٰ مَا أَوْلَيْتَهُ وَاسْتَرْعَيْتَهُ، وَزِدْ فِي كَرَامَتِكَ لَهُ فَإِنَّهُ الْهَادِي وَالمُهْتَدِي وَالْقَائِمُ المَهْدِيُّ، الطَّاهِرُ التَّقِيُّ النَّقِيُّ الزَّكِيُّ الرَّضِيُّ المَرْضِيُّ الصَّابِرُ المُجْتَهِدُ الشَّكُورُ.

اللَّهُمَّ وَلَا تَسْلُبْنَا الْيَقِينَ لِطُولِ الْأَمَدِ فِي غَيْبَتِهِ وَانْقِطَاعِ خَبَرِهِ عَنَّا، وَلَا تُنْسِنَا ذِكْرَهُ وَانْتِظَارَهُ وَالْإِيمَانَ وَقُوَّةَ الْيَقِينِ فِي ظُهُورِهِ، وَالدُّعَاءَ لَهُ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ حَتَّىٰ لَا يُقَنِّطَنَا طُولُ غَيْبَتِهِ مِنْ ظُهُورِهِ وَقِيَامِهِ، وَيَكُونَ يَقِينُنَا فِي ذَلِكَ كَيَقِينِنَا فِي قِيَامِ رَسُولِكَ (صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ)، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ وَحْيِكَ وَتَنْزِيلِكَ، وَقَوِّ قُلُوبَنَا عَلَىٰ الْإِيمَانِ بِهِ حَتَّىٰ تَسْلُكَ بِنَا عَلَىٰ يَدِهِ مِنْهَاجَ الْهُدَىٰ، وَالْحُجَّةَ الْعُظْمَىٰ، وَالطَّرِيقَةَ الْوُسْطَىٰ، وَقَوِّنَا عَلَىٰ طَاعَتِهِ، وَثَبِّتْنَا عَلَىٰ مُتَابَعَتِهِ(1)، وَاجْعَلْنَا فِي حِزْبِهِ وَأَعْوَانِهِ وَأَنْصَارِهِ وَالرَّاضِينَ بِفِعْلِهِ(2)، وَلَاتَسْلُبْنَا ذَلِكَ فِي حَيَاتِنَا وَلَا عِنْدَ وَفَاتِنَا حَتَّىٰ تَتَوَفَّانَا وَنَحْنُ عَلَىٰ ذَلِكَ غَيْرَ شَاكِّينَ وَلَا نَاكِثِينَ وَلَا مُرْتَابِينَ وَلَا مُكَذِّبِينَ.

ص: 251


1- في بعض النُّسَخ: (علىٰ مطايعته)، وفي بعضها: (علىٰ مشايعته).
2- في بعض النُّسَخ: (راغبين بفعله).

اللَّهُمَّ عَجِّلْ فَرَجَهُ، وَأَيِّدْهُ بِالنَّصْرِ، وَانْصُرْ نَاصِرِيهِ، وَاخْذُلْ خَاذِلِيهِ، وَدَمِّرْ عَلَىٰ مَنْ(1) نَصَبَ لَهُ وَكَذَّبَ بِهِ، وَأَظْهِرْ بِهِ الْحَقَّ، وَأَمِتْ بِهِ الْبَاطِلَ(2)، وَاسْتَنْقِذْ بِهِ عِبَادَكَ المُؤْمِنِينَ مِنَ الذُّلِّ، وَانْعَشْ بِهِ الْبِلَادَ(3)، وَاقْتُلْ بِهِ جَبَابِرَةَ الْكُفْرِ، وَاقْصِمْ بِهِ رُؤُوسَ الضَّلَالَةِ، وَذَلِّلْ بِهِ الْجَبَّارِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَأَبِرْ(4) بِهِ المُنَافِقِينَ وَالنَّاكِثِينَ وَجَمِيعَ المُخَالِفِينَ وَالمُلْحِدِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَبَرِّهَا وَبَحْرِهَا، وَسَهْلِهَا وَجَبَلِهَا حَتَّىٰ لَا تَدَعَ مِنْهُمْ دَيَّاراً، وَلَا تُبْقِيَ لَهُمْ آثَاراً، وَتُطَهِّرَ مِنْهُمْ بِلَادَكَ، وَاشْفِ مِنْهُمْ صُدُورَ عِبَادِكَ، وَجَدِّدْ بِهِ مَا امْتَحَىٰ مِنْ دِينِكَ(5)، وَأَصْلِحْ بِهِ مَا بُدِّلَ مِنْ حُكْمِكَ وَغُيِّرْ مِنْ سُنَّتِكَ حَتَّىٰ يَعُودَ دِينُكَ بِهِ وَعَلَىٰ يَدَيْهِ غَضًّا(6) جَدِيداً صَحِيحاً لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا بِدْعَةَ مَعَهُ حَتَّىٰ تُطْفِئَ بِعَدْلِهِ نِيرَانَ الْكَافِرِينَ، فَإِنَّهُ عَبْدُكَ الَّذِي اسْتَخْلَصْتَهُ لِنَفْسِكَ، وَارْتَضَيْتَهُ لِنُصْرَةِ نَبِيِّكَ، وَاصْطَفَيْتَهُ بِعِلْمِكَ، وَعَصَمْتَهُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَبَرَّأْتَهُ مِنَ الْعُيُوبِ، وَأَطْلَعْتَهُ عَلَىٰ الْغُيُوبِ، وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ وَطَهَّرْتَهُ مِنَ الرِّجْسِ وَنَقَّيْتَهُ مِنَ الدَّنَسِ.

اللَّهُمَّ فَصَلِّ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آبَائِهِ الْأَئِمَّةِ الطَّاهِرِينَ، وَعَلَىٰ شِيعَتِهِمُ المُنْتَجَبِينَ، وَبَلِّغْهُمْ مِنْ آمَالِهِمْ أَفْضَلَ مَا يَأْمُلُونَ، وَاجْعَلْ ذَلِكَ مِنَّا خَالِصاً مِنْكُلِّ شَكٍّ وَشُبْهَةٍ وَرِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ حَتَّىٰ لَا نُرِيدَ بِهِ غَيْرَكَ وَلَا نَطْلُبَ بِهِ إِلَّا وَجْهَكَ.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ فَقْدَ نَبِيِّنَا، وَغَيْبَةَ وَلِيِّنَا، وَشِدَّةَ الزَّمَانِ عَلَيْنَا، وَوُقُوعَ الْفِتَنِ [بِنَا]، وَتَظَاهُرَ الْأَعْدَاءِ [عَلَيْنَا]، وَكَثْرَةَ عَدُوِّنَا، وَقِلَّةَ عَدَدِنَا.

ص: 252


1- في بعض النُّسَخ: (دمدم علىٰ من). ودمدم عليه: أي أهلكه.
2- في بعض النُّسَخ: (به الجور).
3- نعشه الله: أي رفعه، وانتعش العاثر: نهض من عثرته.
4- أباره: أي أهلكه، والمبير: المهلك. وفي بعض النُّسَخ: (أفن).
5- أي ما زال وذهب منه.
6- الغضُّ: الطريُّ.

اللَّهُمَّ فَافْرُجْ ذَلِكَ بِفَتْحٍ مِنْكَ تُعَجِّلُهُ، وَنَصْرٍ مِنْكَ تُعِزُّهُ(1)، وَإِمَامِ عَدْلٍ تُظْهِرُهُ، إِلَهَ الْحَقِّ رَبَّ الْعَالَمِينَ.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَأْذَنَ لِوَلِيِّكَ فِي إِظْهَارِ عَدْلِكَ فِي عِبَادِكَ، وَقَتْلِ أَعْدَائِكَ فِي بِلَادِكَ حَتَّىٰ لَا تَدَعَ لِلْجَوْرِ يَا رَبِّ دِعَامَةً إِلَّا قَصَمْتَهَا، وَلَا بِنْيَةً إِلَّا أَفْنَيْتَهَا، وَلَا قُوَّةً إِلَّا أَوْهَنْتَهَا، وَلَا رُكْناً إِلَّا هَدَدْتَهُ(2)، وَلَا حَدًّا إِلَّا فَلَلْتَهُ، وَلَا سِلَاحاً إِلَّا أَكْلَلْتَهُ(3)، وَلَا رَايَةً إِلَّا نَكَّسْتَهَا، وَلَا شُجَاعاً إِلَّا قَتَلْتَهُ، وَلَا جَيْشاً إِلَّا خَذَلْتَهُ، وَارْمِهِمْ يَا رَبِّ بِحَجَرِكَ الدَّامِغِ، وَاضْرِبْهُمْ بِسَيْفِكَ الْقَاطِعِ، وَبِبَأْسِكَ الَّذِي لَا تَرُدُّهُ عَنِ الْقَوْمِ المُجْرِمِينَ، وَعَذِّبْ أَعْدَاءَكَ وَأَعْدَاءَ دِينِكَ وَأَعْدَاءَ رَسُولِكَ بِيَدِ وَلِيِّكَ وَأَيْدِي عِبَادِكَ المُؤْمِنِينَ.

اللَّهُمَّ اكْفِ وَلِيَّكَ وَحُجَّتَكَ فِي أَرْضِكَ هَوْلَ عَدُوِّهِ، وَكِدْ مَنْ كَادَهُ، وَامْكُرْ بِمَنْ مَكَرَ بِهِ، وَاجْعَلْ دَائِرَةَ السَّوْءِ عَلَىٰ مَنْ أَرَادَ بِهِ سُوءاً، وَاقْطَعْ عَنْهُ مَادَّتَهُمْ، وَأَرْعِبْ لَهُ قُلُوبَهُمْ، وَزَلْزِلْ لَهُ أَقْدَامَهُمْ، وَخُذْهُمْ جَهْرَةً وَبَغْتَةً، وَشَدِّدْ عَلَيْهِمْ عِقَابَكَ، وَأَخْزِهِمْ فِي عِبَادِكَ، وَالْعَنْهُمْ فِي بِلَادِكَ، وَأَسْكِنْهُمْ أَسْفَلَ نَارِكَ، وَأَحِطْ بِهِمْ أَشَدَّ عَذَابِكَ، وَأَصْلِهِمْ نَاراً، وَاحْشُ قُبُورَ مَوْتَاهُمْ نَاراً، وَأَصْلِهِمْ حَرَّ نَارِكَ، فَإِنَّهُمْ أَضاعُوا الصَّلَاةَ، وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ، وَأَذَلُّوا عِبَادَكَ.اللَّهُمَّ وَأَحْيِ بِوَلِيِّكَ الْقُرْآنَ، وَأَرِنَا نُورَهُ سَرْمَداً لَا ظُلْمَةَ فِيهِ، وَأَحْيِ بِهِ الْقُلُوبَ المَيْتَةَ، وَاشْفِ بِهِ الصُّدُورَ الْوَغِرَةَ(4)، وَاجْمَعْ بِهِ الْأَهْوَاءَ المُخْتَلِفَةَ عَلَىٰ الْحَقِّ، وَأَقِمْ بِهِ الْحُدُودَ المُعَطَّلَةَ وَالْأَحْكَامَ المُهْمَلَةَ حَتَّىٰ لَا يَبْقَىٰ حَقٌّ إِلَّا ظَهَرَ، وَلَا عَدْلٌ إِلَّا

ص: 253


1- في بعض النُّسَخ: (وبصبر منك تُيسِّره).
2- الهدَّة: الهدم والكسر.
3- الحدُّ: السيف. والفلُّ: الكسر والثلمة، وما يقال بالفارسيَّة: (كند شدن وكند كردن). والكلل - بفتح الكاف - بمعناه.
4- الوغرة - بالتسكين -: شدَّة توقُّد الحرِّ. وفي صدره عليَّ وغر: أي ضغن، والضعن الحقد والعداوة.

زَهَرَ، وَاجْعَلْنَا يَا رَبِّ مِنْ أَعْوَانِهِ وَمُقَوِّي سُلْطَانِهِ(1) وَالمُؤْتَمِرِينَ لِأَمْرِهِ، وَالرَّاضِينَ بِفِعْلِهِ، وَالمُسَلِّمِينَ لِأَحْكَامِهِ، وَمِمَّنْ لَا حَاجَةَ لَهُ بِهِ إِلَىٰ التَّقِيَّةِ مِنْ خَلْقِكَ، أَنْتَ يَا رَبِّ الَّذِي تَكْشِفُ السُّوءَ، وَتُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاكَ، وَتُنَجِّي مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، فَاكْشِفْ يَا رَبِّ الضُّرَّ عَنْ وَلِيِّكَ، وَاجْعَلْهُ خَلِيفَةً فِي أَرْضِكَ كَمَا ضَمِنْتَ لَهُ.

اللَّهُمَّ وَلَا تَجْعَلْنِي مِنْ خُصَمَاءِ آلِ مُحَمَّدٍ، وَلَا تَجْعَلْنِي مِنْ أَعْدَاءِ آلِ مُحَمَّدٍ، وَلَا تَجْعَلْنِي مِنْ أَهْلِ الْحَنَقِ وَالْغَيْظِ عَلَىٰ آلِ مُحَمَّدٍ، فَإِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ ذَلِكَ فَأَعِذْنِي، وَأَسْتَجِيرُ بِكَ فَأَجِرْنِي.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَاجْعَلْنِي بِهِمْ فَائِزاً عِنْدَكَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ»(2).

[44/466] حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ المُكَتِّبُ، قَالَ: كُنْتُ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ فِي السَّنَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا الشَّيْخُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّمُرِيُّ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ)، فَحَضَرْتُهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِأَيَّامٍ، فَأَخْرَجَ إِلَىٰ النَّاسِ تَوْقِيعاً نُسْخَتُهُ:

«بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، يَا عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ السَّمُرِيَّ أَعْظَمَ اللهُ أَجْرَ إِخْوَانِكَ فِيكَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ سِتَّةِ أَيَّامٍ، فَاجْمَعْ أَمْرَكَ وَلَا تُوصِ إِلَىٰأَحَدٍ يَقُومُ مَقَامَكَ بَعْدَ وَفَاتِكَ، فَقَدْ وَقَعَتِ الْغَيْبَةُ الثَّانِيَةُ(3)، فَلَا ظُهُورَ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِ اللهِ (عزوجل)، وَذَلِكَ بَعْدَ طُولِ الْأَمَدِ، وَقَسْوَةِ الْقُلُوبِ، وَامْتِلَاءِ الْأَرْضِ جَوْراً، وَسَيَأْتِي شِيعَتِي مَنْ يَدَّعِي المُشَاهَدَةَ، أَلَا فَمَنِ ادَّعَىٰ المُشَاهَدَةَ قَبْلَ خُرُوجِ السُّفْيَانِيِّ وَالصَّيْحَةِ فَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ»(4).

ص: 254


1- في بعض النُّسَخ: (وممَّن يقوىٰ بسلطانه).
2- رواه الطوسي (رحمة الله) في مصباح المتهجِّد (ص 411 - 416/ الرقم 536/146).
3- في بعض النُّسَخ: (الغيبة التامَّة).
4- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 52/ ص 151): (بيان: لعلَّه محمول علىٰ من يدَّعي المشاهدة مع النيابة وإيصال الأخبار من جانبه (علیه السلام) إلىٰ الشيعة علىٰ مثال السفراء، لئلَّا ينافي الأخبار التي مضت وستأتي فيمن رآه (علیه السلام)، والله يعلم).

قَالَ: فَنَسَخْنَا هَذَا التَّوْقِيعَ وَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ السَّادِسُ عُدْنَا إِلَيْهِ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَنْ وَصِيُّكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ فَقَالَ: لِلهِ أَمْرٌ هُوَ بَالِغُهُ، وَمَضَىٰ (رضی الله عنه)، فَهَذَا آخِرُ كَلَامٍ سُمِعَ مِنْهُ (1).

[45/467] حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ بُزُرْجَ بْنِ عَبْدِ اللهِ ابْنِ مَنْصُورِ بْنِ يُونُسَ بْنِ بُزُرْجَ صَاحِبُ الصَّادِقِ (علیه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ الصَّيْرَفِيَّ الدَّوْرَقِيَّ(2) المُقِيمَ بِأَرْضِ بَلْخٍ يَقُولُ: أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَىٰ الْحَجِّ، وَكَانَ مَعِي مَالٌ بَعْضُهُ ذَهَبٌ وَبَعْضُهُ فِضَّةٌ،فَجَعَلْتُ مَا كَانَ مَعِي مِنَ الذَّهَبِ سَبَائِكَ، وَمَا كَانَ مَعِي مِنَ الْفِضَّةِ نُقَراً، وَكَانَ قَدْ دُفِعَ ذَلِكَ المَالُ إِلَيَّ لِأُسَلِّمَهُ مِنَ الشَّيْخِ(3) أَبِي الْقَاسِمِ الْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ)، قَالَ: فَلَمَّا نَزَلْتُ سَرَخْسَ ضَرَبْتُ خَيْمَتِي عَلَىٰ مَوْضِعٍ فِيهِ رَمْلٌ، فَجَعَلْتُ أُمَيِّزُ تِلْكَ السَّبَائِكَ وَالنُّقَرَ، فَسَقَطَتْ سَبِيكَةٌ مِنْ تِلْكَ السَّبَائِكِ مِنِّي وَغَاضَتْ فِي الرَّمْلِ وَأَنَا لَا أَعْلَمُ، قَالَ: فَلَمَّا دَخَلْتُ هَمَدَانَ مَيَّزْتُ تِلْكَ السَّبَائِكَ وَالنُّقَرَ مَرَّةً أُخْرَىٰ اهْتِمَاماً مِنِّي بِحِفْظِهَا فَفَقَدْتُ مِنْهَا سَبِيكَةً وَزْنُهَا مِائَةُ مِثْقَالٍ وَثَلَاثَةُ مَثَاقِيلَ - أَوْ قَالَ: ثَلَاث وَتِسْعُونَ مِثْقَالاً -، قَالَ: فَسَبَكْتُ مَكَانَهَا مِنْ مَالِي بِوَزْنِهَا سَبِيكَةً وَجَعَلْتُهَا بَيْنَ السَّبَائِكِ، فَلَمَّا وَرَدْتُ مَدِينَةَ السَّلَامِ قَصَدْتُ الشَّيْخَ أَبَا الْقَاسِمِ الْحُسَيْنَ بْنَ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) وَسَلَّمْتُ

ص: 255


1- رواه الطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 395/ ح 365)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 260)، وابن حمزة (رحمة الله) في الثاقب في المناقب (ص 603 و604/ ح 551/15)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1128 و1129/ ح 46)، وأحمد به عليٍّ الطبرسي (رحمة الله) في الاحتجاج (ج 2/ ص 297).
2- في بعض النُّسَخ: (الدوري).
3- في النُّسَخ: (ذلك المال إليه لتسليمه إلىٰ الشيخ).

إِلَيْهِ مَا كَانَ مَعِي مِنَ السَّبَائِكِ وَالنُّقَرِ، فَمَدَّ يَدَهُ مِنْ بَيْنِ [تِلْكَ] السَّبَائِكِ إِلَىٰ السَّبِيكَةِ الَّتِي كُنْتُ سَبَكْتُهَا مِنْ مَالِي بَدَلاً مِمَّا ضَاعَ مِنِّي فَرَمَىٰ بِهَا إِلَيَّ وَقَالَ لِي: لَيْسَتْ هَذِهِ السَّبِيكَةُ لَنَا، وَسَبِيكَتُنَا ضَيَّعْتَهَا بِسَرَخْسَ حَيْثُ ضَرَبْتَ خَيْمَتَكَ فِي الرَّمْلِ، فَارْجِعْ إِلَىٰ مَكَانِكَ وَانْزِلْ حَيْثُ نَزَلْتَ وَاطْلُبِ السَّبِيكَةَ هُنَاكَ تَحْتَ الرَّمْلِ فَإِنَّكَ سَتَجِدُهَا، وَسَتَعُودُ إِلَىٰ هَاهُنَا فَلَا تَرَانِي.

قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَىٰ سَرَخْسَ وَنَزَلْتُ حَيْثُ كُنْتُ نَزَلْتُ فَوَجَدْتُ السَّبِيكَةَ تَحْتَ الرَّمْلِ وَقَدْ نَبَتَ عَلَيْهَا الْحَشِيشُ، فَأَخَذْتُ السَّبِيكَةَ وَانْصَرَفْتُ إِلَىٰ بَلَدِي، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ حَجَجْتُ وَمَعِيَ السَّبِيكَةُ، فَدَخَلْتُ مَدِينَةَ السَّلَامِ وَقَدْ كَانَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ الْحُسَيْنُ بْنُ رَوْحٍ (رضی الله عنه) مَضَىٰ، وَلَقِيتُ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ السَّمُرِيَّ (رضی الله عنه) فَسَلَّمْتُ السَّبِيكَةَ إِلَيْهِ (1).

[46/468] وَحَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْبُزُرْجِيُّ، قَالَ: رَأَيْتُ بِسُرَّ مَنْ رَأَىٰ رَجُلاً شَابًّا فِي المَسْجِدِ المَعْرُوفِ بِمَسْجِدِ زُبَيْدَةَ فِي شَارِعِ السُّوقِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ هَاشِمِيٌّ مِنْ وُلْدِ مُوسَىٰ بْنِ عِيسَىٰ لَمْ يَذْكُرْ أَبُو جَعْفَرٍ اسْمَهُ، وَكُنْتُ أُصَلِّي، فَلَمَّا سَلَّمْتُ قَالَ لِي: أَنْتَ قُمِّيٌّ أَوْ رَازِيٌّ؟ فَقُلْتُ: أَنَا قُمِّيٌّ مُجَاوِرٌ بِالْكُوفَةِ فِي مَسْجِدِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام)، فَقَالَ لِي: أَتَعْرِفُ دَارَ مُوسَىٰ بْنِ عِيسَىٰ الَّتِي بِالْكُوفَةِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: أَنَا مِنْ وُلْدِهِ، قَالَ: كَانَ لِي أَبٌ وَلَهُ إِخْوَانٌ، وَكَانَ أَكْبَرُ الْأَخَوَيْنِ ذَا مَالٍ وَلَمْ يَكُنْ لِلصَّغِيرِ مَالٌ، فَدَخَلَ عَلَىٰ أَخِيهِ الْكَبِيرِ فَسَرَقَ مِنْهُ سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ، فَقَالَ الْأَخُ الْكَبِيرُ: أَدْخُلْ عَلَىٰ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الرِّضَا (علیهم السلام) وَاسْأَلْهُ أَنْ يَلْطُفَ لِلصَّغِيرِ لَعَلَّهُ يَرُدُّ مَالِي فَإِنَّهُ حُلْوُ الْكَلَامِ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ السَّحَرِ بَدَا لِي فِي الدُّخُولِ عَلَىٰ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الرِّضَا (علیهم السلام)، قُلْتُ: أَدْخُلُ عَلَىٰ أَشْنَاسَ التُّرْكِيِّ

ص: 256


1- رواه ابن حمزة (رحمة الله) في الثاقب في المناقب (ص 600 و601/ ح 548/12).

صَاحِبِ السُّلْطَانِ(1) فَأَشْكُو إِلَيْهِ، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَىٰ أَشْنَاسَ التُّرْكِيِّ وَبَيْنَ يَدَيْهِ نَرْدٌ يَلْعَبُ بِهِ، فَجَلَسْتُ أَنْتَظِرُ فَرَاغَهُ، فَجَاءَنِي رَسُولُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهم السلام) فَقَالَ لِي: أَجِبْ، فَقُمْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَىٰ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام) قَالَ لِي: «كَانَ لَكَ إِلَيْنَا أَوَّلَ اللَّيْلِ حَاجَةٌ، ثُمَّ بَدَا لَكَ عَنْهَا وَقْتَ السَّحَرِ، اذْهَبْ فَإِنَّ الْكِيسَ الَّذِي أُخِذَ مِنْ مَالِكَ قَدْ رُدَّ، وَلَا تَشْكُ أَخَاكَ وَأَحْسِنْ إِلَيْهِ وَأَعْطِهِ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَابْعَثْهُ إِلَيْنَا لِنُعْطِيَهُ»، فَلَمَّا خَرَجَ تَلَقَّاهُ غُلَاماً يُخْبِرُهُ بِوُجُودِ الْكِيسِ.

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبُزُرْجِيُّ: فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ حَمَلَنِي الْهَاشِمِيُّ إِلَىٰ مَنْزِلِهِ وَأَضَافَنِي، ثُمَّ صَاحَ بِجَارِيَةٍ وَقَالَ: يَا غَزَالُ - أَوْ يَا زُلَالُ -، فَإِذَا أَنَا بِجَارِيَةٍمُسِنَّةٍ، فَقَالَ لَهَا: يَا جَارِيَةُ، حَدِّثْيِ مَوْلَاكِ بِحَدِيثِ الْمِيلِ وَالمَوْلُودِ، فَقَالَتْ: كَانَ لَنَا طِفْلٌ وَجِعٌ، فَقَالَتْ لِي مَوْلَاتِي: امْضِي إِلَىٰ دَارِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام)، فَقُولِي لِحَكِيمَةَ تُعْطِينَا شَيْئاً نَسْتَشْفِي بِهِ لِمَوْلُودِنَا هَذَا، فَلَمَّا مَضَيْتُ وَقُلْتُ كَمَا قَالَ لِي مَوْلَايَ قَالَتْ حَكِيمَةُ(2): ائْتُونِي بِالْمِيلِ الَّذِي كُحِّلَ بِهِ المَوْلُودُ الَّذِي وُلِدَ الْبَارِحَةَ - تَعْنِي ابْنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام) -، فَأُتِيَتْ بِمِيلٍ، فَدَفَعَتْهُ إِلَيَّ وَحَمَلْتُهُ إِلَىٰ مَوْلَاتِي، فَكَحَّلْتُ بِهِ المَوْلُودَ فَعُوفِيَ، وَبَقِيَ عِنْدَنَا وَكُنَّا نَسْتَشْفِي بِهِ، ثُمَّ فَقَدْنَاهُ.

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبُزُرْجِيُّ: فَلَقِيتُ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ برهون الْبُرْسِيَّ، فَحَدَّثْتُهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ هَذَا الْهَاشِمِيِّ، فَقَالَ: قَدْ حَدَّثَنِي هَذَا الْهَاشِمِيُّ بِهَذِهِ الْحِكَايَةِ كَمَا ذَكَرْتَهَا حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ سَوَاءً مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ.

[47/469] حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقُمِّيُّ المَعْرُوفُ بِأَبِي عَلِيٍّ الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: كُنْتُ بِبُخَارَىٰ، فَدَفَعَ إِلَيَّ المَعْرُوفُ بِابْنِ جَاوَشِيرَ عَشَرَةَ سَبَائِكَ

ص: 257


1- في بعض النُّسَخ: (حاجب السلطان).
2- في بعض النُّسَخ: (فدخلت عليها وسألتها ذلك فقالت حكيمة...) إلخ.

ذَهَباً وَأَمَرَنِي أَنْ أُسَلِّمَهَا بِمَدِينَةِ السَّلَامِ إِلَىٰ الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ الْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ)، فَحَمَلْتُهَا مَعِي، فَلَمَّا بَلَغْتُ آمُّويَهْ(1) ضَاعَتْ مِنِّي سَبِيكَةٌ مِنْ تِلْكَ السَّبَائِكِ، وَلَمْ أَعْلَمْ بِذَلِكَ حَتَّىٰ دَخَلْتُ مَدِينَةَ السَّلَامِ، فَأَخْرَجْتُ السَّبَائِكَ لِأُسَلِّمَهَا، فَوَجَدْتُهَا قَدْ نَقَصَتْ وَاحِدَةٌ، فَاشْتَرَيْتُ سَبِيكَةً مَكَانَهَا بِوَزْنِهَا وَأَضَفْتُهَا إِلَىٰ التِّسْعِ السَّبَائِكِ.

ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَىٰ الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ الْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ)،وَوَضَعْتُ السَّبَائِكَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي: خُذْ تِلْكَ السَّبِيكَةَ الَّتِي اشْتَرَيْتَهَا - وَأَشَارَ إِلَيْهَا بِيَدِهِ -، وَقَالَ: إِنَّ السَّبِيكَةَ الَّتِي ضَيَّعْتَهَا قَدْ وَصَلَتْ إِلَيْنَا وَهُوَ ذَا هِيَ، ثُمَّ أَخْرَجَ إِلَيَّ تِلْكَ السَّبِيكَةَ الَّتِي كَانَتْ ضَاعَتْ مِنِّي بِآمُّويَهْ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهَا فَعَرَفْتُهَا(2).

قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ المَعْرُوفُ بِأَبِي عَلِيٍّ الْبَغْدَادِيُّ: وَرَأَيْتُ تِلْكَ السَّنَةَ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ امْرَأَةً، فَسَأَلَتْنِي عَنْ وَكِيلِ مَوْلَانَا (علیه السلام) مَنْ هُوَ؟ فَأَخْبَرَهَا بَعْضُ الْقُمِّيِّينَ أَنَّهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْحُسَيْنُ بْنُ رَوْحٍ، وَأَشَارَ إِلَيْهَا، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ وَأَنَا عِنْدَهُ، فَقَالَتْ لَهُ: أَيُّهَا الشَّيْخُ، أَيُّ شَيْءٍ مَعِي؟ فَقَالَ: مَا مَعَكِ فَأَلْقِيهِ فِي دِجْلَةَ ثُمَّ ائْتِينِي حَتَّىٰ أُخْبِرَكِ، قَالَ: فَذَهَبَتِ المَرْأَةُ وَحَمَلَتْ مَا كَانَ مَعَهَا فَأَلْقَتْهُ فِي دِجْلَةَ، ثُمَّ رَجَعَتْ وَدَخَلَتْ إِلَىٰ أَبِي الْقَاسِمِ الرَّوْحِيِّ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ)، فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ لِمَمْلُوكَةٍ لَهُ: أَخْرِجِي إِلَيَّ الْحُقَّ، فَأَخْرَجَتْ إِلَيْهِ حُقَّةً، فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: هَذِهِ الْحُقَّةُ الَّتِي كَانَتْ مَعَكِ وَرَمَيْتِ بِهَا فِي دِجْلَةَ، أُخْبِرُكِ بِمَا فِيهَا أَوْ تُخْبِرِينِي؟ فَقَالَتْ لَهُ: بَلْ أَخْبِرْنِي أَنْتَ، فَقَالَ: فِي هَذِهِ الْحُقَّةِ زَوْجُ سِوَارِ ذَهَبٍ، وَحَلْقَةٌ كَبِيرَةٌ فِيهَا جَوْهَرَةٌ، وَحَلْقَتَانِ صَغِيرَتَانِ فِيهِمَا جَوْهَرٌ، وَخَاتَمَانِ أَحَدُهُمَا فَيْرُوزَجٌ وَالْآخَرُ عَقِيقٌ. فَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا

ص: 258


1- ويقال: آمُّويه - بالفتح وتشديد الميم وسكون الواو وفتح الياء -، وهي آمل المعروف مدينة بطبرستان.
2- رواه ابن حمزة (رحمة الله) في الثاقب في المناقب (ص 601 و602/ ح 549/13)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1123 و1124/ ح 42).

ذَكَرَ لَمْ يُغَادِرْ مِنْهُ شَيْئاً. ثُمَّ فَتَحَ الْحُقَّةَ فَعَرَضَ عَلَيَّ مَا فِيهَا، فَنَظَرَتِ المَرْأَةُ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: هَذَا الَّذِي حَمَلْتُهُ بِعَيْنِهِ وَرَمَيْتُ بِهِ فِي دِجْلَةَ، فَغُشِيَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ المَرْأَةِ فَرَحاً بِمَا شَاهَدْنَاهُ مِنْ صِدْقِ الدَّلَالَةِ(1).ثُمَّ قَالَ الْحُسَيْنُ لِي بَعْدَ مَا حَدَّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ: أَشْهَدُ عِنْدَ اللهِ (عزوجل) يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا حَدَّثْتُ بِهِ أَنَّهُ كَمَا ذَكَرْتُهُ لَمْ أَزِدْ فِيهِ وَلَمْ أَنْقُصْ مِنْهُ، وَحَلَفَ بِالْأَئِمَّةِ الِاثْنَيْ عَشَرَ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِم) لَقَدْ صَدَقَ فِيمَا حَدَّثَ بِهِ وَمَا زَادَ فِيهِ وَمَا نَقَصَ مِنْهُ.

[48/470] حَدَّثَنَا أَبُو الْفَرَجِ مُحَمَّدُ بْنُ المُظَفَّرِ بْنِ نَفِيسٍ الْمِصْرِيُّ الْفَقِيهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الدَّاوُدِيُّ(2)، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي الْقَاسِمِ الْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ)، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ: مَا مَعْنَىٰ قَوْلِ الْعَبَّاسِ لِلنَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله): إِنَّ عَمَّكَ أَبَا طَالِبٍ قَدْ أَسْلَمَ بِحِسَابِ الْجُمَّلِ - وَعَقَدَ بِيَدِهِ ثَلَاثَةً وَسِتِّينَ(3) -؟ فَقَالَ: عَنَىٰ بِذَلِكَ إِلَهٌ أَحَدٌ جَوَادٌ.

وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَلِفَ وَاحِدٌ، وَاللَّامَ ثَلَاثُونَ، وَالْهَاءَ خَمْسَةٌ، وَالْأَلِفَ وَاحِدٌ، وَالْحَاءَ ثَمَانِيَةٌ، وَالدَّالَ أَرْبَعَةٌ، وَالْجِيمَ ثَلَاثَةٌ، وَالْوَاوَ سِتَّةٌ، وَالْأَلِفَ وَاحِدٌ، وَالدَّالَ أَرْبَعَةٌ، فَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَسِتُّونَ (4)(5).

ص: 259


1- رواه ابن حمزة (رحمة الله) في الثاقب في المناقب (ص 602 و603/ ح 550/14)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1125 و1126/ ح 43).
2- كذا، وهكذا في معاني الأخبار. وفي بعض النُّسَخ: (البروذاني).
3- راجع تفصيل ذلك في هامش معاني الأخبار (ص 285).
4- رواه المصنِّف (رحمة الله) في معاني الأخبار (ص 286/ باب معنىٰ إسلام أبي طالب.../ ح 2).
5- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 35/ ص 79): (بيان: لعلَّ المعنىٰ أنَّ أبا طالب أظهر إسلامه للنبيِّ (صلی الله علیه و آله) أو لغيره بحساب العقود بأنْ أظهر الألف أوَّلاً بما يدلُّ علىٰ الواحد ثمّ اللَّام بما يدلُّ علىٰ الثلاثين وهكذا، وذلك لأنَّه كان يتَّقي من قريش كما عرفت، وقيل: يحتمل أنْ يكون العاقد هو العبَّاس حين أخبر النبيّ (صلی الله علیه و آله) بذلك، فظهر علىٰ التقديرين أنَّ إظهار إسلامه كان بحساب الجُمَل، إذ بيان ذلك بالعقود لا يتمُّ إلَّا بكون كلِّ عدد ممَّا يدلُّ عليه العقود دالًّا علىٰ حرف من الحروف بذلك الحساب. وقد قيل في حلِّ أصل الخبر وجوه أُخَر، منها: أنَّه أشار بإصبعه المسبحة: (لا إله إلَّا الله، محمّد رسول الله)، فإنَّ عقد الخنصر والبنصر وعقد الإبهام علىٰ الوسطىٰ يدلُّ علىٰ الثلاث والستِّين علىٰ اصطلاح أهل العقود، وكأنَّ المراد بحساب الجُمَل هذا، والدليل علىٰ ما ذكرته ما ورد في رواية شعبة، عن قتادة، عن الحسن في خبر طويل ننقل منه موضع الحاجة، وهو أنَّه لمَّا حضرت أبا طالب الوفاة دعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبكىٰ وقال: يا محمّد، إنِّي أخرج من الدنيا وما لي غمٌّ إلَّا غمّك...»، إلىٰ أنْ قال (صلی الله علیه و آله): «يا عمّ، إنَّك تخاف عليٰ أذىٰ أعادي ولا تخاف علىٰ نفسك عذاب ربِّي؟!»، فضحك أبو طالب وقال: يا محمّد، دعوتني وكنت قدماً أميناً، وعقد بيده علىٰ ثلاث وستِّين: عقد الخنصر والبنصر وعقد الإبهام علىٰ إصبعه الوسطىٰ، وأشار بإصبعه المسبحة، يقول: ( لا إله إلَّا الله، محمّد رسول الله)، فقام عليٌّ (علیه السلام) وقال: «الله أكبر، والذي بعثك بالحقِّ نبيًّا لقد شفَّعك في عمِّك وهداه بك»، فقام جعفر وقال: لقد سدتنا في الجنَّة يا شيخي كما سدتنا في الدنيا، فلمَّا مات أبو طالب أنزل الله تعالىٰ: «يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ 56» [العنكبوت: 56]، رواه ابن شهرآشوب في المناقب. وهذا حلٌّ متين لكنَّه لم يُعهَد إطلاق الجُمَل علىٰ حساب العقود. ومنها: أنَّه أشار إلىٰ كلمتي (لا) و(إلَّا) والمراد كلمة التوحيد، فإنَّ العمدة فيها والأصل النفي والإثبات. ومنها: أنَّ أبا طالب وأبا عبد الله (علیه السلام) أمراً بالإخفاء اتِّقاء، فأشار بحساب العقود إلىٰ كلمة سبح من التسبيحة، وهي التغطية أي غط واستر فإنَّه من الأسرار. وهذا هو المروي عن شيخنا البهائي (طاب رمسه). ومنها: أنَّه إشارة إلىٰ أنَّه أسلم بثلاث وستِّين لغة، وعلىٰ هذا كان الظرف في مرفوعة محمّد بن عبد الله متعلِّقاً بالقول. ومنها: أنَّ المراد أنَّ أبا طالب علم نبوَّة نبيِّنا (صلی الله علیه و آله) قبل بعثته بالجفر، والمراد بسبب حساب مفردات الحروف بحساب الجُمَل. ومنها: أنَّه إشارة إلىٰ سنِّ أبي طالب حين أظهر الإسلام. ولا يخفىٰ ما في تلك الوجوه من التعسُّف والتكلُّف سوىٰ الوجهين الأوَّلين المؤيَّدين بالخبرين، والأوَّل منهما أوثق وأظهر، لأنَّ المظنون أنَّ الحسين بن روح لم يقل ذلك إلَّا بعد سماعه من الإمام (علیه السلام)).

[49/471] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّقَّاقُ وَالْحُسَيْنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ هِشَامٍ المُؤَدِّبُ وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْوَرَّاقُ (رضی الله عنهم)، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْأَسَدِيُّ (رضی اللهعنه)، قَالَ: كَانَ فِيمَا وَرَدَ عَلَيَّ مِنَ الشَّيْخِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) فِي جَوَابِ مَسَائِلي إِلَىٰ صَاحِبِ الزَّمَانِ (علیه السلام):

ص: 260

«أَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِنَ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا، فَلَئِنْ كَانَ كَمَا يَقُولُونَ: إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ وَتَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، فَمَا أَرْغَمَ أَنْفَ الشَّيْطَانِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ، فَصَلِّهَا وَأَرْغِمْ أَنْفَ الشَّيْطَانِ(1).

وَأَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الْوَقْفِ عَلَىٰ نَاحِيَتِنَا وَمَا يُجْعَلُ لَنَا ثُمَّ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ صَاحِبُهُ، فَكُلُّ مَا لَمْ يُسَلَّمْ فَصَاحِبُهُ فِيهِ بِالْخِيَارِ، وَكُلُّ مَا سُلِّمَ فَلَا خِيَارَ فِيهِ لِصَاحِبِهِ، احْتَاجَ إِلَيْهِ صَاحِبُهُ أَوْ لَمْ يَحْتَجْ، افْتَقَرَ إِلَيْهِ أَوِ اسْتَغْنَىٰ عَنْهُ.

وَأَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ مَنْ يَسْتَحِلُّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ أَمْوَالِنَا وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَهُ فِي مَالِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِنَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ مَلْعُونٌ وَنَحْنُ خُصَمَاؤُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله): المُسْتَحِلُّ مِنْ عِتْرَتِي مَا حَرَّمَ اللهُ مَلْعُونٌ عَلَىٰ لِسَانِي وَلِسَانِ كُلِّ نَبِيٍّ. فَمَنْ ظَلَمَنَا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الظَّالِمِينَ، وَكَانَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَىٰ: «أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَىٰ الظَّالِمِينَ 18» [هود: 18].

وَأَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ المَوْلُودِ الَّذِي تَنْبُتُ غُلْفَتُهُ بَعْدَ مَا يُخْتَنُ: هَلْ يُخْتَنُ مَرَّةً أُخْرَىٰ؟ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُقْطَعَ غُلْفَتُهُ، فَإِنَّ الْأَرْضَ تَضِجُّ إِلَىٰ اللهِ (عزوجل) مِنْ بَوْلِ الْأَغْلَفِ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً(2).وَأَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ المُصَلِّي وَالنَّارُ وَالصُّورَةُ وَالسِّرَاجُ بَيْنَ يَدَيْهِ: هَلْ تَجُوزُ صَلَاتُهُ؟ فَإِنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ قِبَلَكَ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَوْلَادِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ أَوْ عَبَدَةِ النِّيرَانِ أَنْ يُصَلِّيَ وَالنَّارُ وَالصُّورَةُ وَالسِّرَاجُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ وَالنِّيرَانِ.

ص: 261


1- اعلم أنَّ العامَّة لا يُجوِّزون الصلاة بعد فريضة الغداة إلىٰ طلوع الفجر، وبعد العصر إلىٰ المغرب، وزعموا أنَّ النبيَّ (صلی الله علیه و آله) نهىٰ عنها في هذين الوقتين. راجع تحقيق الكلام في هامش كتاب الخصال (ص 70).
2- الأغلف بالغين المعجمة، والأقلف بالقاف بمعنىٰ، وهو الصبيُّ الذي لم يُختَن.

وَأَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الضِّيَاعِ الَّتِي لِنَاحِيَتِنَا: هَلْ يَجُوزُ الْقِيَامُ بِعِمَارَتِهَا وَأَدَاءِ الْخَرَاجِ مِنْهَا وَصَرْفِ مَا يَفْضُلُ مِنْ دَخْلِهَا إِلَىٰ النَّاحِيَةِ احْتِسَاباً لِلْأَجْرِ وَتَقَرُّباً إِلَيْنَا(1)؟ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَكَيْفَ يَحِلُّ ذَلِكَ فِي مَالِنَا؟ مَنْ فَعَلَ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِنَا فَقَدِ اسْتَحَلَّ مِنَّا مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَكَلَ مِنْ أَمْوَالِنَا شَيْئاً فَإِنَّمَا يَأْكُلُ فِي بَطْنِهِ نَاراً وَسَيَصْلَىٰ سَعِيراً.

وَأَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الرَّجُلِ الَّذِي يَجْعَلُ لِنَاحِيَتِنَا ضَيْعَةً وَيُسَلِّمُهَا مِنْ قَيِّمٍ يَقُومُ بِهَا وَيَعْمُرُهَا وَيُؤَدِّي مِنْ دَخْلِهَا خَرَاجَهَا وَمَؤُونَتَهَا وَيَجْعَلُ مَا يَبْقَىٰ مِنَ الدَّخْلِ لِنَاحِيَتِنَا، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِمَنْ جَعَلَهُ صَاحِبُ الضَّيْعَةِ قَيِّماً عَلَيْهَا، إِنَّمَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ.

وَأَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الثِّمَارِ مِنْ أَمْوَالِنَا يَمُرُّ بِهَا المَارُّ فَيَتَنَاوَلُ مِنْهُ وَيَأْكُلُهُ: هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُ؟ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَكْلُهُ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ حَمْلُهُ»(2).

[50/472] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِيجَعْفَرٍ (علیه السلام): أَصْلَحَكَ اللهُ مَا أَيْسَرُ مَا يَدْخُلُ بِهِ الْعَبْدُ النَّارَ؟ قَالَ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ دِرْهَماً، وَنَحْنُ الْيَتِيمُ»(3).

قال مصنِّف هذا الكتاب (رضی الله عنه): معنىٰ اليتيم هو المنقطع القرين في هذا الموضع، فسُمِّي النبيُّ (صلی الله علیه و آله) بهذا المعنىٰ يتيماً، وكذلك كلُّ إمام بعده يتيم بهذا المعنىٰ، والآية في أكل أموال اليتامىٰ ظلماً فيهم نزلت، وجرت من بعدهم في سائر الأيتام، والدُّرَّة اليتيمة إنَّما سُمّيت يتيمة لأنَّها منقطعة القرين.

ص: 262


1- في بعض النُّسَخ: (إليكم).
2- رواه الطبرسي (رحمة الله) في الاحتجاج (ج 2/ ص 298 - 300).
3- رواه المصنِّف (رحمة الله) في من لا يحضره الفقيه (ج 2/ ص 41/ ح 1650)، والعيَّاشي (رحمة الله) في تفسيره (ج 1/ ص 225/ ح 48)، وابن بابويه (رحمة الله) في فقه الرضا (ص 293).

[51/473] حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْأَسَدِيُّ، عَنْ أَبِيهِ (رضی الله عنه)، قَالَ: وَرَدَ عَلَيَّ تَوْقِيعٌ مِنَ الشَّيْخِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْعَمْرِيِّ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) ابْتِدَاءً لَمْ يَتَقَدَّمْهُ سُؤَالٌ: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ عَلَىٰ مَنِ اسْتَحَلَّ مِنْ مَالِنَا دِرْهَماً»، قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْأَسَدِيُّ (رضی الله عنه): فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّ ذَلِكَ فِيمَنِ اسْتَحَلَّ مِنْ مَالِ النَّاحِيَةِ دِرْهَماً دُونَ مَنْ أَكَلَ مِنْهُ غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ لَهُ، وَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنَّ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ مَنِ اسْتَحَلَّ مُحَرَّماً، فَأَيُّ فَضْلٍ فِي ذَلِكَ لِلْحُجَّةِ (علیه السلام) عَلَىٰ غَيْرِهِ؟ قَالَ: فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً بِالْحَقِّ بَشِيراً لَقَدْ نَظَرْتُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي التَّوْقِيعِ فَوَجَدْتُهُ قَدِ انْقَلَبَ إِلَىٰ مَا وَقَعَ فِي نَفْسِي: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ عَلَىٰ مَنْ أَكَلَ مِنْ مَالِنَا دِرْهَماً حَرَاماً».

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيُّ: أَخْرَجَ إِلَيْنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِيالْحُسَيْنِ الْأَسَدِيُّ هَذَا التَّوْقِيعَ حَتَّىٰ نَظَرْنَا إِلَيْهِ وَقَرَأْنَاهُ (1).

[52/474] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِصَامٍ الْكُلَيْنِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ يَعْقُوبَ الْكُلَيْنِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ الْعَطَّارِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ بْنِ عُبَيْدٍ الْيَقْطِينِيِّ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَىٰ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهم السلام): رَجُلٌ جَعَلَ لَكَ - جَعَلَنِيَ اللهُ فِدَاكَ - شَيْئاً مِنْ مَالِهِ، ثُمَّ احْتَاجَ إِلَيْهِ، أَيَأْخُذُهُ لِنَفْسِهِ أَوْ يَبْعَثُ بِهِ إِلَيْكَ؟ قَالَ: «هُوَ بِالْخِيَارِ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ يَدِهِ، وَلَوْ وَصَلَ إِلَيْنَا لَرَأَيْنَا أَنْ نُوَاسِيَهُ بِهِ وَقَدِ احْتَاجَ إِلَيْهِ»(2)(3).

* * *

ص: 263


1- رواه الراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1118/ ح 33)، والطبرسي (رحمة الله) في الاحتجاج (ج 2/ ص 300).
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في من لا يحضره الفقيه (ج 4/ ص 232/ ح 5554).
3- لا مناسبة لهذا الحديث بالباب، لأنَّه منعقد لتوقيعات القائم (علیه السلام) فقط.

ص: 264

الباب السادس والأربعون:

ما جاء في التعمير

ص: 265

ص: 266

[1/475] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام)، قَالَ: «عَاشَ نُوحٌ (علیه السلام) أَلْفَيْ سَنَةٍ وَخَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ. مِنْهَا ثَمَانُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ سَنَةً قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، وَأَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً وَهُوَ فِي قَوْمِهِ يَدْعُوهُمْ، وَسَبْعُمِائَةِ عَامٍ بَعْدَ مَا نَزَلَ مِنَ السَّفِينَةِ وَنَضَبَ المَاءُ(1)، فَمَصَّرَ الْأَمْصَارَ وَأَسْكَنَ وُلْدَهُ الْبُلْدَانَ.

ثُمَّ إِنَّ مَلَكَ المَوْتِ (علیه السلام) جَاءَهُ وَهُوَ فِي الشَّمْسِ، فَقَالَ لَهُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ، فَرَدَّ الْجَوَابَ، فَقَالَ لَهُ: مَا جَاءَ بِكَ يَا مَلَكَ المَوْتِ؟ فَقَالَ: جِئْتُ لِأَقْبِضَ رُوحَكَ، فَقَالَ لَهُ: تَدَعُنِي أَخْرُجُ مِنَ الشَّمْسِ إِلَىٰ الظِّلِّ؟ فَقَالَ لَهُ: نَعَمْ، فَتَحَوَّلَ نُوحٌ (علیه السلام)، ثُمَّ قَالَ: يَا مَلَكَ المَوْتِ، كَأَنَّ مَا مَرَّ بِي مِنَ الدُّنْيَا مِثْلُ تَحَوُّلِي مِنَ الشَّمْسِ إِلَىٰ الظِّلِّ(2)، فَامْضِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ»، قَالَ: «فَقَبَضَ رُوحَهُ (علیه السلام)»(3).

[2/476] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ

ص: 267


1- أي غار.
2- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي (ج 12/ ص 401): (في القلَّة والنقصان وعدم الاعتداد به، وهذا من باب المبالغة في التعبير عن التعلُّق بالزائل، أو باعتبار أنَّ الزيادة والنقصان في الماضي أمر وهمي اعتباري. وفيه زجر لكلِّ أحد عن التمسُّك بالدنيا وإنْ رجا طول العمر، فكيف مع قصره).
3- رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 602 و603/ ح 836/7)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 8/ ص 284/ ح 429)، والفتَّال (رحمة الله) في روضة الواعظين (ص 445)، والطبرسي (رحمة الله) في مجمع البيان (ج 4/ ص 283)، والراوندي (رحمة الله) في قَصص الأنبياء (ص 91/ ح 80).

الْعَطَّارُ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أُرُومَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ ابْنُ جَنَاحٍ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «كَانَتْ أَعْمَارُ قَوْمِ نُوحٍ (علیه السلام) ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ، ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ».

[3/477] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ جَمِيعاً، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَىٰ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ التَّمِيمِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (علیهم السلام)، عَنْ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، قَالَ: «عَاشَ أَبُو الْبَشَرِ آدَمُ (علیه السلام) تِسْعَمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَعَاشَ نُوحٌ (علیه السلام) أَلْفَيْ سَنَةٍ وَأَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَعَاشَ إِبْرَاهِيمُ (علیه السلام) مِائَةً وَخَمْساً وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَعَاشَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (علیه السلام) مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَعَاشَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (علیه السلام) مِائَةً وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَعَاشَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَعَاشَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ (علیهما السلام) مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَعَاشَ مُوسَىٰ (علیه السلام) مِائَةً وَسِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَعَاشَ هَارُونُ (علیه السلام) مِائَةً وَثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَعَاشَ دَاوُدُ (علیه السلام) مِائَةَ سَنَةٍ مِنْهَا أَرْبَعُونَ سَنَةً مُلْكُهُ، وَعَاشَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ (علیهما السلام) سَبْعَمِائَةٍ وَاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً»(1).

[4/478] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ بَشَّارٍ الْقَزْوِينِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَرَجِ المُظَفَّرُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ الْبَزَّازُ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ الْعَسْكَرِيَّ (علیهما السلام) يَقُولُ: «إِنَّ ابْنِي هُوَ الْقَائِمُ مِنْ بَعْدِي، وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي فِيهِ سُنَنُ الْأَنْبِيَاءِ (علیهم السلام) بِالتَّعْمِيرِ وَالْغَيْبَةِ حَتَّىٰ تَقْسُوَ الْقُلُوبُ لِطُولِ الْأَمَدِ، فَلَا يَثْبُتَ عَلَىٰ الْقَوْلِ بِهِ إِلَّا مَنْ كَتَبَ اللهُ (عزوجل) فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُ بِرُوحٍ مِنْهُ».

[5/479] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ

ص: 268


1- رواه الراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 964 و965).

اللهِ الْكُوفِيُّ، عَنْ مُوسَىٰ بْنِ عِمْرَانَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَمِّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ النَّوْفَلِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ ابْنِ حُمْرَانَ، عَنْ أَبِيهِ حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَيِّدَ الْعَابِدِينَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (علیهما السلام) يَقُولُ: «فِي الْقَائِمِ سُنَّةٌ مِنْ نُوحٍ (علیه السلام)، وَهِيَ طُولُ الْعُمُرِ»(1).

[6/480] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام) أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثٍ يَذْكُرُ فِيهِ قِصَّةَ دَاوُدَ (علیه السلام): «إِنَّهُ خَرَجَ يَقْرَأُ الزَّبُورَ، وَكَانَ إِذَا قَرَأَ الزَّبُورَ لَا يَبْقَىٰ جَبَلٌ وَلَا حَجَرٌ وَلَا طَائِرٌ إِلَّا جَاوَبَتْهُ، فَانْتَهَىٰ إِلَىٰ جَبَلٍ، فَإِذَا عَلَىٰ ذَلِكَ الْجَبَلِ نَبِيٌّ عَابِدٌ يُقَالُ لَهُ: حِزْقِيلُ، فَلَمَّا سَمِعَ دَوِيَّ الْجِبَالِ وَأَصْوَاتَ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ عَلِمَ أَنَّهُ دَاوُدُ (علیه السلام)، فَقَالَ دَاوُدُ (علیه السلام): يَا حِزْقِيلُ، تَأْذَنُ لِي فَأَصْعَدَ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَا، فَبَكَىٰ دَاوُدُ، فَأَوْحَىٰ اللهُ (عزوجل) إِلَيْهِ: يَا حِزْقِيلُ، لَا تُعَيِّرْ دَاوُدَ وَسَلْنِي الْعَافِيَةَ»،قَالَ: «فَأَخَذَ حِزْقِيلُ بِيَدِ دَاوُدَ (علیه السلام) وَرَفَعَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ دَاوُدُ: يَا حِزْقِيلُ، هَلْ هَمَمْتَ بِخَطِيئَةٍ قَطُّ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ دَخَلَكَ الْعُجْبُ بِمَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ رَكَنْتَ إِلَىٰ الدُّنْيَا فَأَحْبَبْتَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ شَهَوَاتِهَا وَلَذَّاتِهَا؟ قَالَ: بَلَىٰ رُبَّمَا عَرَضَ ذَلِكَ بِقَلْبِي، قَالَ: فَمَا كُنْتَ تَصْنَعُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَدْخُلُ إِلَىٰ هَذَا الشِّعْبِ فَأَعْتَبِرُ بِمَا فِيهِ»، قَالَ: «فَدَخَلَ دَاوُدُ (علیه السلام) الشِّعْبَ، فَإِذَا سَرِيرٌ مِنْ حَدِيدٍ عَلَيْهِ جُمْجُمَةٌ بَالِيَةٌ وَعِظَامٌ فَانِيَةٌ، وَإِذَا لَوْحٌ مِنْ حَدِيدٍ فِيهِ كِتَابَةٌ، فَقَرَأَهَا دَاوُدُ (علیه السلام)، فَإِذَا فِيهَا: أَنَا أَرْوَىٰ بْنُ سَلَمٍ، مَلَكْتُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَبَنَيْتُ أَلْفَ مَدِينَةٍ، وَافْتَضَضْتُ أَلْفَ بِكْرٍ، فَكَانَ آخِرَ عُمُرِي أَنْ صَارَ التُّرَابُ فِرَاشِي، وَالْحِجَارَةُ وَِسَادَتِي، وَالدِّيدَانُ وَالْحَيَّاتُ جِيرَانِي، فَمَنْ رَآنِي فَلَا يَغْتَرَّ بِالدُّنْيَا»(2).

* * *

ص: 269


1- قد مرَّ بسند آخر تحت الرقم (219/4)، فراجع.
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 159 و160/ ح 157/8)، والقمِّي (رحمة الله) في تفسيره (ج 2/ ص 231 و232)، والفتَّال (رحمة الله) في روضة الواعظين (ص 442).

ص: 270

الباب السابع والأربعون:

حديث الدجَّال وما يتَّصل به من أمر القائم (علیه السلام)

ص: 271

ص: 272

[1/481] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَىٰ الْجَلُودِيُّ بِالْبَصْرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَيْسُ ابْنُ حَفْصٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَرْقَمَ، عَنْ أَبِي سَيَّارٍ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الضَّحَاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، عَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ، قَالَ: خَطَبَنَا أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام)، فَحَمِدَ اللهَ (عزوجل) وَأَثْنَىٰ عَلَيْهِ، وَصَلَّىٰ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، ثُمَّ قَالَ: «سَلُونِي أَيُّهَا النَّاسُ قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي - ثَلَاثاً -».

فَقَامَ إِلَيْهِ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مَتَىٰ يَخْرُجُ الدَّجَّالُ؟

فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ (علیه السلام): «اقْعُدْ فَقَدْ سَمِعَ اللهُ كَلَامَكَ وَعَلِمَ مَا أَرَدْتَ، وَاللهِ مَا المَسْؤُولُ عَنْهُ بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَلَكِنْ لِذَلِكَ عَلَامَاتٌ وَهَيَئَاتٌ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضاً كَحَذْوِ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِهَا».

قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ.

فَقَالَ (علیه السلام): «احْفَظْ فَإِنَّ عَلَامَةَ ذَلِكَ: إِذَا أَمَاتَ النَّاسُ الصَّلَاةَ، وَأَضَاعُوا الْأَمَانَةَ، وَاسْتَحَلُّوا الْكَذِبَ، وَأَكَلُوا الرِّبَا، وَأَخَذُوا الرِّشَا، وَشَيَّدُوا الْبُنْيَانَ، وَبَاعُوا الدِّينَ بِالدُّنْيَا، وَاسْتَعْمَلُوا السُّفَهَاءَ، وَشَاوَرُوا النِّسَاءَ، وَقَطَعُوا الْأَرْحَامَ، وَاتَّبَعُوا الْأَهْوَاءَ، وَاسْتَخَفُّوا بِالدِّمَاءِ، وَكَانَ الْحِلْمُ ضَعْفاً، وَالظُّلْمُفَخْراً، وَكَانَتِ الْأُمَرَاءُ فَجَرَةً، وَالْوُزَرَاءُ ظَلَمَةً، وَالْعُرَفَاءُ خَوَنَةً(1)، وَالْقُرَّاءُ فَسَقَةً، وَظَهَرَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ(2)، وَاسْتُعْلِنَ الْفُجُورُ وَقَوْلُ الْبُهْتَانِ وَالْإِثْمُ والطُّغْيَانُ، وَحُلِّيَتِ المَصَاحِفُ،

ص: 273


1- المراد بالعرفاء هنا جمع عريف، وهو العالم بالشيء، والذي يعرف أصحابه، والقيِّم بأمر القوم، والنقيب.
2- في بعض النُّسَخ: (شهادات الزور).

وَزُخْرِفَتِ المَسَاجِدُ، وَطُوِّلَتِ المَنَارَاتُ، وَأُكْرِمَتِ الْأَشْرَارُ، وَازْدَحَمَتِ الصُّفُوفُ، وَاخْتَلَفَتِ الْقُلُوبُ، وَنُقِضَتِ الْعُهُودُ، وَاقْتَرَبَ المَوْعُودُ، وَشَارَكَ النِّسَاءُ أَزْوَاجَهُنَّ فِي التِّجَارَةِ حِرْصاً عَلَىٰ الدُّنْيَا، وَعَلَتْ أَصْوَاتُ الْفُسَّاقِ وَاسْتُمِعَ مِنْهُمْ، وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ، وَاتُّقِيَ الْفَاجِرُ مَخَافَةَ شَرِّهِ، وَصُدِّقَ الْكَاذِبُ، وَاؤْتُمِنَ الْخَائِنُ، وَاتُّخِذَتِ الْقِيَانُ وَالمَعَازِفُ(1)، وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا، وَرَكِبَ ذَوَاتُ الْفُرُوجِ السُّرُوجَ، وَتَشَبَّهَ النِّسَاءُ بِالرِّجَالِ وَالرِّجَالُ بِالنِّسَاءِ، وَشَهِدَ الشَّاهِدُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْتَشْهَدَ، وَشَهِدَ الْآخَرُ قَضَاءً لِذِمَامٍ بِغَيْرِ حَقٍّ عَرَفَهُ، وَتُفُقِّهَ لِغَيْرِ الدِّينِ، وَآثَرُوا عَمَلَ الدُّنْيَا عَلَىٰ الْآخِرَةِ، وَلَبِسُوا جُلُودَ الضَّأْنِ عَلَىٰ قُلُوبِ الذِّئَابِ، وَقُلُوبُهُمْ أَنْتَنُ مِنَ الْجِيَفِ وَأَمَرُّ مِنَ الصَّبِرِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ الْوَحَا الْوَحَا(2)، ثُمَّ الْعَجَلَ الْعَجَلَ، خَيْرُ المَسَاكِنِ يَوْمَئِذٍ بَيْتُ المَقْدِسِ، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَىٰ النَّاسِ زَمَانٌ يَتَمَنَّىٰ أَحَدُهُمْ(3) أَنَّهُ مِنْ سُكَّانِهِ».

فَقَامَ إِلَيْهِ الْأَصْبَغُ بْنُ نُبَاتَةَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مَنِ الدَّجَّالُ؟فَقَالَ: «أَلَا إِنَّ الدَّجَّالَ صَائِدُ بْنُ الصَّيْدِ(4)، فَالشَّقِيُّ مَنْ صَدَّقَهُ، وَالسَّعِيدُ مَنْ كَذَّبَهُ، يَخْرُجُ مِنْ بَلْدَةٍ يُقَالُ لَهَا: أَصْفَهَانُ، مِنْ قَرْيَةٍ تُعْرَفُ بِالْيَهُودِيَّةِ، عَيْنُهُ الْيُمْنَىٰ مَمْسُوحَةٌ، وَالْعَيْنُ الْأُخْرَىٰ فِي جَبْهَتِهِ تُضِي ءُ كَأَنَّهَا كَوْكَبُ الصُّبْحِ، فِيهَا عَلَقَةٌ كَأَنَّهَا مَمْزُوجَةٌ بِالدَّمِ، بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ: كَافِرٌ، يَقْرَؤُهُ كُلُّ كَاتِبٍ وَأُمِّيٍّ، يَخُوضُ الْبِحَارَ وَتَسِيرُ مَعَهُ الشَّمْسُ، بَيْنَ يَدَيْهِ جَبَلٌ مِنْ دُخَانٍ، وَخَلْفَهُ جَبَلٌ أَبْيَضُ، يَرَىٰ النَّاسُ أَنَّهُ طَعَامٌ، يَخْرُجُ حِينَ يَخْرُجُ فِي قَحْطٍ شَدِيدٍ، تَحْتَهُ حِمَارٌ أَقْمَرُ، خُطْوَةُ حِمَارِهِ مِيْلٌ، تُطْوَىٰ لَهُ الْأَرْضُ مَنْهَلاً مَنْهَلاً، لَا يَمُرُّ بِمَاءٍ إِلَّا غَارَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، يُنَادِي بِأَعْلَىٰ صَوْتِهِ

ص: 274


1- جمع قنية: الإماء المغنِّيات.
2- الوحا الوحا: يعني السرعة السرعة، البدار البدار.
3- في بعض النُّسَخ: (يودُّ أحدهم).
4- في سُنَن الترمذي (ج 3/ ص 351): (ابن صيَّاد).

يَسْمَعُ مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالشَّيَاطِينِ، يَقُولُ: إِلَيَّ أَوْلِيَائِي(1)، «الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ 2 وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ 3» [الأعلىٰ: 2 و3]، «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ 24» [النازعات: 24]، وَكَذَبَ عَدُوُّ اللهِ، إِنَّهُ أَعْوَرُ، يَطْعَمُ الطَّعَامَ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ (عزوجل) لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَلَا يَطْعَمُ، وَلَا يَمْشِي، ولَا يَزُولُ، تَعَالَىٰ اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيراً. أَلَا وَإِنَّ أَكْثَرَ أَتْبَاعِهِ يَوْمَئِذٍ أَوْلَادُ الزِّنَا، وَأَصْحَابُ الطَّيَالِسَةِ الْخُضْرِ، يَقْتُلُهُ اللهُ (عزوجل) بِالشَّامِ عَلَىٰ عَقَبَةٍ تُعْرَفُ بِعَقَبَةِ أَفِيقٍ لِثَلَاثِ سَاعَاتٍ مَضَتْ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَلَىٰ يَدِ مَنْ يُصَلِّي المَسِيحُ عِيسَىٰ بْنُ مَرْيَمَ (علیهما السلام) خَلْفَهُ، أَلَا إِنَّ بَعْدَ ذَلِكَ الطَّامَّةَ الْكُبْرَىٰ».

قُلْنَا: وَمَا ذَلِكَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟

قَالَ: «خُرُوجُ دَابَّةٍ [مِنَ] الْأَرْضِ مِنْ عِنْدِ الصَّفَا مَعَهَا خَاتَمُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ وَعَصَا مُوسَىٰ (علیه السلام)، يَضَعُ الْخَاتَمَ عَلَىٰ وَجْهِ كُلِّ مُؤْمِنٍ فَيَنْطَبِعُفِيهِ: هَذَا مُؤْمِنٌ حَقًّا، وَيَضَعُهُ عَلَىٰ وَجْهِ كُلِّ كَافِرٍ فَيَنْكَتِبُ: هَذَا كَافِرٌ حَقًّا، حَتَّىٰ إِنَّ المُؤْمِنَ لَيُنَادِي: الْوَيْلُ لَكَ يَا كَافِرُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ يُنَادِي: طُوبَىٰ لَكَ يَا مُؤْمِنُ، وَدِدْتُ أَنِّي الْيَوْمَ كُنْتُ مِثْلَكَ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً. ثُمَّ تَرْفَعُ الدَّابَّةُ رَأْسَهَا فَيَرَاهَا مَنْ بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ (عزوجل)، وَذَلِكَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ تُرْفَعُ التَّوْبَةُ، فَلَا تَوْبَةٌ تُقْبَلُ وَلَا عَمَلٌ يُرْفَعُ، وَ«لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً» [الأنعام: 158]».

ثُمَّ قَالَ (علیه السلام): «لَا تَسْأَلُونِّي عَمَّا يَكُونُ بَعْدَ هَذَا، فَإِنَّهُ عَهْدٌ عَهِدَهُ إِلَيَّ حَبِيبِي رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) أَنْ لَا أُخْبِرَ بِهِ غَيْرَ عِتْرَتِي».

قَالَ النَّزَّالُ بْنُ سَبْرَةَ: فَقُلْتُ لِصَعْصَعَةَ بْنِ صُوحَانَ: يَا صَعْصَعَةُ، مَا عَنَىٰ

ص: 275


1- أي أسرعوا، أو إليَّ مرجعكم أوليائي، والأوَّل أنسب.

أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) بِهَذَا؟ فَقَالَ صَعْصَعَةُ: يَا ابْنَ سَبْرَةَ، إِنَّ الَّذِي يُصَلِّي خَلْفَهُ عِيسَىٰ بْنُ مَرْيَمَ (علیه السلام) هُوَ الثَّانِي عَشَرَ مِنَ الْعِتْرَةِ، التَّاسِعُ مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام)، وَهُوَ الشَّمْسُ الطَّالِعَةُ مِنْ مَغْرِبِهَا، يَظْهَرُ عِنْدَ الرُّكْنِ وَالمَقَامِ، فَيُطَهِّرُ الْأَرْضَ، وَيَضَعُ مِيزَانَ الْعَدْلِ، فَلَا يَظْلِمُ أَحَدٌ أَحَداً. فَأَخْبَرَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) أَنَّ حَبِيبَهُ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) عَهِدَ إِلَيْهِ أَنْ لَا يُخْبِرَ بِمَا يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرَ عِتْرَتِهِ الْأَئِمَّةِ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ)(1).

وحدَّثنا أبو بكر محمّد بن عمر بن عثمان بن الفضل العقيلي الفقيه، قال: حدَّثنا أبو عمر[و] محمّد بن جعفر بن المظفَّر وعبد الله بن محمّد بن عبد الرحمن الرازي وأبو سعيد عبد الله بن محمّد بن موسىٰ بن كعب الصيداني وأبو الحسن محمّد بن عبد الله بن صبيح الجوهري، قالوا: حدَّثناأبو يعلىٰ بن أحمد بن المثنَّىٰ الموصلي، عن عبد الأعلىٰ بن حمَّاد النرسي، عن أيُّوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بهذا الحديث مثله سواء.

[2/482] حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الْفَضْلِ الْعُقَيْليُّ الْفَقِيهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ مَشَايِخِهِ، عَنْ أَبِي يَعْلَىٰ المَوْصِلِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَىٰ بْنِ حَمَّادٍ النَّرْسِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) صَلَّىٰ ذَاتَ يَوْمٍ بِأَصْحَابِهِ الْفَجْرَ، ثُمَّ قَامَ مَعَ أَصْحَابِهِ حَتَّىٰ أَتَىٰ بَابَ دَارٍ بِالمَدِينَةِ، فَطَرَقَ الْبَابَ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: مَا تُرِيدُ يَا أَبَا الْقَاسِمِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «يَا أُمَّ عَبْدِ اللهِ، اسْتَأْذِنِي لِي عَلَىٰ عَبْدِ اللهِ»، فَقَالَتْ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَمَا تَصْنَعُ بِعَبْدِ اللهِ؟ فَوَاللهِ إِنَّهُ لَمَجْهُودٌ فِي عَقْلِهِ يُحْدِثُ فِي ثَوْبِهِ، وَإِنَّهُ لَيُرَاوِدُنِي عَلَىٰ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، فَقَالَ: «اسْتَأْذِنِي عَلَيْهِ»، فَقَالَتْ: أَعَلَىٰ ذِمَّتِكَ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، فَقَالَتْ: ادْخُلْ، فَدَخَلَ، فَإِذَا هُوَ فِي قَطِيفَةٍ لَهُ يُهَيْنِمُ فِيهَا(2)، فَقَالَتْ أُمُّهُ: اسْكُتْ وَاجْلِسْ هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ أَتَاكَ ،

ص: 276


1- رواه الراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1133 - 1137/ ح 53).
2- الهينمة: الصوت الخفي، والكلام الذي لا يُفهَم. وفي بعض النُّسَخ: (يُهمهم فيها).

فَسَكَتَ وَجَلَسَ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله): «مَا لَهَا لَعَنَهَا اللهُ لَوْ تَرَكْتَنِي لَأَخْبَرْتُكُمْ أَهُوَ هُوَ»، ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله): «مَا تَرَىٰ؟»، قَالَ: أَرَىٰ حَقًّا وَبَاطِلاً، وَأَرَىٰ عَرْشاً عَلَىٰ المَاءِ، فَقَالَ: «اشْهَدْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ»، فَقَالَ: بَلْ تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَمَا جَعَلَكَ اللهُ بِذَلِكَ أَحَقَّ مِنِّي.

فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي صَلَّىٰ (صلی الله علیه و آله) بِأَصْحَابِهِ الْفَجْرَ، ثُمَّ نَهَضَ فَنَهَضُوا مَعَهُ حَتَّىٰ طَرَقَ الْبَابَ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: ادْخُلْ، فَدَخَلَ، فَإِذَا هُوَ فِينَخْلَةٍ يُغَرِّدُ فِيهَا(1)، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: اسْكُتْ وَانْزِلْ هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ أَتَاكَ، فَسَكَتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله): «مَا لَهَا لَعَنَهَا اللهُ لَوْ تَرَكْتَنِي لَأَخْبَرْتُكُمْ أَهُوَ هُوَ».

فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ صَلَّىٰ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله) بِأَصْحَابِهِ الْفَجْرَ، ثُمَّ نَهَضَ وَنَهَضَ الْقَوْمُ مَعَهُ حَتَّىٰ أَتَىٰ ذَلِكَ المَكَانَ، فَإِذَا هُوَ فِي غَنَمٍ لَهُ يَنْعِقُ بِهَا، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: اسْكُتْ وَاجْلِسْ هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ أَتَاكَ، فَسَكَتَ وَجَلَسَ، وَقَدْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ آيَاتٌ مِنْ سُورَةِ الدُّخَانِ، فَقَرَأَهَا بِهِمُ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله) فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ، ثُمَّ قَالَ: «أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ؟»، فَقَالَ: بَلْ تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَمَا جَعَلَكَ اللهُ بِذَلِكَ أَحَقَّ مِنِّي.

فَقَالَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله): «إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئاً، فَمَا هُوَ؟»، فَقَالَ: الدُّخْ الدُّخْ(2)، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله): «اخْسَأْ فَإِنَّكَ لَنْ تَعْدُوَ أَجَلَكَ، وَلَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ، وَلَنْ تَنَالَ إِلَّا مَا قُدِّرَ لَكَ».

ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «أَيُّهَا النَّاسُ، مَا بَعَثَ اللهُ (عزوجل) نَبِيًّا إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ الدَّجَّالَ، وَإِنَّ اللهَ (عزوجل) قَدْ أَخَّرَهُ إِلَىٰ يَوْمِكُمْ هَذَا، فَمَهْمَا تَشَابَهَ عَلَيْكُمْ مِنْ أَمْرِهِ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، إِنَّهُ يَخْرُجُ عَلَىٰ حِمَارٍ عَرْضُ مَا بَيْنَ أُذُنَيْهِ مِيلٌ، يَخْرُجُ وَمَعَهُ جَنَّةٌ

ص: 277


1- الغرد - بالتحريك -: التطريب في الصوت والغناء.
2- يعني الدخان. وخبَّأت: أي سترت.

وَنَارٌ وَجَبَلٌ مِنْ خُبْزٍ وَنَهْرٌ مِنْ مَاءٍ، أَكْثَرُ أَتْبَاعِهِ الْيَهُودُ وَالنِّسَاءُ وَالْأَعْرَابُ، يَدْخُلُ آفَاقَ الْأَرْضِ كُلَّهَا إِلَّا مَكَّةَ وَلَابَتَيْهَا،وَالمَدِينَةَ وَلَابَتَيْهَا(1)»(2)(3).

ص: 278


1- لابتا المدينة: حرَّتاه، واللابة: الحرَّة، وهي الأرض ذات الحجارة السود التي قد ألبستها لكثرتها.
2- رواه الراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1138 - 1142/ ح 54).
3- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 52/ ص 197 - 199): (بيان: قولها: (إنَّه لمجهود في عقله) أي أصاب عقله جهد البلاء فهو مخبط، يقال: جهد المرض فلاناً هزله، وكأنَّ مراودته إيَّاها كان لإظهار دعوىٰ الأُلوهيَّة أو النبوَّة، ولذا كانت تأبىٰ عن أنْ يراه النبيُّ (صلی الله علیه و آله). والهينمة: الصوت الخفي. وفي أخبار العامَّة: يهمهم. قوله: «أهو هو» أي إمَّا تقولون بأُلوهيَّة إله أم لا. أقول: روىٰ الحسين بن مسعود الفرَّاء في شرح السُّنَّة بإسناده عن أبي سعيد الخدري أنَّ في هذه القصَّة قال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ما ترىٰ؟»، قال: أرىٰ عرشاً علىٰ الماء، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ترىٰ عرش إبليس علىٰ البحر»، فقال: «ما ترىٰ؟»، قال: أرىٰ صادقين وكاذباً أو كاذبين وصادقاً، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لُبِسَ عليه دعوه». ويقال: غرد الطائر كفرح وغرَّد تغريداً وأغرد وتغرَّد، رفع صوته وطرب به. قوله: «قد خبَّأت لك خباء» أي أضمرت لك شيئاً أخبرني به، قال الجزري: فيه أنَّه قال لابن صيَّاد: «خبَّأت لك خبيئاً»، قال : هو الدخُّ. الدخ بضمِّ الدال وفتحها الدخان، قال: عند رواق البيت يغشىٰ الدخان. وفسَّر الحديث أنَّه أراد بذلك «يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ 10» [الدخان: 10]. وقيل: إنَّ الدجال يقتله عيسىٰ بجبل الدخان، فيحتمل أنْ يكون المراد تعريضاً بقتله لأنَّ ابن الصيَّاد كان يظنُّ أنَّه الدجَّال. قوله (صلی الله علیه و آله): «اخسأ» يقال: خسأت الكلب أي طردته وأبعدته. قوله: «فإنَّك لن تعدو أجلك» قال في شرح السُّنَّة: قال الخطَّابي: يحتمل وجهين: أحدهما أنَّه لا يبلغ قدره أنْ يطالع الغيب من قِبَل الوحي الذي يُوحىٰ به إلىٰ الأنبياء، ولا من قِبَل الإلهام الذي يُلقىٰ في روع الأولياء، وإنَّما كان الذي جرىٰ علىٰ لسانه شيئاً ألقاه الشيطان حين سمع النبيَّ (صلی الله علیه و آله) يراجع به أصحابه قبل دخوله النخل. والآخر أنَّك لن تسبق قدر الله فيك وفي أمرك. وقال أبو سليمان: والذي عندي أنَّ هذه القصَّة إنَّما جرت أيَّام مهادنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) اليهود وحلفاءهم، وكان ابن الصيَّاد منهم أو دخيلاً في جملتهم، وكان يبلغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) خبره وما يدَّعيه من الكهانة، فامتحنه بذلك، فلمَّا كلَّمه علم أنَّه مبطل، وأنَّه من جملة السحرة أو الكهنة أو ممَّن يأتيه رئي الجنِّ أو يتعاهده شيطان فيُلقي علىٰ لسانه بعض ما يتكلَّم به، فلما سمع منه قوله: (الدخّ) زبره وقال: «اخسأ فلن تعدو قدرك»، يريد أنَّ ذلك شيء ألقاه إليه الشيطان، وليس ذلك من قِبَل الوحي وإنَّما كانت له تارات يصيب في بعضها ويخطئ في بعضها، وذلك معنىٰ قوله: (يأتيني صادق وكاذب)، فقال له عند ذلك: «خلط عليك». والجملة من أمره أنَّه كان فتنة قد امتحن الله به عباده، «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» [الأنفال: 42]، وقد افتتن قوم موسىٰ في زمانه بالعجل فافتتن به قوم وأهلكوا، ونجا من هداه الله وعصمه، انتهىٰ كلامه. أقول: اختلفت العامَّة في أنَّ ابن الصيَّاد هل هو الدجَّال أو غيره، فذهب جماعة منهم إلىٰ أنَّه غيره، لما روي أنَّه تاب عن ذلك، ومات بالمدينة، وكشفوا عن وجهه حتَّىٰ رأوه الناس ميِّتاً، ورووا عن أبي سعيد الخدري أيضاً ما يدلُّ علىٰ أنَّه ليس بدجَّال. وذهب جماعة إلىٰ أنَّه هو الدجَّال، رووه عن ابن عمر وجابر الأنصاري).

قال مصنَّف هذا الكتاب (رضی الله عنه): إنَّ أهل العناد والجحود يُصدِّقون بمثل هذا الخبر ويروونه في الدجَّال وغيبته وطول بقائه المدَّة الطويلة وخروجه في آخر الزمان، ولا يُصدِّقون بأمر القائم (علیه السلام) وأنَّه يغيب مدَّة طويلة ثمّ يظهر فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً، مع نصِّ النبيِّ (صلی الله علیه و آله) والأئمَّة (علیهم السلام) بعده عليه باسمه وغيبته ونسبه وإخبارهم بطول غيبته، إرادةً لإطفاء نور الله (عزوجل) وإبطالاً لأمر وليِّ الله، ويأبىٰ الله إلَّا أنْ يُتِمَّ نوره ولو كره المشركون، وأكثر ما يحتجُّون به في دفعهم لأمر الحجة (علیه السلام) أنَّهم يقولون: لم نرو هذه الأخبار التي تروونها في شأنه ولا نعرفها.

وهكذا يقول من يجحد نبوَّة نبيِّنا (صلی الله علیه و آله) من الملحدين والبراهمة واليهود والنصارىٰ والمجوس أنَّه ما صحَّ عندنا شيء ممَّا تروونه من معجزاته ودلائله ولا نعرفها، فنعتقد ببطلان أمره لهذه الجهة، ومتىٰلزمنا ما يقولون لزمهم ما تقوله هذه الطوائف، وهم أكثر عدداً منهم.

ويقولون أيضاً: ليس في موجب عقولنا أنْ يعمر أحد في زماننا هذا عمراً يتجاوز عمر أهل الزمان، فقد تجاوز عمر صاحبكم علىٰ زعمكم عمر أهل الزمان.

فنقول لهم: أتُصدِّقون علىٰ أنَّ الدجَّال في الغيبة يجوز أنْ يعمر عمراً يتجاوز

ص: 279

عمر أهل الزمان، وكذلك إبليس اللعين، ولا تُصدِّقون بمثل ذلك لقائم آل محمّد (علیهم السلام) مع النصوص الواردة فيه بالغيبة وطول العمر والظهور بعد ذلك للقيام بأمر الله (عزوجل).

وما روي في ذلك من الأخبار التي قد ذكرتها في هذا الكتاب، ومع ما صحَّ عَنِ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله) إِذْ قَالَ: «كُلُّ مَا كَانَ فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مِثْلُهُ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ وَالْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ».

وقد كان فيمن مضىٰ من أنبياء الله (عزوجل) وحُجَجه (علیهم السلام) معمَّرون، أمَّا نوح (علیه السلام) فإنَّه عاش ألفي سنة وخمسمائة سنة، ونطق القرآن بأنَّه لبث في قومه ألف سنة إلَّا خمسين عاماً.

وقد روي في الخبر الذي قد أسندته في هذا الكتاب أنَّ في القائم (علیه السلام) سُنَّة من نوح (علیه السلام)، وهي طول العمر، فكيف يُدفَع أمره ولا يُدفَع ما يشبهه من الأُمور التي ليس شيء منها في موجب العقول؟ بل لزم الإقرار بها، لأنَّها رُويت عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله).

وهكذا يلزم الإقرار بالقائم (علیه السلام) من طريق السمع، وفي موجب أيِّ عقل من العقول أنَّه يجوز أنْ يلبث أصحاب الكهف فِي كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً؟ هل وقع التصديق بذلك إلَّا من طريق السمع؟ فلِمَ لا يقع التصديق بأمر القائم (علیه السلام) أيضاً من طريق السمع؟ وكيفيُصدِّقون ما يرد من الأخبار عن وهب بن المنبه وعن كعب الأحبار في المحالات التي لا يصحُّ شيء منها في قول الرسول (صلی الله علیه و آله) ولا في موجب العقول، ولا يُصدِّقون بما يرد عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله) والأئمَّة (علیهم السلام) في القائم وغيبته وظهوره بعد شكِّ أكثر الناس في أمره وارتدادهم عن القول به كما تنطق به الآثار الصحيحة عنهم (علیهم السلام)؟ هل هذا إلَّا مكابرة في دفع الحقِّ وجحوده؟

وكيف لا يقولون: إنَّه لمَّا كان في الزمان غير محتمل للتعمير وجب أنْ تجري

ص: 280

سُنَّة الأوَّلين بالتعمير في أشهر الأجناس تصديقاً لقول صاحب الشريعة (صلی الله علیه و آله)؟ ولا جنس أشهر من جنس القائم (علیه السلام)، لأنَّه مذكور في الشرق والغرب علىٰ ألسنة المقرِّين به وألسنة المنكرين له، ومتىٰ بطل وقوع الغيبة بالقائم الثاني عشر من الأئمَّة (علیهم السلام) مع الروايات الصحيحة عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله) أنَّه أخبر بوقوعها به (علیه السلام) بطلت نبوَّته، لأنَّه يكون قد أخبر بوقوع الغيبة بمن لم يقع به، ومتىٰ صحَّ كذبه في شيء لم يكن نبيًّا، وكيف يصدق (علیه السلام) فيما أخبر به في أمر عمَّار بن ياسر (رضی الله عنه) أنَّه تقتله الفئة الباغية، وفي أمير المؤمنين (علیه السلام) أنَّه تخضب لحيته من دم رأسه، وفي الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام) أنَّه مقتول بالسمِّ، وفي الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) أنَّه مقتول بالسيف، ولا يصدق فيما أخبر به من أمر القائم ووقوع الغيبة به والتعيين عليه(1) باسمه ونسبه؟! بلىٰ هو (علیه السلام) صادق في جميع أقواله، مصيب في جميع أحواله، ولا يصحُّ إيمان عبد حتَّىٰ لا يجد في نفسه حرجاً ممَّا قضىٰ ويُسلِّم له في جميع الأُمور تسليماً، ولايخالطه شكٌّ ولا ارتياب، وهذا هو الإسلام، والإسلام هو الاستسلام والانقياد، «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ 85» [آل عمران: 85].

ومن أعجب العجائب أنَّ مُخَالِفِينَا يَرْوُونَ أَنَّ عِيسَىٰ بْنَ مَرْيَمَ (علیه السلام) مَرَّ بِأَرْضِ كَرْبَلَاءَ، فَرَأَىٰ عِدَّةً مِنَ الظِّبَاءِ هُنَاكَ مُجْتَمِعَةً، فَأَقْبَلَتْ إِلَيْهِ وهِيَ تَبْكِي، وَأَنَّهُ جَلَسَ وَجَلَسَ الْحَوَارِيُّونَ، فَبَكَىٰ وَبَكَىٰ الْحَوَارِيُّونَ، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ لِمَ جَلَسَ وَلِمَ بَكَىٰ، فَقَالُوا: يَا رُوحَ اللهِ وَكَلِمَتَهُ، مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَتَعْلَمُونَ أَيُّ أَرْضٍ هَذِهِ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: هَذِهِ أَرْضٌ يُقْتَلُ فِيهَا فَرْخُ الرَّسُولِ أَحْمَدُ، وَفَرْخُ الْحُرَّةِ الطَّاهِرَةِ(2) الْبَتُولِ شَبِيهَةِ أُمِّي، وَيُلْحَدُ فِيهَا، هِيَ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، لِأَنَّهَا طِينَةُ الْفَرْخِ

ص: 281


1- في بعض النُّسَخ: (والنصّ عليه).
2- في بعض النُّسَخ: (الخيرة الطاهرة).

المُسْتَشْهَدِ، وَهَكَذَا تَكُونُ طِينَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَوْلَادُ الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذِهِ الظِّبَاءُ تُكَلِّمُنِي وَتَقُولُ: إِنَّهَا تَرْعَىٰ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ شَوْقاً إِلَىٰ تُرْبَةِ الْفَرْخِ المُسْتَشْهَدِ المُبَارَكِ، وَزَعَمَتْ أَنَّهَا آمِنَةً فِي هَذِهِ الْأَرْضِ، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَىٰ بَعْرِ تِلْكَ الظِّبَاءِ، فَشَمَّهَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَبْقِهَا أَبَداً حَتَّىٰ يَشَمَّهَا أَبُوهُ، فَيَكُونَ لَهُ عَزَاءً وَسَلْوَةً، وَإِنَّهَا بَقِيَتْ إِلَىٰ أَيَّامِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) حَتَّىٰ شَمَّهَا وَبَكَىٰ وَأَخْبَرَ بِقِصَّتِهَا لَمَّا مَرَّ بِكَرْبَلَاءَ.

فيُصدِّقون بأنَّ بعر تلك الظباء يبقىٰ زيادةً علىٰ خمسمائة سنة لم تُغيِّرها الأمطار والرياح ومرور الأيَّام والليالي والسنين عليه، ولا يُصدِّقون بأنَّ القائم من آل محمّد (علیهم السلام) يبقىٰ حتَّىٰ يخرج بالسيف فيبير أعداء الله (عزوجل) ويُظهِر دين الله. مع الأخبار الواردة عن النبيِّ والأئمَّة (صلوات الله عليهم) بالنصِّ عليه باسمه ونسبه وغيبته المدَّة الطويلة، وجري سُنَن الأوَّلين فيه بالتعمير، هل هذا إلَّا عناد وجحود للحقِّ؟ [نعوذ بالله منالخذلان].

* * *

ص: 282

الباب الثامن والأربعون:

حديث الظباء بأرض نينوى في سياق هذا الحديث على جهته ولفظه

ص: 283

ص: 284

[1/483] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْقَطَّانِ - وَكَانَ شَيْخاً لِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ بِبَلَدِ الرَّيِّ يُعْرَفُ بِأَبِي عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ -، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَىٰ بْنِ زَكَرِيَّا الْقَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا تَمِيمُ بْنُ بُهْلُولٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنِ الْحُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) فِي خَرْجَتِهِ إِلَىٰ صِفِّينَ، فَلَمَّا نَزَلَ بِنَيْنَوَىٰ وَهُوَ شَطُّ الْفُرَاتِ قَالَ بِأَعْلَىٰ صَوْتِهِ: «يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَتَعْرِفُ هَذَا المَوْضِعَ؟»، قَالَ: قُلْتُ: مَا أَعْرِفُهُ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: «لَوْ عَرَفْتَهُ كَمَعْرِفَتِي لَمْ تَكُنْ تَجُوزُهُ حَتَّىٰ تَبْكِيَ كَبُكَائِي»، قَالَ: فَبَكَىٰ طَوِيلاً حَتَّىٰ اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ(1) وَسَالَتِ الدُّمُوعُ عَلَىٰ صَدْرِهِ، وَبَكَيْنَا مَعَهُ وَهُوَ يَقُولُ: «أَوِّهْ أَوِّهْ، مَا لِي وَلِآلِ أَبِي سُفْيَانَ؟ مَا لِي وَلِآلِ حَرْبٍ حِزْبِ الشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَاءِ الْكُفْرِ؟ صَبْراً يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، فَقَدْ لَقِيَ أَبُوكَ مِثْلَ الَّذِي تَلْقَىٰ مِنْهُمْ»، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ وُضُوءَ الصَّلَاةِ، فَصَلَّىٰ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يُصَلِّيَ.

ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ كَلَامِهِ الْأَوَّلِ إِلَّا أَنَّهُ نَعَسَ عِنْدَ انْقِضَاءِ صَلَاتِهِ سَاعَةً، ثُمَّ انْتَبَهَ، فَقَالَ: «يَا ابْنَ عَبَّاسٍ»، فَقُلْتُ: هَا أَنَا ذَا، فَقَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَا رَأَيْتُ فِي مَنَامِي آنِفاً عِنْدَ رَقْدَتِي؟»، فَقُلْتُ: نَامَتْ عَيْنَاكَ وَرَأَيْتَ خَيْراً يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، قَالَ: «رَأَيْتُ كَأَنِّي بِرِجَالٍ بِيضٍ قَدْ نَزَلُوا مِنَ السَّمَاءِ مَعَهُمْ أَعْلَامٌ بِيضٌ، قَدْ تَقَلَّدُوا سُيُوفَهُمْ وَهِيَ بِيضٌ تَلْمَعُ، وَقَدْ خَطُّوا حَوْلَ هَذِهِ الْأَرْضِخَطَّةً، ثُمَّ رَأَيْتُ هَذِهِ النَّخِيلَ قَدْ ضَرَبَتْ بِأَغْصَانِهَا إِلَىٰ الْأَرْضِ، فَرَأَيْتُهَا تَضْطَرِبُ بِدَمٍ عَبِيطٍ، وَكَأَنِّي بِالْحُسَيْنِ نَجْلِي(2) وَفَرْخِي

ص: 285


1- اخضلَّت لحيته: أي ابتلَّت بالدموع.
2- في بعض النُّسَخ: (سخلي).

وَمُضْغَتِي وَمُخِّي قَدْ غَرِقَ فِيهِ، يَسْتَغِيثُ فَلَا يُغَاثُ، وَكَأَنَّ الرِّجَالَ الْبِيضَ قَدْ نَزَلُوا مِنَ السَّمَاءِ يُنَادُونَهُ وَيَقُولُونَ: صَبْراً آلَ الرَّسُولِ فَإِنَّكُمْ تُقْتَلُونَ عَلَىٰ أَيْدِي شِرَارِ النَّاسِ، وَهَذِهِ الْجَنَّةُ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ إِلَيْكَ مُشْتَاقَةٌ، ثُمَّ يُعَزُّونَنِي وَيَقُولُونَ: يَا أَبَا الْحَسَنِ، أَبْشِرْ فَقَدْ أَقَرَّ اللهُ عَيْنَكَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ انْتَبَهْتُ.

هَكَذَا وَالَّذِي نَفْسُ عَلِيٍّ بِيَدِهِ لَقَدْ حَدَّثَنِي الصَّادِقُ المُصَدَّقُ أَبُو الْقَاسِمِ (صلی الله علیه و آله)، أَنِّي سَأَرَاهَا فِي خُرُوجِي إِلَىٰ أَهْلِ الْبَغْيِ عَلَيْنَا، وَهَذِهِ أَرْضُ كَرْبٍ وَبَلَاءٍ، يُدْفَنُ فِيهَا الْحُسَيْنُ وَسَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً كُلُّهُمْ مِنْ وُلْدِي وَوُلْدِ فَاطِمَةَ J، وَإِنَّهَا لَفِي السَّمَاوَاتِ مَعْرُوفَةٌ، تُذْكَرُ أَرْضُ كَرْبٍ وَبَلَاءٍ كَمَا تُذْكَرُ بُقْعَةُ الْحَرَمَيْنِ وَبُقْعَةُ بَيْتِ المَقْدِسِ»، ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، اطْلُبْ لِي حَوْلَهَا بَعْرَ الظِّبَاءِ، فَوَاللهِ مَا كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْتُ قَطُّ، وَهِيَ مُصْفَرَّةٌ لَوْنُهَا لَوْنُ الزَّعْفَرَانِ».

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَطَلَبْتُهَا، فَوَجَدْتُهَا مُجْتَمِعَةً، فَنَادَيْتُهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، قَدْ أَصَبْتُهَا عَلَىٰ الصِّفَةِ الَّتِي وَصَفْتَهَا لِي، فَقَالَ عَلِيٌّ (علیه السلام): «صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ»، ثُمَّ قَامَ يُهَرْوِلُ إِلَيْهَا، فَحَمَلَهَا وَشَمَّهَا، وَقَالَ: «هِيَ هِيَ بِعَيْنِهَا، تَعْلَمُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ مَا هَذِهِ الْأَبْعَارُ؟ هَذِهِ قَدْ شَمَّهَا عِيسَىٰ بْنُ مَرْيَمَ (علیه السلام)، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَرَّ بِهَا وَمَعَهُ الْحَوَارِيُّونَ، فَرَأَىٰ هَذِهِ الظِّبَاءَ مُجْتَمِعَةً، فَأَقْبَلَتْ إِلَيْهِ الظِّبَاءُ وَهِيَ تَبْكِي، فَجَلَسَ عِيسَىٰ (علیه السلام) وَجَلَسَ الْحَوَارِيُّونَ، فَبَكَىٰ وَبَكَىٰ الْحَوَارِيُّونَ وَهُمْ لَا يَدْرُونَ لِمَ جَلَسَ وَلِمَ بَكَىٰ،فَقَالُوا: يَا رُوحَ اللهِ وَكَلِمَتَهُ، مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَتَعْلَمُونَ أَيُّ أَرْضٍ هَذِهِ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: هَذِهِ أَرْضٌ يُقْتَلُ فِيهَا فَرْخُ الرَّسُولِ أَحْمَدَ وَفَرْخُ الْحُرَّةِ الطَّاهِرَةِ(1) الْبَتُولِ شَبِيهَةِ أُمِّي، وَيُلْحَدُ فِيهَا، وَهِيَ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَهِيَ طِينَةُ الْفَرْخِ المُسْتَشْهَدِ، وَهَكَذَا تَكُونُ طِينَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ، فَهَذِهِ الظِّبَاءُ تُكَلِّمُنِي وَتَقُولُ: إِنَّهَا تَرْعَىٰ فِي هَذِهِ

ص: 286


1- في بعض النُّسَخ: (الخيرة الطاهرة).

الْأَرْضِ شَوْقاً إِلَىٰ تُرْبَةِ الْفَرْخِ المُبَارَكِ، وَزَعَمَتْ أَنَّهَا آمِنَةٌ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَىٰ هَذِهِ الصِّيرَانِ(1) فَشَمَّهَا، فَقَالَ: هَذِهِ بَعْرُ الظِّبَاءِ عَلَىٰ هَذِهِ الطِّيبِ لِمَكَانِ حَشِيشِهَا، اللَّهُمَّ أَبْقِهَا أَبَداً حَتَّىٰ يَشَمَّهَا أَبُوهُ فَتَكُونَ لَهُ عَزَاءً وَسَلْوَةً»، قَالَ: «فَبَقِيَتْ إِلَىٰ يَوْمِ النَّاسِ هَذَا وَقَدِ اصْفَرَّتْ لِطُولِ زَمَنِهَا، هَذِهِ أَرْضُ كَرْبٍ وَبَلَاءٍ».

وَقَالَ بِأَعْلَىٰ صَوْتِهِ: «يَا رَبَّ عِيسَىٰ بْنِ مَرْيَمَ، لَا تُبَارِكْ فِي قَتَلَتِهِ، وَالْحَامِلِ عَلَيْهِ، وَالمُعِينِ عَلَيْهِ، وَالْخَاذِلِ لَهُ».

ثُمَّ بَكَىٰ بُكَاءً طَوِيلاً وَبَكَيْنَا مَعَهُ حَتَّىٰ سَقَطَ لِوَجْهِهِ، وَغُشِيَ عَلَيْهِ طَوِيلاً، ثُمَّ أَفَاقَ، فَأَخَذَ الْبَعْرَ فَصَرَّهَا فِي رِدَائِهِ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَصُرَّهَا كَذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: «يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، إِذَا رَأَيْتَهَا تَنْفَجِرُ دَماً عَبِيطاً فَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللهِ قَدْ قُتِلَ وَدُفِنَ بِهَا».

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَوَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَحْفَظُهَا أَكْثَرَ مِنْ حِفْظِي لِبَعْضِ مَا افْتَرَضَ اللهُ عَلَيَّ، وَأَنَا لَا أَحُلُّهَا مِنْ طَرَفِ كُمِّي، فَبَيْنَا أَنَا فِي الْبَيْتِ نَائِمٌ إِذِ انْتَبَهْتُ، فَإِذَا هِيَ تَسِيلُ دَماً عَبِيطاً، وَكَانَ كُمِّي قَدِ امْتَلَأَتْ دَماً عَبِيطاً، فَجَلَسْتُوَأَنَا أَبْكِي وَقُلْتُ: قُتِلَ وَاللهِ الْحُسَيْنُ، وَاللهِ مَا كَذَبَنِي عَلِيٌّ قَطُّ فِي حَدِيثٍ حَدَّثَنِي، وَلَا أَخْبَرَنِي بِشَيْءٍ قَطُّ أَنَّهُ يَكُونُ إِلَّا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) كَانَ يُخْبِرُهُ بِأَشْيَاءَ لَا يُخْبِرُ بِهَا غَيْرَهُ، فَفَزِعْتُ وَخَرَجْتُ، وَذَلِكَ [كَانَ] عِنْدَ الْفَجْرِ، فَرَأَيْتُ وَاللهِ المَدِينَةَ كَأَنَّهَا ضَبَابٌ(2) لَا يَسْتَبِينُ فِيهَا أَثَرُ عَيْنٍ، ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَرَأَيْتُ كَأَنَّهَا كَاسِفَةٌ، وَرَأَيْتُ كَأَنَّ حِيطَانَ المَدِينَةِ عَلَيْهَا دَمٌ عَبِيطٌ، فَجَلَسْتُ وَأَنَا بَاكٍ وَقُلْتُ: قُتِلَ وَاللهِ الْحُسَيْنُ، فَسَمِعْتُ صَوْتاً مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ وَهُوَ يَقُولُ:

ص: 287


1- جمع الصوار - ككتاب - وهو القطيع من البعر أو المسك. وقال في القاموس المحيط (ج 2/ ص 73): (الصور: النخل الصغار. والصيران: المجتمع). والمراد بالصيران هنا المجتمعة من أبعار الظباء.
2- اليوم صار ذا ضباب - بالفتح -: أي ندىٰ كالغيم أو سحاب رقيق كالدخان.

اصْبِرُوا آلَ الرَّسُولِ *** قُتِلَ الْفَرْخُ النُّحُولُ(1)

نَزَلَ الرُّوحُ الْأَمِينُ *** بِبُكَاءٍ وَعَوِيلٍ

ثُمَّ بَكَىٰ بِأَعْلَىٰ صَوْتِهِ وَبَكَيْتُ، وَأَثْبَتُّ عِنْدِي تِلْكَ السَّاعَةَ، وَكَانَ شَهْرُ المُحَرَّمِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْهُ، فَوَجَدْتُهُ يَوْمَ وَرَدَ عَلَيْنَا خَبَرُهُ وَتَارِيخُهُ كَذَلِكَ، فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ، فَقَالُوا: وَاللهِ لَقَدْ سَمِعْنَا مَا سَمِعْتَ وَنَحْنُ فِي المَعْرَكَةِ لَا نَدْرِي مَا هُوَ، فَكُنَّا نَرَىٰ أَنَّهُ الْخَضِرُ صَلَوَاتُ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ الْحُسَيْنِ، وَلَعَنَ اللهُ قَاتِلَهُ وَالمُشَيِّعَ عَلَيْهِ (2).

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ حَبَابَةَ الْوَالِبِيَّةَ لَقِيَتْ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) وَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ (علیهم السلام)، وَأَنَّهَا بَقِيَتْ إِلَىٰ أَيَّامِ الرِّضَا (علیه السلام).

فلم يُنكر من أمرها طول العمر، فكيف يُنكر القائم (علیه السلام)؟

* * *

ص: 288


1- النحول: الهزال. وفي بعض النُّسَخ: (المحول). ولعلَّ المراد العطشان، لأنَّ المحلُّ: انقطاع المطر ويبس الأرض من الكلاء.
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 694 - 696/ ح 951/5).

الباب التاسع والأربعون:

في سياق حديث حبابة الوالبيَّة

ص: 289

ص: 290

[1/484] مَا حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الدَّقَّاقُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ قَاسِمٍ الْعِجْلِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَىٰ المَعْرُوفِ بِبُرْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خُدَاهِيٍّ(1)، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ عُمَرَ الْخَثْعَمِيِّ، عَنْ حَبَابَةَ الْوَالِبِيَّةِ، قَالَتْ: رَأَيْتُ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) فِي شُرْطَةِ الْخَمِيسِ وَمَعَهُ دِرَّةٌ يَضْرِبُ بِهَا بَيَّاعَ الْجِرِّيِّ وَالمَارْمَاهِي وَالزِّمَّارِ وَالطَّافِي، وَيَقُولُ لَهُمْ: «يَا بَيَّاعِي مُسُوخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَجُنْدَ بَنِي مَرْوَانَ»، فَقَامَ إِلَيْهِ فُرَاتُ بْنُ الْأَحْنَفِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، فَمَا جُنْدُ بَنِي مَرْوَانَ؟ [قَالَتْ]: فَقَالَ لَهُ: «أَقْوَامٌ حَلَقُوا اللِّحَىٰ، وَفَتَلُوا الشَّوَارِبَ»، فَلَمْ أَرَ نَاطِقاً أَحْسَنَ نُطْقاً مِنْهُ، ثُمَّ اتَّبَعْتُهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَقْفُو أَثَرَهُ حَتَّىٰ قَعَدَ فِي رَحَبَةِ المَسْجِدِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مَا دَلَالَةُ الْإِمَامَةِ رَحِمَكَ اللهُ؟ فَقَالَ لِي: «ايتِينِي بِتِلْكَ الْحَصَاةِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَىٰ حَصَاةٍ -»، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَطَبَعَ لِي فِيهَا بِخَاتَمِهِ، ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا حَبَابَةُ، إِذَا ادَّعَىٰ مُدَّعٍ الْإِمَامَةَ فَقَدَرَ أَنْ يَطْبَعَ كَمَا رَأَيْتِ فَاعْلَمِي أَنَّهُ إِمَامٌ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ، وَالْإِمَامُ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ يُرِيدُهُ».

قَالَتْ: ثُمَّ انْصَرَفْتُ حَتَّىٰ قُبِضَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام)، فَجِئْتُ إِلَىٰ الْحَسَنِ (علیه السلام) وَهُوَ فِي مَجْلِسِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ وَالنَّاسُ يَسْأَلُونَهُ،فَقَالَ لِي: «يَا حَبَابَةُ الْوَالِبِيَّةُ»، فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا مَوْلَايَ، فَقَالَ: «هَاتِي مَا مَعَكِ»، قُلْتُ: فَأَعْطَيْتُهُ الْحَصَاةَ، فَطَبَعَ لِي فِيهَا كَمَا طَبَعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام).

ص: 291


1- في الكافي: (عن أحمد بن محمّد بن يحيىٰ المعروف بكرد، عن محمّد بن خداهي، عن عبد الله بن أيُّوب، عن عبد الله بن هاشم، عن عبد الكريم بن عمرو الخثعمي).

قَالَتْ: ثُمَّ أَتَيْتُ الْحُسَيْنَ (علیه السلام) وَهُوَ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ (صلی الله علیه و آله)، فَقَرَّبَ وَرَحَّبَ بِي، ثُمَّ قَالَ لِي: «إِنَّ فِي الدَّلَالَةِ دَلِيلاً عَلَىٰ مَا تُرِيدِينَ، أَفَتُرِيدِينَ دَلَالَةَ الْإِمَامَةِ؟»، فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا سَيِّدِي، فَقَالَ: «هَاتِي مَا مَعَكِ»، فَنَاوَلْتُهُ الْحَصَاةَ، فَطَبَعَ لِي فِيهَا.

قَالَتْ: ثُمَّ أَتَيْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (علیهما السلام) وَقَدْ بَلَغَ بِيَ الْكِبَرُ إِلَىٰ أَنْ أَعْيَيْتُ(1)، وَأَنَا أَعُدُّ يَوْمَئِذٍ مِائَةً وَثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَأَيْتُهُ رَاكِعاً وَسَاجِداً مَشْغُولاً بِالْعِبَادَةِ، فَيَئِسْتُ مِنَ الدَّلَالَةِ، فَأَوْمَأَ إِلَيَّ بِالسَّبَّابَةِ، فَعَادَ إِلَيَّ شَبَابِي، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، كَمْ مَضَىٰ مِنَ الدُّنْيَا؟ وَكَمْ بَقِيَ؟ قَالَ: «أَمَّا مَا مَضَىٰ فَنَعَمْ، وَأَمَّا مَا بَقِيَ فَلَا»، قَالَتْ: ثُمَّ قَالَ لِي: «هَاتِي مَا مَعَكِ»، فَأَعْطَيْتُهُ الْحَصَاةَ، فَطَبَعَ لِي فِيهَا.

ثُمَّ أَتَيْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (علیه السلام) فَطَبَعَ لِي فِيهَا، ثُمَّ أَتَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) فَطَبَعَ لِي فِيهَا، ثُمَّ أَتَيْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَىٰ بْنَ جَعْفَرٍ (علیهما السلام) فَطَبَعَ لِي فِيهَا، ثُمَّ أَتَيْتُ الرِّضَا (علیه السلام) فَطَبَعَ لِي فِيهَا.

ثُمَّ عَاشَتْ حَبَابَةُ الْوَالِبِيَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ عَلَىٰ مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُهِشَامٍ (2)(3).

ص: 292


1- في الكافي: (إلىٰ أنْ أرعشت).
2- رواه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 346 و347/ باب ما يفصل بين دعوىٰ المحقِّ والمبطل في أمر الإمامة/ ح 3)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 1/ ص 408 و409).
3- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 25/ ص 177 و178): (بيان: الجرِّي والمارماهي والزمير: أنواع من السمك لا فلوس لها. والطافي الذي مات في الماء وطفا فوقه. ورحبة المكان بالفتح والتحريك: ساحته ومتَّسعه. قولها: ورحَّب، أي قال لها: مرحباً، أو وسَّع لها المكان لتجلس. والرحب: السعة، وقولهم: مرحباً، أي لقيت رحباً وسعةً. قوله (علیه السلام): «إنَّ في الدلالة»، لعلَّ المعنىٰ أنَّ ما رأيتِ من الدلالة من أبي وأخي تكفي لعلمكِ بإمامتي لنصِّهم عليَّ، أو أنَّ فيما جعله الله دليلاً علىٰ إمامتي من المعجزات والبراهين ما يوجب علمكِ بإمامتي، أو أنَّ في دلالتي إيَّاكِ علىٰ ما في ضميركِ دلالة على الإمامة حيث أقول: إنَّكِ تريدين دلالة الإمامة، ويمكن أنْ يُقرَأ: (فيَّ) بالتشديد ليكون خبر إنَّ، والدلالة اسمها، ودليلاً بدله، وعلىٰ ما تريدين صفته، كقوله تعالىٰ: «بِالنَّاصِيَةِ 15 نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ» [العلق: 15 و16]. قوله (علیه السلام): «أمَّا ما مضىٰ فنعم»، أي لنا علم به، وأمَّا ما بقي فليس لنا به علم، أو أمَّا ما مضىٰ فنُبيِّنه، فعلىٰ الثاني فسَّره (علیه السلام) لها ولم تنقل، وعلىٰ الأوَّل يحتمل البيان وعدمه للمصلحة. أقول: علىٰ ما في الخبر لا بدَّ أنْ يكون عمرها مأتين وخمسة وثلاثين سنة، أو أكثر علىٰ ما تقتضيه تواريخ وفاة الأئمَّة (علیهم السلام) ومدَّة أعمارهم إنْ كان مجيئها إلىٰ عليِّ ابن الحسين في أوائل إمامته كما هو الظاهر، ولو فرضنا كونه في آخر عمره (علیه السلام) ومجيئها إلىٰ الرضا (علیه السلام) في أوَّل إمامته فلا بدَّ أنْ يكون عمرها أزيد من مائتي سنة، والله يعلم).

[2/485] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِصَامٍ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكُلَيْنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ مُوسَىٰبْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهم السلام) أَنَّ حَبَابَةَ الْوَالِبِيَّةَ دَعَا لَهَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهَا شَبَابَهَا، فَأَشَارَ إِلَيْهَا بِإِصْبَعِهِ فَحَاضَتْ لِوَقْتِهَا، وَلَهَا يَوْمَئِذٍ مِائَةُ سَنَةٍ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً(1).

قال مصنِّف هذا الكتاب (رضی الله عنه): فإذا جاز أنْ يردَّ الله علىٰ حبابة الوالبيَّة شبابها وقد بلغت مائة سنة وثلاث عشرة سنة وتبقىٰ حتَّىٰ تلقىٰ الرضا (علیه السلام) وبعده تسعة أشهر بدعاء عليِّ بن الحسين (علیهما السلام)، فكيف لا يجوز أنْ يكون نفس الإمام المنتظر (علیه السلام) أنْ يدفع الله (عزوجل) عنه الهرم ويحفظ عليه شبابه ويبقيه حتَّىٰ يخرج فيملأ الأرض عدلاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً؟ مع الأخبار الصحيحة بذلك عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله) والأئمَّة (علیهم السلام).

ومخالفونا رووا أنَّ أبا الدنيا المعروف بمعمَّر المغربي واسمه عليُّ بن عثمان ابن خطَّاب بن مرَّة بن مؤيَّد لما قُبِضَ النبيُّ (صلی الله علیه و آله) كان له قريباً من ثلاثمائة سنة، وأنَّه

ص: 293


1- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 1/ ص 409 و410)، وابن شهرآشوب (رحمة الله) في مناقب آل أبي طالب (ج 3/ ص 278).

خدم بعده أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب (علیه السلام)، وأنَّ الملوك أشخصوه إليهم وسألوه عن علَّة طول عمره واستخبروه عمَّا شاهد، فأخبر أنَّه شرب من ماء الحيوان، فلذلك طال عمره، وأنَّه بقي إلىٰ أيَّام المقتدر، وأنَّه لم يصحّ لهم موته إلىٰ وقتنا هذا، ولا يُنكِرون أمره، فكيف يُنكِرون أمر القائم (علیه السلام) لطول عمره؟

* * *

ص: 294

الباب الخمسون:

سياق حديث معمَّر المغربي أبي الدنيا عليُّ بن عثمان بن الخطَّاب بن مرَّة بن مؤيَّد

ص: 295

ص: 296

[1/486] حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ نَصْرٍ السِّجْزِيُّ(1)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَتْحِ الرَّقِّيُّ(2) وَأَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْأَشْكِيُّ(3) خَتَنُ أَبِي بَكْرٍ، قَالَا: لَقِينَا بِمَكَّةَ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ المَغْرِبِ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مِمَّنْ كَانَ حَضَرَ المَوْسِمَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَهِيَ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَرَأَيْنَا رَجُلاً أَسْوَدَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ كَأَنَّهُ شَنٌّ بَالٍ(4)، وَحَوْلَهُ جَمَاعَةٌ هُمْ أَوْلَادُهُ وَأَوْلَادُ أَوْلَادِهِ وَمَشَائِخُ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ مِنْ أَقْصَىٰ بِلَادِ المَغْرِبِ بِقُرْبِ باهرت الْعُلْيَا، وَشَهِدُوا هَؤُلَاءِ المَشَائِخُ أَنَّا سَمِعْنَا آبَاءَنَا حَكَوْا عَنْ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ أَنَّا عَهِدْنَا(5) هَذَا الشَّيْخَ المَعْرُوفَ بِأَبِي الدُّنْيَا مُعَمَّرٍ، واسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خَطَّابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ مُؤَيَّدٍ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ هَمْدَانِيٌّ، وَأَنَّ أَصْلَهُ مِنْ صَنْعَاءَ الْيَمَنِ(6)، فَقُلْنَا لَهُ: أَنْتَ رَأَيْتَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام)؟ فَقَالَ بِيَدِهِ(7) فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَقَدْ كَانَ وَقَعَ حَاجِبَاهُ عَلَيْهِمَا، فَفَتَحَهُمَا كَأَنَّهُمَاسِرَاجَانِ، فَقَالَ: رَأَيْتُهُ بِعَيْنَيَّ هَاتَيْنِ، وَكُنْتُ خَادِماً لَهُ، وَكُنْتُ مَعَهُ فِي وَقْعَةِ صِفِّينَ، وَهَذِهِ الشَّجَّةُ مِنْ دَابَّةِ

ص: 297


1- في بعض النُّسَخ: (الشجري).
2- مجهول لا يُعرَف. وفي بعض النُّسَخ: (البرقي)، وفي بعضها: (المزني)، وفي بعضها: (المركي)، وفي بعضها: (المركني). وجعل في جميع هذه النُّسَخ: (القاسم) بدل (الفتح).
3- في بعض النُّسَخ: (عليُّ بن الحسين بن حثكا اللائكي)، واحتُمِلَ كونه عليّ بن الحسن اللَّاني المعنون في تقريب التهذيب (ج 1/ ص 691/ الرقم 4724).
4- أي القربة الخلقة الصغيرة.
5- في بعض النُّسَخ: (أنَّهم سمعوا آباءهم وأجدادهم أنَّهم عهدوا).
6- في بعض النُّسَخ: (صعيد اليمن).
7- أي أشار. وفي معنىٰ القول توسُّع.

عَلِيٍّ (علیه السلام)، وَأَرَانَا أَثَرَهَا عَلَىٰ حَاجِبِهِ الْأَيْمَنِ، وَشَهِدَ الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ كَانُوا حَوْلَهُ مِنَ المَشَائِخِ وَمِنْ حَفَدَتِهِ وَأَسْبَاطِهِ بِطُولِ الْعُمُرِ، وَأَنَّهُمْ مُنْذُ وُلِدُوا عَهِدُوهُ عَلَىٰ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَكَذَا سَمِعْنَا مِنْ آبَائِنَا وَأَجْدَادِنَا.

ثُمَّ إِنَّا فَاتَحْنَاهُ وَسَاءَلْنَاهُ عَنْ قِصَّتِهِ وَحَالِهِ وسَبَبِ طُولِ عُمُرِهِ، فَوَجَدْنَاهُ ثَابِتَ الْعَقْلِ، يَفْهَمُ مَا يُقَالُ لَهُ وَيُجِيبُ عَنْهُ بِلُبٍّ وَعَقْلٍ، فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ وَالِدٌ قَدْ نَظَرَ فِي كُتُبِ الْأَوَائِلِ وَقَرَأَهَا، وَقَدْ كَانَ وَجَدَ فِيهَا ذِكْرَ نَهَرِ الْحَيَوَانِ، وَأَنَّهَا تَجْرِي فِي الظُّلُمَاتِ، وَأَنَّهُ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا طَالَ عُمُرُهُ، فَحَمَلَهُ الْحِرْصُ عَلَىٰ دُخُولِ الظُّلُمَاتِ، فَتَحَمَّلَ وَتَزَوَّدَ حَسَبَ مَا قَدَّرَ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِهِ فِي مَسِيرِهِ، وَأَخْرَجَنِي مَعَهُ، وَأَخْرَجَ مَعَنَا خَادِمَيْنِ بَاذِلَيْنِ وَعِدَّةَ جِمَالٍ لَبُونٍ [عَلَيْهَا] رَوَايَا وَزَادٌ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَلَاثَة عَشْرَ سَنَةً، فَسَارَ بِنَا إِلَىٰ أَنْ وَافَيْنَا طَرَفَ الظُّلُمَاتِ، ثُمَّ دَخَلْنَا الظُّلُمَاتِ، فَسِرْنَا فِيهَا نَحْوَ سِتَّةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا، وَكُنَّا نُمَيِّزُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِأَنَّ النَّهَارَ كَانَ يَكُونُ أَضْوَأَ قَلِيلاً وَأَقَلَّ ظُلْمَةً مِنَ اللَّيْلِ، فَنَزَلْنَا بَيْنَ جِبَالٍ وَأَوْدِيَةٍ وَدَكَوَاتٍ(1)، وَقَدْ كَانَ وَالِدِي (رضی الله عنه) يَطُوفُ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ فِي طَلَبِ النَّهَرِ، لِأَنَّهُ وَجَدَ فِي الْكُتُبِ الَّتِي قَرَأَهَا أَنَّ مَجْرَىٰ نَهَرِ الْحَيَوَانِ فِي ذَلِكَ المَوْضِعِ، فَأَقَمْنَا فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ أَيَّاماً حَتَّىٰ فَنَىٰ المَاءُ الَّذِي كَانَ مَعَنَا وَاسْتَقَيْنَاهُ جِمَالَنَا، وَلَوْلَا أَنَّ جِمَالَنَا كَانَتْ لَبُوناً لَهَلَكْنَا وَتَلِفْنَا عَطَشاً، وَكَانَ وَالِدِي يَطُوفُ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ فِي طَلَبِ النَّهَرِ، وَيَأْمُرُنَا أَنْ نُوقِدَ نَاراً لِيَهْتَدِىٰ بِضَوْئِهَا إِذَا أَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَيْنَا، فَمَكَثْنَا فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ نَحْوَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ وَوَالِدِي يَطْلُبُ النَّهَرَ فَلَا يَجِدُهُ، وَبَعْدَ الْإِيَاسِ عَزَمَ عَلَىٰالْاِنْصِرَافِ حَذَراً عَلَىٰ التَّلَفِ لِفَنَاءِ الزَّادِ وَالمَاءِ، وَالْخَدَمِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَنَا ضَجَرُوا فَأَوْجَسُوا التَّلَفَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ(2)، وَأَلَحُّوا عَلَىٰ وَالِدِي بِالْخُرُوجِ مِنَ الظُّلُمَاتِ، فَقُمْتُ يَوْماً مِنَ الرَّحْلِ لِحَاجَتِي، فَتَبَاعَدْتُ مِنَ الرَّحْلِ قَدْرَ

ص: 298


1- الدكُّ: ما استوىٰ من الرمل كدكَّة والمستوي من المكان، والتلُّ والجبل.
2- في بعض النُّسَخ: (في أنفسهم)، وفي بعضها: (وخشوا علىٰ أنفسهم).

رَمْيَةِ سَهْمٍ، فَعَثَرْتُ بِنَهَرِ مَاءٍ أَبْيَضِ اللَّوْنِ، عَذْبٍ لَذِيذٍ، لَا بِالصَّغِيرِ مِنَ الْأَنْهَارِ وَلَا بِالْكَبِيرِ، وَيَجْرِي جَرَيَاناً لَيِّناً، فَدَنَوْتُ مِنْهُ وَغَرَفْتُ مِنْهُ بِيَدِي غُرْفَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، فَوَجَدْتُهُ عَذْباً بَارِداً لَذِيذاً، فَبَادَرْتُ مُسْرِعاً إِلَىٰ الرَّحْلِ وَبَشَّرْتُ الْخَدَمَ بِأَنِّي قَدْ وَجَدْتُ المَاءَ، فَحَمَلُوا مَا كَانَ مَعَنَا مِنَ الْقِرَبِ وَالْأَدَوَاتِ لِنَمْلَأَهَا، وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّ وَالِدِي فِي طَلَبِ ذَلِكَ النَّهَرِ، وَكَانَ سُرُورِي بِوُجُودِ المَاءِ لِمَا كُنَّا عَدِمْنَا المَاءَ وَفَنَىٰ مَا كَانَ مَعَنَا، وَكَانَ وَالِدِي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ غَائِباً عَنِ الرَّحْلِ مَشْغُولاً بِالطَّلَبِ، فَجَهَدْنَا وطُفْنَا سَاعَةً هَوِيَّةً(1) عَلَىٰ أَنْ نَجِدَ النَّهَرَ فَلَمْ نَهْتَدِ إِلَيْهِ حَتَّىٰ إِنَّ الْخَدَمَ كَذَّبُونِي، وَقَالُوا لِي: لَمْ تَصْدُقْ، فَلَمَّا انْصَرَفْتُ إِلَىٰ الرَّحْلِ وَانْصَرَفَ وَالِدِي أَخْبَرْتُهُ بِالْقِصَّةِ، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ، الَّذِي أَخْرَجَنِي إِلَىٰ هَذَا المَكَانِ وَتَحَمُّلِ الْخَطَرِ كَانَ لِذَلِكَ النَّهَرِ، وَلَمْ أُرْزَقْ أَنَا وَأَنْتَ رُزِقْتَهُ، وَسَوْفَ يَطُولُ عُمُرُكَ حَتَّىٰ تَمَلَّ الْحَيَاةَ، وَرَحَلْنَا مُنْصَرِفِينَ وَعُدْنَا إِلَىٰ أَوْطَانِنَا وَبَلَدِنَا، وَعَاشَ وَالِدِي بَعْدَ ذَلِكَ سُنَيَّاتٍ ثُمَّ تُوُفِّيَ (رضی الله عنه).

فَلَمَّا بَلَغَ سِنِّي قَرِيباً مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً وَكَانَ [قَدِ] اتَّصَلَ بِنَا وَفَاةُ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله) ووَفَاةُ الْخَلِيفَتَيْنِ بَعْدَهُ خَرَجْتُ حَاجًّا، فَلَحِقْتُ آخِرَ أَيَّامِ عُثْمَانَ، فَمَالَ قَلْبِي مِنْ بَيْنِ جَمَاعَةِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله) إِلَىٰ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام)، فَأَقَمْتُ مَعَهُ أَخْدُمُهُ، وَشَهِدْتُ مَعَهُ وَقَائِعَ،وَفِي وَقْعَةِ صِفِّينَ أَصَابَتْنِي هَذِهِ الشَّجَّةُ مِنْ دَابَّتِهِ، فَمَا زِلْتُ مُقِيماً مَعَهُ إِلَىٰ أَنْ مَضَىٰ لِسَبِيلِهِ (علیه السلام)، فَأَلَحَّ عَلَيَّ أَوْلَادُهُ وَحَرَمُهُ أَنْ أُقِيمَ عِنْدَهُمْ فَلَمْ أُقِمْ وَانْصَرَفْتُ إِلَىٰ بَلَدِي.

وَخَرَجْتُ أَيَّامَ بَنِي مَرْوَانَ حَاجًّا وَانْصَرَفْتُ مَعَ أَهْلِ بَلَدِي إِلَىٰ هَذِهِ الْغَايَةِ مَا خَرَجْتُ فِي سَفَرٍ إِلَّا مَا كَانَ [إِلَىٰ] المُلُوكِ فِي بِلَادِ المَغْرِبِ يَبْلُغُهُمْ خَبَرِي وَطُولُ عُمُرِي فَيَشْخَصُونِي إِلَىٰ حَضْرَتِهِمْ لِيَرَوْنِي وَيَسْأَلُونِي عَنْ سَبَبِ طُولِ عُمُرِي وَعَمَّا

ص: 299


1- أي زماناً طويلاً.

شَاهَدْتُ، وَكُنْتُ أَتَمَنَّىٰ وأَشْتَهِي أَنْ أَحُجَّ حِجَّةً أُخْرَىٰ، فَحَمَلَنِي هَؤُلَاءِ حَفَدَتِي وَأَسْبَاطِيَ الَّذِينَ تَرَوْنَهُمْ حَوْلِي.

وَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ سَقَطَتْ أَسْنَانُهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، فَسَأَلْنَاهُ أَنْ يُحَدِّثَنَا بِمَا سَمِعَهُ مِنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام)، فَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حِرْصٌ وَلَا هِمَّةٌ فِي الْعِلْمِ فِي وَقْتِ صُحْبَتِهِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام)، والصَّحَابَةُ أَيْضاً كَانُوا مُتَوَافِرِينَ، فَمِنْ فَرْطِ مَيْلي إِلَىٰ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) وَمَحَبَّتِي لَهُ لَمْ أَشْتَغِلْ بِشَيْءٍ سِوَىٰ خِدْمَتِهِ وَصُحْبَتِهِ، وَالَّذِي كُنْتُ أَتَذَكَّرُهُ مِمَّا كُنْتُ سَمِعْتُهُ مِنْهُ قَدْ سَمِعَهُ مِنِّي عَالَمٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِبِلَادِ المَغْرِبِ وَمِصْرَ وَالْحِجَازِ، وَقَدِ انْقَرَضُوا وَتَفَانَوْا، وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَحَفَدَتِي قَدْ دَوَّنُوهُ، فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا النُّسْخَةَ، فَأَخَذَ يُمْلِي عَلَيْنَا مِنْ حِفْظِهِ (1):

[2/487] حَدَّثَنَا(2) أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خَطَّابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ مُؤَيَّدٍ الْهَمْدَانِيُّ المَعْرُوفُ بِأَبِي الدُّنْيَا مُعَمَّرٍ المَغْرِبِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَيًّا وَمَيِّتاً، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «مَنْ أَحَبَّ أَهْلَ الْيَمَنِ فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَ أَهْلَ الْيَمَنِ فَقَدْأَبْغَضَنِي»(3).

[3/488] وَحَدَّثَنَا أَبُو الدُّنْيَا مُعَمَّرٌ المَغْرِبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «مَنْ أَعَانَ مَلْهُوفاً كَتَبَ اللهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَمَحَا عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، وَرَفَعَ لَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ»، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «مَنْ سَعَىٰ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ المُؤْمِنِ(4) - لِلهِ (عزوجل) فِيهَا رِضَاءٌ وَلَهُ فِيهَا صَلَاحٌ -، فَكَأَنَّمَا خَدَمَ اللهَ (عزوجل) أَلْفَ سَنَةٍ لَمْ يَقَعْ فِي مَعْصِيَتِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ».

ص: 300


1- في بعض النُّسَخ: (من خطِّه).
2- معلَّق علىٰ السند الأوَّل، وكذا ما يأتي.
3- رواه الكراجكي (رحمة الله) في كنز الفوائد (ص 266) بسند آخر، والحلبي في سيرته (ج 1/ ص 259) عن الطبراني.
4- في بعض النُّسَخ: (أخيه المسلم).

[4/489] وَحَدَّثَنَا أَبُو الدُّنْيَا مُعَمَّرٌ المَغْرِبِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) يَقُولُ: «أَصَابَ النَّبِيَّ (صلی الله علیه و آله) جُوعٌ شَدِيدٌ وَهُوَ فِي مَنْزِلِ فَاطِمَةَ J»، قَالَ عَلِيٌّ (علیه السلام): «فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله): يَا عَلِيُّ، هَاتِ المَائِدَةَ، فَقَدَّمْتُ المَائِدَةَ، وَعَلَيْهَا خُبْزٌ وَلَحْمٌ مَشْوِيٌّ».

[5/490] وَحَدَّثَنَا أَبُو الدُّنْيَا مُعَمَّرٌ المَغْرِبِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ عَلِيَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) يَقُولُ: «جُرِحْتُ فِي وَقْعَةِ خَيْبَرَ خَمْساً وَعِشْرِينَ جِرَاحَةً، فَجِئْتُ إِلَىٰ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله)، فَلَمَّا رَأَىٰ مَا بِي مِنَ الْجِرَاحَةِ بَكَىٰ، وَأَخَذَ مِنْ دُمُوعِ عَيْنَيْهِ، فَجَعَلَهَا عَلَىٰ الْجِرَاحَاتِ، فَاسْتَرَحْتُ مِنْ سَاعَتِي».

[6/491] وَحَدَّثَنَا أَبُو الدُّنْيَا مُعَمَّرٌ المَغْرِبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «مَنْ قَرَأَ«قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ 1» مَرَّةً فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَمَنْ قَرَأَهَا مَرَّتَيْنِ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلُثَيِ الْقُرْآنِ، وَمَنْ قَرَأَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ»(1).

[7/492] وَحَدَّثَنَا أَبُو الدُّنْيَا مُعَمَّرٌ المَغْرِبِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) يَقُولُ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): كُنْتُ أَرْعَىٰ الْغَنَمَ، فَإِذَا أَنَا بِذِئْبٍ عَلَىٰ قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا تَصْنَعُ هَاهُنَا؟ فَقَالَ لِي: وَأَنْتَ مَا تَصْنَعُ هَاهُنَا؟ قُلْتُ: أَرْعَىٰ الْغَنَمَ، قَالَ لِي: مُرَّ - أَوْ قَالَ: ذَا الطَّرِيقِ -، قَالَ: فَسُقْتُ الْغَنَمَ فَلَمَّا تَوَسَّطَ الذِّئْبُ الْغَنَمَ إِذَا أَنَا بِالذِّئْبِ قَدْ شَدَّ عَلَىٰ شَاةٍ فَقَتَلَهَا، قَالَ: فَجِئْتُ حَتَّىٰ أَخَذْتُ بِقَفَاهُ فَذَبَحْتُهُ وَجَعَلْتُهُ عَلَىٰ يَدِي، وَجَعَلْتُ أَسُوقُ الْغَنَمَ، فَمَا سِرْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ إِذَا أَنَا بِثَلَاثَةِ أَمْلَاكٍ: جَبْرَئِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَمَلَكِ المَوْتِ (علیهم السلام)، فَلَمَّا رَأَوْنِي قَالُوا: هَذَا مُحَمَّدٌ بَارَكَ اللهُ فِيهِ، فَاحْتَمَلُونِي وَأَضْجَعُونِي وَشَقُّوا جَوْفِي بِسِكِّينٍ كَانَ مَعَهُمْ، وَأَخْرَجُوا قَلْبِي مِنْ مَوْضِعِهِ، وَغَسَلُوا جَوْفِي بِمَاءٍ بَارِدٍ كَانَ مَعَهُمْ فِي قَارُورَةٍ حَتَّىٰ نَقِيَ مِنَ الدَّمِ، ثُمَّ رَدُّوا

ص: 301


1- راجع ما رواه البرقي (رحمة الله) في المحاسن (ج 1/ ص 153/ ح 77).

قَلْبِي إِلَىٰ مَوْضِعِهِ، وَأَمَرُّوا أَيْدِيَهُمْ إِلَىٰ جَوْفِي فَالْتَحَمَ الشَّقُّ بِإِذْنِ اللهِ (عزوجل)، فَمَا أَحْسَسْتُ بِسِكِّينٍ وَلَا وَجَعٍ، قَالَ: وَخَرَجْتُ أَعْدُو إِلَىٰ أُمِّي - يَعْنِي حَلِيمَةَ دَايَةِ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله) -، فَقَالَتْ لِي: أَيْنَ الْغَنَمُ؟ فَخَبَّرْتُهَا بِالْخَبَرِ، فَقَالَتْ: سَوْفَ يَكُونُ لَكَ فِي الْجَنَّةِ مَنْزِلَةٌ عَظِيمَةٌ».

[8/493] وَحَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، قَالَ: ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَتْحِ الرَّقِّيُّ(1) وَأَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْأَشْكِيُ أَنَّ السُّلْطَانَ بِمَكَّةَ لَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ أَبِي الدُّنْيَا تَعَرَّضَ لَهُ وَقَالَ: لَا بُدَّ أَنْ أُخْرِجَكَ مَعِي إِلَىٰ بَغْدَادَ إِلَىٰ حَضْرَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ المُقْتَدِرِ، فَإِنِّي أَخْشَىٰ أَنْ يَعْتِبَعَلَيَّ إِنْ لَمْ أُخْرِجْكَ، فَسَأَلَهُ الْحَاجُّ مِنْ أَهْلِ المَغْرِبِ وَأَهْلِ الْمِصْرِ وَالشَّامِ أَنْ يُعْفِيَهُ وَلَا يَشْخَصَهُ، فَإِنَّهُ شَيْخٌ ضَعِيفٌ وَلَا يُؤْمَنُ مَا يَحْدُثُ عَلَيْهِ، فَأَعْفَاهُ.

قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَلَوْ أَنِّي حَضَرْتُ المَوْسِمَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لَشَاهَدْتُهُ، وَخَبَرُهُ كَانَ مُسْتَفِيضاً شَائِعاً فِي الْأَمْصَارِ، وَكَتَبَ عَنْهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الْمِصْرِيُّونَ وَالشَّامِيُّونَ وَالْبَغْدَادِيُّونَ وَمِنْ سَائِرِ الْأَمْصَارِ مِمَّنْ حَضَرَ المَوْسِمَ وَبَلَغَهُ خَبَرُ هَذَا الشَّيْخِ وَأَحَبَّ أَنْ يَلْقَاهُ وَيَكْتُبَ عَنْهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ، نَفَعَنَا اللهُ وَإِيَّاهُمْ بِهَا(2).

[9/494] وَأَخْبَرَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ جَعْفَرِ ابْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهم السلام) فِيمَا أَجَازَهُ لِي مِمَّا صَحَّ عِنْدِي مِنْ حَدِيثِهِ(3) وَصَحَّ عِنْدِي هَذَا الْحَدِيثُ بِرِوَايَةِ الشَّرِيفِ أَبِي عَبْدِ اللهِ

ص: 302


1- تقدَّم الكلام فيه وفي قرينه في (ص 297)، فراجع.
2- في بعض النُّسَخ: (ويكتب عنه نفعهم الله وإيَّانا به).
3- ذلك لأنَّ أبا محمّد الحسن بن محمّد بن يحيىٰ العلوي روىٰ عن المجاهيل أحاديث منكرة، وقال العلَّامة (رحمة الله) في خلاصة الأقوال (ص 336/ الرقم 14) عن النجاشي (رحمة الله) في رجاله (ص 64/ الرقم 149): (رأيت أصحابنا يُضعِّفونه). وقال ابن الغضائري (رحمة الله) في رجاله (ص 54/ الرقم 41/14): (كان كذَّاباً يضع الحديث مجاهرةً، ويدَّعي رجالاً غرباء لا يُعرَفون). تُوفِّي (358ه). (جامع الرواة: ج 1/ ص 226).

مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ الْحُسَيْنِ(1) بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهم السلام) أَنَّهُ قَالَ: حَجَجْتُ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَفِيهَا حَجَّ نَصْرٌ الْقَشُورِيُّ صَاحِبُ المُقْتَدِرِ بِاللهِ(2)، ومَعَهُ عَبْدُ اللهِابْنُ حَمْدَانَ المُكَنَّىٰ بِأَبِي الْهَيْجَاءِ، فَدَخَلْتُ مَدِينَةَ الرَّسُولِ (صلی الله علیه و آله) فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَأَصَبْتُ قَافِلَةَ الْمِصْرِيِّينَ وَفِيهَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ المَاذَرَائِيِ، وَمَعَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ المَغْرِبِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ رَأَىٰ [رَجُلاً مِنْ] أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَازْدَحَمُوا وَجَعَلُوا يَتَمَسَّحُونَ بِهِ وَكَادُوا يَأْتُونَ عَلَىٰ نَفْسِهِ، فَأَمَرَ عَمِّي أَبُو الْقَاسِمِ طَاهِرُ بْنُ يَحْيَىٰ (رضی الله عنه) فِتْيَانَهُ وَغِلْمَانَهُ، فَقَالَ: أَفْرِجُوا عَنْهُ النَّاسَ، فَفَعَلُوا وَأَخَذُوهُ فَأَدْخَلُوهُ إِلَىٰ دَارِ ابْنِ أَبِي سَهْلٍ الطَّفِّيِّ، وَكَانَ عَمِّي نَازِلَهَا، فَأُدْخِلَ وَأَذِنَ لِلنَّاسِ فَدَخَلُوا، وَكَانَ مَعَهُ خَمْسَةُ نَفَرٍ، [وَ]ذَكَرُوا أَنَّهُمْ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِ فِيهِمْ شَيْخٌ لَهُ نَيِّفٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، فَسَأَلْنَاهُ عَنْهُ، فَقَالَ: هَذَا ابْنُ ابْنِي، وَآخَرُ لَهُ سَبْعُونَ سَنَةً، فَقَالَ: هَذَا ابْنُ ابْنِي، وَاثْنَانِ لَهُمَا سِتُّونَ سَنَةً أَوْ خَمْسُونَ سَنَةً أَوْ نَحْوُهَا وَآخَرُ لَهُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَقَالَ: هَذَا ابْنُ ابْنِ ابْنِي، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ فِيهِمْ أَصْغَرُ مِنْهُ، وَكَانَ إِذَا رَأَيْتُهُ قُلْتُ: هَذَا ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً أَوْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، أَسْوَدُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، شَابٌّ نَحِيفُ الْجِسْمِ آدَمُ، رَبْعٌ مِنَ الرِّجَالِ، خَفِيفُ الْعَارِضَيْنِ، [هُوَ] إِلَىٰ الْقَصْرِ أَقْرَبُ.

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْعَلَوِيُّ: فَحَدَّثَنَا هَذَا الرَّجُلُ - وَاسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ الْخَطَّابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ مُؤَيَّدٍ - بِجَمِيعِ مَا كَتَبْنَاهُ عَنْهُ وَسَمِعْنَا مِنْ لَفْظِهِ، وَمَا رَأَيْنَاهُ مِنْ بَيَاضِ عَنْفَقَتِهِ(3) بَعْدَ اسْوِدَادِهَا وَرُجُوعِ سَوَادِهَا بَعْدَ بَيَاضِهَا عِنْدَ شِبَعِهِ مِنَ الطَّعَامِ.

ص: 303


1- في بعض النُّسَخ: (الحسن).
2- في بعض النُّسَخ: (حاجب المقتدر بالله).
3- العنفقة: الشعر الذي في الشفة السفلىٰ، وقيل: الشعر الذي بينها وبين الذقن. (النهاية: ج 3/ ص 309).

وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْعَلَوِيُّ (رضی الله عنه): وَلَوْلَا أَنَّهُ حَدَّثَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مِنَ الْأَشْرَافِ وَالْحَاجِّ مِنْ أَهْلِ مَدِينَةِ السَّلَامِ وَغَيْرِهِمْ مِنْجَمِيعِ الْآفَاقِ، مَا حَدَّثْتُ عَنْهُ بِمَا سَمِعْتُ، وَسَمَاعِي مِنْهُ بِالمَدِينَةِ وَبِمَكَّةَ فِي دَارِ السَّهْمِيِّينَ فِي الدَّارِ المَعْرُوفَةِ بِالمُكَبَّرِيَّةِ، وَهِيَ دَارُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَىٰ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَسَمِعْتُ مِنْهُ فِي مِضْرَبِ الْقَشُورِيِّ وَمِضْرَبِ المَاذَرَائِيِّ عِنْدَ بَابِ الصَّفَا، وَأَرَادَ الْقَشُورِيُّ أَنْ يَحْمِلَهُ وَوُلْدَهُ إِلَىٰ مَدِينَةِ السَّلَامِ إِلَىٰ المُقْتَدِرِ، فَجَاءَهُ أَهْلُ مَكَّةَ، فَقَالُوا: أَيَّدَ اللهُ الْأُسْتَاذَ، إِنَّا رُوِّينَا فِي الْأَخْبَارِ المَأْثُورَةِ عَنِ السَّلَفِ أَنَّ المُعَمَّرَ المَغْرِبِيَّ إِذْ دَخَلَ مَدِينَةَ السَّلَامِ فَنِيَتْ وَخَرِبَتْ وَزَالَ المُلْكُ، فَلَا تَحْمِلْهُ وَرُدَّهُ إِلَىٰ المَغْرِبِ. فَسَأَلْنَا مَشَايِخَ أَهْلِ المَغْرِبِ وَمِصْرَ، فَقَالُوا: لَمْ نَزَلْ نَسْمَعُ بِهِ مِنْ آبَائِنَا وَمَشَايِخِنَا يَذْكُرُونَ اسْمَ هَذَا الرَّجُلِ، وَاسْمَ الْبَلْدَةِ الَّتِي هُوَ مُقِيمٌ فِيهَا طَنْجَةَ(1)، وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ كَانَ يُحَدِّثُهُمْ بِأَحَادِيثَ قَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهَا فِي كِتَابِنَا هَذَا.

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْعَلَوِيُّ (رضی الله عنه): فَحَدَّثَنَا هَذَا الشَّيْخُ - أَعْنِي عَلِيَّ بْنَ عُثْمَانَ المَغْرِبِيَّ - بِبَدْءِ خُرُوجِهِ مِنْ بَلْدَةِ حَضْرَمَوْتَ، وَذَكَرَ أَنَّ أَبَاهُ خَرَجَ هُوَ وَعَمُّهُ مُحَمَّدٌ، وَخَرَجَا بِهِ مَعَهُمَا يُرِيدُونَ الْحَجَّ وَزِيَارَةَ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله)، فَخَرَجُوا مِنْ بِلَادِهِمْ مِنْ حَضْرَمَوْتَ، وَسَارُوا أَيَّاماً، ثُمَّ أَخْطَئُوا الطَّرِيقَ وَتَاهُوا فِي المَحَجَّةِ، فَأَقَامُوا تَائِهِينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَثَلَاثَ لَيَالٍ عَلَىٰ غَيْرِ مَحَجَّةٍ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذَا وَقَعُوا عَلَىٰ جِبَالِ رَمْلٍ يُقَالُ لَهَا: رَمْلُ عَالِجٍ، مُتَّصِلٍ بِرَمْلِ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ.

قَالَ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذَا نَظَرْنَا إِلَىٰ أَثَرِ قَدَمٍ طَوِيلٍ، فَجَعَلْنَا نَسِيرُ عَلَىٰ أَثَرِهَا، فَأَشْرَفْنَا عَلَىٰ وَادٍ، وَإِذَا بِرَجُلَيْنِ قَاعِدَيْنِ عَلَىٰ بِئْرٍ أَوْ عَلَىٰ عَيْنٍ، قَالَ: فَلَمَّا نَظَرَا إِلَيْنَا قَامَ أَحَدُهُمَا فَأَخَذَ دَلْواً فَأَدْلَاهُ فَاسْتَقَىٰ فِيهِ مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ أَوِ الْبِئْرِ، وَاسْتَقْبَلَنَا وَجَاءَ إِلَىٰ أَبِي فَنَاوَلَهُ الدَّلْوَ، فَقَالَ أَبِي: قَدْ أَمْسَيْنَا نُنِيخُ(2) عَلَىٰ هَذَاالمَاءِ وَنُفْطِرُ إِنْ شَاءَ اللهُ، فَصَارَ

ص: 304


1- بلدة بشاطئ بحر المغرب. (القاموس المحيط: ج 1/ ص 198).
2- أناخ الجمل: أبركه.

إِلَىٰ عَمِّي وَقَالَ لَهُ: اشْرَبْ، فَرَدَّ عَلَيْهِ كَمَا رَدَّ عَلَيْهِ أَبِي، فَنَاوَلَنِي وَقَالَ لِي اشْرَبْ: فَشَرِبْتُ، فَقَالَ لِي: هَنِيئاً لَكَ إِنَّكَ سَتَلْقَىٰ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام)، فَأَخْبِرْهُ أَيُّهَا الْغُلَامُ بِخَبَرِنَا وَقُلْ لَهُ: الْخَضِرُ وَإِلْيَاسُ يُقْرِئَانِكَ السَّلَامَ، وَسَتُعَمَّرُ حَتَّىٰ تَلْقَىٰ المَهْدِيَّ وَعِيسَىٰ بْنَ مَرْيَمَ (علیهما السلام)، فَإِذَا لَقِيتَهُمَا فَأَقْرِئْهُمَا مِنَّا السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَا: مَا يَكُونَانِ هَذَانِ مِنْكَ؟ فَقُلْتُ: أَبِي وَعَمِّي، فَقَالَا: أَمَّا عَمُّكَ فَلَا يَبْلُغُ مَكَّةَ، وَأَمَّا أَنْتَ وَأَبُوكَ فَسَتَبْلُغَانِ وَيَمُوتُ أَبُوكَ وَتُعَمَّرُ أَنْتَ، وَلَسْتُمْ تَلْحَقُونَ النَّبِيَّ (صلی الله علیه و آله) لِأَنَّهُ قَدْ قَرُبَ أَجَلُهُ.

ثُمَّ مَرَّا فَوَاللهِ مَا أَدْرِي أَيْنَ مَرَّا فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ، فَنَظَرْنَا فَإِذَا لَا بِئْرٌ وَلَا عَيْنٌ وَلَا مَاءٌ، فَسِرْنَا مُتَعَجِّبِينَ مِنْ ذَلِكَ إِلَىٰ أَنْ رَجَعْنَا إِلَىٰ نَجْرَانَ، فَاعْتَلَّ عَمِّي وَمَاتَ بِهَا، وَأَتْمَمْتُ أَنَا وَأَبِي حَجَّنَا وَوَصَلْنَا إِلَىٰ المَدِينَةِ، فَاعْتَلَّ أَبِي وَمَاتَ، وَأَوْصَىٰ بِي إِلَىٰ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام)، فَأَخَذَنِي وَكُنْتُ مَعَهُ أَيَّامَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَأَيَّامَ خِلَافَتِهِ حَتَّىٰ قَتَلَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ (لَعَنَهُ اللهُ).

وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا حُوصِرَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فِي دَارِهِ دَعَانِي فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَاباً وَنَجِيباً وَأَمَرَنِي بِالْخُرُوجِ إِلَىٰ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) وَكَانَ غَائِباً بِيَنْبُعَ فِي ضِيَاعِهِ وَأَمْوَالِهِ، فَأَخَذْتُ الْكِتَابَ وَسِرْتُ حَتَّىٰ إِذْ كُنْتُ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: جِدَارُ أَبِي عَبَايَةَ فَسَمِعْتُ قُرْآناً فَإِذَا أَنَا بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) يَسِيرُ مُقْبِلاً مِنْ يَنْبُعَ وَهُوَ يَقُولُ: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ 115» [المؤمنون: 115]، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ قَالَ: «يَا أَبَا الدُّنْيَا، مَا وَرَاءَكَ؟»، قُلْتُ: هَذَا كِتَابُ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ، فَأَخَذَهُ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ:فَإِنْ كُنْتُ

مَأْكُولاً فَكُنْ أَنْتَ آكِلي (1) *** وَإِلَّا فَأَدْرِكْنِي وَلَمَّا أُمَزَّقْ

فَإِذَا قَرَأَهُ قَالَ: «بَرَّ سَرَّ(2)»، فَدَخَلَ إِلَىٰ المَدِينَةِ سَاعَةَ قَتْلِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ،

ص: 305


1- رواه الفيروزآبادي في القاموس المحيط (ج 3/ ص 283/ مادَّة مزق)، وفيه: (خير آكل).
2- رجل برَّ سرَّ: أي يبرُّ ويسرُّ. (الصحاح للجوهري: ج 2/ ص 683/ مادَّة سرر).

فَمَالَ (علیه السلام) إِلَىٰ حَدِيقَةِ بَنِي النَّجَّارِ، وَعَلِمَ النَّاسُ بِمَكَانِهِ، فَجَاؤُوا إِلَيْهِ رَكْضاً، وَقَدْ كَانُوا عَازِمِينَ عَلَىٰ أَنْ يُبَايِعُوا طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ ارْفَضُّوا إِلَيْهِ ارْفِضَاضَ الْغَنَمِ يَشُدُّ عَلَيْهَا السَّبُعُ، فَبَايَعَهُ طَلْحَةُ، ثُمَّ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ بَايَعَ المُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، فَأَقَمْتُ مَعَهُ أَخْدُمُهُ، فَحَضَرْتُ مَعَهُ الْجَمَلَ وَصِفِّينَ، فَكُنْتُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَاقِفاً عَنْ يَمِينِهِ إِذَا سَقَطَ سَوْطُهُ مِنْ يَدِهِ، فَأَكْبَبْتُ آخُذُهُ وَأَدْفَعُهُ إِلَيْهِ وَكَانَ لِجَامُ دَابَّتِهِ حَدِيداً مُزَجَّجاً(1) فَرَفَعَ الْفَرَسُ رَأْسَهُ فَشَجَّنِي هَذِهِ الشَّجَّةَ الَّتِي فِي صُدْغِي، فَدَعَانِي أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) فَتَفَلَ فِيهَا وَأَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ(2) فَتَرَكَهُ عَلَيْهَا، فَوَاللهِ مَا وَجَدْتُ لَهَا أَلَماً وَلَا وَجَعاً.

ثُمَّ أَقَمْتُ مَعَهُ (علیه السلام)، وَصَحِبْتُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ (علیهما السلام) حَتَّىٰ ضُرِبَ بِسَابَاطِ المَدَائِنِ، ثُمَّ بَقِيتُ مَعَهُ بِالمَدِينَةِ أَخْدُمُهُ وَأَخْدُمُ الْحُسَيْنَ (علیه السلام) حَتَّىٰ مَاتَ الْحَسَنُ (علیه السلام) مَسْمُوماً، سَمَّتْهُ جَعْدَةُ بِنْتُ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ الْكِنْدِيِّ (لَعَنَهَا اللهُ) دَسًّا مِنْ مُعَاوِيَةَ.

ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام) حَتَّىٰ حَضَرْتُ كَرْبَلَاءَ، وَقُتِلَ (علیه السلام) وَخَرَجْتُ هَارِباً مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، وَأَنَا مُقِيمٌ بِالمَغْرِبِ أَنْتَظِرُ خُرُوجَ المَهْدِيِّ وَعِيسَىٰ بْنِ مَرْيَمَ (علیه السلام).قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْعَلَوِيُّ (رضی الله عنه): وَمِنْ عَجِيبِ مَا رَأَيْتُ مِنْ هَذَا الشَّيْخِ عَلِيِّ بْنِ عُثْمَانَ وَهُوَ فِي دَارِ عَمِّي طَاهِرِ بْنِ يَحْيَىٰ (رضی الله عنه) وَهُوَ يُحَدِّثُ بِهَذِهِ الْأَعَاجِيبِ وَبَدْءِ خُرُوجِهِ، فَنَظَرْتُ عَنْفَقَتَهُ قَدِ احْمَرَّتْ ثُمَّ ابْيَضَّتْ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَىٰ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي لِحْيَتِهِ وَلَا فِي رَأْسِهِ وَلَا فِي عَنْفَقَتِهِ بَيَاضٌ، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَىٰ نَظَرِي إِلَىٰ لِحْيَتِهِ وَإِلَىٰ عَنْفَقَتِهِ وَقَالَ: أَمَا تَرَوْنَ أَنَّ هَذَا يُصِيبُنِي إِذَا جُعْتُ وَإِذَا شَبِعْتُ رَجَعَتْ إِلَىٰ سَوَادِهَا، فَدَعَا عَمِّي بِطَعَامٍ فَأُخْرِجَ مِنْ دَارِهِ ثَلَاثُ مَوَائِدَ فَوُضِعَتْ وَاحِدَةٌ بَيْنَ يَدَيِ الشَّيْخِ

ص: 306


1- المزجَّج: المرقَّع الممدود. وفي بعض النُّسَخ: (مدمَّجا) أي مستحكماً.
2- الحفنة: هي ملء الكفِّ.

وَكُنْتُ أَنَا أَحَدَ مَنْ جَلَسَ عَلَيْهَا فَجَلَسْتُ مَعَهُ وَوُضِعَتِ المَائِدَتَانِ فِي وَسَطِ الدَّارِ، وَقَالَ عَمِّي لِلْجَمَاعَةِ: بِحَقِّي عَلَيْكُمْ إِلَّا أَكَلْتُمْ وَتَحَرَّمْتُمْ بِطَعَامِنَا، فَأَكَلَ قَوْمٌ وَامْتَنَعَ قَوْمٌ، وَجَلَسَ عَمِّي عَنْ يَمِينِ الشَّيْخِ يَأْكُلُ وَيُلْقِي بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَكَلَ أَكْلَ شَابٍّ وَعَمِّي يَحْلِفُ عَلَيْهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَىٰ عَنْفَقَتِهِ تَسْوَدُّ حَتَّىٰ عَادَتْ إِلَىٰ سَوَادِهَا وَشَبِعَ (1).

[10/495] فَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «مَنْ أَحَبَّ أَهْلَ الْيَمَنِ فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَقَدْ أَبْغَضَنِي».

* * *

ص: 307


1- رواه الكراجكي (رحمة الله) في كنز الفوائد (ص 263 - 265).

ص: 308

الباب الحادي والخمسون:

حديث عبيد بن شرية(1) الجرهمي

ص: 309


1- في بعض النُّسَخ: (عبيد بن شريد)، وهو تصحيف.

ص: 310

[1/496] وَحَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ السِّجْزِيُّ، قَالَ: وَجَدْتُ فِي كِتَابٍ لِأَخِي أَبِي الْحَسَنِ بِخَطِّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمِمَّنْ قَرَأَ الْكُتُبَ وَسَمِعَ الْأَخْبَارَ أَنَّ عُبَيْدَ بْنَ شَرْيَةِ الْجُرْهُمِيَّ - وَهُوَ مَعْرُوفٌ - عَاشَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، فَأَدْرَكَ النَّبِيَّ (صلی الله علیه و آله) وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَعُمِّرَ بَعْدَ مَا قُبِضَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله) حَتَّىٰ قَدِمَ عَلَىٰ مُعَاوِيَةَ فِي أَيَّامِ تَغَلُّبِهِ وَمُلْكِهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَخْبِرْنِي يَا عُبَيْدُ عَمَّا رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ وَمَنْ أَدْرَكْتَ وَكَيْفَ رَأَيْتَ الدَّهْرَ؟

فَقَالَ: أَمَّا الدَّهْرُ فَرَأَيْتُ لَيْلاً يُشْبِهُ لَيْلاً، وَنَهَاراً يُشْبِهُ نَهَاراً، وَمَوْلُوداً يُولَدُ، وَمَيِّتاً يَمُوتُ، وَلَمْ أُدْرِكْ أَهْلَ زَمَانٍ إِلَّا وَهُمْ يَذُمُّونَ زَمَانَهُمْ، وَأَدْرَكْتُ مَنْ قَدْ عَاشَ أَلْفَ سَنَةٍ، فَحَدَّثَنِي عَمَّنْ كَانَ قَبْلَهُ قَدْ عَاشَ أَلْفَيْ سَنَةٍ(1).

وَأَمَّا مَا سَمِعْتُ فَإِنَّهُ حَدَّثَنِي مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ حِمْيَرٍ أَنَّ بَعْضَ المُلُوكِ التَّبَابِعَةِ(2) مِمَّنْ قَدْ دَانَتْ لَهُ الْبِلَادُ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: ذُو سَرْحٍ، كَانَ أُعْطِيَ المُلْكَ فِي عُنْفُوَانِ شَبَابِهِ، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ فِي أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ، سَخِيًّا فِيهِمْ مُطَاعاً، فَمَلَكَهُمْ سَبْعَمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَ كَثِيراً يَخْرُجُ فِي خَاصَّتِهِ إِلَىٰ الصَّيْدِ وَالنُّزْهَةِ، فَخَرَجَ يَوْماً فِي بَعْضِ مُتَنَزَّهِهِ، فَأَتَىٰ عَلَىٰ حَيَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا بَيْضَاءُكَأَنَّهَا سَبِيكَةُ فِضَّةٍ، وَالْأُخْرَىٰ سَوْدَاءُ كَأَنَّهَا حُمَمَةٌ(3)، وَهُمَا تَقْتَتِلَانِ، وَقَدْ غَلَبَتِ السَّوْدَاءُ عَلَىٰ الْبَيْضَاءِ، فَكَادَتْ تَأْتِي عَلَىٰ نَفْسِهَا،

ص: 311


1- راجع مكالمته مع معاوية كتاب المعمَّرون لأبي حاتم السجستاني (ص 7 و8/ الرقم 7).
2- ملوك التبايعة هم بنو حمير كانوا باليمن، وإنَّما سُمُّوا تبابعة لأنَّه يتبع بعضهم بعضاً، كلَّما هلك واحد منهم قام بعده واحد آخر، ولم يكونوا يسمُّون المَلِك منهم بتبَّع حتَّىٰ يملك اليمن.
3- الحمم: الرماد والفحم وكلُّ ما احترق من النار، الواحدة حممة. (الصحاح للجوهري: ج 5/ ص 1905/ مادَّة حمم).

فَأَمَرَ المَلِكُ بِالسَّوْدَاءِ فَقُتِلَتْ، وَأَمَرَ بِالْبَيْضَاءِ فَاحْتُمِلَتْ حَتَّىٰ انْتَهَىٰ بِهَا إِلَىٰ عَيْنٍ مِنْ مَاءٍ نَقِيٍّ عَلَيْهَا شَجَرَةٌ، فَأَمَرَ فَصُبَّ المَاءُ عَلَيْهَا وَسُقِيَتْ حَتَّىٰ رَجَعَتْ إِلَيْهَا نَفَسُهَا فَأَفَاقَتْ، فَخَلَّىٰ سَبِيلَهَا، فَانْسَابَتِ الْحَيَّةُ فَمَضَتْ لِسَبِيلِهَا، وَمَكَثَ المَلِكُ يَوْمَئِذٍ فِي مُتَصَيَّدِهِ وَنُزْهَتِهِ، فَلَمَّا أَمْسَىٰ رَجَعَ إِلَىٰ مَنْزِلِهِ وَجَلَسَ عَلَىٰ سَرِيرِهِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ حَاجِبٌ وَلَا أَحَدٌ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ رَأَىٰ شَابًّا أَخَذَ بِعِضَادَتَيِ الْبَابِ وَبِهِ مِنَ الشَّبَابِ وَالْجَمَالِ شَيْءٌ لَا يُوصَفُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَذُعِرَ مِنْهُ المَلِكُ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ وَمَنْ أَذِنَ لَكَ فِي الدُّخُولِ إِلَيَّ فِي هَذَا المَوْضِعِ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَيَّ فِيهِ حَاجِبٌ وَلَا غَيْرُهُ؟ فَقَالَ لَهُ الْفَتَىٰ: لَا تَرُعْ أَيُّهَا المَلِكُ إِنِّي لَسْتُ بِإِنْسِيٍّ وَلَكِنِّي فَتًى مِنَ الْجِنِّ، أَتَيْتُكَ لِأُجَازِيَكَ بِبَلَائِكَ الْحَسَنِ الْجَمِيلِ عِنْدِي، قَالَ المَلِكُ: وَمَا بَلَائِي عِنْدَكَ؟ قَالَ: أَنَا الْحَيَّةُ الَّتِي أَحْيَيْتَنِي فِي يَوْمِكَ هَذَا، وَالْأَسْوَدُ الَّذِي قَتَلْتَهُ وَخَلَّصْتَنِي مِنْهُ كَانَ غُلَاماً لَنَا تَمَرَّدَ عَلَيْنَا، وَقَدْ قَتَلَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي عِدَّةً، كَانَ إِذَا خَلَا بِوَاحِدٍ مِنَّا قَتَلَهُ، فَقَتَلْتَ عَدُوِّي وَأَحْيَيْتَنِي، فَجِئْتُكَ لِأُكَافِيَكَ بِبَلَائِكَ عِنْدِي، وَنَحْنُ أَيُّهَا المَلِكُ الْجِنُّ لَا الْجِنُّ، قَالَ لَهُ المَلِكُ: وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْجِنِّ وَالْجِنِّ؟

ثُمَّ انْقَطَعَ الْحَدِيثُ مِنَ الْأَصْلِ الَّذِي كَتَبْتَهُ، فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَمَامُهُ.

* * *

ص: 312

الباب الثاني والخمسون:

حديث الربيع بن الضبع الفزاري

ص: 313

ص: 314

[1/497] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَىٰ المُكَتِّبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الطَّيِّبِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ دُرَيْدٍ الْأَزْدِيُّ الْعُمَانِيُّ بِجَمِيعِ أَخْبَارِهِ وَكُتُبِهِ الَّتِي صَنَّفَهَا، وَوَجَدْنَا فِي أَخْبَارِهِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا وَفَدَ النَّاسُ عَلَىٰ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ قَدِمَ فِيمَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ الرَّبِيعُ بْنُ ضَبُعٍ الْفَزَارِيُّ - وَكَانَ أَحَدَ المُعَمَّرِينَ -، وَمَعَهُ ابْنُ ابْنِهِ وَهْبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الرَّبِيعِ شَيْخاً فَانِياً قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَىٰ عَيْنَيْهِ وَقَدْ عَصَبَهُمَا، فَلَمَّا رَآهُ الْآذِنُ وكَانُوا يَأْذَنُونَ النَّاسَ عَلَىٰ أَسْنَانِهِمْ، قَالَ لَهُ: ادْخُلْ أَيُّهَا الشَّيْخُ، فَدَخَلَ يَدِبُّ عَلَىٰ الْعَصَا يُقِيمُ بِهَا صُلْبَهُ وَكَشْحَيْهِ عَلَىٰ رُكْبَتَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ عَبْدُ المَلِكِ رَقَّ لَهُ وَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ أَيُّهَا الشَّيْخُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَيَجْلِسُ الشَّيْخُ وَجَدُّهُ عَلَىٰ الْبَابِ؟ قَالَ: فَأَنْتَ إِذَنْ مِنْ وُلْدِ الرَّبِيعِ بْنِ ضَبُعٍ؟ قَالَ: نَعَمْ أَنَا وَهْبُ ابْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ لِلْآذِنِ: ارْجِعْ فَأَدْخِلِ الرَّبِيعَ، فَخَرَجَ الْآذِنُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ حَتَّىٰ نَادَىٰ: أَيْنَ الرَّبِيعُ؟ قَالَ: هَا أَنَا ذَا، فَقَامَ يُهَرْوِلُ فِي مِشْيَتِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَىٰ عَبْدِ المَلِكِ سَلَّمَ، فَقَالَ عَبْدُ المَلِكِ لِجُلَسَائِهِ: وَيْلَكُمْ إِنَّهُ لَأَشَبُّ الرَّجُلَيْنِ، يَا رَبِيعُ أَخْبِرْنِي عَمَّا أَدْرَكْتَ مِنَ الْعُمُرِ، وَالَّذِي رَأَيْتَ مِنَ الْخُطُوبِ المَاضِيَةِ، قَالَ: أَنَا الَّذِي أَقُولُ:

هَا أَنَا ذَا آمُلُ الْخُلُودَ وَقَدْ *** أَدْرَكَ عُمْرِي(1) وَمَوْلِدِي حَجَرا

أَنَا امْرُؤُ الْقَيْسِ(2) قَدْ سَمِعْتَ بِهِ *** هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ طَالَ ذَا عُمُرا

فَقَالَ عَبْدُ المَلِكِ: قَدْ رُوِّيتُ هَذَا مِنْ شِعْرِكَ وَأَنَا صَبِيٌّ، قَالَ: وَأَنَا أَقُولُ:

ص: 315


1- في رواية: (أدرك عقلي).
2- علىٰ سبيل التشبيه في الشعر. وفي المعمَّرون (ص 7): (أبا امرئ القيس).

إِذَا عَاشَ الْفَتَىٰ مِائَتَيْنِ عَاما *** فَقَدْ ذَهَبَ اللَّذَاذَةُ والْفَتَاءُ(1)

قَالَ عَبْدُ المَلِكِ: وَقَدْ رُوِّيتُ هَذَا أَيْضاً وَأَنَا غُلَامٌ، يَا رَبِيعُ لَقَدْ طَلَبَكَ جَدٌّ غَيْرُ عَاثِرٍ(2)، فَفَصِّلْ لِي عُمُرَكَ.

فَقَالَ: عِشْتُ مِائَتَيْ سَنَةٍ فِي الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَىٰ وَمُحَمَّدٍ (علیهما السلام)، وَمِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَسِتِّينَ سَنَةً فِي الْإِسْلَامِ.

قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الْفِتْيَةِ فِي قُرَيْشٍ المُتَوَاطِئِ الْأَسْمَاءِ، قَالَ: سَلْ عَنْ أَيِّهِمْ شِئْتَ، قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: فَهْمٌ وَعِلْمٌ وَعَطَاءٌ وَحِلْمٌ وَمُقْرِي ضَخْمٍ.

قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حِلْمٌ وَعِلْمٌ وَطَوْلٌ وَكَظْمٌ وَبُعْدٌ مِنَ الظُّلْمِ.

قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: رَيْحَانَةٌ طَيِّبٌ رِيحُهَا، لَيِّنٌ مَسُّهَا، قَلِيلٌ عَلَىٰ المُسْلِمِينَ ضَرَرُهَا.

قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: جَبَلٌ وَعْرٌ، يَنْحَدِرُ مِنْهُ الصَّخْرُ.قَالَ: لِلهِ دَرُّكَ مَا أَخْبَرَكَ بِهِمْ، قَالَ: قَرُبَ جِوَارِي، وَكَثُرَ اسْتِخْبَارِي.

* * *

ص: 316


1- في رواية: (فقد أودىٰ المسرَّة والفتاء)، وفي بحار الأنوار (ج 51/ ص 235): (فقد ذهب اللذاذة والغناء)، ويُروىٰ: (فقد ذهب التخيُّل والفتاء)، والفتاء مصدر الفتىٰ. وكان قبل البيت بيتان هما: إذا كان الشتاء فأدفئوني *** فإنَّ الشيخ يهدمه الشتاءُ فأمَّا حين يذهب كلُّ قُرٍّ *** فسربال خفيف أو رداءُ
2- الجَدُّ - بالفتح -: الحظُّ والبخت والغناء، أي طلبك بخت عظيم لم يعثر حتَّىٰ وصل إليك، أو لم يعثر بك، بل نعتك في كلِّ الأحوال.

الباب الثالث والخمسون:

حديث شقِّ الكاهن

ص: 317

ص: 318

[1/498] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَىٰ المُكَتِّبُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الطَّيِّبِ أَحْمَدُ ابْنُ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ دُرَيْدٍ الْأَزْدِيُّ الْعُمَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَىٰ أَبُو بَشِيرٍ الْعُقَيْليُّ، عَنْ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي قَبِيصَةَ، عَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ شُيُوخاً مِنْ بَجِيلَةَ مَا رَأَيْتُ عَلَىٰ سَرْوِهِمْ(1) وَلَا حُسْنِ هَيْأَتِهِمْ يُخْبَرُونَ أَنَّهُ عَاشَ شِقُّ الْكَاهِنِ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ قَوْمُهُ، فَقَالُوا: أَوْصِنَا فَقَدْ آنَ أَنْ يَفُوتَنَا بِكَ الدَّهْرُ، فَقَالَ: تَوَاصَلُوا وَلَا تَقَاطَعُوا، وَتَقَابَلُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَبُلُّوا الْأَرْحَامَ(2)، وَاحْفَظُوا الذِّمَامَ، وَسَوِّدُوا الْحَلِيمَ، وَأَجِلُّوا الْكَرِيمَ، وَوَقِّرُوا ذَا الشَّيْبَةِ، وَأَذِلُّوا اللَّئِيمَ، وَتَجَنَّبُوا الْهَزْلَ فِي مَوَاضِعِ الْجِدِّ، وَلَا تُكَدِّرُوا الْإِنْعَامَ بِالمَنِّ، وَاعْفُوا إِذَا قَدَرْتُمْ، وَهَادِنُوا إِذَا عَجَزْتُمْ، وَأَحْسِنُوا إِذَا كُويِدْتُمْ(3)، وَاسْمَعُوا مِنْ مَشَايِخِكُمْ، وَاسْتَبِقُوا دَوَاعِيَ الصَّلَاحِ عِنْدَ إِحَنِ الْعَدَاوَةِ، فَإِنَّ بُلُوغَ الْغَايَةِ فِي النِّكَايَةِ جُرْحٌ بَطِيءُ الْاِنْدِمَالِ، وَإِيَّاكُمْ وَالطَّعْنَ فِي الْأَنْسَابِ، لَا تَفْحَصُوا عَنْ مَسَاوِيكُمْ(4)، وَلَا تُودِعُوا عَقَائِلَكُمْ غَيْرَ مُسَاوِيكُمْ(5)، فَإِنَّهَاوَصْمَةٌ فَادِحَةٌ وَقَضَاءَةٌ فَاضِحَةٌ(6)، الرِّفْقَ الرِّفْقَ لَا الْخُرْقَ فَإِنَّ الْخُرْقَ مَنْدَمَةٌ فِي

ص: 319


1- السَّرو - بفتح السين المهملة وسكون الراء والواو آخراً -: المروءة في شرف.
2- في النهاية (ج 1/ ص 153): (فيه: «بلُّوا أرحامكم ولو بالسلام»، أي ندوها بصلتها، وهم يُطلِقون النداوة علىٰ الصلة كما يُطلِقون اليبس علىٰ القطيعة).
3- من الكيد.
4- يعني مساوئ بني نوعكم.
5- العقيلة: الكريمة، أي لا تُزوِّجوا بناتكم إلَّا ممَّن يساويكم في الشرف.
6- الوصمة: العار والعيب. والفادح: الثقيل. وقضأة فاضحة: أي عيب وفساد، وتقضؤوا منه أنْ يُزوِّجوه: أي استخسُّوا حسبه.

الْعَوَاقِبِ، مَكْسَبَةٌ لِلْعَوَاتِبِ، الصَّبْرُ أَنْفَذُ عِتَابٍ(1)، وَالْقَنَاعَةُ خَيْرُ مَالٍ، وَالنَّاسُ أَتْبَاعُ الطَّمَعِ، وَقَرَائِنُ الْهَلَعِ، وَمَطَايَا الْجَزَعِ، وَرُوحُ الذُّلِّ التَّخَاذُلُ، وَلَا تَزَالُونَ نَاظِرِينَ بِعُيُونٍ نَائِمَةٍ مَا اتَّصَلَ الرَّجَاءُ بِأَمْوَالِكُمْ وَالْخَوْفُ بِمَحَالِّكُمْ.

ثُمَّ قَالَ: يَا لَهَا نَصِيحَةً زَلَّتْ عَنْ عَذْبَةٍ فَصِيحَةٍ إِذَا كَانَ وِعَاؤُهَا وَكِيعاً(2) وَمَعْدِنُهَا مَنِيعاً، ثُمَّ مَاتَ.

قال مصنِّف هذا الكتاب (رضی الله عنه): إنَّ مخالفينا يروون مثل هذه الأحاديث ويُصدِّقونها، ويروون حديث شدَّاد بن عاد بن إرم وأنَّه عُمِّر تسعمائة سنة، ويروون صفة الجنَّة وأنَّها مغيبة عن الناس فلا تُرىٰ وأنَّها في الأرض، ولا يُصدِّقون بقائم آل محمّد (علیهم السلام)، ويُكذِّبون بالأخبار التي رُويت فيه جحوداً للحقِّ وعناداً لأهله.

* * *

ص: 320


1- في بعض النُّسَخ: (أنفذ عتاد).
2- وعاء وكيع: أي شديد متين.

الباب الرابع والخمسون:

اشارة

حديث شدَّاد بن عاد بن إرم، وصفة

«إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ 7 الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ 8»

[وقَصص وأحاديث أُخرى كثيرة]

ص: 321

ص: 322

[1/499] أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الزَّنْجَانِيُّ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ أَبُو المُثَنَّىٰ الْعَنْبَرِيُّ(1)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: إِنَّ رَجُلاً يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللهِ بْنُ قِلَابَةَ خَرَجَ فِي طَلَبِ إِبِلٍ لَهُ قَدْ شَرَدَتْ، فَبَيْنَا هُوَ فِي صَحَارِي عَدَنٍ فِي تِلْكَ الْفَلَوَاتِ إِذْ هُوَ وَقَعَ عَلَىٰ مَدِينَةٍ عَلَيْهَا حِصْنٌ، حَوْلَ ذَلِكَ الْحِصْنِ قُصُورٌ كَثِيرَةٌ وَأَعْلَامٌ طِوَالٌ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا ظَنَّ أَنَّ فِيهَا مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْ إِبِلِهِ، فَلَمْ يَرَ دَاخِلاً وَلَا خَارِجاً، فَنَزَلَ عَنْ نَاقَتِهِ وَعَقَلَهَا وَسَلَّ سَيْفَهُ وَدَخَلَ مِنْ بَابِ الْحِصْنِ، فَإِذَا هُوَ بِبَابَيْنِ عَظِيمَيْنِ لَمْ يَرَ فِي الدُّنْيَا بِنَاءً أَعْظَمَ مِنْهُمَا وَلَا أَطْوَلَ، وَإِذَا خَشَبُهَا مِنْ أَطْيَبِ عُودٍ وَعَلَيْهَا نُجُومٌ مِنْ يَاقُوتٍ أَصْفَرَ وَيَاقُوتٍ أَحْمَرَ، ضَوْؤُهَا قَدْ مَلَأَ المَكَانَ، فَلَمَّا رَأَىٰ ذَلِكَ أَعْجَبَهُ، فَفَتَحَ أَحَدَ الْبَابَيْنِ وَدَخَلَ، فَإِذَا هُوَ بِمَدِينَةٍ لَمْ يَرَ الرَّاؤُونَ مِثْلَهَا قَطُّ، وَإِذَا هُوَ بِقُصُورٍ، كُلُّ قَصْرٍ مِنْهَا مُعَلَّقٌ تَحْتَهُ أَعْمِدَةٌ مِنْ زَبَرْجَدٍ وَيَاقُوتٍ، وَفَوْقَ كُلِّ قَصْرٍ مِنْهَا غُرَفٌ، وَفَوْقَ الْغُرَفِ غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ، وَعَلَىٰ كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ تِلْكَ الْقُصُورِ مَصَارِيعُ مِثْلُ مَصَارِيعِ بَابِ المَدِينَةِ مِنْ عُودٍ طَيِّبٍ، قَدْ نُضِّدَتْ عَلَيْهِ الْيَوَاقِيتُ، وَقَدْ فُرِشَتْ تِلْكَ الْقُصُورُ بِاللُّؤْلُؤِ وَبَنَادِقِ الْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ، فَلَمَّا رَأَىٰ ذَلِكَ أَعْجَبَهُ وَلَمْ يَرَ هُنَاكَ أَحَداً، فَأَفْزَعَهُ ذَلِكَ.ثُمَّ نَظَرَ إِلَىٰ الْأَزِقَّةِ فَإِذَا فِي كُلِّ زُقَاقٍ مِنْهَا أَشْجَارٌ قَدْ أَثْمَرَتْ، تَحْتَهَا أَنْهَارٌ تَجْرِي، فَقَالَ: هَذِهِ الْجَنَّةُ الَّتِي وَصَفَ اللهُ (عزوجل) لِعِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا، وَالْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي

ص: 323


1- هو معاذ بن معاذ العنبري قاضى البصرة عامّي، وثَّقه ابن معين وأبو حاتم. وعبد الله هو ابن أخ جويرية، وثَّقه أبو حاتم. وعمُّه جويرية وثَّقه أحمد. (تهذيب التهذيب).

أَدْخَلَنِي الْجَنَّةَ، فَحَمَلَ مِنْ لُؤْلُؤهَا وَمِنْ بَنَادِقِ الْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقْلَعَ مِنْ زَبَرْجَدِهَا وَمِنْ يَاقُوتِهَا لِأَنَّهُ كَانَ مُثْبَتاً فِي أَبْوَابِهَا وَجُدْرَانِهَا، وكَانَ اللُّؤْلُؤُ وَبَنَادِقُ الْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ مَنْثُوراً بِمَنْزِلَةِ الرَّمْلِ فِي تِلْكَ الْقُصُورِ وَالْغُرَفِ كُلِّهَا، فَأَخَذَ مِنْهَا مَا أَرَادَ وَخَرَجَ حَتَّىٰ أَتَىٰ نَاقَتَهُ وَرَكِبَهَا، ثُمَّ سَارَ يَقْفُو أَثَرَ نَاقَتِهِ حَتَّىٰ رَجَعَ إِلَىٰ الْيَمَنِ وَأَظْهَرَ مَا كَانَ مَعَهُ وَأَعْلَمَ النَّاسَ أَمْرَهُ، وَبَاعَ بَعْضَ ذَلِكَ اللُّؤْلُؤِ، وَكَانَ قَدِ اصْفَارَّ وتَغَيَّرَ مِنْ طُولِ مَا مَرَّ عَلَيْهِ مِنَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ، فَشَاعَ خَبَرُهُ وَبَلَغَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، فَأَرْسَلَ رَسُولاً إِلَىٰ صَاحِبِ صَنْعَاءَ وَكَتَبَ بِإِشْخَاصِهِ، فَشَخَصَ حَتَّىٰ قَدِمَ عَلَىٰ مُعَاوِيَةَ، فَخَلَا بِهِ وسَأَلَهُ عَمَّا عَايَنَ، فَقَصَّ عَلَيْهِ أَمْرَ المَدِينَةِ وَمَا رَأَىٰ فِيهَا، وَعَرَضَ عَلَيْهِ مَا حَمَلَهُ مِنْهَا مِنَ اللُّؤْلُؤِ وَبَنَادِقِ الْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا أُعْطِيَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ مِثْلَ هَذِهِ المَدِينَةِ، فَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَىٰ كَعْبِ الْأَحْبَارِ فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، هَلْ بَلَغَكَ أَنَّ فِي الدُّنْيَا مَدِينَةً مَبْنِيَّةً بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَعُمُدُهَا مِنَ الزَّبَرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ، وَحَصَاءُ قُصُورِهَا وَغُرَفُهَا اللُّؤْلُؤُ، وَأَنْهَارُهَا فِي الْأَزِقَّةِ تَجْرِي تَحْتَ الْأَشْجَارِ؟

قَالَ كَعْبٌ: أَمَّا هَذِهِ المَدِينَةُ فَصَاحِبُهَا شَدَّادُ بْنُ عَادٍ الَّذِي بَنَاهَا، وَأَمَّا المَدِينَةُ فَهِيَ إِرَمُ ذاتِ الْعِمادِ، وَهِيَ الَّتِي وَصَفَ اللهُ (عزوجل) فِي كِتَابِهِ المُنْزَلِ عَلَىٰ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله)، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ.

قَالَ مُعَاوِيَةُ: حَدِّثْنَا بِحَدِيثِهَا، فَقَالَ: إِنَّ عَاداً الْأُولَىٰ - وَلَيْسَ بِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (علیه السلام) - كَانَ لَهُ ابْنَانِ سُمِّيَ أَحَدُهُمَا شَدِيداً وَالْآخَرُ شَدَّاداً، فَهَلَكَعَادٌ وَبَقِيَا وَمَلَكَا وَتَجَبَّرَا وَأَطَاعَهُمَا النَّاسُ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، فَمَاتَ شَدِيدٌ وَبَقِيَ شَدَّادٌ، فَمَلَكَ وَحْدَهُ وَلَمْ يُنَازِعْهُ أَحَدٌ.

وَكَانَ مُولَعاً بِقِرَاءَةِ الْكُتُبِ، وَكَانَ كُلَّمَا سَمِعَ بِذِكْرِ الْجَنَّةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْبُنْيَانِ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ وَاللُّؤْلُؤِ رَغِبَ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا عُتُوًّا عَلَىٰ اللهِ (عزوجل)،

ص: 324

فَجَعَلَ عَلَىٰ صَنْعَتِهَا مِائَةَ رَجُلٍ تَحْتَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَلْفٌ مِنَ الْأَعْوَانِ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا إِلَىٰ أَطْيَبِ فَلَاةٍ فِي الْأَرْضِ وَأَوْسَعِهَا، فَاعْمَلُوا لِي فِيهَا مَدِينَةً مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَيَاقُوتٍ وَزَبَرْجَدٍ وَلُؤْلُؤٍ، وَاصْنَعُوا تَحْتَ تِلْكَ المَدِينَةِ أَعْمِدَةً مِنْ زَبَرْجَدٍ، وَعَلَىٰ المَدِينَةِ قُصُوراً، وَعَلَىٰ الْقُصُورِ غُرَفاً، وَفَوْقَ الْغُرَفِ غُرَفاً، وَاغْرِسُوا تَحْتَ الْقُصُورِ فِي أَزِقَّتِهَا أَصْنَافَ الثِّمَارِ كُلِّهَا، وأَجْرُوا فِيهَا الْأَنْهَارَ حَتَّىٰ يَكُونَ تَحْتَ أَشْجَارِهَا، فَإِنِّي قَرَأْتُ فِي الْكُتُبِ صِفَةَ الْجَنَّةِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَجْعَلَ مِثْلَهَا فِي الدُّنْيَا.

قَالُوا لَهُ: كَيْفَ نَقْدِرُ عَلَىٰ مَا وَصَفْتَ لَنَا مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَتَّىٰ يُمْكِنَنَا أَنْ نَبْنِيَ مَدِينَةً كَمَا وَصَفْتَ؟

قَالَ شَدَّادٌ: أَلَا تَعْلَمُونَ أَنَّ مُلْكَ الدُّنْيَا بِيَدِي؟ قَالُوا: بَلَىٰ، قَالَ: فَانْطَلِقُوا إِلَىٰ كُلِّ مَعْدِنٍ مِنْ مَعَادِنِ الْجَوَاهِرِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَوَكِّلُوا بِهَا حَتَّىٰ تَجْمَعُوا مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَخُذُوا مَا تَجِدُونَهُ فِي أَيْدِي النَّاسِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.

فَكَتَبُوا إِلَىٰ كُلِّ مَلِكٍ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، فَجَعَلُوا يَجْمَعُونَ أَنْوَاعَ الْجَوَاهِرِ عَشْرَ سِنِينَ، فَبَنَوْا لَهُ هَذِهِ المَدِينَةَ فِي مُدَّةِ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، وَعُمُرُ شَدَّادٍ تِسْعُمِائَةِ سَنَةٍ، فَلَمَّا أَتَوْهُ وَأَخْبَرُوهُ بِفَرَاغِهِمْ مِنْهَا قَالَ: انْطَلِقُوا فَاجْعَلُوا عَلَيْهَا حِصْناً، وَاجْعَلُوا حَوْلَ الْحِصْنِ أَلْفَ قَصْرٍ، عِنْدَ كُلِّ قَصْرٍ أَلْفَ عَلَمٍ، يَكُونُ فِي كُلِّ قَصْرٍ مِنْ تِلْكَ الْقُصُورِ وَزِيرٌ مِنْ وُزَرَائِي، فَرَجَعُوا وَعَمِلُوا ذَلِكَ كُلَّهُ لَهُ، ثُمَّ أَتَوْهُ فَأَخْبَرُوهُ بِالْفَرَاغِ مِنْهَا كَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِالتَّجْهِيزِ إِلَىٰ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ، فَأَقَامُوا فِي جِهَازِهِمْ إِلَيْهَا عَشْرَ سِنِينَ.

ثُمَّ سَارَ المَلِكُ يُرِيدُ إِرَمَ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ المَدِينَةِ عَلَىٰ مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بَعَثَ اللهُ (عزوجل) عَلَيْهِ وَعَلَىٰ جَمِيعِ مَنْ كَانَ مَعَهُ صَيْحَةً مِنَ السَّمَاءِ فَأَهْلَكَتْهُمْ جَمِيعاً، وَمَا دَخَلَ إِرَمَ وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ، فَهَذِهِ صِفَةُ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ.

ص: 325

وَإِنِّي لَأَجِدُ فِي الْكُتُبِ أَنَّ رَجُلاً يَدْخُلُهَا وَيَرَىٰ مَا فِيهَا ثُمَّ يَخْرُجُ وَيُحَدِّثُ النَّاسَ بِمَا يَرَىٰ فَلَا يُصَدَّقُ، وَسَيَدْخُلُهَا أَهْلُ الدِّينِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ (1).

قال مصنَّف هذا الكتاب (رضی الله عنه): إذا جاز أنْ يكون في الأرض جنَّة مغيَّبة عن أعين الناس لا يهتدي إلىٰ مكانها أحد من الناس ولا يعلمون بها، ويعتقدون صحَّة كونها من طريق الأخبار، فكيف لا يقبلون من طريق الأخبار كون القائم (علیه السلام) الآن في غيبته؟ وإذا جاز أنْ يُعمِّر شدَّاد بن عاد تسعمائة سنة، فكيف لا يجوز أنْ يُعمِّر القائم (علیه السلام) مثلها أو أكثر منها؟

والخبر في شدَّاد بن عاد عن أبي وائل، والأخبار في القائم (علیه السلام) عن النبيِّ والأئمَّة (صلوات الله عليهم)، فهل ذلك إلَّا مكابرة في جحود الحقِّ؟

وَوَجَدْتُ فِي كِتَابِ المُعَمَّرِينَ أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعِيدٍ الرَّحَّالِ، قَالَ: إِنَّا وَجَدْنَا حَجَراً بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مَكْتُوباً فِيهِ: أَنَا شَدَّادُ بْنُ عَادٍ، وَأَنَا الَّذِي شَيَّدْتُ الْعِمَادَ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ، وَجَنَّدْتُ الْأَجْنَادَ، وَشَدَدْتُ بِسَاعِدِي الْوَادَ، فَبَنَيْتُهُنَّ إِذْ لَا شَيْبَ وَلَا مَوْتَ، وَإِذِ الْحِجَارَةُ فِي اللِّينِ مِثْلُالطِّينِ، وَكَنَزْتُ كَنْزاً فِي الْبَحْرِ عَلَىٰ اثْنَيْ عَشَرَ مَنْزِلاً لَمْ يُخْرِجْهُ أَحَدٌ حَتَّىٰ تُخْرِجَهُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ.

[ذكر المعمَّرين]:

وعاش أوس بن ربيعة بن كعب بن أُميَّة الأسلمي مائتين وأربع عشرة سنة، وقال في ذلك:

لقد عمرت حتَّىٰ ملَّ أهلي *** ثوائي عندهم وسئمت عمري(2)

وحقَّ لمن أتىٰ مائتان عاماً *** عليه وأربع من بعد عشرِ

ص: 326


1- رواه الراوندي (رحمة الله) في قَصص الأنبياء (ص 97 - 99/ ح 88).
2- ثوائي: أي إقامتي. وفي رواية: (فيهم) مكان (عندهم).

يملُّ من الثواء وصبح يوم (1) *** يغاديه وليل بعد يسري

فأبلىٰ جدَّتي وتركت شِلواً(2) *** وباح بما أُجِنُّ ضمير صدري

وعاش أبو زبيد واسمه البدر بن حرملة الطائي - وكان نصرانيًّا - خمسين ومائة سنة.

وعاش نصر بن دُهمان بن [بصار بن بكر بن] سُلَيم بن أشجع بن الريث بن غطفان مائة وتسعين سنة حتَّىٰ سقطت أسنانه وخرف عقله وابيضَّ رأسه، فحزب قومه أمر(3) فاحتاجوا فيه إلىٰ رأيه، ودعوا الله (عزوجل) أنْ يردَّ إليه عقله وشبابه، فعاد إليه عقله وشبابه واسودَّ شعره.

فقال فيه سَلَمة بن الخُرشُب الأنماري من أنمار بن بغيض، ويقال: بلعياض مرداس السلمي:

لنصر بن دُهمانَ الهُنيدَةَ عاشها *** وتسعين حولاً ثمّ قُوِّم فانصاتا(4)

وعاد سواد الرأس بعد بياضه(5) *** وراجعه شرخ الشباب الذي فاتا(6)

وراجع عقلاً عند ما فات عقله *** ولكنَّه من بعد ذا كلِّه ماتا

وعاش سويد بن حذَّاق العبدي(7) مائتي سنة.

وعاش الجُعشم بن عوف بن حذيمة دهراً طويلاً، فقال:

ص: 327


1- في نسخة: (وصبح ليل).
2- الشلو - بالكسر -: بقيَّة الشيء، والمشلى من الرجال: الخفيف اللحم. وفي رواية: (وبقيت شلواً).
3- حزبه أمر: أي نزل به مهمٌّ، أو أصابه غمٌّ.
4- الهنيدة: المائة من الإبل وغيرها، وقال أبو عبيدة: هي اسم لكلِّ مائة. وانصات الرجل: إذا أجاب.
5- في رواية: (بعد ابيضاضه).
6- شرخ الشباب أوَّله أو نضارته.
7- من عبد القيس بن أفصىٰ بن دعمي بن أسد بن ربيعة بن نزار.

حتَّىٰ متىٰ الجُعشم في الأحياء *** ليس بذي أيدٍ ولا غناءِ

هيهاتَ ما للموت من دواءِ

وعاش ثعلبة بن كعب بن زيد بن عبد الأشهل الأوسي(1) مائتي سنة، فقال:

لقد صاحبت أقواماً فأمسوا(2) *** خُفاتاً ما يُجاب لهم دعاءُ

مضوا قصد السبيل وخلَّفوني *** فطال عليَّ بعدهم الثواءُ

فأصبحت الغداة رهين بيتي *** وأخلفني من الموت الرجاءُ

وعاش رداءة بن كعب(3) بن ذهل بن قيس النخعي ثلاثمائة سنة،وقال:

لم يبقَ يا خذلة من لداتي *** أبو بنين لا ولا بناتِ(4)

ولا عقيم غير ذي سباتِ(5) *** إلَّا يُعَدُّ اليوم في الأمواتِ

هل مشترٍ أبيعه حياتي

وعاش عدي بن حاتم طيء عشرين ومائة سنة.

وعاش أماباة بن قيس بن الحارث بن شيبان الكندي ستِّين ومائة سنة.

وعاش عميرة بن هاجر بن عمير بن عبد العزَّىٰ بن قُمَير سبعين ومائة سنة، وقال:

ص: 328


1- في بعض النُّسَخ: (الأشوس).
2- في رواية السجستاني: (فأضحوا). (المعمَّرون: ص 72).
3- في بعض النُّسَخ: (رداد بن كعب). وأورده أبو حاتم السجستاني في المعمَّرون (ص 42 و43/ الرقم 42) بعنوان جعفر بن قرط بن كعب بن قيس بن سعد، وذكر له شعراً، ولعلَّه كعب بن رداة النخعي كما ذكره ابن الكلبي علىٰ قول السجستاني.
4- لِدة الرجل: تِربه، والجمع لِدات.
5- السُّبات: النوم والراحة. وفي بعض النُّسَخ: (ذي بتات)، والبتات: متاع البيت. وفي رواية السجستاني: (من مسقط الشمس إلىٰ الفرات).

بليت وأفناني الزمان وأصبحت *** هُنَيدَةِ قد أبقيت(1) من بعدها عشرا

وأصبحت مثل الفرخ لا أنا ميِّت *** فأُسلىٰ(2) ولا حيٌّ فأُصدر لي أمرا

وقد عشت دهراً ما تجنُّ عشيرتي *** لها ميِّتاً حتَّىٰ أخطُّ به قبرا

وعاش العرَّام بن منذر(3) بن زبيد بن قيس بن حارثة بن لأم دهراً طويلاً في الجاهليَّة، وأدرك عمر بن عبد العزيز، وأُدخل عليه وقد اختلفتترقوتاه وسقط حاجباه، فقيل له: ما أدركت؟ فقال:

ووالله ما أدري أأدركت أُمَّة *** علىٰ عهد ذي القرنين أم كنت أقدما

متىٰ تخلعا منِّي القميص تبيَّنا *** جآجئ(4) لم يكسين لحماً

ولا دما

وعاش سيف بن وهب بن جذيمة الطائي مائتي سنة، وقال:

ألَا إنَّني عاجلاً ذاهبُ *** فلا تحسبوا أنَّني كاذبُ

لبست شبابي فأفنيته *** وأدركني القدر الغالبُ

وخصم دفعت ومولىٰ نفع *** حتَّىٰ يثوب له ثائبُ

وعاش أرطاة بن دشهبة المزني عشرين ومائة سنة، فكان يُكنَّىٰ أبا الوليد، فقال له عبد المَلِك بن مروان: ما بقي من شعرك يا أرطاة؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنِّي لا أشرب ولا أطرب ولا أغضب، ولا يجيئني الشعراء إلَّا علىٰ أحد هذه الخصال، علىٰ أنِّي أقول:

ص: 329


1- في رواية: (قد أنضيت).
2- في بعض النُّسَخ: (فأبلىٰ)، وفي بحار الأنوار (ج 51/ ص 238): (فأبكىٰ). وزاد في كتاب أبي حاتم السجستاني (ص 73): وقد كنت دهراً أهزم الجيش *** واحداً وأعطىٰ فلا منًّا عطائي ولا نزرا
3- في بعض النُّسَخ والكُتُب: (عوام بن المنذر).
4- جآجئ: جمع جؤجؤ، وهو الصدر، وقيل: عظامه، وهو المراد هنا.

رأيت المرء تأكله الليالي *** كأكل الأرض ساقطة الحديدِ

وما تُبقي المنيَّة حين تأتي *** علىٰ نفس ابن آدم من مزيدِ

وأعلم أنَّها ستكرُّ حتَّىٰ *** تُوفِّي نذرها بأبي الوليدِ

فارتاع عبد المَلِك(1)، فقال: يا أرطاة، فقال أرطاة: يا أمير المؤمنين، إنِّي أُكنَّىٰ أبا الوليد.

وعاش عبيد بن الأبرص(2) ثلاثمائة سنة، فقال:

فنيت وأفناني الزمان وأصبحت *** لِداتي بنو نعش وزهر الفراقدِ(3)

ثمّ أخذه النعمان بن المنذر يوم بؤسه فقتله.

وعاش شريح بن هانئ عشرين ومائة سنة حتَّىٰ قُتِلَ في زمن الحجَّاج بن يوسف، فقال في كبره وضعفه:

أصبحت ذا بثٍّ أُقاسي الكبرا *** قد عشت بين المشركين أعصرا

ثمَّت أدركت النبيَّ المنذرا *** وبعده صدِّيقه وعمرا

ويوم مهران ويوم تسترا *** والجمع في صفِّينهم والنهرا(4)

هيهاتَ ما أطول هذا عمرا

ص: 330


1- أي فزع لما ظنَّ أنَّه أراد بأبي الوليد إيَّاه.
2- هو عبيد بن الأبرص الأسدي الشاعر من بنى سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد، وقتله كما في هامش المعمَّرون (ص 60) المنذر بن ماء السماء، وهو أحد فحول الشعراء الجاهليَّة.
3- الفراقد: جمع فرقد، وهو النجم الذي يُهتدىٰ به.
4- يوم مهران ويوم تستر يومان من أيَّام المسلمين المشهورة في تاريخ الفتوحات الإسلاميَّة ببلاد الفرس. والأشعار في كتاب السجستاني (ص 38 و39) مصرعها الأوَّل ساقط، وجعل المصراع الثاني مكانه، وهكذا إلىٰ آخرها.

وعاش رجل من بني ضبَّة يقال له: المسجاح بن سباع الضبِّي(1) دهراً طويلاً، فقال:

لقد طوَّفت في الآفاق حتَّىٰ *** بليت وقد أنىٰ لي لو أبيدُ(2)

وأفناني ولو يفنىٰ نهار *** وليل كلَّما يمضي يعودُ

وشهر مستهلٌّ بعد شهر *** وحول بعده حول جديدُ

وعاش لقمان العادي الكبير(3) خمسمائة وستِّين سنة، وعاش عمر سبعة أنسر، [عاش] كلُّ نسر منها ثمانين عاماً، وكان من بقيَّة عاد الأُولىٰ.

وروي أنَّه عاش ثلاثة آلاف سنة وخمسمائة سنة، وكان من وفد عاد الذين بعثهم قومهم إلىٰ الحرم ليستسقوا لهم، وكان أُعطي عمر سبعة أنسر، وكان يأخذ فرخ النسر الذَّكَر فيجعله في الجبل الذي هو في أصله، فيعيش النسر منها ما عاش، فإذا مات أخذ آخر فربَّاه، حتَّىٰ كان آخرها لبد، وكان أطولها عمراً، فقيل فيه: (طال الأبد علىٰ لبد)(4).

وقد قيل فيه أشعار معروفة(5)، وأُعطي من القوَّة والسمع والبصر علىٰ قدر

ص: 331


1- قال ابن دريد: مسحاج بن سباع. وفي المعمَّرون (ص 76/ الرقم 83): (مسجاح بن خالد بن الحارث بن قيس بن نصر بن عائذة بن ذهل بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبَّة). وقال: (زعموا أنَّه قال...)، ثمّ ذكر ما في المتن من الشعر وزاد: ومفقود عزيز الفقد تأتي *** منيَّته ومأمول وليدُ
2- في بعض النُّسَخ: (بليت وآن لي أنْ قد أبيدُ)، وكذا في المعمَّرون.
3- هو غير لقمان الذي عاصر داود النبيِّ (علیه السلام).
4- راجع: مجمع الأمثال (ص 443).
5- قال لبيد بن ربيعة الجعفري من بنى كلاب فيه: ولقد رأىٰ لبد النسور تطايرت *** رفع القوادم كالفقير الأعزلِ من تحته لقمان يرجو نهضه *** ولقد رأىٰ لقمان ألَّا يأتلى وقال الضبي فيه: أو لم ترَ لقمان أهلكه *** ما افتات من سنة ومن شهرِ وبقاء نسر كلَّما انقرضت *** أيَّامه عادت إلىٰ نسرِ وقال النابغة الذبياني: أمست خلاء وأمسى أهلها احتملوا *** أخنىٰ عليها الذي أخنىٰ علىٰ لبدِ وأخنىٰ: أي أفسد.

ذلك، وله أحاديث كثيرة.

وعاش زهير بن جناب(1) بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بنعوف بن عذرة بن زيد الله بن رُفيدة بن ثور بن كلب الكلبي ثلاثمائة سنة(2).

وعاش مزيقيا واسمه عمر بن عامر، وهو ماء السماء لأنَّه كان حياة أينما نزل كمثل ماء السماء، وإنَّما سُمِّي مزيقيا لأنَّه عاش ثمانمائة سنة، أربعمائة سوقة، وأربعمائة مَلِكاً، وكان يلبس كلَّ يوم حُلَّتين، ثمّ يأمر بهما فيُمزَّقان حتَّىٰ لا يلبسهما أحد غيره.

وعاش هبل بن عبد الله بن كنانة ستّمائة سنة(3).

وعاش أبو الطحمان القيني(4) مائة وخمسين سنة.

وعاش مستوغر بن ربيعة بن كعب بن زيد مناة بن تميم ثلاثمائة وثلاثين سنة، ثمّ أدرك الإسلام فلم يسلم، وله شعر معروف(5).

ص: 332


1- في بعض النُّسَخ: (حباب).
2- في المعمَّرون (ص 25): عاش أربعمائة سنة وعشرين سنة.
3- قال السجستاني (ص 29): (سبعمائة)، وذكر له حكاية.
4- اسمه حنظلة بن الشرقي، وهو من بنى كنانة بن القين. وفي المعمَّرون (ص 57): عاش مائتي سنة. وقد يظهر من القاموس (ج 1/ ص 238) كونه شاعراً.
5- أوَّلها: ولقد سئمت من الحياة وطولها *** وعُمِّرت من عدد الستِّين مئينا

وعاش دويد بن زيد بن نهد أربعمائة سنة وخمسين سنة، فقال في ذلك:

ألقىٰ عليَّ الدهر رجلاً ويدا *** والدهر ما أصلح يوماً أفسدا

يفسد ما أصلحه اليوم غدا

وجمع بنيه حين حضرته الوفاة فقال: يا بَنِيَّ، أُوصيكم بالناس شرًّا، لا تقبلوا لهم معذرةً، ولا تقيلوا لهم عثرةً(1).وعاش تيم الله بن ثعلبة بن عكاية مائتي سنة(2).

وعاش ربيع بن ضبع بن وهب بن بغيض بن مالك بن سعد بن عدي بن فزارة مائتي وأربعين سنة(3)، وأدرك الإسلام فلم يسلم.

وعاش معديكرب الحميري من آل ذي يزن مائتي وخمسين سنة.

[قصَّة شرية بن عبد الله الجعفي]:

وعاش شرية بن عبد الله الجعفي ثلاثمائة سنة، فقَدِمَ علىٰ عمر بن الخطَّاب بالمدينة فقال: لقد رأيت هذا الوادي الذي أنتم فيه وما به قطرة ولا هضبة(4) ولا

ص: 333


1- بقيَّة وصيَّته: (أُوصيكم بالناس شرًّا، طعناً وضرباً، قصِّروا الأعنَّة، واشرعوا الأسنَّة، وارعوا الكلاء وإنْ كان علىٰ الصفا، وما احتجتم إليه فصونوه، وما استغنيتم عنه فأفسدوه علىٰ من سواكم، فإنَّ غشَّ الناس يدعو إلىٰ سوء الظنِّ، وسوء الظنِّ يدعو إلىٰ الاحتراس) انتهىٰ. راجع نسخة أُخرىٰ من وصيَّة دويد أمالي المرتضىٰ (ج 1/ ص 171). ونظير ذلك الكلام وصيَّة جدِّه نهد بن زيد. وكأنَّ معاوية بن أبي سفيان قرأ هذه الوصية وعمل بها حين بعث سفيان بن عوف الغامدي إلىٰ غارة الأنبار حيث أوصاه - كما في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج 2/ ص 85 و86) - بأنْ اقتل من لقيت ممَّن ليس علىٰ مثل رأيك، وأخرب كلَّ ما مررت به من القرىٰ وانتهب الأموال... إلخ. وكذا في وصيَّة يزيد ابنه حين بعث مسلم بن عقبة إلىٰ المدينة في فتنة ابن الزبير.
2- في المعمَّرون (ص 31): خمسمائة سنة، وقال: (كان من دهاة العرب في زمانه).
3- في المعمَّرون (ص 6): عاش أربعين وثلاثمائة سنة.
4- الهضبة: المطرة. وفي رواية: (قصبة).

شجرة ولقد أدركت أُخريات قومي يشهدون شهادتكم هذه - يعني لا إله إلَّا الله - ومعه ابن له يهادي(1) قد خرف، فقيل له: يا شرية هذا ابنك قد خرف وبك بقيَّة؟ فقال: والله ما تزوَّجت أُمَّه حتَّىٰ أتت عليَّ سبعون سنة، ولكنِّي تزوَّجتها عفيفة ستيرة إنْ رضيت رأيت ما تقرُّ به عيني وإنْ سخطت تأتَّت لي حتَّىٰ أرضىٰ، وإنَّ ابني هذا تزوَّج امرأة بذيَّة فاحشة إنْرأىٰ ما تقرُّ به عينه تعرَّضت له حتَّىٰ يسخط وإنْ سخط تلغَّبته حتَّىٰ يهلك(2).

[قصَّة الريَّان بن دومغ]:

حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ نَصْرٍ السِّجْزِيُّ(3)، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ(4) أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ زَيْدٍ الشَّعْرَانِيَّ مِنْ وُلْدِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ (رضی الله عنه) يَقُولُ: حَكَىٰ لِي أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْمِصْرِيُ أَنَّ أَبَا الْجَيْشِ(5) حَمَّادَوَيْهِ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ كَانَ قَدْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ كُنُوزِ مِصْرَ مَا لَمْ يُرْزَقْ أَحَدٌ قَبْلَهُ، فَغَزَا بِالْهَرَمَيْنِ(6)، فَأَشَارَ إِلَيْهِ جُلَسَاؤُهُ وَحَاشِيَتُهُ وَبِطَانَتُهُ بِأَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِهَدْمِ الْأَهْرَامِ فَإِنَّهُ مَا تَعَرَّضَ لِهَذِهِ أَحَدٌ فَطَالَ عُمُرُهُ، فَأَلَحَّ فِي ذَلِكَ وَأَمَرَ أَلْفاً مِنَ الْفَعَلَةِ أَنْ يَطْلُبُوا الْبَابَ، فَكَانُوا يَعْمَلُونَ سَنَةً حَوَالَيْهِ حَتَّىٰ ضَجِرُوا وَكَلُّوا، فَلَمَّا هَمُّوا بِالْاِنْصِرَافِ بَعْدَ الْإِيَاسِ مِنْهُ وَتَرْكِ الْعَمَلِ وَجَدُوا سَرَباً، فَقَدَّرُوا أَنَّهُ الْبَابُ

ص: 334


1- أي يميل في المشي.
2- اللغب: التعب والإعياء.
3- في بعض النُّسَخ: (نصير الشجري).
4- في بعض النُّسَخ: (سمعت أبا الحسين).
5- في بعض النُّسَخ: (أبا الحسن)، وكذا فيما يأتي.
6- الهَرَمان - بالتحريك -: بناءان أزليَّان بمصر بناهما إدريس (علیه السلام) لحفظ العلوم فيهما عن الطوفان، أو بناء سنان بن المشلشل، أو بناء الأوائل لما علموا بالطوفان من جهة النجوم، وفيهما كلُّ طبٍّ وسحر وطلسم. وهنالك أهرام صغار كثيرة. (القاموس المحيط: ج 4/ ص 189).

الَّذِي يَطْلُبُونَهُ، فَلَمَّا بَلَغُوا آخِرَهُ وَجَدُوا بَلَاطَةً قَائِمَةً(1) مِنْ مَرْمَرٍ، فَقَدَّرُوا أَنَّهَا الْبَابُ فَاحْتَالُوا فِيهَا إِلَىٰ أَنْ قَلَعُوهَا وَأَخْرَجُوهَا.

[قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ المُظَفَّرِ: وَجَدُوا مِنْ وَرَائِهَا بِنَاءً مُنْضَمًّا لَا يَقْدِرُونَعَلَيْهِ، فَأَخْرَجُوهَا ثُمَّ نَظَّفُوهَا]، فَإِذَا عَلَيْهَا كِتَابَةٌ بِالْيُونَانِيَّةِ، فَجَمَعُوا حُكَمَاءَ مِصْرَ وَعُلَمَاءَهَا مِنْ سَائِرِ الْأَدْيَانِ، فَلَمْ يَهْتَدُوا لَهَا.

وَكَانَ [فِي الْقَوْمِ] رَجُلٌ يُعْرَفُ بِأَبِي عَبْدِ اللهِ المَدِينِيِّ أَحَدُ حُفَّاظِ الدُّنْيَا وَعُلَمَائِهَا، فَقَالَ لِأَبِي الْجَيْشِ حَمَّادَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ: أَعْرِفُ فِي بَلَدِ الْحَبَشَةِ أُسْقُفًّا قَدْ عُمِّرَ وَأَتَىٰ عَلَيْهِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ سَنَةً يَعْرِفُ هَذَا الْخَطَّ، وَقَدْ كَانَ عَزَمَ عَلَىٰ أَنْ يُعَلِّمَنِيهِ، فَلِحِرْصِي عَلَىٰ عِلْمِ الْعَرَبِ لَمْ أَقُمْ عِنْدَهُ، وَهُوَ بَاقٍ، فَكَتَبَ أَبُو الْجَيْشِ إِلَىٰ مَلِكِ الْحَبَشَةِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَحْمِلَ هَذَا الْأُسْقُفَّ إِلَيْهِ، فَأَجَابَهُ أَنَّ هَذَا شَيْخٌ قَدْ طُعِنَ فِي السِّنِّ، وَقَدْ حَطَمَهُ الزَّمَانُ، وَإِنَّمَا يَحْفَظُهُ هَذَا الْهَوَاءُ وَهَذَا الْإِقْلِيمُ، وَيُخَافُ عَلَيْهِ إِنْ نُقِلَ إِلَىٰ هَوَاءٍ آخَرَ وَإِقْلِيمٍ آخَرَ وَلَحِقَتْهُ حَرَكَةٌ وَتَعَبٌ وَمَشَقَّةُ السَّفَرِ أَنْ يَتْلَفَ، وَفِي بَقَائِهِ لَنَا شَرَفٌ وَفَرَحٌ وَسَكِينَةٌ، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ شَيْءٌ يَقْرَؤُهُ أَوْ يُفَسِّرُهُ أَوْ مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُونَهُ فَاكْتُبْ لِي بِذَلِكَ، فَحُمِلَتِ الْبَلَاطَةُ فِي قَارِبٍ(2) إِلَىٰ بَلَدِ أُسْوَانَ مِنَ الصَّعِيدِ الْأَعْلَىٰ، وَحُمِلَتْ مِنْ أُسْوَانَ عَلَىٰ الْعَجَلَةِ إِلَىٰ بَلَدِ الْحَبَشَةِ، وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنَ الْأُسْوَانِ، فَلَمَّا وَصَلَتْ قَرَأَهَا الْأُسْقُفُّ وَفَسَّرَ مَا كَانَ فِيهَا بِالْحَبَشِيَّةِ، ثُمَّ نُقِلَتْ إِلَىٰ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِذَا فِيهَا مَكْتُوبٌ: أَنَا الرَّيَّانُ بْنُ دَوْمَغٍ، فَسُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللهِ المَدِينِيُّ عَنِ الرَّيَّانِ مَنْ كَانَ؟ فَقَالَ: هُوَ وَالِدُ الْعَزِيزِ المَلِكِ الَّذِي كَانَ فِي زَمَانِ يُوسُفَ النَّبِيِّ (علیه السلام)، وَاسْمُهُ الْوَلِيدُ بْنُ الرَّيَّانِ بْنِ دَوْمَغٍ، وَكَانَ عُمُرُ الْعَزِيزِ سَبْعَمِائَةِ سَنَةٍ، وَعُمُرُ الرَّيَّانِ وَالِدِهِ أَلْفَ وَسَبْعَمِائَةِ سَنَةٍ، وَعُمُرُ دَوْمَغٍ ثَلَاثَةَ آلَافِ سَنَةٍ.

ص: 335


1- البلاط: الحجارة المفروشة في الدار.
2- أي سفينة صغيرة.

فَإِذَا فِيهَا: أَنَا الرَّيَّانُ بْنُ دَوْمَغٍ، خَرَجْتُ فِي طَلَبِ عِلْمِ النِّيلِ الْأَعْظَمِ لِأَعْلَمَ فَيْضَهُ وَمَنْبَعَهُ إِذْ كُنْتُ أَرَىٰ مُفِيضَهُ، فَخَرَجْتُ وَمَعِي مَنْ صَحِبَنِي أَرْبَعَةُ آلَافِ رَجُلٍ، فَسِرْتُ ثَمَانِينَ سَنَةً إِلَىٰ أَنِ انْتَهَيْتُ إِلَىٰ الظُّلُمَاتِ وَالْبَحْرِ المُحِيطِبِالدُّنْيَا، فَرَأَيْتُ النِّيلَ يَقْطَعُ الْبَحْرَ المُحِيطَ وَيَعْبَرُ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ لِي مَنْفَذٌ، وَتَمَاوَتَ أَصْحَابِي(1)، وَبَقِيتُ فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ رَجُلٍ، فَخَشِيتُ عَلَىٰ مُلْكِي، فَرَجَعْتُ إِلَىٰ مِصْرَ وَبَنَيْتُ الْأَهْرَامَ وَالْبَرَانِيَّ، وَبَنَيْتُ الْهَرَمَيْنِ وَأَوْدَعْتُهُمَا كُنُوزِي وَذَخَائِرِي، وَقُلْتُ فِي ذَلِكَ:

وَأَدْرَكَ عِلْمِي بَعْضَ مَا هُوَ كَائِنٌ *** وَلَا عِلْمَ لِي بِالْغَيْبِ وَاللهُ أَعْلَمُ

وَأَتْقَنْتُ مَا حَاوَلْتُ إِتْقَانَ صُنْعِهِ *** وَأَحْكَمْتُهُ وَاللهُ أَقْوَىٰ وَأَحْكَمُ

وَحَاوَلْتُ عِلْمَ النِّيلِ مِنْ بَدْءِ فَيْضِهِ *** فَأَعْجَزَنِي وَالمَرْءُ بِالْعَجْزِ مُلْجَمُ

ثَمَانِينَ شَاهُوراً قَطَعْتُ مَسَايِحاً *** وَحَوْلِي بَنوُ حُجْرٍ وَجَيْشٌ عَرَمْرَمُ(2)

إِلَىٰ أَنْ قَطَعْتُ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ كُلَّهُمْ *** وَعَارَضَنِي لُجٌّ مِنَ الْبَحْرِ مُظْلِمُ

فَأَيْقَنْتُ أَنْ لَا مَنْفَذَ بَعْدَ مَنْزِلِي *** لِذِي هِمَّةٍ(3) بَعْدِي وَلَا مُتَقَدِّمُ

فَأُبْتُ إِلَىٰ مُلْكِي وَأَرْسَيْتُ ثَاوِياً *** بِمِصْرَ وَلِلْأَيَّامِ بُؤْسٌ وَأَنْعُمُ

أَنَا صَاحِبُ الْأَهْرَامِ فِي مِصْرَ كُلِّهَا *** وَبَانِي بَرَانِيهَا بِهَا وَالمُقَدَّمُ

تَرَكْتُ بِهَا آثَارَ كَفِّي وَحِكْمَتِي *** عَلَىٰ الدَّهْرِ لَا تُبْلَىٰ وَلَا تَتَهَدَّمُ(4)

وَفِيهَا كُنُوزٌ جَمَّةٌ وَعَجَائِبُ *** وَلِلدَّهْرِ أَمْرٌ مَرَّةً وَتَجَهُّمُ (5)

سَيَفْتَحُ أَقْفَالِي وَيُبْدِي عَجَائِبِي *** وَلِيٌّ لِرَبِّي آخِرَ الدَّهْرِ يَنْجُمُ

ص: 336


1- تماوت: تظاهر أنَّه مات، وأظهر التخافت والتضاعف.
2- العرمرم: الحيش الكثير.
3- في بعض النُّسَخ: (لذي نهبة)، وفي بعضها: (لذي هيبة).
4- في بعض النُّسَخ: (تتثلَّم).
5- في نسخة: (تهجم).

بِأَكْنَافِ بَيْتِ اللهِ تَبْدُو أُمُورُهُ *** فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْلُوَ وَيَسْمُوَ بِهِ السِّمُ

ثَمَانٍ وَتِسْعٌ وَاثْنَتَانِ وَأَرْبَعٌ *** وَتِسْعُونَ أُخْرَىٰ مِنْ قَتِيلٍ وَمُلْجَمُ

وَمِنْ بَعْدِ هَذَا كَرَّ تِسْعُونَ تِسْعَةٌ *** وَتِلْكَ الْبَرَانِيُّ تَسْتَخِرُّ وَتُهْدَمُ

وَتُبْدَىٰ كُنُوزِي كُلُّهَا غَيْرَ أَنَّنِي *** أَرَىٰ كُلَّ هَذَا أَنْ يُفَرِّقَهَا الدَّمُ

زَبَرْتُ مَقَالِي فِي صُخُورٍ قَطَعْتُهَا *** سَتَبْقَىٰ وَأَفْنَىٰ بَعْدَهَا ثُمَّ أُعْدَمُ

فَحِينَئِذٍ قَالَ أَبُو الْجَيْشِ حَمَّادَوَيْهِ بْنُ أَحْمَدَ: هَذَا شَيْءٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ حِيلَةٌ إِلَّا الْقَائِمَ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (علیه السلام)، وَرُدَّتِ الْبَلَاطَةُ كَمَا كَانَتْ مَكَانَهَا.

ثُمَّ إِنَّ أَبَا الْجَيْشِ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَنَةٍ قَتَلَهُ طَاهِرٌ الْخَادِمُ، [ذَبَحَهُ] عَلَىٰ فِرَاشِهِ وَهُوَ سَكْرَانُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ عُرِفَ خَبَرُ الْهَرَمَيْنِ وَمَنْ بَنَاهُمَا، فَهَذَا أَصَحُّ مَا يُقَالُ مِنْ خَبَرِ النِّيلِ وَالْهَرَمَيْنِ.

وعاش ضبيرة بن [سعيد بن] سعد بن سهم القرشي مائة وثمانين سنة، وأدرك الإسلام فهلك فجأةً.

[قصَّة لبيد بن ربيعة الجعفري]:

وعاش لبيد بن ربيعة الجعفري مائة وأربعين سنة، وأدرك الإسلام فأسلم، فلمَّا بلغ سبعون سنة من عمره أنشأ يقول في ذلك:

كأنِّي وقد جاوزت سبعين حجَّة *** خلعت بها عن منكبي ردائيا

فلمَّا بلغ سبعاً وسبعين سنة أنشأ يقول:

باتت تشكي إليَّ النفس مجهشة *** وقد حملتك سبعاً بعد سبعينا

فإنْ تزيدي ثلاثاً تبلغي أملا *** وفي الثلاث وفاء للثمانينا

فلمَّا بلغ تسعين سنة أنشأ يقول:

كأنِّي وقد جاوزت تسعين حجَّة *** خلعت بها عنِّي عذار لثامي

ص: 337

رمتني بنات الدهر من حيث لا أرىٰ *** وكيف بمن يُرمىٰ وليس برامِ

فلو أنَّني أُرمىٰ بنبل رأيتها *** ولكنَّني أُرمىٰ بغير سهامِ

فلمَّا بلغ مائة وعشر سنين أنشأ يقول:

أليس في مائة قد عاشها رجل *** وفي تكامل عشر بعدها عمرُ

فلمَّا بلغ مائة وعشرين سنة أنشأ يقول:

قد عشت دهراً قبل مجرىٰ داحس *** لو كان للنفس اللجوج خلودُ

فلمَّا بلغ مائة وأربعين سنة أنشأ يقول:

ولقد سئمت من الحياة وطولها *** وسؤال هذا الناس كيف لبيدُ

غلب الرجال وكان غير مغلَّب *** دهر طويل دائم ممدودُ

يوماً إذا يأتي عليَّ وليلة *** وكلاهما بعد المضيِّ يعودُ

فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ أَبَاكَ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنَّهُ فَنِيَ، فَإِذَا قُبِضَ أَبُوكَ فَأَغْمِضْهُ وَأَقْبِلْ بِهِ الْقِبْلَةَ وَسَجِّهِ بِثَوْبِهِ، وَلَا أَعْلَمَنَّ مَا صَرَخَتْ عَلَيْهِ صَارِخَةٌ أَوْ بَكَتْ عَلَيْهِ بَاكِيَةٌ، وَانْظُرْ جَفْنَتِيَ الَّتِي كُنْتُ أُضِيفُ بِهَا فَأَجِدْ صَنَعْتَهَا، ثُمَّ احْمِلْهَا إِلَىٰ مَسْجِدِكَ وَإِلَىٰ مَنْ كَانَ يَغْشَانِي عَلَيْهَا، فَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) فَقَدِّمْهَا إِلَيْهِمْ يَأْكُلُوا مِنْهَا، فَإِذَا فَرَغُوا فَقُلْ: احْضُرُوا جَنَازَةَ أَخِيكُمْ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَدْ قَبَضَهُ اللهُ (عزوجل)، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:

وَإِذَا دَفَنْتَ أَبَاكَ فَاجْعَ- *** لْ فَوْقَهُ خَشَباً وطِينا

وَصَفَائِحَ صُمًّا رَوَا *** شِنُهَا تُسَدِّدْنَ الْغُصُونَا

لِيَقِينَ حَرَّ الْوَجْهِ سَفْ- *** سَافُ التُّرَابِ وَلَنْ يَقِينَا

وقَدْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ فِي حَدِيثِ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ فِي أَمْرِ الْجَفْنَةِ غَيْرُ هَذَا، ذَكَرُوا أَنَّ لَبِيدَ بْنَ رَبِيعَةَ جَعَلَ عَلَىٰ نَفْسِهِ أَنَّ كُلَّمَا هَبَّتِ الشَّمَالُ أَنْ يَنْحَرَ جَزُوراً فَيَمْلَأَ الْجَفْنَةَ الَّتِي حَكَوْا عَنْهَا فِي أَوَّلِ حَدِيثِهِ.

ص: 338

فَلَمَّا وَلِيَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ الْكُوفَةَ خَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللهَ (عزوجل) وَأَثْنَىٰ عَلَيْهِ وَصَلَّىٰ عَلَىٰ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله)، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ عَلِمْتُمْ حَالَ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ الْجَعْفَرِيِّ وَشَرَفَهُ وَمُرُوءَتَهُ وَمَا جَعَلَ عَلَىٰ نَفْسِهِ كُلَّمَا هَبَّتِ الشَّمَالُ أَنْ يَنْحَرَ جَزُوراً، فَأَعِينُوا أَبَا عَقِيلٍ عَلَىٰ مُرُوءَتِهِ، ثُمَّ نَزَلَ وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِخَمْسَةٍ مِنَ الْجُزُرِ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ فِيهَا:

أَرَىٰ الْجَزَّارَ يَشْحَذُ شَفْرَتَيْهِ *** إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُ أَبِي عَقِيلِ

طَوِيلُ الْبَاعِ أَبْلَجُ جَعْفَرِيٍ *** كَرِيمُ الْجَدِّ كَالسَّيْفِ الصَّقِيلِ

وَفِي ابْنِ الْجَعْفَرِيِّ بِمَا لَدَيْهِ *** عَلَىٰ الْعَلَّاتِ(1) وَالمَالِ الْقَلِيلِ

وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْجُزُرَ كَانَتْ عِشْرِينَ، فَلَمَّا أَتَتْهُ قَالَ: جَزَىٰ اللهُ الْأَمِيرَ خَيْراً قَدْ عَرَفَ أَنِّي لَا أَقُولُ الشِّعْرَ وَلَكِنْ اخْرُجِي يَا بُنَيَّةُ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ بُنَيَّةٌ لَهُ خُمَاسِيَّةٌ، فَقَالَ لَهَا: أَجِيبِي الْأَمِيرَ، فَأَقْبَلَتْ وَأَدْبَرَتْ ثُمَّ قَالَتْ: نَعَمْ، وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ:

إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُ أَبِي عَقِيلِ *** دَعَوْنَا عِنْدَ هَبَّتِهَا الْوَلِيدَا

طَوِيلُ الْبَاعِ أَبْلَجُ عَبْشَمِيًّا(2) *** أَعَانَ عَلَىٰ مُرُوءَتِهِ لَبِيدا

بِأَمْثَالِ الْهِضَابِ(3) كَأَنَّ

رَكْباً *** عَلَيْهَا مِنْ بَنِي حَامٍ قُعُودا

أَبَا وَهْبٍ جَزَاكَ اللهُ خَيْراً *** نَحَرْنَاهَا وَأَطْعَمْنَا الثَّرِيدَا

فَعُدْ إِنَّ الْكَرِيمَ لَهُ مُعَادٌ *** وَعَهْدِي بِابْنِ أَرْوَىٰ أَنْ تَعُودَا

فَقَالَ لَهَا: أَحْسَنْتِ يَا بُنَيَّةِ لَوْ لَا أَنَّكِ سَأَلْتِ، قَالَتْ: إِنَّ المُلُوكَ لَا يُسْتَحْيَامِنْ مَسْأَلَتِهِمْ، قَالَ: وَأَنْتِ يَا بُنَيَّةِ أَشْعَرُ.

ص: 339


1- علىٰ العلَّات: أي علىٰ كلِّ حالٍ.
2- منسوب إلىٰ عبد شمس بجوار أو ولاء أو حلف.
3- شبَّه الجزور بالهضاب، وهو الحبل المنبسط.

وعاش ذو الإصبع العدواني واسمه حُرثان بن الحارث بن محرَّث بن ربيعة ابن هبيرة بن ثعلبة بن الظرب بن عثمان ثلاثمائة سنة.

وعاش جعفر بن قبط(1) ثلاثمائة سنة، وأدرك الإسلام.

وعاش عامر بن الظرب العدواني ثلاثمائة سنة(2).

وعاش محصَّن بن عتبان بن ظالم بن عمرو بن قطيعة بن الحارث بن سَلَمة ابن مازن الزبيدي مائتين وخمسين سنة، وقال في ذلك:

ألَا يا سلم إنِّي لست منكم *** ولكنِّي امرؤ قوتي سغوبُ(3)

دعاني الداعيان فقلت هيَّا(4) ***

فقالا كلُّ من يُدعىٰ يُجيبُ

ألَا يا سلم أعياني قيامي *** وأعيتني المكاسب والذهوبُ(5)

وصرت رذية(6) في البيت كلًّا *** تأذَّىٰ بي الأباعد والقريبُ

كذاك الدهر والأيَّام خون(7) *** لها في كلِّ سائمة نصيبُ

[عمر عوف بن كنانة الكلبي ووصيَّته]:

وَعَاشَ عَوْفُ بْنُ كِنَانَةَ الْكَلْبِيُّ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ جَمَعَ بَنِيهِ

ص: 340


1- كذا، ولعلَّ الصواب: جعفر بن قُرط - بضمِّ القاف وسكون الراء -، وهو جعفر بن قُرط بن كعب بن قيس بن سعد. وذكر ابن الكلبي أنَّه جعفر بن قُرط بن عبد يغوث بن كعب بن ردَّة الشاعر. (راجع: نسب معد واليمن الكبير: ج 1/ ص 291).
2- في المعمَّرون (ص 44): مائتي سنة.
3- السغب: الجوع. وفي رواية: (ولكنِّي امرء قومي شعوب).
4- في رواية: (إيهاً)، وكلاهما كلمة زجر.
5- في بعض النُّسَخ: (الرهوب)، وفي بعضها: (الركوب).
6- الرذىٰ من أثقله المرض والضعيف من كلِّ شيء. (القاموس المحيط: ج 4/ ص 334).
7- جمع الخوان: ما يُؤكَل عليه الطعام.

فَأَوْصَاهُمْ، وهُوَ عَوْفُ بْنُ كِنَانَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُذْرَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَوْرِ بْنِ كَلْبٍ، فَقَالَ: يَا بَنِيَّ، احْفَظُوا وَصِيَّتِي فَإِنَّكُمْ إِنْ حَفِظْتُمُوهَا سُدْتُمْ قَوْمَكُمْ مِنْ بَعْدِي:

إِلَهَكُمْ فَاتَّقُوهُ، وَلَا تَحْزَنُوا، وَلَا تَخُونُوا، وَلَا تُثِيرُوا السِّبَاعَ(1) مِنْ مَرَابِضِهَا فَتَنْدَمُوا، وَجَاوِزُوا النَّاسَ بِالْكَفِّ عَنْ مَسَاوِئِهِمْ فَتَسْلَمُوا وَتَصْلُحُوا، وَعِفُّوا عَنِ الطَّلَبِ إِلَيْهِمْ، وَلَا تَسْتَقِلُّوا(2)، وَالْزَمُوا الصَّمْتَ إِلَّا مِنْ حَقٍّ تُحْمَدُوا، وَابْذُلُوا لَهُمُ المَحَبَّةَ تَسْلَمْ لَكُمُ الصُّدُورُ، وَلَا تُحَرِّمُوهُمُ المَنَافِعَ فَيَظْهَرُوا الشَّكَاةَ، وَتَكُونُوا مِنْهُمْ فِي سِتْرٍ يُنْعَمْ بَالُكُمْ، وَلَا تُكْثِرُوا مُجَالَسَتَهُمْ فَيَسْتَخِفَّ بِكُمْ، وَإِذَا نَزَلَتْ بِكُمْ مُعْضِلَةٌ فَاصْبِرُوا لَهَا، وَالْبَسُوا لِلدَّهْرِ أَثْوَابَهُ فَإِنَّ لِسَانَ الصِّدْقِ مَعَ المَسْكَنَةِ خَيْرٌ مِنْ سُوءِ الذِّكْرِ مَعَ المَيْسَرَةِ، وَوَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَىٰ المَذَلَّةِ لِمَنْ تَذَلَّلَ لَكُمْ فَإِنَّ أَقْرَبَ الْوَسَائِلِ المَوَدَّةُ، وَإِنْ أَتْعَبَتِ النُّشُبُ الْبِغْضَةَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْوَفَاءِ، وَتَنَكَّبُوا الْعُذْرَ يَأْمَنْ سَرْبُكُمْ، [وَأَصِيخُوا لِلْعَدْلِ]، وَأَحْيُوا الْحَسَبَ بِتَرْكِ الْكَذِبِ فَإِنَّ آفَةَ المُرُوءَةِ الْكَذِبُ وَالْخُلْفُ، لَا تُعْلِمُوا النَّاسَ إِقْتَارَكُمْ فَتَهُونُوا عَلَيْهِمْ وَتَخْمُلُوا، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُرْبَةَ فَإِنَّهَا ذِلَّةٌ، وَلَا تَضَعُوا الْكَرَائِمَ إِلَّا عِنْدَ الْأَكْفَاءِ، وَابْتَغُوا لِأَنْفُسِكُمُ المَعَالِيَ، وَلَا يَخْتَلِجَنَّكُمْ جَمَالُ النِّسَاءِ عَنِ الصِّحَّةِ(3) فَإِنَّ نِكَاحَ الْكَرَائِمِ مَدَارِجُ الشَّرَفِ، وَاخْضَعُوا لِقَوْمِكُمْ، وَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِمْ لِتَنَالُوا المَنَافِسَ، وَلَا تُخَالِفُوهُمْ فِيمَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِفَإِنَّ الْخِلَافَ يُزْرِي بِالرَّئِيسِ المُطَاعِ، وَلْيَكُنْ مَعْرُوفُكُمْ لِغَيْرِ قَوْمِكُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَلَا تُوحِشُوا أَفْنِيَتَكُمْ مِنْ أَهْلِهَا فَإِنَّ إِيحَاشَهَا إِخْمَادُ النَّارِ وَدَفْعُ الْحُقُوقِ، وَارْفُضُوا النَّائِمَ بَيْنَكُمْ

ص: 341


1- في بعض النُّسَخ: (تستثيروا السباع).
2- في بعض النُّسَخ: (لئلَّا تستثقلوا).
3- في رواية: (عن صراحة النسب). وفي بعض النُّسَخ: (عن النصيحة). وفي وصيَّة أكثم بن صيفي: (يا بَنِىَّ، لا يغلبنَّكم جمال النساء عن صراحة النسب).

[تَسْلَمُوا]، وَكُونُوا أَعْوَاناً عِنْدَ المُلِمَّاتِ(1) تَغْلِبُوا، وَاحْذَرُوا النَّجْعَةَ(2) إِلَّا فِي مَنْفَعَةٍ لَا تُصَابُوا، وَأَكْرِمُوا الْجَارَ يَخْصِبْ جَنَابُكُمْ، وَآثِرُوا حَقَّ الضَّعِيفِ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ، وَالْزَمُوا مَعَ السُّفَهَاءِ الْحِلْمَ تَقِلَّ هُمُومُكُمْ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّهَا ذِلَّةٌ، وَلَا تُكَلِّفُوا أَنْفُسَكُمْ فَوْقَ طَاقَتِهَا إِلَّا المُضْطَرَّ فَإِنَّكُمْ لَنْ تُلَامُوا عِنْدَ اتِّضَاحِ الْعُذْرِ وَبِكُمْ قُوَّةٌ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَعَاوَنُوا فِي الِاضْطِرَارِ مِنْكُمْ إِلَيْهِمْ بِالمَعْذِرَةِ(3)، وَجِدُّوا وَلَا تُفْرِطُوا فَإِنَّ الْجِدَّ مَانِعُ الضَّيْمِ، وَلْتَكُنْ كَلِمَتُكُمْ وَاحِدَةً تَعِزُّوا وَيُرْهَفْ حَدُّكُمْ، وَلَا تَبْذُلُوا الْوُجُوهَ لِغَيْرِ مُكْرِمِيهَا فَتُكْلِحُوهَا، وَلَا تَجَشَّمُوهَا أَهْلَ الدَّنَاءَةِ فَتَقْصُرُوا بِهَا(4)، وَلَا تَحَاسَدُوا فَتَبُورُوا، وَاجْتَنِبُوا الْبُخْلَ فَإِنَّهُ دَاءٌ، وَابْنُوا المَعَالِيَ بِالْجُودِ وَالْأَدَبِ وَمُصَافَاةِ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْحِبَاءِ(5)، وَابْتَاعُوا المَحَبَّةَ بِالْبَذْلِ، وَوَقِّرُوا أَهْلَ الْفَضْلِ، وَخُذُوا عَنْ أَهْلِ التَّجَارِبِ، وَلَا يَمْنَعْكُمْ مِنْ مَعْرُوفٍ صِغَرُهُ فَإِنَّ لَهُ ثَوَاباً، وَلَا تُحَقِّرُوا الرِّجَالَ فَتَزْدَرُوا، فَإِنَّمَا المَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ ذَكَاءِ قَلْبِهِ وَلِسَانٍ يُعَبِّرُ عَنْهُ، وَإِذَا خُوِّفْتُمْ دَاهِيَةً فَعَلَيْكُمْ بِالتَّثَبُّتِ قَبْلَ الْعَجَلَةِ، وَالْتَمِسُوا بِالتَّوَدُّدِ المَنْزِلَةَ عِنْدَالمُلُوكِ فَإِنَّهُمْ مَنْ وَضَعُوهُ اتَّضَعَ وَمَنْ رَفَعُوهُ ارْتَفَعَ، وَتَنَبَّلُوا تَسْمُ إِلَيْكُمُ الْأَبْصَارُ، وَتَوَاضَعُوا بِالْوَقَارِ لِيُحِبَّكُمْ ربُّكُمْ. ثُمَّ قَالَ:

وَمَا كُلُّ ذِي لُبٍّ بِمُؤْتِيكَ نُصْحَهُ *** وَلَا كُلُّ مُؤْتٍ نُصْحَهُ بِلَبِيبِ

وَلَكِنْ إِذَا مَا اسْتَجْمَعَا عِنْدَ وَاحِدٍ *** فَحَقٌّ لَهُ مِنْ طَاعَةٍ بِنَصِيبِ

ص: 342


1- في رواية: (وكونوا أنجاداً عند الملمَّات تغلبوا).
2- النجعة وزان الرقعة: طلب الكلاء في موضعه. وفي رواية: (واحذروا النجعة التي في المنعة).
3- في رواية: (فلئن تلاموا وبكم قوَّة خير من أنْ تعاونوا بالعجز).
4- في بعض النُّسَخ: (لغير مكرمة فتخلقوها، ولا تحتشموا أهل الدناءة فتقصروا بها)، وفي بعض النُّسَخ: (ولا تحتشموها). والتجشُّم: التكلُّف.
5- في رواية: (وابتنوا المباني بالأدب ومصافاة أهل الحباء). والحباء: العطاء بلا جزاء.

وعاش صيفي بن رياح بن أكثم أحد بني أسد بن عمر بن تميم مائتين وسبعين سنة، وكان يقول: لك علىٰ أخيك سلطان في كلِّ حالٍ إلَّا في القتال، فإذا أخذ الرجل السلاح فلا سلطان لك عليه، وكفىٰ بالمشرفيَّة واعظاً(1)، وترك الفخر أبقىٰ للثناء، وأسرع الجرم عقوبةً البغي، وشرُّ النصرة التعدِّي، وألأم الأخلاق أضيقها، ومن سوء الأدب كثرة العتاب(2)، وأقرع الأرض بالعصا - فذهبت مثلاً(3) -.

لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا *** وما عُلِّم الإنسان إلَّا ليعلما

وعاش عبَّاد بن شدَّاد اليربوعيُّ مائة وخمسي سنة(4).

[قصَّة أكثم بن صيفي]:

وعاش أكثم بن صيفي أحد بني أسد بن عمرو بن تميم ثلاثمائة وستِّين سنة، وقال بعضهم: مائة وتسعين سنة، وأدرك الإسلام، فاختُلِفَ في إسلامه إلَّا أنَّ أكثرهم لا يشكُّ في أنَّه لم يسلم، فقال في ذلك:

وإنَّ امرءاً قد عاش تسعين حجَّة *** إلىٰ مائة لم يسأم العيش جاهلُ

خلت مائتان غير ستٍّ وأربع *** وذلك من عدِّ الليالي قلائلُ

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ: أَقْبَلَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ، فَقَتَلَهُ ابْنُهُ عَطَشاً، فَسَمِعْتُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ: «وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَىٰ اللهِ وَرَسُولِهِ

ص: 343


1- المشرفيَّة سيوف جيِّدة تُنسَب إلىٰ مشارف الشام.
2- في بعض النُّسَخ: (ومن الأذىٰ كثرة العتاب).
3- القرع - بالفتح -: الضرب، والمراد أنْ يُنبِّه الإنسان صاحبه عند خطئه. وأصل المثل أنَّ عامر بن الظرب طعن في السنِّ وأنكر قومه من عقله شيئاً، فقال لبنيه: إذا رأيتموني خرجت من كلامي وأخذت في غيره فاقرعوا إلىٰ المحجن بالعصا، فكانوا يقرعونه والأرض.
4- في المعمَّرون (ص 58): (مائة وثمانين سنة)، وفي بعض النُّسَخ: (عاد بن شدَّاد).

ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَىٰ اللهِ» [النساء: 100]، وَلَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ تُقَدِّمُ عَلَيْهِ أَحَداً فِي الْحِكْمَةِ، وَإِنَّهُ لَمَّا سَمِعَ بِرَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) بَعَثَ ابْنَهُ حُلَيْساً(1)، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنِّي أَعِظُكَ بِكَلِمَاتٍ فَخُذْ بِهِنَّ مِنْ حِينَ تَخْرُجُ مِنْ عِنْدِي إِلَىٰ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيَّ، ائْتِ نَصِيبَكَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ فَلَا تَسْتَحِلَّهُ فَيُسْتَحَلَّ مِنْكَ، فَإِنَّ الْحَرَامَ لَيْسَ يُحَرِّمُ نَفْسَهُ وَإِنَّمَا يُحَرِّمُهُ أَهْلُهُ، وَلَا تُمَرِّنْ بِقَوْمٍ إِلَّا نَزَلْتَ عِنْدَ أَعَزِّهِمْ، وَأَحْدِثْ(2) عَقْداً مَعَ شَرِيفِهِمْ، وَإِيَّاكَ وَالذَّلِيلَ فَإِنَّهُ أَذَلَّ نَفْسَهُ وَلَوْ أَعَزَّهَا لَأَعَزَّهُ قَوْمُهُ، فَإِذَا قَدِمْتَ عَلَىٰ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنِّي قَدْ عَرَفْتُهُ وَعَرَفْتُ نَسَبَهُ وَهُوَ فِي بَيْتِ قُرَيْشٍ وَأَعَزِّ الْعَرَبِ وَهُوَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ إِمَّا ذُو نَفْسٍ أَرَادَ مُلْكاً، فَخَرَجَ لِلْمُلْكِ بِعِزِّهِ، فَوَقِّرْهُ وَشَرِّفْهُ وَقُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا تَجْلِسْ إِلَّا بِإِذْنِهِ حَيْثُ يَأْمُرُكَ وَيُشِيرُ إِلَيْكَ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ(3) كَانَ أَدْفَعَ لِشَرِّهِ عَنْكَ وَأَقْرَبَ لِخَيْرِهِ مِنْكَ، فَإِنْ كَانَ نَبِيًّا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحَسُّ فَيُتَوَهَّمَ وَلَا يُنْظَرُ فَيُتَجَسَّمَ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ الْخِيَرَةَ حَيْثُ يَعْلَمُ(4) لَا يُخْطِئُ فَيُسْتَعْتَبَ إِنَّمَا أَمْرُهُ عَلَىٰ مَا يُحِبُّ، وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا فَسَتَجِدُ أَمْرَهُ كُلَّهُ صَالِحاً وَخَبَرَهُ كُلَّهُ صَادِقاً،وَسَتَجِدُهُ مُتَوَاضِعاً فِي نَفْسِهِ مُتَذَلِّلًا لِرَبِّهِ، فَذِلَّ لَهُ فَلَا تُحْدِثَنَّ أَمْراً دُونِي، فَإِنَّ الرَّسُولَ إِذَا أَحْدَثَ الْأَمْرَ مِنْ عِنْدِهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيِ الَّذِي أَرْسَلَهُ، وَاحْفَظْ مَا يَقُولُ لَكَ إِذَا رَدَّكَ إِلَيَّ فَإِنَّكَ لَوْ تَوَهَّمْتَ أَوْ نَسِيتَ جَشَمْتَنِي(5) رَسُولاً غَيْرَكَ.

وَكَتَبَ مَعَهُ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ مِنَ الْعَبْدِ إِلَىٰ الْعَبْدِ، أَمَّا بَعْدُ، فَأَبْلِغْنَا مَا بَلَغَكَ فَقَدْ أَتَانَا عَنْكَ خَبَرٌ لَا نَدْرِي مَا أَصْلُهُ، فَإِنْ كُنْتَ أُرِيتَ فَأَرِنَا، وَإِنْ كُنْتَ عُلِّمْتَ فَعَلِّمْنَا وَأَشْرِكْنَا فِي كَنْزِكَ، وَالسَّلَامُ.

ص: 344


1- في بعض النُّسَخ: (حبيشاً).
2- في بعض النُّسَخ: (وأخذت).
3- أي إنْ كان مَلِكاً.
4- لعلَّ المعنىٰ: الله يعلم حيث يجعل رسالته.
5- أي كلَّفتني.

فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) فِيمَا ذَكَرُوا: «مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَىٰ أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ، أَحْمَدُ اللهَ إِلَيْكَ إِنَّ اللهَ تَعَالَىٰ أَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَآمُرَ النَّاسَ بِقَوْلِهَا، وَالْخَلْقُ خَلْقُ اللهِ (عزوجل)، وَالْأَمْرُ كُلُّهُ لِلهِ خَلَقَهُمْ وَأَمَاتَهُمْ، وَهُوَ يَنْشُرُهُمْ وَإِلَيْهِ المَصِيرُ، أَدَّبْتُكُمْ بِآدَابِ المُرْسَلِينَ، وَلَتُسْأَلُنَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ».

فَلَمَّا جَاءَهُ كِتَابُ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، مَا ذَا رَأَيْتَ؟ قَالَ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَيَنْهَىٰ عَنْ مَلَائِمِهَا، فَجَمَعَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ إِلَيْهِ بَنِي تَمِيمٍ ثُمَّ قَالَ: يَا بَنِي تَمِيمٍ، لَا تُحْضِرُونِي سَفِيهاً فَإِنَّ مَنْ يَسْمَعْ يَخَلْ، وَلِكُلِّ إِنْسَانٍ رَأْيٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّ السَّفِيهَ وَاهِنُ الرَّأْيِ وَإِنْ كَانَ قَوِيَّ الْبَدَنِ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ.

يَا بَنِي تَمِيمٍ، كَبِرَتْ سِنِّي وَدَخَلَتْنِي ذِلَّةُ الْكِبَرِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنِّي حَسَناً فَأْتُوهُ، وَإِذَا أَنْكَرْتُمْ مِنِّي شَيْئاً فَقَوِّمُونِي بِالْحَقِّ أَسْتَقِمْ لَهُ، إِنَّ ابْنِي قَدْ جَاءَنِي وَقَدْ شَافَهَ هَذَا الرَّجُلَ فَرَآهُ يَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰ عَنِ المُنْكَرِ، وَيَأْخُذُ بِمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ وَيَنْهَىٰ عَنْ مَلَائِمِهَا، وَيَدْعُو إِلَىٰ أَنْ يُعْبَدَ اللهَ وَحْدَهُ وَتُخْلَعَ الْأَوْثَانُ وَيُتْرَكَ الْحَلْفُ بِالنِّيرَانِ، وَيَذْكُرُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، وَأَنَّ قَبْلَهُ رُسُلاً لَهُمْ كُتُبٌ، وَقَدْعَلِمْتُ رَسُولاً قَبْلَهُ كَانَ يَأْمُرُ بِعِبَادَةِ اللهِ (عزوجل) وَحْدَهُ، إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِمُعَاوَنَةِ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) وَمُسَاعَدَتِهِ عَلَىٰ أَمْرِهِ أَنْتُمْ، فَإِنْ يَكُنِ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ حَقًّا فَهُوَ لَكُمْ، وَإِنْ يَكُ بَاطِلاً كُنْتُمْ أَحَقَّ مَنْ كَفَّ عَنْهُ وَسَتَرَ عَلَيْهِ.

وَقَدْ كَانَ أُسْقُفُّ نَجْرَانَ يُحَدِّثُ بِصِفَتِهِ، وَلَقَدْ كَانَ سُفْيَانُ بْنُ مُجَاشِعٍ قَبْلَهُ يُحَدِّثُ بِهِ، وَسَمَّىٰ ابْنَهُ مُحَمَّداً، وَقَدْ عَلِمَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْكُمْ أَنَّ الْفَضْلَ فِيمَا يَدْعُو إِلَيْهِ وَيَأْمُرُ بِهِ، فَكُونُوا فِي أَمْرِهِ أَوَّلاً وَلَا تَكُونُوا أَخِيراً، اتَّبِعُوهُ تَشَرَّفُوا، وَتَكُونُوا سَنَامَ الْعَرَبِ، وَائْتُوهُ طَائِعِينَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتُوهُ كَارِهِينَ، فَإِنِّي أَرَىٰ أَمْراً مَا هُوَ بِالْهُوَيْنَا لَا يَتْرُكُ مَصْعَداً إِلَّا صَعِدَهُ وَلَا مَنْصُوباً إِلَّا بَلَغَهُ، إِنَّ هَذَا الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ

ص: 345

دِيناً لَكَانَ فِي الْأَخْلَاقِ حَسَناً، أَطِيعُونِي وَاتَّبِعُوا أَمْرِي أَسْأَلْ لَكُمْ مَا لَا يُنْزَعُ مِنْكُمْ أَبَداً، إِنَّكُمْ أَصْبَحْتُمْ أَكْثَرَ الْعَرَبِ عَدَداً، وَأَوْسَعَهُمْ بَلَداً، وَإِنِّي لَأَرَىٰ أَمْراً لَا يَتَّبِعُهُ ذَلِيلٌ إِلَّا عَزَّ، وَلَا يَتْرُكُهُ عَزِيزٌ إِلَّا ذَلَّ، اتَّبِعُوهُ مَعَ عِزِّكُمْ تَزْدَادُوا عِزًّا، وَلَا يَكُنْ أَحَدٌ مِثْلَكُمْ، إِنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَدَعْ لِلْآخِرِ شَيْئاً، وَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ لِمَا هُوَ بَعْدَهُ مَنْ سَبَقَ إِلَيْهِ فَهُوَ الْبَاقِي، وَاقْتَدَىٰ بِهِ الثَّانِي، فَأَصْرِمُوا أَمْرَكُمْ فَإِنَّ الصَّرِيمَةَ قُوَّةٌ، وَالْاِحْتِيَاطَ عَجْزٌ(1).

فَقَالَ مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ: خَرِفَ شَيْخُكُمْ، فَقَالَ أَكْثَمُ: وَيْلٌ لِلشَّجَيِّ مِنَ الْخَلَيِّ(2)، أَرَاكُمْ سُكُوتاً، وَإِنَّ آفَةَ المَوْعِظَةِ الْإِعْرَاضُ عَنْهَا.

وَيْلَكَ يَا مَالِكُ إِنَّكَ هَالِكٌ، إِنَّ الْحَقَّ إِذَا قَامَ وَقَعَ الْقَائِمُ مَعَهُ وَجَعَلَالصَّرْعَىٰ قِيَاماً، فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ، أَمَّا إِذَا سَبَقْتُمُونِي بِأَمْرِكُمْ فَقَرِّبُوا بَعِيرِي أَرْكَبْهُ، فَدَعَا بِرَاحِلَتِهِ فَرَكِبَهَا فَتَبِعُوهُ بَنُوهُ وَبَنُو أَخِيهِ، فَقَالَ: لَهْفَي عَلَىٰ أَمْرٍ لَنْ أُدْرِكَهُ وَلَمْ يَسْبِقْنِي.

وَكَتَبَتْ طَيِ ءٌ إِلَىٰ أَكْثَمَ فَكَانُوا أَخْوَالَهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: كَتَبَتْ بَنُو مُرَّةَ وَهُمْ أَخْوَالُهُ أَنْ أَحْدِثْ إِلَيْنَا مَا نَعِيشُ بِهِ، فَكَتَبَ:

أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَىٰ اللهِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ أَصْلُهَا وَتَنْبُتُ فَرْعُهَا، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ فَإِنَّهَا لَا يَثْبُتُ لَهَا أَصْلٌ وَلَا يَنْبُتُ لَهَا فَرْعٌ، وَإِيَّاكُمْ وَنِكَاحَ الْحَمْقَاءِ فَإِنَّ مُبَاضَعَتَهَا قَذَرٌ وَوُلْدَهَا ضَيَاعٌ، وَعَلَيْكُمْ بِالْإِبِلِ فَأَكْرِمُوهَا فَإِنَّهَا حُصُونُ الْعَرَبِ، وَلَا تَضَعُوا رِقَابَهَا إِلَّا فِي حَقِّهَا فَإِنَّ فِيهَا مَهْرَ الْكَرِيمَةِ وَرَقُوءَ الدَّمِ(3)، وَبِأَلْبَانِهَا يُتْحَفُ الْكَبِيرُ وَيُغَذَّىٰ الصَّغِيرُ، وَلَوْ كُلِّفَتِ الْإِبِلُ

ص: 346


1- في بعض النُّسَخ: (فالاختلاط عجز). والصريمة: العزيمة في الشيء. والصرم: القطع.
2- الخليُّ: الخالي من الهمِّ والحزن خلاف الشجىِّ، والمثل معروف، والمعنىٰ أنِّي في همٍّ عظيم لهذا الأمر الذي أدعوكم إليه وأنتم فارغون غافلون فويل لي منكم. (بحار الأنوار: ج 51/ ص 257).
3- رقأ الدم: جفَّ وسكن، والرقوء - كصبور -: ما يُوضَع علىٰ الدم ليرقئه. والمعنىٰ أنَّها تُعطىٰ في الديات فتُحقَن بها الدماء.

الطَّحْنَ لَطَحَنَتْ، وَلَنْ يَهْلِكَ امْرُؤٌ عَرَفَ قَدْرَهُ، وَالْعُدْمُ عُدْمُ الْعَقْلِ(1)، وَالمَرْءُ الصَّالِحُ لَا يَعْدَمُ [مِنَ] المَالِ، وَرُبَّ رَجُلٍ خَيْرٌ مِنْ مِائَةٍ، وَرُبَّ فِئَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ قَبِيلَتَيْنِ(2)، وَمَنْ عَتَبَ عَلَىٰ الزَّمَانِ طَالَتْ مَعْتَبَتُهُ، وَمَنْ رَضِيَ بِالْقَسْمِ طَابَتْ مَعِيشَتُهُ، آفَةُ الرَّأْيِ الْهَوَىٰ، وَالْعَادَةُ أَمْلَكُ بِالْأَدَبِ، وَالْحَاجَةُ مَعَ المَحَبَّةِ خَيْرٌ مِنَ الْغِنَىٰ مَعَ الْبِغْضَةِ، وَالدُّنْيَا دُوَلٌ فَمَا كَانَ لَكَ مِنْهَا أَتَاكَ عَلَىٰ ضَعْفِكَ وَإِنْ قَصُرْتَ فِي طَلَبِهِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا عَلَيْكَ لَمْ تَدْفَعْهُ بِقُوَّتِكَ، وَسُوءُ حَمْلِ الْفَاقَةِ(3) تَضَعُ الشَّرَفَ، وَالْحَسَدُ دَاءٌ لَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ، وَالشَّمَاتَةُ تُعْقِبُ، وَمَنْ بَرَّ يَوْماً بُرَّ بِهِ، وَاللَّوْمَةُ مَعَ السَّفَاهَةِ، وَدِعَامَةُالْعَقْلِ الْحِلْمُ، وَجِمَاعُ الْأَمْرِ الصَّبْرُ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ مَغَبَّةُ الْعَفْوِ، وَأَبْقَىٰ المَوَدَّةِ حُسْنُ التَّعَاهُدِ، وَمَنْ يَزُرْ غِبًّا يَزْدَدْ حُبًّا(4).

وصيَّة أكثم بن صيفي عند موته:

جَمَعَ أَكْثَمُ بَنِيهِ عِنْدَ مَوْتِهِ فَقَالَ: يَا بَنِيَّ، إِنَّهُ قَدْ أَتَىٰ عَلَيَّ دَهْرٌ طَوِيلٌ، وَأَنَا مُزَوِّدُكُمْ مِنْ نَفْسِي قَبْلَ المَمَاتِ، أُوصِيكُمْ بِتَقْوَىٰ اللهِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَعَلَيْكُمْ بِالْبِرِّ فَإِنَّهُ يُنْمِي عَلَيْهِ الْعَدَدَ وَلَا يَبِيدُ عَلَيْهِ أَصْلٌ وَلَا يَهْتَصِرُ فَرْعٌ، فَأَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ عَلَيْهَا أَصْلٌ وَلَا يَنْبُتُ عَلَيْهَا فَرْعٌ، كُفُّوا أَلْسِنَتَكُمْ فَإِنَّ مَقْتَلَ الرَّجُلِ بَيْنَ فَكَّيْهِ، إِنَّ قَوْلَ الْحَقِّ لَمْ يَدَعْ لِي صَدِيقاً، انْظُرُوا أَعْنَاقَ الْإِبِلِ وَلَا تَضَعُوهَا إِلَّا فِي حَقِّهَا فَإِنَّ فِيهَا مَهْرَ الْكَرِيمَةِ وَرَقُوءَ الدَّمِ، وَإِيَّاكُمْ وَنِكَاحَ الْحَمْقَاءِ فَإِنَّ نِكَاحَهَا قَذَرٌ وَوُلْدَهَا ضَيَاعٌ، الْاِقْتِصَادُ فِي السَّفَرِ أَبْقَىٰ لِلْجِمَامِ(5)، مَنْ لَمْ يَأْسَ

ص: 347


1- العدم - بالضمِّ وبضمَّتين وبالتحريك -: الفقدان، وغُلِّب على فقدان المال.
2- في بعض النُّسَخ: (من فئتين).
3- في بعض النُّسَخ: (الريبة).
4- يعنى الزيارة يوماً، ويوماً لا موجبة للحبِّ.
5- كذا، والظاهر: (الاقتصاد في السعي أبقىٰ للجمال) كما في رواية السجستاني (ص 12). وأمَّا الجمام كما في الصلب: الراحة، والقوَّة.

عَلَىٰ مَا فَاتَهُ وَدَعَ بَدَنُهُ(1)، مَنْ قَنِعَ بِمَا هُوَ فِيهِ قَرَّتْ عَيْنُهُ، التَّقَدُّمُ قَبْلَ التَّنَدُّمِ، أَنْ أُصْبِحَ عِنْدَ رَأْسِ الْأَمْرِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُصْبِحَ عِنْدَ ذَنَبِهِ، لَمْ يَهْلِكِ امْرُؤٌ عَرَفَ قَدْرَهُ، الْعَجْزُ عِنْدَ الْبَلَاءِ آفَةُ التَّجَمُّلِ(2)، لَمْ يَهْلِكْ مِنْ مَالِكَ مَا وَعَظَكَ، وَيْلٌ لِعَالِمِ أَمِنَ مِنْ جَهْلِهِ(3)، الْوَحْشَةُ ذَهَابُ الْأَعْلَامِ، يَتَشَابَهُ الْأَمْرُ إِذَا أَقْبَلَ فَإِذَا أَدْبَرَ عَرَفَهُ الْكَيِّسُ وَالْأَحْمَقُ، الْبَطَرُ عِنْدَ الرَّخَاءِ حُمْقٌ، وَفِي طَلَبِ المَعَالِي يَكُونُالْعِزُّ، وَلَا تَغْضَبُوا مِنَ الْيَسِيرِ فَإِنَّهُ يَجْنِي الْكَثِيرَ، لَا تُجِيبُوا فِيمَا لَمْ تُسْأَلُوا(4) عَنْهُ، وَلَا تَضْحَكُوا مِمَّا لَا يُضْحَكُ مِنْهُ، تَبَارُّوا فِي الدُّنْيَا وَلَا تَبَاغَضُوا، الْحَسَدُ فِي الْقُرْبِ فَإِنَّهُ مَنْ يَجْتَمِعْ يَتَقَعْقَعْ عُمُدُهُ(5)، يَتَقَرَّبُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي المَوَدَّةِ، لَا تَتَّكِلُوا عَلَىٰ الْقَرَابَةِ فَتَقَاطَعُوا فَإِنَّ الْقَرِيبَ مَنْ قَرَّبَ نَفْسَهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالمَالِ فَأَصْلِحُوهُ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ الْأَمْوَالُ إِلَّا بِإِصْلَاحِكُمْ، وَلَا يَتَّكِلَنَّ أَحَدُكُمْ عَلَىٰ مَالِ أَخِيهِ يَرَىٰ فِيهِ قَضَاءَ حَاجَتِهِ فَإِنَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَالْقَابِضِ عَلَىٰ المَاءِ، وَمَنِ اسْتَغْنَىٰ كَرُمَ عَلَىٰ أَهْلِهِ، وَأَكْرِمُوا الْخَيْلَ، نِعْمَ لَهْوُ الْحُرَّةِ المَغْزِلُ، وَحِيلَةُ مَنْ لَا حِيلَةَ لَهُ الصَّبْرُ.

وعاش قردة بن ثعلبة بن نفاثة(6) السلولي مائة وثلاثين سنة في الجاهليَّة، ثمّ أدرك الإسلام فأسلم.

وعاش مصاد بن جناب بن مرارة من بني عمرو بن يربوع بن حنظلة بن

ص: 348


1- أي سكن. وفي بعض القراءات: (ودّع) أي راح نفسه.
2- في بعض نُسَخ الحديث: (الجزع عند النازلة آفة التجمُّل).
3- كذا، وفي جمهرة الأمثال (ج 1/ ص 493) ومجمع الأمثال (ص 219): (ويل لعالم أمر من جاهله).
4- في بعض النُّسَخ: (عمَّا لا تسألوا).
5- القعقعة: حكاية صوت السلاح، وقعقعت عمدهم تقعقعت وارتحلوا: يعنى إذا اجتمعوا وتقاربوا وقع بينهم الشرُّ فتفرَّقوا. أو معناه: لا بدَّ من الافتراق بعد الاجتماع. أو من غبط بكثرة العدد واتِّساق الأمر فهو بمعرض الزوال والانتشار.
6- في أكثر النُّسَخ: (فروة بن ثعلبة بن نفاية)، والظاهر أنَّه تصحيف.

زيد بن مناة أربعين ومائة سنة(1).

وعاش قُسُّ بن ساعدة الأياديُّ ستّمائة سنة، وهو الذي يقول:

هل الغيث مُعطي الأمن عند نزوله *** بحال مسيء في الأُمور ومحسنِ

وما قد تولَّىٰ وهو قد فات ذاهباً *** فهل ينفعني ليتني ولو أنَّني

وكذلك يقول لبيد:

وأُخلف قُسًّا ليتني ولو أنَّني *** وأعيا علىٰ لقمان حكم التدبُّرِ

وعاش الحارث بن كعب المذحجيُّ ستِّين ومائة سنة.

قال مصنِّف هذا الكتاب (رضی الله عنه): هذه الأخبار التي ذكرتها في المعمَّرين قد رواها مخالفونا أيضاً من طريق محمّد بن السائب الكلبي، ومحمّد بن إسحاق بن بشَّار(2)، وعوانة بن الحَكَم، وعيسىٰ بن زيد بن آب(3)، والهيثم بن عدي الطائي، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله) أَنَّهُ قَالَ: «كُلَّمَا كَانَ فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مِثْلُهُ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ والْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ».

وقد صحَّ هذا التعمير فيمن تقدَّم، وصحَّت الغيبات الواقعة بحُجَج الله (علیهم السلام) فيما مضىٰ من القرون.

فكيف السبيل إلىٰ إنكار القائم (علیه السلام) لغيبته وطول عمره مع الأخبار الواردة فيه عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله) وعن الأئمَّة (علیهم السلام)؟ وهي التي قد ذكرناها في هذا الكتاب بأسانيدها.

ص: 349


1- وقال شعراً، منها: إنَّ مصاد بن جناب قد ذهب *** أدرك من طول الحياة ما طلب والموت قدر يُدرك يوماً من هرب
2- تقدَّم الاختلاف في جدِّه أهو يسار أو بشَّار، راجع (ص 98).
3- في بحار الأنوار (ج 51/ ص 252): (عيسىٰ بن يزيد بن رئاب).

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الدَّقَّاقُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْكُوفِيُّ، عَنْ مُوسَىٰ بْنِ عِمْرَانَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَمِّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ النَّوْفَلِيِّ، عَنْ غِيَاثِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (علیهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله (صلی الله علیه و آله): «كُلَّمَا كَانَ فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مِثْلُهُ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ وَالْقُذَّةِبِالْقُذَّةِ»(1).

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ السُّكَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (علیهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله (صلی الله علیه و آله): «وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ نَبِيًّا وَبَشِيراً، لَتَرْكَبَنَّ أُمَّتِي سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَهَا حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ حَتَّىٰ لَوْ أَنَّ حَيَّةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ دَخَلَتْ فِي جُحْرٍ لَدَخَلَتْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ حَيَّةٌ مِثْلُهَا».

حَدَّثَنَا الشَّرِيفُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ الله(2) (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ رِكَامٍ(3)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّوْفَلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَىٰ الْكِلَابِيِّ، عَنْ خَالِدِ بْنِ نَجِيحٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ حُمْرَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَيِّدَ الْعَابِدِينَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیهم السلام) يَقُولُ: «فِي الْقَائِمِ مِنَّا سُنَنٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ (علیهم السلام)، سُنَّةٌ مِنْ نُوحٍ، وَسُنَّةٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَسُنَّةٌ مِنْ مُوسَىٰ، وَسُنَّةٌ مِنْ عِيسَىٰ، وَسُنَّةٌ مِنْ أَيُّوبَ، وَسُنَّةٌ مِنْ مُحَمَّدٍ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ).

وَأَمَّا مِنْ نُوحٍ (علیه السلام) فَطُولُ الْعُمُرِ، وَأَمَّا مِنْ إِبْرَاهِيمَ فَخَفَاءُ الْوِلَادَةِ وَاعْتِزَالُ النَّاسِ، وَأَمَّا مِنْ مُوسَىٰ فَالْخَوْفُ وَالْغَيْبَةُ، وَأَمَّا مِنْ عِيسَىٰ فَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِيهِ،

ص: 350


1- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 309).
2- في بعض النُّسَخ: (عبد الله).
3- في بعض النُّسَخ: (أبو عليّ بن همَّام).

وَأَمَّا مِنْ أَيُّوبَ (علیه السلام) فَالْفَرَجُ بَعْدَ الْبَلْوَىٰ،وَأَمَّا مِنْ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) فَالْخُرُوجُ بِالسَّيْفِ»(1).

فمتىٰ صحَّ التعمير لمن تقدَّم عصرنا وصحَّ الخبر بأنَّ السُّنَّة بذلك جارية في القائم (علیه السلام) الثاني عشر من الأئمَّة (علیهم السلام) لم يجز إلَّا أنْ يُعتَقد أنَّه لو بقي في غيبته ما بقي لم يكن القائم غيره، وَأنَّه لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اللهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّىٰ يَخْرُجَ فَيَمْلَأَهَا قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله) وَعَنِ الْأَئِمَّةِ (علیهم السلام) بَعْدَهُ.

ولا يحصل لنا الإسلام إلَّا بالتسليم لهم فيما يرد ويصحُّ عنهم، ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم.

وما في الأزمنة المتقدِّمة من أهل الدِّين والزهد والورع إلَّا مغيِّبين لأشخاصهم، مستترين لأمرهم، يظهرون عند الإمكان والأمن، ويغيبون عند العجز والخوف، وهذا سبيل الدنيا من ابتدائها إلىٰ وقتنا هذا، فكيف صار أمر القائم (علیه السلام) في غيبته من دون جميع الأُمور منكراً؟ إلَّا لما في نفوس الجاحدين من الكفر والضلال وعداوة الدِّين وأهله وبغض النبيِّ والأئمَّة بعده (علیهم السلام).

[قصَّة مَلِك الهند]:

[حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ السُّكَّرِيُّ(2)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا، قَالَ]: فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ مَلِكاً مِنْ مُلُوكِ الْهِنْدِ كَانَ كَثِيرَ الْجُنْدِ وَاسِعَ المَمْلَكَةِ مَهِيباً فِي أَنْفُسِ النَّاسِ، مُظَفَّراً عَلَىٰالْأَعْدَاءِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ عَظِيمَ النَّهْمَةِ(3) فِي شَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا وَمَلَاهِيهَا، مُؤْثِراً لِهَوَاهُ مُطِيعاً لَهُ، وَكَانَ

ص: 351


1- قد مرَّ تحت الرقم (218/3)، فراجع.
2- في بعض النُّسَخ: (العسكري)، وفي بعضها: (السكوني).
3- النهمة - بفتح النون -: بلوغ الهمَّة والشهوة في الشيء، ويقال: له في هذا الأمر نهمة أي شهوة.

أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ وَأَنْصَحُهُمْ لَهُ فِي نَفْسِهِ مَنْ زَيَّنَ لَهُ حَالَهُ وَحَسَّنَ رَأْيَهُ، وَأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيْهِ وَأَغَشُّهُمْ لَهُ فِي نَفْسِهِ مَنْ أَمَرَهُ بِغَيْرِهَا وَتَرَكَ أَمْرَهُ فِيهَا، وَكَانَ قَدْ أَصَابَ المُلْكَ فِيهَا فِي حَدَاثَةِ سِنِّهِ وَعُنْفُوَانِ شَبَابِهِ، وَكَانَ لَهُ رَأْيٌ أَصِيلٌ وَلِسَانٌ بَلِيغٌ وَمَعْرِفَةٌ بِتَدْبِيرِ النَّاسِ وَضَبْطِهِمْ، فَعَرَفَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْهُ فَانْقَادُوا لَهُ، وَخَضَعَ لَهُ كُلُّ صَعْبٍ وَذَلُولٍ، وَاجْتَمَعَ لَهُ سُكْرُ الشَّبَابِ وَسُكْرُ السُّلْطَانِ وَالشَّهْوَةُ وَالْعُجْبُ، ثُمَّ قَوَّىٰ ذَلِكَ مَا أَصَابَ مِنَ الظَّفَرِ عَلَىٰ مَنْ نَاصَبَهُ وَالْقَهْرِ لِأَهْلِ مَمْلَكَتِهِ وَانْقِيَادِ النَّاسِ لَهُ، فَاسْتَطَالَ عَلَىٰ النَّاسِ وَاحْتَقَرَهُمْ، ثُمَّ ازْدَادَ عُجْباً بِرَأْيِهِ وَنَفْسِهِ لِمَا مَدَحَهُ النَّاسُ وَزَيَّنُوا أَمْرَهُ عِنْدَهُ، فَكَانَ لَا هِمَّةَ لَهُ إِلَّا الدُّنْيَا، وَكَانَتِ الدُّنْيَا لَهُ مُؤَاتِيَةً، لَا يُرِيدُ مِنْهَا شَيْئاً إِلَّا نَالَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ مِئْنَاثاً(1) لَا يُولَدُ لَهُ ذَكَرٌ، وَقَدْ كَانَ الدِّينُ فَشَا فِي أَرْضِهِ قَبْلَ مُلْكِهِ وَكَثُرَ أَهْلُهُ، فَزَيَّنَ لَهُ الشَّيْطَانُ عَدَاوَةَ الدِّينِ وَأَهْلِهِ، وَأَضَرَّ بِأَهْلِ الدِّينِ فَأَقْصَاهُمْ مَخَافَةً عَلَىٰ مُلْكِهِ، وَقَرَّبَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، وَصَنَعَ لَهُمْ أَصْنَاماً مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَفَضَّلَهُمْ وَشَرَّفَهُمْ، وَسَجَدَ لِأَصْنَامِهِمْ.

فَلَمَّا رَأَىٰ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْهُ سَارَعُوا إِلَىٰ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْاِسْتِخْفَافِ بِأَهْلِ الدِّينِ، ثُمَّ إِنَّ المَلِكَ سَأَلَ يَوْماً عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بِلَادِهِ كَانَتْ لَهُ مِنْهُ مَنْزِلَةٌ حَسَنَةٌ وَمَكَانَةٌ رَفِيعَةٌ، وَكَانَ أَرَادَ لِيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَىٰ بَعْضِ أُمُورِهِ وَيُحِبُّهُ وَيُكْرِمُهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَيُّهَا المَلِكُ، إِنَّهُ قَدْ خَلَعَ الدُّنْيَا وَخَلَا مِنْهَا وَلَحِقَ بِالنُّسَّاكِ،فَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَىٰ المَلِكِ وَشَقَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فَأُتِيَ بِهِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ فِي زِيِّ النُّسَّاكِ وَتَخَشُّعِهِمْ زَبَرَهُ وَشَتَمَهُ (2)، وَقَالَ لَهُ: بَيْنَا أَنْتَ مِنْ عَبِيدِي وَعُيُونِ أَهْلِ مَمْلَكَتِي وَوَجْهِهِمْ وَأَشْرَافِهِمْ إِذْ فَضَحْتَ نَفْسَكَ وَضَيَّعْتَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ وَاتَّبَعْتَ أَهْلَ الْبِطَالَةِ وَالْخَسَارَةِ حَتَّىٰ

ص: 352


1- المئناث: التي اعتادت أنْ تلد الإناث، وكذلك الرجل، لأنَّهما يستويان في مفعال. ويقابله المذكار وهي التي تلد الذكور كثيراً.
2- النُّسَّاك: العُبَّاد. وزبره: أي زجره.

صِرْتَ ضُحْكَةً وَمَثَلاً، وقَدْ كُنْتُ أَعْدَدْتُكَ لِمُهِمِّ أُمُورِي، وَالْاِسْتِعَانَةِ بِكَ عَلَىٰ مَا يَنُوبُنِي.

فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا المَلِكُ، إِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِي عَلَيْكَ حَقٌّ فَلِعَقْلِكَ عَلَيْكَ حَقٌّ، فَاسْتَمِعْ قَوْلِي بِغَيْرِ غَضَبٍ، ثُمَّ اؤْمُرْ بِمَا بَدَا لَكَ بَعْدَ الْفَهْمِ وَالتَّثْبِيتِ، فَإِنَّ الْغَضَبَ عَدُوُّ الْعَقْلِ، وَلِذَلِكَ يَحُولُ بَيْنَ صَاحِبِهِ وَبَيْنَ الْفَهْمِ.

قَالَ لَهُ المَلِكُ: قُلْ مَا بَدَا لَكَ.

قَالَ النَّاسِكُ: فَإِنِّي أَسْأَلُكَ أَيُّهَا المَلِكُ أَفِي ذَنْبِي عَلَىٰ نَفْسِي عَتَبْتَ عَلَيَّ أَمْ فِي ذَنْبٍ مِنِّي إِلَيْكَ سَالِفٍ؟

قَالَ المَلِكُ: إِنَّ ذَنْبَكَ إِلَىٰ نَفْسِكَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ عِنْدِي، وَلَيْسَ كُلَّمَا أَرَادَ رَجُلٌ مِنْ رَعِيَّتِي أَنْ يُهْلِكَ نَفْسَهُ أُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَلَكِنِّي أَعُدُّ إِهْلَاكَهُ نَفْسَهُ كَإِهْلَاكِهِ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ أَنَا وَلِيُّهُ وَالْحَاكِمُ عَلَيْهِ وَلَهُ، فَأَنَا أَحْكُمُ عَلَيْكَ لِنَفْسِكَ وَآخُذُ لَهَا مِنْكَ إِذْ ضَيَّعْتَ أَنْتَ ذَلِكَ.

فَقَالَ لَهُ النَّاسِكُ: أَرَاكَ أَيُّهَا المَلِكُ لَا تَأْخُذُنِي إِلَّا بِحُجَّةٍ وَلَا نَفَاذَ لِحُجَّةٍ إِلَّا عِنْدَ قَاضٍ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنَ النَّاسِ قَاضٍ، لَكِنْ عِنْدَكَ قُضَاةٌ وَأَنْتَ لِأَحْكَامِهِمْ مُنْفِذٌ، وَأَنَا بِبَعْضِهِمْ رَاضٍ، وَمِنْ بَعْضِهِمْ مُشْفِقٌ.

قَالَ المَلِكُ: وَمَا أُولَئِكَ الْقُضَاةُ؟

قَالَ: أَمَّا الَّذِي أَرْضَىٰ قَضَاءَهُ فَعَقْلُكَ، وَأَمَّا الَّذِي أَنَا مُشْفِقٌ مِنْهُ فَهَوَاكَ.قَالَ المَلِكُ: قُلْ مَا بَدَا لَكَ وَاصْدُقْنِي خَبَرَكَ وَمَتَىٰ كَانَ هَذَا رَأْيَكَ؟ وَمَنْ أَغْوَاكَ؟

قَالَ: أَمَّا خَبَرِي فَإِنِّي كُنْتُ سَمِعْتُ كَلِمَةً فِي حَدَاثَةِ سِنِّي وَقَعَتْ فِي قَلْبِي فَصَارَتْ كَالْحَبَّةِ المَزْرُوعَةِ، ثُمَّ لَمْ تَزَلْ تَنْمِي حَتَّىٰ صَارَتْ شَجَرَةً إِلَىٰ مَا تَرَىٰ، وَذَلِكَ أَنِّي [كُنْتُ] قَدْ سَمِعْتُ قَائِلاً يَقُولُ: يَحْسَبُ الْجَاهِلُ الْأَمْرَ الَّذِي هُوَ لَا شَيْءَ شَيْئاً

ص: 353

وَالْأَمْرَ الَّذِي هُوَ الشَّيْءُ لَا شَيْءَ، وَمَنْ لَمْ يَرْفَضِ الْأَمْرَ الَّذِي هُوَ لَا شَيْءَ لَمْ يَنَلِ الْأَمْرَ الَّذِي هُوَ الشَّيْءُ، وَمَنْ لَمْ يُبْصِرِ الْأَمْرَ الَّذِي هُوَ الشَّيْ ءُ لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِرَفْضِ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ لَا شَيْءَ. وَالشَّيْ ءُ هُوَ الْآخِرَةُ، وَاللَّاشَيْءُ هُوَ الدُّنْيَا. فَكَانَ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ عِنْدِي قَرَارٌ لِأَنِّي وَجَدْتُ الدُّنْيَا حَيَاتَهَا مَوْتاً، وَغَنَاهَا فَقْراً، وَفَرَحَهَا تَرَحاً، وَصِحَّتَهَا سُقْماً، وَقُوَّتَهَا ضَعْفاً، وَعِزَّهَا ذُلًّا، وَكَيْفَ لَا تَكُونُ حَيَاتُهَا مَوْتاً وَإِنَّمَا يَحْيَا فِيهَا صَاحِبُهَا لِيَمُوتَ، وَهُوَ مِنَ المَوْتِ عَلَىٰ يَقِينٍ وَمِنَ الْحَيَاةِ عَلَىٰ قُلْعَةٍ؟ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ غَنَاؤُهَا فَقْراً وَلَيْسَ يُصِيبُ أَحَدٌ مِنْهَا شَيْئاً إِلَّا احْتَاجَ لِذَلِكَ الشَّيْءِ إِلَىٰ شَيْءٍ آخَرَ يُصْلِحُهُ وَإِلَىٰ أَشْيَاءَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا؟ وَمِثْلُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ رُبَّمَا يَحْتَاجُ إِلَىٰ دَابَّةٍ فَإِذَا أَصَابَهَا احْتَاجَ إِلَىٰ عَلَفِهَا وَقَيِّمِهَا وَمَرْبَطِهَا(1) وَأَدَوَاتِهَا، ثُمَّ احْتَاجَ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَىٰ شَيْءٍ آخَرَ يُصْلِحُهُ وَإِلَىٰ أَشْيَاءَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا، فَمَتَىٰ تَنْقَضِي حَاجَةُ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ وَفَاقَتُهُ؟

وَكَيْفَ لَا يَكُونُ فَرَحُهَا تَرَحاً وَهِيَ مَرْصَدَةٌ لِكُلِّ مَنْ أَصَابَ مِنْهَا قُرَّةَ عَيْنٍ أَنْ يَرَىٰ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ بِعَيْنِهِ أَضْعَافَهُ مِنَ الْحُزْنِ، إِنْ رَأَىٰ سُرُوراً فِي وَلَدِهِ فَمَا يَنْتَظِرُ مِنَ الْأَحْزَانِ فِي مَوْتِهِ وَسُقْمِهِ وَجَائِحَةٌ إِنْ أَصَابَتْهُ أَعْظَمُ مِنْ سُرُورِهِ بِهِ، وَإِنْ رَأَىٰ السُّرُورَ فِي مَالٍ فَمَا يَتَخَوَّفُ مِنَ التَّلَفِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِأَعْظَمُ مِنْ سُرُورِهِ بِالمَالِ؟ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَأَحَقُّ النَّاسِ بِأَنْ لَا يَتَلَبَّسَ بِشَيْءٍ مِنْهَا لَمَنْ عَرَفَ هَذَا مِنْهَا.

وَكَيْفَ لَا يَكُونُ صِحَّتُهَا سُقْماً وَإِنَّمَا صِحَّتُهَا مِنْ أَخْلَاطِهَا، وَأَصَحُّ أَخْلَاطِهَا وَأَقْرَبُهَا مِنَ الْحَيَاةِ الدَّمُ، وَأَظْهَرُ مَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ دَماً أَخْلَقُ مَا يَكُونُ صَاحِبُهُ بِمَوْتِ الْفَجْأَةِ وَالذُّبْحَةِ وَالطَّاعُونِ(2) وَالْآكِلَةِ وَالْبِرْسَامِ؟

ص: 354


1- المربط - بفتح الباء وكسرها -: موضع ربط الدوابِّ.
2- الذبحة - بضمِّ الذال وفتح الباء، والعامَّة تسكن الباء -: ورم حارٌّ في العضلات من جانب الحلقوم التي بها يكون البلع. وقال العلَّامة: وقد تُطلَق الذبحة على الاختناق أيضاً. والشيخ لا يُفرِّق بينهما، وقيل: هي ورم اللوزتين. (بحر الجواهر: ص 175).

وَكَيْفَ لَا يَكُونُ قُوَّتُهَا ضَعْفاً وَإِنَّمَا تَجْمَعُ الْقُوَىٰ فِيهَا مَا يَضُرُّهُ وَيُوبِقُهُ؟

وَكَيْفَ لَا يَكُونُ عِزُّهَا ذُلًّا وَلَمْ يُرَ فِيهَا عِزٌّ قَطُّ إِلَّا أَوْرَثَ أَهْلَهُ ذُلًّا طَوِيلاً؟ غَيْرَ أَنَّ أَيَّامَ الْعِزِّ قَصِيرَةٌ وَأَيَّامَ الذُّلِّ طَوِيلَةٌ.

فَأَحَقُّ النَّاسِ بِذَمِّ الدُّنْيَا لَمَنْ بُسِطَتْ لَهُ الدُّنْيَا فَأَصَابَ حَاجَتَهُ مِنْهَا، فَهُوَ يَتَوَقَّعُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَسَاعَةٍ وَطَرْفَةِ عَيْنٍ أَنْ يُعْدَىٰ عَلَىٰ مَالِهِ فَيَحْتَاجَ، وَعَلَىٰ حَمِيمِهِ فَيُخْتَطَفَ، وَعَلَىٰ جَمْعِهِ فَيُنْهَبَ، وَأَنْ يُؤْتَىٰ بُنْيَانُهُ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَيُهْدَمَ، وَأَنْ يَدِبَّ المَوْتُ إِلَىٰ حَشْدِهِ فَيُسْتَأْصَلَ، ويُفْجَعَ بِكُلِّ مَا هُوَ بِهِ ضَنِينٌ.

فَأَذُمُّ إِلَيْكَ أَيُّهَا المَلِكُ الدُّنْيَا الْآخِذَةَ مَا تُعْطِي وَالمُوَرِّثَةَ بَعْدَ ذَلِكَ التَّبِعَةَ، السَّلَّابَةَ لِمَنْ تَكْسُو وَالمُوَرِّثَةَ بَعْدَ ذَلِكَ الْعُرَىٰ، المُوَاضِعَةَ لِمَنْ تَرْفَعُ وَالمُوَرِّثَةَ بَعْدَ ذَلِكَ الْجَزَعَ، التَّارِكَةَ لِمَنْ يَعْشَقُهَا وَالمُوَرِّثَةَ بَعْدَ ذَلِكَ الشِّقْوَةَ، المُغْوِيَةَ لِمَنْ أَطَاعَهَا وَاغْتَرَّ بِهَا، الْغَدَّارَةَ بِمَنِ ائْتَمَنَهَا وَرَكَنَ إِلَيْهَا، هِيَ المَرْكَبُ الْقَمُوصُ(1)، وَالصَّاحِبُ الْخَئُونُ، وَالطَّرِيقُ الزَّلَقُ، وَالمَهْبَطُ المُهْوِي، هِيَالمَكْرُمَةُ الَّتِي لَا تُكْرِمُ أَحَداً إِلَّا أَهَانَتْهُ، المَحْبُوبَةُ الَّتِي لَا تُحِبُّ أَحَداً، المَلْزُومَةُ الَّتِي لَا تَلْزَمُ أَحَداً، يُوَفَّىٰ لَهَا وَتَغْدِرُ، وَيُصْدَقُ لَهَا وَتَكْذِبُ، وَيُنْجَزُ لَهَا وَتُخْلِفُ، هِيَ المُعْوَجَّةُ لِمَنِ اسْتَقَامَ بِهَا، المُتَلَاعِبَةُ بِمَنِ اسْتَمْكَنَتْ(2) مِنْهُ.

بَيْنَا هِيَ تُطْعِمُهُ إِذْ حَوَّلَتْهُ مَأْكُولاً، وَبَيْنَا هِيَ تَخْدُمُهُ إِذْ جَعَلَتْهُ خَادِماً، وَبَيْنَا هِيَ تُضْحِكُهُ إِذْ ضَحِكَتْ مِنْهُ، وَبَيْنَا هِيَ تَشْمَتُهُ إِذْ شَمِتَتْ مِنْهُ(3)، وَبَيْنَا هِيَ تَبْكِيهِ إِذْ بَكَتْ عَلَيْهِ، وَبَيْنَا هِيَ قَدْ بُسِطَتْ يَدُهُ بِالْعَطِيَّةِ إِذْ بَسَطَتْهَا بِالمَسْأَلَةِ، وَبَيْنَا هُوَ فِيهَا عَزِيزٌ إِذْ أَذَلَّتْهُ، وَبَيْنَا هُوَ فِيهَا مُكْرَمٌ إِذْ أَهَانَتْهُ، وَبَيْنَا هُوَ فِيهَا مُعَظَّمٌ إِذْ صَارَ مَحْقُوراً،

ص: 355


1- القموص - على وزان چموش - وبمعناه.
2- في بعض النُّسَخ: (استمسكت).
3- في بعض النُّسَخ: (وبينا هي تشتمه إذا شتمت منه). ولعلَّ الصواب: (بينا هي تُسمِنه إذ سمنت منه).

وَبَيْنَا هُوَ رَفِيعٌ إِذْ وَضَعَتْهُ، وَبَيْنَا هِيَ لَهُ مُطِيعَةٌ إِذْ عَصَتْهُ، وَبَيْنَا هُوَ فِيهَا مَسْرُورٌ إِذْ أَحْزَنَتْهُ، وَبَيْنَا هُوَ فِيهَا شَبْعَانُ إِذْ أَجَاعَتْهُ، وَبَيْنَا هُوَ فِيهَا حَيٌّ إِذْ أَمَاتَتْهُ.

فَأُفٍّ لَهَا مِنْ دَارٍ إِذْ كَانَ هَذَا فِعَالَهَا وَهَذِهِ صِفَتَهَا، تَضَعُ التَّاجَ عَلَىٰ رَأْسِهِ غُدْوَةً وَتُعَفِّرُ خَدَّهُ بِالتُّرَابِ عَشِيَّةً، وَتُحَلِّي الْأَيْدِيَ بِأَسْوِرَةِ الذَّهَبِ عَشِيَّةً وَتَجْعَلُهَا فِي الْأَغْلَالِ غُدْوَةً، وتُقْعِدُ الرَّجُلَ عَلَىٰ السَّرِيرِ غُدْوَةً وتَرْمِي بِهِ فِي السِّجْنِ عَشِيَّةً، تَفْرُشُ لَهُ الدِّيبَاجَ عَشِيَّةً وتَفْرُشُ لَهُ التُّرَابَ غُدْوَةً، وَتَجْمَعُ لَهُ المَلَاهِيَ وَالمَعَازِفَ غُدْوَةً وَتَجْمَعُ عَلَيْهِ النَّوَائِحَ وَالنَّوَادِبَ عَشِيَّةً، تُحَبِّبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ قُرْبَهُ عَشِيَّةً وَتُحَبِّبُ إِلَيْهِمْ بُعْدَهُ غُدْوَةً، تُطَيِّبُ رِيحَهُ غُدْوَةً وَتُنَتِّنُ رِيحَهُ عَشِيَّةً، فَهُوَ مُتَوَقِّعٌ لِسَطَوَاتِهَا غَيْرُ نَاجٍ مِنْ فِتْنَتِهَا وَبَلَائِهَا، تَمَتَّعُ نَفْسُهُ مِنْ أَحَادِيثِهَا، وَعَيْنُهُ مِنْ أَعَاجِيبِهَا، وَيَدُهُ مَمْلُوءَةٌ مِنْ جَمْعِهَا، ثُمَّ تُصْبِحُ الْكَفُّ صِفْراً، وَالْعَيْنُ هَامِدَةً، ذَهَبَ مَا ذَهَبَ، وَهَوَىٰ مَا هَوَىٰ، وَبَادَ مَا بَادَ، وَهَلَكَمَا هَلَكَ، تَجِدُ فِي كُلٍّ مِنْ كُلٍّ خَلَفاً، وَتَرْضَىٰ بِكُلٍّ مِنْ كُلٍّ بَدَلاً، تُسْكِنُ دَارَ كُلِّ قَرْنٍ قَرْناً، وَتُطْعِمُ سُؤْرَ كُلِّ قَوْمٍ قَوْماً، تُقْعِدُ الْأَرَاذِلَ مَكَانَ الْأَفَاضِلِ، وَالْعَجَزَةَ مَكَانَ الْحَزَمَةِ(1)، تَنْقُلُ أَقْوَاماً مِنَ الْجَدْبِ إِلَىٰ الْخِصْبِ(2)، وَمِنَ الرِّجْلَةِ إِلَىٰ المَرْكَبِ، وَمِنَ الْبُؤْسِ إِلَىٰ النِّعْمَةِ، وَمِنَ الشِّدَّةِ إِلَىٰ الرَّخَاءِ، وَمِنَ الشَّقَاءِ إِلَىٰ الْخَفْضِ وَالدَّعَةِ، حَتَّىٰ إِذَا غَمَسَتْهُمْ فِي ذَلِكَ انْقَلَبَتْ بِهِمْ فَسَلَبَتْهُمُ الْخِصْبَ، وَنَزَعَتْ مِنْهُمُ الْقُوَّةَ، فَعَادُوا إِلَىٰ أَبْأَسِ الْبُؤْسِ، وَأَفْقَرِ الْفَقْرِ، وَأَجْدَبِ الْجَدْبِ.

فَأَمَّا قَوْلُكَ أَيُّهَا المَلِكُ فِي إِضَاعَةِ الْأَهْلِ وَتَرْكِهِمْ فَإِنِّي لَمْ أُضَيِّعْهُمْ، وَلَمْ أَتْرُكْهُمْ بَلْ وَصَلْتُهُمْ وَانْقَطَعْتُ إِلَيْهِمْ، وَلَكِنِّي كُنْتُ وَأَنَا أَنْظُرُ بِعَيْنٍ مَسْحُورَةٍ لَا أَعْرِفُ بِهَا الْأَهْلَ مِنَ الْغُرَبَاءِ وَلَا الْأَعْدَاءَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، فَلَمَّا انْجَلَىٰ عَنِّي السِّحْرُ اسْتَبْدَلْتُ بِالْعَيْنِ المَسْحُورَةِ عَيْناً صَحِيحَةً، وَاسْتَبَنْتُ الْأَعْدَاءَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَالْأَقْرِبَاءَ مِنَ

ص: 356


1- في بعض النُّسَخ: (الفجرة) مكان (البررة).
2- الجدب: القحط، مقابل الخصب.

الْغُرَبَاءِ، فَإِذَا الَّذِينَ كُنْتُ أَعُدُّهُمْ أَهْلِينَ وَأَصْدِقَاءَ وَإِخْوَاناً وَخُلَطَاءَ إِنَّمَا هُمْ سِبَاعٌ ضَارِيَةٌ(1) لَا هِمَّةَ لَهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْكُلَنِي وَتَأْكُلَ بِي، غَيْرَ أَنَّ اخْتِلَافَ مَنَازِلِهِمْ فِي ذَلِكَ عَلَىٰ قَدْرِ الْقُوَّةِ، فَمِنْهُمْ كَالْأَسَدِ فِي شِدَّةِ السَّوْرَةِ(2)، وَمِنْهُمْ كَالذِّئْبِ فِي الْغَارَةِ وَالنُّهْبَةِ، ومِنْهُمْ كَالْكَلْبِ فِي الْهَرِيرِ وَالْبَصْبَصَةِ، وَمِنْهُمْ كَالثَّعْلَبِ فِي الْحِيلَةِ وَالسَّرِقَةِ، فَالطُّرُقُ وَاحِدَةٌ وَالْقُلُوبُ مُخْتَلِفَةٌ.

فَلَوْ أَنَّكَ أَيُّهَا المَلِكُ فِي عَظِيمِ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ مُلْكِكَ، وَكَثْرَةِ مَنْ تَبِعَكَ مِنْ أَهْلِكَ وَجُنُودِكَ وَحَاشِيَتِكَ وَأَهْلِ طَاعَتِكَ، نَظَرْتَ فِي أَمْرِكَ عَرَفْتَ أَنَّكَفَرِيدٌ وَحِيدٌ، لَيْسَ مَعَكَ أَحَدٌ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ أَنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ عَامَّةَ الْأُمَمِ عَدُوٌّ لَكَ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ الَّتِي أُوتِيتَ المُلْكَ عَلَيْهَا كَثِيرَةُ الْحَسَدِ(3) مِنْ أَهْلِ الْعَدَاوَةِ وَالْغِشِّ لَكَ الَّذِينَ هُمْ أَشَدُّ عَدَاوَةً لَكَ مِنَ السِّبَاعِ الضَّارِيَةِ، وَأَشَدُّ حَنَقاً عَلَيْكَ مِنْ كُلِّ الْأُمَمِ الْغَرِيبَةِ، وَإِذَا صِرْتَ إِلَىٰ أَهْلِ طَاعَتِكَ وَمَعُونَتِكَ وَقَرَابَتِكَ وَجَدْتَ لَهُمْ قَوْماً يَعْمَلُونَ عَمَلاً بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ، يَحْرِصُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَنْقُصُوكَ مِنَ الْعَمَلِ فَيَزْدَادُوكَ مِنَ الْأَجْرِ، وَإِذَا صِرْتَ إِلَىٰ أَهْلِ خَاصَّتِكَ وَقَرَابَتِكَ صِرْتَ إِلَىٰ قَوْمٍ جَعَلْتَ كَدَّكَ وَكَدْحَكَ(4) وَمُهَنَّأَكَ وكَسْبَكَ لَهُمْ، فَأَنْتَ تُؤَدِّي إِلَيْهِمْ كُلَّ يَوْمٍ الضَّرِيبَةَ، وَلَيْسَ كُلُّهُمْ وَإِنْ وَزَعْتَ بَيْنَهُمْ جَمِيعَ كَدِّكَ عَنْكَ بِرَاضٍ فَإِنْ أَنْتَ حَبَسْتَ عَنْهُمْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ الْبَتَّةَ رَاضٍ، أَفَلَا تَرَىٰ أَنَّكَ أَيُّهَا المَلِكُ وَحِيدٌ لَا أَهْلٌ لَكَ وَلَا مَالٌ؟

فَأَمَّا أَنَا فَإِنَّ لِي أَهْلاً وَمَالاً وَإِخْوَاناً وَأَخَوَاتٍ وَأَوْلِيَاءَ، لَا يَأْكُلُونِي، وَلَا

ص: 357


1- الضاري من الكلاب: ما لهج بالصيد وتعوَّد أكله.
2- السَّورة - بالفتح -: الحدَّة.
3- في بعض النُّسَخ: (الحشد)، وهو الجماعة.
4- الكدُّ: السعي والجدُّ. والكدح في العمل: المجاهدة فيه.

يَأْكُلُونَ بِي، وَيُحِبُّونِّي وَأُحِبُّهُمْ، فَلَا يُفْقَدُ الْحُبُّ بَيْنَنَا، يَنْصَحُونِّي وَأَنْصَحُهُمْ فَلَا غِشَّ بَيْنَنَا، وَيَصْدُقُونِّي وَأَصْدُقُهُمْ فَلَا تَكَاذُبَ بَيْنَنَا، وَيُوَالُونِّي وَأُوَالِيهِمْ فَلَا عَدَاوَةَ بَيْنَنَا، يَنْصُرُونِّي وَأَنْصُرُهُمْ فَلَا تَخَاذُلَ بَيْنَنَا، يَطْلُبُونَ الْخَيْرَ الَّذِي إِنْ طَلَبْتُهُ مَعَهُمْ لَمْ يَخَافُوا أَنْ أَغْلِبَهُمْ عَلَيْهِ أَوْ أَسْتَأْثِرَ بِهِ دُونَهُمْ، فَلَا فَسَادَ بَيْنَنَا وَلَا تَحَاسُدَ، يَعْمَلُونَ لِي وَأَعْمَلُ لَهُمْ بِأُجُورٍ لَا تَنْفَدُ وَلَا يَزَالُ الْعَمَلُ قَائِماً بَيْنَنَا، هُمْ هُدَاتِي إِنْ ضَلَلْتُ، وَنُورُ بَصَرِي إِنْ عَمِيتُ، وَحِصْنِي إِنْ أُتِيتُ، وَمِجَنِّي إِنْ رُمِيتُ(1)، وَأَعْوَانِي إِذَا فَزِعْتُ، وَقَدْ تَنَزَّهْنَا عَنِ الْبُيُوتِوَالمَخَانِي(2) فَلَا نُرِيدُهَا، وتَرَكْنَا الذَّخَائِرَ وَالمَكَاسِبَ لِأَهْلِ الدُّنْيَا فَلَا تَكَاثُرَ بَيْنَنَا، وَلَا تَبَاغِيَ، وَلَا تَبَاغُضَ، وَلَا تَفَاسُدَ، وَلَا تَحَاسُدَ، وَلَا تَقَاطُعَ، فَهَؤُلَاءِ أَهْلِي أَيُّهَا المَلِكُ وَإِخْوَانِي وَأَقْرِبَائِي وَأَحِبَّائِي، أَحْبَبْتُهُمْ وَانْقَطَعْتُ إِلَيْهِمْ، وَتَرَكْتُ الَّذِينَ كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ بِالْعَيْنِ المَسْحُورَةِ لَمَّا عَرَفْتُهُمْ، والْتَمَسْتُ السَّلَامَةَ مِنْهُمْ.

فَهَذِهِ الدُّنْيَا أَيُّهَا المَلِكُ الَّتِي أَخْبَرْتُكَ أَنَّهَا لَا شَيْءَ، فَهَذَا نَسَبُهَا وَحَسَبُهَا وَمَصِيرُهَا إِلَىٰ مَا قَدْ سَمِعْتَ، وَقَدْ رَفَضْتُهَا لِمَا عَرَفْتُهَا، وَأَبْصَرْتُ الْأَمْرَ الَّذِي هُوَ الشَّيْءُ، فَإِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَيُّهَا المَلِكُ أَنْ أَصِفَ لَكَ مَا أَعْرِفُ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ الشَّيْءُ فَاسْتَعِدَّ إِلَىٰ السَّمَاعِ، تَسْمَعُ غَيْرَ مَا كُنْتَ تَسْمَعُ بِهِ الْأَشْيَاءَ.

فَلَمْ يَزِدِ المَلِكُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ قَالَ لَهُ: كَذَبْتَ لَمْ تُصِبْ شَيْئاً، وَلَمْ تَظْفَرْ إِلَّا بِالشَّقَاءِ وَالْعَنَاءِ، فَاخْرُجْ وَلَا تُقِيمَنَّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَمْلَكَتِي، فَإِنَّكَ فَاسِدٌ مُفْسِدٌ.

وَوُلِدَ لِلْمَلِكِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ بَعْدَ إِيَاسِهِ مِنَ الذُّكُورِ غُلَامٌ لَمْ يَرَ النَّاسُ مَوْلُوداً مِثْلَهُ قَطُّ حُسْناً وَجَمَالاً وَضِيَاءً، فَبَلَغَ السُّرُورُ مِنَ المَلِكِ مَبْلَغاً عَظِيماً كَادَ أَنْ يُشْرِفَ مِنْهُ عَلَىٰ هَلَاكِ نَفْسِهِ مِنَ الْفَرَحِ، وَزَعَمَ أَنَّ الْأَوْثَانَ الَّتِي كَانَ يَعْبُدُهَا هِيَ الَّتِي وَهَبَتْ لَهُ الْغُلَامَ، فَقَسَمَ عَامَّةَ مَا كَانَ فِي بُيُوتِ أَمْوَالِهِ عَلَىٰ بُيُوتِ أَوْثَانِهِ، وَأَمَرَ النَّاسَ

ص: 358


1- المجنُّ: الترس وكلُّ ما وقىٰ من السلاح.
2- لعلَّه جمع خان وهو الحانوت والفندق. وفي بعض النُّسَخ: (المخابي).

بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ سَنَةً، وَسَمَّىٰ الْغُلَامَ يُوذَاسُفَ(1)، وَجَمَعَ الْعُلَمَاءَ وَالمُنَجِّمِينَ لِتَقْوِيمِ مِيلَادِهِ، فَرَفَعَ المُنَجِّمُونَ إِلَيْهِأَنَّهُمْ يَجِدُونَ الْغُلَامَ يَبْلُغُ مِنَ الشَّرَفِ وَالمَنْزِلَةِ مَا لَا يَبْلُغُهُ أَحَدٌ قَطُّ فِي أَرْضِ الْهِنْدِ، وَاتَّفَقُوا عَلَىٰ ذَلِكَ جَمِيعاً، غَيْرَ أَنَّ رَجُلاً قَالَ: مَا أَظُنُّ الشَّرَفَ وَالمَنْزِلَةَ وَالْفَضْلَ الَّذِي وَجَدْنَاهُ يَبْلُغُهُ هَذَا الْغُلَامُ إِلَّا شَرَفَ الْآخِرَةِ، وَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِمَاماً فِي الدِّينِ وَالنُّسُكِ وَذَا فَضِيلَةٍ فِي دَرَجَاتِ الْآخِرَةِ، لِأَنِّي أَرَىٰ الشَّرَفَ الَّذِي تَبْلُغُهُ لَيْسَ يُشْبِهُ شَيْئاً مِنْ شَرَفِ الدُّنْيَا وَهُوَ شَبِيهٌ بِشَرَفِ الْآخِرَةِ. فَوَقَعَ ذَلِكَ الْقَوْلُ مِنَ المَلِكِ مَوْقِعاً كَادَ أَنْ يُنَغِّصَهُ سُرُورَهُ بِالْغُلَامِ، وَكَانَ المُنَجِّمُ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ مِنْ أَوْثَقِ المُنَجِّمِينَ فِي نَفْسِهِ وَأَعْلَمِهِمْ وَأَصْدَقِهِمْ عِنْدَهُ، وَأَمَرَ المَلِكُ لِلْغُلَامِ بِمَدِينَةٍ فَأَخْلَاهَا وَتَخَيَّرَ لَهُ مِنَ الظُّؤُورَةِ(2) وَالْخَدَمِ كُلَّ ثِقَةٍ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ أَنْ لَا يُذْكَرَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَوْتٌ وَلَا آخِرَةٌ وَلَا حُزْنٌ وَلَا مَرَضٌ وَلَا فَنَاءٌ حَتَّىٰ تَعْتَادَ ذَلِكَ أَلْسِنَتُهُمْ وَتَنْسَاهُ قُلُوبُهُمْ، وَأَمَرَهُمْ إِذَا بَلَغَ الْغُلَامُ أَنْ لَا يَنْطِقُوا عِنْدَهُ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِمَّا يَتَخَوَّفُونَهُ عَلَيْهِ خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَكُونَ ذَلِكَ دَاعِيَةً إِلَىٰ اهْتِمَامِهِ بِالدِّينِ وَالنُّسُكِ، وَأَنْ يَتَحَفَّظُوا وَيَتَحَرَّزُوا مِنْ ذَلِكَ، وَيَتَفَقَّدَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ.

وَازْدَادَ المَلِكُ عِنْدَ ذَلِكَ حَنَقاً عَلَىٰ النُّسَّاكِ مَخَافَةً عَلَىٰ ابْنِهِ.

وَكَانَ لِذَلِكَ المَلِكُ وَزِيرٌ قَدْ كَفَلَ أَمْرَهُ وَحَمَلَ عَنْهُ مَؤُونَةَ سُلْطَانِهِ، وَكَانَ لَا يَخُونُهُ وَلَا يَكْذِبُهُ وَلَا يَكْتُمُهُ وَلَا يُؤْثِرُ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَوَانَىٰ فِي شَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ، وَلَا يُضَيِّعُهُ، وَكَانَ الْوَزِيرُ مَعَ ذَلِكَ رَجُلاً لَطِيفاً طَلِقاً مَعْرُوفاً بِالْخَيْرِ، يُحِبُّهُ النَّاسُ

ص: 359


1- كذا بالياء في جميع النُّسَخ، والمظنون أنَّه تصحيف، والصواب (بوذاسف)، والكلمة مركَّبة من (بوذا) و(سف)، وقيل: (بوذا) هو الاسم الدِّيني لمؤسِّس الديانة البوذيَّة، ومعناه باللغة السنسكريتيَّة: العالم الذي وصل الحصول علىٰ البوذة وهو العلم الكامل. لكن لم أجد في موضع يدخله أداة التعريف، وعلىٰ ما قيل ليس باسم عَلَم بل هو صفة، وبناءً عليه يجوز أنْ يدخله (أل) ويقال: (البوذا)، والعلم عند الله.
2- جمع الظئر: المرضعة.

وَيَرْضَوْنَ بِهِ إِلَّا أَنَّ أَحِبَّاءَ المَلِكِ وَأَقْرِبَاءَهُ كَانُوا يَحْسُدُونَهُ، وَيَبْغُونَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَقِلُّونَ بِمَكَانِهِ(1).

ثُمَّ إِنَّ المَلِكَ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَىٰ الصَّيْدِ وَمَعَهُ ذَلِكَ الْوَزِيرُ، فَأَتَىٰ بِهِ فِيشِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ عَلَىٰ رَجُلٍ قَدْ أَصَابَتْهُ زَمَانَةٌ شَدِيدَةٌ فِي رِجْلَيْهِ، مُلْقًى فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ لَا يَسْتَطِيعُ بَرَاحاً(2)، فَسَأَلَهُ الْوَزِيرُ عَنْ شَأْنِهِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ السِّبَاعَ أَصَابَتْهُ، فَرَقَّ لَهُ الْوَزِيرُ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: ضُمَّنِي إِلَيْكَ وَاحْمِلْنِي إِلَىٰ مَنْزِلِكَ فَإِنَّكَ تَجِدُ عِنْدِي مَنْفَعَةً، فَقَالَ الْوَزِيرُ: إِنِّي لَفَاعِلٌ وَإِنْ لَمْ أَجِدْ عِنْدَكَ مَنْفَعَةً، وَلَكِنْ يَا هَذَا مَا المَنْفَعَةُ الَّتِي تَعِدُنِيهَا، هَلْ تَعْمَلُ عَمَلاً أَوْ تُحْسِنُ شَيْئاً؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: نَعَمْ أَنَا أَرْتِقُ الْكَلَامَ(3)، فَقَالَ: وَكَيْفَ تَرْتِقُ الْكَلَامَ؟ قَالَ: إِذَا كَانَ فِيهِ فَتْقٌ أَرْتِقُهُ حَتَّىٰ لَا يَجِيءَ مِنْ قِبَلِهِ فَسَادٌ، فَلَمْ يَرَ الْوَزِيرُ قَوْلَهُ شَيْئاً، وَأَمَرَ بِحَمْلِهِ إِلَىٰ مَنْزِلِهِ، وَأَمَرَ لَهُ بِمَا يُصْلِحُهُ حَتَّىٰ إِذْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ احْتَالَ أَحِبَّاءُ المَلِكِ لِلْوَزِيرِ وَضَرَبُوا لَهُ الْأُمُورَ ظَهْراً وَبَطْناً، فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَىٰ أَنْ دَسُّوا رَجُلاً مِنْهُمْ إِلَىٰ المَلِكِ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا المَلِكُ إِنَّ هَذَا الْوَزِيرَ يَطْمَعُ فِي مُلْكِكَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدِكَ فَهُوَ يُصَانِعُ النَّاسَ عَلَىٰ ذَلِكَ، وَيَعْمَلُ عَلَيْهِ دَائِباً، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ صِدْقَ ذَلِكَ فَأَخْبِرْهُ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لَكَ أَنْ تَرْفِضَ المُلْكَ وَتَلْحَقَ بِالنُّسَّاكِ، فَإِنَّكَ سَتَرَىٰ مِنْ فَرَحِهِ بِذَلِكَ مَا تَعْرِفُ بِهِ أَمْرَهُ، وَكَانَ الْقَوْمُ قَدْ عَرَفُوا مِنَ الْوَزِيرِ رِقَّةً عِنْدَ ذِكْرِ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَالمَوْتِ وَلِيناً لِلنُّسَّاكِ وَحُبًّا لَهُمْ، فَعَمِلُوا فِيهِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَظْفَرُونَ بِحَاجَتِهِمْ مِنْهُ، فَقَالَ المَلِكُ: لَئِنْ أَنَا هَجَمْتُ مِنْهُ عَلَىٰ هَذَا لَمْ أَسْأَلْ عَمَّا سِوَاهُ، فَلَمَّا أَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ الْوَزِيرُ قَالَ لَهُ المَلِكُ: إِنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ حِرْصِي عَلَىٰ الدُّنْيَا وَطَلَبِ المُلْكِ، وَإِنِّي قَدْ ذَكَرْتُ مَا مَضَىٰ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ أَجِدْ مَعِي

ص: 360


1- في بعض النُّسَخ: (يستثقلون بمكانه).
2- أي لا يستطيع تحوُّلاً.
3- رتق الفتق: أصلحه، يقال: هو راتق، أي مصلح الأمر.

مِنْهُ طَائِلاً، وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ الَّذِي بَقِيَ مِنْهُ كَالَّذِي مَضَىٰ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَنْقَضِيَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِأَجْمَعِهِ، فَلَا يَصِيرَ فِي يَدِي مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَعْمَلَ فِي حَالِ الْآخِرَةِ عَمَلاً قَوِيًّا عَلَىٰ قَدْرِ مَا كَانَ مِنْعَمَلِي فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ بَدَا لِي أَنْ أَلْحَقَ بِالنُّسَّاكِ وَأُخَلِّيَ هَذَا الْعَمَلَ لِأَهْلِهِ، فَمَا رَأْيُكَ؟

قَالَ: فَرَقَّ الْوَزِيرُ لِذَلِكَ رِقَّةً شَدِيدَةً حَتَّىٰ عَرَفَ المَلِكُ ذَلِكَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا المَلِكُ إِنَّ الْبَاقِيَ وَإِنْ كَانَ عَزِيزاً لَأَهْلٌ أَنْ يُطْلَبَ، وَإِنَّ الْفَانِيَ وَإِنِ اسْتَمْكَنْتَ مِنْهُ لَأَهْلٌ أَنْ يُرْفَضَ، وَنِعْمَ الرَّأْيُ رَأَيْتَ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَجْمَعَ اللهُ لَكَ مَعَ الدُّنْيَا شَرَفَ الْآخِرَةِ.

قَالَ: فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَىٰ المَلِكِ وَوَقَعَ مِنْهُ كُلَّ مَوْقِعٍ وَلَمْ يُبْدِ لَهُ شَيْئاً غَيْرَ أَنَّ الْوَزِيرَ عَرَفَ الثِّقْلَ فِي وَجْهِهِ، فَانْصَرَفَ إِلَىٰ أَهْلِهِ كَئِيباً حَزِيناً لَا يَدْرِي مِنْ أَيْنَ أُتِيَ وَلَا مَنْ دَهَاهُ(1)، وَلَا يَدْرِي مَا دَوَاءُ المَلِكِ فِيمَا اسْتَنْكَرَ عَلَيْهِ، فَسَهَرَ لِذَلِكَ عَامَّةَ اللَّيْلِ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ يَرْتِقُ الْكَلَامَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَأُتِيَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ كُنْتَ ذَكَرْتَ لِي ذِكْراً مِنْ رَتْقِ الْكَلَامِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَجَلْ، فَهَلِ احْتَجْتَ إِلَىٰ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ الْوَزِيرُ: نَعَمْ، أُخْبِرُكَ أَنِّي صَحِبْتُ هَذَا المَلِكَ قَبْلَ مُلْكِهِ وَمُنْذُ صَارَ مَلِكاً، فَلَمْ أَسْتَنْكِرْهُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ قَطُّ لِمَا يَعْرِفُهُ مِنْ نَصِيحَتِي وَشَفَقَتِي وَإِيثَارِي إِيَّاهُ عَلَىٰ نَفْسِي وَعَلَىٰ جَمِيعِ النَّاسِ، حَتَّىٰ إِذَا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ اسْتَنْكَرْتُهُ اسْتِنْكَاراً شَدِيداً لَا أَظُنُّ لِي خَيْراً عِنْدَهُ بَعْدَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاتِقُ: هَلْ لِذَلِكَ سَبَبٌ أَوْ عِلَّةٌ؟ قَالَ الْوَزِيرُ: نَعَمْ، دَعَانِي أَمْسِ وقَالَ لِي كَذَا وَكَذَا، فَقُلْتُ لَهُ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: مِنْ هَاهُنَا جَاءَ الْفَتْقُ، وَأَنَا أَرْتِقُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ.

اعْلَمْ أَنَّ المَلِكَ قَدْ ظَنَّ أَنَّكَ تُحِبُّ أَنْ يَتَخَلَّىٰ هُوَ عَنْ مُلْكِهِ وَتَخْلُفَهُ أَنْتَ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ فَاطْرَحْ عَنْكَ ثِيَابَكَ وَحِلْيَتَكَ وَالْبَسْ أَوْضَعَ مَا تَجِدُهُ مِنْ ذِي

ص: 361


1- في بعض النُّسَخ: (ما دهاه).

النُّسَّاكِ وَأَشْهَرَهُ، ثُمَّ احْلِقْ رَأْسَكَ وَامْضِ عَلَىٰ وَجْهِكَ إِلَىٰ بَابِالمَلِكِ فَإِنَّ المَلِكَ سَيَدْعُو بِكَ وَيَسْأَلُكَ عَنِ الَّذِي صَنَعْتَ، فَقُلْ لَهُ: هَذَا الَّذِي دَعَوْتَنِي إِلَيْهِ وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُشِيرَ عَلَىٰ صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ إِلَّا وَاسَاهُ فِيهِ وَصَبَرَ عَلَيْهِ، وَمَا أَظُنُّ الَّذِي دَعَوْتَنِي إِلَيْهِ إِلَّا خَيْراً مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، فَقُمْ إِذَا بَدَا لَكَ، فَفَعَلَ الْوَزِيرُ ذَلِكَ فَتَخَلَّىٰ عَنْ نَفْسِ المَلِكِ مَا كَانَ فِيهَا عَلَيْهِ.

ثُمَّ أَمَرَ المَلِكُ بِنَفْيِ النُّسَّاكِ مِنْ جَمِيعِ بِلَادِهِ، وَتَوَعَّدَهُمْ بِالْقَتْلِ، فَجَدُّوا فِي الْهَرَبِ وَالْاِسْتِخْفَاءِ.

ثُمَّ إِنَّ المَلِكَ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ مُتَصَيِّداً، فَوَقَعَ بَصَرُهُ عَلَىٰ شَخْصَيْنِ مِنْ بَعِيدٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا، فَأُتِيَ بِهِمَا، فَإِذَا هُمَا نَاسِكَانِ، فَقَالَ لَهُمَا: مَا بَالُكُمَا لَنْ تَخْرُجَا مِنْ بِلَادِي؟ قَالَا: قَدْ أَتَتْنَا رُسُلُكَ وَنَحْنُ عَلَىٰ سَبِيلِ الْخُرُوجِ، قَالَ: وَلِمَ خَرَجْتُمَا رَاجِلَيْنِ؟ قَالَا: لِأَنَّا قَوْمٌ ضُعَفَاءُ لَيْسَ لَنَا دَوَابُّ وَلَا زَادٌ وَلَا نَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ إِلَّا التَّقْصِيرِ، قَالَ المَلِكُ: إِنَّ مَنْ خَافَ المَوْتَ أَسْرَعَ بِغَيْرِ دَابَّةٍ وَلَا زَادٍ، فَقَالَا لَهُ: إِنَّا لَا نَخَافُ المَوْتَ، بَلْ لَا نَنْظُرُ قُرَّةَ عَيْنٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا فِيهِ.

قَالَ المَلِكُ: وَكَيْفَ لَا تَخَافَانِ المَوْتَ وَقَدْ زَعَمْتُمَا أَنَّ رُسُلَنَا لَمَّا أَتَتْكُمُ وَأَنْتُمْ عَلَىٰ سَبِيلِ الْخُرُوجِ، أَفَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْهَرَبَ مِنَ المَوْتِ؟ قَالَا: إِنَّ الْهَرَبَ مِنَ المَوْتِ لَيْسَ مِنَ الْفَرَقِ(1)، فَلَا تَظُنَّ أَنَّا فَرَقْنَاكَ، وَلَكِنَّا هَرَبْنَا مِنْ أَنْ نُعِينَكَ عَلَىٰ أَنْفُسِنَا، فَأَسِفَ المَلِكُ وَأَمَرَ بِهِمَا أَنْ يُحْرَقَا بِالنَّارِ، وَأَذِنَ فِي أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ بِأَخْذِ النُّسَّاكِ وَتَحْرِيقِهِمْ بِالنَّارِ، فَتَجَرَّدَ رُؤَسَاءُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فِي طَلَبِهِمْ وَأَخَذُوا مِنْهُمْ بَشَراً كَثِيراً وَأَحْرَقُوهُمْ بِالنَّارِ، فَمِنْ ثَمَّ صَارَ التَّحْرِيقُ سُنَّةً بَاقِيَةً فِي أَرْضِ الْهِنْدِ، وَبَقِيَ فِي جَمِيعِ تِلْكَ الْأَرْضِ قَوْمٌ قَلِيلٌ مِنَ النُّسَّاكِ كَرِهُوا الْخُرُوجَ مِنَ الْبِلَادِ، وَاخْتَارُوا الْغَيْبَةَ وَالْاِسْتِخْفَاءَ، لِيَكُونُوا دُعَاةً وَهُدَاةً لِمَنْوَصَلُوا إِلَىٰ كَلَامِهِمْ.

ص: 362


1- الفرق - محرَّكة -: الخوف.

فَنَبَتَ ابْنُ المَلِكِ أَحْسَنَ نَبَاتٍ فِي جِسْمِهِ وَعَقْلِهِ وَعِلْمِهِ وَرَأْيِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ بِشَيْءٍ مِنَ الْآدَابِ إِلَّا بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ المُلُوكُ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ مَوْتٍ وَلَا زَوَالٍ وَلَا فَنَاءٍ، وَأُوتِيَ الْغُلَامُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِفْظِ شَيْئاً كَانَ عِنْدَ النَّاسِ مِنَ الْعَجَائِبِ، وَكَانَ أَبُوهُ لَا يَدْرِي أَيَفْرَحُ بِمَا أُوتِيَ ابْنُهُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ يَحْزَنُ لَهُ لِمَا يَتَخَوَّفُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْعُوَهُ ذَلِكَ إِلَىٰ مَا قِيلَ فِيهِ.

فَلَمَّا فَطَنَ الْغُلَامُ بِحَصْرِهِمْ إِيَّاهُ فِي المَدِينَةِ وَمَنْعِهِمْ إِيَّاهُ مِنَ الْخُرُوجِ وَالنَّظَرِ وَالْاِسْتِمَاعِ وَتَحَفُّظِهِمْ عَلَيْهِ ارْتَابَ لِذَلِكَ وَسَكَتَ عَنْهُ، وَقَالَ فِي نَفْسِهِ: هَؤُلَاءِ أَعْلَمُ بِمَا يُصْلِحُنِي مِنِّي حَتَّىٰ إِذَا ازْدَادَ بِالسِّنِّ وَالتَّجْرِبَةِ عِلْماً قَالَ: مَا أَرَىٰ لِهَؤُلَاءِ عَلَيَّ فَضْلاً، وَمَا أَنَا بِحَقِيقٍ أَنْ أُقَلِّدَهُمْ أَمْرِي، فَأَرَادَ أَنْ يُكَلِّمَ أَبَاهُ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ وَيَسْأَلَهُ عَنْ سَبَبِ حَصْرِهِ إِيَّاهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا هَذَا الْأَمْرُ إِلَّا مِنْ قِبَلِهِ، وَمَا كَانَ لِيُطْلِعَنِي عَلَيْهِ، وَلَكِنِّي حَقِيقٌ أَنْ أَلْتَمِسَ عِلْمَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ أَرْجُو إِدْرَاكَهُ، وَكَانَ فِي خَدَمِهِ رَجُلٌ كَانَ أَلْطَفَهُمْ بِهِ وَأَرْأَفَهُمْ بِهِ، وَكَانَ الْغُلَامُ إِلَيْهِ مُسْتَأْنِساً، فَطَمِعَ الْغُلَامُ فِي إِصَابَةِ الْخَبَرِ مِنْ قِبَلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَازْدَادَ لَهُ مُلَاطَفَةً وَبِهِ اسْتِينَاساً. ثُمَّ إِنَّ الْغُلَامَ وَاضَعَهُ الْكَلَامَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ بِاللِّينِ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ وَالِدِهِ وَأَوْلَىٰ النَّاسِ بِهِ، ثُمَّ أَخَذَهُ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَقَالَ لَهُ: إِنِّي لَأَظُنُّ هَذَا المُلْكَ صَائِراً لِي بَعْدَ وَالِدِي، وَأَنْتَ فِيهِ صَائِرٌ أَحَدَ رَجُلَيْنِ إِمَّا أَعْظَمَ النَّاسِ مِنْهُ مَنْزِلَةً، وَإِمَّا أَسْوَأَ النَّاسِ حَالاً، قَالَ لَهُ الْحَاضِنُ(1): وَبِأَيِّ شَيْءٍ أَتَخَوَّفُ فِي مُلْكِكَ سُوءَ الْحَالِ؟ قَالَ: بِأَنْ تَكْتُمَنِي الْيَوْمَ أَمْراً أَفْهَمُهُ غَداً مِنْ غَيْرِكَ، فَأَنْتَقِمَ مِنْكَ بِأَشَدِّ مَا أَقْدِرُ عَلَيْكَ، فَعَرَفَ الْحَاضِنُ مِنْهُ الصِّدْقَوَطَمَعَ مِنْهُ فِي الْوَفَاءِ، فَأَفْشَىٰ إِلَيْهِ خَبَرَهُ، وَالَّذِي قَالَ المُنَجِّمُونَ لِأَبِيهِ، وَالَّذِي حَذَّرَ أَبُوهُ مِنْ ذَلِكَ، فَشَكَرَ لَهُ الْغُلَامُ ذَلِكَ، وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ حَتَّىٰ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ

ص: 363


1- الحاضن فاعل من حضنه أي جعله في حضنه، والحضن ما دون الإبط إلىٰ الكشح أو الصدر والعضدان وما بينهما: أي الحافظ والمؤدِّب.

أَبُوهُ قَالَ: يَا أَبَةِ، إِنِّي وَإِنْ كُنْتُ صَبِيًّا فَقَدْ رَأَيْتُ فِي نَفْسِي وَاخْتِلَافِ حَالِي أَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَذْكُرُ وَأَعْرِفُ بِمَا لَا أَذْكُرُ مِنْهُ مَا أَعْرِفُ، وَأَنَا أَعْرِفُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ عَلَىٰ هَذَا الْمِثَالِ، وَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ عَلَىٰ هَذِهِ الْحَالِ، وَلَا أَنْتَ كَائِنٌ عَلَيْهَا إِلَىٰ الْأَبَدِ، وَسَيُغَيِّرُكَ الدَّهْرُ عَنْ حَالِكَ هَذِهِ، فَلَئِنْ كُنْتَ أَرَدْتَ أَنْ تُخْفِيَ عَنِّي أَمْرَ الزَّوَالِ فَمَا خَفِيَ عَلَيَّ ذَلِكَ، وَلَئِنْ كُنْتَ حَبَسْتَنِي عَنِ الْخُرُوجِ وَحُلْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ لِكَيْ لَا تَتُوقَ نَفْسِي إِلَىٰ غَيْرِ مَا أَنَا فِيهِ لَقَدْ تَرَكْتَنِي بِحَصْرِكَ إِيَّايَ، وَإِنَّ نَفْسِي لَقَلِقَةٌ مِمَّا تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ حَتَّىٰ مَا لِي هَمٌ غَيْرُهُ، وَلَا أَرَدْتُ سِوَاهُ، حَتَّىٰ لَا يَطْمَئِنُّ قَلْبِي إِلَىٰ شَيْءٍ مِمَّا أَنَا فِيهِ، وَلَا أَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا آلَفُهُ، فَخَلِّ عَنِّي وَأَعْلِمْنِي بِمَا تَكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ وَتَحْذَرُهُ حَتَّىٰ أَجْتَنِبَهُ وَأُوثِرَ مُوَافَقَتَكَ وَرِضَاكَ عَلَىٰ مَا سِوَاهُمَا.

فَلَمَّا سَمِعَ المَلِكُ ذَلِكَ مِنِ ابْنِهِ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مَا الَّذِي يَكْرَهُهُ، وَأَنَّهُ مِنْ حَبْسِهِ وَحَصْرِهِ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا إِغْرَاءً وَحِرْصاً عَلَىٰ مَا يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، مَا أَرَدْتُ بِحَصْرِي إِيَّاكَ إِلَّا أَنْ أُنَحِّيَ عَنْكَ الْأَذَىٰ، فَلَا تَرَىٰ إِلَّا مَا يُوَافِقُكَ وَلَا تَسْمَعُ إِلَّا مَا يَسُرُّكَ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ هَوَاكَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ آثَرَ الْأَشْيَاءِ عِنْدِي مَا رَضِيتَ وَهَوِيتَ.

ثُمَّ أَمَرَ المَلِكُ أَصْحَابَهُ أَنْ يُرْكِبُوهُ فِي أَحْسَنِ زِينَةٍ، وَأَنْ يُنَحُّوا عَنْ طَرِيقِهِ كُلَّ مَنْظَرٍ قَبِيحٍ، وَأَنْ يُعِدُّوا لَهُ المَعَازِفَ وَالمَلَاهِيَ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَجَعَلَ بَعْدَ رَكْبَتِهِ تِلْكَ يُكْثِرُ الرُّكُوبَ، فَمَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَىٰ طَرِيقٍ قَدْ غَفَلُوا عَنْهُ، فَأَتَىٰ عَلَىٰ رَجُلَيْنِ مِنَ السُّؤَّالِ(1) أَحَدُهُمَا قَدْ تَوَرَّمَ وَذَهَبَ لَحْمُهُ، وَاصْفَرَّ جِلْدُهُ،وَذَهَبَ مَاءُ وَجْهِهِ، وَسَمُجَ مَنْظَرُهُ، وَالْآخَرُ أَعْمَىٰ يَقُودُهُ قَائِدٌ، فَلَمَّا رَأَىٰ ذَلِكَ اقْشَعَرَّ مِنْهُمَا، وَسَأَلَ عَنْهُمَا، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَذَا المُوَرَّمَ مِنْ سُقْمٍ بَاطِنٍ، وَهَذَا الْأَعْمَىٰ مِنْ زَمَانَةٍ، فَقَالَ ابْنُ المَلِكِ: وَإِنَّ هَذَا الْبَلَاءَ لَيُصِيبُ غَيْرَ وَاحِدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: هَلْ يَأْمَنُ أَحَدٌ مِنْ

ص: 364


1- في بعض النُّسَخ: (فأتىٰ عليه رجلان من السُّؤَّال).

نَفْسِهِ أَنْ يُصِيبَهُ مِثْلُ هَذَا؟ قَالُوا: لَا، وَانْصَرَفَ يَوْمَئِذٍ مَهْمُوماً ثَقِيلاً مَحْزُوناً بَاكِياً مُسْتَخِفًّا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ مُلْكِهِ وَمُلْكِ أَبِيهِ، فَلَبِثَ بِذَلِكَ أَيَّاماً.

ثُمَّ رَكِبَ رَكْبَةً فَأَتَىٰ فِي مَسِيرِهِ عَلَىٰ شَيْخٍ كَبِيرٍ قَدِ انْحَنَىٰ مِنَ الْكِبَرِ، وَتَبَدَّلَ خَلْقُهُ، وَابْيَضَّ شَعْرُهُ، وَاسْوَدَّ لَوْنُهُ، وَتَقَلَّصَ جِلْدُهُ(1)، وَقَصُرَ خَطْوُهُ، فَعَجِبَ مِنْهُ، وَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: هَذَا الْهَرَمُ، فَقَالَ: وَفِي كَمْ تَبْلُغُ الرَّجُلُ مَا أَرَىٰ؟ قَالُوا: فِي مِائَةِ سَنَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَقَالَ: فَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: المَوْتُ، قَالَ: فَمَا يُخَلَّىٰ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا يُرِيدُ مِنَ المُدَّةِ؟ قَالُوا: لَا، وَلَيَصِيرَنَّ إِلَىٰ هَذَا فِي قَلِيلٍ مِنَ الْأَيَّامِ، فَقَالَ: الشَّهْرُ ثَلَاثُونَ يَوْماً، وَالسَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً، وَانْقِضَاءُ الْعُمُرِ مِائَةُ سَنَةٍ، فَمَا أَسْرَعَ الْيَوْمَ فِي الشَّهْرِ، وَمَا أَسْرَعَ الشَّهْرَ فِي السَّنَةِ، وَمَا أَسْرَعَ السَّنَةَ فِي الْعُمُرِ، فَانْصَرَفَ الْغُلَامُ وَهَذَا كَلَامُهُ يَبْدَؤُهُ وَيُعِيدُهُ مُكَرِّراً لَهُ.

ثُمَّ سَهَرَ لَيْلَتَهُ كُلَّهَا، وَكَانَ لَهُ قَلْبٌ حَيٌّ ذَكِيٌّ، وَعَقْلٌ لَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ نِسْيَاناً وَلَا غَفْلَةً، فَعَلَاهُ الْحُزْنُ وَالْاِهْتِمَامُ، فَانْصَرَفَ نَفْسُهُ عَنِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا، وَكَانَ فِي ذَلِكَ يُدَارِي أَبَاهُ وَيَتَلَطَّفُ عِنْدَهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ أَصْغَىٰ بِسَمْعِهِ إِلَىٰ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ بِكَلِمَةٍ طَمَعَ أَنْ يَسْمَعَ شَيْئاً يَدُلُّهُ عَلَىٰ غَيْرِ مَا هُوَ فِيهِ، وَخَلَا بِحَاضِنِهِ الَّذِي كَانَ أَفْضَىٰ إِلَيْهِ بِسِرِّهِ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُ مِنَ النَّاسِ أَحَداً شَأْنُهُ غَيْرُ شَأْنِنَا هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَدْ كَانَ قَوْمٌ يُقَالُ لَهُمُ: النُّسَّاكُ، رَفَضُواالدُّنْيَا وَطَلَبُوا الْآخِرَةَ، وَلَهُمْ كَلَامٌ وَعِلْمٌ لَا يُدْرَىٰ مَا هُوَ، غَيْرَ أَنَّ النَّاسَ عَادُوهُمْ وَأَبْغَضُوهُمْ وَحَرَّقُوهُمْ وَنَفَاهُمُ المَلِكُ عَنْ هَذِهِ الْأَرْضِ، فَلَا يُعْلَمُ الْيَوْمَ بِبِلَادِنَا مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَإِنَّهُمْ قَدْ غَيَّبُوا أَشْخَاصَهُمْ يَنْتَظِرُونَ الْفَرَجَ، وَهَذِهِ سُنَّةٌ فِي أَوْلِيَاءِ اللهِ قَدِيمَةٌ يَتَعَاطُونَهَا فِي دُوَلِ الْبَاطِلِ، فَاغْتَصَّ لِذَلِكَ الْخَبَرِ فُؤَادُهُ، وَطَالَ بِهِ اهْتِمَامُهُ، وَصَارَ كَالرَّجُلِ المُلْتَمِسِ ضَالَّتَهُ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا، وَذَاعَ خَبَرُهُ فِي آفَاقِ الْأَرْضِ، وَشُهِرَ بِتَفَكُّرِهِ وَجَمَالِهِ وَكَمَالِهِ

ص: 365


1- تقلَّص: أي انضمَّ وانزوىٰ.

وَفَهْمِهِ وَعَقْلِهِ وَزَهَادَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَهَوَانِهَا عَلَيْهِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَجُلاً مِنَ النُّسَّاكِ يُقَالُ لَهُ: بِلَوْهَرُ، بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا: سَرَنْدِيبُ، كَانَ رَجُلاً نَاسِكاً حَكِيماً، فَرَكِبَ الْبَحْرَ حَتَّىٰ أَتَىٰ أَرْضَ سُولَابِطَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَىٰ بَابِ ابْنِ المَلِكِ فَلَزِمَهُ وَطَرَحَ عَنْهُ زِيَّ النُّسَّاكِ وَلَبِسَ زِيَّ التُّجَّارِ، وَتَرَدَّدَ إِلَىٰ بَابِ ابْنِ المَلِكِ حَتَّىٰ عَرَفَ الْأَهْلَ وَالْأَحِبَّاءَ وَالدَّاخِلِينَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَبَانَ لَهُ لُطْفُ الْحَاضِنِ بِابْنِ المَلِكِ وَحُسْنُ مَنْزِلَتِهِ مِنْهُ أَطَافَ بِهِ بِلَوْهَرُ حَتَّىٰ أَصَابَ مِنْهُ خَلْوَةً، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي رَجُلٌ مِنْ تُجَّارِ سَرَنْدِيبَ، قَدِمْتُ مُنْذُ أَيَّامٍ، وَمَعِي سِلْعَةٌ عَظِيمَةٌ نَفِيسَةُ الثَّمَنِ، عَظِيمَةُ الْقَدْرِ، فَأَرَدْتُ الثِّقَةَ لِنَفْسِي فَعَلَيْكَ وَقَعَ اخْتِيَارِي، وَسِلْعَتِي خَيْرٌ مِنَ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ، وَهِيَ تُبْصِرُ الْعُمْيَانَ، وَتُسْمِعُ الصُّمَّ، وَتُدَاوِي الْأَسْقَامَ، وَتُقَوِّي مِنَ الضَّعْفِ، وَتَعْصِمُ مِنَ الْجُنُونِ، وَتَنْصُرُ عَلَىٰ الْعَدُوِّ، وَلَمْ أَرَ بِهَذَا أَحَداً هُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْ هَذَا الْفَتَىٰ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَذْكُرَ لَهُ ذَلِكَ ذَكَرْتَهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهَا حَاجَةٌ أَدْخَلْتَنِي عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَنْهُ فَضْلُ سِلْعَتِي لَوْ قَدْ نَظَر إِلَيْهَا، قَالَ الْحَاضِنُ لِلْحَكِيمِ: إِنَّكَ لَتَقُولُ شَيْئاً مَا سَمِعْنَا بِهِ مِنْ أَحَدٍ قَبْلَكَ، وَلَا أَرَىٰ بِكَ بَأْساً، وَمَا مِثْلِي يَذْكُرُ مَا لَا يَدْرِي مَا هُوَ، فَاعْرِضْ عَلَيَّ سِلْعَتَكَ أَنْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنْ رَأَيْتَ شَيْئاً يَنْبَغِي لِي أَنْ أَذْكُرَهُ ذَكَرْتُهُ، قَالَ لَهُ بِلَوْهَرُ: إِنِّي رَجُلٌ طَبِيبٌ، وَإِنِّي لَأَرَىٰ فِي بَصَرِكَ ضَعْفاً، فَأَخَافُ إِنْ نَظَرْتَ إِلَىٰ سِلْعَتِي أَنْ يَلْتَمِعَ بَصَرُكَ، وَلَكِنِ ابْنُ المَلِكِصَحِيحُ الْبَصَرِ حَدَثُ السِّنِّ وَلَسْتُ أَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَىٰ سِلْعَتِي، فَإِنْ رَأَىٰ مَا يُعْجِبُهُ كَانَتْ لَهُ مَبْذُولَةً عَلَىٰ مَا يُحِبُّ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ تَدْخُلْ عَلَيْهِ مَؤُونَةٌ وَلَا مَنْقَصَةٌ، وَهَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا يَسَعُكَ أَنْ تُحْرِمَهُ إِيَّاهُ أَوْ تَطْوِيَهُ دُونَهُ، فَانْطَلَقَ الْحَاضِنُ إِلَىٰ ابْنِ المَلِكِ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ الرَّجُلِ، فَحَسَّ قَلْبُ ابْنِ المَلِكِ بِأَنَّهُ قَدْ وَجَدَ حَاجَتَهُ، فَقَالَ: عَجِّلْ إِدْخَالَ الرَّجُلِ عَلَيَّ لَيْلاً، وَلْيَكُنْ ذَلِكَ فِي سِرٍّ وَكِتْمَانٍ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَتَهَاوَنُ بِهِ.

فَأَمَرَ الْحَاضِنُ بِلَوْهَرَ بِالتَّهَيُّؤِ لِلدُّخُولِ عَلَيْهِ، فَحَمَلَ مَعَهُ سَفَطاً فِيهِ كُتُبٌ لَهُ،

ص: 366

فَقَالَ الْحَاضِنُ: مَا هَذَا السَّفَطُ؟ قَالَ بِلَوْهَرُ: فِي هَذَا السَّفَطِ سِلْعَتِي، فَإِذَا شِئْتَ فَأَدْخِلْنِي عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ بِهِ حَتَّىٰ أَدْخَلَهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ بِلَوْهَرُ سَلَّمَ عَلَيْهِ وَحَيَّاهُ، وَأَحْسَنَ ابْنُ المَلِكِ إِجَابَتَهُ، وَانْصَرَفَ الْحَاضِنُ، وَقَعَدَ الْحَكِيمُ عِنْدَ [اِبْنِ] المَلِكِ، فَأَوَّلُ مَا قَالَ لَهُ بِلَوْهَرُ: رَأَيْتُكَ يَا ابْنَ المَلِكِ زِدْتَنِي فِي التَّحِيَّةِ عَلَىٰ مَا تَصْنَعُ بِغِلْمَانِكَ وَأَشْرَافِ أَهْلِ بِلَادِكَ، قَالَ ابْنُ المَلِكِ: ذَلِكَ لِعَظِيمِ مَا رَجَوْتُ عِنْدَكَ، قَالَ بِلَوْهَرُ: لَئِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِي فَقَدْ كَانَ رَجُلاً مِنَ المُلُوكِ فِي بَعْضِ الْآفَاقِ يُعْرَفُ بِالْخَيْرِ وَيُرْجَىٰ، فَبَيْنَا هُوَ يَسِيرُ يَوْماً فِي مَوْكِبِهِ إِذْ عَرَضَ لَهُ فِي مَسِيرِهِ رَجُلَانِ مَاشِيَانِ، لِبَاسُهُمَا الْخَلِقَانِ، وَعَلَيْهِمَا أَثَرُ الْبُؤْسِ وَالضُّرِّ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِمَا المَلِكُ لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ وَقَعَ عَلَىٰ الْأَرْضِ فَحَيَّاهُمَا وَصَافَحَهُمَا، فَلَمَّا رَأَىٰ ذَلِكَ وُزَرَاؤُهُ اشْتَدَّ جَزَعُهُمْ مِمَّا صَنَعَ المَلِكُ، فَأَتَوْا أَخاً لَهُ وَكَانَ جَرِيًّا عَلَيْهِ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ المَلِكَ أَزْرَىٰ بِنَفْسِهِ، وَفَضَحَ أَهْلَ مَمْلَكَتِهِ، وَخَرَّ عَنْ دَابَّتِهِ لِإِنْسَانَيْنِ دَنِيَّيْنِ، فَعَاتِبْهُ عَلَىٰ ذَلِكَ كَيْ لَا يَعُودَ، وَلُمهُ عَلَىٰ مَا صَنَعَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَخُ المَلِكِ، فَأَجَابَهُ المَلِكُ بِجَوَابٍ لَا يَدْرِي مَا حَالُهُ فِيهِ، أَسَاخِطٌ عَلَيْهِ المَلِكُ أَمْ رَاضٍ عَنْهُ، فَانْصَرَفَ إِلَىٰ مَنْزِلِهِ حَتَّىٰ إِذَا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ أَمَرَ المَلِكُ مُنَادِياً، وَكَانَ يُسَمَّىٰ: مُنَادِيَ المَوْتِ، فَنَادَىٰ فِي فِنَاءِ دَارِهِ، وَكَانَتْ تِلْكَ سُنَّتَهُمْ فِيمَنْأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَقَامَتِ النَّوَائِحُ وَالنَّوَادِبُ فِي دَارِ أَخِ المَلِكِ، وَلَبِسَ ثِيَابَ المَوْتَىٰ وَانْتَهَىٰ إِلَىٰ بَابِ المَلِكِ وَهُوَ يَبْكِي بُكَاءً شَدِيداً وَنَتَفَ شَعْرَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ المَلِكَ دَعَا بِهِ، فَلَمَّا أَذِنَ لَهُ المَلِكُ دَخَلَ عَلَيْهِ وَوَقَعَ عَلَىٰ الْأَرْضِ وَنَادَىٰ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ وَرَفَعَ يَدَهُ بِالتَّضَرُّعِ، فَقَالَ لَهُ المَلِكُ: اقْتَرِبْ أَيُّهَا السَّفِيهُ أَنْتَ تَجْزَعُ مِنْ مُنَادٍ نَادَىٰ عَلَىٰ بَابِكَ بِأَمْرِ مَخْلُوقٍ وَلَيْسَ بِأَمْرِ خَالِقٍ، وَأَنَا أَخُوكَ وَقَدْ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَكَ إِلَيَّ ذَنْبٌ أَقْتُلُكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَلُومُونَنِي عَلَىٰ وُقُوعِي إِلَىٰ الْأَرْضِ حِينَ نَظَرْتُ إِلَىٰ مُنَادِي رَبِّي إِلَيَّ وَأَنَا أَعْرَفُ مِنْكُمْ بِذُنُوبِي، فَاذْهَبْ فَإِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ إِنَّمَا اسْتَفَزَّكَ وُزَرَائِي وَسَيَعْلَمُونَ خَطَأَهُمْ .

ص: 367

ثُمَّ أَمَرَ المَلِكُ بِأَرْبَعَةِ تَوَابِيتَ فَصُنِعَتْ لَهُ مِنْ خَشَبٍ فَطَلَىٰ تَابُوتَيْنِ مِنْهَا بِالذَّهَبِ وَتَابُوتَيْنِ بِالْقَارِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا مَلَأَ تَابُوتَيِ الْقَارِ ذَهَباً وَيَاقُوتاً وَزَبَرْجَداً، وَمَلَأَ تَابُوتَيِ الذَّهَبِ جِيَفاً وَدَماً وَعَذِرَةً وَشَعْراً، ثُمَّ جَمَعَ الْوُزَرَاءَ وَالْأَشْرَافَ الَّذِينَ ظَنَّ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا صَنِيعَهُ بِالرَّجُلَيْنِ الضَّعِيفَيْنِ النَّاسِكَيْنِ، فَعَرَضَ عَلَيْهِمُ التَّوَابِيتَ الْأَرْبَعَةَ وَأَمَرَهُمْ بِتَقْوِيمِهَا، فَقَالُوا: أَمَّا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ وَمَا رَأَيْنَا وَمَبْلَغِ عَلِمْنَا فَإِنَّ تَابُوتَيِ الذَّهَبِ لَا ثَمَنَ لَهُمَا لِفَضْلِهِمَا، وَتَابُوتَيِ الْقَارِ لَا ثَمَنَ لَهُمَا لِرَذَالَتِهِمَا، فَقَالَ المَلِكُ: أَجَلْ هَذَا لِعِلْمِكُمْ بِالْأَشْيَاءِ وَمَبْلَغِ رَأْيِكُمْ فِيهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِتَابُوتَيِ الْقَارِ فَنُزِعَتْ عَنْهُمَا صَفَائِحُهُمَا، فَأَضَاءَ الْبَيْتُ بِمَا فِيهِمَا مِنَ الْجَوَاهِرِ، فَقَالَ: هَذَانِ مَثَلُ الرَّجُلَيْنِ الَّذَيْنِ ازْدَرَيْتُمْ لِبَاسَهُمَا وَظَاهِرَهُمَا، وَهُمَا مَمْلُوءَانِ عِلْماً وَحِكْمَةً وَصِدْقاً وَبِرًّا وَسَائِرَ مَنَاقِبِ الْخَيْرِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْيَاقُوتِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْجَوْهَرِ وَالذَّهَبِ.

ثُمَّ أَمَرَ بِتَابُوتَيِ الذَّهَبِ فَنُزِعَ عَنْهُمَا أَثْوَابُهُمَا، فَاقْشَعَرَّ الْقَوْمُ مِنْ سُوءِ مَنْظَرِهِمَا وَتَأَذَّوْا بِرِيحِهِمَا وَنَتْنِهِمَا، فَقَالَ المَلِكُ: وَهَذَانِ مَثَلُ الْقَوْمِ المُتَزَيِّنِينَ بِظَاهِرِ الْكِسْوَةِ وَاللِّبَاسِ وَأَجْوَافُهُمَا مَمْلُوءَةٌ جَهَالَةً وَعَمًى وَكَذِباً وَجَوْراً وَسَائِرَأَنْوَاعِ الشَّرِّ الَّتِي هِيَ أَفْظَعُ وَأَشْنَعُ وَأَقْذَرُ مِنَ الْجِيَفِ.

قَالَ الْقَوْمُ لِلْمَلِكِ: قَدْ فُقِّهْنَا وَاتَّعَظْنَا أَيُّهَا المَلِكُ.

ثُمَّ قَالَ بِلَوْهَرُ: هَذَا مَثَلُكَ يَا ابْنَ المَلِكِ فِيمَا تَلَقَّيْتَنِي بِهِ مِنَ التَّحِيَّةِ وَالْبِشْرِ، فَانْتَصَبَ يُوذَاسُفُ - ابْنُ المَلِكِ - وَكَانَ مُتَّكِئاً، ثُمَّ قَالَ: زِدْنِي مَثَلاً، قَالَ الْحَكِيمُ: إِنَّ الزَّارِعَ خَرَجَ بِبَذْرِهِ الطَّيِّبِ لِيَبْذُرَهُ، فَلَمَّا مَلَأَ كَفَّيْهِ وَنَثَرَهُ وَقَعَ بَعْضُهُ عَلَىٰ حَافَّةِ الطَّرِيقِ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنِ الْتَقَطَهُ الطَّيْرُ، وَوَقَعَ بَعْضُهُ عَلَىٰ صَفَاةٍ قَدْ أَصَابَهَا نَدًى وَطِينٌ، فَمَكَثَ حَتَّىٰ اهْتَزَّ، فَلَمَّا صَارَتْ عُرُوقُهُ إِلَىٰ يُبْسِ الصَّفَاةِ مَاتَ وَيَبِسَ، وَوَقَعَ بَعْضُهُ بِأَرْضٍ ذَاتِ شَوْكٍ فَنَبَتَ حَتَّىٰ سَنْبَلَ، وَكَادَ أَنْ يُثْمِرَ فَغَمَّهُ الشَّوْكُ فَأَبْطَلَهُ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهُ وَقَعَ فِي الْأَرْضِ الطَّيِّبَةِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلاً فَإِنَّهُ سَلِمَ وَطَابَ وَزَكَىٰ، فَالزَّارِعُ

ص: 368

حَامِلُ الْحِكْمَةِ، وَأَمَّا الْبَذْرُ فَفُنُونُ الْكَلَامِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ مِنْهُ عَلَىٰ حَافَّةِ الطَّرِيقِ فَالْتَقَطَهُ الطَّيْرُ فَمَا لَا يُجَاوِزُ السَّمْعَ مِنْهُ حَتَّىٰ يَمُرَّ صَفْحاً، وَأَمَّا مَا وَقَعَ عَلَىٰ الصَّخْرَةِ فِي النَّدَىٰ فَيَبِسَ حِينَ بَلَغَتْ عُرُوقُهُ الصَّفَاةَ فَمَا اسْتَحْلَاهُ صَاحِبُهُ حَتَّىٰ سَمِعَهُ بِفَرَاغِ قَلْبِهِ وَعَرَفَهُ بِفَهْمِهِ وَلَمْ يَفْقَهْ بِحَصَافَةٍ وَلَا نِيَّةٍ، وَأَمَّا مَا نَبَتَ مِنْهُ وَكَادَ أَنْ يُثْمِرُ فَغَمَّهُ الشَّوْكُ فَأَهْلَكَهُ فَمَا وَعَاهُ صَاحِبُهُ حَتَّىٰ إِذَا كَانَ عِنْدَ الْعَمَلِ بِهِ حَفَّتْهُ الشَّهَوَاتُ فَأَهْلَكَتْهُ، وَأَمَّا مَا زَكَىٰ وَطَابَ وَسَلِمَ مِنْهُ وَانْتُفِعَ بِهِ فَمَا رَآهُ الْبَصَرُ وَوَعَاهُ الْحِفْظُ وَأَنْفَذَهُ الْعَزْمُ بِقَمْعِ الشَّهَوَاتِ وَتَطْهِيرِ الْقُلُوبِ مِنْ دَنَسِهَا.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: إِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ مَا تَبْذُرُهُ أَيُّهَا الْحَكِيمُ مَا يَزْكُو وَيَسْلَمُ وَيَطِيبُ، فَاضْرِبْ لِي مَثَلَ الدُّنْيَا وغُرُورِ أَهْلِهَا بِهَا.

قَالَ بِلَوْهَرُ: بَلَغَنَا أَنَّ رَجُلاً حَمَلَ عَلَيْهِ فِيلٌ مُغْتَلِمٌ(1)، فَانْطَلَقَ مُوَلِّياً هَارِباً، وَاتَّبَعَهُ الْفِيلُ حَتَّىٰ غَشِيَهُ فَاضْطَرَّهُ إِلَىٰ بِئْرٍ فَتَدَلَّىٰ فِيهَا وَتَعَلَّقَ بِغُصْنَيْنِنَابِتَيْنِ عَلَىٰ شَفِيرِ الْبِئْرِ، وَوَقَعَتْ قَدَمَاهُ عَلَىٰ رُؤُوسِ حَيَّاتٍ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْغُصْنَيْنِ فَإِذَا فِي أَصْلِهِمَا جُرَذَانِ يَقْرِضَانِ الْغُصْنَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَبْيَضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَىٰ تَحْتِ قَدَمَيْهِ فَإِذَا رُؤُوسُ أَرْبَعِ أَفَاعٍ قَدْ طَلَعْنَ مِنْ جُحْرِهِنَّ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَىٰ قَعْرِ الْبِئْرِ إِذَا بِتِنِّينٍ فَاغِرٍ فَاهُ(2) نَحْوَهُ يُرِيدُ الْتِقَامَهُ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَىٰ أَعْلَىٰ الْغُصْنَيْنِ إِذَا عَلَيْهِمَا شَيْءٌ مِنْ عَسَلِ النَّحْلِ فَيَطْعَمُ مِنْ ذَلِكَ الْعَسَلِ، فَأَلْهَاهُ مَا طَعِمَ مِنْهُ، وَمَا نَالَ مِنْ لَذَّةِ الْعَسَلِ وَحَلَاوَتِهِ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي أَمْرِ الْأَفَاعِي اللَّوَاتِي لَا يَدْرِي مَتَىٰ يُبَادِرْنَهَ، وَأَلْهَاهُ عَنِ التِّنِّينِ الَّذِي لَا يَدْرِي كَيْفَ مَصِيرُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ فِي لَهَوَاتِهِ.

أَمَّا الْبِئْرُ فَالدُّنْيَا مَمْلُوءَةً آفَاتٍ وَبَلَايَا وَشُرُوراً، وَأَمَّا الْغُصْنَانِ فَالْعُمُرُ، وَأَمَّا الْجُرَذَانِ فَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ يُسْرِعَانِ فِي الْأَجَلِ، وَأَمَّا الْأَفَاعِي الْأَرْبَعَةُ فَالْأَخْلَاطُ

ص: 369


1- أي شديد الشهوة، يعني فيل مست. اغتلم الشراب: اشتدَّت سورته.
2- الفاغر: الفاتح فاه.

الْأَرْبَعَةُ الَّتِي هِيَ السُّمُومُ الْقَاتِلَةُ مِنَ الْمِرَّةِ وَالْبَلْغَمِ وَالرِّيحِ وَالدَّمِ الَّتِي لَا يَدْرِي صَاحِبُهَا مَتَىٰ تُهَيِّجَ بِهِ، وَأَمَّا التِّنِّينُ الْفَاغِرُ فَاهُ لِيَلْتَقِمَهُ فَالمَوْتُ الرَّاصِدُ الطَّالِبُ، وَأَمَّا الْعَسَلُ الَّذِي اغْتَرَّ بِهِ المَغْرُورُ فَمَا يَنَالُ النَّاسُ مِنْ لَذَّةِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا وَنَعِيمِهَا وَدَعَتِهَا مِنْ لَذَّةِ المَطْعَمِ وَالمَشْرَبِ وَالشَّمِّ وَاللَّمْسِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: إِنَّ هَذَا المَثَلَ عَجِيبٌ، وَإِنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ حَقٌّ، فَزِدْنِي مَثَلاً لِلدُّنْيَا وَصَاحِبِهَا المَغْرُورِ بِهَا المُتَهَاوِنِ بِمَا يَنْفَعُهُ فِيهَا.

قَالَ بِلَوْهَرُ: زَعَمُوا أَنَّ رَجُلاً كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ قُرَنَاءَ، وَكَانَ قَدْ آثَرَ أَحَدَهُمْ عَلَىٰ النَّاسِ جَمِيعاً، وَيَرْكَبُ الْأَهْوَالَ وَالْأَخْطَارَ بِسَبَبِهِ، وَيُغَرِّرُ بِنَفْسِهِ لَهُ، وَيُشْغَلُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ فِي حَاجَتِهِ، وَكَانَ الْقَرِينُ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ مَنْزِلَةً، وَهُوَ عَلَىٰ ذَلِكَ حَبِيبٌ إِلَيْهِ أَمِيرٌ عِنْدَهُ، يُكْرِمُهُ وَيُلَاطِفُهُ وَيَخْدُمُهُ وَيُطِيعُهُ وَيَبْذُلُ لَهُوَلَا يَغْفُلُ عَنْهُ، وَكَانَ الْقَرِينُ الثَّالِثُ مَجْفُوًّا مَحْقُوراً مُسْتَثْقِلاً، لَيْسَ لَهُ مِنْ وُدِّهِ وَمَالِهِ إِلَّا أَقَلُّهُ، حَتَّىٰ إِذَا نَزَلَ بِالرَّجُلِ الْأَمْرُ الَّذِي يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَىٰ قُرَنَائِهِ الثَّلَاثَةِ، فَأَتَاهُ زَبَانِيَةُ المَلِكِ لِيَذْهَبُوا بِهِ، فَفَزِعَ إِلَىٰ قَرِينِهِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ عَرَفْتَ إِيثَارِي إِيَّاكَ وَبَذْلَ نَفْسِي لَكَ، وَهَذَا الْيَوْمُ يَوْمُ حَاجَتِي إِلَيْكَ، فَمَا ذَا عِنْدَكَ؟ قَالَ: مَا أَنَا لَكَ بِصَاحِبٍ، وَإِنَّ لِي أَصْحَاباً يَشْغَلُونِّي عَنْكَ، هُمُ الْيَوْمَ أَوْلَىٰ بِي مِنْكَ، وَلَكِنْ لَعَلِّي أُزَوِّدُكَ ثَوْبَيْنِ لِتَنْتَفِعَ بِهِمَا.

ثُمَّ فَزِعَ إِلَىٰ قَرِينِهِ الثَّانِي ذِي المَحَبَّةِ وَاللُّطْفِ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ عَرَفْتَ كَرَامَتِي إِيَّاكَ وَلُطْفِي بِكَ وَحِرْصِي عَلَىٰ مَسَرَّتِكَ، وَهَذَا يَوْمُ حَاجَتِي إِلَيْكَ، فَمَا ذَا عِنْدَكَ؟

فَقَالَ: إِنَّ أَمْرَ نَفْسِي يَشْغَلُنِي عَنْكَ وَعَنْ أَمْرِكَ، فَاعْمِدْ لِشَأْنِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَأَنَّ طَرِيقِي غَيْرُ طَرِيقِكَ إِلَّا أَنِّي لَعَلِّي أَخْطُو مَعَكَ خُطُوَاتٍ يَسِيرَةً لَا تَنْتَفِعُ بِهَا، ثُمَّ أَنْصَرِفُ إِلَىٰ مَا هُوَ أَهُمُّ إِلَيَّ مِنْكَ.

ثُمَّ فَزِعَ إِلَىٰ قَرِينِهِ الثَّالِثِ الَّذِي كَانَ يُحَقِّرُهُ وَيَعْصِيهِ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ أَيَّامَ رَخَائِهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي مِنْكَ لمُسْتَحٍ، وَلَكِنَّ الْحَاجَةَ اضْطَرَّتْنِي إِلَيْكَ، فَمَا ذَا لِي عِنْدَكَ؟

ص: 370

قَالَ: لَكَ عِنْدِي المُوَاسَاةُ، وَالمُحَافَظَةُ عَلَيْكَ، وَقِلَّةُ الْغَفْلَةِ عَنْكَ، فَأَبْشِرْ وَقَرَّ عَيْناً فَإِنِّي صَاحِبُكَ الَّذِي لَا يَخْذُلُكَ وَلَا يُسْلِمُكَ، فَلَا يُهِمَّنَّكَ قِلَّةُ مَا أَسْلَفْتَنِي وَاصْطَنَعْتَ إِلَيَّ، فَإِنِّي قَدْ كُنْتُ أَحْفَظُ لَكَ ذَلِكَ وَأُوَفِّرُهُ عَلَيْكَ كُلَّهُ، ثُمَّ لَمْ أَرْضَ لَكَ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّىٰ اتَّجَرْتُ لَكَ بِهِ فَرَبِحْتُ أَرْبَاحاً كَثِيرَةً، فَلَكَ الْيَوْمَ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ أَضْعَافُ مَا وَضَعْتَ عِنْدِي مِنْهُ فَأَبْشِرْ، وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ رِضَا المَلِكِ عَنْكَ الْيَوْمَ وَفَرَجاً مِمَّا أَنْتَ فِيهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ عِنْدَ ذَلِكَ: مَا أَدْرِي عَلَىٰ أَيِّ الْأَمْرَيْنِ أَنَا أَشَدُّ حَسْرَةً عَلَيْهِ، عَلَىٰ مَا فَرَّطْتُ فِي الْقَرِينِ الصَّالِحِ أَمْ عَلَىٰ مَا اجْتَهَدْتُ فِيهِ مِنَ المَحَبَّةِ لِقَرِينِ السَّوْءِ؟

قَالَ بِلَوْهَرُ: فَالْقَرِينُ الْأَوَّلِ هُوَ المَالُ، وَالْقَرِينُ الثَّانِي هُوَ الْأَهْلُ وَالْوَلَدُ،وَالْقَرِينُ الثَّالِثُ هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: إِنَّ هَذَا هُوَ الْحَقُّ المُبِينُ، فَزِدْنِي مَثَلاً لِلدُّنْيَا وَغُرُورِهَا وَصَاحِبِهَا المَغْرُورِ بِهَا، المُطْمَئِنِّ إِلَيْهَا.

قَالَ بِلَوْهَرُ: كَانَ أَهْلُ مَدِينَةٍ يَأْتُونَ الرَّجُلَ الْغَرِيبَ الْجَاهِلَ بِأَمْرِهِمْ فَيُمَلِّكُونَهُ عَلَيْهِمْ سَنَةً، فَلَا يَشُكُّ أَنَّ مِلْكَهُ دَائِمٌ عَلَيْهِمْ لِجَهَالَتِهِ بِهِمْ، فَإِذَا انْقَضَتِ السَّنَةُ أَخْرَجُوهُ مِنْ مَدِينَتِهِمْ عُرْيَاناً مُجَرَّداً سَلِيباً، فَيَقَعُ فِي بَلَاءٍ وَشَقَاءٍ لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، فَصَارَ مَا مَضَىٰ عَلَيْهِ مِنْ مُلْكِهِ وَبَالاً وَخِزْياً وَمُصِيبَةً وَأَذًى، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ تِلْكَ المَدِينَةِ أَخَذُوا رَجُلاً آخَرَ فَمَلَّكُوهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَأَىٰ الرَّجُلُ غُرْبَتَهُ فِيهِمْ لَمْ يَسْتَأْنِسْ بِهِمْ وَطَلَبَ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ أَرْضِهِ خَبِيراً بِأَمْرِهِمْ حَتَّىٰ وَجَدَهُ فَأَفْضَىٰ إِلَيْهِ بِسِرِّ الْقَوْمِ وَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَىٰ الْأَمْوَالِ الَّتِي فِي يَدَيْهِ فَيُخْرِجَ مِنْهَا مَا اسْتَطَاعَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ حَتَّىٰ يُحْرِزَهُ فِي المَكَانِ الَّذِي يُخْرِجُونَهُ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَخْرَجَهُ الْقَوْمُ صَارَ إِلَىٰ الْكِفَايَةِ وَالسَّعَةِ بِمَا قَدَّمَ وَأَحْرَزَ، فَفَعَلَ مَا قَالَ لَهُ الرَّجُلُ وَلَمْ يُضَيِّعْ وَصِيَّتَهُ.

قَالَ بِلَوْهَرُ: وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ أَنْتَ ذَلِكَ الرَّجُلَ يَا ابْنَ المَلِكِ الَّذِي لَمْ

ص: 371

يَسْتَأْنِسْ بِالْغُرَبَاءِ وَلَمْ يَغْتَرَّ بِالسُّلْطَانِ، وَأَنَا الرَّجُلُ الَّذِي طَلَبْتَ، وَلَكَ عِنْدِي الدَّلَالَةُ وَالمَعْرِفَةُ وَالمَعُونَةُ.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: صَدَقْتَ أَيُّهَا الْحَكِيمُ، أَنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ وَأَنْتَ طَلِبَتِيَ الَّتِي كُنْتُ طَلَبْتُهَا، فَصِفْ لِي أَمْرَ الْآخِرَةِ تَامًّا، فَأَمَّا الدُّنْيَا فَلَعَمْرِي لَقَدْ صَدَقْتَ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ مِنْهَا مَا يَدُلُّنِي عَلَىٰ فَنَائِهَا وَيُزَهِّدُنِي فِيهَا، وَلَمْ يَزَلْ أَمْرُهَا حَقِيراً عِنْدِي.

قَالَ بِلَوْهَرُ: إِنَّ الزَّهَادَةَ فِي الدُّنْيَا يَا ابْنَ المَلِكِ مِفْتَاحُ الرَّغْبَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَمَنْ طَلَبَ الْآخِرَةَ فَأَصَابَ بَابَهَا دَخَلَ مَلَكُوتَهَا، وَكَيْفَ لَا تَزْهَدُفِي الدُّنْيَا يَا ابْنَ المَلِكِ وَقَدْ آتَاكَ اللهُ مِنَ الْعَقْلِ مَا آتَاكَ؟ وَقَدْ تَرَىٰ أَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا وَإِنْ كَثُرَتْ إِنَّمَا يَجْمَعُهَا أَهْلُهَا لِهَذِهِ الْأَجْسَادِ الْفَانِيَةِ، وَالْجَسَدُ لَا قِوَامَ لَهُ، وَلَا امْتِنَاعَ بِهِ، فَالْحَرُّ يُذِيبُهُ، وَالْبَرْدُ يُجْمِدُهُ، وَالسَّمُومُ تَتَخَلَّلُهُ، وَالمَاءُ يُغْرِقُهُ، وَالشَّمْسُ تُحْرِقُهُ، وَالْهَوَاءُ يُسْقِمُهُ، وَالسِّبَاعُ تَفْتَرِسُهُ، وَالطَّيْرُ تَنْقُرُهُ، وَالْحَدِيدُ يَقْطَعُهُ، وَالصِّدَامُ يَحْطِمُهُ، ثُمَّ هُوَ مَعْجُونٌ بِطِيْنَةٍ مِنْ أَلْوَانِ الْأَسْقَامِ وَالْأَوْجَاعِ وَالْأَمْرَاضِ، فَهُوَ مُرْتَهَنٌ بِهَا، مُتَرَقِّبٌ لَهَا، وَجِلٌ مِنْهَا، غَيْرُ طَامِعٍ فِي السَّلَامَةِ مِنْهَا، ثُمَّ هُوَ مُقَارِنُ الْآفَاتِ السَّبْعِ الَّتِي لَا يَتَخَلَّصُ مِنْهَا ذُو جَسَدٍ، وَهِيَ: الْجُوعُ، وَالظَّمَأُ، وَالْحَرُّ، وَالْبَرْدُ، وَالْوَجَعُ، وَالْخَوْفُ، وَالمَوْتُ.

فَأَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ تَجِدَ مَا تَحْسَبُهُ بَعِيداً قَرِيباً، وَمَا كُنْتَ تَحْسَبُهُ عَسِيراً يَسِيراً، وَمَا كُنْتَ تَحْسَبُهُ قَلِيلاً كَثِيراً.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: أَيُّهَا الْحَكِيمُ، أَرَأَيْتَ الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانَ وَالِدِي حَرَّقَهُمْ بِالنَّارِ وَنَفَاهُمْ، أَهُمْ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ بِلَوْهَرُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ النَّاسَ اجْتَمَعُوا عَلَىٰ عَدَاوَتِهِمْ وَسُوءِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، قَالَ بِلَوْهَرُ: نَعَمْ قَدْ كَانَ ذَلِكَ، قَالَ: فَمَا سَبَبُ ذَلِكَ أَيُّهَا الْحَكِيمُ؟ قَالَ بِلَوْهَرُ: أَمَّا قَوْلُكَ يَا ابْنَ المَلِكِ فِي سُوءِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، فَمَا عَسَىٰ أَنْ يَقُولُوا فِيمَنْ يَصْدُقُ وَلَا يَكْذِبُ، وَيَعْلَمُ وَلَا يَجْهَلُ، وَيَكُفُّ وَلَا يُؤْذِي، وَيُصَلِّي وَلَا

ص: 372

يَنَامُ، وَيَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ، وَيُبْتَلَىٰ فَيَصْبِرُ، وَيَتَفَكَّرُ فَيَعْتَبِرُ، وَيُطَيِّبُ نَفْسَهُ عَنِ الْأَمْوَالِ وَالْأَهْلِينَ، وَلَا يَخَافُهُمُ النَّاسُ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ؟

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: فَكَيْفَ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَىٰ عَدَاوَتِهِمْ وَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ مُخْتَلِفُونَ؟

قَالَ بِلَوْهَرُ: مَثَلُهُمْ فِي ذَلِكَ مَثَلُ كِلَابٍ اجْتَمَعُوا عَلَىٰ جِيفَةٍ تَنْهَشُهَا وَيُهَارُّبَعْضُهَا بَعْضاً، مُخْتَلِفَةَ الْأَلْوَانِ وَالْأَجْنَاسِ، فَبَيْنَا هِيَ تُقْبِلُ عَلَىٰ الْجِيفَةِ إِذْ دَنَا رَجُلٌ مِنْهُمْ فَتَرَكَ بَعْضُهُنَّ بَعْضاً وَأَقْبَلْنَ عَلَىٰ الرَّجُلِ فَيَهِرُّنَّ عَلَيْهِ جَمِيعاً مُتَعَاوِيَاتٍ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلرَّجُلِ فِي جِيفَتِهِنَّ حَاجَةٌ، وَلَا أَرَادَ أَنْ يُنَازِعَهُنَّ فِيهَا، وَلَكِنَّهُنَّ عَرَفْنَ غُرْبَتَهُ مِنْهُنَّ فَاسْتَوْحَشْنَ مِنْهُ وَاسْتَأْنَسَ بَعْضُهُنَّ بِبَعْضٍ وَإِنْ كُنَّ مُخْتَلِفَاتٍ مُتَعَادِيَاتٍ فِيمَا بَيْنَهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَرِدَ الرَّجُلُ عَلَيْهِنَّ.

قَالَ بِلَوْهَرُ: فَمَثَلُ الْجِيفَةِ مَتَاعُ الدُّنْيَا، وَمَثَلُ صُنُوفِ الْكِلَابِ ضُرُوبُ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَقْتَتِلُونَ عَلَىٰ الدُّنْيَا وَيُهْرِقُونَ دِمَاءَهُمْ وَيُنْفِقُونَ لَهَا أَمْوَالَهُمْ، وَمَثَلُ الرَّجُلِ الَّذِي اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْكِلَابُ وَلَا حَاجَةَ لَهُ فِي جِيَفِهِنَّ كَمَثَلِ صَاحِبِ الدِّينِ الَّذِي رَفَضَ الدُّنْيَا وَخَرَجَ مِنْهَا، فَلَيْسَ يُنَازِعُ فِيهَا أَهْلَهَا وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ النَّاسَ مِنْ أَنْ يُعَادُونَهُ لِغُرْبَتِهِ عِنْدَهُمْ، فَإِنْ عَجِبْتَ فَاعْجَبْ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ لَا هِمَّةَ لَهُمْ إِلَّا الدُّنْيَا وَجَمْعُهَا وَالتَّكَاثُرُ وَالتَّفَاخُرُ وَالتَّغَالُبُ عَلَيْهَا حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَنْ قَدْ تَرَكَهَا فِي أَيْدِيهِمْ وَتَخَلَّىٰ عَنْهَا كَانُوا لَهُ أَشَدَّ حَنَقاً مِنْهُمْ لِلَّذِي يُشَاحُّهُمْ عَلَيْهَا، فَأَيُّ حُجَّةٍ يَا ابْنَ المَلِكِ أَدْحَضُ مِنْ تَعَاوُنِ المُخْتَلِفِينَ عَلَىٰ مَنْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ عَلَيْهِ؟

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: اعْمِدْ لِحَاجَتِي.

قَالَ بِلَوْهَرُ: إِنَّ الطَّبِيبَ الرَّفِيقَ إِذْ رَأَىٰ الْجَسَدَ قَدْ أَهْلَكَتْهُ الْأَخْلَاطُ الْفَاسِدَةُ فَأَرَادَ أَنْ يُقَوِّيَهُ وَيُسْمِنَهُ لَمْ يُغَذِّهِ بِالطَّعَامِ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ اللَّحْمُ وَالدَّمُ وَالْقُوَّةُ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَتَىٰ أَدْخَلَ الطَّعَامَ عَلَىٰ الْأَخْلَاطِ الْفَاسِدَةِ أَضَرَّ بِالْجَسَدِ وَلَمْ يَنْفَعْهُ وَلَمْ يُقَوِّهِ، وَلَكِنْ يَبْدَأُ بِالْأَدْوِيَةِ وَالْحِمْيَةِ مِنَ الطَّعَامِ، فَإِذَا أَذْهَبَ مِنْ جَسَدِهِ الْأَخْلَاطَ الْفَاسِدَةَ

ص: 373

أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِمَا يُصْلِحُهُ مِنَ الطَّعَامِ، فَحِينَئِذٍ يَجِدُ طَعْمَ الطَّعَامِ وَيَسْمَنُ وَيَقْوَىٰ وَيَحْمِلُ الثَّقَلَ بِمَشِيئَةِ اللهِ (عزوجل).

وَقَالَ ابْنُ المَلِكِ: أَيُّهَا الْحَكِيمُ، أَخْبِرْنِي مَا ذَا تُصِيبُ مِنَ الطَّعَامِوَالشَّرَابِ؟

قَالَ الْحَكِيمُ: زَعَمُوا أَنَّ مَلِكاً مِنَ المُلُوكِ كَانَ عَظِيمَ المُلْكِ كَثِيرَ الْجُنْدِ وَالْأَمْوَالِ، وَأَنَّهُ بَدَا لَهُ أَنْ يَغْزُوَ مَلِكاً آخَرَ لِيَزْدَادَ مُلْكاً إِلَىٰ مُلْكِهِ وَمَالاً إِلَىٰ مَالِهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ بِالْجُنُودِ وَالْعِدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَثْقَالِ، فَأَقْبَلُوا نَحْوَهُ، فَظَهَرُوا عَلَيْهِ، وَاسْتَبَاحُوا عَسْكَرَهُ، فَهَرَبَ وَسَاقَ امْرَأَتَهُ وَأَوْلَادَهُ صِغَاراً، فَأَلْجَأَهُ الطَّلَبُ عِنْدَ المَسَاءِ إِلَىٰ أَجَمَةٍ عَلَىٰ شَاطِئِ النَّهَرِ، فَدَخَلَهَا مَعَ أَهْلِهِ وَوُلْدِهِ وَسَيَّبَ دَوَابَّهُ مَخَافَةَ أَنْ تَدُلَّ عَلَيْهِ بِصَهِيلِهَا، فَبَاتُوا فِي الْأَجَمَةِ وَهُمْ يَسْمَعُونَ وَقْعَ حَوَافِرِ الْخَيْلِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَأَصْبَحَ الرَّجُلُ لَا يُطِيقُ بَرَاحاً، وَأَمَّا النَّهَرُ فَلَا يَسْتَطِيعُ عُبُورَهُ، وَأَمَّا الْفَضَاءُ فَلَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ إِلَيْهِ لِمَكَانِ الْعَدُوِّ، فَهُمْ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ قَدْ آذَاهُمُ الْبَرْدُ وَأَهْجَرَهُمُ الْخَوْفُ وَطَوَاهُمُ الْجُوعُ، وَلَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ وَلَا مَعَهُمْ زَادٌ وَلَا إِدَامٌ، وَأَوْلَادُهُ صِغَارٌ جِيَاعٌ يَبْكُونَ مِنَ الضُّرِّ الَّذِي قَدْ أَصَابَهُمْ، فَمَكَثَ بِذَلِكَ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ إِنَّ أَحَدَ بَنِيهِ مَاتَ فَأَلْقَوْهُ فِي النَّهَرِ، فَمَكَثَ بَعْدَ ذَلِكَ يَوْماً آخَرَ، فَقَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: إِنَّا مُشْرِفُونَ عَلَىٰ الْهَلَاكِ جَمِيعاً، وَإِنْ بَقِيَ بَعْضُنَا وَهَلَكَ بَعْضُنَا كَانَ خَيْراً مِنْ أَنْ نَهْلِكَ جَمِيعاً، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أُعَجِّلَ ذِبْحَ صَبِيٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ الصِّبْيَانِ فَنَجْعَلَهُ قُوتاً لَنَا وَلِأَوْلَادِنَا إِلَىٰ أَنْ يَأْتِيَ اللهُ (عزوجل) بِالْفَرَجِ، فَإِنْ أَخَّرْنَا ذَلِكَ هَزَلَ الصِّبْيَانُ حَتَّىٰ لَا يُشْبِعَ لُحُومُهُمْ وَنَضْعُفُ حَتَّىٰ لَا نَسْتَطِيعَ الْحَرَكَةَ إِنْ وَجَدْنَا إِلَىٰ ذَلِكَ سَبِيلاً، وَطَاوَعَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَذَبَحَ بَعْضَ أَوْلَادِهِ وَوَضَعُوهُ بَيْنَهُمْ يَنْهَشُونَهُ، فَمَا ظَنُّكَ يَا ابْنَ المَلِكِ بِذَلِكَ المُضْطَرِّ؟ أَكْلَ الْكَلْبِ المُسْتَكْثِرِ يَأْكُلُ، أَمْ أَكْلَ المُضْطَرِّ المُسْتَقِلِّ؟

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: بَلْ أَكْلَ المُسْتَقِلِّ.

قَالَ الْحَكِيمُ: كَذَلِكَ أَكْلِي وَشُرْبِي يَا ابْنَ المَلِكِ فِي الدُّنْيَا.

ص: 374

فَقَالَ لَهُ ابْنُ المَلِكِ: أَرَأَيْتَ هَذَا الَّذِي تَدْعُونِي إِلَيْهِ أَيُّهَا الْحَكِيمُ أَهُوَ شَيْءٌ نَظَرَ النَّاسُ فِيهِ بِعُقُولِهِمْ وَأَلْبَابِهِمْ حَتَّىٰ اخْتَارُوهُ عَلَىٰ مَا سِوَاهُ لِأَنْفُسِهِمْ، أَمْ دَعَاهُمُ اللهُ إِلَيْهِ فَأَجَابُوا؟

قَالَ الْحَكِيمُ: عَلَا هَذَا الْأَمْرُ وَلَطُفَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَوْ بِرَأْيِهِمْ دَبَّرُوهُ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ لَدَعَوْا إِلَىٰ عَمَلِهَا وَزِينَتِهَا وَحِفْظِهَا وَدَعَتِهَا وَنَعِيمِهَا وَلَذَّتِهَا وَلَهْوِهَا وَلَعِبِهَا وَشَهَوَاتِهَا، وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ غَرِيبٌ وَدَعْوَةٌ مِنَ اللهِ (عزوجل) سَاطِعَةٌ، وَهُدًى مُسْتَقِيمٌ، نَاقِضٌ عَلَىٰ أَهْلِ الدُّنْيَا أَعْمَالَهُمْ، مُخَالِفٌ لَهُمْ، عَائِبٌ عَلَيْهِمْ، وَطَاعِنٌ نَاقِلٌ لَهُمْ عَنْ أَهْوَائِهِمْ، دَاعٍ لَهُمْ إِلَىٰ طَاعَةِ رَبِّهِمْ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَبَيِّنٌ لِمَنْ تَنَبَّهَ، مَكْتُومٌ عِنْدَهُ عَنْ غَيْرِ أَهْلِهِ حَتَّىٰ يُظْهِرَ اللهُ الْحَقَّ بَعْدَ خَفَائِهِ وَيَجْعَلَ كَلِمَتَهُ الْعُلْيَا وَكَلِمَةَ الَّذِينَ جَهِلُوا السُّفْلَىٰ.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: صَدَقْتَ أَيُّهَا الْحَكِيمُ.

ثُمَّ قَالَ الْحَكِيمُ: إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ تَفَكَّرَ قَبْلَ مَجِيءِ الرُّسُلِ (علیهم السلام) فَأَصَابَ، وَمِنْهُمْ مَنْ دَعَتْهُ الرُّسُلُ بَعْدَ مَجِيئِهَا فَأَجَابَ، وَأَنْتَ يَا ابْنَ المَلِكِ مِمَّنْ تَفَكَّرَ بِعَقْلِهِ فَأَصَابَ.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: فَهَلْ تَعْلَمُ أَحَداً مِنَ النَّاسِ يَدْعُو إِلَىٰ التَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا غَيْرَكُمْ؟

قَالَ الْحَكِيمُ: أَمَّا فِي بِلَادِكُمْ هَذِهِ فَلَا، وَأَمَّا فِي سَائِرِ الْأُمَمِ فَفِيهِمْ قَوْمٌ يَنْتَحِلُونَ الدِّينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَمْ يَسْتَحِقُّوهُ بِأَعْمَالِهِمْ، فَاخْتَلَفَ سَبِيلُنَا وَسَبِيلُهُمْ.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: كَيْفَ صِرْتُمْ أَوْلَىٰ بِالْحَقِّ مِنْهُمْ(1)، وَإِنَّمَا أَتَاكُمْ هَذَا الْأَمْرُ الْغَرِيبُ مِنْ حَيْثُ أَتَاهُمْ؟

قَالَ الْحَكِيمُ: الْحَقُّ كُلُّهُ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللهِ (عزوجل)، وَإِنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰدَعَا الْعِبَادَ

ص: 375


1- في بعض النُّسَخ: (فيما جعلكم الله أولىٰ بالحقِّ منهم).

إِلَيْهِ، فَقَبِلَهُ قَوْمٌ بِحَقِّهِ وَشُرُوطِهِ حَتَّىٰ أَدَّوْهُ إِلَىٰ أَهْلِهِ كَمَا أُمِرُوا، لَمْ يَظْلِمُوا وَلَمْ يُخْطِئُوا وَلَمْ يُضَيِّعُوا، وَقَبِلَهُ آخَرُونَ فَلَمْ يَقُومُوا بِحَقِّهِ وَشُرُوطِهِ، وَلَمْ يُؤَدُّوهُ إِلَىٰ أَهْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ عَزِيمَةٌ، وَلَا عَلَىٰ الْعَمَلِ بِهِ نِيَّةُ ضَمِيرٍ، فَضَيَّعُوهُ وَاسْتَثْقَلُوهُ، فَالمُضَيِّعُ لَا يَكُونُ مِثْلَ الْحَافِظِ، وَالمُفْسِدُ لَا يَكُونُ كَالمُصْلِحِ، وَالصَّابِرُ لَا يَكُونُ كَالْجَازِعِ، فَمِنْ هَاهُنَا كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُمْ وَأَوْلَىٰ.

ثُمَّ قَالَ الْحَكِيمُ: إِنَّهُ لَيْسَ يَجْرِي عَلَىٰ لِسَانِ أَحَدٍ مِنْهُمْ مِنَ الدِّينِ وَالتَّزْهِيدِ وَالدُّعَاءِ إِلَىٰ الْآخِرَةِ إِلَّا وَقَدْ أَخَذَ ذَلِكَ عَنْ أَصْلِ الْحَقِّ(1) الَّذِي عَنْهُ أَخَذْنَا، وَلَكِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَحْدَاثُهُمُ الَّتِي أَحْدَثُوا، وَابْتِغَاؤُهُمُ الدُّنْيَا وَإِخْلَادُهُمْ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ لَمْ تَزَلْ تَأْتِي وَتَظْهَرُ فِي الْأَرْضِ مَعَ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ) فِي الْقُرُونِ المَاضِيَةِ عَلَىٰ أَلْسِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَكَانَ أَهْلُ دَعْوَةِ الْحَقِّ أَمْرُهُمْ مُسْتَقِيمٌ، وَطَرِيقُهُمْ وَاضِحٌ، وَدَعْوَتُهُمْ بَيِّنَةٌ، لَا فُرْقَةَ بَيْنَهُمْ وَلَا اخْتِلَافَ، فَكَانَتِ الرُّسُلُ (علیهم السلام) إِذَا بَلَّغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَاحْتَجُّوا لِلهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ عَلَىٰ عِبَادِهِ بِحُجَّتِهِ وَإِقَامَةِ مَعَالِمِ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ، قَبَضَهُمُ اللهُ (عزوجل) إِلَيْهِ عِنْدَ انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ وَمُنْتَهَىٰ مُدَّتِهِمْ، وَمَكَثَتِ الْأُمَّةُ مِنَ الْأُمَمِ بَعْدَ نَبِيِّهَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِهَا لَا تَغَيُّرٌ وَلَا تَبَدُّلٌ، ثُمَّ صَارَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ يُحْدِثُونَ الْأَحْدَاثَ وَيَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ وَيُضَيِّعُونَ الْعِلْمَ، فَكَانَ الْعَالِمُ الْبَالِغُ المُسْتَبْصِرُ مِنْهُمْ يُخْفِي شَخْصَهُ وَلَا يُظْهِرُ عِلْمَهُ، فَيَعْرِفُونَهُ بِاسْمِهِ وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَىٰ مَكَانِهِ، وَلَا يَبْقَىٰ مِنْهُمْ إِلَّا الْخَسِيسُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، يَسْتَخِفُّ بِهِ أَهْلُ الْجَهْلِ وَالْبَاطِلِ، فَيَخْمُلُ الْعِلْمُ وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ، وَيَتَنَاسَلُ الْقُرُونُ فَلَايَعْرِفُونَ إِلَّا الْجَهْلَ وَالْبَاطِلَ، وَيَزْدَادُ الْجُهَّالُ اسْتِعْلَاءً وَكَثْرَةً، وَالْعُلَمَاءُ خُمُولاً وَقِلَّةً، فَحَوَّلُوا مَعَالِمَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ عَنْ وُجُوهِهَا، وَتَرَكُوا قَصْدَ سَبِيلِهَا، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُقِرُّونَ

ص: 376


1- في بعض النُّسَخ: (أهل الحقِّ).

بِتَنْزِيلِهِ، مُتَّبِعُونَ شِبْهَهُ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، مُتَعَلِّقُونَ بِصِفَتِهِ، تَارِكُونَ لِحَقِيقَتِهِ، نَابِذُونَ لِأَحْكَامِهِ، فَكُلُّ صِفَةٍ جَاءَتِ الرُّسُلُ تَدْعُوا إِلَيْهَا فَنَحْنُ لَهُمْ مُوَافِقُونَ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ، مُخَالِفُونَ لَهُمْ فِي أَحْكَامِهِمْ وَسِيرَتِهِمْ، وَلَسْنَا نُخَالِفُهُمْ فِي شَيْ ءٍ إِلَّا وَلَنَا عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ وَالْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ مِنْ نَعْتِ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْكُتُبِ المُنْزَلَةِ مِنَ اللهِ (عزوجل)، فَكُلُّ مُتَكَلِّمٍ مِنْهُمْ يَتَكَلَّمُ بِشَيْءٍ مِنَ الْحِكْمَةِ، فَهِيَ لَنَا وَهِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ تَشْهَدُ لَنَا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهَا تُوَافِقُ صِفَتَنَا وَسِيرَتَنَا وَحُكْمَنَا، وَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسُنَّتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَلَيْسُوا يَعْرِفُونَ مِنَ الْكِتَابِ إِلَّا وَصْفَهُ، وَلَا مِنَ الدِّينِ إِلَّا اسْمَهُ، فَلَيْسُوا بِأَهْلِ الْكِتَابِ حَقِيقَةً حَتَّىٰ يُقِيمُوهُ.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: فَمَا بَالُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ (علیهم السلام) يَأْتُونَ فِي زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ؟

قَالَ الْحَكِيمُ: إِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ كَمَثَلِ مَلِكٍ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ مَوَاتٌ لَا عُمْرَانَ فِيهَا، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُقْبِلَ عَلَيْهَا بِعِمَارَتِهِ أَرْسَلَ إِلَيْهَا رَجُلاً جَلْداً أَمِيناً نَاصِحاً، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَعْمُرَ تِلْكَ الْأَرْضَ وَأَنْ يَغْرِسَ فِيهَا صُنُوفَ الشَّجَرِ وَأَنْوَاعَ الزَّرْعِ، ثُمَّ سَمَّىٰ لَهُ المَلِكُ أَلْوَاناً مِنَ الْغَرْسِ مَعْلُومَةً، وَأَنْوَاعاً مِنَ الزَّرْعِ مَعْرُوفَةً، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ لَا يَعْدُوَ مَا سَمَّىٰ لَهُ، وَأَنْ لَا يُحْدِثَ فِيهَا مِنْ قِبَلِهِ شَيْئاً لَمْ يَكُنْ أَمَرَهُ بِهِ سَيِّدُهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْرِجَ لَهَا نَهَراً، وَيَسُدَّ عَلَيْهَا حَائِطاً، وَيَمْنَعَهَا مِنْ أَنْ يُفْسِدَهَا مُفْسِدٌ، فَجَاءَ الرَّسُولُ الَّذِي أَرْسَلَهُ المَلِكُ إِلَىٰ تِلْكَ الْأَرْضِ فَأَحْيَاهَا بَعْدَ مَوْتِهَا، وَعَمَرَهَا بَعْدَ خَرَابِهَا، وَغَرَسَ فِيهَا وَزَرَعَ مِنَ الصُّنُوفِالَّتِي أَمَرَهُ بِهَا، ثُمَّ سَاقَ المَاءَ إِلَيْهَا حَتَّىٰ نَبَتَ الْغَرْسُ وَاتَّصَلَ الزَّرْعُ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ قَلِيلاً حَتَّىٰ مَاتَ قَيِّمُهَا، وَأَقَامَ بَعْدَهُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ وَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِ خَلَفٌ خَالَفُوا مَنْ أَقَامَهُ الْقَيِّمُ بَعْدَهُ وَغَلَبُوهُ عَلَىٰ أَمْرِهِ، فَأَخْرَبُوا الْعُمْرَانَ، وَطَمُّوا الْأَنْهَارَ، فَيَبِسَ الْغَرْسُ، وَهَلَكَ الزَّرْعُ، فَلَمَّا بَلَغَ المَلِكَ خِلَافُهُمْ عَلَىٰ الْقَيِّمِ بَعْدَ رَسُولِهِ وَخَرَابُ أَرْضِهِ أَرْسَلَ إِلَيْهَا رَسُولاً آخَرَ يُحْيِيهَا وَيُعِيدُهَا وَيُصْلِحُهَا كَمَا

ص: 377

كَانَتْ فِي مَنْزِلَتِهَا الْأُولَىٰ، وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ (علیهم السلام) يَبْعَثُ اللهُ (عزوجل) مِنْهُمْ الْوَاحِدَ بَعْدَ الْوَاحِدِ، فَيُصْلِحُ أَمْرَ النَّاسِ بَعْدَ فَسَادِهِ.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: أَيَخُصُّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ (علیهم السلام) إِذَا جَاءَتْ بِمَا يَبْعَثُ بِهِ أَمْ تُعَمُّ؟

قَالَ بِلَوْهَرُ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ إِذَا جَاءَتْ تَدْعُوا عَامَّةَ النَّاسِ، فَمَنْ أَطَاعَهُمْ كَانَ مِنْهُمْ، وَمَنْ عَصَاهُمْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ، وَمَا تَخْلُو الْأَرْضُ قَطُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلهِ (عزوجل) فِيهَا مُطَاعٌ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَمِنْ أَوْصِيَائِهِ، وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ طَائِرٍ كَانَ فِي سَاحِلِ الْبَحْرِ يُقَالُ لَهُ: قدمٌ(1) يَبِيضُ بَيْضاً كَثِيراً، وَكَانَ شَدِيدَ الْحُبِّ لِلْفِرَاخِ وَكَثْرَتِهَا، وَكَانَ يَأْتِي عَلَيْهِ زَمَانٌ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ فِيهِ مَا يُرِيدُهُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنِ اتِّخَاذِ أَرْضٍ أُخْرَىٰ حَتَّىٰ يَذْهَبَ ذَلِكَ الزَّمَانُ فَيَأْخُذُ بَيْضَهُ مَخَافَةً عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَهْلِكَ مِنْ شَفَقَتِهِ فَيُفَرِّقُهُ فِي أَعْشَاشِ الطَّيْرِ فَتَحْضُنُ الطَّيْرُ بَيْضَهُ مَعَ بَيْضَتِهَا وَتُخْرِجُ فِرَاخَهُ مَعَ فِرَاخِهَا. فَإِذَا طَالَ مَكْثُ فِرَاخِ قدمٍ مَعَ فِرَاخِ الطَّيْرِ أَلِفَهَا بَعْضُ فِرَاخِ الطَّيْرِ وَاسْتَأْنَسَ بِهَا، فَإِذَا كَانَ الزَّمَانُ الَّذِي يَنْصَرِفُ فِيهِ قدمٌ إِلَىٰ مَكَانِهِ مَرَّ بِأَعْشَاشِ الطَّيْرِ وَأَوْكَارِهَا بِاللَّيْلِ فَأَسْمَعَ فِرَاخَهُ وَغَيْرَهَا صَوْتَهُ، فَإِذَا سَمِعَتْ فِرَاخُهُ صَوْتَهُ تَبِعَتْهُ وَتَبِعَ فِرَاخَهُمَا كَانَ أَلِفَهَا مِنْ فِرَاخِ سَائِرِ الطَّيْرِ وَلَمْ يُجِبْهُ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ فِرَاخِهِ وَلَا مَا لَمْ يَكُنْ أَلِفَ فِرَاخَهُ، وَكَانَ قَدْ يَضُمُّ إِلَيْهِ مَنْ أَجَابَهُ مِنْ فِرَاخِهِ حُبًّا لِلْفِرَاخِ، وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ إِنَّمَا يَسْتَعْرِضُونَ النَّاسَ جَمِيعاً بِدُعَائِهِمْ فَيُجِيبُهُمْ أَهْلُ الْحِكْمَةِ وَالْعَقْلِ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِفَضْلِ الْحِكْمَةِ، فَمَثَلُ الطَّيْرِ الَّذِي دَعَا بِصَوْتِهِ مَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ الَّتِي تَعُمُّ النَّاسَ بِدُعَائِهِمْ، وَمَثَلُ الْبَيْضِ المُتَفَرِّقِ فِي أَعْشَاشِ الطَّيْرِ مَثَلُ الْحِكْمَةِ، وَمَثَلُ سَائِرِ فِرَاخِ الطَّيْرِ الَّتِي أَلِفَتْ مَعَ فِرَاخِ قدمٍ مَثَلُ مَنْ أَجَابَ الْحُكَمَاءَ قَبْلَ مَجِيءِ الرُّسُلِ، لِأَنَّ اللهَ (عزوجل) جَعَلَ لِأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّأْيِ مَا لَمْ يَجْعَلْ لِغَيْرِهِمْ

ص: 378


1- في بعض النُّسَخ: (قرم)، ولعلَّ الصواب: (قرلي).

مِنَ النَّاسِ، وَأَعْطَاهُمْ مِنَ الْحُجَجِ وَالنُّورِ وَالضِّيَاءِ مَا لَمْ يُعْطِ غَيْرَهُمْ، وَذَلِكَ لِمَا يُرِيدُ مِنْ بُلُوغِ رِسَالَتِهِ وَمَوَاقِعِ حُجَجِهِ، وَكَانَتِ الرُّسُلُ إِذَا جَاءَتْ وَأَظْهَرَتْ دَعْوَتَهَا أَجَابَهُمْ مِنَ النَّاسِ أَيْضاً مَنْ لَمْ يَكُنْ أَجَابَ الْحُكَمَاءَ، وَذَلِكَ لِمَا جَعَلَ اللهُ (عزوجل) عَلَىٰ دَعْوَتِهِمْ مِنَ الضِّيَاءِ وَالْبُرْهَانِ.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: أَفَرَأَيْتَ مَا يَأْتِي بِهِ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ إِذْ زَعَمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامِ النَّاسِ، وَكَلَامُ اللهِ (عزوجل) هُوَ كَلَامٌ وَكَلَامُ مَلَائِكَتِهِ كَلَامٌ؟

قَالَ الْحَكِيمُ: أَمَا رَأَيْتَ النَّاسَ لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يُفْهِمُوا بَعْضَ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ مَا يُرِيدُونَ مِنْ تَقَدُّمِهَا وَتَأَخُّرِهَا وَإِقْبَالِهَا وَإِدْبَارِهَا لَمْ يَجِدُوا الدَّوَابَّ وَالطَّيْرَ تَحْمِلُ كَلَامَهُمُ الَّذِي هُوَ كَلَامُهُمْ، فَوَضَعُوا مِنَ النَّقْرِ وَالصَّفِيرِ وَالزَّجْرِ مَا يَبْلُغُوا بِهِ حَاجَتَهُمْ وَمَا عَرَفُوا أَنَّهَا تُطِيقُ حَمْلَهُ، وَكَذَلِكَ الْعِبَادُ يَعْجَزُونَ أَنْ يَعْلَمُوا كَلَامَ اللهِ (عزوجل) وَكَلَامَ مَلَائِكَتِهِ عَلَىٰ كُنْهِهِ وَكَمَالِهِ وَلُطْفِهِ وَصِفَتِهِ، فَصَارَ مَا تَرَاجَعَ النَّاسُ بَيْنَهُمْ مِنَ الْأَصْوَاتِ الَّتِي سَمِعُوا بِهَا الْحِكْمَةَ شَبِيهاً بِمَا وَضَعَ النَّاسُ لِلدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ، وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الصَّوْتُ مَكَانَ الْحِكْمَةِالمُخْبِرَةِ فِي تِلْكَ الْأَصْوَاتِ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ وَاضِحَةً بَيْنَهُمْ، قَوِيَّةً مُنِيرَةً شَرِيفَةً عَظِيمَةً، وَلَمْ يَمْنَعْهَا مِنْ وُقُوعِ مَعَانِيهَا عَلَىٰ مَوَاقِعِهَا وَبُلُوغِ مَا احْتَجَّ بِهِ اللهُ (عزوجل) عَلَىٰ الْعِبَادِ فِيهَا، وَكَانَ الصَّوْتُ لِلْحِكْمَةِ جَسَداً وَمَسْكَناً، وَكَانَتِ الْحِكْمَةُ لِلصَّوْتِ نَفْساً وَرُوحاً، وَلَا طَاقَةَ لِلنَّاسِ أَنْ يُنْفِذُوا غَوْرَ كَلَامِ الْحِكْمَةِ، وَلَا يُحِيطُوا بِهِ بِعُقُولِهِمْ، فَمِنْ قِبَلِ ذَلِكَ تَفَاضَلَتِ الْعُلَمَاءُ فِي عِلْمِهِمْ، فَلَا يَزَالُ عَالِمٌ يَأْخُذُ عِلْمَهُ مِنْ عَالِمٍ حَتَّىٰ يَرْجِعَ الْعِلْمُ إِلَىٰ اللهِ (عزوجل) الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِهِ، وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ قَدْ يُصِيبُونَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ مَا يُنْجِيهِمْ مِنَ الْجَهْلِ، وَلَكِنْ لِكُلِّ ذِي فَضْلٍ فَضْلُهُ، كَمَا أَنَّ النَّاسَ يَنَالُونَ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي مَعَايِشِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ وَلَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُنْفِذُوهَا بِأَبْصَارِهِمْ، فَهِيَ كَالْعَيْنِ الْغَزِيرَةِ، الظَّاهِرِ مَجْرَاهَا، المَكْنُونِ عُنْصُرُهَا، فَالنَّاسُ قَدْ يُجِيبُونَ بِمَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنْ

ص: 379

مَائِهَا، وَلَا يُدْرِكُونَ غَوْرَهَا، وَهِيَ كَالنُّجُومِ الزَّاهِرَةِ الَّتِي يَهْتَدِي بِهَا النَّاسُ، وَلَا يَعْلَمُونَ مَسَاقِطَهَا، فَالْحِكْمَةُ أَشْرَفُ وَأَرْفَعُ وَأَعْظَمُ مِمَّا وَصَفْنَاهَا بِهِ كُلِّهِ، هِيَ مِفْتَاحُ بَابِ كُلِّ خَيْرٍ يُرْتَجَىٰ، وَالنَّجَاةُ مِنْ كُلِّ شَرٍّ يُتَّقَىٰ، وَهِيَ شَرَابُ الْحَيَاةِ الَّتِي مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَمُتْ أَبَداً، وَالشِّفَاءُ لِلسَّقَمِ الَّذِي مَنِ اسْتَشْفَىٰ بِهِ لَمْ يَسْقُمْ أَبَداً، وَالطَّرِيقُ المُسْتَقِيمُ الَّذِي مَنْ سَلَكَهُ لَمْ يَضِلَّ أَبَداً، هِيَ حَبْلُ اللهِ المَتِينُ الَّذِي لَا يُخْلِقُهُ طُولُ التَّكْرَارِ، مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ انْجَلَىٰ عَنْهُ الْعَمَىٰ، وَمَنِ اعْتَصَمَ بِهِ فَازَ وَاهْتَدَىٰ، وَأَخَذَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: فَمَا بَالُ هَذِهِ الْحِكْمَةِ الَّتِي وَصَفْتَ بِمَا وَصَفْتَ مِنَ الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ وَالْاِرْتِفَاعِ وَالْقُوَّةِ وَالمَنْفَعَةِ وَالْكَمَالِ وَالْبُرْهَانِ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا النَّاسُ كُلُّهُمْ جَمِيعاً؟

قَالَ الْحَكِيمُ: إِنَّمَا مَثَلُ الْحِكْمَةِ كَمَثَلِ الشَّمْسِ الطَّالِعَةِ عَلَىٰ جَمِيعِ النَّاسِ الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ مِنْهُمْ، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، فَمَنْ أَرَادَ الْاِنْتِفَاعَ بِهَا لَمْ تَمْنَعْهُوَلَمْ يَحُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مِنْ أَقْرَبِهِمْ وَأَبْعَدِهِمْ، وَمَنْ لَمْ يُرِدِ الْاِنْتِفَاعَ بِهَا فَلَا حُجَّةَ لَهُ عَلَيْهَا، وَلَا تَمْنَعُ الشَّمْسُ عَلَىٰ النَّاسِ جَمِيعاً، وَلَا يَحُولُ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ الْاِنْتِفَاعِ بِهَا، وَكَذَلِكَ الْحِكْمَةُ وَحَالُهَا بَيْنَ النَّاسِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْحِكْمَةُ قَدْ عَمَّتِ النَّاسَ جَمِيعاً إِلَّا أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِي ذَلِكَ، وَالشَّمْسُ ظَاهِرَةٌ إِذْ طَلَعَتْ عَلَىٰ الْأَبْصَارِ النَّاظِرَةِ فَرَّقَتْ بَيْنَ النَّاسِ عَلَىٰ ثَلَاثَةِ مَنَازِلَ، فَمِنْهُمُ الصَّحِيحُ الْبَصَرِ الَّذِي يَنْفَعُهُ الضَّوْءُ وَيَقْوَىٰ عَلَىٰ النَّظَرِ، وَمِنْهُمُ الْأَعْمَىٰ الْقَرِيبُ مِنَ الضَّوْءِ الَّذِي لَوْ طَلَعَتْ عَلَيْهِ شَمْسٌ أَوْ شُمُوسٌ لَمْ تُغْنِ عَنْهُ شَيْئاً، وَمِنْهُمُ المَرِيضُ الْبَصَرِ الَّذِي لَا يُعَدُّ فِي الْعُمْيَانِ وَلَا فِي أَصْحَابِ الْبَصَرِ، كَذَلِكَ الْحِكْمَةُ هِيَ شَمْسُ الْقُلُوبِ إِذَا طَلَعَتْ تَفَرَّقَ عَلَىٰ ثَلَاثِ مَنَازِلَ: مَنْزِلٍ لِأَهْلِ الْبَصَرِ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ الْحِكْمَةَ فَيَكُونُونَ مِنْ أَهْلِهَا، وَيَعْمَلُونَ بِهَا، وَمَنْزِلٍ لِأَهْلِ الْعَمَىٰ الَّذِينَ تَنْبُو الْحِكْمَةُ عَنْ قُلُوبِهِمْ لِإِنْكَارِهِمُ الْحِكْمَةَ وَتَرْكِهِمْ

ص: 380

قَبُولَهَا كَمَا يَنْبُو ضَوْءُ الشَّمْسِ عَنِ الْعُمْيَانِ، وَمَنْزِلٍ لِأَهْلِ مَرَضِ الْقُلُوبِ الَّذِينَ يَقْصُرُ عِلْمُهُمْ وَيَضْعُفُ عَمَلُهُمْ وَيَسْتَوِي فِيهِمُ السَّيِّئُ وَالْحَسَنُ، وَالْحَقُّ وَالْبَاطِلُ، وَإِنَّ أَكْثَرَ مَنْ تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَهِيَ الْحِكْمَةُ مِمَّنْ يَعْمَىٰ عَنْهَا.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: فَهَلْ يَسَعُ الرَّجُلَ الْحِكْمَةُ فَلَا يُجِيبُ إِلَيْهَا حَتَّىٰ يَلْبَثَ زَمَاناً نَاكِباً عَنْهَا، ثُمَّ يُجِيبُ وَيُرَاجِعُهَا؟

قَالَ بِلَوْهَرُ: نَعَمْ هَذَا أَكْثَرُ حَالَاتِ النَّاسِ فِي الْحِكْمَةِ.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: تَرَىٰ وَالِدِي سَمِعَ شَيْئاً مِنْ هَذَا الْكَلَامِ قَطُّ؟

قَالَ بِلَوْهَرُ: لَا أَرَاهُ سَمِعَ سَمَاعاً صَحِيحاً رَسَخَ فِي قَلْبِهِ وَلَا كَلَّمَهُ فِيهِ نَاصِحٌ شَفِيقٌ.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: وَكَيْفَ تَرَكَ ذَلِكَ الْحُكَمَاءُ مِنْهُ طُولَ دَهْرِهِمْ؟

قَالَ بِلَوْهَرُ: تَرَكُوهُ لِعِلْمِهِمْ بِمَوَاضِعِ كَلَامِهِمْ، فَرُبَّمَا تَرَكُوا ذَلِكَ مِمَّنْ هُوَأَحْسَنُ إِنْصَافاً وَأَلْيَنُ عَرِيكَةً وَأَحْسَنُ اسْتِمَاعاً مِنْ أَبِيكَ حَتَّىٰ إِنَّ الرَّجُلَ لَيُعَايِشُ الرَّجُلَ طُولَ عُمُرِهِ وَبَيْنَهُمَا الْاِسْتِينَاسُ وَالمَوَدَّةُ وَالمُفَاوَضَةُ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ إِلَّا الدِّينُ وَالْحِكْمَةُ، وَهُوَ مُتَفَجِّعٌ عَلَيْهِ، مُتَوَجِّعٌ لَهُ، ثُمَّ لَا يُفْضِي إِلَيْهِ أَسْرَارَ الْحِكْمَةِ إِذْ لَمْ يَرَهُ لَهَا مَوْضِعاً.

وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ مَلِكاً مِنَ المُلُوكِ كَانَ عَاقِلاً قَرِيباً مِنَ النَّاسِ، مُصْلِحاً لِأُمُورِهِمْ، حَسَنَ النَّظَرِ وَالْإِنْصَافِ لَهُمْ، وَكَانَ لَهُ وَزِيرُ صِدْقٍ صَالِحٌ يُعِينُهُ عَلَىٰ الْإِصْلَاحِ وَيَكْفِيهِ مَؤُونَتَهُ وَيُشَاوِرُهُ فِي أُمُورِهِ، وَكَانَ الْوَزِيرُ أَدِيباً عَاقِلاً، لَهُ دِينٌ وَوَرَعٌ وَنَزَاهَةٌ عَلَىٰ الدُّنْيَا(1)، وَكَانَ قَدْ لَقِيَ أَهْلَ الدِّينِ، وَسَمِعَ كَلَامَهُمْ، وَعَرَفَ فَضْلَهُمْ، فَأَجَابَهُمْ وَانْقَطَعَ إِلَيْهِمْ بِإِخَائِهِ وَوُدِّهِ، وَكَانَتْ لَهُ مِنَ المَلِكِ مَنْزِلَةٌ حَسَنَةٌ وَخَاصَّةٌ، وَكَانَ المَلِكُ لَا يَكْتُمُهُ شَيْئاً مِنْ أَمْرِهِ، وَكَانَ الْوَزِيرُ أَيْضاً لَهُ بِتِلْكَ المَنْزِلَةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيُطْلِعَهُ

ص: 381


1- في بعض النُّسَخ: (وزهادة عن الدنيا).

عَلَىٰ أَمْرِ الدِّينِ، وَلَا يُفَاوِضُهُ أَسْرَارَ الْحِكْمَةِ، فَعَاشَا بِذَلِكَ زَمَاناً طَوِيلاً، وَكَانَ الْوَزِيرُ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَىٰ المَلِكِ سَجَدَ لِلْأَصْنَامِ وَعَظَّمَهَا وَأَخَذَ شَيْئاً فِي طَرِيقِ الْجَهَالَةِ وَالضَّلَالَةِ تَقِيَّةً لَهُ، فَأَشْفَقَ الْوَزِيرُ عَلَىٰ المَلِكِ مِنْ ذَلِكَ، وَاهْتَمَّ بِهِ، وَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ أَصْحَابَهُ وَإِخْوَانَهُ، فَقَالُوا لَهُ: انْظُرْ لِنَفْسِكَ وَأَصْحَابِكَ فَإِنْ رَأَيْتَهُ مَوْضِعاً لِلْكَلَامِ فَكَلِّمْهُ وَفَاوِضْهُ وَإِلَّا فَإِنَّكَ إِنَّمَا تُعِينُهُ عَلَىٰ نَفْسِكَ، وَتُهَيِّجُهُ عَلَىٰ أَهْلِ دِينِكَ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ لَا يَغْتَرُّ بِهِ، وَلَا تُؤْمَنُ سَطْوَتَهُ، فَلَمْ يَزَلِ الْوَزِيرُ عَلَىٰ اهْتِمَامِهِ بِهِ مُصَافِياً لَهُ، رَفِيقاً بِهِ، رَجَاءَ أَنْ يَجِدَ فُرْصَةً فَيَنْصَحَهُ أَوْ يَجِدَ لِلْكَلَامِ مَوْضِعاً فَيُفَاوِضَهُ، وَكَانَ المَلِكُ مَعَ ضَلَالَتِهِ مُتَوَاضِعاً سَهْلاً قَرِيباً، حَسَنَ السِّيرَةِ فِي رَعِيَّتِهِ، حَرِيصاً عَلَىٰ إِصْلَاحِهِمْ، مُتَفَقِّداً لِأُمُورِهِمْ، فَاصْطَحَبَ الْوَزِيرُ [مَعَ] المَلِكِ عَلَىٰ هَذَا بُرْهَةً مِنْ زَمَانِهِ.ثُمَّ إِنَّ المَلِكَ قَالَ لِلْوَزِيرِ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ اللَّيَالِي بَعْدَ مَا هَدَأَتِ الْعُيُونُ: هَلْ لَكَ أَنْ تَرْكَبَ فَنَسِيرَ فِي المَدِينَةِ فَنَنْظُرَ إِلَىٰ حَالِ النَّاسِ وَآثَارِ الْأَمْطَارِ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ؟

فَقَالَ الْوَزِيرُ: نَعَمْ، فَرَكِبَا جَمِيعاً يَجُولَانِ فِي نَوَاحِي المَدِينَةِ، فَمَرَّا فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ عَلَىٰ مَزْبَلَةٍ تُشْبِهُ الْجَبَلَ، فَنَظَرَ المَلِكُ إِلَىٰ ضَوْءِ النَّارِ تَبْدُو فِي نَاحِيَةِ المَزْبَلَةِ، فَقَالَ لِلْوَزِيرِ: إِنَّ لِهَذِهِ لَقِصَّةً، فَانْزِلْ بِنَا نَمْشِي حَتَّىٰ نَدْنُوَ مِنْهَا فَنَعْلَمَ خَبَرَهَا، فَفَعَلَا ذَلِكَ، فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَىٰ مَخْرَجِ الضَّوْءِ وَجَدَا نَقْباً شَبِيهاً بِالْغَارِ، وَفِيهِ مِسْكِينٌ مِنَ المَسَاكِينِ ثُمَّ نَظَرَا فِي الْغَارِ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُمَا الرَّجُلُ، فَإِذَا الرَّجُلُ مُشَوَّهُ الْخَلْقِ، عَلَيْهِ ثِيَابٌ خُلْقَانٌ مِنْ خُلْقَانِ المَزْبَلَةِ، مُتَّكِئٌ عَلَىٰ مُتَّكَاه قَدْ هَيَّأَهُ مِنَ الزِّبْلِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ إِبْرِيقٌ فَخَّارٌ، فِيهِ شَرَابٌ، وَفِي يَدِهِ طُنْبُورٌ يَضْرِبُ بِيَدِهِ، وَامْرَأَتُهُ فِي مِثْلِ خَلْقِهِ وَلِبَاسِهِ قَائِمَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ تَسْقِيهِ إِذَا اسْتَسْقَىٰ مِنْهَا، وَتَرْقُصُ لَهُ إِذَا ضَرَبَ، وَتُحَيِّيهِ بِتَحِيَّةِ المُلُوكِ كُلَّمَا شَرِبَ، وَهُوَ يُسَمِّيهَا سَيِّدَةَ النِّسَاءِ، وَهُمَا يَصِفَانِ أَنْفُسَهُمَا بِالْحُسْنِ وَالْجَمَالِ، وَبَيْنَهُمَا

ص: 382

مِنَ السُّرُورِ وَالضَّحِكِ وَالطَّرَبِ مَا لَا يُوصَفُ، فَقَامَ المَلِكُ عَلَىٰ رِجْلَيْهِ مَلِيًّا وَالْوَزِيرُ يَنْظُرُ كَذَلِكَ، وَيَتَعَجَّبَانِ مِنْ لَذَّتِهِمَا وَإِعْجَابِهِمَا بِمَا هُمَا فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ المَلِكُ وَالْوَزِيرُ، فَقَالَ المَلِكُ: مَا أَعْلَمَنِي وَإِيَّاكَ أَصَابَنَا الدَّهْرُ مِنَ اللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ وَالْفَرَحِ مِثْلَ مَا أَصَابَ هَذَيْنِ اللَّيْلَةَ مَعَ أَنِّي أَظُنُّهُمَا يَصْنَعَانِ كُلَّ لَيْلَةٍ مِثْلَ هَذَا، فَاغْتَنَمَ الْوَزِيرُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَوَجَدَ فُرْصَةً، فَقَالَ لَهُ: أَخَافُ أَيُّهَا المَلِكُ أَنْ يَكُونَ دُنْيَانَا هَذِهِ مِنَ الْغُرُورِ، وَيَكُونَ مُلْكُكَ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ فِي أَعْيُنِ مَنْ يَعْرِفُ المَلَكُوتَ الدَّائِمَ مِثْلَ هَذِهِ المَزْبَلَةِ، وَمِثْلَ هَذَيْنِ الشَّخْصَيْنِ اللَّذَيْنِ رَأَيْنَاهُمَا، وَتَكُونَ مَسَاكِنُنَا وَمَا شَيَّدْنَا مِنْهَا عِنْدَ مَنْ يَرْجُو مَسَاكِنَ السَّعَادَةِ وَثَوَابَ الْآخِرَةِ مِثْلَ هَذَا الْغَارِ فِي أَعْيُنِنَا، وَتَكُونَ أَجْسَادُنَا عِنْدَمَنْ يَعْرِفُ الطَّهَارَةَ وَالنَّضَارَةَ وَالْحُسْنَ وَالصِّحَّةَ مِثْلَ جَسَدِ هَذَا المُشَوَّهِ الْخَلْقِ فِي أَعْيُنِنَا، وَيَكُونَ تَعَجُّبُهُمْ عَنْ إِعْجَابِنَا بِمَا نَحْنُ فِيهِ كَتَعَجُّبِنَا مِنْ إِعْجَابِ هَذَيْنِ الشَّخْصَيْنِ بِمَا هُمَا فِيهِ.

قَالَ المَلِكُ: وَهَلْ تَعْرِفُ لِهَذِهِ الصِّفَةِ أَهْلاً؟ قَالَ الْوَزِيرُ: نَعَمْ، قَالَ المَلِكُ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ الْوَزِيرُ: أَهْلُ الدِّينِ الَّذِينَ عَرَفُوا مُلْكَ الْآخِرَةِ وَنَعِيمَهَا فَطَلَبُوهُ، قَالَ المَلِكُ: وَمَا مُلْكُ الْآخِرَةِ؟ قَالَ الْوَزِيرُ: هُوَ النَّعِيمُ الَّذِي لَا بُؤْسَ بَعْدَهُ، وَالْغِنَىٰ الَّذِي لَا فَقْرَ بَعْدَهُ، وَالْفَرَحُ الَّذِي لَا تَرَحَ بَعْدَهُ، وَالصِّحَّةُ الَّتِي لَا سُقْمَ بَعْدَهَا، وَالرِّضَا الَّذِي لَا سَخَطَ بَعْدَهُ، وَالْأَمْنُ الَّذِي لَا خَوْفَ بَعْدَهُ، وَالْحَيَاةُ الَّتِي لَا مَوْتَ بَعْدَهَا، وَالمُلْكُ الَّذِي لَا زَوَالَ لَهُ. هِيَ دَارُ الْبَقَاءِ، وَدَارُ الْحَيَوَانِ، الَّتِي لَا انْقِطَاعَ لَهَا، وَلَا تَغَيُّرَ فِيهَا، رَفَعَ اللهُ (عزوجل) عَنْ سَاكِنِيهَا فِيهَا السُّقْمَ وَالْهَرَمَ وَالشَّقَاءَ وَالنَّصَبَ وَالمَرَضَ وَالْجُوعَ وَالظَّمَأَ وَالمَوْتَ، فَهَذِهِ صِفَةُ مُلْكِ الْآخِرَةِ وَخَبَرُهَا أَيُّهَا المَلِكُ.

قَالَ المَلِكُ: وَهَلْ تُدْرِكُونَ إِلَىٰ هَذِهِ الدَّارِ مَطْلَباً وَإِلَىٰ دُخُولِهَا سَبِيلاً؟ قَالَ الْوَزِيرُ: نَعَمْ، هِيَ مُهَيَّأَةٌ لِمَنْ طَلَبَهَا مِنْ وَجْهِ مَطْلَبِهَا، وَمَنْ أَتَاهَا مِنْ بَابِهَا ظَفِرَ بِهَا.

ص: 383

قَالَ المَلِكُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُخْبِرَنِي بِهَذَا قَبْلَ الْيَوْمِ؟ قَالَ الْوَزِيرُ: مَنَعَنِي مِنْ ذَلِكَ إِجْلَالُكَ وَالْهَيْبَةُ لِسُلْطَانِكَ.

قَالَ المَلِكُ: لَئِنْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي وَصَفْتَ يَقِيناً فَلَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُضَيِّعَهُ وَلَا نَتْرُكَ الْعَمَلَ بِهِ فِي إِصَابَتِهِ، وَلَكِنَّا نَجْتَهِدُ حَتَّىٰ يَصِحَّ لَنَا خَبَرُهُ، قَالَ الْوَزِيرُ: أَفَتَأْمُرُنِي أَيُّهَا المَلِكُ أَنْ أُوَاظِبَ عَلَيْكَ فِي ذِكْرِهِ وَالتَّكْرِيرِ لَهُ؟ قَالَ المَلِكُ: بَلْ آمُرُكَ أَنْ لَا تَقْطَعَ عَنِّي ذِكْرَهُ لَيْلاً وَلَا نَهَاراً، وَلَا تُرِيحَنِي وَلَا تُمْسِكَ عَنِّي ذِكْرَهُ، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ لَا يُتَهَاوَنُ بِهِ، وَلَا يُغْفَلُ عَنْ مِثْلِهِ.وَكَانَ سَبِيلُ ذَلِكَ المَلِكِ وَالْوَزِيرِ إِلَىٰ النَّجَاةِ.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: مَا أَنَا بِشَاغِلٍ نَفْسِي بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ عَنْ هَذَا السَّبِيلِ، وَلَقَدْ حَدَّثْتُ نَفْسِي بِالْهَرَبِ مَعَكَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ حَيْثُ بَدَا لَكَ أَنْ تَذْهَبَ.

قَالَ بِلَوْهَرُ: وَكَيْفَ تَسْتَطِيعُ الذَّهَابَ مَعِي وَالصَّبْرَ عَلَىٰ صُحْبَتِي وَلَيْسَ لِي جُحْرٌ يَأْوِينِي، وَلَا دَابَّةٌ تَحْمِلُنِي، وَلَا أَمْلِكُ ذَهَباً وَلَا فِضَّةً، وَلَا أَدَّخِرُ غِذَاءَ الْعِشَاءِ، وَلَا يَكُونُ عِنْدِي فَضْلُ ثَوْبٍ، وَلَا أَسْتَقِرُّ بِبَلْدَةٍ إِلَّا قَلِيلاً حَتَّىٰ أَتَحَوَّلَ عَنْهَا، وَلَا أَتَزَوَّدُ مِنْ أَرْضٍ إِلَىٰ أَرْضٍ أُخْرَىٰ رَغِيفاً أَبَداً.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: إِنِّي أَرْجُو أَنْ يُقَوِّيَنِي الَّذِي قَوَّاكَ.

قَالَ بِلَوْهَرُ: أَمَا إِنَّكَ إِنْ أَبَيْتَ إِلَّا صُحْبَتِي كُنْتَ خَلِيقاً أَنْ تَكُونَ كَالْغَنِيِّ الَّذِي صَاهَرَ الْفَقِيرَ.

قَالَ يُوذَاسُفُ: وَكَيْفَ كَانَ ذَلِكَ؟

قَالَ بِلَوْهَرُ: زَعَمُوا أَنَّ فَتًى كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْأَغْنِيَاءِ، فَأَرَادَ أَبُوهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَةَ عَمٍّ لَهُ ذَاتَ جَمَالٍ وَمَالٍ، فَلَمْ يُوَافِقْ ذَلِكَ الْفَتَىٰ وَلَمْ يُطْلِعْ أَبَاهُ عَلَىٰ كَرَاهَتِهِ حَتَّىٰ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ مُتَوَجِّهاً إِلَىٰ أَرْضٍ أُخْرَىٰ، فَمَرَّ فِي طَرِيقِهِ عَلَىٰ جَارِيَةٍ عَلَيْهَا ثِيَابٌ خُلْقَانٌ لَهَا، قَائِمَةٍ عَلَىٰ بَابِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ المَسَاكِينِ، فَأَعْجَبَتْهُ الْجَارِيَةُ، فَقَالَ لَهَا: مَنْ أَنْتِ

ص: 384

أَيَّتُهَا الْجَارِيَةُ؟ قَالَتْ: أَنَا ابْنَةُ شَيْخٍ كَبِيرٍ فِي هَذَا الْبَيْتِ، فَنَادَىٰ الْفَتَىٰ الشَّيْخَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ تُزَوِّجُنِي ابْنَتَكَ هَذِهِ؟ قَالَ: مَا أَنْتَ بِمُتَزَوِّجٍ لِبَنَاتِ الْفُقَرَاءِ وَأَنْتَ فَتًى مِنَ الْأَغْنِيَاءِ، قَالَ: أَعْجَبَتْنِي هَذِهِ الْجَارِيَةُ، وَلَقَدْ خَرَجْتُ هَارِباً مِنِ امْرَأَةٍ ذَاتِ حَسَبٍ وَمَالٍ أَرَادُوا مِنِّي تَزْوِيجَهَا، فَكَرِهْتُهَا، فَزَوِّجْنِي ابْنَتَكَ فَإِنَّكَ وَاجِدٌ عِنْدِي خَيْراً إِنْ شَاءَ اللهُ.

قَالَ الشَّيْخُ: كَيْفَ أُزَوِّجُكَ ابْنَتِي وَنَحْنُ لَا تَطِيبُ أَنْفُسُنَا أَنْ تَنَقُلَهَا عَنَّا،وَلَا أَحْسَبُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَكَ يَرْضَوْنَ أَنْ تَنْقُلَهَا إِلَيْهِمْ؟ قَالَ الْفَتَىٰ: فَنَحْنُ مَعَكُمْ فِي مَنْزِلِكُمْ هَذَا، قَالَ الشَّيْخُ: إِنْ صَدَقْتَ فِيمَا تَقُولُ فَاطْرَحْ عَنْكَ زِيَّكَ وَحِلْيَتَكَ هَذِهِ، قَالَ: فَفَعَلَ الْفَتَىٰ ذَلِكَ وَأَخَذَ أَطْمَاراً رِثَّةً مِنْ أَطْمَارِهِمْ، فَلَبِسَهَا وَقَعَدَ مَعَهُمْ، فَسَأَلَهُ الشَّيْخُ عَنْ شَأْنِهِ وَعَرَضَ لَهُ بِالْحَدِيثِ حَتَّىٰ فَتَّشَ عَقْلَهُ، فَعَرَفَ أَنَّهُ صَحِيحُ الْعَقْلِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَىٰ مَا صَنَعَ السَّفَهُ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: أَمَّا إِذَا اخْتَرْتَنَا وَرَضِيتَ بِنَا فَقُمْ مَعِي إِلَىٰ هَذَا السَّرْبِ، فَأَدْخَلَهُ فَإِذَا خَلْفَ مَنْزِلِهِ بُيُوتٌ وَمَسَاكِنُ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا قَطُّ سَعَةً وَحُسْناً، وَلَهُ خَزَائِنُ مِنْ كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْهِ مَفَاتِيحَهُ وَقَالَ لَهُ: إِنَّ كُلَّ مَا هَاهُنَا لَكَ فَاصْنَعْ بِهِ مَا أَحْبَبْتَ، فَنِعْمَ الْفَتَىٰ أَنْتَ، وَأَصَابَ الْفَتَىٰ مَا كَانَ يُرِيدُهُ.

قَالَ يُوذَاسُفُ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا صَاحِبَ هَذَا المَثَلِ، إِنَّ الشَّيْخَ فَتَّشَ عَقْلَ هَذَا الْغُلَامَ حَتَّىٰ وَثِقَ بِهِ، فَلَعَلَّكَ تَطَوَّلُ بِي عَلَىٰ تَفْتِيشِ عَقْلِي فَأَعْلِمْنِي مَا عِنْدَكَ فِي ذَلِكَ.

قَالَ الْحَكِيمُ: لَوْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ إِلَيَّ لَاكْتَفَيْتُ مِنْكَ بِأَدْنَىٰ المُشَافَهَةِ، وَلَكِنَّ فَوْقَ رَأْسِي سُنَّةً قَدْ سَنَّهَا أَئِمَّةُ الْهُدَىٰ فِي بُلُوغِ الْغَايَةِ فِي التَّوْفِيقِ، وَعِلْمِ مَا فِي الصُّدُورِ، فَأَنَا أَخَافُ إِنْ خَالَفْتُ السُّنَّةَ أَنْ أَكُونَ قَدْ أَحْدَثْتُ بِدْعَةً، وَأَنَا مُنْصَرِفٌ عَنْكَ اللَّيْلَةَ وَحَاضِرٌ بَابَكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، فَفَكِّرْ فِي نَفْسِكَ بِهَذَا وَاتَّعِظْ بِهِ، وَلْيَحْضُرْكَ فَهْمُكَ وَتَثَبَّتَ، وَلَا تَعْجَلْ بِالتَّصْدِيقِ لِمَا يُورِدُهُ عَلَيْكَ هَمُّكَ حَتَّىٰ تَعْلَمَهُ بَعْدَ التُّؤَدَةِ

ص: 385

والْأَنَاةِ، وَعَلَيْكَ بِالْاِحْتِرَاسِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَغْلِبَكَ الْهَوَىٰ وَالمَيْلُ إِلَىٰ الشُّبْهَةِ وَالْعَمَىٰ، وَاجْتَهِدْ فِي المَسَائِلِ الَّتِي تَظُنُّ أَنَ فِيهَا شُبْهَةً، ثُمَّ كَلِّمْنِي فِيهَا وَأَعْلِمْنِي رَأْيَكَ فِي الْخُرُوجِ إِذَا أَرَدْتَ، وَافْتَرَقَا عَلَىٰ هَذَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ.

ثُمَّ عَادَ الْحَكِيمُ إِلَيْهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُ، ثُمَّ جَلَسَ، فَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ أَنْقَالَ: أَسْأَلُ اللهَ الْأَوَّلَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ شَيْءٌ، وَالْآخِرَ الَّذِي لَا يَبْقَىٰ مَعَهُ شَيْءٌ، وَالْبَاقِيَ الَّذِي لَا مُنْتَهَىٰ لَهُ، وَالْوَاحِدَ الْفَرْدَ الصَّمَدَ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، وَالْقَاهِرَ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ، الْبَدِيعَ الَّذِي لَا خَالِقَ مَعَهُ، الْقَادِرَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ ضِدٌّ، الصَّمَدَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ نِدٌّ، المَلِكَ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ أَنْ يَجْعَلَكَ مَلِكاً عَدْلاً، إِمَاماً فِي الْهُدَىٰ، قَائِداً إِلَىٰ التَّقْوَىٰ، وَمُبْصِراً مِنَ الْعَمَىٰ، وَزَاهِداً فِي الدُّنْيَا، وَمُحِبًّا لِذَوِي النُّهَىٰ، وَمُبْغِضاً لِأَهْلِ الرَّدَىٰ حَتَّىٰ يُفْضِيَ بِنَا وَبِكَ إِلَىٰ مَا وَعَدَ اللهُ أَوْلِيَاءَهُ عَلَىٰ أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ مِنْ جَنَّتِهِ وَرِضْوَانِهِ، فَإِنَّ رَغْبَتَنَا إِلَىٰ اللهِ فِي ذَلِكَ سَاطِعَةٌ، وَرَهْبَتَنَا مِنْهُ بَاطِنَةٌ، وَأَبْصَارَنَا إِلَيْهِ شَاخِصَةٌ(1)، وَأَعْنَاقَنَا لَهُ خَاضِعَةٌ، وَأُمُورَنَا إِلَيْهِ صَائِرَةٌ.

فَرَقَّ ابْنُ المَلِكِ لِذَلِكَ الدُّعَاءِ رِقَّةً شَدِيدَةً، وَازْدَادَ فِي الْخَيْرِ رَغْبَةً، وَقَالَ مُتَعَجِّباً مِنْ قَوْلِهِ: أَيُّهَا الْحَكِيمُ، أَعْلِمْنِي كَمْ أَتَىٰ لَكَ مِنَ الْعُمُرِ؟ فَقَالَ: اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، فَارْتَاعَ لِذَلِكَ، وَقَالَ: ابْنُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً طِفْلٌ وَأَنْتَ مَعَ مَا أَرَىٰ مِنَ التَّكَهُّلِ لِابْنِ سِتِّينَ سَنَةً.

قَالَ الْحَكِيمُ: أَمَّا المَوْلِدُ فَقَدْ رَاهَقَ السِّتِّينَ سَنَةً، وَلَكِنَّكَ سَأَلْتَنِي عَنِ الْعُمُرِ وَإِنَّمَا الْعُمُرُ الْحَيَاةُ، وَلَا حَيَاةَ إِلَّا فِي الدِّينِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَالتَّخَلِّي مِنَ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِي إِلَّا مِنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنِّي كُنْتُ مَيِّتاً، وَلَسْتُ أَعْتَدُّ فِي عُمُرِي بِأَيَّامِ المَوْتِ.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: كَيْفَ تَجْعَلُ الْآكِلَ وَالشَّارِبَ وَالمُتَقَلِّبَ مَيِّتاً؟

ص: 386


1- في بعض النُّسَخ: (وأبصارنا إليه خاشعة).

قَالَ الْحَكِيمُ: لِأَنَّهُ شَارَكَ المَوْتَىٰ فِي الْعَمَىٰ وَالصَّمِّ وَالْبَكَمِ وَضَعْفِ الْحَيَاةِ وَقِلَّةِ الْغِنَىٰ، فَلَمَّا شَارَكَهُمْ فِي الصِّفَةِ وَافَقَهُمْ فِي الْاِسْمِ.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: لَئِنْ كُنْتَ لَا تَعُدَّ حَيَاةً وَلَا غِبْطَةً مَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعُدَّ مَايَتَوَقَّعُ مِنَ المَوْتِ مَوْتاً، وَلَا تَرَاهُ مَكْرُوهاً.

قَالَ الْحَكِيمُ: تَغْرِيرِي فِي الدُّخُولِ عَلَيْكَ بِنَفْسِي يَا ابْنَ المَلِكِ مَعَ عِلْمِي لِسَطْوَةِ أَبِيكَ عَلَىٰ أَهْلِ دِينِي يَدُلُّكَ عَلَىٰ أَنِّي [لَا أَرَىٰ المَوْتَ مَوْتاً] وَلَا أَرَىٰ هَذِهِ الْحَيَاةَ حَيَاةً، وَلَا مَا أَتَوَقَّعُ مِنَ المَوْتِ مَكْرُوهاً، فَكَيْفَ يَرْغَبُ فِي الْحَيَاةِ مَنْ قَدْ تَرَكَ حَظَّهُ مِنْهَا؟ أَوْ يَهْرُبُ مِنَ المَوْتِ مَنْ قَدْ أَمَاتَ نَفْسَهُ بِيَدِهِ؟ أَوَلَا تَرَىٰ يَا ابْنَ المَلِكِ أَنَّ صَاحِبَ الدِّينِ قَدْ رَفَضَ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَمَا لَا يَرْغَبُ فِي الْحَيَاةِ إِلَّا لَهُ(1) وَاحْتَمَلَ مِنْ نَصَبِ الْعِبَادَةِ مَا لَا يُرِيحُهُ مِنْهُ إِلَّا المَوْتُ، فَمَا حَاجَةُ مَنْ لَا يَتَمَتَّعُ بِلَذَّةِ الْحَيَاةِ إِلَىٰ الْحَيَاةِ؟ أَوْ مَهْرَبُ مَنْ لَا رَاحَةَ لَهُ إِلَّا فِي المَوْتِ مِنَ المَوْتِ؟

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: صَدَقْتَ أَيُّهَا الْحَكِيمُ، فَهَلْ يَسُرُّكَ أَنْ يَنْزِلَ بِكَ المَوْتُ مِنْ غَدٍ؟

قَالَ الْحَكِيمُ: بَلْ يَسُرُّنِي أَنْ يَنْزِلَ بِيَ اللَّيْلَةَ دُونَ غَدٍ، فَإِنَّهُ مَنْ عَرَفَ السَّيِّئَ وَالْحَسَنَ وَعَرَفَ ثَوَابَهُمَا مِنَ اللهِ (عزوجل) تَرَكَ السَّيِّئَ مَخَافَةَ عِقَابِهِ، وَعَمِلَ بِالْحَسَنِ رَجَاءَ ثَوَابِهِ، وَمَنْ كَانَ مُوقِناً بِاللهِ وَحْدَهُ مُصَدِّقاً بِوَعْدِهِ فَإِنَّهُ يُحِبُّ المَوْتَ لِمَا يَرْجُو بَعْدَ المَوْتِ مِنَ الرَّخَاءِ وَيَزْهَدُ فِي الْحَيَاةِ لِمَا يَخَافُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَالمَعْصِيَةِ لِلهِ فِيهَا، فَهُوَ يُحِبُّ المَوْتَ مُبَادِرَةً مِنْ ذَلِكَ.

فَقَالَ ابْنُ المَلِكِ: إِنَّ هَذَا لَخَلِيقٌ أَنْ يُبَادِرَ الْهَلَكَةَ لِمَا يَرْجُو فِي ذَلِكَ مِنَ النَّجَاةِ، فَاضْرِبْ لِي مَثَلَ أُمَّتِنَا هَذِهِ وَعُكُوفِهَا عَلَىٰ أَصْنَامِهَا.

قَالَ الْحَكِيمُ: إِنَّ رَجُلاً كَانَ لَهُ بُسْتَانٌ يَعْمُرُهُ وَيُحْسِنُ الْقِيَامَ عَلَيْهِ إِذْ رَأَىٰ فِي بُسْتَانِهِ ذَاتَ يَوْمٍ عُصْفُوراً وَاقِعاً عَلَىٰ شَجَرَةٍ مِنْ شَجَرِ الْبُسْتَانِ يُصِيبُ مِنْثَمَرِهَا،

ص: 387


1- في بعض النُّسَخ: (ما لا يرغب فيها مالاً إلَّا له).

فَغَاضَهُ ذَلِكَ، فَنَصَبَ فَخًّا فَصَادَهُ، فَلَمَّا هَمَّ بِذَبْحِهِ أَنْطَقَهُ اللهُ (عزوجل) بِقُدْرَتِهِ، فَقَالَ لِصَاحِبِ الْبُسْتَانِ: إِنَّكَ تَهْتَمُّ بِذَبْحِي وَلَيْسَ فِيَّ مَا يُشْبِعُكَ مِنْ جُوعٍ وَلَا يُقَوِّيكَ مِنْ ضَعْفٍ، فَهَلْ لَكَ فِيَّ خَيْرٌ مِمَّا هَمَمْتَ بِهِ؟ قَالَ الرَّجُلُ: مَا هُوَ؟ قَالَ الْعُصْفُورُ: تُخَلِّي سَبِيلِي وَأُعَلِّمُكَ ثَلَاثَ كَلِمَاتٍ إِنْ أَنْتَ حَفِظْتَهُنَّ كُنَّ خَيْراً لَكَ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ هُوَ لَكَ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ فَأَخْبِرْنِي بِهِنَّ، قَالَ الْعُصْفُورُ: احْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ: لَا تَأْسَ عَلَىٰ مَا فَاتَكَ، وَلَا تُصَدِّقَنَّ بِمَا لَا يَكُونُ، وَلَا تَطْلُبَنَّ مَا لَا تُطِيقُ، فَلَمَّا قَضَىٰ الْكَلِمَاتِ خَلَّىٰ سَبِيلَهُ، فَطَارَ فَوَقَعَ عَلَىٰ بَعْضِ الْأَشْجَارِ، ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: لَوْ تَعْلَمُ مَا فَاتَكَ مِنِّي لَعَلِمْتَ أَنَّكَ قَدْ فَاتَكَ مِنِّي عَظِيمٌ جَسِيمٌ مِنَ الْأَمْرِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ الْعُصْفُورُ: لَوْ كُنْتَ مَضَيْتَ عَلَىٰ مَا هَمَمْتَ بِهِ مِنْ ذَبْحِي لَاسْتَخْرَجْتَ مِنْ حَوْصَلَتِي دُرَّةً كَبَيْضَةِ الْوَزَّةِ، فَكَانَ لَكَ فِي ذَلِكَ غِنَىٰ الدَّهْرِ، فَلَمَّا سَمِعَ الرَّجُلُ مِنْهُ ذَلِكَ أَسَرَّ فِي نَفْسِهِ نَدَماً عَلَىٰ مَا فَاتَهُ، وَقَالَ: دَعْ عَنْكَ مَا مَضَىٰ، وَهَلُمَّ أَنْطَلِقْ بِكَ إِلَىٰ مَنْزِلِي فَأُحْسِنَ صُحْبَتَكَ وَأُكْرِمَ مَثْوَاكَ، فَقَالَ لَهُ الْعُصْفُورُ: أَيُّهَا الْجَاهِلُ، مَا أَرَاكَ حَفِظْتَنِي إِذَا ظَفِرْتَ بِي، وَلَا انْتَفَعْتَ بِالْكَلِمَاتِ الَّتِي افْتَدَيْتُ بِهَا مِنْكَ نَفْسِي، أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكَ أَلَّا تَأْسَ عَلَىٰ مَا فَاتَكَ، وَلَا تُصَدِّقْ مَا لَا يَكُونُ، وَلَا تَطْلُبْ مَا لَا يُدْرَكُ؟ أَمَّا أَنْتَ مُتَفَجِّعٌ عَلَىٰ مَا فَاتَكَ وَتَلْتَمِسُ مِنِّي رَجْعَتِي إِلَيْكَ وَتَطْلُبُ مَا لَا تُدْرِكُ وَتُصَدِّقُ أَنَّ فِي حَوْصَلَتِي دُرَّةً كَبَيْضَةِ الْوَزَّةِ وَجَمِيعِي أَصْغَرُ مِنْ بَيْضِهَا، وَقَدْ كُنْتُ عَهِدْتُ إِلَيْكَ أَنْ لَا تُصَدِّقَ بِمَا لَا يَكُونُ، وَأَنَّ أُمَّتَكُمْ صَنَعُوا أَصْنَامَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ زَعَمُوا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي خَلَقَتْهُمْ، وَحَفِظُوهَا مِنْ أَنْ تُسْرَقَ مَخَافَةً عَلَيْهَا وَزَعَمُوا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَحْفَظُهُمْ، وَأَنْفَقُوا عَلَيْهَا مِنْ مَكَاسِبِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَزَعَمُوا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَرْزُقُهُمْ، فَطَلَبُوا مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُدْرَكُ، وَصَدَّقُوا بِمَا لَا يَكُونُ، فَلَزِمَهُمْ مِنْهُ مَا لَزِمَ صَاحِبَ الْبُسْتَانِ.قَالَ ابْنُ المَلِكِ: صَدَقْتَ أَمَّا الْأَصْنَامُ فَإِنِّي لَمْ أَزَلْ عَارِفاً بِأَمْرِهَا، زَاهِداً فِيهَا، آيِساً مِنْ خَيْرِهَا، فَأَخْبِرْنِي بِالَّذِي تَدْعُونِي إِلَيْهِ وَالَّذِي ارْتَضَيْتَهُ لِنَفْسِكَ مَا هُوَ؟

ص: 388

قَالَ بِلَوْهَرُ: جِمَاعُ الدِّينِ أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا مَعْرِفَةُ اللهِ (عزوجل)، وَالْآخَرُ الْعَمَلُ بِرِضْوَانِهِ.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: وَكَيْفَ مَعْرِفَةُ اللهِ (عزوجل)؟

قَالَ الْحَكِيمُ: أَدْعُوكَ إِلَىٰ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ وَاحِدٌ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ، لَمْ يَزَلْ فَرْداً رَبًّا وَمَا سِوَاهُ مَرْبُوبٌ، وَأَنَّهُ خَالِقٌ وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ، وَأَنَّهُ قَدِيمٌ وَمَا سِوَاهُ مُحْدَثٌ، وَأَنَّهُ صَانِعٌ وَمَا سِوَاهُ مَصْنُوعٌ، وَأَنَّهُ مُدَبِّرٌ وَمَا سِوَاهُ مُدَبَّرٌ، وَأَنَّهُ بَاقٍ وَمَا سِوَاهُ فَانٍ، وَأَنَّهُ عَزِيزٌ وَمَا سِوَاهُ ذَلِيلٌ، وَأَنَّهُ لَا يَنَامُ وَلَا يَغْفُلُ وَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَلَا يَضْعُفُ وَلَا يُغْلَبُ وَلَا يَضْجَرُ، وَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، لَمْ تَمْتَنِعْ مِنْهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْهَوَاءُ وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ، وَأَنَّهُ كَوَّنَ الْأَشْيَاءَ لَا مِنْ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ، وَلَا تُحْدِثُ فِيهِ الْحَوَادِثُ، وَلَا تُغَيِّرُهُ الْأَحْوَالُ، وَلَا تُبَدِّلُهُ الْأَزْمَانُ، وَلَا يَتَغَيَّرُ مِنْ حَالٍ إِلَىٰ حَالٍ، وَلَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ، وَلَا يَشْتَغِلُ بِهِ مَكَانٌ، وَلَا يَكُونُ مِنْ مَكَانٍ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَىٰ مَكَانٍ، وَلَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ، عَالِمٌ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ، قَدِيرٌ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ، وَأَنْ تَعْرِفَهُ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ، وَأَنَّ لَهُ ثَوَاباً أَعَدَّهُ لِمَنْ أَطَاعَهُ، وَعَذَاباً أَعَدَّهُ لِمَنْ عَصَاهُ، وَأَنْ تَعْمَلَ لِلهِ بِرِضَاهُ، وَتَجْتَنِبَ سَخَطَهُ.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: فَمَا رِضَا الْوَاحِدِ الْخَالِقِ مِنَ الْأَعْمَالِ؟

قَالَ الْحَكِيمُ: يَا ابْنَ المَلِكِ، رِضَاهُ أَنْ تُطِيعَهُ وَلَا تَعْصِيَهُ، وَأَنْ تَأْتِيَ إِلَىٰ غَيْرِكَ مَا تُحِبُّ أَنْ يُؤْتَىٰ إِلَيْكَ، وَتَكُفَّ عَنْ غَيْرِكَ مَا تُحِبُّ أَنْ يُكَفَّ عَنْكَ فِي مِثْلِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَدْلٌ وَفِي الْعَدْلِ رِضَاهُ، وَفِي اتِّبَاعِ آثَارِ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ بِأَنْلَا تَعْدُوَ سُنَّتَهُمْ.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: زِدْنِي أَيُّهَا الْحَكِيمُ تَزْهِيداً فِي الدُّنْيَا وَأَخْبِرْنِي بِحَالِهَا.

قَالَ الْحَكِيمُ: إِنِّي لَمَّا رَأَيْتُ الدُّنْيَا دَارَ تَصَرُّفٍ وَزَوَالٍ وَتَقَلُّبٍ مِنْ حَالٍ إِلَىٰ حَالٍ، وَرَأَيْتُ أَهْلَهَا فِيهَا أَغْرَاضاً لِلْمَصَائِبِ، وَرَهَائِنَ لِلْمَتَالِفِ، وَرَأَيْتُ صِحَّةً بَعْدَهَا سُقْماً، وَشَبَاباً بَعْدَهُ هَرَماً، وَغِنًى بَعْدَهُ فَقْراً، وَفَرَحاً بَعْدَهُ حُزْناً، وَعِزًّا بَعْدَهُ

ص: 389

ذُلًّا، وَرَخَاءً بَعْدَهُ شِدَّةً، وَأَمْناً بَعْدَهُ خَوْفاً، وَحَيَاةً بَعْدَهَا مَمَاتاً، وَرَأَيْتُ أَعْمَاراً قَصِيرَةً، وَحُتُوفاً رَاصِدَةً(1)، وَسِهَاماً قَاصِدَةً، وَأَبْدَاناً ضَعِيفَةً مُسْتَسْلِمَةً غَيْرَ مُمْتَنِعَةٍ وَلَا حَصِينَةٍ، عَرَفْتُ أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ بَالِيَةٌ فَانِيَةٌ، وَعَرَفْتُ بِمَا ظَهَرَ لِي مِنْهَا مَا غَابَ عَنِّي مِنْهَا، وَعَرَفْتُ بِظَاهِرِهَا بَاطِنَهَا، وَغَامِضَهَا بِوَاضِحِهَا، وَسِرَّهَا بِعَلَانِيَتِهَا، وَصُدُورَهَا بِوُرُودِهَا، فَحَذَرْتُهَا لِمَا عَرَفْتُهَا، وَفَرَرْتُ مِنْهَا لِمَا أَبْصَرْتُهَا، بَيْنَا تَرَىٰ المَرْءَ فِيهَا مُغْتَبِطاً مَحْبُوراً(2) وَمَلِكاً مَسْرُوراً(3) فِي خَفْضٍ وَدَعَةٍ وَنِعْمَةٍ وَسَعَةٍ فِي بَهْجَةٍ مِنْ شَبَابِهِ، وَحَدَاثَةٍ مِنْ سِنِّهِ، وَغِبْطَةٍ مِنْ مُلْكِهِ، وَبَهَاءٍ مِنْ سُلْطَانِهِ، وَصِحَّةٍ مِنْ بَدَنِهِ إِذَا انْقَلَبَتِ الدُّنْيَا بِهِ أَسَرَّ مَا كَانَ فِيهَا نَفْساً، وَأَقَرَّ مَا كَانَ فِيهَا عَيْناً، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ مُلْكِهَا وَغِبْطَتِهَا وَخَفْضِهَا وَدَعَتِهَا وَبَهْجَتِهَا، فَأَبْدَلَتْهُ بِالْعِزِّ ذُلًّا، وَبِالْفَرَحِ تَرَحاً، وَبِالسُّرُورِ حُزْناً، وَبِالنِّعْمَةِ بُؤْساً، وَبِالْغِنَىٰ فَقْراً، وَبِالسَّعَةِ ضِيقاً، وَبِالشَّبَابِ هَرَماً، وَبِالشَّرَفِ ضَعَةً، وَبِالْحَيَاةِ مَوْتاً، فَدَلَّتْهُ فِي حُفْرَةٍ ضَيِّقَةٍ شَدِيدَةِ الْوَحْشَةِ، وَحِيداً فَرِيداً غَرِيباً قَدْ فَارَقَ الْأَحِبَّةَ وَفَارَقُوهُ، وَخَذَلَهُ إِخْوَانُهُ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ مَنْعاً، وَغَرَّهُ أَعْدَاؤُهُ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ دَفْعاً، وَصَارَ عِزُّهُ وَمُلْكُهُ وَأَهْلُهُ وَمَالُهُنُهْبَةً مِنْ بَعْدِهِ، كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا سَاعَةً قَطُّ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا خَطَرٌ، وَلَمْ يَمْلِكْ مِنَ الْأَرْضِ حَظًّا قَطُّ، فَلَا تَتَّخِذُهَا يَا ابْنَ المَلِكِ دَاراً، وَلَا تَتَّخِذَنَّ فِيهَا عُقْدَةً(4) وَلَا عَقَاراً، فَأُفٍّ لَهَا وَتُفٍّ.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: أُفٍّ لَهَا وَلِمَنْ يَغْتَرُّ بِهَا إِذَا كَانَ هَذَا حَالَهَا.

وَرَقَّ ابْنُ المَلِكِ وَقَالَ: زِدْنِي أَيُّهَا الْحَكِيمُ مِنْ حَدِيثِكَ فَإِنَّهُ شِفَاءٌ لِمَا فِي صَدْرِي.

ص: 390


1- الحتف: الموت من غير قتل، والجمع حتوف. والراصد: المراقب.
2- أي مسروراً. والحبر - بفتح الحاء وكسرها -: السرور، والجمع حبور وأحبار.
3- في بعض النُّسَخ: (مشعوفاً).
4- العقدة: الضيعة، وهي المتاع والعقار.

قَالَ الْحَكِيمُ: إِنَّ الْعُمُرَ قَصِيرٌ، وَاللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يُسْرِعَانِ فِيهِ، وَالْاِرْتِحَالَ مِنَ الدُّنْيَا حَثِيثٌ قَرِيبٌ، وَإِنَّهُ وَإِنْ طَالَ الْعُمُرُ فِيهَا فَإِنَّ المَوْتَ نَازِلٌ، وَالظَّاعِنَ لَا مَحَالَةَ رَاحِلٌ، فَيَصِيرُ مَا جَمَعَ فِيهَا مُفَرَّقاً، وَمَا عَمِلَ فِيهَا مُتَبَّراً، وَمَا شَيَّدَ فِيهَا خَرَاباً، وَيَصِيرُ اسْمُهُ مَجْهُولاً، وَذِكْرُهُ مَنْسِيًّا، وَحَسَبُهُ خَامِلاً، وَجَسَدُهُ بَالِياً، وَشَرَفُهُ وَضِيعاً، وَنِعْمَتُهُ وَبَالاً، وَكَسْبُهُ خَسَاراً، وَيُورَثُ سُلْطَانُهُ، وَيُسْتَذَلُّ عَقِبُهُ، وَيُسْتَبَاحُ حَرِيمُهُ، وَتُنْقَضُ عُهُودُهُ، وَتُخْفَرُ ذِمَّتُهُ، وَتُدْرَسُ آثَارُهُ، وَيُوَزَّعُ مَالُهُ، وَيُطْوَىٰ رَحْلُهُ، وَيَفْرَحُ عَدُوُّهُ، وَيَبِيدُ مُلْكُهُ، وَيُورَثُ تَاجُهُ، وَيُخْلَفُ عَلَىٰ سَرِيرِهِ، وَيُخْرَجُ مِنْ مَسَاكِنِهِ مَسْلُوباً مَخْذُولاً، فَيُذْهَبُ بِهِ إِلَىٰ قَبْرِهِ، فَيُدْلَىٰ فِي حُفْرَتِهِ فِي وَحْدَةٍ وَغُرْبَةٍ وَظُلْمَةٍ وَوَحْشَةٍ وَمَسْكَنَةٍ وَذِلَّةٍ، قَدْ فَارَقَ الْأَحِبَّةَ وَأَسْلَمَتْهُ الْعَصَبَةُ، فَلَا تُؤْنَسُ وَحْشَتُهُ أَبَداً، وَلَا تُرَدُّ غُرْبَتُهُ أَبَداً، وَاعْلَمْ أَنَّهَا يَحِقُّ عَلَىٰ المَرْءِ اللَّبِيبِ مِنْ سِيَاسَةِ نَفْسِهِ خَاصَّةً كَسِيَاسَةِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ الْحَازِمِ الَّذِي يُؤَدِّبُ الْعَامَّةَ، وَيَسْتَصْلِحُ الرَّعِيَّةَ، وَيَأْمُرُهُمْ بِمَا يُصْلِحُهُمْ، وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا يُفْسِدُهُمْ، ثُمَّ يُعَاقِبُ مَنْ عَصَاهُ مِنْهُمْ، وَيُكْرِمُ مَنْ أَطَاعَهُ مِنْهُمْ، فَكَذَلِكَ لِلرَّجُلِ اللَّبِيبِ أَنْ يُؤَدِّبَ نَفْسَهُ فِي جَمِيعِ أَخْلَاقِهَا وَأَهْوَائِهَا وَشَهَوَاتِهَاوَأَنْ تَحْمِلَهَا وَإِنْ كَرِهَتْ عَلَىٰ لُزُومِ مَنَافِعِهَا فِيمَا أَحَبَّتْ وَكَرِهَتْ، وَعَلَىٰ اجْتِنَابِ مَضَارِّهَا، وَأَنْ يَجْعَلَ لِنَفْسِهِ عَنْ نَفْسِهِ ثَوَاباً وَعِقَاباً مِنْ مَكَانِهَا مِنَ السُّرُورِ إِذَا أَحْسَنَتْ، وَمِنْ مَكَانِهَا مِنَ الْغَمِّ إِذَا أَسَاءَتْ، وَمِمَّا يَحِقُّ عَلَىٰ ذِي الْعَقْلِ النَّظَرُ فِيمَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِهِ، وَالْأَخْذُ بِصَوَابِهَا، وَيَنْهَىٰ نَفْسَهُ عَنْ خَطَائِهَا، وَأَنْ يَحْتَقِرَ عَمَلَهُ وَنَفْسَهُ فِي رَأْيِهِ لِكَيْ لَا يَدْخُلَهُ عُجْبٌ، فَإِنَّ اللهَ (عزوجل) قَدْ مَدَحَ أَهْلَ الْعَقْلِ وَذَمَّ أَهْلَ الْعُجْبِ وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ، وَبِالْعَقْلِ يُدْرَكُ كُلُّ خَيْرٍ بِإِذْنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ، وَبِالْجَهْلِ تَهْلِكُ النُّفُوسُ، وَإِنَّ مِنْ أَوْثَقِ الثِّقَاتِ عِنْدَ ذَوِي الْأَلْبَابِ مَا أَدْرَكَتْهُ اَلْعُقُولُ، وَبَلَغَتْهُ تَجَارِبُهُمْ، وَنَالَتْهُ أَبْصَارُهُمْ فِي التَّرْكِ لِلْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ، وَلَيْسَ ذُو الْعَقْلِ بِجَدِيرٍ أَنْ يَرْفُضَ مَا قَوِيَ عَلَىٰ حِفْظِهِ مِنَ الْعَمَلِ احْتِقَاراً لَهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَىٰ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ

ص: 391

أَسْلِحَةِ الشَّيْطَانِ الْغَامِضَةِ الَّتِي لَا يُبْصِرُهَا إِلَّا مَنْ تَدَبَّرَهَا، وَلَا يَسْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللهُ مِنْهَا، وَمِنْ رَأْسِ أَسْلِحَتِهِ سِلَاحَانِ أَحَدُهُمَا إِنْكَارُ الْعَقْلِ أَنْ يُوقِعَ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ الْعَاقِلِ أَنَّهُ لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا بَصَرَ وَلَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي عَقْلِهِ وَبَصَرِهِ، وَيُرِيدُ أَنْ يَصُدَّهُ عَنْ مَحَبَّةِ الْعِلْمِ وَطَلَبِهِ، ويُزَيِّنَ لَهُ الْاِشْتِغَالَ بِغَيْرِهِ مِنْ مَلَاهِي الدُّنْيَا، فَإِنِ اتَّبَعَهُ الْإِنْسَانُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَهُوَ ظَفَرُهُ، وَإِنْ عَصَاهُ وَغَلَبَهُ فَزِعَ إِلَىٰ السِّلَاحِ الْآخَرِ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْإِنْسَانَ إِذَا عَمِلَ شَيْئاً وَأَبْصَرَ عَرَضَ لَهُ بِأَشْيَاءَ لَا يُبْصِرُهَا لِيَغُمَّهُ وَيُضْجِرَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ حَتَّىٰ يُبَغِّضَ إِلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ بِتَضْعِيفِ عَقْلِهِ عِنْدَهُ، وَبِمَا يَأْتِيهِ مِنَ الشُّبْهَةِ، وَيَقُولُ: أَلَسْتَ تَرَىٰ أَنَّكَ لَا تَسْتَكْمِلُ هَذَا الْأَمْرَ وَلَا تُطِيقُهُ أَبَداً، فَبِمَ تَعْنِي نَفْسَكَ وَتُشْقِيهَا فِيمَا لَا طَاقَةَ لَكَ بِهِ، فَبِهَذَا السِّلَاحِ صَرَعَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ، فَاحْتَرِسْ مِنْ أَنْ تَدَعَ اكْتِسَابَ عِلْمِ مَا تَعْلَمُهُ وَأَنْ تُخْدَعَ عَمَّا اكْتَسَبْتَ مِنْهُ، فَإِنَّكَ فِي دَارٍ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَىٰ أَكْثَرِ أَهْلِهَا الشَّيْطَانُ بِأَلْوَانِ حِيَلِهِ وَوُجُوهِضَلَالَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ ضَرَبَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَعَقْلِهِ وَقَلْبِهِ فَتَرَكَهُ لَا يَعْلَمُ شَيْئاً، وَلَا يَسْأَلُ عَنْ عِلْمِ مَا يَجْهَلُ مِنْهُ كَالْبَهِيمَةِ، وَإِنَّ لِعَامَّتِهِمْ أَدْيَاناً مُخْتَلِفَةً، فَمِنْهُمُ المُجْتَهِدُونَ فِي الضَّلَالَةِ حَتَّىٰ إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَسْتَحِلُّ دَمَ بَعْضٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَيُمَوِّهُ ضَلَالَتَهُمْ بِأَشْيَاءَ مِنَ الْحَقِّ لِيَلْبِسَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ، وَيُزَيِّنَهُ لِضَعِيفِهِمْ، وَيَصُدَّهُمْ عَنِ الدِّينِ الْقَيِّمِ، فَالشَّيْطَانُ وَجُنُودُهُ دَائِبُونَ فِي إِهْلَاكِ النَّاسِ، وَتَضْلِيلِهِمْ لَا يَسْأَمُونَ، وَلَا يَفْتُرُونَ وَلَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إِلَّا اللهُ، وَلَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُ مَكَائِدِهِمْ إِلَّا بِعَوْنٍ مِنَ اللهِ (عزوجل) وَالْاِعْتِصَامِ بِدِينِهِ، فَنَسْأَلُ اللهَ تَوْفِيقاً لِطَاعَتِهِ وَنَصْراً عَلَىٰ عَدُوِّنَا، فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: صِفْ لِيَ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ حَتَّىٰ كَأَنِّي أَرَاهُ.

قَالَ: إِنَّ اللهَ تَقَدَّسَ ذِكْرُهُ لَا يُوصَفُ بِالرُّؤْيَةِ، وَلَا يُبْلَغُ بِالْعُقُولِ كُنْهَ صِفَتِهِ، وَلَا تَبْلُغُ الْأَلْسُنُ كُنْهَ مِدْحَتِهِ، وَلَا يُحِيطُ الْعِبَادُ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا عَلَّمَهُمْ مِنْهُ عَلَىٰ

ص: 392

أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ (علیهم السلام) بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلَا تُدْرِكُ الْأَوْهَامُ عِظَمَ رُبُوبِيَّتِهِ، هُوَ أَعْلَىٰ مِنْ ذَلِكَ وَأَجَلُّ وَأَعَزُّ وَأَعْظَمُ وَأَمْنَعُ وَأَلْطَفُ، فَبَاحَ لِلْعِبَادِ مِنْ عِلْمِهِ بِمَا أَحَبَّ، وَأَظْهَرَهُمْ مِنْ صِفَتِهِ عَلَىٰ مَا أَرَادَ، وَدَلَّهُمْ عَلَىٰ مَعْرِفَتِهِ وَمَعْرِفَةِ رُبُوبِيَّتِهِ بِإِحْدَاثِ مَا لَمْ يَكُنْ، وَإِعْدَامِ مَا أَحْدَثَ.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: وَمَا الْحُجَّةُ؟

قَالَ: إِذَا رَأَيْتَ شَيْئاً مَصْنُوعاً غَابَ عَنْكَ صَانِعُهُ عَلِمْتَ بِعَقْلِكَ أَنَّ لَهُ صَانِعاً، فَكَذَلِكَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا بَيْنَهُمَا، فَأَيُّ حَجَّةٍ أَقْوَىٰ مِنْ ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: فَأَخْبِرْنِي أَيُّهَا الْحَكِيمُ أَبِقَدَرٍ مِنَ اللهِ (عزوجل) يُصِيبُ النَّاسَ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْأَسْقَامِ وَالْأَوْجَاعِ وَالْفَقْرِ وَالمَكَارِهِ أَوْ بِغَيْرِ قَدَرٍ.

قَالَ بِلَوْهَرُ: لَا بَلْ بِقَدَرٍ.

قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ.قَالَ: إِنَّ اللهَ (عزوجل) مِنْ سَيِّئِ أَعْمَالِهِمْ بَرِيءٌ، وَلَكِنَّهُ (عزوجل) أَوْجَبَ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَالْعِقَابَ الشَّدِيدَ لِمَنْ عَصَاهُ.

قَالَ: فَأَخْبِرْنِي مَنْ أَعْدَلُ النَّاسِ، وَمَنْ أَجْوَرُهُمْ، وَمَنْ أَكْيَسُهُمْ، وَمَنْ أَحْمَقُهُمْ، وَمَنْ أَشْقَاهُمْ، وَمَنْ أَسْعَدُهُمْ؟

قَالَ: أَعْدَلُهُمْ أَنْصَفُهُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَجْوَرُهُمْ مَنْ كَانَ جَوْرُهُ عِنْدَهُ عَدْلاً وَعَدْلُ أَهْلِ الْعَدْلِ عِنْدَهُ جَوْراً، وَأَمَّا أَكْيَسُهُمْ فَمَنْ أَخَذَ لِآخِرَتِهِ أُهْبَتَهَا(1)، وَأَحْمَقُهُمْ مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، وَالْخَطَايَا عَمَلَهُ، وَأَسْعَدُهُمْ مَنْ خُتِمَ عَاقِبَةَ عَمَلِهِ بِخَيْرٍ، وَأَشْقَاهُمْ مَنْ خُتِمَ لَهُ بِمَا يُسْخِطُ اللهَ (عزوجل).

ثُمَّ قَالَ: مَنْ دَانَ النَّاسَ بِمَا إِنْ دُيِّنَ بِمِثْلِهِ هَلَكَ، فَذَلِكَ المُسْخِطُ لِلهِ المُخَالِفُ لِمَا يُحِبُّ، وَمَنْ دَانَهُمْ بِمَا إِنْ دُيِّنَ بِمِثْلِهِ صَلَحَ، فَذَلِكَ المُطِيعُ لِلهِ المُوَافِقُ لِمَا يُحِبُّ

ص: 393


1- الأُهبة: العدَّة، يقال: أخذ للسفر أُهبته أي أسبابه.

المُجْتَنِبُ لِسَخَطِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَا تَسْتَقْبِحَنَّ الْحَسَنَ وَإِنْ كَانَ فِي الْفُجَّارِ، وَلَا تَسْتَحْسِنَنَّ الْقَبِيحَ وَإِنْ كَانَ فِي الْأَبْرَارِ.

ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي أَيُّ النَّاسِ أَوْلَىٰ بِالسَّعَادَةِ؟ وَأَيُّهُمْ أَوْلَىٰ بِالشَّقَاوَةِ؟

قَالَ بِلَوْهَرُ: أَوْلَاهُمْ بِالسَّعَادَةِ المُطِيعُ لِلهِ (عزوجل) فِي أَوَامِرِهِ، وَالمُجْتَنِبُ لِنَوَاهِيهِ، وَأَوْلَاهُمْ بِالشَّقَاوَةِ الْعَامِلُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ، التَّارِكُ لِطَاعَتِهِ، المُؤْثِرُ لِشَهْوَتِهِ عَلَىٰ رِضَا اللهِ (عزوجل).

قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ أَطْوَعُهُمْ لِلهِ (عزوجل)؟

قَالَ: أَتْبَعُهُمْ لِأَمْرِهِ، وَأَقْوَاهُمْ فِي دِينِهِ، وَأَبْعَدُهُمْ مِنَ الْعَمَلِ بِالسَّيِّئَاتِ.

قَالَ: فَمَا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ؟

قَالَ: الْحَسَنَاتُ صِدْقُ النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ، وَالْقَوْلُ الطَّيِّبُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَالسَّيِّئَاتُ سُوءُ النِّيَّةِ، وَسُوءُ الْعَمَلِ، وَالْقَوْلُ السَّيِّئُ.قَالَ: فَمَا صِدْقُ النِّيَّةِ؟

قَالَ: الْاِقْتِصَادُ فِي الْهِمَّةِ.

قَالَ: فَمَا سُوءُ(1) الْقَوْلِ؟

قَالَ: الْكَذِبُ.

قَالَ: فَمَا سُوءُ الْعَمَلِ؟

قَالَ: مَعْصِيَةُ اللهِ (عزوجل).

قَالَ: أَخْبِرْنِي كَيْفَ الِاقْتِصَادُ فِي الْهِمَّةِ؟

قَالَ: التَّذَكُّرُ لِزَوَالِ الدُّنْيَا وَانْقِطَاعِ أَمْرِهَا، وَالْكَفُّ عَنِ الْأُمُورِ الَّتِي فِيهَا النَّقِمَةُ وَالتَّبِعَةُ فِي الْآخِرَةِ.

قَالَ: فَمَا السَّخَاءُ؟

ص: 394


1- في بعض النُّسَخ: (شرٌّ) مكان (سوء)، وكذا ما يأتي.

قَالَ: إِعْطَاءُ المَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ (عزوجل).

قَالَ: فَمَا الْكَرَمُ؟

قَالَ: التَّقْوَىٰ.

قَالَ: فَمَا الْبُخْلُ؟

قَالَ: مَنْعُ الْحُقُوقِ عَنْ أَهْلِهَا، وَأَخْذُهَا مِنْ غَيْرِ وَجْهِهَا.

قَالَ: فَمَا الْحِرْصُ؟

قَالَ: الْإِخْلَادُ إِلَىٰ الدُّنْيَا، وَالطِّمَاحُ إِلَىٰ الْأُمُورِ الَّتِي فِيهَا الْفَسَادُ، وَثَمَرَتُهَا عُقُوبَةُ الْآخِرَةِ.

قَالَ: فَمَا الصِّدْقُ؟

قَالَ: الطَّرِيقَةُ فِي الدِّينِ بِأَنْ لَا يُخَادِعَ المَرْءُ نَفْسَهُ وَلَا يَكْذِبَهَا.

قَالَ: فَمَا الْحُمْقُ؟قَالَ: الطُّمَأْنِينَةُ إِلَىٰ الدُّنْيَا، وَتَرْكُ مَا يَدُومُ وَيَبْقَىٰ.

قَالَ: فَمَا الْكَذِبُ؟

قَالَ: أَنْ يَكْذِبَ المَرْءُ نَفْسَهُ، فَلَا يَزَالُ بِهَوَاهُ شَغِفاً وَلِدِينِهِ مُسَوِّفاً.

قَالَ: أَيُّ الرِّجَالِ أَكْمَلُهُمْ فِي الصَّلَاحِ؟

قَالَ: أَكْمَلُهُمْ فِي الْعَقْلِ، وَأَبْصَرُهُمْ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَأَعْلَمُهُمْ بِخُصُومِهِ، وَأَشَدُّهُمْ مِنْهُمُ احْتِرَاساً.

قَالَ: أَخْبِرْنِي مَا تِلْكَ الْعَاقِبَةُ، وَمَا أُولَئِكَ الْخُصَمَاءُ الَّذِينَ يَعْرِفُهُمُ الْعَاقِلُ فَيَحْتَرِسُ مِنْهُمْ؟

قَالَ: الْعَاقِبَةُ الْآخِرَةُ، وَالْفَنَاءُ الدُّنْيَا.

قَالَ: فَمَا الْخُصَمَاءُ؟

قَالَ: الْحِرْصُ، وَالْغَضَبُ، وَالْحَسَدُ، وَالْحَمِيَّةُ، وَالشَّهْوَةُ، وَالرِّيَاءُ، وَاللَّجَاجَةُ.

ص: 395

قَالَ: أَيُّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَدَدْتَ أَقْوَىٰ وَأَجْدَرُ أَنْ يُسْلَمَ مِنْهُ؟

قَالَ: الْحِرْصُ أَقَلُّ رِضاً وَأَفْحَشُ غَضَباً، وَالْغَضَبُ أَجْوَرُ سُلْطَاناً وَأَقَلُّ شُكْراً وَأَكْسَبُ لِلْبَغْضَاءِ، وَالْحَسَدُ أَسْوَأُ الْخَيْبَةِ لِلنِّيَّةِ وَأَخْلَفُ لِلظَّنِّ، وَالْحَمِيَّةُ أَشَدُّ لَجَاجَةً وَأَفْظَعُ مَعْصِيَةً، وَالْحِقْدُ أَطْوَلُ تَوَقُّداً وَأَقَلُّ رَحْمَةً وَأَشَدُّ سَطْوَةً، وَالرِّيَاءُ أَشَدُّ خَدِيعَةً وَأَخْفَىٰ اكْتِتَاماً وَأَكْذَبُ، وَاللَّجَاجَةُ أَعْيَا خُصُومَةً وَأَقْطَعُ مَعْذِرَةً.

قَالَ: أَيُّ مَكَائِدِ الشَّيْطَانِ لِلنَّاسِ فِي هَلَاكِهِمْ أَبْلَغُ؟

قَالَ: تَعْمِيَتُهُ عَلَيْهِمُ الْبِرَّ وَالْإِثْمَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ وَعَوَاقِبَ الْأُمُورِ فِي ارْتِكَابِ الشَّهَوَاتِ.

قَالَ: أَخْبِرْنِي بِالْقُوَّةِ الَّتِي قَوَّىٰ اللهُ (عزوجل) بِهَا الْعِبَادَ فِي تَغَالُبِ تِلْكَالْأُمُورِ السَّيِّئَةِ وَالْأَهْوَاءِ المُرْدِيَةِ.

قَالَ: الْعِلْمُ وَالْعَقْلُ وَالْعَمَلُ بِهِمَا، وَصَبْرُ النَّفْسِ عَنْ شَهَوَاتِهَا، وَالرَّجَاءُ لِلثَّوَابِ فِي الدِّينِ، وَكَثْرَةُ الذِّكْرِ لِفَنَاءِ الدُّنْيَا، وَقُرْبِ الْأَجَلِ، وَالْاِحْتِفَاظُ مِنْ أَنْ يَنْقُضَ مَا يَبْقَىٰ بِمَا يَفْنَىٰ، فَاعْتِبَارُ مَاضِي الْأُمُورِ بِعَاقِبَتِهَا، وَالْاِحْتِفَاظُ بِمَا لَا يَعْرِفُ إِلَّا عِنْدَ ذَوِي الْعُقُولِ وَكَفُّ النَّفْسِ عَنِ الْعَادَةِ السَّيِّئَةِ وَحَمْلُهَا عَلَىٰ الْعَادَةِ الْحَسَنَةِ وَالْخُلُقِ المَحْمُودِ، وَأَنْ يَكُونَ أَمَلُ المَرْءِ بِقَدْرِ عَيْشِهِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ غَايَتَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْقُنُوعُ وَعَمَلُ الصَّبْرِ وَالرِّضَا بِالْكَفَافِ وَاللُّزُومُ لِلْقَضَاءِ وَالمَعْرِفَةُ بِمَا فِيهِ فِي الشِّدَّةِ مِنَ التَّعَبِ وَمَا فِي الْإِفْرَاطِ مِنَ الْاِقْتِرَافِ، وَحُسْنِ الْعَزَاءِ عَمَّا فَاتَ، وَطِيبُ النَّفْسِ عَنْهُ، وَتَرْكُ مُعَالَجَةِ مَا لَا يَتِمُّ، وَالصَّبْرُ بِالْأُمُورِ الَّتِي إِلَيْهَا يُرَدُّ، وَاخْتِيَارُ سَبِيلِ الرُّشْدِ عَلَىٰ سَبِيلِ الْغَيِّ، وَتَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَىٰ أَنَّهُ إِنْ عَمِلَ خَيْراً أُجْزِيَ بِهِ، وَإِنْ عَمِلَ شَرًّا أُجْزِيَ بِهِ، وَالمَعْرِفَةُ بِالْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ فِي التَّقْوَىٰ، وَعَمَلُ النَّصِيحَةِ، وَكَفُّ النَّفْسِ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَىٰ، وَرُكُوبُ الشَّهَوَاتِ، وَحَمْلُ الْأُمُورِ عَلَىٰ الرَّأْيِ، وَالْأَخْذُ بِالْحَزْمِ وَالْقُوَّةِ، فَإِنْ أَتَاهُ الْبَلَاءُ أَتَاهُ وَهُوَ مَعْذُورٌ غَيْرُ مَلُومٍ.

ص: 396

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: أَيُّ الْأَخْلَاقِ أَكْرَمُ وَأَعَزُّ؟

قَالَ: التَّوَاضُعُ وَلِينُ الْكَلِمَةِ لِلْإِخْوَانِ فِي اللهِ (عزوجل).

قَالَ: أَيُّ الْعِبَادَةِ أَحْسَنُ؟

قَالَ: الْوَقَارُ وَالمَوَدَّةُ.

قَالَ: فَأَخْبِرْنِي أَيُّ الشِّيَمِ أَفْضَلُ؟

قَالَ: حُبُّ الصَّالِحِينَ.

قَالَ: أَيُّ الذِّكْرِ أَفْضَلُ؟

قَالَ: مَا كَانَ فِي الْأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ.قَالَ: فَأَيُّ الْخُصُومِ أَلَدُّ؟

قَالَ: ارْتِكَابُ الذُّنُوبِ.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: أَخْبِرْنِي أَيُّ الْفَضْلِ أَفْضَلُ؟

قَالَ: الرِّضَا بِالْكَفَافِ.

قَالَ: أَخْبِرْنِي أَيُّ الْأَدَبِ أَحْسَنُ؟

قَالَ: أَدَبُ الدِّينِ.

قَالَ: أَيُّ الشَّيْءِ أَجْفَىٰ؟

قَالَ: السُّلْطَانُ الْعَاتِي، وَالْقَلْبُ الْقَاسِي.

قَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَبْعَدُ غَايَةً؟

قَالَ: عَيْنُ الْحَرِيصِ الَّتِي لَا تَشْبَعُ مِنَ الدُّنْيَا.

قَالَ: أَيُّ الْأُمُورِ أَخْبَثُ عَاقِبَةً؟

قَالَ: الْتِمَاسُ رِضَا النَّاسِ فِي سَخَطِ الرَّبِّ (عزوجل).

قَالَ: أَيُّ شَيْ ءٍ أَسْرَعُ تَقَلُّباً؟

قَالَ: قُلُوبُ المُلُوكِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ لِلدُّنْيَا.

ص: 397

قَالَ: فَأَخْبِرْنِي أَيُّ الْفُجُورِ أَفْحَشُ؟

قَالَ: إِعْطَاءُ عَهْدِ اللهِ وَالْغَدْرُ فِيهِ.

قَالَ: فَأَيُّ شَيْءٍ أَسْرَعُ انْقِطَاعاً؟

قَالَ: مَوَدَّةُ الْفَاسِقِ.

قَالَ: فَأَيُّ شَيْءٍ أَخْوَنُ؟

قَالَ: لِسَانُ الْكَاذِبِ.

قَالَ: فَأَيُّ شَيْءٍ أَشَدُّ اكْتِتَاماً؟

قَالَ: شَرُّ المُرَائِي المُخَادِعِ.قَالَ: فَأَيُّ شَيْءٍ أَشْبَهُ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا؟

قَالَ: أَحْلَامُ النَّائِمِ.

قَالَ: أَيُّ الرِّجَالِ أَفْضَلُ رِضًا؟

قَالَ: أَحْسَنُهُمْ ظَنًّا بِاللهِ (عزوجل)، وَأَتْقَاهُمْ وَأَقَلُّهُمْ غَفْلَةً عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَذِكْرِ المَوْتِ وَانْقِطَاعِ المُدَّةِ.

قَالَ: أَيُّ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا أَقَرُّ لِلْعَيْنِ؟

قَالَ: الْوَلَدُ الْأَدِيبُ، وَالزَّوْجَةُ المُوَافِقَةُ المُؤَاتِيَةُ المُعِينَةُ عَلَىٰ أَمْرِ الْآخِرَةِ.

قَالَ: أَيُّ الدَّاءِ أَلْزَمُ فِي الدُّنْيَا؟

قَالَ: الْوَلَدُ السَّوْءُ وَالزَّوْجَةُ السَّوْءُ اللَّذَيْنِ لَا يَجِدُ مِنْهُمَا بُدًّا.

قَالَ: أَيُّ الْخَفْضِ أَخْفَضُ؟

قَالَ: رِضَا المَرْءِ بِحَظِّهِ، وَاسْتِينَاسُهُ بِالصَّالِحِينَ.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ المَلِكِ لِلْحَكِيمِ: فَرِّغْ لِي ذِهْنَكَ، فَقَدْ أَرَدْتُ مُسَاءَلَتَكَ عَنْ أَهَمِّ الْأَشْيَاءِ إِلَيَّ بَعْدَ إِذْ بَصَّرَنِيَ اللهُ (عزوجل) مِنْ أَمْرِي مَا كُنْتُ بِهِ جَاهِلاً، وَرَزَقَنِي مِنَ الدِّينِ مَا كُنْتُ مِنْهُ آيِساً.

ص: 398

قَالَ الْحَكِيمُ: سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: أَرَأَيْتَ مَنْ أُوتِيَ المُلْكَ طِفْلاً وَدِينُهُ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ وَقَدْ غُذِّيَ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَاعْتَادَهَا وَنَشَأَ فِيهَا إِلَىٰ أَنْ كَانَ رَجُلاً وَكَهْلاً، لَا يَنْتَقِلُ مِنْ حَالَتِهِ تِلْكَ فِي جَهَالَتِهِ بِاللهِ تَعَالَىٰ ذِكْرُهُ وَإِعْطَائِهِ نَفْسَهُ شَهَوَاتِهَا مُتَجَرِّداً لِبُلُوغِ الْغَايَةِ فِيمَا زُيِّنَ لَهُ مِنْ تِلْكَ الشَّهَوَاتِ مُشْتَغِلاً بِهَا، مُؤْثِراً لَهَا، جَرِيًّا عَلَيْهَا، لَا يَرَىٰ الرُّشْدَ إِلَّا فِيهَا، وَلَا تَزِيدُهُ الْأَيَّامُ إِلَّا حُبًّا لَهَا وَاغْتِرَاراً بِهَا، وَعَجَباً وَحُبًّا لِأَهْلِ مِلَّتِهِ وَرَأْيِهِ.وَقَدْ دَعَتْهُ بَصِيرَتُهُ فِي ذَلِكَ إِلَىٰ أَنْ جَهِلَ أَمْرَ آخِرَتِهِ وَأَغْفَلَهَا، فَاسْتَخَفَ بِهَا وَسَهَا عَنْهَا قَسَاوَةَ قَلْبٍ وَخُبْثَ نِيَّةٍ وَسُوءَ رَأْيٍ، وَاشْتَدَّتْ عَدَاوَتُهُ لِمَنْ خَالَفَهُ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْاِسْتِخْفَاءِ بِالْحَقِّ وَالمُغَيِّبِينَ لِأَشْخَاصِهِمْ انْتِظَاراً لِلْفَرَجِ مِنْ ظُلْمِهِ وَعَدَاوَتِهِ، هَلْ يَطْمَعُ لَهُ إِنْ طَالَ عُمُرُهُ فِي النُّزُوعِ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ، وَالْخُرُوجِ مِنْهُ إِلَىٰ مَا الْفَضْلُ فِيهِ بَيِّنٌ وَالْحُجَّةُ فِيهِ وَاضِحَةٌ، وَالْحَظُّ جَزِيلٌ مِنْ لُزُومِ مَا أُبْصِرَ مِنَ الدِّينِ فَيَأْتِي مَا يُرْجَىٰ لَهُ [بِهِ] مَغْفِرَةً لِمَا قَدْ سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِهِ وَحُسْنِ الثَّوَابِ فِي مَآبِهِ؟

قَالَ الْحَكِيمُ: قَدْ عَرَفْتُ هَذِهِ الصِّفَةَ، وَمَا دَعَاكَ إِلَىٰ هَذِهِ المَسْأَلَةِ؟

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: مَا ذَاكَ مِنْكَ بِمُسْتَنْكَرٍ لِفَضْلِ مَا أُوتِيتَ مِنَ الْفَهْمِ وَخُصِّصْتَ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ.

قَالَ الْحَكِيمُ: أَمَّا صَاحِبُ هَذِهِ الصِّفَةِ فَالمَلِكُ، وَالَّذِي دَعَاكَ إِلَيْهِ الْعِنَايَةُ بِمَا سَأَلْتَ عَنْهُ، وَالْاِهْتِمَامُ بِهِ مِنْ أَمْرِهِ، وَالشَّفَقَةُ عَلَيْهِ مِنْ عَذَابِ مَا أَوْعَدَ اللهُ (عزوجل) مَنْ كَانَ عَلَىٰ مِثْلِ رَأْيِهِ وَطَبْعِهِ وَهَوَاهُ، مَعَ مَا نَوَيْتَ مِنْ ثَوَابِ اللهِ تَعَالَىٰ ذِكْرُهُ فِي أَدَاءِ حَقِّ مَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْكَ لَهُ، وَأَحْسَبُكَ تُرِيدُ بُلُوغَ غَايَةِ الْعُذْرِ فِي التَّلَطُّفِ لِإِنْقَاذِهِ وَإِخْرَاجِهِ عَنْ عَظِيمِ الْهَوْلِ وَدَائِمِ الْبَلَاءِ الَّذِي لَا انْقِطَاعَ لَهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ إِلَىٰ السَّلَامَةِ وَرَاحَةِ الْأَبَدِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ.

ص: 399

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: لَمْ تَجْرِمْ(1) حَرْفاً عَمَّا أَرَدْتُ، فَأَعْلِمْنِي رَأْيَكَ فِيمَا عَنَيْتُ مِنْ أَمْرِ المَلِكِ وَحَالِهِ الَّتِي أَتَخَوَّفُ أَنْ يُدْرِكَهُ المَوْتُ عَلَيْهَا فَتُصِيبَهُ الْحَسْرَةُ وَالنَّدَامَةُ حِينَ لَا أُغْنِي عَنْهُ شَيْئاً، فَاجْعَلْنِي مِنْهُ عَلَىٰ يَقِينٍ، وَفَرِّجْ عَمَّا أَنَا بِهِ مَغْمُومٌ شَدِيدُ الْاِهْتِمَامِ بِهِ فَإِنِّي قَلِيلُ الْحِيلَةِ فِيهِ.قَالَ الْحَكِيمُ: أَمَّا رَأْيُنَا فَإِنَّا لَا نُبَعِّدُ مَخْلُوقاً مِنْ رَحْمَةِ اللهِ خَالِقِهِ (عزوجل)، وَلَا نَأْيَسُ لَهُ مِنْهَا مَا دَامَ فِيهِ الرُّوحُ، وَإِنْ كَانَ عَاتِياً طَاغِياً ضَالًّا لِمَا قَدْ وَصَفَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ التَّحَنُّنِ وَالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَمَا أَمَرَ بِهِ مِنَ الْاِسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ، وَفِي هَذَا فَضْلُ الطَّمَعِ لَكَ فِي حَاجَتِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ.

وَزَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمَانِ مَلِكٌ عَظِيمُ الصَّوْتِ فِي الْعِلْمِ، رَفِيقٌ سَائِسٌ، يُحِبُّ الْعَدْلَ فِي أُمَّتِهِ وَالْإِصْلَاحَ لِرَعِيَّتِهِ، عَاشَ بِذَلِكَ زَمَاناً بِخَيْرِ حَالٍ، ثُمَّ هَلَكَ، فَجَزِعَتْ عَلَيْهِ أُمَّتُهُ، وَكَانَ بِامْرَأَةٍ لَهُ حَمْلٌ، فَذَكَرَ المُنَجِّمُونَ وَالْكَهَنَةُ أَنَّهُ غُلَامٌ، وَكَانَ يُدَبِّرُ مُلْكَهُمْ مَنْ كَانَ يَلِي ذَلِكَ فِي زَمَانِ مُلْكِهِمْ، فَاتَّفَقَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَهُ المُنَجِّمُونَ وَالْكَهَنَةُ، وَوُلِدَ مِنْ ذَلِكَ الْحَمْلِ غُلَامٌ، فَأَقَامُوا عِنْدَ مِيلَادِهِ سَنَةً بِالمَعَازِفِ وَالمَلَاهِي وَالْأَشْرِبَةِ وَالْأَطْعِمَةِ.

ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْفِقْهِ وَالرَّبَّانِيِّينَ قَالُوا لِعَامَّتِهِمْ: إِنَّ هَذَا المَوْلُودَ إِنَّمَا هُوَ هِبَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَىٰ، وَقَدْ جَعَلْتُمُ الشُّكْرَ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ هِبَةً مِنْ غَيْرِ اللهِ (عزوجل) فَقَدْ أَدَّيْتُمُ الْحَقَّ إِلَىٰ مَنْ أَعْطَاكُمُوهُ وَاجْتَهَدْتُمْ فِي الشُّكْرِ لِمَنْ رَزَقَكُمُوهُ.

فَقَالَ لَهُمُ الْعَامَّةُ: مَا وَهَبَهُ لَنَا إِلَّا اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ، وَلَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْنَا غَيْرُهُ.

قَالَ الْعُلَمَاءُ: فَإِنْ كَانَ اللهُ (عزوجل) هُوَ الَّذِي وَهَبَهُ لَكُمْ فَقَدْ أَرْضَيْتُمْ غَيْرَ الَّذِي أَعْطَاكُمْ وَأَسْخَطْتُمُ اللهَ الَّذِي وَهَبَهُ لَكُمْ.

ص: 400


1- هذه اللفظة يمكن أنْ يكون بالجيم والراء، أي لم تخطأ. أو بالحاء المهملة علىٰ صيغة المفعول، أي لم تمنع من فهمه. أو بالخاء المعجمة، أي لم تترك. أو بالزاي، أي لم تشكّ.

فَقَالَتْ لَهُمُ الرَّعِيَّةُ: فَأَشِيرُوا لَنَا أَيُّهَا الْحُكَمَاءُ وَأَخْبِرُونَا أَيُّهَا الْعُلَمَاءُ فَنَتَّبِعَ قَوْلَكُمْ وَنَتَقَبَّلَ نَصِيحَتَكُمْ، وَمُرُونَا بِأَمْرِكُمْ.

قَالَتِ الْعُلَمَاءُ: فَإِنَّا نَرَىٰ لَكُمْ أَنْ تَعْدِلُوا عَنِ اتِّبَاعِ مَرْضَاةِ الشَّيْطَانِبِالمَعَازِفِ وَالمَلَاهِي وَالمُسْكِرِ إِلَىٰ ابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللهِ (عزوجل) وَشُكْرِهِ عَلَىٰ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ أَضْعَافَ شُكْرِكُمْ لِلشَّيْطَانِ حَتَّىٰ يُغْفَرَ لَكُمْ مَا كَانَ مِنْكُمْ.

قَالَتِ الرَّعِيَّةُ: لَا تَحْمِلُ أَجْسَادُنَا كُلَّ الَّذِي قُلْتُمْ وَأَمَرْتُمْ بِهِ.

قَالَتِ الْعُلَمَاءُ: يَا أُولِي الْجَهْلِ، كَيْفَ أَطَعْتُمْ مَنْ لَا حَقَّ لَهُ عَلَيْكُمْ وَتَعْصُونَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ الْوَاجِبُ عَلَيْكُمْ؟ وَكَيْفَ قَوِيتُمْ عَلَىٰ مَا لَا يَنْبَغِي وَتَضْعُفُونَ عَمَّا يَنْبَغِي؟!

قَالُوا لَهُمْ: يَا أَئِمَّةَ الْحُكَمَاءِ، عَظُمَتْ فِينَا الشَّهَوَاتُ، وَكَثُرَتْ فِينَا اللَّذَّاتُ، فَقَوِينَا بِمَا عَظُمَ فِينَا مِنْهَا عَلَىٰ الْعَظِيمِ مِنْ شَكْلِهَا، وَضَعُفَتْ مِنَّا النِّيَّاتُ، فَعَجَزْنَا عَنْ حَمْلِ المُثْقِلَاتِ، فَارْضَوْا مِنَّا فِي الرُّجُوعِ عَنْ ذَلِكَ يَوْماً فَيَوْماً، وَلَا تُكَلِّفُونَا كُلَّ هَذَا الثِّقْلِ.

قَالُوا لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ السُّفَهَاءِ، أَلَسْتُمْ أَبْنَاءَ الْجَهْلِ وَإِخْوَانَ الضَّلَالِ حِينَ خَفَّتْ عَلَيْكُمُ الشِّقْوَةُ وَثَقُلَتْ عَلَيْكُمُ السَّعَادَةُ؟

قَالُوا لَهُمْ: أَيُّهَا السَّادَةُ الْحُكَمَاءُ وَالْقَادَةُ الْعُلَمَاءُ، إِنَّا نَسْتَجِيرُ مِنْ تَعْنِيفِكُمْ إِيَّانَا بِمَغْفِرَةِ اللهِ (عزوجل)، وَنَسْتَتِرُ مِنْ تَعْيِيرِكُمْ لَنَا بِعَفْوِهِ، فَلَا تُؤَنِّبُونَا(1) وَلَا تُعَيِّرُونَا بِضَعْفِنَا وَلَا تَعِيبُوا الْجَهَالَةَ عَلَيْنَا، فَإِنَّا إِنْ أَطَعْنَا اللهَ مَعَ عَفْوِهِ وَحِلْمِهِ وَتَضْعِيفِهِ الْحَسَنَاتِ وَاجْتَهَدْنَا فِي عِبَادَتِهِ مِثْلَ الَّذِي بَذَلْنَا لِهَوَانَا مِنَ الْبَاطِلِ بَلَغْنَا حَاجَتَنَا وَبَلَّغَ اللهُ (عزوجل) بِنَا غَايَتَنَا وَرَحِمَنَا كَمَا خَلَقَنَا.

فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ أَقَرَّ لَهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ وَرَضُوا قَوْلَهُمْ، فَصَلُّوا وَصَامُوا وَتَعَبَّدُوا

ص: 401


1- أنَّبه - بشدِّ النون -: عنَّفه ولامه.

وَأَعْظَمُوا الصَّدَقَاتِ سَنَةً كَامِلَةً، فَلَمَّا انْقَضَىٰ ذَلِكَ مِنْهُمْ قَالَتِ الْكَهَنَةُ: إِنَّ الَّذِي صَنَعَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَىٰ هَذَا المَوْلُودِ يُخْبِرُ أَنَّ هَذَا المَلِكَ يَكُونُ فَاجِراً وَيَكُونُ بَارًّا، وَيَكُونُ مُتَجَبِّراً وَيَكُونُ مُتَوَاضِعاً، وَيَكُونُ مُسِيئاً وَيَكُونُمُحْسِناً، وَقَالَ المُنَجِّمُونَ مِثْلَ ذَلِكَ.

فَقِيلَ لَهُمْ: كَيْفَ قُلْتُمْ ذَلِكَ؟ قَالَ الْكَهَنَةُ: قُلْنَا هَذَا مِنْ قِبَلِ اللَّهْوِ وَالمَعَازِفِ وَالْبَاطِلِ الَّذِي صُنِعَ عَلَيْهِ، وَمَا صُنِعَ عَلَيْهِ مِنْ ضِدِّهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ المُنَجِّمُونَ: قُلْنَا ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ اسْتِقَامَةِ الزُّهْرَةِ وَالمُشْتَرِي.

فَنَشَأَ الْغُلَامُ بِكِبْرٍ لَا تُوصَفُ عَظَمَتُهُ، وَمَرَحٍ لَا يُنْعَتُ، وَعُدْوَانٍ لَا يُطَاقُ، فَعَسَفَ وَجَارَ وَظَلَمَ فِي الْحُكْمِ وَغَشَمَ وَكَانَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ مَنْ وَافَقَهُ عَلَىٰ ذَلِكَ وَأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيْهِ مَنْ خَالَفَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَاغْتَرَّ بِالشَّبَابِ وَالصِّحَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالظَّفَرِ وَالنَّظَرِ، فَامْتَلَأَ سُرُوراً وَإِعْجَاباً بِمَا هُوَ فِيهِ، وَرَأَىٰ كُلَّمَا يُحِبُّ وَسَمِعَ كُلَّمَا اشْتَهَىٰ حَتَّىٰ بَلَغَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، ثُمَّ جَمَعَ نِسَاءً مِنْ بَنَاتِ المُلُوكِ وَصِبْيَاناً وَالْجَوَارِيَ وَالمُخَدَّرَاتِ وَخَيْلَهُ المُطَهَّمَاتِ الْعَنَاقَ(1) وَأَلْوَانَ مَرَاكِبِهِ الْفَاخِرَةِ وَوَصَائِفَهُ وَخُدَّامَهُ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي خِدْمَتِهِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَلْبَسُوا أَجَدَّ ثِيَابِهِمْ وَيَتَزَيَّنُوا بِأَحْسَنِ زِينَتِهِمْ، وَأَمَرَ بِبِنَاءِ مَجْلِسٍ مُقَابِلَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ صَفَائِحُ أَرْضِهِ الذَّهَبُ، مُفَضَّضاً بِأَنْوَاعِ الْجَوَاهِرِ، طُولُهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعاً وَعَرْضُهُ سِتُّونَ ذِرَاعاً، مُزَخْرَفاً سَقْفُهُ وَحِيطَانُهُ، قَدْ زُيِّنَ بِكَرَائِمِ الْحُلِيِّ وَصُنُوفِ الْجَوْهَرِ وَاللُّؤْلُؤِ النَّظِيمِ وَفَاخِرِهِ، وَأَمَرَ بِضُرُوبِ الْأَمْوَالِ فَأُخْرِجَتْ مِنَ الْخَزَائِنِ وَنُضِّدَتْ سِمَاطَيْنِ(2) أَمَامَ مَجْلِسِهِ، وَأَمَرَ جُنُودَهُ وَأَصْحَابَهُ وَقُوَّادَهُ وَكُتَّابَهُ وَحُجَّابَهُ وَعُظَمَاءَ أَهْلِ

ص: 402


1- أي تامُّ الحسن.
2- نضد المتاع - بشدِّ الضاد وتخفيفها -: رتَّبه وضمَّ بعضه إلىٰ بعض متَّسقاً أو مركوماً. والسماط: الشيء المصطفُّ، وسماط الطريق جانباه.

بِلَادِهِ وَعُلَمَاءَهُمْ، فَحَضَرُوا فِي أَحْسَنِ هَيْأَتِهِمْ وَأَجْمَلِ جَمَالِهِمْ، وَتَسَلَّحَ فُرْسَانُهُ وَرَكِبَتْ خُيُولُهُ فِي عُدَّتِهِمْ، ثُمَّ وَقَفُوا عَلَىٰ مَرَاكِزِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ صُفُوفاًوَكَرَادِيسَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِزَعْمِهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَىٰ مَنْظَرٍ رَفِيعٍ حَسَنٍ تَسُرُّ بِهِ نَفْسُهُ وَتَقَرُّ بِهِ عَيْنُهُ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَعِدَ إِلَىٰ مَجْلِسِهِ فَأَشْرَفَ عَلَىٰ مَمْلَكَتِهِ، فَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً، فَقَالَ لِبَعْضِ غِلْمَانِهِ: قَدْ نَظَرْتُ فِي أَهْلِ مَمْلَكَتِي إِلَىٰ مَنْظَرٍ حَسَنٍ، وَبَقِيَ أَنْ أَنْظُرَ إِلَىٰ صُورَةِ وَجْهِي، فَدَعَا بِمِرْآةٍ، فَنَظَرَ إِلَىٰ وَجْهِهِ، فَبَيْنَا هُوَ يَقْلِبُ طَرْفَهُ فِيهَا إِذْ لَاحَتْ لَهُ شَعْرَةٌ بَيْضَاءُ مِنْ لِحْيَتِهِ كَغُرَابٍ أَبْيَضَ بَيْنَ غُرْبَانٍ سُودٍ، وَاشْتَدَّ مِنْهَا ذُعْرُهُ وَفَزَعُهُ(1)، وتَغَيَّرَ فِي عَيْنِهِ حَالُهُ، وَظَهَرَتِ الْكَآبَةُ والْحُزْنُ فِي وَجْهِهِ، وَتَوَلَّىٰ السُّرُورُ عَنْهُ.

ثُمَّ قَالَ فِي نَفْسِهِ: هَذَا حِينَ نُعِيَ إِلَيَّ شَبَابِي، وَبُيِّنَ لِي أَنَّ مُلْكِي فِي ذَهَابٍ، وَأُوذِنْتُ بِالنُّزُولِ عَنْ سَرِيرِ مُلْكِي.

ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ مُقَدِّمَةُ المَوْتِ، وَرَسُولُ الْبِلَىٰ(2)، لَمْ يَحْجُبْهُ عَنِّي حَاجِبٌ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ عَنِّي حَارِسٌ، فَنُعِيَ إِلَيَّ نَفْسِي وَآذَنَنِي بِزَوَالِ مُلْكِي، فَمَا أَسْرَعَ هَذَا فِي تَبْدِيلِ بَهْجَتِي وَذَهَابِ سُرُورِي وَهَدْمِ قُوَّتِي، لَمْ يَمْنَعْهُ مِنِّي الْحُصُونُ وَلَمْ تَدْفَعْهُ عَنِّي الْجُنُودُ، هَذَا سَالِبُ الشَّبَابِ وَالْقُوَّةِ، وَمَاحِقُ الْعِزِّ وَالثَّرْوَةِ، وَمُفَرِّقُ الشَّمْلِ وَقَاسِمُ التُّرَاثِ بَيْنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَعْدَاءِ، مُفْسِدُ المَعَاشِ، وَمُنَغِّصُ اللَّذَّاتِ، وَمُخَرِّبُ الْعِمَارَاتِ، وَمُشَتِّتُ الْجَمْعِ، وَوَاضِعُ الرَّفِيعِ، وَمُذِلُّ المَنِيعِ، قَدْ أَنَاخَتْ بِي أَثْقَالُهُ(3)، وَنُصِبَ لِي حِبَالُهُ.

ثُمَّ نَزَلَ عَنْ مَجْلِسِهِ حَافِياً مَاشِياً، وَقَدْ صَعِدَ إِلَيْهِ مَحْمُولاً، ثُمَّ جَمَعَ إِلَيْهِ جُنُودَهُ وَدَعَا إِلَيْهِ ثِقَاتَهُ، فَقَالَ: أَيُّهَا المَلَأُ، مَا ذَا صَنَعْتُ فِيكُمْ؟ وَمَا [ذَا] أَتَيْتُ إِلَيْكُمْ مُنْذُ

ص: 403


1- الذعر: الخوف والفزع.
2- في بعض النُّسَخ: (رسول البلاء).
3- أناخ البلاء علىٰ فلان: أقام عليه، وأناخ به الحاجة: أنزلها به، أناخ الجمل: أبركه.

مَلَكْتُكُمْ وَوُلِّيتُ أُمُورَكُمْ؟ قَالُوا لَهُ: أَيُّهَا المَلِكُ المَحْمُودُ، عَظُمَبَلَاؤُكَ عِنْدَنَا، وَهَذِهِ أَنْفُسُنَا مَبْذُولَةٌ فِي طَاعَتِكَ، فَمُرْنَا بِأَمْرِكَ، قَالَ: طَرَقَنِي عَدُوٌّ مُخِيفٌ(1) لَمْ تَمْنَعُونِي مِنْهُ حَتَّىٰ نَزَلَ بِي وَكُنْتُمْ عُدَّتِي وَثِقَاتِي، قَالُوا: أَيُّهَا المَلِكُ، أَيْنَ هَذَا الْعَدُوُّ؟ أَيُرَىٰ أَمْ لَا يُرَىٰ؟ قَالَ: يُرَىٰ بِأَثَرٍ وَلَا يُرَىٰ عَيْنُهُ، قَالُوا: أَيُّهَا المَلِكُ، هَذِهِ عُدَّتُنَا كَمَا تَرَىٰ وَعِنْدَنَا سَكَنٌ وَفِينَا ذَوُو الْحِجَىٰ وَالنُّهَىٰ، فَأَرِنَاهُ نَكْفِكَ مَا مِثْلُهُ يُكْفَىٰ، قَالَ: قَدْ عَظُمَ الْاِغْتِرَارُ مِنِّي بِكُمْ، وَوَضَعْتُ الثِّقَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا حِينَ اتَّخَذْتُكُمْ وَجَعَلْتُكُمْ لِنَفْسِي جُنَّةً، وَإِنَّمَا بَذَلْتُ لَكُمُ الْأَمْوَالَ وَرَفَعْتُ شَرَفَكُمْ وَجَعَلْتُكُمُ الْبِطَانَةَ دُونَ غَيْرِكُمْ لِتَحْفَظُونِي مِنَ الْأَعْدَاءِ وَتَحْرُسُونِي مِنْهُمْ، ثُمَّ أَيَّدْتُكُمْ عَلَىٰ ذَلِكَ بِتَشْيِيدِ الْبُلْدَانِ وَتَحْصِينِ المَدَائِنِ وَالثِّقَةِ مِنَ السِّلَاحِ، وَنَحَّيْتُ عَنْكُمُ الْهُمُومَ(2)، وَفَرَّغْتُكُمْ لِلنَّجْدَةِ وَالْاِحْتِفَاظِ، وَلَمْ أَكُنْ أَخْشَىٰ أَنْ أُرَاعَ مَعَكُمْ وَلَا أَتَخَوَّفُ المَنُونَ عَلَىٰ بُنْيَانِي وَأَنْتُمْ عُكُوفٌ مُطِيفُونَ بِهِ، فَطُرِقْتُ وَأَنْتُمْ حَوْلِي وَأُتِيتُ وَأَنْتُمْ مَعِي، فَلَئِنْ كَانَ هَذَا ضَعْفٌ مِنْكُمْ فَمَا أَخَذْتُ أَمْرِي بِثِقَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ غَفَلَةً مِنْكُمْ فَمَا أَنْتُمْ بِأَهْلِ النَّصِيحَةِ وَلَا عَلَيَّ بِأَهْلِ الشَّفَقَةِ، قَالُوا: أَيُّهَا المَلِكُ، أَمَّا شَيْءٌ نُطِيقُ دَفْعَهُ بِالْخَيْلِ وَالْقُوَّةِ فَلَيْسَ بِوَاصِلٍ إِلَيْكَ إِنْ شَاءَ اللهُ وَنَحْنُ أَحْيَاءٌ، وَأَمَّا مَا لَا يُرَىٰ فَقَدْ غُيِّبَ عَنَّا عِلْمُهُ وَعَجَزَتْ قُوَّتُنَا عَنْهُ.

قَالَ: أَلَيْسَ اتَّخَذْتُكُمْ لِتَمْنَعُونِي مِنْ عَدُوِّي؟ قَالُوا: بَلَىٰ، قَالَ: فَمِنْ أَيِّ عَدُوٍّ تَحْفَظُونِي مِنَ الَّذِي يَضُرُّنِي أَوْ مِنَ الَّذِي لَا يَضُرُّنِي؟ قَالُوا: مِنَ الَّذِي يَضُرُّكَ، قَالَ: أَفَمِنْ كُلِّ ضَارٍّ لِي أَوْ مِنْ بَعْضِهِمْ؟ قَالُوا: مِنْ كُلِّ ضَارٍّ، قَالَ: فَإِنَّ رَسُولَ الْبِلَىٰ قَدْ أَتَانِي يَنْعَىٰ إِلَيَّ نَفْسِي وَمُلْكِي وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يُرِيدُ خَرَابَ مَا عُمِّرْتُ وَهَدْمَ مَا بَنَيْتُ وَتَفْرِيقَ مَا جَمَعْتُ وَفَسَادَ مَا أَصْلَحْتُ وَتَبْذِيرَ مَاأَحْرَزْتُ وَتَبْدِيلَ مَا عَمِلْتُ وَتَوْهِينَ

ص: 404


1- طرق القوم: أتاهم ليلاً.
2- نحَّاه عنه أي أبعده عنه وأزاله. والنجدة: الشجاعة والشدَّة والبأس.

مَا وَثِقْتُ، وَزَعَمَ أَنَّ مَعَهُ الشَّمَاتَةَ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَقَدْ قَرَّتْ بِي أَعْيُنُهُمْ، فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنِّي شِفَاءَ صُدُورِهِمْ، وَذَكَرَ أَنَّهُ سَيَهْزِمُ جَيْشِي وَيُوحِشُ أُنْسِي وَيُذْهِبُ عِزِّي وَيُؤْتِمُ وُلْدِي وَيُفَرِّقُ جُمُوعِي، يُفْجِعُ بِي إِخْوَانِي وَأَهْلِي وَقَرَابَتِي، وَيَقْطَعُ أَوْصَالِي وَيَسْكُنُ مَسَاكِنِي أَعْدَائِي، قَالُوا: أَيُّهَا المَلِكُ، إِنَّمَا نَمْنَعُكَ مِنَ النَّاسِ وَالسِّبَاعِ وَالْهَوَامِّ وَدَوَابِّ الْأَرْضِ، فَأَمَّا الْبِلَىٰ فَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَلَا قُوَّةَ لَنَا عَلَيْهِ وَلَا امْتِنَاعَ لَنَا مِنْهُ، فَقَالَ: فَهَلْ مِنْ حِيلَةٍ فِي دَفْعِ ذَلِكَ عَنِّي؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَشَيْءٌ دُونَ ذَلِكَ تُطِيقُونَهُ، قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: الْأَوْجَاعُ وَالْأَحْزَانُ وَالْهُمُومُ، قَالُوا: أَيُّهَا المَلِكُ، إِنَّمَا قَدْ قَدَّرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ قَوِيٌّ لَطِيفٌ، وَذَلِكَ يَثُورُ مِنَ الْجِسْمِ وَالنَّفْسِ، وَهُوَ يَصِلُ إِلَيْكَ إِذَا لَمْ يُوصَلْ، وَلَا يُحْجَبُ عَنْكَ وَإِنْ حُجِبَ(1).

قَالَ: فَأَمْرٌ دُونَ ذَلِكَ، قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: مَا قَدْ سَبَقَ مِنَ الْقَضَاءِ، قَالُوا: أَيُّهَا المَلِكُ، وَمَنْ ذَا غَالَبَ الْقَضَاءَ فَلَمْ يُغْلَبْ؟ وَمَنْ ذَا كَابَرَهُ فَلَمْ يُقْهَرْ؟ قَالَ: فَمَا ذَا عِنْدَكُمْ؟ قَالُوا: مَا نَقْدِرُ عَلَىٰ دَفْعِ الْقَضَاءِ، وَقَدْ أَصَبْتَ التَّوْفِيقَ وَالتَّسْدِيدَ، فَمَا ذَا الَّذِي تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَصْحَاباً يَدُومُ عَهْدُهُمْ، وَيَفُوا لِي، وَتَبْقَىٰ لِي أُخُوَّتُهُمْ، وَلَا يَحْجُبُهُمْ عَنِّي المَوْتُ، وَلَا يَمْنَعُهُمُ الْبِلَىٰ عَنْ صُحْبَتِي، وَلَا يَسْتَحِيلُ(2) بِهِمُ الْاِمْتِنَاعُ عَنْ صُحْبَتِي(3)، وَلَا يُفْرِدُونِي إِنْ مِتُّ، وَلَا يُسَلِّمُونِي إِنْ عِشْتُ، وَيَدْفَعُونَ عَنِّي مَا عَجَزْتُمْ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ المَوْتِ.

قَالُوا: أَيُّهَا المَلِكُ، وَمَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْتَ؟ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ أَفْسَدْتُهُمْ بِاسْتِصْلَاحِكُمْ، قَالُوا: أَيُّهَا المَلِكُ، أَفَلَا تَصْطَنِعُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ مَعْرُوفاً، فَإِنَّأَخْلَاقَكَ تَامَّةٌ وَرَأْفَتَكَ عَظِيمَةٌ، قَالَ: إِنَّ فِي صُحْبَتِكُمْ إِيَّايَ السَّمَّ الْقَاتِلَ، وَالصَّمَمَ وَالْعَمَىٰ فِي

ص: 405


1- في بعض النُّسَخ: (وإنْ حُجِبَ لم يحتجب).
2- يشتمل (خ ل).
3- في بعض النُّسَخ: (ولا يستحيل بهم الأطماع عن نصيحتي)، وفي بعضها: (لا يستميل).

طَاعَتِكُمْ، وَالْبُكْمَ مِنْ مُوَافَقَتِكُمْ، قَالُوا: كَيْفَ ذَاكَ أَيُّهَا المَلِكُ؟ قَالَ: صَارَتْ صُحْبَتُكُمْ إِيَّايَ فِي الْاِسْتِكْثَارِ وَمُوَافَقَتُكُمْ عَلَىٰ الْجَمْعِ، وَطَاعَتُكُمْ إِيَّايَ فِي الْاِغْتِفَالِ فَبَطَّأْتُمُونِي عَنِ المَعَادِ، وَزَيَّنْتُمْ لِيَ الدُّنْيَا، وَلَوْ نَصَحْتُمُونِي ذَكَّرْتُمُونِيَ المَوْتَ، وَلَوْ أَشْفَقْتُمْ عَلَيَّ ذَكَّرْتُمُونِيَ الْبِلَىٰ، وَجَمَعْتُمْ لِي مَا يَبْقَىٰ، وَلَمْ تَسْتَكْثِرُوا لِي مَا يَفْنَىٰ، فَإِنَّ تِلْكَ المَنْفَعَةَ الَّتِي ادَّعَيْتُمُوهَا ضَرَرٌ، وَتِلْكَ المَوَدَّةَ عَدَاوَةٌ، وَقَدْ رَدَدْتُهَا عَلَيْكُمْ لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا مِنْكُمْ.

قَالُوا: أَيُّهَا المَلِكُ الْحَكِيمُ المَحْمُودُ، قَدْ فَهِمْنَا مَقَالَتَكَ، وَفِي أَنْفُسِنَا إِجَابَتُكَ، وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَحْتَجَّ عَلَيْكَ، فَقَدْ رَأَيْنَا مَكَانَ الْحُجَّةِ، فَسُكُوتُنَا عَنْ حُجَّتِنَا فَسَادٌ لِمُلْكِنَا، وَهَلَاكٌ لِدُنْيَانَا وَشَمَاتَةٌ لِعَدُوِّنَا، وَقَدْ نَزَلَ بِنَا أَمْرٌ عَظِيمٌ بِالَّذِي تَبَدَّلَ مِنْ رَأْيِكَ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ أَمْرُكَ.

قَالَ: قُولُوا: آمِنِينَ وَاذْكُرُوا مَا بَدَا لَكُمْ غَيْرَ مَرْعُوبِينَ، فَإِنِّي كُنْتُ إِلَىٰ الْيَوْمِ مَغْلُوباً بِالْحَمِيَّةِ وَالْأَنَفَةِ وَأَنَا الْيَوْمَ غَالِبٌ لَهُمَا، وَكُنْتُ إِلَىٰ الْيَوْمِ مَقْهُوراً لَهُمَا، وَأَنَا الْيَوْمَ قَاهِرٌ لَهُمَا، وَكُنْتُ إِلَىٰ الْيَوْمِ مَلِكاً عَلَيْكُمْ فَقَدْ صِرْتُ عَلَيْكُمْ مَمْلُوكاً، وَأَنَا الْيَوْمَ عَتِيقٌ وَأَنْتُمْ مِنْ مَمْلَكَتِي طُلَقَاءُ.

قَالُوا: أَيُّهَا المَلِكُ، مَا الَّذِي كُنْتَ لَهُ مَمْلُوكاً إِذْ كُنْتَ عَلَيْنَا مَلِكاً؟

قَالَ: كُنْتُ مَمْلُوكاً لِهَوَايَ، مَقْهُوراً بِالْجَهْلِ، مُسْتَعْبِداً لِشَهَوَاتِي، فَقَدْ قَطَعْتُ تِلْكَ الطَّاعَةَ عَنِّي، وَنَبَذْتُهَا خَلْفَ ظَهْرِي.

قَالُوا: فَقُلْ مَا أَجْمَعْتَ عَلَيْهِ أَيُّهَا المَلِكُ؟

قَالَ: الْقُنُوعَ، وَالتَّخَلِّيَ لِآخِرَتِي، وَتَرْكَ هَذَا الْغُرُورِ، وَنَبْذَ هَذَا الثَّقَلِ عَنْ ظَهْرِي، وَالْاِسْتِعْدَادَ لِلْمَوْتِ، وَالتَّأَهُّبَ لِلْبَلَاءِ، فَإِنَّ رَسُولَهُ عِنْدِي قَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ أُمِرَ بِمُلَازَمَتِي وَالْإِقَامَةِ مَعِي حَتَّىٰ يَأْتِيَنِي المَوْتُ.فَقَالُوا: أَيُّهَا المَلِكُ، وَمَنْ هَذَا الرَّسُولُ الَّذِي قَدْ أَتَاكَ وَلَمْ نَرَهُ وَهُوَ مُقَدِّمَةُ المَوْتِ الَّذِي لَا نَعْرِفُهُ؟

ص: 406

قَالَ: أَمَّا الرَّسُولُ فَهَذَا الْبَيَاضُ الَّذِي يَلُوحُ بَيْنَ السَّوَادِ، وَقَدْ صَاحَ فِي جَمِيعِهِ بِالزَّوَالِ، فَأَجَابُوا وَأَذْعَنُوا، وَأَمَّا مُقَدِّمَةُ المَوْتِ فَالْبِلَىٰ الَّذِي هَذَا الْبَيَاضُ طُرُقُهُ.

قَالُوا: أَيُّهَا المَلِكُ، أَفَتَدَعُ مَمْلَكَتَكَ وَتُهْمِلُ رَعِيَّتَكَ؟ وَكَيْفَ لَا تَخَافُ الْإِثْمَ فِي تَعْطِيلِ أُمَّتِكَ؟ أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ أَعْظَمَ الْأَجْرِ فِي اسْتِصْلَاحِ النَّاسِ، وَأَنَّ رَأْسَ الصَّلَاحِ الطَّاعَةُ لِلْأُمَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؟ فَكَيْفَ لَا تَخَافُ مِنَ الْإِثْمِ وَفِي هَلَاكِ الْعَامَّةِ مِنَ الْإِثْمِ فَوْقَ الَّذِي تَرْجُو مِنَ الْأَجْرِ فِي صَلَاحِ الْخَاصَّةِ؟ أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ أَفْضَلَ الْعِبَادَةِ الْعَمَلُ، وَأَنَّ أَشَدَّ الْعَمَلِ السِّيَاسَةُ؟ فَإِنَّكَ أَيُّهَا المَلِكُ [مَا فِي يَدَيْكَ] عَدْلٌ عَلَىٰ رَعِيَّتِكَ، مُسْتَصْلِحٌ لَهَا بِتَدْبِيرِكَ، فَإِنَّ لَكَ مِنَ الْأَجْرِ بِقَدْرِ مَا اسْتَصْلَحْتَ، أَلَسْتَ أَيُّهَا المَلِكُ إِذَا خَلَّيْتَ مَا فِي يَدَيْكَ مِنْ صَلَاحِ أُمَّتِكَ فَقَدْ أَرَدْتَ فَسَادَهُمْ فَقَدْ حَمَلْتَ مِنَ الْإِثْمِ فِيهِمْ أَعْظَمَ مِمَّا أَنْتَ مُصِيبٌ مِنَ الْأَجْرِ فِي خَاصَّةِ يَدَيْكَ؟ أَلَسْتَ أَيُّهَا المَلِكُ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: مَنْ أَتْلَفَ نَفْساً فَقَدِ اسْتَوْجَبَ لِنَفْسِهِ الْفَسَادَ، وَمَنْ أَصْلَحَهَا فَقَدِ اسْتَوْجَبَ الصَّلَاحَ لِبَدَنِهِ؟ وَأَيُّ فَسَادٍ أَعْظَمُ مِنْ رَفْضِ هَذِهِ الرَّعِيَّةِ الَّتِي أَنْتَ إِمَامُهَا، وَالْإِقَامَةِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي أَنْتَ نِظَامُهَا؟ حَاشَا لَكَ أَيُّهَا المَلِكُ أَنْ تَخْلَعَ عَنْكَ لِبَاسَ المُلْكِ الَّذِي هُوَ الْوَسِيلَةُ إِلَىٰ شَرَفِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

قَالَ: قَدْ فَهِمْتُ الَّذِي ذَكَرْتُمْ، وَعَقَلْتُ الَّذِي وَصَفْتُمْ، فَإِنْ كُنْتُ إِنَّمَا أَطْلُبُ المُلْكَ عَلَيْكُمْ لِلْعَدْلِ فِيكُمْ وَالْأَجْرِ مِنَ اللهِ تَعَالَىٰ ذِكْرُهُ فِي اسْتِصْلَاحِكُمْ بِغَيْرِ أَعْوَانٍ يَرْفِدُونَنِي وَوُزَرَاءَ يَكْفُونَنِي، فَمَا عَسَيْتُ أَنْ أَبْلُغَ بِالْوَحْدَةِ فِيكُمْ؟ أَلَسْتُمْجَمِيعاً نُزُعاً إِلَىٰ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا وَلَذَّاتِهَا؟ وَلَا آمَنُ أَنْ أَخْلُدَ إِلَىٰ الْحَالِ(1) الَّتِي أَرْجُو أَنْ أَدَعَهَا وَأَرْفِضَهَا، فَإِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ أَتَانِي المَوْتُ عَلَىٰ غِرَّةٍ، فَأَنْزَلَنِي عَنْ سَرِيرِ مُلْكِي إِلَىٰ بَطْنِ الْأَرْضِ، وَكَسَانِي التُّرَابَ بَعْدَ الدِّيبَاجِ وَالمَنْسُوجِ بِالذَّهَبِ وَنَفِيسِ الْجَوْهَرِ، وَضَمَّنِي إِلَىٰ الضِّيقِ بَعْدَ السَّعَةِ، وَأَلْبَسَنِي الْهَوَانَ بَعْدَ الْكَرَامَةِ، فَأَصِيرُ فَرِيداً بِنَفْسِي

ص: 407


1- في بعض النُّسَخ: (إلىٰ الدنيا).

لَيْسَ مَعِي أَحَدٌ مِنْكُمْ فِي الْوَحْدَةِ، قَدْ أَخْرَجْتُمُونِي مِنَ الْعُمْرَانِ، وَأَسْلَمْتُمُونِي إِلَىٰ الْخَرَابِ، وَخَلَّيْتُمْ بَيْنَ لَحْمِي وَبَيْنَ سِبَاعِ الطَّيْرِ وَحَشَرَاتِ الْأَرْضِ، فَأَكَلَتْ مِنِّي النَّمْلَةُ فَمَا فَوْقَهَا مِنَ الْهَوَامِّ وَصَارَ جَسَدِي دُوداً وَجِيفَةً قَذِرَةً، الذُّلُّ لِي حَلِيفٌ، وَالْعِزُّ مِنِّي غَرِيبٌ، أَشَدُّكُمْ حُبًّا لِي أَسْرَعُكُمْ إِلَىٰ دَفْنِي، وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنِي وَبَيْنَ مَا قَدَّمْتُ مِنْ عَمَلِي وَأَسْلَفْتُ مِنْ ذُنُوبِي، فَيُورِثُنِي ذَلِكَ الْحَسْرَةَ، وَيُعْقِبُنِي النَّدَامَةَ، وَقَدْ كُنْتُمْ وَعَدْتُمُونِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِنْ عَدُوِّي الضَّارِّ، فَإِذَا أَنْتُمْ لَا مَنْعَ عِنْدَكُمْ وَلَا قُوَّةَ عَلَىٰ ذَلِكَ لَكُمْ وَلَا سَبِيلَ، أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي مُحْتَالٌ لِنَفْسِي إِذْ جِئْتُمْ بِالْخِدَاعِ، وَنَصَبْتُمْ لِي شِرَاكَ الْغُرُورِ(1).

فَقَالُوا: أَيُّهَا المَلِكُ المَحْمُودُ، لَسْنَا الَّذِي كُنَّا كَمَا أَنَّكَ لَسْتَ الَّذِي كُنْتَ، وَقَدْ أَبْدَلَنَا الَّذِي أَبْدَلَكَ، وَغَيَّرَنَا الَّذِي غَيَّرَكَ، فَلَا تَرُدَّ عَلَيْنَا تَوْبَتَنَا وَبَذْلَ نَصِيحَتِنَا، قَالَ: أَنَا مُقِيمٌ فِيكُمْ مَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ وَمُفَارِقُكُمْ إِذَا خَالَفْتُمُوهُ.

فَأَقَامَ ذَلِكَ المَلِكُ فِي مُلْكِهِ وَأَخَذَ جُنُودُهُ بِسِيرَتِهِ وَاجْتَهَدُوا فِي الْعِبَادَةِ، فَخَصَبَ بِلَادُهُمْ وَغَلَبُوا عَدُوَّهُمْ وَازْدَادَ مُلْكُهُمْ حَتَّىٰ هَلَكَ ذَلِكَ المَلِكُ، وَقَدْ صَارَ فِيهِمْ بِهَذِهِ السِّيرَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَكَانَ جَمِيعُ مَا عَاشَ أَرْبَعاً وَسِتِّينَ سَنَةً.

قَالَ يُوذَاسُفُ: قَدْ سُرِرْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ جِدًّا، فَزِدْنِي مِنْ نَحْوِهِ أَزْدَدْسُرُوراً وَلِرَبِّي شُكْراً.

قَالَ الْحَكِيمُ: زَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ مَلِكٌ مِنَ المُلُوكِ الصَّالِحِينَ، وَكَانَ لَهُ جُنُودٌ يَخْشَوْنَ اللهَ (عزوجل) وَيَعْبُدُونَهُ، وَكَانَ فِي مُلْكِ أَبِيهِ شِدَّةٌ مِنْ زَمَانِهِمْ، وَالتَّفَرُّقُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَيَنْقُصُ الْعَدُوُّ مِنْ بِلَادِهِمْ، وَكَانَ يَحُثُّهُمْ عَلَىٰ تَقْوَىٰ اللهِ (عزوجل) وَخَشْيَتِهِ وَالْاِسْتِعَانَةِ بِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ وَالْفَزَعِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا مَلَكَ ذَلِكَ المَلِكُ قَهَرَ عَدُوَّهُ وَاسْتَجْمَعَتْ رَعِيَّتُهُ وَصَلَحَتْ بِلَادُهُ وَانْتَظَمَ لَهُ المُلْكُ، فَلَمَّا رَأَىٰ مَا فَضَّلَ اللهُ (عزوجل) بِهِ أَتْرَفَهُ ذَلِكَ وَأَبْطَرَهُ

ص: 408


1- الشراك: آلة الصيد.

وَأَطْغَاهُ حَتَّىٰ تَرَكَ عِبَادَةَ اللهِ (عزوجل) وَكَفَرَ نِعَمَهُ، وَأَسْرَعَ فِي قَتْلِ مَنْ عَبَدَ اللهِ، وَدَامَ مُلْكُهُ وَطَالَتْ مُدَّتُهُ حَتَّىٰ ذَهَلَ النَّاسُ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ قَبْلَ مُلْكِهِ وَنُشُوِّهِ، وَأَطَاعُوهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَأَسْرَعُوا إِلَىٰ الضَّلَالَةِ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَىٰ ذَلِكَ فَنَشَأَ فِيهِ الْأَوْلَادُ وَصَارَ لَا يُعْبَدُ اللهُ (عزوجل) فِيهِمْ وَلَا يُذْكَرُ بَيْنَهُمْ اسْمُهُ، وَلَا يَحْسَبُونَ أَنَّ لَهُمْ إِلَهاً غَيْرَ المَلِكِ، وَكَانَ ابْنُ المَلِكِ قَدْ عَاهَدَ اللهَ (عزوجل) فِي حَيَاةِ أَبِيهِ إنْ هُوَ مَلَكَ يَوْماً أَنْ يَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللهِ (عزوجل) بِأَمْرٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ المُلُوكِ يَعْمَلُونَ بِهِ وَلَا يَسْتَطِيعُونَهُ، فَلَمَّا مَلَكَ أَنْسَاهُ المُلْكُ رَأْيَهُ الْأَوَّلَ وَنِيَّتَهُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَسَكِرَ سُكْرَ صَاحِبِ الْخَمْرِ، فَلَمْ يَكُنْ يَصْحُو وَيُفِيقُ(1). وَكَانَ مِنْ أَهْلِ لُطْفِ المَلِكِ رَجُلٌ صَالِحٌ أَفْضَلُ أَصْحَابِهِ مَنْزِلَةً عِنْدَهُ، فَتَوَجَّعَ لَهُ مِمَّا رَأَىٰ مِنْ ضَلَالَتِهِ فِي دِينِهِ وَنِسْيَانِهِ مَا عَاهَدَ اللهَ عَلَيْهِ، وَكَانَ كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَعِظَهُ ذَكَرَ عُتُوَّهُ وَجَبَرُوتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ تِلْكَ الْأُمَّةِ غَيْرُهُ وَغَيْرُ رَجُلٍ آخَرَ فِي نَاحِيَةِ أَرْضِ المَلِكِ لَا يُعْرَفُ مَكَانُهُ وَلَا يُدْعَىٰ بِاسْمِهِ.

فَدَخَلَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَىٰ المَلِكِ بِجُمْجُمَةٍ قَدْ لَفَّهَا فِي ثِيَابِهِ، فَلَمَّا جَلَسَ عَنْ يَمِينِ المَلِكِ انْتَزَعَهَا عَنْ ثِيَابِهِ فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ وَطِئَهَا بِرِجْلِهِ، فَلَمْ يَزَلْيَفْرُكُهَا(2) بَيْنَ يَدَيِ المَلِكِ وَعَلَىٰ بِسَاطِهِ حَتَّىٰ دَنِسَ مَجْلِسُ المَلِكِ بِمَا تَحَاتُّ مِنْ تِلْكَ الْجُمْجُمَةِ، فَلَمَّا رَأَىٰ المَلِكُ مَا صَنَعَ غَضِبَ مِنْ ذَلِكَ غَضَباً شَدِيداً، وَشَخَصَتْ إِلَيْهِ أَبْصَارُ جُلَسَائِهِ، وَاسْتَعَدَّتِ الْحَرَسُ بِأَسْيَافِهِمْ انْتِظَاراً لِأَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِقَتْلِهِ، وَالمَلِكُ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ لِغَضَبِهِ، وَقَدْ كَانَتِ المُلُوكُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ عَلَىٰ جَبَرُوتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ ذَوِي أَنَاةٍ وَتُؤَدَةٍ، اسْتِصْلَاحاً لِلرَّعِيَّةِ عَلَىٰ عِمَارَةِ أَرْضِهِمْ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَعْوَنَ لِلْجَلْبِ وَأَدَّىٰ لِلْخَرَاجِ، فَلَمْ يَزَلِ المَلِكُ سَاكِتاً عَلَىٰ ذَلِكَ حَتَّىٰ قَامَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَفَّ تِلْكَ الْجُمْجُمَةَ، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، فَلَمَّا رَأَىٰ أَنَّ المَلِكَ لَا يَسْأَلُهُ عَنْ تِلْكَ الْجُمْجُمَةِ، وَلَا

ص: 409


1- صحا السكران: ذهب سكره وأفاق.
2- فرك الثوب: دلكه، الشيء عن الثوب أزاله وحكَّه حتَّىٰ تفتَّت.

يَسْتَنْطِقُهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهَا أَدْخَلَ مَعَ تِلْكَ الْجُمْجُمَةِ مِيزَاناً وَقَلِيلاً مِنْ تُرَابٍ، فَلَمَّا صَنَعَ بِالْجُمْجُمَةِ مَا كَانَ يَصْنَعُ أَخَذَ الْمِيزَانَ وَجَعَلَ فِي إِحْدَىٰ كَفَّتَيْهِ دِرْهَماً وَفِي الْأُخْرَىٰ بِوَزْنِهِ تُرَاباً، ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ التُّرَابَ فِي عَيْنِ تِلْكَ الْجُمْجُمَةِ، ثُمَّ أَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَوَضَعَهَا فِي مَوْضِعِ الْفَمِ مِنْ تِلْكَ الْجُمْجُمَةِ.

فَلَمَّا رَأَىٰ المَلِكُ مَا صَنَعَ قَلَّ صَبْرُهُ وَبَلَغَ مَجْهُودَهُ، فَقَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ إِنَّمَا اجْتَرَأْتَ عَلَىٰ مَا صَنَعْتَ لِمَكَانِكَ مِنِّي وَإِدْلَالِكَ عَلَيَّ، وَفَضْلِ مَنْزِلَتِكَ عِنْدِي، وَلَعَلَّكَ تُرِيدُ بِمَا صَنَعْتَ أَمْراً.

فَخَرَّ الرَّجُلُ لِلْمَلِكِ سَاجِداً وَقَبَّلَ قَدَمَيْهِ، وَقَالَ: أَيُّهَا المَلِكُ، أَقْبِلْ عَلَيَّ بِعَقْلِكَ كُلِّهِ فَإِنَّ مَثَلَ الْكَلِمَةِ مَثَلُ السَّهْمِ إِذَا رُمِيَ بِهِ فِي أَرْضٍ لَيِّنَةٍ ثَبَتَ فِيهَا وَإِذَا رُمِيَ بِهِ فِي الصَّفَا لَمْ يَثْبُتْ، وَمَثَلُ الْكَلِمَةِ كَمَثَلِ المَطَرِ إِذَا أَصَابَ أَرْضاً طَيِّبَةً مَزْرُوعَةً نَبَتَ فِيهَا وَإِذَا أَصَابَ السِّبَاخَ لَمْ يَنْبُتْ، وَإِنَّ أَهْوَاءَ النَّاسِ مُتَفَرِّقَةٌ، وَالْعَقْلُ وَالْهَوَىٰ يَصْطَرِعَانِ فِي الْقَلْبِ، فَإِنْ غَلَبَ هَوًى الْعَقْلَ عَمِلَ الرَّجُلُ بِالطَّيْشِ وَالسَّفَهِ، وَإِنْ كَانَ الْهَوَىٰ هُوَ المَغْلُوبُ لَمْ يُوجَدْ فِي أَمْرِ الرَّجُلِسَقْطَةٌ، فَإِنِّي لَمْ أَزَلْ مُنْذُ كُنْتُ غُلَاماً أُحِبُّ الْعِلْمَ وَأَرْغَبُ فِيهِ وَأُوثِرُهُ عَلَىٰ الْأُمُورِ كُلِّهَا، فَلَمْ أَدَعْ عِلْماً إِلَّا بَلَغْتُ مِنْهُ أَفْضَلَ مَبْلَغٍ، فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ أَطُوفُ بَيْنَ الْقُبُورِ إِذْ قَدْ بَصُرْتُ بِهَذِهِ الْجُمْجُمَةِ بَارِزَةً مِنْ قُبُورِ المُلُوكِ، فَغَاظَنِي مَوْقِعُهَا وَفِرَاقُهَا جَسَدَهَا غَضَباً لِلْمُلُوكِ، فَضَمَمْتُهَا إِلَيَّ وَحَمَلْتُهَا إِلَىٰ مَنْزِلِي فَأَلْبَسْتُهَا الدِّيبَاجَ وَنَضَحْتُهَا بِمَاءِ الْوَرْدِ وَالطِّيبِ وَوَضَعْتُهَا عَلَىٰ الْفُرُشِ، وَقُلْتُ: إِنْ كَانَتْ مِنْ جَمَاجِمِ المُلُوكِ فَسَيُؤْثِرُ فِيهَا إِكْرَامِي إِيَّاهَا وَتَرْجِعُ إِلَىٰ جَمَالِهَا وَبَهَائِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جَمَاجِمِ المَسَاكِينِ فَإِنَّ الْكَرَامَةَ لَا تَزِيدُهَا شَيْئاً، فَفَعَلْتُ ذَلِكَ بِهَا أَيَّاماً، فَلَمْ أَسْتَنْكِرْ مِنْ هَيْأَتِهَا شَيْئاً، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ دَعَوْتُ عَبْداً هُوَ أَهْوَنُ عَبِيدِي عِنْدِي فَأَهَانَهَا، فَإِذَا هِيَ عَلَىٰ حَالَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ الْإِهَانَةِ وَالْإِكْرَامِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ أَتَيْتُ الْحُكَمَاءَ فَسَأَلْتُهُمْ عَنْهَا فَلَمْ أَجِدْ عِنْدَهُمْ عِلْماً بِهَا، ثُمَّ عَلِمْتُ أَنَّ المَلِكَ مُنْتَهَىٰ الْعِلْمِ

ص: 410

وَمَأْوَىٰ

الْحِلْمِ، فَأَتَيْتُكَ خَائِفاً عَلَىٰ نَفْسِي وَلَمْ يَكُنْ لِي أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ تَبْدَأَنِي بِهِ، وَأُحِبُّ أَنْ تُخْبِرَنِي أَيُّهَا المَلِكُ أَجُمْجُمَةُ مَلِكٍ هِيَ أَمْ جُمْجُمَةُ مِسْكِينٍ؟ فَإِنَّهَا لَمَّا أَعْيَانِي أَمْرُهَا تَفَكَّرْتُ فِي أَمْرِهَا وَفِي عَيْنِهَا الَّتِي كَانَتْ لَا يَمْلَؤُهَا شَيْءٌ حَتَّىٰ لَوْ قَدَرَتْ عَلَىٰ مَا دُونَ السَّمَاءِ مِنْ شَيْءٍ تَطَلَّعَتْ إِلَىٰ أَنْ تَتَنَاوَلَ مَا فَوْقَ السَّمَاءِ، فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ مَا الَّذِي يَسُدُّهَا وَيَمْلَؤُهَا، فَإِذَا وَزْنُ دِرْهَمٍ مِنْ تُرَابٍ قَدْ سَدَّهَا وَمَلَأَهَا، وَنَظَرْتُ إِلَىٰ فِيهَا(1) الَّذِي لَمْ يَكُنْ يَمْلَؤُهُ شَيْ ءٌ فَمَلَأَتْهُ قَبْضَةٌ مِنْ تُرَابٍ، فَإِنْ أَخْبَرْتَنِي أَيُّهَا المَلِكُ أَنَّهَا جُمْجُمَةُ مِسْكِينٍ احْتَجَجْتُ عَلَيْكَ بِأَنِّي قَدْ وَجَدْتُهَا وَسْطَ قُبُورِ المُلُوكِ، ثُمَّ اجْمَعْ جَمَاجِمَ مُلُوكٍ وَجَمَاجِمَ مَسَاكِينَ فَإِنْ كَانَ لِجَمَاجِمِكُمْ عَلَيْهَا فَضْلٌ فَهُوَ كَمَا قُلْتَ، وَإِنْ أَخْبَرْتَنِي بِأَنَّهَا مِنْ جَمَاجِمِ المُلُوكِ أَنْبَأْتُكَ أَنَّ ذَلِكَ المَلِكَ الَّذِي كَانَتْ هَذِهِ جُمْجُمَتَهُ قَدْ كَانَ مِنْ بَهَاءِ المَلِكِ وَجَمَالِهِ وَعِزَّتِهِ فِيمِثْلِ مَا أَنْتَ فِيهِ الْيَوْمَ، فَحَاشَاكَ أَيُّهَا المَلِكُ أَنْ تَصِيرَ إِلَىٰ حَالِ هَذِهِ الْجُمْجُمَةِ فَتُوطَأَ بِالْأَقْدَامِ وَتُخْلَطَ بِالتُّرَابِ وَيَأْكُلَكَ الدُّودُ وَتُصْبِحَ بَعْدَ الْكَثْرَةِ قَلِيلاً وَبَعْدَ الْعِزَّةِ ذَلِيلاً، وَتَسَعَكَ حُفْرَةٌ طُولُهَا أَدْنَىٰ مِنْ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ، وَيُورَثَ مُلْكُكَ وَيَنْقَطِعَ ذِكْرُكَ وَيَفْسُدَ صَنَائِعُكَ وَيُهَانَ مَنْ أَكْرَمْتَ وَيُكْرَمَ مَنْ أَهَنْتَ، وَتَسْتَبْشِرَ أَعْدَاؤُكَ ويَضِلَّ أَعْوَانُكَ وَيَحُولَ التُّرَابُ دُونَكَ، فَإِنْ دَعَوْنَاكَ لَمْ تَسْمَعْ، وَإِنْ أَكْرَمْنَاكَ لَمْ تَقْبَلْ، وَإِنْ أَهَنَّاكَ لَمْ تَغْضَبْ، فَيَصِيرَ بَنُوكَ يَتَامَىٰ وَنِسَاؤُكَ أَيَامَىٰ(2) وَأَهْلُكَ يُوشِكُ أَنْ يَسْتَبْدِلْنَ أَزْوَاجاً غَيْرَكَ.

فَلَمَّا سَمِعَ المَلِكُ ذَلِكَ فَزِعَ قَلْبُهُ وَانْسَكَبَتْ عَيْنَاهُ يَبْكِي وَيَعُولُ وَيَدْعُو بِالْوَيْلِ، فَلَمَّا رَأَىٰ الرَّجُلُ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ قَدِ اسْتَمْكَنَ مِنَ المَلِكِ، وَقَوْلَهُ قَدْ أَنْجَعَ فِيهِ زَادَهُ ذَلِكَ جُرْأَةً عَلَيْهِ وَتَكْرِيراً لِمَا قَالَ، فَقَالَ لَهُ المَلِكُ: جَزَاكَ اللهُ عَنِّي خَيْراً وَجَزَىٰ مَنْ حَوْلِي مِنَ الْعُظَمَاءِ شَرًّا، لَعَمْرِي لَقَدْ عَلِمْتُ مَا أَرَدْتَ بِمَقَالَتِكَ هَذِهِ، وَقَدْ أَبْصَرْتُ

ص: 411


1- يعني فمها.
2- أي لا زوج لهنَّ.

أَمْرِي، فَسَمِعَ النَّاسُ خَبَرَهُ، فَتَوَجَّهُوا أَهْلُ الْفَضْلِ نَحْوَهُ، وَخُتِمَ لَهُ بِالْخَيْرِ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ إِلَىٰ أَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا.

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: زِدْنِي مِنْ هَذَا المَثَلِ.

قَالَ الْحَكِيمُ: زَعَمُوا أَنَّ مَلِكاً كَانَ فِي أَوَّلِ الزَّمَانِ، وَكَانَ حَرِيصاً عَلَىٰ أَنْ يُولَدَ لَهُ، وَكَانَ لَا يَدَعُ شَيْئاً مِمَّا يُعَالِجُ بِهِ النَّاسُ أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَتَاهُ وَصَنَعَهُ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ حَمَلَتْ امْرَأَةٌ لَهُ مِنْ نِسَائِهِ فَوَلَدَتْ لَهُ غُلَاماً، فَلَمَّا نَشَأَ وَتَرَعْرَعَ(1) خَطَا ذَاتَ يَوْمٍ خُطْوَةً فَقَالَ: مَعَادَكُمْ تَجْفُونَ، ثُمَّ خَطَا أُخْرَىٰ فَقَالَ: تَهْرَمُونَ، ثُمَّ خَطَا الثَّالِثَةَ فَقَالَ: ثُمَّ تَمُوتُونَ، ثُمَّ عَادَ كَهَيْأَتِهِ يَفْعَلُ كَمَا يَفْعَلُ الصَّبِيُّ.فَدَعَا المَلِكُ الْعُلَمَاءَ وَالمُنَجِّمِينَ، فَقَالَ: أَخْبِرُونِي خَبَرَ ابْنِي هَذَا، فَنَظَرُوا فِي شَأْنِهِ وَأَمْرِهِ، فَأَعْيَاهُمْ أَمْرُهُ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِيهِ عِلْمٌ، فَلَمَّا رَأَىٰ المَلِكُ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ فِيهِ عِلْمٌ دَفَعَهُ إِلَىٰ المُرْضِعَاتِ فَأَخَذْنَ فِي إِرْضَاعِهِ إِلَّا أَنَّ مُنَجِّماً مِنْهُمْ قَالَ: إِنَّهُ سَيَكُونُ إِمَاماً، وَجَعَلَ عَلَيْهِ حُرَّاساً لَا يُفَارِقُونَهُ حَتَّىٰ إِذَا شَبَّ انْسَلَّ يَوْماً مِنْ عِنْدِ مُرْضِعِيهِ وَالْحَرَسِ، فَأَتَىٰ السُّوقَ، فَإِذَا هُوَ بِجِنَازَةٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: إِنْسَاناً مَاتَ، قَالَ: مَا أَمَاتَهُ؟ قَالُوا: كَبُرَ وَفَنِيَتْ أَيَّامُهُ وَدَنَا أَجَلُهُ فَمَاتَ، قَالَ: وَكَانَ صَحِيحاً حَيًّا يَمْشِي وَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ؟ قَالُوا: نَعَمْ.

ثُمَّ مَضَىٰ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ شَيْخٍ كَبِيرٍ، فَقَامَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ مُتَعَجِّباً مِنْهُ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: رَجُلٌ شَيْخٌ كَبِيرٌ قَدْ فَنِيَ شَبَابُهُ وَكَبِرَ، قَالَ: وَكَانَ صَغِيراً ثُمَّ شَابَ؟ قَالُوا: نَعَمْ.

ثُمَّ مَضَىٰ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مَرِيضٍ مُسْتَلْقًى عَلَىٰ ظَهْرِهِ، فَقَامَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَتَعَجَّبُ مِنْهُ، فَسَأَلَهُمْ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: رَجُلٌ مَرِيضٌ، فَقَالَ: أَوَكَانَ هَذَا صَحِيحاً ثُمَّ مَرِضَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: وَاللهِ لَئِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنَّ النَّاسَ لَمَجْنُونُونَ.

ص: 412


1- ترعرع الصبيُّ: نشأ وشبَّ.

فَافْتُقِدَ الْغُلَامُ عِنْدَ ذَلِكَ فَطُلِبَ فَإِذَا هُوَ بِالسُّوقِ فَأَتَوْهُ فَأَخَذُوهُ وَذَهَبُوا بِهِ فَأَدْخَلُوهُ الْبَيْتَ، فَلَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ اسْتَلْقَىٰ عَلَىٰ قَفَاهُ يَنْظُرُ إِلَىٰ خَشَبِ سَقْفِ الْبَيْتِ وَيَقُولُ: كَيْفَ كَانَ هَذَا؟ قَالُوا: كَانَتْ شَجَرَةً ثُمَّ صَارَتْ خَشَباً ثُمَّ قُطِعَ ثُمَّ بُنِيَ هَذَا الْبَيْتُ ثُمَ جُعِلَ هَذَا الْخَشَبُ عَلَيْهِ، فَبَيْنَا هُوَ فِي كَلَامِهِ إِذْ أَرْسَلَ المَلِكُ إِلَىٰ المُوَكَّلِينَ بِهِ: انْظُرُوا هَلْ يَتَكَلَّمُ أَوْ يَقُولُ شَيْئاً؟ قَالُوا: نَعَمْ، وقَدْ وَقَعَ فِي كَلَامٍ مَا نَظُنُّهُ إِلَّا وَسْوَاساً، فَلَمَّا رَأَىٰ المَلِكُ ذَلِكَ وَسَمِعَ جَمِيعَ مَا لَفَظَ بِهِ الْغُلَامُ، دَعَا الْعُلَمَاءَ فَسَأَلَهُمْ، فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ عِنْدَهُمْ عِلْماً إِلَّا الرَّجُلَ الْأَوَّلَ، فَأَنْكَرَ قَوْلَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَيُّهَا المَلِكُ، لَوْ زَوَّجْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي تَرَىٰ وَأَقْبَلَ وَعَقَلَ وَأَبْصَرَ،فَبَعَثَ المَلِكُ فِي الْأَرْضِ يَطْلُبُ وَيَلْتَمِسُ لَهُ امْرَأَةً، فَوُجِدَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَأَجْمَلِهِمْ، فَزَوَّجَهَا مِنْهُ، فَلَمَّا أَخَذُوا فِي وَلِيمَةِ عُرْسِهِ أَخَذَ اللَّاعِبُونَ يَلْعَبُونَ وَالزَّمَّارُونَ يُزَمِّرُونَ، فَلَمَّا سَمِعَ الْغُلَامُ جَلَبَتَهُمْ(1) وَأَصْوَاتَهُمْ قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَؤُلَاءِ لَعَّابُونَ وَزَمَّارُونَ جُمِعُوا لِعُرْسِكَ، فَسَكَتَ الْغُلَامُ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الْعُرْسِ وَأَمْسَوْا دَعَا المَلِكُ امْرَأَةَ ابْنِهِ فَقَالَ لَهَا: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِي وَلَدٌ غَيْرُ هَذَا الْغُلَامِ، فَإِذَا دَخَلْتِ عَلَيْهِ فَالْطُفِي بِهِ وَاقْرُبِي مِنْهُ وَتَحَبَّبِي إِلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَتِ المَرْأَةُ عَلَيْهِ أَخَذَتْ تَدْنُو مِنْهُ وَتَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ، فَقَالَ الْغُلَامُ: عَلَىٰ رِسْلِكِ(2) فَإِنَّ اللَّيْلَ طَوِيلٌ، بَارَكَ اللهُ فِيكِ، وَاصْبِرِي حَتَّىٰ نَأْكُلَ وَنَشْرَبَ، فَدَعَا بِالطَّعَامِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ، فَلَمَّا فَرَغَ جَعَلَتِ المَرْأَةُ تَشْرَبُ، فَلَمَّا أُخِذَ الشَّرَابُ مِنْهَا نَامَتْ.

فَقَامَ الْغُلَامُ فَخَرَجَ مِنَ الْبَيْتِ، وَانْسَلَّ مِنَ الْحَرَسِ وَالْبَوَّابِينَ حَتَّىٰ خَرَجَ وَتَرَدَّدَ فِي المَدِينَةِ، فَلَقِيَهُ غُلَامٌ مِثْلُهُ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ، فَاتَّبَعَهُ وَأَلْقَىٰ ابْنُ المَلِكِ عَنْهُ تِلْكَ الثِّيَابَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ وَلَبِسَ ثِيَابَ الْغُلَامِ وَتَنَكَّرَ جُهْدَهُ، وَخَرَجَا جَمِيعاً مِنَ

ص: 413


1- جلب القوم: ضجُّوا واختلطت أصواتهم. والجلّاب والمجلّب - بشدِّ اللَّام -: المصوت.
2- أي علىٰ مهلك، يعني امهل وتأنَّ.

المَدِينَةِ، فَسَارَا لَيْلَتَهُمَا حَتَّىٰ إِذَا قَرُبَ الصُّبْحُ خَشِيَا الطَّلَبَ فَكَمَنَا، فَأُتِيَتِ الْجَارِيَةُ عِنْدَ الصُّبْحِ فَوَجَدُوهَا نَائِمَةً، فَسَأَلُوهَا: أَيْنَ زَوْجُكِ؟ قَالَتْ: كَانَ عِنْدِي السَّاعَةَ، فَطُلِبَ الْغُلَامُ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَمْسَىٰ الْغُلَامُ وَصَاحِبُهُ سَارَا ثُمَّ جَعَلَا يَسِيرَانِ اللَّيْلَ وَيَكْمُنَانِ النَّهَارَ حَتَّىٰ خَرَجَا مِنْ سُلْطَانِ أَبِيهِ وَوَقَعَا فِي مُلْكِ سُلْطَانٍ آخَرَ.

وَقَدْ كَانَ لِذَلِكَ المَلِكِ الَّذِي صَارَا إِلَىٰ سُلْطَانِهِ ابْنَةٌ قَدْ جَعَلَ لَهَا أَنْ لَا يُزَوِّجَهَا أَحَداً إِلَّا مَنْ هَوِيَتْهُ وَرَضِيَتْهُ، وَبَنَىٰ لَهَا غُرْفَةً عَالِيَةً مُشْرِفَةً عَلَىٰ الطَّرِيقِ، فَهِيَ فِيهَا جَالِسَةٌ تَنْظُرُ إِلَىٰ كُلِّ مَنْ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَبَيْنَمَا هِيَ كَذَلِكَ إِذْنَظَرَتْ إِلَىٰ الْغُلَامِ يَطُوفُ فِي السُّوقِ وَصَاحِبُهُ مَعَهُ فِي خُلْقَانِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَىٰ أَبِيهَا: إِنِّي قَدْ هَوِيتُ رَجُلاً، فَإِنْ كُنْتَ مُزَوِّجِي أَحَداً مِنَ النَّاسِ فَزَوِّجْنِي مِنْهُ، وَأُتِيَتْ أُمُّ الْجَارِيَةِ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّ ابْنَتَكِ قَدْ هَوِيَتْ رَجُلاً، وَهِيَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَأَقْبَلَتْ إِلَيْهَا فَرِحَةً حَتَّىٰ تَنْظُرَ إِلَىٰ الْغُلَامِ، فَأَرَوْهَا إِيَّاهُ، فَنَزَلَتْ أُمُّهَا مُسْرِعَةً حَتَّىٰ دَخَلَتْ عَلَىٰ المَلِكِ، فَقَالَتْ: إِنَّ ابْنَتَكَ قَدْ هَوِيَتْ رَجُلاً، فَأَقْبَلَ المَلِكُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَرُونِيهِ، فَأَرَوْهُ مِنْ بُعْدٍ، فَأَمَرَ أَنْ يُلْبَسَ ثِيَاباً أُخْرَىٰ وَنَزَلَ فَسَأَلَهُ وَاسْتَنْطَقَهُ وَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ وَمِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قَالَ الْغُلَامُ: وَمَا سُؤَالُكَ عَنِّي؟ أَنَا رَجُلٌ مِنْ مَسَاكِينِ النَّاسِ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَغَرِيبٌ، وَمَا يُشْبِهُ لَوْنُكَ أَلْوَانَ أَهْلِ هَذِهِ المَدِينَةِ، فَقَالَ الْغُلَامُ: مَا أَنَا بِغَرِيبٍ، فَعَالَجَهُ المَلِكُ أَنْ يَصْدُقَهُ قِصَّتَهُ فَأَبَىٰ، فَأَمَرَ المَلِكُ أُنَاساً أَنْ يَحْرُسُوهُ وَيَنْظُرُوا أَيْنَ يَأْخُذُ، وَلَا يَعْلَمُ بِهِمْ، ثُمَّ رَجَعَ المَلِكُ إِلَىٰ أَهْلِهِ، فَقَالَ: رَأَيْتُ رَجُلاً كَأَنَّهُ ابْنُ مَلِكٍ وَمَا لَهُ حَاجَةٌ فِيمَا تُرَاوِدُونَهُ عَلَيْهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ المَلِكَ يَدْعُوكَ، فَقَالَ الْغُلَامُ: وَمَا أَنَا وَالمَلِكُ؟ يَدْعُونِّي وَمَا لِي إِلَيْهِ حَاجَةٌ وَمَا يَدْرِي مَنْ أَنَا، فَانْطُلِقَ بِهِ عَلَىٰ كُرْهٍ مِنْهُ حَتَّىٰ دَخَلَ عَلَىٰ المَلِكِ، فَأَمَرَ بِكُرْسِيٍّ فَوُضِعَ لَهُ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ وَدَعَا المَلِكُ امْرَأَتَهُ وَابْنَتَهُ فَأَجْلَسَهُمَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ خَلْفَهُ، فَقَالَ لَهُ المَلِكُ: دَعَوْتُكَ لِخَيْرٍ، إِنَّ لِيَ ابْنَةً قَدْ رَغِبَتْ فِيكَ أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَهَا مِنْكَ، فَإِنْ كُنْتَ مِسْكِيناً فَأَغْنَيْنَاكَ وَرَفَعْنَاكَ وَشَرَّفْنَاكَ، قَالَ الْغُلَامُ: مَا لِي فِيمَا تَدْعُونِي إِلَيْهِ حَاجَةٌ، فَإِنْ شِئْتَ ضَرَبْتُ لَكَ مَثَلاً أَيُّهَا المَلِكُ، قَالَ: فَافْعَلْ.

ص: 414

قَالَ الْغُلَامُ: زَعَمُوا أَنَّ مَلِكاً مِنَ المُلُوكِ كَانَ لَهُ ابْنٌ، وَكَانَ لِابْنِهِ أَصْدِقَاءُ صَنَعُوا لَهُ طَعَاماً وَدَعَوْهُ إِلَيْهِ، فَخَرَجَ مَعَهُمْ فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا حَتَّىٰ سَكِرُوا فَنَامُوا، فَاسْتَيْقَظَ ابْنُ المَلِكِ فِي وَسَطِ اللَّيْلِ فَذَكَرَ أَهْلَهُ فَخَرَجَ عَامِداً إِلَىٰ مَنْزِلِهِ، وَلَمْ يُوقِظْ أَحَداً مِنْهُمْ، فَبَيْنَا هُوَ فِي مَسِيرِهِ إِذْ بَلَغَ مِنْهُ الشَّرَابُ فَبَصُرَ بِقَبْرٍ عَلَىٰ الطَّرِيقِ فَظَنَّ أَنَّهُ مَدْخَلُ بَيْتِهِ فَدَخَلَهُ، فَإِذَا هُوَ بِرِيحِ المَوْتَىٰ، فَحَسِبَ ذَلِكَ لِمَاكَانَ بِهِ السُّكْرُ أَنَّهُ رِيَاحٌ طَيِّبَةٌ، فَإِذَا هُوَ بِعِظَامٍ لَا يَحْسَبُهَا إِلَّا فُرُشَهُ المُمَهَّدَةَ، فَإِذَا هُوَ بِجَسَدٍ قَدْ مَاتَ حَدِيثاً وَقَدْ أَرْوَحَ فَحَسِبَهُ أَهْلَهُ، فَقَامَ إِلَىٰ جَانِبِهِ فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ وَجَعَلَ يَعْبَثُ بِهِ عَامَّةَ لَيْلِهِ، فَأَفَاقَ حِينَ أَفَاقَ وَنَظَرَ حِينَ نَظَرَ، فَإِذَا هُوَ عَلَىٰ جَسَدٍ مَيِّتٍ وَرِيحٍ مُنْتِنَةٍ قَدْ دَنِسَ ثِيَابُهُ وَجِلْدُهُ، وَنَظَرَ إِلَىٰ الْقَبْرِ وَمَا فِيهِ مِنَ المَوْتَىٰ، فَخَرَجَ وَبِهِ مِنَ السُّوءِ مَا يَخْتَفِىٰ بِهِ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَيْهِ مُتَوَجِّهاً إِلَىٰ بَابِ المَدِينَةِ، فَوَجَدَهُ مَفْتُوحاً، فَدَخَلَهُ حَتَّىٰ أَتَىٰ أَهْلَهُ فَرَأَىٰ أَنَّهُ قَدْ أُنْعِمَ عَلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَلْقَهُ أَحَدٌ، فَأَلْقَىٰ عَنْهُ ثِيَابَهُ تِلْكَ وَاغْتَسَلَ وَلَبِسَ لِبَاساً أُخْرَىٰ وَتَطَيَّبَ.

عَمَّرَكَ اللهُ أَيُّهَا المَلِكُ أَتَرَاهُ رَاجِعاً إِلَىٰ مَا كَانَ فِيهِ وَهُوَ يَسْتَطِيعُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَإِنِّي أَنَا هُوَ، فَالْتَفَتَ المَلِكُ إِلَىٰ امْرَأَتِهِ وَابْنَتِهِ، وَقَالَ لَهُمَا: قَدْ أَخْبَرْتُكُمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِيمَا تَدْعُونَهُ رَغْبَةٌ، قَالَتْ أُمُّهَا: لَقَدْ قَصَّرْتَ فِي النَّعْتِ لِابْنَتِي وَالْوَصْفِ لَهَا أَيُّهَا المَلِكُ، وَلَكِنِّي خَارِجَةٌ إِلَيْهِ وَمُكَلِّمَةٌ لَهُ، فَقَالَ المَلِكُ لِلْغُلَامِ: إِنَّ امْرَأَتِي تُرِيدُ أَنْ تُكَلِّمَكَ وَتَخْرُجَ إِلَيْكَ وَلَمْ تَخْرُجْ إِلَىٰ أَحَدٍ قَبْلَكَ، فَقَالَ الْغُلَامُ: لِتَخْرُجْ إِنْ أَحَبَّتْ، فَخَرَجَتْ وَجَلَسَتْ، فَقَالَتْ لِلْغُلَامِ: تَعَالِ إِلَىٰ مَا قَدْ سَاقَ اللهُ إِلَيْكَ مِنَ الْخَيْرِ وَالرِّزْقِ فَأُزَوِّجَكَ ابْنَتِي فَإِنَّكَ لَوْ قَدْ رَأَيْتَهَا وَمَا قَسَمَ اللهُ (عزوجل) لَهَا مِنَ الْجَمَالِ وَالْهَيْأَةِ لَاغْتَبَطْتَ، فَنَظَرَ الْغُلَامُ إِلَىٰ المَلِكِ فَقَالَ: أَفَلَا أَضْرِبُ لَكَ مَثَلاً؟ قَالَ: بَلَىٰ.

قَالَ: إِنَّ سُرَّاقاً تَوَاعَدُوا أَنْ يَدْخُلُوا خِزَانَةَ المَلِكِ لِيَسْرِقُوا، فَنَقَبُوا حَائِطَ الْخِزَانَةِ فَدَخَلُوهَا، فَنَظَرُوا إِلَىٰ مَتَاعٍ لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ قَطُّ، وَإِذَا هُمْ بِقُلَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ مَخْتُومَةٍ

ص: 415

بِالذَّهَبِ، فَقَالُوا: لَا نَجِدُ شَيْئاً أَعْلَىٰ مِنْ هَذِهِ الْقُلَّةِ، هِيَ ذَهَبٌ مَخْتُومَةٌ بِالذَّهَبِ، وَالَّذِي فِيهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي رَأَيْنَا، فَاحْتَمَلُوهَا وَمَضَوْا بِهَا حَتَّىٰ دَخَلُوا غَيْضَةً لَا يَأْمَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً عَلَيْهَا، فَفَتَحُوهَا فَإِذَا فِي وَسَطِهَاأَفَاعٍ، فَوَثَبْنَ فِي وُجُوهِهِمْ فَقَتَلَتْهُمْ أَجْمَعِينَ.

عَمَّرَكَ اللهُ أَيُّهَا المَلِكُ أَفَتَرَىٰ أَحَداً عَلِمَ بِمَا أَصَابَهُمْ وَمَا لَقُوهُ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي تِلْكَ الْقُلَّةِ وَفِيهَا مِنْ الْأَفَاعِي؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَإِنِّي أَنَا هُوَ، فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ لِأَبِيهَا: ائْذَنْ لِي فَأَخْرُجَ إِلَيْهِ بِنَفْسِي وَأُكَلِّمَهُ فَإِنَّهُ لَوْ قَدْ نَظَرَ إِلَيَّ وَإِلَىٰ جَمَالِي وَحُسْنِي وَهَيْأَتِي وَمَا قَسَمَ اللهُ (عزوجل) لِي مِنَ الْجَمَالِ لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ يُجِيبَ.

فَقَالَ المَلِكُ لِلْغُلَامِ: إِنَّ ابْنَتِي تُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْكَ وَلَمْ تَخْرُجْ إِلَىٰ رَجُلٍ قَطُّ، قَالَ: لِتَخْرُجْ إِنْ أَحَبَّتْ، فَخَرَجَتْ عَلَيْهِ وَهِيَ أَحْسَنُ النَّاسِ وَجْهاً وَقَدًّا وَطَرَفاً وَهَيْكَلاً، فَسَلَّمَتْ عَلَىٰ الْغُلَامِ، وَقَالَتْ لِلْغُلَامِ: هَلْ رَأَيْتَ مِثْلِي قَطُّ أَوْ أَتَمَّ أَوْ أَجْمَلَ أَوْ أَكْمَلَ أَوْ أَحْسَنَ؟ وَقَدْ هَوِيتُكَ وَأَحْبَبْتُكَ، فَنَظَرَ الْغُلَامُ إِلَىٰ المَلِكِ فَقَالَ: أَفَلَا أَضْرِبُ لَهَا مَثَلاً؟ قَالَ: بَلَىٰ.

قَالَ الْغُلَامُ: زَعَمُوا أَيُّهَا المَلِكُ أَنَّ مَلِكاً لَهُ ابْنَانِ، فَأَسَرَ أَحَدَهُمَا مَلِكٌ آخَرُ فَحَبَسَهُ فِي بَيْتٍ، وَأَمَرَ أَنْ لَا يَمُرَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا رَمَاهُ بِحَجَرٍ، فَمَكَثَ عَلَىٰ ذَلِكَ حِيناً، ثُمَّ إِنَّ أَخَاهُ قَالَ لِأَبِيهِ: ائْذَنْ لِي فَأَنْطَلِقَ إِلَىٰ أَخِي فَأَفْدِيَهُ وَأَحْتَالَ لَهُ، قَالَ المَلِكُ: فَانْطَلِقْ وَخُذْ مَعَكَ مَا شِئْتَ مِنْ مَالٍ وَمَتَاعٍ وَدَوَابَّ، فَاحْتَمَلَ مَعَهُ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَانْطَلَقَ مَعَهُ المُغَنِّيَاتُ وَالنَّوَائِحُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ مَدِينَةِ ذَلِكَ المَلِكِ أُخْبِرَ المَلِكُ بِقُدُومِهِ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِالْخُرُوجِ إِلَيْهِ، وَأَمَرَ لَهُ بِمَنْزِلٍ خَارِجٍ مِنَ المَدِينَةِ، فَنَزَلَ الْغُلَامُ فِي ذَلِكَ المَنْزِلِ، فَلَمَّا جَلَسَ فِيهِ وَنَشَرَ مَتَاعَهُ وَأَمَرَ غِلْمَانَهُ أَنْ يَبِيعُوا النَّاسَ وَيُسَاهِلُوهُمْ فِي بَيْعِهِمْ وَيُسَامِحُوهُمْ فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَىٰ النَّاسَ قَدْ شُغِلُوا بِالْبَيْعِ انْسَلَّ وَدَخَلَ المَدِينَةَ وَقَدْ عَلِمَ أَيْنَ سِجْنُ أَخِيهِ، ثُمَّ أَتَىٰ السِّجْنَ فَأَخَذَ حَصَاةً فَرَمَىٰ بِهَا لِيَنْظُرَ مَا

ص: 416

بَقِيَ مِنْ نَفَسِ أَخِيهِ، فَصَاحَ حِينَ أَصَابَتْهُ الْحَصَاةُ، وَقَالَ: قَتَلْتَنِي، فَفَزِعَ الْحَرَسُ عِنْدَ ذَلِكَ وَخَرَجُوا إِلَيْهِ وَسَأَلُوهُ: لِمَ صِحْتَ؟ وَمَا شَأْنُكَ؟ وَمَا بَدَا لَكَ؟ وَمَا رَأَيْنَاكَ تَكَلَّمْتَ وَنَحْنُ نُعَذِّبُكَ مُنْذُحِينٍ وَيَضْرِبُكَ وَيَرْمِيكَ كُلُّ مَنْ يَمُرُّ بِكَ بِحَجَرٍ، وَرَمَاكَ هَذَا الرَّجُلُ بِحَصَاةٍ فَصِحْتَ مِنْهَا، فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا مِنْ أَمْرِي عَلَىٰ جَهَالَةٍ، وَرَمَانِي هَذَا عَلَىٰ عِلْمٍ، فَانْصَرَفَ أَخُوهُ رَاجِعاً إِلَىٰ مَنْزِلِهِ وَمَتَاعِهِ، وَقَالَ لِلنَّاسِ: إِذَا كَانَ غَداً فَأْتُونِي أَنْشُرْ عَلَيْكُمْ بَزًّا وَمَتَاعاً لَمْ تَرَوْا مِثْلَهُ قَطُّ، فَانْصَرَفُوا يَوْمَئِذٍ حَتَّىٰ إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ غَدَوْا عَلَيْهِ بِأَجْمَعِهِمْ، فَأَمَرَ بِالْبَزِّ فَنُشِرُوا، وَأَمَرَ بِالمُغَنِّيَاتِ وَالنَّائِحَاتِ وَكُلِّ صِنْفٍ مَعَهُ مِمَّا يُلْهَىٰ بِهِ النَّاسُ، فَأَخَذُوا فِي شَأْنِهِمْ فَاشْتَغَلَ النَّاسُ، فَأَتَىٰ أَخَاهُ فَقَطَعَ عَنْهُ أَغْلَالَهُ، وَقَالَ: أَنَا أُدَاوِيكَ، فَاخْتَلَسَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنَ المَدِينَةِ، فَجَعَلَ عَلَىٰ جِرَاحَاتِهِ دَوَاءً كَانَ مَعَهُ حَتَّىٰ إِذَا وَجَدَ رَاحَةً أَقَامَهُ عَلَىٰ الطَّرِيقِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: انْطَلِقْ فَإِنَّكَ سَتَجِدُ سَفِينَةً قَدْ سُيِّرَتْ لَكَ فِي الْبَحْرِ، فَانْطَلَقَ سَائِراً، فَوَقَعَ فِي جُبٍّ فِيهِ تِنِّينٌ وَعَلَىٰ الْجُبِّ شَجَرَةٌ نَابِتَةٌ، فَنَظَرَ إِلَىٰ الشَّجَرَةِ فَإِذَا عَلَىٰ رَأْسِهَا اثْنَا عَشَرَ غُولاً وَفِي أَسْفَلِهَا اثْنَا عَشَرَ سَيْفاً، وَتِلْكَ السُّيُوفُ مَسْلُولَةٌ مُعَلَّقَةٌ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَحَمَّلُ وَيَحْتَالُ حَتَّىٰ أَخَذَ بِغُصْنٍ مِنَ الشَّجَرَةِ فَتَعَلَّقَ بِهِ وَتَخَلَّصَ وَسَارَ حَتَّىٰ أَتَىٰ الْبَحْرَ فَوَجَدَ سَفِينَةً قَدْ أُعِدَّتْ لَهُ إِلَىٰ جَانِبِ السَّاحِلِ فَرَكِبَ فِيهَا حَتَّىٰ أَتَوْا بِهِ أَهْلَهُ.

عَمَّرَكَ اللهُ أَيُّهَا المَلِكُ أَ تَرَاهُ عَائِداً إِلَىٰ مَا قَدْ عَايَنَ وَلَقِيَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَإِنِّي أَنَا هُوَ، فَيَئِسُوا مِنْهُ، فَجَاءَ الْغُلَامُ الَّذِي صَحِبَهُ مِنَ المَدِينَةِ فَسَارَّهُ، وَقَالَ: اذْكُرْنِي لَهَا وَأَنْكِحْنِيهَا، فَقَالَ الْغُلَامُ لِلْمَلِكِ: إِنَّ هَذَا يَقُولُ: إِنِّي أُحِبُّ المَلِكَ أَنْ يُنْكِحَنِيهَا، فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ، قَالَ: أَفَلَا أَضْرِبُ لَكَ مَثَلاً؟ قَالَ: بَلَىٰ.

قَالَ: إِنَّ رَجُلاً كَانَ فِي قَوْمٍ، فَرَكِبُوا سَفِينَةً فَسَارُوا فِي الْبَحْرِ لَيَالِيَ وَأَيَّاماً، ثُمَّ انْكَسَرَتْ سَفِينَتُهُمْ بِقُرْبِ جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ فِيهَا الْغِيلَانُ، فَغَرِقُوا كُلُّهُمْ سِوَاهُ، وَأَلْقَاهُ

ص: 417

الْبَحْرُ إِلَىٰ الْجَزِيرَةِ، وَكَانَتِ الْغِيلَانُ يُشْرِفْنَ مِنَ الْجَزِيرَةِ إِلَىٰ الْبَحْرِ، فَأَتَىٰ غُولاً فَهَوِيَهَا وَنَكَحَهَا حَتَّىٰ إِذَا كَانَ مَعَ الصُّبْحِ قَتَلَتْهُوَقَسَمَتْ أَعْضَاءَهُ بَيْنَ صَوَاحِبَاتِهَا، وَاتَّفَقَ مِثْلُ ذَلِكَ لِرَجُلٍ آخَرَ، فَأَخَذَتْهُ ابْنَةُ مَلِكِ الْغِيلَانِ فَانْطَلَقَتْ بِهِ فَبَاتَ مَعَهَا يَنْكِحُهَا، وَقَدْ عَلِمَ الرَّجُلُ مَا لَقِيَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ فَلَيْسَ يَنَامُ حَذَراً حَتَّىٰ إِذَا كَانَ مَعَ الصُّبْحِ نَامَتِ الْغُولُ فَانْسَلَّ الرَّجُلُ حَتَّىٰ أَتَىٰ السَّاحِلَ فَإِذَا هُوَ بِسَفِينَةٍ فَنَادَىٰ أَهْلَهَا وَاسْتَغَاثَ بِهِمْ فَحَمَلُوهُ حَتَّىٰ أَتَوْا بِهِ أَهْلَهُ، فَأَصْبَحَتِ الْغِيلَانُ فَأَتَوُا الْغُولَةَ الَّتِي بَاتَتْ مَعَهُ، فَقَالُوا لَهَا: أَيْنَ الرَّجُلُ الَّذِي بَاتَ مَعَكِ؟ قَالَتْ: إِنَّهُ قَدْ فَرَّ مِنِّي، فَكَذَّبُوهَا وَقَالُوا: أَكَلْتِيهِ وَاسْتَأْثَرْتِ بِهِ عَلَيْنَا، فَلَنَقْتُلَنَّكِ إِنْ لَمْ تَأْتِنَا بِهِ، فَمَرَّتْ فِي المَاءِ حَتَّىٰ أَتَتْهُ فِي مَنْزِلِهِ وَرَحْلِهِ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ وَجَلَسَتْ عِنْدَهُ وَقَالَتْ لَهُ: مَا لَقِيتَ فِي سَفَرِكَ هَذَا؟ قَالَ: لَقِيتُ بَلَاءً خَلَّصَنِيَ اللهُ مِنْهُ، وَقَصَّ عَلَيْهَا ذَلِكَ، فَقَالَتْ: وَقَدْ تَخَلَّصْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَتْ: أَنَا الْغُولَةُ وَجِئْتُ لِآخُذَكَ، فَقَالَ لَهَا: أَنْشُدُكِ اللهَ أَنْ تُهْلِكِينِي فَإِنِّي أَدُلُّكِ عَلَىٰ مَكَانِ رَجُلٍ، قَالَتْ: إِنِّي أَرْحَمُكَ، فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا دَخَلَا عَلَىٰ المَلِكِ قَالَتْ: اسْمَعْ مِنَّا أَصْلَحَ اللهُ المَلِكَ إِنِّي تَزَوَّجْتُ بِهَذَا الرَّجُلِ وَهُوَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، ثُمَّ إِنَّهُ كَرِهَنِي وَكَرِهَ صُحْبَتِي، فَانْظُرْ فِي أَمْرِنَا، فَلَمَّا رَآهَا المَلِكُ أَعْجَبَهُ جَمَالُهَا فَخَلَا بِالرَّجُلِ فَسَارَّهُ وَقَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ تَتْرُكَهَا فَأَتَزَوَّجَهَا، قَالَ: نَعَمْ أَصْلَحَ اللهُ المَلِكَ مَا تَصْلُحُ إِلَّا لَكَ، فَتَزَوَّجَ بِهَا المَلِكُ، وَبَاتَ مَعَهَا حَتَّىٰ إِذَا كَانَتْ مَعَ السَّحَرِ ذَبَحَتْهُ وَقَطَعَتْ أَعْضَاءَهُ وَحَمَلَتْهُ إِلَىٰ صَوَاحِبَاتِهَا. أَفَتَرَىٰ أَيُّهَا المَلِكُ أَحَداً يَعْلَمُ بِهَذَا ثُمَّ يَنْطَلِقُ إِلَيْهِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ الْخَاطِبُ لِلْغُلَامِ: فَإِنِّي لَا أُفَارِقُكَ وَلَا حَاجَةَ لِي فِيمَا أَرَدْتُ.

فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِ المَلِكِ يَعْبُدَانِ اللهَ (عزوجل) وَيَسِيحَانِ فِي الْأَرْضِ، فَهَدَىٰ اللهُ (عزوجل) بِهِمَا أُنَاساً كَثِيراً، وَبَلَغَ شَأْنُ الْغُلَامِ وَارْتَفَعَ ذِكْرُهُ فِي الْآفَاقِ، فَذَكَرَ وَالِدَهُ وَقَالَ: لَوْ بَعَثْتُ إِلَيْهِ فَاسْتَنْقَذْتُهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولاً، فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ ابْنَكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ، وَقَصَّ عَلَيْهِ خَبَرَهُ وَأَمْرَهُ، فَأَتَاهُوَالِدُهُ وَأَهْلُهُ فَاسْتَنْقَذَهُمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ.

ص: 418

ثُمَّ إِنَّ بِلَوْهَرَ رَجَعَ إِلَىٰ مَنْزِلِهِ وَاخْتَلَفَ إِلَىٰ يُوذَاسُفَ أَيَّاماً حَتَّىٰ عَرَفَ أَنَّهُ قَدْ فُتِحَ لَهُ الْبَابُ وَدَلَّهُ عَلَىٰ سَبِيلِ الصَّوَابِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ إِلَىٰ غَيْرِهَا، وَبَقِيَ يُوذَاسُفُ حَزِيناً مُغْتَمّاً، فَمَكَثَ بِذَلِكَ حَتَّىٰ بَلَغَ وَقْتُ خُرُوجِهِ إِلَىٰ النُّسَّاكِ لِيُنَادِيَ بِالْحَقِّ وَيَدْعُوَ إِلَيْهِ أَرْسَلَ اللهُ (عزوجل) مَلَكاً مِنَ المَلَائِكَةِ، فَلَمَّا رَأَىٰ مِنْهُ خَلْوَةً ظَهَرَ لَهُ وَقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: لَكَ الْخَيْرُ وَالسَّلَامَةُ، أَنْتَ إِنْسَانٌ بَيْنَ الْبَهَائِمِ الظَّالِمِينَ الْفَاسِقِينَ مِنَ الْجُهَّالِ، أَتَيْتُكَ بِالتَّحِيَّةِ مِنَ الْحَقِّ وَإِلَهُ الْخَلْقِ، بَعَثَنِي إِلَيْكَ لِأُبَشِّرَكَ وَأَذْكُرَ لَكَ مَا غَابَ عَنْكَ مِنْ أُمُورِ دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ، فَاقْبَلْ بِشَارَتِي وَمَشُورَتِي وَلَا تَغْفَلْ عَنْ قَوْلِي، اخْلَعْ عَنْكَ الدُّنْيَا، وَانْبِذْ عَنْكَ شَهَوَاتِهَا، وَازْهَدْ فِي المُلْكِ الزَّائِلِ، وَالسُّلْطَانِ الْفَانِي الَّذِي لَا يَدُومُ وَعَاقِبَتُهُ النَّدَمُ وَالْحَسْرَةُ، وَاطْلُبِ المُلْكَ الَّذِي لَا يَزُولُ وَالْفَرَحَ الَّذِي لَا يَنْقَضِي وَالرَّاحَةَ الَّتِي لَا يَتَغَيَّرُ، وَكُنْ صَدِيقاً مُقْسِطاً، فَإِنَّكَ تَكُونُ إِمَامَ النَّاسِ تَدْعُوهُمْ إِلَىٰ الْجَنَّةِ.

فَلَمَّا سَمِعَ يُوذَاسُفُ كَلَامَهُ خَرَّ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ (عزوجل) سَاجِداً، وَقَالَ: إِنِّي لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَىٰ مُطِيعٌ، وَإِلَىٰ وَصِيَّتِهِ مُنْتَهٍ، فَمُرْنِي بِأَمْرِكَ فَإِنِّي لَكَ حَامِدٌ وَلِمَنْ بَعَثَكَ إِلَيَّ شَاكِرٌ، فَإِنَّهُ رَحِمَنِي وَرَؤُوفٌ بِي، وَلَمْ يَرْفُضْنِي بَيْنَ الْأَعْدَاءِ، فَإِنِّي كُنْتُ بِالَّذِي أَتَيْتَنِي بِهِ مُهْتَمًّا.

قَالَ المَلَكُ: إِنِّي أَرْجِعُ إِلَيْكَ بَعْدَ أَيَّامٍ، ثُمَّ أُخْرِجُكَ فَتَهَيَّأْ لِذَلِكَ وَلَا تَغْفَلْ عَنْهُ، فَوَطَّنَ يُوذَاسُفُ نَفْسَهُ عَلَىٰ الْخُرُوجِ، وَجَعَلَ هِمَّتَهُ كُلَّهُ فِيهِ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَىٰ ذَلِكَ أَحَداً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ وَقْتُ خُرُوجِهِ أَتَاهُ المَلَكُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، فَقَالَ لَهُ: قُمْ فَاخْرُجْ وَلَا تُؤَخِّرْ ذَلِكَ، فَقَامَ وَلَمْ يُفْشِ سِرَّهُ إِلَىٰ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ غَيْرِ وَزِيرِهِ، فَبَيْنَا هُوَ يُرِيدُ الرُّكُوبَ إِذَا أَتَاهُ رَجُلٌ شَابٌّ جَمِيلٌ كَانَ قَدْمَلَكَهُمْ بِلَادَهُ فَسَجَدَ لَهُ.

وَقَالَ: أَيْنَ تَذْهَبُ يَا ابْنَ المَلِكِ وَقَدْ أَصَابَنَا الْعُسْرُ أَيُّهَا المُصْلِحُ الْحَكِيمُ الْكَامِلُ وَتَتْرُكُنَا لَهُ وَتَتْرُكُ مُلْكَكَ وَبِلَادَكَ؟ أَقِمْ عِنْدَنَا فَإِنَّا كُنَّا مُنْذُ وُلِدْتَ فِي رَخَاءٍ وَكَرَامَةٍ وَلَمْ تَنْزِلْ بِنَا عَاهَةٌ وَلَا مَكْرُوهٌ، فَسَكَّتَهُ يُوذَاسُفُ وَقَالَ لَهُ: امْكُثْ أَنْتَ فِي

ص: 419

بِلَادِكَ وَدَارِ(1) أَهْلَ مَمْلَكَتِكَ، فَأَمَّا أَنَا فَذَاهِبٌ حَيْثُ بُعِثْتُ وَعَامِلٌ مَا أُمِرْتُ بِهِ فَإِنْ أَنْتَ أَعَنْتَنِي كَانَ لَكَ فِي عَمَلِي نَصِيباً.

ثُمَّ إِنَّهُ رَكِبَ فَسَارَ مَا قَضَىٰ اللهُ لَهُ أَنْ يَسِيرَ، ثُمَّ إِنَّهُ نَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ وَوَزِيرُهُ يَقُودُ فَرَسَهُ وَيَبْكِي أَشَدَّ الْبُكَاءِ، وَيَقُولُ لِيُوذَاسُفَ: بِأَيِّ وَجْهٍ أَسْتَقْبِلُ أَبَوَيْكَ؟ وَبِمَا أُجِيبُهُمَا عَنْكَ؟ وَبِأَيِّ عَذَابٍ أَوْ مَوْتٍ يَقْتُلَانِّي؟ وَأَنْتَ كَيْفَ تُطِيقُ الْعُسْرَ وَالْأَذَىٰ الَّذِي لَمْ تَتَعَوَّدْهُ؟ وَكَيْفَ لَا تَسْتَوْحِشُ وَأَنْتَ لَمْ تَكُنْ وَحْدَكَ يَوْماً قَطُّ؟ وَجَسَدُكَ كَيْفَ تَحَمَّلَ الْجُوعَ وَالظَّمَأَ وَالتَّقَلُّبَ عَلَىٰ الْأَرْضِ وَالتُّرَابِ؟ فَسَكَّتَهُ وَعَزَّاهُ وَوَهَبَ لَهُ فَرَسَهُ وَالْمِنْطَقَةَ، فَجَعَلَ يُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَيَقُولُ: لَا تَدَعْنِي وَرَاءَكَ يَا سَيِّدِي اذْهَبْ بِي مَعَكَ حَيْثُ خَرَجْتَ فَإِنَّهُ لَا كَرَامَةَ لِي بَعْدَكَ، وَإِنَّكَ إِنْ تَرَكْتَنِي وَلَمْ تَذْهَبْ بِي مَعَكَ أَخْرُجْ فِي الصَّحْرَاءِ وَلَمْ أَدْخُلْ مَسْكَناً فِيهِ إِنْسَانٌ أَبَداً، فَسَكَّتَهُ أَيْضاً وَعَزَّاهُ وَقَالَ: لَا تَجْعَلْ فِي نَفْسِكَ إِلَّا خَيْراً، فَإِنِّي بَاعِثٌ إِلَىٰ المَلِكِ وَمُوصِيهِ فِيكَ أَنْ يُكْرِمَكَ وَيُحْسِنَ إِلَيْكَ.

ثُمَّ نَزَعَ عَنْهُ لِبَاسَ المُلْكِ وَدَفَعَهُ إِلَىٰ وَزِيرِهِ، وَقَالَ لَهُ: الْبَسْ ثِيَابِي، وَأَعْطَاهُ الْيَاقُوتَةَ الَّتِي كَانَ يَجْعَلُهَا فِي رَأْسِهِ، وَقَالَ لَهُ: انْطَلِقْ بِهَا مَعَكَ وَفَرَسِي، وَإِذَا أَتَيْتَهُ فَاسْجُدْ لَهُ وَأَعْطِهِ هَذِهِ الْيَاقُوتَةَ وَأَقْرِئْهُ السَّلَامَ ثُمَّ الْأَشْرَافَ وَقُلْ لَهُمْ: إِنِّي لَمَّا نَظَرْتُ فِيمَا بَيْنَ الْبَاقِي وَالزَّائِلِ رَغِبْتُ فِي الْبَاقِي وَزَهِدْتُفِي الزَّائِلِ، وَلَمَّا اسْتَبَانَ لِي أَصْلِي وَحَسَبِي وَفَصَلْتُ بَيْنَهُمَا وبَيْنَ الْأَعْدَاءِ وَالْأَقْرِبَاءِ رَفَضْتُ الْأَعْدَاءَ وَالْأَقْرِبَاءَ وَانْقَطَعْتُ إِلَىٰ أَصْلِي وَحَسَبِي، فَأَمَّا وَالِدِي فَإِنَّهُ إِذَا أَبْصَرَ الْيَاقُوتَةَ طَابَتْ نَفْسُهُ، فَإِذَا أَبْصَرَ كِسْوَتِي عَلَيْكَ ذَكَرَنِي وَذَكَرَ حُبِّي لَكَ وَمَوَدَّتِي إِيَّاكَ، فَمَنَعَهُ ذَلِكَ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْكَ مَكْرُوهاً .

ص: 420


1- من المداراة.

ثُمَّ رَجَعَ وَزِيرُهُ وَتَقَدَّمَ يُوذَاسُفُ أَمَامَهُ يَمْشِي حَتَّىٰ بَلَغَ فَضَاءً وَاسِعاً فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَرَأَىٰ شَجَرَةً عَظِيمَةً عَلَىٰ عَيْنٍ مِنْ مَاءٍ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّجَرِ وَأَكْثَرَهَا فَرْعاً وَغُصْناً وَأَحْلَاهَا ثَمَراً، وَقَدِ اجْتَمَعَ إِلَيْهَا مِنَ الطَّيْرِ مَا لَا يُعَدُّ كَثْرَةً، فَسُرَّ بِذَلِكَ المَنْظَرِ وَفَرِحَ بِهِ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ حَتَّىٰ دَنَا مِنْهُ، وَجَعَلَ يُعَبِّرُهُ فِي نَفْسِهِ وَيُفَسِّرُهُ، فَشَبَّهَ الشَّجَرَ بِالْبُشْرَىٰ الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا، وَعَيْنَ المَاءِ بِالْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ، وَالطَّيْرَ بِالنَّاسِ الَّذِينَ يَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ وَيَقْبَلُونَ مِنْهُ الدِّينَ، فَبَيْنَا هُوَ قَائِمٌ إِذَا أَتَاهُ أَرْبَعَةٌ مِنَ المَلَائِكَةِ (علیهم السلام) يَمْشُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاتَّبَعَ آثَارَهُمْ حَتَّىٰ رَفَعُوهُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ، وَأُوتِيَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مَا عَرَفَ بِهِ الْأُولَىٰ وَالْوُسْطَىٰ وَالْأُخْرَىٰ وَالَّذِي هُوَ كَائِنٌ، ثُمَّ أَنْزَلُوهُ إِلَىٰ الْأَرْضِ وَقَرَّنُوا مَعَهُ قَرِيناً مِنَ المَلَائِكَةِ الْأَرْبَعَةِ، فَمَكَثَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ حِيناً.

ثُمَّ إِنَّهُ أَتَىٰ أَرْضَ سُولَابِطَ، فَلَمَّا بَلَغَ وَالِدَهُ قُدُومُهُ خَرَجَ يَسِيرُ هُوَ وَالْأَشْرَافُ، فَأَكْرَمُوهُ وَقَرَّبُوهُ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَهْلُ بَلَدِهِ مَعَ ذَوِي قَرَابَتِهِ وَحَشَمِهِ وَقَعَدُوا بَيْنَ يَدَيْهِ وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَكَلَّمَهُمُ الْكَلَامَ الْكَثِيرَ وَفَرَشَ لَهُمُ الْأَسَاسَ وَقَالَ لَهُمْ: اسْمَعُوا إِلَيَّ بِأَسْمَاعِكُمْ، وَفَرِّغُوا إِلَيَّ قُلُوبَكُمْ لِاسْتِمَاعِ حِكْمَةِ اللهِ (عزوجل) الَّتِي هِيَ نُورُ الْأَنْفُسِ، وَثِقُوا بِالْعِلْمِ الَّذِي هُوَ الدَّلِيلُ عَلَىٰ سَبِيلِ الرَّشَادِ، وَأَيْقِظُوا عُقُولَكُمْ وَافْهَمُوا الْفَصْلَ الَّذِي بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالضَّلَالِ وَالْهُدَىٰ.

واعْلَمُوا أَنَّ هَذَا هُوَ دَيْنُ الْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ (عزوجل) عَلَىٰ الْأَنْبِيَاءِوَالرُّسُلِ (علیهم السلام) وَالْقُرُونِ الْأُولَىٰ، فَخَصَّنَا اللهُ (عزوجل) بِهِ فِي هَذَا الْقَرْنِ بِرَحْمَتِهِ بِنَا وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَتَحَنُّنِهِ عَلَيْنَا، وَفِيهِ خَلَاصٌ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنَالُ الْإِنْسَانُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَلَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إِلَّا بِالْإِيمَانِ وَعَمَلِ الْخَيْرِ، فَاجْتَهِدُوا فِيهِ لِتُدْرِكُوا بِهِ الرَّاحَةَ الدَّائِمَةَ وَالْحَيَاةَ الَّتِي لَا تَنْقَطِعُ أَبَداً، وَمَنْ آمَنَ مِنْكُمْ بِالدِّينِ فَلَا يَكُونَنَّ إِيمَانُهُ طَمَعاً فِي الْحَيَاةِ وَرَجَاءً لِمُلْكِ الْأَرْضِ وَطَلَبِ مَوَاهِبِ الدُّنْيَا، وَلْيَكُنْ إِيمَانُكُمْ بِالدِّينِ طَمَعاً فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَرَجَاءً لِلْخَلَاصِ وَطَلَبِ النَّجَاةِ مِنَ الضَّلَالَةِ وَبُلُوغِ الرَّاحَةِ

ص: 421

وَالْفَرَجِ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ مُلْكَ الْأَرْضِ وَسُلْطَانَهَا زَائِلٌ، وَلَذَّاتِهَا مُنْقَطِعَةٌ، فَمَنِ اغْتَرَّ بِهَا هَلَكَ وَافْتَضَحَ، لَوْ قَدْ وَقَفَ عَلَىٰ دَيَّانِ الدِّينِ الَّذِي لَا يَدِينُ إِلَّا بِالْحَقِّ، فَإِنَّ المَوْتَ مَقْرُونٌ مَعَ أَجْسَادِكُمْ، وَهُوَ يَتَرَاصَدُ أَرْوَاحَكُمْ أَنْ يُكَبْكِبَهَا مَعَ الْأَجْسَادِ.

وَاعْلَمُوا أَنَّهُ كَمَا أَنَّ الطَّيْرَ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ الْحَيَاةِ وَالنَّجَاةُ مِنَ الْأَعْدَاءِ مِنَ الْيَوْمِ إِلَىٰ غَدٍ إِلَّا بِقُوَّةٍ مِنَ الْبَصَرِ وَالْجَنَاحَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، فَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ الْحَيَاةِ وَالنَّجَاةِ إِلَّا بِالْعَمَلِ وَالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَأَفْعَالِ الْخَيْرِ الْكَامِلَةِ، فَتَفَكَّرْ أَيُّهَا المَلِكُ أَنْتَ وَالْأَشْرَافُ فِيمَا تَسْمَعُونَ وَافْهَمُوا وَاعْتَبِرُوا، وَاعْبِرُوا الْبَحْرَ مَا دَامَتِ السَّفِينَةُ، وَاقْطَعُوا المَفَازَةَ مَا دَامَ الدَّلِيلُ وَالظَّهْرُ وَالزَّادُ، وَاسْلُكُوا سَبِيلَكُمْ مَا دَامَ الْمِصْبَاحُ، وَأَكْثِرُوا مِنْ كُنُوزِ الْبِرِّ مَعَ النُّسَّاكِ، وَشَارِكُوهُمْ فِي الْخَيْرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَصْلِحُوا التَّبَعَ وَكُونُوا لَهُمْ أَعْوَاناً، وَمُرُوهُمْ بِأَعْمَالِكُمْ لِيَنْزِلُوا مَعَكُمْ مَلَكُوتَ النُّورِ، وَاقْبَلُوا النُّورَ، وَاحْتَفِظُوا بِفَرَائِضِكُمْ، وَإِيَّاكُمْ أَنْ تَتَوَثَّقُوا إِلَىٰ أَمَانِيِّ الدُّنْيَا وَشُرْبِ الْخُمُورِ وَشَهْوَةِ النِّسَاءِ مِنْ كُلِّ ذَمِيمَةٍ وَقَبِيحَةٍ مُهْلِكَةٍ لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَاتَّقُوا الْحَمِيَّةَ وَالْغَضَبَ وَالْعَدَاوَةَ وَالنَّمِيمَةَ، وَمَا لَمْ تَرْضَوْهُ أَنْ يُؤْتَىٰ إِلَيْكُمْ فَلَا تَأْتُوهُ إِلَىٰ أَحَدٍ، وَكُونُوا طَاهِرِي الْقُلُوبِ، صَادِقِي النِّيَّاتِ، لِتَكُونُوا عَلَىٰ الْمِنْهَاجِ إِذَا أَتَاكُمُ الْأَجَلُ.ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ أَرْضِ سُولَابِطَ وَسَارَ فِي بِلَادٍ وَمَدَائِنَ كَثِيرَةٍ حَتَّىٰ أَتَىٰ أَرْضاً تُسَمَّىٰ: قِشْمِيرَ، فَسَارَ فِيهَا وَأَحْيَا مَيِّتَهَا وَمَكَثَ حَتَّىٰ أَتَاهُ الْأَجَلُ الَّذِي خَلَعَ الْجَسَدَ، وَارْتَفَعَ إِلَىٰ النُّورِ، وَدَعَا قَبْلَ مَوْتِهِ تِلْمِيذاً لَهُ اسْمُهُ: أَيَابِذُ الَّذِي كَانَ يَخْدُمُهُ وَيَقُومُ عَلَيْهِ، وَكَانَ رَجُلاً كَامِلاً فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَأَوْصَىٰ إِلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ دَنَا ارْتِفَاعِي عَنِ الدُّنْيَا، وَاحْتَفِظُوا بِفَرَائِضِكُمْ، وَلَا تَزِيغُوا عَنِ الْحَقِّ، وَخُذُوا بِالتَّنَسُّكِ، ثُمَّ أَمَرَ أَيَابِذَ أَنْ يَبْنِيَ لَهُ مَكَاناً، فَبَسَطَ هُوَ رِجْلَيْهِ وَهَيَّأَ رَأْسَهُ إِلَىٰ المَغْرِبِ وَوَجْهَهُ إِلَىٰ المَشْرِقِ، ثُمَّ قَضَىٰ نَحْبَهُ.

ص: 422

[وجه إيراد القَصص في الكتاب]:

قال مصنِّف هذا الكتاب: ليس هذا الحديث وما شاكله من أخبار المعمَّرين وغيرهم ممَّا أعتمده في أمر الغيبة ووقوعها، لأنَّ الغيبة إنَّما صحَّت لي بما صحَّ عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله) والأئمَّة (علیهم السلام) من ذلك بالأخبار التي بمثلها صحَّ الإسلام وشرائعه وأحكامه، ولكنِّي أرىٰ الغيبة لكثير من أنبياء الله ورُسُله (صلوات الله عليهم) ولكثير من الحُجَج بعدهم (علیهم السلام) ولكثير من الملوك الصالحين من قِبَل الله تبارك وتعالىٰ، ولا أجد لها منكراً من مخالفينا، وجميعها في الصحَّة من طريق الرواية دون ما قد صحَّ بالأخبار الكثيرة الواردة الصحيحة عن النبيِّ والأئمَّة (صلوات الله عليهم) في أمر القائم الثاني عشر من الأئمَّة (علیهم السلام) وغيبته حتَّىٰ يطول الأمد وتقسو القلوب ويقع اليأس من ظهوره، ثمّ يُطلِعه الله وتشرق الأرض بنوره ويرتفع الظلم والجور بعدله، فليس في التكذيب بذلك مع الإقرار بنظائره إلَّا القصد إلىٰ إطفاء نور الله وإبطال دينه، ويَأْبَىٰ اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ويُعلي كلمته ويُحِقَّ الْحَقَ ويُبْطِلَ الْباطِلَ ولو كره المخالفون المكذِّبون بما وعد الله الصالحين علىٰ لسان خير النبيِّين صلواتالله عليه وعلىٰ آله الطاهرين.

ولإيرادي هذا الحديث وما يشاكله في هذا الكتاب معنىٰ آخر، وهو أنَّ جميع أهل الوفاق والخلاف يميلون إلىٰ مثله من الأحاديث، فإذا ظفروا به من هذا الكتاب حرصوا علىٰ الوقوف علىٰ سائر ما فيه، فهم بالوقوف عليه من بين منكر وناظر وشاكٍّ ومقرٍّ، فالمقرُّ يزداد به بصيرةً، والمنكر تتأكَّد عليه من الله الحجَّة، والواقف الشاكُّ يدعوه وقوفه بين الإقرار والإنكار إلىٰ البحث والتنقيب(1) إلىٰ أمر الغائب وغيبته، فتُرجىٰ له الهداية، لأنَّ الصحيح من الأُمور لا يزيده البحث والتنقيب إلَّا تأكيداً كالذهب الذي كلَّما دخل النار ازداد صفاءً وجودةً.

ص: 423


1- في بعض النُّسَخ المصحَّحة: (التنقير)؛ وكذا ما يأتي. والتنقير: التفتيش، كما في النهاية (ج 5/ ص 105).

[علَّة الأحرف المقطَّعة في القرآن]:

وقد غيب الله تبارك وتعالىٰ اسمه الأعظم الذي إذا دُعِيَ به أجاب وإذا سُئِلَ به أعطىٰ في أوائل سور من القرآن.

فقال (عزوجل): الم، والمر، والر، والمص، وكهيعص، وحم عسق، وطسم، وطس، ويس، وما أشبه ذلك لعلَّتين:

إحداهما: أنَّ الكُفَّار والمشركين كانت أعينهم في غطاء عن ذكر الله وهو النبيُّ (صلی الله علیه و آله) بدليل قوله (عزوجل): «قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً 10 رَسُولاً» [الطلاق: 10 و11]، وكانوا لا يستطيعون للقرآن سمعاً، فأنزل الله (عزوجل) أوائل سور منه اسم الأعظم بحروف مقطوعة هي من حروف كلامهم ولغتهم ولم تجرِ عادتهم بذكرها مقطوعة، فلمَّا سمعوها تعجَّبوا منها، وقالوا: نسمع ما بعدها تعجُّباً، فاستمعوا إلىٰ ما بعدها فتأكَّدتالحجَّة علىٰ المنكرين، وازداد أهل الإقرار به بصيرةً، وتوقَّف الباقون شُكَّاكاً لا همَّة لهم إلَّا البحث عمَّا شكُّوا فيه، وفي البحث الوصول إلىٰ الحقِّ.

والعلَّة الأُخرىٰ في إنزال أوائل هذه السور بالحروف المقطوعة ليخصَّ بمعرفتها أهل العصمة والطهارة، فيقيمون بها الدلائل ويُظهِرون بها المعجزات، ولو عمَّ الله تعالىٰ بمعرفتها جميع الناس لكان في ذلك ضدُّ الحكمة وفساد التدبير، وكان لا يؤمن من غير المعصوم أنْ يدعو بها علىٰ نبيٍّ مرسَل أو مؤمن ممتحن، ثمّ لا يجوز أنْ يقع الإجابة بها مع وعده واتِّصافه بأنَّه لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ، علىٰ أنَّه يجوز أنْ يُعطي المعرفة ببعضها من يجعله عبرةً لخلقه متىٰ تعدَّىٰ فيها حدَّه كبلعم بن باعوراء حين أراد أنْ يدعو علىٰ كليم الله موسىٰ بن عمران (علیه السلام)، فأنسىٰ ما كان أُوتي من الاسم، فانسلخ منها، وذلك قول الله (عزوجل) في كتابه: ]وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ 175[

ص: 424

[الأعراف: 175]، وإنَّما فعل (عزوجل) ذلك ليعلم الناس أنَّه ما اختصَّ بالفضل إلَّا من علم أنَّه مستحقٌّ للفضل، وأنَّه لو عمَّ لجاز منهم وقوع ما وقع من بلعم.

وإذا جاز أنْ يُغيِّب الله (عزوجل) اسمه الأعظم في الحروف المقطوعة في كتابه الذي هو حجَّته وكلامه، فكذلك جائز أنْ يُغيِّب حجَّته في الناس عن عباده المؤمنين وغيرهم، لعلمه (عزوجل) أنَّه متىٰ أظهره وقع من أكثر الناس التعدِّي لحدود الله في شأنه فيستحقُّون بذلك القتل، فإنْ قتلهم لم يجز وفي أصلابهم مؤمنون، وإنْ لم يقتلهم لم يجز وقد استحقُّوا القتل.

فالحكمة للغيبة في مثل هذه الحالة موجبة، فإذا تزيَّلوا ولم يبقَ فيأصلابهم مؤمن أظهره الله (عزوجل) فخسف بأعدائه وأبادهم(1)، ألا ترىٰ المحصنة إذا زنت وهي حُبلىٰ لم تُرجَم حتَّىٰ تضع ولدها وترضعه إلَّا أنْ يتكفَّل برضاعه رجل من المسلمين؟ فهذا سبيل من في صلبه مؤمن إذا وجب عليه القتل لم يُقتَل حتَّىٰ يزايله، ولا يعلم ذلك إلَّا من يكون حجَّة من قِبَل علَّام الغيوب، ولهذا لا يقيم الحدود إلَّا هو، وهذه هي العلَّة التي من أجلها ترك أمير المؤمنين (علیه السلام) مجاهدة أهل الخلاف خمساً وعشرين سنة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله).

حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُورٍ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: مَا بَالُ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) لَمْ يُقَاتِلْ مُخَالِفِيهِ فِي الْأَوَّلِ؟ قَالَ: «لِآيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَىٰ، «لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً 25» [الفتح: 25]»، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا يَعْنِي بِتَزَايُلِهِمْ؟ قَالَ: «وَدَائِعُ مُؤْمِنُونَ فِي أَصْلَابِ قَوْمٍ كَافِرِينَ. وكَذَلِكَ الْقَائِمُ (علیه السلام) لَمْ يَظْهَرْ أَبَداً حَتَّىٰ تَخْرُجَ وَدَائِعُ اللهِ (عزوجل)، فَإِذَا خَرَجَتْ ظَهَرَ عَلَىٰ مَنْ ظَهَرَ مِنْ أَعْدَاءِ اللهِ (عزوجل) فَقَتَلَهُمْ»(2).

ص: 425


1- أباده: أي أهلكه.
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 147/ باب 122/ ح 2).

حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ الْعَلَوِيِّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْكَرْخِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) - أَوْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ -: أَصْلَحَكَ اللهُ أَلَمْ يَكُنْ عَلِيٌّ (علیه السلام) قَوِيًّا فِي دِينِ اللهِ (عزوجل)؟ قَالَ: «بَلَىٰ»، قَالَ: فَكَيْفَ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ؟وَكَيْفَ لَمْ يَدْفَعْهُمْ؟ وَمَا يَمْنَعُهُ(1) مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: آيَةٌ فِي كِتَابِ اللهِ (عزوجل) مَنَعَتْهُ، قَالَ: قُلْتُ: وَأَيَّةُ آيَةٍ هِيَ؟ قَالَ: قَوْلُهُ (عزوجل): «لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً 25» [الفتح: 25]، إِنَّهُ كَانَ لِلهِ (عزوجل) وَدَائِعُ مُؤْمِنُونَ فِي أَصْلَابِ قَوْمٍ كَافِرِينَ وَمُنَافِقِينَ، فَلَمْ يَكُنْ عَلِيٌّ (علیه السلام) لِيَقْتُلَ الْآبَاءَ حَتَّىٰ يَخْرُجَ الْوَدَائِعُ، فَلَمَّا خَرَجَتِ الْوَدَائِعُ ظَهَرَ عَلَىٰ مَنْ ظَهَرَ فَقَاتَلَهُ، وَكَذَلِكَ قَائِمُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ لَنْ يَظْهَرَ أَبَداً حَتَّىٰ تَظْهَرَ وَدَائِعُ اللهِ (عزوجل)، فَإِذَا ظَهَرَتْ ظَهَرَ عَلَىٰ مَنْ يَظْهَرُ فَقَتَلَهُ»(2).

حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ السَّمَرْقَنْدِيُّ الْعَلَوِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَبْرَئِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَىٰ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) فِي قَوْلِ اللهِ (عزوجل): «لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً 25» [الفتح: 25]: «لَوْ أَخْرَجَ اللهُ (عزوجل) مَا فِي أَصْلَابِ المُؤْمِنِينَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَمَا فِي أَصْلَابِ الْكَافِرِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ لَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا»(3).

وَ(4) حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ الْأَسْوَارِيُّ بِإِيلَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْبَرْذَعِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الطَّرَسُوسِيَّ يَقُولُ - وَكَانَ قَدْ أَتَىٰ عَلَيْهِ سَبْعٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً عَلَىٰ بَابِ يَحْيَىٰ بْنِ مَنْصُورٍ -، قَالَ:

ص: 426


1- في بعض النُّسَخ: (لم يمنعهم وما منعه).
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 147/ باب 122/ ح 3).
3- رواه المصنِّف (رحمة الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 147 و148/ باب 122/ ح 4).
4- عطف علىٰ ما سبق من أخبار المعمَّرين.

رَأَيْتُ سَرْبَانَكَ مَلِكَ الْهِنْدِ فِي بَلْدَةٍ تُسَمَّىٰ: (قَنُّوجَ)(1)،فَسَأَلْنَاهُ: كَمْ أَتَىٰ عَلَيْكَ مِنَ السِّنِينَ؟ فَقَالَ: تِسْعُمِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ (صلی الله علیه و آله) أَنْفَذَ إِلَيْهِ عَشَرَةً مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِمْ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَأَبُو مُوسَىٰ الْأَشْعَرِيُّ وَصُهَيْبٌ الرُّومِيُّ وَسَفِينَةُ وَغَيْرُهُمْ يَدْعُونَهُ إِلَىٰ الْإِسْلَامِ، فَأَجَابَ وَأَسْلَمَ وَقَبَّلَ كِتَابَ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله)، فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تُصَلِّي مَعَ هَذَا الضَّعْفِ؟ فَقَالَ لِي: قَالَ اللهُ تَعَالَىٰ: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ ...» الْآيَةَ [آل عمران: 191]، فَقُلْتُ لَهُ: وَمَا طَعَامُكَ؟ فَقَالَ: آكُلُ مَاءَ اللَّحْمِ وَالْكُرَّاثَ، وَسَأَلْتُهُ: هَلْ يَخْرُجُ مِنْكَ شَيْءٌ؟ فَقَالَ: فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً شَيْءٌ يَسِيرٌ، قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ أَسْنَانِهِ، فَقَالَ: أَبْدَلْتُهَا عِشْرِينَ مَرَّةً، وَرَأَيْتُ [لَهُ] فِي إِصْطَبْلِهِ شَيْئاً مِنَ الدَّوَابِّ أَكْبَرَ مِنَ الْفِيلِ يُقَالُ لَهُ: زَنْدَفِيلُ، فَقُلْتُ لَهُ: وَمَا تَصْنَعُ بِهَذَا؟ قَالَ: يُحْمَلُ بِهَا ثِيَابُ الْخَدَمِ إِلَىٰ الْقَصَّارِ، وَمَمْلَكَتُهُ مَسِيرَةُ أَرْبَعِ سِنِينَ فِي مِثْلِهَا، وَمَدِينَتُهُ طُولُهَا خَمْسُونَ فَرْسَخاً فِي مِثْلِهَا، وَعَلَىٰ كُلِّ بَابٍ مِنْهَا عَسْكَرٌ فِي مِائَةِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفاً، إِذَا وَقَعَ فِي أَحَدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ حَدَثٌ خَرَجَتْ تِلْكَ الْفِرْقَةُ إِلَىٰ الْحَرْبِ لَا يُسْتَعَانُ بِغَيْرِهَا، وَهُوَ فِي وَسَطِ المَدِينَةِ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: دَخَلْتُ المَغْرِبَ(2)، فَبَلَغْتُ إِلَىٰ الرَّمْلِ - رَمْلِ الْعَالِجِ - وَصِرْتُ إِلَىٰ قَوْمِ مُوسَىٰ (علیه السلام)، فَرَأَيْتُ سُطُوحَ بُيُوتِهِمْ مُسْتَوِيَةً، وَبَيْدَرَ الطَّعَامِ(3) خَارِجَ الْقَرْيَةِ يَأْخُذُونَ مِنْهُ الْقُوتَ وَالْبَاقِي يَتْرُكُونَهُ هُنَاكَ وَقُبُورُهُمْ فِي دُورِهِمْ وَبَسَاتِينُهُمْ مِنَ المَدِينَةِ عَلَىٰ فَرْسَخَيْنِ لَيْسَ فِيهِمْ شَيْخٌ وَلَا شَيْخَةٌ، وَلَمْ أَرَ فِيهِمْ عِلَّةً، وَلَا يَعْتَلُّونَ إِلَىٰ أَنْ يَمُوتُوا، وَلَهُمْ أَسْوَاقٌ إِذَا أَرَادَإِنْسَانٌ مِنْهُمْ شِرَاءَ شَيْءٍ صَارَ إِلَىٰ السُّوقِ فَوَزَنَ لِنَفْسِهِ وَأَخَذَ مَا يُصِيبُهُ وَصَاحِبُهُ غَيْرُ

ص: 427


1- بفتح القاف وتشديد النون وآخره جيم، موضع في بلاد الهند. (مراصد الاطِّلاع: ج 3/ ص 1129).
2- في بعض النُّسَخ: (دخلت إلىٰ العرب).
3- يعني الموضع الذي يُجمَع فيه الحصيد والقمح ويُداس.

حَاضِرٍ، وَإِذَا أَرَادُوا الصَّلَاةَ حَضَرُوا فَصَلُّوا وَانْصَرَفُوا، لَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ خُصُومَةٌ أَبَداً، وَلَا كَلَامٌ يُكْرَهُ إِلَّا ذِكْرَ اللهِ (عزوجل) وَالصَّلَاةَ وَذِكْرَ المَوْتِ.

قال مصنِّف هذا الكتاب (رحمة الله): فإذا كان جاز عند مخالفينا مثل هذه الحال لسربانك مَلِك الهند فينبغي أنْ لا يحيلوا مثل ذلك في حجَّة الله في التعمير، ولا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ.

* * *

ص: 428

الباب الخامس والخمسون:

ما روي في ثواب المنتظر للفرج

ص: 429

ص: 430

[1/500] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرٍ المُظَفَّرُ الْعَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ(1)، قَالَ: حَدَّثَنِي الْعَمْرَكِيُّ بْنُ عَلِيٍّ الْبُوفَكِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ مُوسَىٰ النُّمَيْرِيِّ(2)، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ سَيَابَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ عَلَىٰ هَذَا الْأَمْرِ مُنْتَظِراً لَهُ كَانَ كَمَنْ كَانَ فِي فُسْطَاطِ الْقَائِمِ (علیه السلام)»(3).

[2/501] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ ثَعْلَبَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ (علیهما السلام)، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَصْلَحَكَ اللهُ لَقَدْ تَرَكْنَا أَسْوَاقَنَا انْتِظَاراً لِهَذَا الْأَمْرِ، فَقَالَ (علیه السلام): «يَا عَبْدَ الْحَمِيدِ، أَتَرَىٰ مَنْ حَبَسَ نَفْسَهُ عَلَىٰ اللهِ (عزوجل) لَا يَجْعَلُ اللهُ لَهُ مَخْرَجاً؟ بَلَىٰ وَاللهِ لَيَجْعَلَنَّ اللهُ لَهُ مَخْرَجاً، رَحِمَ اللهُ عَبْداً حَبَسَ نَفْسَهُ عَلَيْنَا، رَحِمَ اللهُ عَبْداً أَحْيَا أَمْرَنَا»، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ مِتُّ قَبْلَ أَنْ أُدْرِكَ الْقَائِمَ؟ قَالَ: «الْقَائِلُ مِنْكُمْ أَنْ لَوْ أَدْرَكْتُ قَائِمَ آلِ مُحَمَّدٍ نَصَرْتُهُ، كَانَ كَالمُقَارِعِ بَيْنَيَدَيْهِ بِسَيْفِهِ، لَا بَلْ كَالشَّهِيدِ مَعَهُ»(4).

[3/502] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مَعْرُوفٍ

ص: 431


1- كذا في بعض النُّسَخ، وفي بعضها: (جعفر بن أحمد)، ولعلَّ الصواب: (جعفر بن معروف).
2- هو موسىٰ بن أكيل النميري، من أصحاب الصادق (علیه السلام)، ثقة. وصُحِّف في بعض النُّسَخ بالهرمزي، وفي بعضها بالبربري، وفي بعضها بالنهريري.
3- رواه البرقي (رحمة الله) في المحاسن (ج 1/ ص 173/ ح 147)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 206 و207/ باب 11/ ح 15) بسند آخر.
4- رواه بتفاوت البرقي (رحمة الله) في المحاسن (ج 1/ ص 173/ ح 148)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 8/ ص 80 و81/ ح 37).

، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ مُوسَىٰ بْنِ بَكْرٍ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ، عَنْ آبَائِهِ (علیهم السلام) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) قَالَ: «أَفْضَلُ أَعْمَالِ أُمَّتِي انْتِظَارُ الْفَرَجِ مِنَ اللهِ (عزوجل)»(1).

[4/503] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ(2)، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (علیه السلام)، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الْفَرَجِ، قَالَ: «إِنَّ اللهَ (عزوجل) يَقُولُ: «فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ 71» [الأعراف: 71](3)».

[5/504] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ خَلَفُ بْنُ حَمَّادٍ الْكَشِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ(4)، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُالْحُسَيْنِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، قَالَ: قَالَ الرِّضَا (علیه السلام): «مَا أَحْسَنَ الصَّبْرَ وَانْتِظَارَ الْفَرَجِ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللهِ (عزوجل): «وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ 93» [هود: 93]، «فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ 71» [الأعراف: 71]؟ فَعَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَجِيءُ الْفَرَجُ عَلَىٰ الْيَأْسِ، فَقَدْ كَانَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَصْبَرَ مِنْكُمْ»(5).

[6/505] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ يَحْيَىٰ، عَنْ

ص: 432


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 2/ ص 39/ ح 87) بتفاوت يسير.
2- محمّد بن الفضيل، من أصحاب الرضا (علیه السلام)، أزدي صيرفي، يُرمىٰ بالغلوِّ. (خلاصة الأقوال: ص 395/ الرقم 19). وقال الطوسي (رحمة الله) في رجاله (ص 343/ الرقم 5124/25): (محمّد بن الفضيل الكوفي الأزدي، ضعيف).
3- الظاهر من السياق المراد انتظار العذاب. والتأويل بالصاحب (علیه السلام) غريب جدًّا، والعلم عند الله.
4- سهل بن زياد أبو سعيد الآدمي الرازي كان ضعيفاً في الحديث، غير معتمد عليه، وكان أحمد بن محمّد بن عيسىٰ يشهد عليه بالغلوِّ والكذب، وأخرجه من قم إلىٰ الريِّ. (رجال النجاشي: ص 185/ الرقم 490).
5- رواه الحميري (رحمة الله) في قرب الإسناد (ص 380 و381/ ح 1343).

جَدِّهِ الْحَسَنِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (علیهم السلام)، قَالَ: «المُنْتَظِرُ لِأَمْرِنَا كَالمُتَشَحِّطِ بِدَمِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ»(1).

[7/506] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ الْعَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا حَيْدَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ هِشَامٍ اللُّؤْلُؤِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مَحْبُوبٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ عَمَّارٍ السَّابَاطِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): الْعِبَادَةُ مَعَ الْإِمَامِ مِنْكُمُ المُسْتَتِرِ فِي دَوْلَةِ الْبَاطِلِ أَفْضَلُ، أَمِ الْعِبَادَةُ فِي ظُهُورِ الْحَقِّ وَدَوْلَتِهِ مَعَ الْإِمَامِ الظَّاهِرِ مِنْكُمْ؟ فَقَالَ: «يَا عَمَّارُ، الصَّدَقَةُ وَاللهِ فِي السِّرِّ [فِي دَوْلَةِ الْبَاطِلِ] أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ فِي الْعَلَانِيَةِ، وَكَذَلِكَ عِبَادَتُكُمْ فِي السِّرِّ مَعَ إِمَامِكُمُ المُسْتَتِرِ فِي دَوْلَةِ الْبَاطِلِ أَفْضَلُلِخَوْفِكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فِي دَوْلَةِ الْبَاطِلِ وَحَالِ الْهُدْنَةِ مِمَّنْ يَعْبُدُ اللهَ (عزوجل) فِي ظُهُورِ الْحَقِّ مَعَ الْإِمَامِ الظَّاهِرِ فِي دَوْلَةِ الْحَقِّ، وَلَيْسَ الْعِبَادَةُ مَعَ الْخَوْفِ وَفِي دَوْلَةِ الْبَاطِلِ مِثْلَ الْعِبَادَةِ مَعَ الْأَمْنِ فِي دَوْلَةِ الْحَقِّ، اعْلَمُوا أَنَّ مَنْ صَلَّىٰ مِنْكُمْ صَلَاةً فَرِيضَةً وُحْدَاناً مُسْتَتِراً بِهَا مِنْ عَدُوِّهِ فِي وَقْتِهَا فَأَتَمَّهَا كَتَبَ اللهُ (عزوجل) لَهُ بِهَا خَمْساً وَعِشْرِينَ صَلَاةً فَرِيضَةً وَحْدَانِيَّةً، وَمَنْ صَلَّىٰ مِنْكُمْ صَلَاةً نَافِلَةً فِي وَقْتِهَا فَأَتَمَّهَا كَتَبَ اللهُ (عزوجل) لَهُ بِهَا عَشْرَ صَلَوَاتٍ نَوَافِلَ، وَمَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ حَسَنَةً كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهَا عِشْرِينَ حَسَنَةً، وَيُضَاعِفُ اللهُ حَسَنَاتِ المُؤْمِنِ مِنْكُمْ إِذَا أَحْسَنَ أَعْمَالَهُ وَدَانَ اللهَ (عزوجل) بِالتَّقِيَّةِ عَلَىٰ دِينِهِ وَعَلَىٰ إِمَامِهِ وَعَلَىٰ نَفْسِهِ وَأَمْسَكَ مِنْ لِسَانِهِ أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً كَثِيرَةً، إِنَّ اللهَ (عزوجل) كَرِيمٌ»، قَالَ: فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ قَدْ رَغَّبْتَنِي فِي الْعَمَلِ وَحَثَثْتَنِي عَلَيْهِ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَعْلَمَ كَيْفَ صِرْنَا الْيَوْمَ أَفْضَلَ أَعْمَالًا مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ مِنْكُمْ الظَّاهِرِ فِي دَوْلَةِ الْحَقِّ وَنَحْنُ وَهُمْ عَلَىٰ دِينٍ وَاحِدٍ وَهُوَ دِينُ اللهِ (عزوجل)؟ فَقَالَ: «إِنَّكُمْ

ص: 433


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في الخصال (ص 625/ حديث أربعمائة)، وفرات الكوفي (رحمة الله) في تفسيره (ص 367/ ح 499/10)، وابن شعبة (رحمة الله) في تُحَف العقول (ص 115).

سَبَقْتُمُوهُمْ إِلَىٰ الدُّخُولِ فِي دِينِ اللهِ (عزوجل) وَإِلَىٰ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَإِلَىٰ كُلِّ فِقْهٍ وَخَيْرٍ وَإِلَىٰ عِبَادَةِ اللهِ سِرًّا مَعَ عَدُوِّكُمْ مَعَ الْإِمَامِ المُسْتَتِرِ، مُطِيعُونَ لَهُ، صَابِرُونَ مَعَهُ، مُنْتَظِرُونَ لِدَوْلَةِ الْحَقِّ، خَائِفُونَ عَلَىٰ إِمَامِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ مِنَ المُلُوكِ، تَنْظُرُونَ إِلَىٰ حَقِّ إِمَامِكُمْ وَحَقِّكُمْ فِي أَيْدِي الظَّلَمَةِ قَدْ مَنَعُوكُمْ ذَلِكَ وَاضْطَرُّوكُمْ إِلَىٰ حَرْثِ الدُّنْيَا(1) وَطَلَبِ المَعَاشِ مَعَ الصَّبْرِ عَلَىٰ دِينِكُمْ وَعِبَادَتِكُمْ وَطَاعَةِ إِمَامِكُمْ وَالْخَوْفِ مِنْ عَدُوِّكُمْ، فَبِذَلِكَ ضَاعَفَ اللهُ أَعْمَالَكُمْ، فَهَنِيئاً لَكُمْ هَنِيئاً»، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ فَمَا نَتَمَنَّىٰ إِذًا أَنْ نَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ الْقَائِمِ فِي ظُهُورِ الْحَقِّ وَنَحْنُ الْيَوْمَ فِي إِمَامَتِكَ وَطَاعَتِكَ أَفْضَلُ أَعْمَالاً مِنْ أَعْمَالِ أَصْحَابِ دَوْلَةِ الْحَقِّ؟فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللهِ، أَمَا تُحِبُّونَ أَنْ يُظْهِرَ اللهُ (عزوجل) الْحَقَّ وَالْعَدْلَ فِي الْبِلَادِ، وَيُحْسِنَ حَالَ عَامَّةِ الْعِبَادِ(2)، وَيَجْمَعَ اللهُ الْكَلِمَةَ، وَيُؤَلِّفَ بَيْنَ قُلُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلَا يُعْصَىٰ اللهُ (عزوجل) فِي أَرْضِهِ، وَيُقَامَ حُدُودُ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَيَرُدَّ اللهُ الْحَقَّ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَيَظْهَرُوهُ حَتَّىٰ لَا يُسْتَخْفَىٰ بِشَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ مَخَافَةَ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ؟ أَمَا وَاللهِ يَا عَمَّارُ لَا يَمُوتُ مِنْكُمْ مَيِّتٌ عَلَىٰ الْحَالِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا إِلَّا كَانَ أَفْضَلَ عِنْدَ اللهِ (عزوجل) مِنْ كَثِيرٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْراً وَأُحُداً، فَأَبْشِرُوا».

[8/507] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَىٰ بْنُ عِمْرَانَ النَّخَعِيُّ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ النَّوْفَلِيِّ، عَنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْكُوفِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىٰ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) فَكُنْتُ عِنْدَهُ إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ مُوسَىٰ بْنُ جَعْفَرٍ (علیهما السلام) وَهُوَ غُلَامٌ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ وَقَبَّلْتُ رَأْسَهُ وَجَلَسْتُ، فَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «يَا أَبَا إِبْرَاهِيمَ، أَمَا إِنَّهُ صَاحِبُكَ مِنْ بَعْدِي، أَمَا لَيَهْلِكَنَّ فِيهِ أَقْوَامٌ وَيَسْعَدُ آخَرُونَ، فَلَعَنَ اللهُ قَاتِلَهُ وَضَاعَفَ عَلَىٰ رُوحِهِ الْعَذَابَ، أَمَا لَيُخْرِجَنَّ اللهُ (عزوجل) مِنْ صُلْبِهِ خَيْرَ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي زَمَانِهِ بَعْدَ عَجَائِبَ تَمُرُّ بِهِ حَسَداً

ص: 434


1- في بعض النُّسَخ: (إلىٰ جدب الأرض).
2- في بعض النُّسَخ: (عامَّة الناس).

لَهُ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَىٰ بالِغُ أَمْرِهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ، يُخْرِجُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ مِنْ صُلْبِهِ تَكْمِلَةَ اثْنَيْ عَشَرَ مَهْدِيًّا، اخْتَصَّهُمُ اللهُ بِكَرَامَتِهِ وَأَحَلَّهُمْ دَارَ قُدْسِهِ، المُنْتَظِرُ لِلثَّانِي عَشَرَ كَالشَّاهِرِ سَيْفَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) يَذُبُّ عَنْهُ»، فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ مَوَالِي بَنِي أُمَيَّةَ فَانْقَطَعَ الْكَلَامُ، وَعُدْتُ إِلَىٰ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً أُرِيدُ اسْتِتْمَامَ الْكَلَامِ فَمَا قَدَرْتُ عَلَىٰ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ قَابِلٍ دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ، فَقَالَلِي: «يَا أَبَا إِبْرَاهِيمَ، هُوَ المُفَرِّجُ لِلْكَرْبِ عَنْ شِيعَتِهِ بَعْدَ ضَنْكٍ شَدِيدٍ وَبَلَاءٍ طَوِيلٍ وَجَوْرٍ، فَطُوبَىٰ لِمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ، حَسْبُكَ اللهُ يَا أَبَا إِبْرَاهِيمَ»، قَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ: فَمَا رَجَعْتُ بِشَيْءٍ أَسَرَّ إِلَيَّ مِنْ هَذَا وَلَا أَفْرَحَ لِقَلْبِي مِنْهُ(1).

* * *

ص: 435


1- تقدَّم هذا الخبر بتمامه تحت الرقم (246/5)، فراجع.

ص: 436

الباب السادس والخمسون:

النهي عن تسمية القائم (علیه السلام)

ص: 437

ص: 438

[1/508] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رِئَابٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «صَاحِبُ هَذَا الْأَمْرِ رَجُلٌ لَا يُسَمِّيهِ بِاسْمِهِ إِلَّا كَافِرٌ»(1).

[2/509] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ فَضَّالٍ، عَنِ الرَّيَّانِ بْنِ الصَّلْتِ، قَالَ: سُئِلَ الرِّضَا (علیه السلام) عَنِ الْقَائِمِ (علیه السلام)، فَقَالَ: «لَا يُرَىٰ جِسْمُهُ، وَلَا يُسَمَّىٰ بِاسْمِهِ»(2).

[3/510] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ، عَنْ جَابِرِ ابْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (علیه السلام) يَقُولُ: «سَأَلَ عُمَرُ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) عَنِ المَهْدِيِّ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ، أَخْبِرْنِي عَنِ المَهْدِيِّ مَا اسْمُهُ؟ قَالَ: أَمَّا اسْمُهُ فَلَا، إِنَّ حَبِيبِي وَخَلِيلي عَهِدَ إِلَيَّ أَنْ لَا أُحَدِّثَ بِاسْمِهِ حَتَّىٰ يَبْعَثَهُ اللهُ (عزوجل)، وَهُوَ مِمَّا اسْتَوْدَعَ اللهُ (عزوجل) رَسُولَهُ فِي عِلْمِهِ»(3).[4/511] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْعَلَوِيِّ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الْجَعْفَرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيَّ

ص: 439


1- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 117/ ح 109).
2- قد مرَّ تحت الرقم (304/2)، فراجع.
3- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 117 و118/ ح 111)، ورواه بتفاوت الطوسي(رحمة الله) في الغيبة (ص 470/ ح 487).

(علیه السلام) يَقُولُ: «الْخَلَفُ مِنْ بَعْدِي الْحَسَنُ ابْنِي، فَكَيْفَ لَكُمْ بِالْخَلَفِ مِنْ بَعْدِ الْخَلَفِ؟»، قُلْتُ: وَلِمَ جَعَلَنِيَ اللهُ فِدَاكَ؟ قَالَ: «لِأَنَّكُمْ لَا تَرَوْنَ شَخْصَهُ، وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ ذِكْرُهُ بِاسْمِهِ»، قُلْتُ: فَكَيْفَ نَذْكُرُهُ؟ فَقَالَ: «قُولُوا: الْحُجَّةُ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ)»(1).

* * *

ص: 440


1- قد مرَّ تحت الرقم (317/5)، فراجع.

الباب السابع والخمسون:

ما روي في علامات خروج القائم (علیه السلام)

ص: 441

ص: 442

[1/512] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَهْزِيَارَ، عَنْ أَخِيهِ عَلِيٍّ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَىٰ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ مَيْمُونٍ الْبَانِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ الصَّادِقِ (علیه السلام)، قَالَ: «خَمْسٌ قَبْلَ قِيَامِ الْقَائِمِ (علیه السلام): الْيَمَانِيُّ، وَالسُّفْيَانِيُّ، وَالمُنَادِي يُنَادِي مِنَ السَّمَاءِ، وَخَسْفٌ بِالْبَيْدَاءِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الزَّكِيَّةِ»(1).

[2/513] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَجَّالِ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ شُعَيْبٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَىٰ بَنِي الْعَذْرَاءِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ الصَّادِقَ (علیه السلام) يَقُولُ: «لَيْسَ بَيْنَ قِيَامِ قَائِمِ آلِ مُحَمَّدٍ وَبَيْنَ قَتْلِ النَّفْسِ الزَّكِيَّةِ إِلَّا خَمْسَةَ عَشْرَةَ لَيْلَةً»(2).

[3/514] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ هِلَالٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْخَزَّازِ وَالْعَلَاءِ بْنِ رَزِينٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیهالسلام) يَقُولُ: «إِنَّ قُدَّامَ الْقَائِمِ عَلَامَاتٍ تَكُونُ مِنَ اللهِ (عزوجل) لِلْمُؤْمِنِينَ»، قُلْتُ: وَمَا هِيَ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ؟ قَالَ: «ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ (عزوجل): «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ» يَعْنِي المُؤْمِنِينَ قَبْلَ خُرُوجِ الْقَائِمِ (علیه السلام)، «بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ 155»

ص: 443


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في الخصال (ص 303/ ح 82)، وابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 128/ ح 131).
2- رواه المفيد (رحمة الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 374) بتفاوت يسير، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 445/ ح 440)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1162).

[البقرة: 155]»، قَالَ: «يَبْلُوهُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ مِنْ مُلُوكِ بَنِي فُلَانٍ فِي آخِرِ سُلْطَانِهِمْ، وَالْجُوعِ بِغَلَاءِ أَسْعَارِهِمْ، «وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ»»، قَالَ: «كَسَادُ التِّجَارَاتِ وَقِلَّةُ الْفَضْلِ، وَنَقْصٍ مِنَ الْأَنْفُسِ»، قَالَ: «مَوْتٌ ذَرِيعٌ(1)، وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ»، قَالَ: قِلَّةُ رَيْعِ مَا يُزْرَعُ، «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ 155» عِنْدَ ذَلِكَ بِتَعْجِيلِ خُرُوجِ الْقَائِمِ (علیه السلام)»، ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا مُحَمَّدُ، هَذَا تَأْوِيلُهُ، إِنَّ اللهَ تَعَالَىٰ يَقُولُ: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» [آل عمران: 7]»(2).

[4/515] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبَانٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ يَحْيَىٰ الْحَلَبِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ المُغِيرَةِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ مَيْمُونٍ الْبَانِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) فِي فُسْطَاطِهِ، فَرَفَعَ جَانِبَ الْفُسْطَاطِ، فَقَالَ: «إِنَّ أَمْرَنَا قَدْ كَانَ أَبْيَنَ مِنْ هَذِهِ الشَّمْسِ»، ثُمَّ قَالَ: «يُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ هُوَ الْإِمَامُ بِاسْمِهِ، وَيُنَادِي إِبْلِيسُ (لَعَنَهُ اللهُ) مِنَ الْأَرْضِ كَمَا نَادَىٰ بِرَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ».

[5/516] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِيَحْيَىٰ، عَنْ عِيسَىٰ بْنِ أَعْيَنَ، عَنِ المُعَلَّىٰ بْنِ خُنَيْسٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «إِنَّ أَمْرَ السُّفْيَانِيِّ مِنَ الْأَمْرِ المَحْتُومِ، وَخُرُوجُهُ فِي رَجَبٍ».

[6/517] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ المُغِيرَةِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «الصَّيْحَةُ الَّتِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تَكُونُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ».

ص: 444


1- الذريع: السريع.
2- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 129/ ح 133)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 280 و281).

[7/518] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَنْظَلَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) يَقُولُ: «قَبْلَ قِيَامِ الْقَائِمِ خَمْسُ عَلَامَاتٍ مَحْتُومَاتٍ: الْيَمَانِيُّ، وَالسُّفْيَانِيُّ، وَالصَّيْحَةُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الزَّكِيَّةِ، وَالْخَسْفُ بِالْبَيْدَاءِ»(1).

[8/519] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «يُنَادِي مُنَادٍ بِاسْمِ الْقَائِمِ (علیه السلام)»، قُلْتُ: خَاصٌّ أَوْ عَامٌّ؟ قَالَ: «عَامٌّ يَسْمَعُ كُلُّ قَوْمٍ بِلِسَانِهِمْ»، قُلْتُ: فَمَنْ يُخَالِفُ الْقَائِمَ (علیه السلام) وَقَدْ نُودِيَ بِاسْمِهِ؟قَالَ: «لَا يَدَعُهُمْ إِبْلِيسُ حَتَّىٰ يُنَادِيَ [فِي آخِرِ اللَّيْلِ](2) وَيُشَكِّكَ النَّاسَ»(3).

[9/520] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْكُوفِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «قَالَ أَبِي (علیه السلام): قَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام): يَخْرُجُ ابْنُ آكِلَةِ الْأَكْبَادِ مِنَ الْوَادِي الْيَابِسِ، وَهُوَ رَجُلٌ رَبْعَةٌ، وَحْشُ الْوَجْهِ(4)، ضَخْمُ الْهَامَةِ

ص: 445


1- روىٰ قريباً منه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 8/ ص 310/ ح 483)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 261/ باب 14/ ح 9)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 436 و437/ ح 427).
2- قال في بحار الأنوار (ج 52/ ص 205): الظاهر (في آخر النهار) كما سيأتي تحت الرقم (525/14)، ولعلَّه من النُّسَّاخ. ولم يكن في بعض النُّسَخ (في آخر الليل) أصلاً، فالزيادة من النُّسَّاخ.
3- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 129 و130/ ح 133).
4- أي يستوحش من يراه ولا يستأنس به. وفي بعض النُّسَخ: (وخش الوجه) بالخاء المعجمة، والوخش: الردي من كلِّ شيء، ورُذَّال الناس وسُقَّاطهم للواحد والجمع والمذكَّر والمؤنَّث. (القاموس المحيط: ج 2/ ص 292). وفي بعض النُّسَخ المصحَّحة: (خشن الوجه).

، بِوَجْهِهِ أَثَرُ جُدَرِيٍّ، إِذَا رَأَيْتَهُ حَسِبْتَهُ أَعْوَرَ، اسْمُهُ عُثْمَانُ وَأَبُوهُ عَنْبَسَةُ، وَهُوَ مِنْ وُلْدِ أَبِي سُفْيَانَ، حَتَّىٰ يَأْتِيَ أَرْضاً ذَاتَ قَرَارٍ وَمَعِينٍ(1)، فَيَسْتَوِيَ عَلَىٰ مِنْبَرِهَا»(2).

[10/521] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْهَمَدَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ حَمَّادِ ابْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ الصَّادِقُ (علیه السلام): «إِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ السُّفْيَانِيَّ لَرَأَيْتَ أَخْبَثَ النَّاسِ،أَشْقَرَ أَحْمَرَ أَزْرَقَ، يَقُولُ: يَا رَبِّ ثَأْرِي ثَأْرِي ثُمَّ النَّارَ(3)، وَقَدْ بَلَغَ مِنْ خُبْثِهِ أَنَّهُ يَدْفِنُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَهِيَ حَيَّةٌ مَخَافَةَ أَنْ تَدُلَّ عَلَيْهِ».

[11/522] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ مَاجِيلَوَيْهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْكُوفِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ الْبَجَلِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) عَنِ اسْمِ السُّفْيَانِيِّ، فَقَالَ: «وَمَا تَصْنَعُ بِاسْمِهِ؟ إِذَا مَلَكَ كُوَرَ الشَّامِ الْخَمْسَ: دِمَشْقَ، وَحِمْصَ، وَفِلَسْطِينَ، وَالْأُرْدُنَّ، وَقِنَّسْرِينَ، فَتَوَقَّعُوا عِنْدَ ذَلِكَ الْفَرَجَ»، قُلْتُ: يَمْلِكُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنْ يَمْلِكُ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ لَا يَزِيدُ يَوْماً»(4).

[12/523] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ أَبِي الصَّلْتِ الْهَرَوِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِلرِّضَا (علیه السلام): مَا عَلَامَاتُ الْقَائِمِ مِنْكُمْ إِذَا خَرَجَ؟ قَالَ: «عَلَامَتُهُ أَنْ يَكُونَ شَيْخَ السِّنِّ، شَابَّ

ص: 446


1- يعنى الكوفة كما جاءت به الأخبار.
2- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 282)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1150).
3- في الغيبة للنعماني (ص 318/ باب 18/ ح 18) بسند آخر عنه (علیه السلام): «يا ربِّ ثاري والنار، يا ربِّ ثاري والنار»، ولعلَّ المعنىٰ: يا ربِّ إنِّي أطلب ثاري ولو بدخول النار.
4- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 130/ ح 134)، والطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 282).

المَنْظَرِ، حَتَّىٰ إِنَّ النَّاظِرَ إِلَيْهِ لَيَحْسَبُهُ ابْنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَوْ دُونَهَا، وَإِنَّ مِنْ عَلَامَاتِهِ أَنْ لَا يَهْرَمَ بِمُرُورِ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي حَتَّىٰ يَأْتِيَهُ أَجَلُهُ»(1).

[13/524] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضی الله عنه)، عَنْ عَمِّهِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْكُوفِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي المَغْرَا، عَنِ المُعَلَّىٰ بْنِ خُنَيْسٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «صَوْتُ جَبْرَئِيلَ مِنَ السَّمَاءِ، وَصَوْتُ إِبْلِيسَ مِنَ الْأَرْضِ، فَاتَّبِعُوا الصَّوْتَ الْأَوَّلَ، وَإِيَّاكُمْ وَالْأَخِيرَ أَنْ تَفْتَتِنُوا بِهِ».

[14/525] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ ابْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ [بْنِ مُحَمَّدِ] بْنِ عِيسَىٰ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) إِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ (علیه السلام) كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ خُرُوجَ السُّفْيَانِيِّ مِنَ الْأَمْرِ المَحْتُومِ»، قَالَ لِي: «نَعَمْ، وَاخْتِلَافُ وُلْدِ الْعَبَّاسِ مِنَ المَحْتُومِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الزَّكِيَّةِ مِنَ المَحْتُومِ، وَخُرُوجُ الْقَائِمِ (علیه السلام) مِنَ المَحْتُومِ»، فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ يَكُونُ [ذَلِكَ] النِّدَاءُ؟ قَالَ: «يُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَوَّلَ النَّهَارِ: أَلَا إِنَّ الْحَقَّ فِي عَلِيٍّ وَشِيعَتِهِ، ثُمَّ يُنَادِي إِبْلِيسُ (لَعَنَهُ اللهُ) فِي آخِرِ النَّهَارِ: أَلَا إِنَّ الْحَقَّ فِي السُّفْيَانِيِّ وَشِيعَتِهِ، فَيَرْتَابُ عِنْدَ ذَلِكَ المُبْطِلُونَ».

[15/526] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ ابْنِ أَبَانٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَىٰ، عَنْ عِيسَىٰ بْنَ أَعْيَنَ، عَنِ المُعَلَّىٰ بْنِ خُنَيْسٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «إِنَّ أَمْرَ السُّفْيَانِيِّ مِنَ المَحْتُومِ، وَخُرُوجَهُ فِي رَجَبٍ»(2).

[16/527] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَىٰ ،

ص: 447


1- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 295)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1170 و1171).
2- قد مرَّ تحت الرقم (516/5)، فراجع.

عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ المُغِيرَةِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «الصَّيْحَةُ الَّتِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تَكُونُلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ»(1).

[17/528] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَىٰ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي الْجَارُودِ زِيَادِ بْنِ المُنْذِرِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (علیهم السلام)، قَالَ: «قَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (علیه السلام) - وَهُوَ عَلَىٰ الْمِنْبَرِ -: يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ وُلْدِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَبْيَضُ اللَّوْنِ، مُشْرَبٌ بِالْحُمْرَةِ، مُبْدَحُ الْبَطْنِ(2)، عَرِيضُ الْفَخِذَيْنِ، عَظِيمٌ مُشَاشُ المَنْكِبَيْنِ(3)، بِظَهْرِهِ شَامَتَانِ: شَامَةٌ عَلَىٰ لَوْنِ جِلْدِهِ(4)، وَشَامَةٌ عَلَىٰ شِبْهِ شَامَةِ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله)، لَهُ اسْمَانِ: اسْمٌ يَخْفَىٰ وَاسْمٌ يَعْلُنُ، فَأَمَّا الَّذِي يَخْفَىٰ فَأَحْمَدُ، وَأَمَّا الَّذِي يَعْلُنُ فَمُحَمَّدٌ، إِذَا هَزَّ رَايَتَهُ أَضَاءَ لَهَا مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَىٰ رُؤُوسِ الْعِبَادِ فَلَا يَبْقَىٰ مُؤْمِنٌ إِلَّا صَارَ قَلْبُهُ أَشَدَّ مِنْ زُبَرِ الْحَدِيدِ، وَأَعْطَاهُ اللهُ تَعَالَىٰ قُوَّةَ أَرْبَعِينَ رَجُلاً، وَلَا يَبْقَىٰ مَيِّتٌ إِلَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْفَرْحَةُ [فِي قَلْبِهِ] وَهُوَ فِي قَبْرِهِ، وَهُمْ يَتَزَاوَرُونَ فِي قُبُورِهِمْ، وَيَتَبَاشَرُونَ بِقِيَامِ الْقَائِمِ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ)»(5).

ص: 448


1- قد مرَّ تحت الرقم (517/6)، فراجع.
2- مبدح البطن: أي واسعه وعريضه. والبداح: المتَّسع من الأرض. والبدح - بالكسر -: الفضاء الواسع. وامرأة بيدح أي بادن. والأبدح: الرجل الطويل [السمين] والعريض الجنين من الدوابِّ. (القاموس المحيط: ج 1/ ص 215).
3- (مشاش) جمع المُشاشة - بالضمِّ -، وهي رأس العظم الممكن المضغ.
4- الشامة: علامة تخالف البدن الذي هي فيه إمَّا باللون أو التورُّم، وهي الخال.
5- رواه الطبرسي (رحمة الله) في إعلام الورىٰ (ج 2/ ص 294 و295)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1149 و1150/ ح 58).

[18/529] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)، قَالَ: «إِنَّ الْعِلْمَ بِكِتَابِ اللهِ (عزوجل) وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ (صلی الله علیه و آله) لَيَنْبُتُ فِي قَلْبِ مَهْدِيِّنَا كَمَا يَنْبُتُ الزَّرْعُ عَلَىٰ أَحْسَنِ نَبَاتِهِ، فَمَنْ بَقِيَ مِنْكُمْ حَتَّىٰ يَرَاهُ فَلْيَقُلْ حِينَ يَرَاهُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ بَيْتِ الرَّحْمَةِ وَالنُّبُوَّةِ، وَمَعْدِنَ الْعِلْمِ، وَمَوْضِعَ الرِّسَالَةِ»(1).

وَرُوِيَ أَنَّ التَّسْلِيمَ عَلَىٰ الْقَائِمِ (علیه السلام) أَنْ يُقَالَ لَهُ: «السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا بَقِيَّةَ اللهِ فِي أَرْضِهِ»(2).

[19/530] حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِدْرِيسَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (علیه السلام): «يَخْرُجُ الْقَائِمُ (علیه السلام) يَوْمَ السَّبْتِ يَوْمَ عَاشُورَا، يَوْمَ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ الْحُسَيْنُ (علیه السلام)».

[20/531] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): كَمْ يَخْرُجُ مَعَ الْقَائِمِ (علیه السلام)؟ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَخْرُجُ مَعَهُ مِثْلُ عِدَّةِ أَهْلِ بَدْرٍ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً، قَالَ: «وَمَا يَخْرُجُ إِلَّا فِيأُولِي قُوَّةٍ، وَمَا تَكُونُ أُولُو الْقُوَّةِ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ»(3)(4).

[21/532] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي ،

ص: 449


1- رواه عليِّ بن يوسف الحلِّي (رحمة الله) في العدد القويَّة (ص 65/ ح 90).
2- راجع ما مرَّ تحت الرقم (240/16)، وانظر ما رواه العيَّاشي (رحمة الله) في تفسيره (ج 1/ ص 276/ ح 274)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 411 و412/ باب نادر/ ح 2)، وفرات الكوفي (رحمة الله) في تفسيره (ص 193/ ح 249/3).
3- رواه عليُّ بن يوسف الحلِّي (رحمة الله) في العدد القويَّة (ص 65/ ح 92).
4- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 52/ ص 323): (بيان: المعنىٰ أنَّه (علیه السلام) لا تنحصر أصحابه في الثلاثمائة وثلاثة عشر، بل هذا العدد هم المجتمعون عنده في بدو خروجه).

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْقَمَّاطِ، عَنْ ضُرَيْسٍ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْكَابُلِيِّ، عَنْ سَيِّدِ الْعَابِدِينَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (علیهما السلام)، قَالَ: «المَفْقُودُونَ عَنْ فُرُشِهِمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً عِدَّةُ أَهْلِ بَدْرٍ، فَيُصْبِحُونَ بِمَكَّةَ، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ (عزوجل): «أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً» [البقرة: 148]، وَهُمْ أَصْحَابُ الْقَائِمِ (علیه السلام)»(1).

[22/533] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَىٰ، عَنْ مَنْدَلٍ(2)، عَنْ بَكَّارِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَجْلَانَ، قَالَ: ذَكَرْنَا خُرُوجَ الْقَائِمِ (علیه السلام) عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ لَنَا أَنْ نَعْلَمَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: «يُصْبِحُ أَحَدُكُمْ وَتَحْتَ رَأْسِهِ صَحِيفَةٌ عَلَيْهَا مَكْتُوبٌ: طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ»(3).

وَرُوِيَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي رَايَةِ المَهْدِيِّ (علیه السلام): «الْبَيْعَةُ لِلهِ(عزوجل)»(4).

[23/534] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي الْمِقْدَامِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ كَرِبٍ(5)، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا (علیه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ رَايَةً مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ، وَمَنْ تَأَخَّرَ عَنْهَا مَحَقَ، وَمَنْ تَبِعَهَا(6) لَحِقَ»(7).

ص: 450


1- رواه الراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1156)، وعليُّ بن يوسف الحلِّي (رحمة الله) في العدد القويَّة (ص 65 و66/ ح 93).
2- في أكثر النُّسَخ: (منذر).
3- رواه عليُّ بن يوسف الحلِّي (رحمة الله) في العدد القويَّة (ص 66/ ح 94).
4- راجع: الفتن للمروزي (ص 220)، وعقد الدُّرَر (ص 216).
5- كذا، والظاهر أنَّه تصحيف، والصواب: عبيد الكندي الكوفي، ذكره ابن حبَّان في الثقات (ج 5/ ص 138).
6- في بعض النُّسَخ: (من لزمها).
7- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 132/ ح 141).

[24/535] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبَرْقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّهِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبَرْقِيِّ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي الْمِقْدَامِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)، قَالَ: «يَمُوتُ سَفِيهٌ مِنْ آلِ الْعَبَّاسِ بِالسِّرِّ، يَكُونُ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ يَنْكِحُ خَصِيًّا فَيَقُومُ فَيَذْبَحُهُ وَيَكْتُمُ مَوْتَهُ أَرْبَعِينَ يَوْماً، فَإِذَا سَارَتِ الرُّكْبَانُ فِي طَلَبِ الْخَصِيِّ لَمْ يَرْجِعْ أَوَّلُ مَنْ يَخْرُجُ [إِلَىٰ آخِرِ مَنْ يَخْرُجُ] حَتَّىٰ يَذْهَبَ مُلْكُهُمْ»(1).

[25/536] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ ابْنِ أَبَانٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ يَحْيَىٰ الْحَلَبِيِّ، عَنِ الْحَكَمِ الْحَنَّاطِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ هَمَّامٍ، عَنْ وَرْدٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)، قَالَ: «اثْنَانِ بَيْنَ يَدَيْ هَذَا الْأَمْرِ: خُسُوفُ الْقَمَرِلِخَمْسٍ، وَكُسُوفُ الشَّمْسِ لِخَمْسَ عَشْرَةَ، [وَ]لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُنْذُ هَبَطَ آدَمُ (علیه السلام) إِلَىٰ الْأَرْضِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَسْقُطُ حِسَابُ المُنَجِّمِينَ(2)»(3).

[26/537] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ يَحْيَىٰ الْحَلَبِيِّ، عَنْ مُعَمَّرِ بْنِ يَحْيَىٰ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْكَابُلِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (علیهما السلام)، قَالَ: «إِذَا بَنَىٰ بَنُو الْعَبَّاسِ مَدِينَةً عَلَىٰ شَاطِئِ الْفُرَاتِ كَانَ بَقَاؤُهُمْ بَعْدَهَا سَنَةً»(4).

[27/538] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَىٰ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ

ص: 451


1- رواه الراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1160).
2- ذلك لأنَّ الخسوف في أواسط الشهر والكسوف في أواخره كما هو المعهود.
3- راجع ما رواه النعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 280/ باب 14/ ح 46)، والراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1158).
4- رواه الراوندي (رحمة الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1156).

(علیه السلام) يَقُولُ: «قُدَّامَ الْقَائِمِ مَوْتَتَانِ: مَوْتٌ أَحْمَرُ وَمَوْتٌ أَبْيَضُ، حَتَّىٰ يَذْهَبَ مِنْ كُلِّ سَبْعَةٍ خَمْسَةٌ، المَوْتُ الْأَحْمَرُ السَّيْفُ، وَالمَوْتُ الْأَبْيَضُ الطَّاعُونُ»(1).

[28/539] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ السَّعْدَآبَادِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «تَنْكَسِفُ الشَّمْسُ لِخَمْسٍ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ قَبْلَقِيَامِ الْقَائِمِ (علیه السلام)»(2).

[29/540] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَا: سَمِعْنَا أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) يَقُولُ: «لَا يَكُونُ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّىٰ يَذْهَبَ ثُلُثُ النَّاسِ»، فَقِيلَ لَهُ: إِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ النَّاسِ فَمَا يَبْقَىٰ؟ فَقَالَ (علیه السلام): «أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا الثُّلُثَ الْبَاقِيَ؟»(3).

قال [أبو جعفر محمّد بن عليِّ بن بابويه] مصنِّف هذا الكتاب (رضی الله عنه): وقد أخرجت ما روي في علامات القائم (علیه السلام) وسيرته وما يجري في أيَّامه في الكتاب السرِّ المكتوم إلىٰ الوقت المعلوم، [ولا قوَّة إلَّا بالله العليِّ العظيم].

* * *

ص: 452


1- راجع ما رواه النعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 286/ باب 14/ ح 61)، والمفيد (رحمة الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 372)، والطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 438/ ح 430).
2- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 52/ ص 207): (بيان: يحتمل وقوعهما معاً، فلا تنافي، ولعلَّه سقط من الخبر شيء).
3- رواه الطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 339/ ح 286)، وفيه: (يذهب ثلثا الناس، فقيل له: إذا ذهب ثلثا الناس...)، وهو الصحيح بقرينة قوله (علیه السلام): «أمَا ترضون أن تكونوا الثلث الباقي؟».

الباب الثامن والخمسون:

في نوادر الكتاب

ص: 453

ص: 454

[1/541] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ هَارُونَ الْقَاضِي(1) وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُورٍ وَعَلِيُّ ابْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ شَاذَوَيْهِ المُؤَدِّبُ (رضی الله عنهم)، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ جَامِعٍ الْحِمْيَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ الدَّقَّاقِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَأَلْتُ الصَّادِقَ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (علیهما السلام) عَنْ قَوْلِ اللهِ (عزوجل): «وَالْعَصْرِ 1 إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ 2»، قَالَ (علیه السلام): ««الْعَصْرِ 1» عَصْرُ خُرُوجِ الْقَائِمِ (علیه السلام)، «إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ 2» يَعْنِي أَعْدَاءَنَا، «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا» يَعْنِي بِآيَاتِنَا، «وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ» يَعْنِي بِمُوَاسَاةِ الْإِخْوَانِ، «وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ» يَعْنِي بِالْإِمَامَةِ، «وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ 3» [العصر: 1- 3]، يَعْنِي فِي الْفَتْرَةِ»(2)(3).

قال مصنِّف هذا الكتاب (رضی الله عنه): إنَّ قوماً قالوا بالفترة واحتجُّوا بها، وزعموا أنَّ الإمامة منقطعة كما انقطعت النبوَّة والرسالة من نبيٍّ إلىٰ نبيٍّ ورسول إلىٰ رسول بعد محمّد (صلی الله علیه و آله).

فأقول - وبالله التوفيق -: إنَّ هذا القول مخالف للحقِّ، لكثرة الرواياتالتي وردت أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة إلىٰ يوم القيامة، ولم تخل من لدن آدم (علیه السلام) إلىٰ هذا الوقت، وهذه الأخبار كثيرة شائعة(4) قد ذكرتها في هذا الكتاب،

ص: 455


1- في بعض النُّسَخ: (الفامي).
2- رواه عليُّ بن يوسف الحلِّي (رحمة الله) في العدد القويَّة (ص 67/ ح 98).
3- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 24/ ص 214): (بيان: قوله (علیه السلام): «يعني أعداءنا»، أي الباقون بعد الاستثناء أعداؤنا، فلا ينافي كون الاستثناء متَّصلاً. قوله تعالىٰ: «وَتَواصَوْا» أي وصَّىٰ بعضهم بعضاً. قوله: «يعني بالفترة»، أي بالصبر علىٰ ما يلحقهم من الشُّبَه والفتن والحيرة والشدَّة في غيبة الإمام (علیه السلام)).
4- في بعض النُّسَخ: (متتابعة).

وهي شائعة في طبقاب الشيعة وفِرَقها، لا يُنكِرها منهم منكر، ولا يجحدها جاحد، ولا يتأوَّلها متأوِّل، وإنَّ الأرض لا تخلو من إمام حيٍّ معروف إمَّا ظاهر مشهور أو خافٍ مستور، ولم يزل إجماعهم عليه إلىٰ زماننا هذا، فالإمامة لا تنقطع ولا يجوز انقطاعها، لأنَّها متَّصلة ما اتَّصل الليل والنهار.

[2/542] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ عِيسَىٰ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ وَعَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ(1)، عَنْ نَافِعٍ الْوَرَّاقِ، عَنْ هَارُونَ بْنِ خَارِجَةَ، قَالَ: قَالَ لِي هَارُونُ بْنُ سَعْدٍ الْعِجْلِيُّ(2): قَدْ مَاتَ إِسْمَاعِيلُ الَّذِي كُنْتُمْ تَمُدُّونَ أَعْنَاقَكُمْ إِلَيْهِ، وَجَعْفَرٌ شَيْخٌ كَبِيرٌ يَمُوتُ غَداً أَوْ بَعْدَ غَدٍ، فَتَبْقُونَ بِلَا إِمَامٍ، فَلَمْ أَدْرِ مَا أَقُولُ لَهُ، فَأَخْبَرْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) بِمَقَالَتِهِ، فَقَالَ: «هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ أَبَىٰ اللهُ وَاللهِ أَنْ يَنْقَطِعَ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّىٰ يَنْقَطِعَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، فَإِذَا رَأَيْتَهُ فَقُلْ لَهُ: هَذَا مُوسَىٰ بْنُ جَعْفَرٍ يَكْبَرُ وَيُزَوِّجُهُ فَيُولَدُ لَهُ وَلَدٌ فَيَكُونُ خَلَفاً إِنْ شَاءَ اللهُ»(3).

فهذا أبو عبد الله الصادق (علیه السلام) يحلف بالله أنَّه لا ينقطع هذا الأمر حتَّىٰ ينقطع الليل والنهار، والفترات بين الرُّسُل (علیهم السلام) كانت جائزة، لأنَّ الرُّسُل مبعوثة بشرائع الملَّة وتجديدها ونسخ بعضها بعضاً، وليس الأنبياء والأئمَّة (علیهم السلام) كذلك، ولا لهم ذلك، لأنَّه لا يُنسَخ بهمشريعة ولا يُجدَّد بهم ملَّة، وقد علمنا أنَّه كان بين نوح وإبراهيم، وبين إبراهيم وموسىٰ، وبين موسىٰ وعيسىٰ، وبين عيسىٰ ومحمّد (علیهم السلام) أنبياء وأوصياء كثيرون(4)، وإنَّما كانوا مذكِّرين لأمر الله، مستحفظين مستودعين لما جعل الله تعالىٰ عندهم من الوصايا والكُتُب والعلوم وما جاءت به

ص: 456


1- في بعض النُّسَخ: (عليُّ بن الحسين).
2- زيدي. (رجال ابن داود: ص 283/ الرقم 540).
3- رواه الطوسي (رحمة الله) في الغيبة (ص 41 و42/ ح 22).
4- في بعض النُّسَخ: (يكثر عددهم).

الرُّسُل عن الله (عزوجل) إلىٰ أُمَمهم، وكان لكلِّ نبيٍّ منهم مذكِّر عنه ووصيٌّ يُؤدِّي ما استحفظه من علومه ووصاياه، فلمَّا ختم الله (عزوجل) الرُّسُل بمحمّد (صلی الله علیه و آله) لم يجز أنْ يخلو الأرض من وصيٍّ هادٍ مذكِّر يقوم بأمره ويُؤدِّي عنه ما استودعه، حافظاً لما ائتمنه عليه من دين الله (عزوجل)، فجعل الله (عزوجل) ذلك سبباً لإمامة منسوقة منظومة متَّصلة ما اتَّصل أمر الله (عزوجل)، لأنَّه لا يجوز أنْ تندرس آثار الأنبياء والرُّسُل وأعلام محمّد (صلی الله علیه و آله) وملَّته وشرائعه وفرائضه وسُنَنه وأحكامه أو تُنسَخ أو تُعفىٰ(1) عليها آثار رسول آخر وشرائعه، إذ لا رسول بعده (صلی الله علیه و آله) ولا نبيٌّ.

والإمام ليس برسول ولا نبيٍّ ولا داعٍ إلىٰ شريعة ولا ملَّة غير شريعة محمّد (صلی الله علیه و آله) وملَّته، فلا يجوز أنْ يكون بين الإمام والإمام الذي بعده فترة، فالفترات جائزة بين الرُّسُل (علیهم السلام)، وفي الإمامة غير جائزة، فلذلك وجب أنَّه لا بدَّ من إمام محجوج به.

ولا بدَّ أيضاً أنْ يكون بين الرسول والرسول - وإنْ كان بينهما فترة - إمام وصيٌّ يلزم الخلق حجَّته ويُؤدِّي عن الرُّسُل ما جاؤوا به عن الله تعالىٰ، ويُنبِّه عباده علىٰ ما أغفلوا، ويُبيِّن لهم ما جهلوا، ليعلموا أنَّ الله (عزوجل)لم يتركهم سدًى، ولم يضرب عنهم الذكر صفحاً، ولم يدعهم من دينهم في شبهة، ولا من فرائضه التي وظَّفها عليهم في حيرة، والنبوَّة والرسالة سُنَّة من الله (عزوجل)، والإمامة فريضة، والسُّنَن تنقطع ويجوز تركها في حالات، والفرائض لا تزول ولا تنقطع بعد محمّد (صلی الله علیه و آله)، وأجلُّ الفرائض وأعظمها خطراً الإمامة التي تُؤدَّىٰ بها الفرائض والسُّنَن، وبها كمل الدِّين وتمَّت النعمة، فالأئمَّة من آل محمّد (صلی الله علیه و آله)، لأنَّه لا نبيَّ بعده، ليحملوا العباد علىٰ محجَّة دينهم، ويلزموهم سبيل نجاتهم، ويُجنِّبوهم موارد هلكتهم، ويُبيِّنوا لهم من فرائض الله (عزوجل) ما شذَّ عن أفهامهم، ويهدوهم بكتاب

ص: 457


1- كذا في جميع النُّسَخ، ولعلَّه: تقفي عليها.

الله (عزوجل) إلىٰ مراشد أُمورهم، فيكون الدِّين بهم محفوظاً لا تعترض فيه الشبهة، وفرائض الله (عزوجل) بهم مؤدَّاة لا يدخلها باطل، وأحكام الله ماضية لا يلحقها تبديل، ولا يزيلها تغيير.

فالرسالة والنبوَّة سُنَن، والإمامة فرض وفرائض الله (عزوجل) الجارية علينا بمحمّد، لازمة لنا، ثابتة لا تنقطع ولا تتغيَّر إلىٰ يوم القيامة، مع أنَّا لا ندفع الأخبار التي رُويت أنَّه كان بين عيسىٰ ومحمّد (صلی الله علیه و آله) فترة لم يكن فيها نبيٌّ ولا وصيٌّ ولا نُنكِرها، ونقول: إنَّها أخبار صحيحة، ولكنَّ تأويلها غير ما ذهب إليه مخالفونا من انقطاع الأنبياء والأئمَّة والرُّسُل (علیهم السلام).

وإنَّما معنىٰ الفترة أنَّه لم يكن بينهما رسول ولا نبيٌّ ولا وصيٌّ ظاهر مشهور كمن كان قبله، وعلىٰ ذلك دلَّ الكتاب المنزل أنَّ الله (جلَّ وعزَّ) بعث محمّداً (صلی الله علیه و آله) علىٰ حين فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، لا من الأنبياء والأوصياء، ولكن قد كان بينه وبين عيسىٰ (علیهما السلام) أنبياء وأئمَّة مستورون خائفون، مِنْهُمْ خَالِدُ بْنُ سِنَانٍ الْعَبْسِيُّ، نَبِيٌّ لَا يَدْفَعُهُ دَافِعٌ، وَلَايُنْكِرُهُ مُنْكِرٌ، لِتَوَاطُؤ الْأَخْبَارِ بِذَلِكَ عِن الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَشُهْرَتِهِ عِنْدَهُمْ، وَأَنَّ ابْنَتَهُ أَدْرَكَتْ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: «هَذِهِ ابْنَةُ نَبِيٍّ ضَيَّعَهُ قَوْمُهُ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ الْعَبْسِيِ»، وَكَانَ بَيْنَ مَبْعَثِهِ ومَبْعَثِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) خَمْسُونَ سَنَةً، وهو خالِد بن سنان بن بعيث(1) بن مريطة بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس، حدَّثني بذلك جماعة من أهل الفقه والعلم.

[3/543] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْخَزَّازُ وَالسِّنْدِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَزَّازُ جَمِيعاً، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ الْأَحْمَرِ، عَنْ بَشِيرٍ النَّبَّالِ، عَنْ أَبِي

ص: 458


1- في بعض النُّسَخ: (لعيث). وفي المعارف لابن قتيبة (ص 62): أتت ابنته رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فسمعته يقرأ: «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ 1»، فقالت: كان أبي يقول هذا.

جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ وَأَبِي عَبْدِ اللهِ الصَّادِقِ (علیهما السلام)، قَالَا: «جَاءَتْ ابْنَةُ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ الْعَبْسِيِّ إِلَىٰ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، فَقَالَ لَهَا: مَرْحَباً يَا ابْنَةَ أَخِي، وَصَافَحَهَا وَأَدْنَاهَا وَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ، ثُمَّ أَجْلَسَهَا إِلَىٰ جَنْبِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ ابْنَةُ نَبِيٍّ ضَيَّعَهُ قَوْمُهُ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ الْعَبْسِيِ»(1).

وكان اسمها محياة ابنة خالد بن سنان.

وبعد، فلو لا الكتاب المنزل وما أخبرنا الله تعالىٰ به علىٰ لسان نبيِّنا المرسَل (صلی الله علیه و آله) وما اجتمعت عليه الأُمَّة من النقل عنه (علیه السلام) في الخبر الموافق للكتاب أنَّه لا نبيَّ بعده، لكان الواجب اللازم في الحكمة أنْ لا يجوز أنْ يخلو العباد من رسول منذر ما دام التكليف لازماًلهم، وأنْ تكون الرُّسُل متواترة إليهم علىٰ ما قال الله (عزوجل): «ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً» [المؤمنون: 44]، ولقوله (عزوجل): «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَىٰ اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» [النساء: 165]، لأنَّ علَّتهم لا تنزاح إلَّا بذلك، كما حكىٰ تبارك وتعالىٰ عنهم في قوله (عزوجل): «لَوْ لَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَىٰ 134» [طه: 134].

فكان من احتجاج الله (عزوجل) في جواب ذلك أنْ قال: «قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ 183» [آل عمران: 183]، فعلل العباد مع التكليف لا تنزاح(2) إلَّا برسول منذر مبعوث إليهم ليقيم أودهم ويُخبرهم بمصالح أُمورهم ديناً ودنياً، وينصف مظلومهم من ظالمهم، ويأخذ حقَّ ضعيفهم من قويِّهم، وحجَّة الله (عزوجل) لا تلزمهم إلَّا بذلك.

فلمَّا أخبرنا (عزوجل) أنَّه قد ختم أنبياءه ورُسُله بمحمّد (صلی الله علیه و آله) سلَّمنا لذلك وأيقنَّا

ص: 459


1- روىٰ قريباً منه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 8/ ص 342/ ح 540).
2- أي لا تبعد ولا تزول.

أنَّه لا رسول بعده، وأنَّه لا بدَّ لنا ممَّن يقوم مقامه وتلزمنا حجَّة الله به، وتنزاح به علَّتنا، لأنَّ الله (عزوجل) قال في كتابه لرسوله (صلی الله علیه و آله): «إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ 7» [الرعد: 7]، ولأنَّ الحاجة منَّا إلىٰ ذلك دائمة فينا ثابتة إلىٰ انقضاء الدنيا وزوال التكليف والأمر والنهي عنَّا، فإنَّ ذلك الهادي لا يكون مثل حالنا في الحاجة إلىٰ من يُقوِّمه ويُؤدِّبه ويهديه إلىٰ الحقِّ، ولا يحتاج إلىٰ مخلوق منَّا في شيء من علم الشريعة ومصالح الدِّين والدنيا، بل مقوِّمه وهاديه الله (عزوجل) بما يلهمه كما ألهم أُمَّ موسىٰ (علیه السلام) وهداها إلىٰ ما كانفيه نجاتها ونجاة موسىٰ (علیه السلام) من فرعون وقومه.

فعلم الإمام (علیه السلام) كلُّه من الله (عزوجل) ومن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فبذلك يكون عالماً بما في الكتاب المنزل وتنزيله وتفسيره وتأويله ومعانيه وناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه وحلاله وحرامه وأوامره وزواجره ووعده ووعيده وأمثاله وقَصصه، لا برأي وقياس، كما قال الله (عزوجل): «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَىٰ الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» [النساء: 83].

والدليل علىٰ ذلك ما اجتمعت الأُمَّة علىٰ نقله من قَوْلِ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله): «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ اللهِ (عزوجل) وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ».

وَبِقَوْلِهِ (صلی الله علیه و آله): «الْأَئِمَّةُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، لَا تُعَلِّمُوهُمْ فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْكُمْ».

فأعلمنا (صلی الله علیه و آله) فقال: إنَّه مخلِّف فينا من يقوم مقامه في هدايتنا وفي معرفته علم الكتاب، وإنَّ الأُمَّة ستفارقهما إلَّا من عصمه الله (عزوجل) بلزومهما فأنقذه باتِّباعهما من الضلالة والردىٰ، ضماناً منه صحيحاً يُؤدِّيه عن الله (عزوجل)، إذ لم يكن (صلی الله علیه و آله) من المتكلِّفين، ولم يتَّبع إلَّا ما يُوحىٰ إليه أنَّ من تمسَّك بهما لن يضلَّ، وأنَّهما لن يفترقا حتَّىٰ يردا عليه الحوض.

ص: 460

وبقوله (صلی الله علیه و آله): «إنَّ أُمَّته ستفترق علىٰ ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية، واثنتين وسبعين فرقة في النار».

فقد أخرج (صلی الله علیه و آله) من تمسَّك بالكتاب والعترة من الفِرَق الهالكة وجعله من الناجية بما قَالَ (صلی الله علیه و آله): إِنَّهُ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِمَالَنْ يَضِلَّ.

وَبِقَوْلِهِ (صلی الله علیه و آله): «إِنَّ فِي أُمَّتِهِ مَنْ يَمْرُقُ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»، وَالمَارِقُ مِنَ الدِّينِ قَدْ فَارَقَ الْكِتَابَ وَالْعِتْرَةَ.

فقد دلَّنا (صلی الله علیه و آله) بما أعلمنا أنَّ فيما خلَّفه فينا غنًى عن إرسال الله (عزوجل) الرُّسُل إلينا وقطعاً لعذرنا وحجَّتنا، ووجدنا الأُمَّة بعد نبيِّها (صلی الله علیه و آله) قد كثر اختلافها في القرآن وتنزيله وسوره وآياته وفي قراءته ومعانيه وتفسيره وتأويله، وكلٌّ منهم يحتجُّ لمذهبه بآيات منه، فعلمنا أنَّ الذي يعلم من القرآن ما يحتاج إليه هو الذي قرنه الله تبارك وتعالىٰ ورسوله (صلی الله علیه و آله) بالكتاب الذي لا يفارقه إلىٰ يوم القيامة.

ومع هذا فإنَّه لا بدَّ أنْ يكون مع هذا الهادي المقرون بالكتاب حجَّة ودلالة يبين بهما من الخلق المحجوجين به المحتاجين إليه، ويكون بهما في صفاته وعلمه وثباته خارجاً عن صفاتهم غنيًّا بما عنده عنهم، تثبت بذلك معرفتهم عند الخلق، دلالة معجزة وحجَّة لازمة يضطرُّ المحجوجين به إلىٰ الإقرار بإمامته لكي يتبيَّن المؤمن المحقُّ [بذلك] من الكافر المبطل المعاند الملبِّس علىٰ الناس بالأكاذيب والمخاريق وزخرف القول وصنوف التأويلات للكتاب والأخبار، لأنَّ المعاند لا يقبل البرهان.

فإنْ احتجَّ محتجٌّ من أهل الإلحاد والعناد بالكتاب وأنَّه الحجَّة التي يُستغنىٰ بها عن الأئمَّة الهداة، لأنَّ فيه تبياناً لكلِّ شيء، ولقول الله (عزوجل): «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ» [الأنعام: 38].

قلنا له: أمَّا الكتاب فهو علىٰ ما وصفت فيه تبيان كلِّ شيء، منه منصوص

ص: 461

مبيَّن، ومنه ما هو مختلف فيه، فلا بدَّ لنا من مبيِّن يُبيِّن لنا ما قد اختلفنا فيه، إذ لا يجوز فيه الاختلاف، لقوله (عزوجل): «وَلَوْ كَانَ مِنْعِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً 82» [النساء: 82]، ولا بدَّ للمكلَّفين من مبيِّن يُبيِّن ببراهين واضحة تبهر العقول وتلزم بها الحجَّة، كما لم يكن فيما مضىٰ بُدٌّ من مبيِّن لكلِّ أُمَّة ما اختُلِفَ فيه من كتابها بعد نبيِّها، ولم يكن ذلك لاستغناء أهل التوراة بالتوراة وأهل الزبور بالزبور وأهل الإنجيل بالإنجيل، وقد أخبرنا الله (عزوجل) عن هذه الكُتُب أنَّ فيها هدًى ونوراً يحكم بها النبيُّون، وأنَّ فيها حكم ما يحتاجون إليه.

ولكنَّه (عزوجل) لم يكلهم إلىٰ علمهم بما فيها، وواتر الرُّسُل إليهم، وأقام لكلِّ رسول عَلَماً ووصيًّا وحجَّةً علىٰ أُمَّته، أمرهم بطاعته والقبول منه إلىٰ ظهور النبيِّ الآخر، لئلَّا تكون لهم عليه حجَّة، وجعل أوصياء الأنبياء حُكَّاماً بما في كُتُبه، فقال تعالىٰ: «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ» [المائدة: 44].

ثمّ إنَّه (عزوجل) قطع عنَّا بعد نبيِّنا (صلی الله علیه و آله) الرُّسُل (علیهم السلام)، وجعل لنا هداة من أهل بيته وعترته يهدوننا إلىٰ الحقِّ، ويجلون عنَّا العمىٰ، وينفون الاختلاف والفرقة، معصومين قد أمنَّا منهم الخطأ والزلل، وقرن بهم الكتاب، وأمرنا بالتمسُّك بهما، وأعلمنا علىٰ لسان نبيِّه (علیه السلام) أنَّا لا نضلُّ ما إنْ تمسَّكنا بهما، ولو لا ذلك ما كانت الحكمة توجب إلَّا بعثة الرُّسُل (علیهم السلام) إلىٰ انقطاع التكليف عنَّا، وبيَّن الله (عزوجل) ذلك في قوله لنبيِّه: «إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ 7» [الرعد: 7]، فللّٰه الحجَّة البالغة علينا بذلك.

والرُّسُل والأنبياء والأوصياء (صلوات الله عليهم) لم تخل الأرض منهم، وقد كانت لهم فترات من خوف وأسباب لا يُظهِرون فيها دعوةً، ولايبدون أمرهم إلَّا لمن أمنوه، حتَّىٰ بعث الله (عزوجل) محمّداً (صلی الله علیه و آله)، فكان آخر أوصياء عيسىٰ (علیه السلام) رجل يقال له: (آبي)، وكان يقال له: (بالط) أيضاً.

ص: 462

[4/544] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ وَيَعْقُوبُ بْنُ يَزِيدَ الْكَاتِبُ وَأَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «الَّذِي تَنَاهَتْ إِلَيْهِ وَصِيَّةُ عِيسَىٰ بْنِ مَرْيَمَ (علیه السلام) رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: آبِيَ».

[5/545] وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ وَسَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ جَمِيعاً، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ الْكَاتِبِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «كَانَ آخِرَ أَوْصِيَاءِ عِيسَىٰ (علیه السلام) رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: بالط»(1).

[6/546] وَحَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ أَبِي مَسْرُوقٍ النَّهْدِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ سَهْلٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ دُرُسْتَ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ الْوَاسِطِيِّ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «كَانَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ (رحمة الله) قَدْ أَتَىٰ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَكَانَ آخِرُمَنْ أَتَىٰ آبِيَ (2)، فَمَكَثَ عِنْدَهُ مَا شَاءَ اللهُ، فَلَمَّا ظَهَرَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله) قَالَ آبِي: يَا سَلْمَانُ، إِنَّ صَاحِبَكَ الَّذِي تَطْلُبُهُ بِمَكَّةَ قَدْ ظَهَرَ، فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ سَلْمَانُ (رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ)»(3).

[7/547] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا الْكُوفِيِّينَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ، عَنْ أُمَيَّةَ ابْنِ عَلِيٍّ الْقَيْسِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي دُرُسْتُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ الْوَاسِطِيِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا الْحَسَنِ

ص: 463


1- قال المصنِّف (رحمة الله) في (ج 1/ ص 242): (قد ذكر قوم أنَّ آبي هو أبو طالب. وإنَّما اشتبه الأمر به لأنَّ أمير المؤمنين (علیه السلام) سُئِلَ عن آخر أوصياء عيسىٰ (علیه السلام) فقال: «آبي»، فصحَّفه الناس وقالوا: أبي). وأقول: (آبي) بمد الهمزة وإمالة الباء من ألقاب علماء النصارىٰ.
2- كذا، ولعلَّ النكتة في عدم النصب حفظ صورة الكلمة لئلَّا يشتبه بأبي.
3- رواه عليُّ بن يوسف الحلِّي (رحمة الله) في العدد القويَّة (ص 68/ ح 100).

الْأَوَّلَ يَعْنِي مُوسَىٰ بْنَ جَعْفَرٍ (علیهما السلام): أَكَانَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) مَحْجُوجاً بِآبِي؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُسْتَوْدَعاً لِوَصَايَاهُ، فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ (علیه السلام)»، قَالَ: قُلْتُ: فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ عَلَىٰ أَنَّهُ كَانَ مَحْجُوجاً بِهِ؟ فَقَالَ: «لَوْ كَانَ مَحْجُوجاً بِهِ لَمَا دَفَعَ إِلَيْهِ الْوَصَايَا»، قُلْتُ: فَمَا كَانَ حَالُ آبِي؟ قَالَ: «أَقَرَّ بِالنَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله) وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَدَفَعَ إِلَيْهِ الْوَصَايَا، وَمَاتَ آبِي مِنْ يَوْمِهِ»(1).

فقد دلَّ ذلك علىٰ أنَّ الفترة هي الاختفاء والسرُّ والامتناع من الظهور وإعلان الدعوة لا ذهاب شخص وارتفاع عين الذات والإنّيَّة(2)، وقد قال الله (عزوجل) في قصَّة الملائكة (علیهم السلام): «يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ 20» [الأنبياء: 20]، فلو كان الفتور ذهاباً عن الشيء وذاته لكانت الآية محالاً، لأنَّ الملائكة ينامون، والنائم في غاية الفتور، والنائم لا يُسبِّح،لأنَّه إذا نام فتر عن التسبيح، والنوم بمنزلة الموت، لأنَّ الله (عزوجل) يقول: «اللهُ يَتَوَفَّىٰ الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا» [الزمر: 42]، ويقول (عزوجل): «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ(3) بِالنَّهَارِ» [الأنعام: 60]، والنائم فاتر بمنزلة الميِّت، والذي لا ينام ولا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ ولا يُدركه فتور هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ، والخبر دليل علىٰ ذلك.

[8/548] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُوسَىٰ الْوَرَّاقِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ فَرْقَدٍ الْعَطَّارِ، قَالَ: قَالَ لِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا: أَخْبِرْنِي عَنِ المَلَائِكَةِ

ص: 464


1- رواه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 445/ أبواب التاريخ/ ح 18)، وفيه: (أبي طالب)، وقال محقِّقه في الهامش: (الظاهر أنَّ أبي طالب) مصحَّف (آبي بالط)، وآبي بإمالة الياء من ألقاب علماء النصارىٰ، وبالط اسم ذلك الرجل كما هو كذلك في نسخ كمال الدِّين).
2- في بعض النُّسَخ: (الأينيَّة).
3- جرح واجترح: أي اكتسب.

أَيَنَامُونَ؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي، فَقَالَ: يَقُولُ اللهُ (عزوجل): «يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ 20» [الأنبياء: 20]، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُطْرِفُكَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) فِيهِ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: بَلَىٰ، فَقَالَ: سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «مَا مِنْ حَيٍّ إِلَّا وَهُوَ يَنَامُ مَا خَلَا اللهَ وَحْدَهُ (عزوجل)، وَالمَلَائِكَةُ يَنَامُونَ»، فَقُلْتُ: يَقُولُ اللهُ (عزوجل): «يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ 20»، فَقَالَ: «أَنْفَاسُهُمْ تَسْبِيحٌ».

فالفترة إنَّما هي الكفُّ عن إظهار الأمر والنهي.

واللغة تدلُّ علىٰ ذلك، يقال: فتر فلان عن طلب فلان، وفتر عن مطالبته، وفتر عن حاجته، وإنَّما ذلك تراخٍ عنه وكفٌّ لا بطلان الشخص والعين، ومنه قول الرجل: أصابتني فترة، أي ضعف.

وقد احتجَّ قوم بقول الله (عزوجل) لِنَبِيِّهِ: «لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ» [القَصص: 46]، وقول الله (عزوجل): «وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ 44» [سبأ: 44]، فجعلوا هذا دليلاًعلىٰ أنَّه لم يكن بين عيسىٰ (علیه السلام) وبين محمّد (صلی الله علیه و آله) نبيٌّ ولا رسول ولا حجَّة، وهذا تأويل بيِّن الخطأ، لأنَّ النُّذُر إنَّما هم الرُّسُل خاصَّة دون الأنبياء والأوصياء، لأنَّ الله (عزوجل) يقول لِمُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله): «إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ 7» [الرعد: 7].

فالنُّذُر هم الرُّسُل، والأنبياء والأوصياء هداة، وفي قوله (عزوجل): «وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ 7» دليل علىٰ أنَّه لم تخل الأرض من هداة في كلِّ قوم وكلِّ عصر تلزم العباد الحجَّة لله (عزوجل) بهم من الأنبياء والأوصياء.

فالهداة من الأنبياء والأوصياء لا يجوز انقطاعهم ما دام التكليف من الله (عزوجل) لازماً للعباد، لأنَّهم يُؤدُّون عن النُّذُر، وجائز أنْ تنقطع النُّذُر، كما انقطعت بعد النبيِّ (صلی الله علیه و آله) فلا نذير بعده.

[9/549] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ،

ص: 465

قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ وَيَعْقُوبُ بْنُ يَزِيدَ جَمِيعاً، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ حَرِيزِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)(1) فِي قَوْلِ اللهِ (عزوجل): «إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ 7»، فَقَالَ: «كُلُّ إِمَامٍ هَادٍ لِكُلِّ قَوْمٍ فِي زَمَانِهِمْ»(2).

[10/550] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ، عَنْ بُرَيْدِ ابْنِ مُعَاوِيَةَ الْعِجْلِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام): مَا مَعْنَىٰ «إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ 7»؟ فَقَالَ: «المُنْذِرُ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، وَعَلِيٌّ الْهَادِي، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ وَزَمَانٍ إِمَامٌ مِنَّا يَهْدِيهِمْ إِلَىٰ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله)»(3).

والأخبار في هذا المعنىٰ كثيرة، وإنَّما قال الله (عزوجل) لرسوله (صلی الله علیه و آله): «لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ» [القَصص: 46]، أي ما جاءهم رسول قبلك بتبديل شريعة ولا تغيير ملَّة(4)، ولم ينفِ عنهم الهداة والدعاة من الأوصياء(5)، وكيف يكون ذلك وهو (عزوجل) يحكي عنهم في قوله: «وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَىٰ الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً 42» [فاطر: 42]؟ فهذا يدلُّ علىٰ أنَّه قد كان هناك هادٍ يدلُّهم علىٰ شرائع دينهم، لأنَّهم قالوا ذلك قبل أنْ يُبعَث محمّد (صلی الله علیه و آله)(6).

ص: 466


1- في بعض النُّسَخ: (لأبي جعفر (علیه السلام)).
2- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 131 و132/ ح 139).
3- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 132/ ح 140)، وروىٰ قريباً منه العيَّاشي (رحمة الله) في تفسيره (ج 2/ ص 204/ ح 8).
4- في بعض النُّسَخ: (ولا نسخ ملَّة).
5- في بعض النُّسَخ: (ولم ينفِ عنهم الهداية ولا عن الأوصياء).
6- في بعض النُّسَخ: (قبل أنْ يكون محمّد (صلی الله علیه و آله)).

وممَّا يدلُّ علىٰ ذلك الأخبار التي ذكرناها في هذا المعنىٰ في هذا الكتاب، ولا قوَّة إلَّا بالله.

[11/551] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ ابْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ ظَرِيفٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِي حَمَّادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (علیه السلام)، قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ إِمَامٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»، فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ إِمَامٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَالْوَاقِفُ كَافِرٌ، وَالنَّاصِبُمُشْرِكٌ».

[12/552] أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حَاتِمٍ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سَمَاعَةَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الْمِيثَمِيِّ، عَنْ سَمَاعَةَ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْقَائِمِ (علیه السلام): «وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ 16» [الحديد: 16]».

[13/553] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الْمِيثَمِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ مُؤْمِنِ الطَّاقِ، عَنْ سَلَّامِ بْنِ المُسْتَنِيرِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) فِي قَوْلِ اللهِ (عزوجل): «اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا» [الحديد: 17]، قَالَ: «يُحْيِيهَا اللهُ (عزوجل) بِالْقَائِمِ (علیه السلام) بَعْدَ مَوْتِهَا، [يَعْنِي] بِمَوْتِهَا كُفْرَ أَهْلِهَا، وَالْكَافِرُ مَيِّتٌ»(1).

[14/554] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَىٰ الْجَلُودِيُّ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ ظَرِيفٍ، عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) يَقُولُ:

ص: 467


1- روىٰ قريباً منه القاضي النعمان في شرح الأخبار (ج 3/ ص 356/ ح 1215).

«سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلی الله علیه و آله) يَقُولُ: أَفْضَلُ الْكَلَامِ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ أَوَّلُ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ أَوَّلُ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟ قَالَ: أَنَا، وَأَنَا نُورٌ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ (عزوجل) أُوَحِّدُهُ وَأُسَبِّحُهُ وَأُكَبِّرُهُ وَأُقَدِّسُهُ وَأُمَجِّدُهُ، وَيَتْلُونِي نُورٌ شَاهِدٌ مِنِّي، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنِ الشَّاهِدُ مِنْكَ؟ فَقَالَ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، أَخِي وَصَفِيِّي وَوَزِيرِي وَخَلِيفَتِيوَوَصِيِّي وَإِمَامُ أُمَّتِي وَصَاحِبُ حَوْضِي وَحَامِلُ لِوَائِي، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَنْ يَتْلُوهُ؟ فَقَالَ: الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ الْأَئِمَّةُ مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

[15/555] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ ابْنِ أَبَانٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْكِنَانِيِّ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: «إِنَّ اللهَ (عزوجل) أَنْزَلَ عَلَىٰ نَبِيِّهِ (صلی الله علیه و آله) كِتَاباً قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ المَوْتُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا [الْ]كِتَابُ وَصِيَّتُكَ إِلَىٰ النَّجِيبِ مِنْ أَهْلِكَ، فَقَالَ: وَمَنِ النَّجِيبُ مِنْ أَهْلِي يَا جَبْرَئِيلُ؟ فَقَالَ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ عَلَىٰ الْكِتَابِ خَوَاتِيمُ مِنْ ذَهَبٍ، فَدَفَعَهُ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله) إِلَىٰ عَلِيٍّ (علیه السلام) وَأَمَرَهُ أَنْ يَفُكَّ خَاتَماً وَيَعْمَلَ بِمَا فِيهِ، فَفَكَّ (علیه السلام) خَاتَماً وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَىٰ ابْنِهِ الْحَسَنِ (علیه السلام)، فَفَكَّ خَاتَماً وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَىٰ الْحُسَيْنِ (علیه السلام)، فَفَكَّ خَاتَماً فَوَجَدَ فِيهِ أَنِ اخْرُجْ بِقَوْمِكَ إِلَىٰ الشَّهَادَةِ وَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ إِلَّا مَعَكَ وَاشْرِ نَفْسَكَ لِلهِ تَعَالَىٰ، فَفَعَلَ، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَىٰ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (علیهما السلام)، فَفَكَّ خَاتَماً فَوَجَدَ فِيهِ: اصْمُتْ وَالْزَمْ مَنْزِلَكَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ، فَفَعَلَ، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَىٰ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام)، فَفَكَّ خَاتَماً فَوَجَدَ فِيهِ: حَدِّثِ النَّاسَ وَأَفْتِهِمْ وَلَا تَخَافَنَّ إِلَّا اللهَ (عزوجل) فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْكَ، ثُمَّ دَفَعَهُ، إِلَيَّ فَفَضَضْتُ خَاتَماً فَوَجَدْتُ فِيهِ: حَدِّثِ النَّاسَ وَأَفْتِهِمْ وَانْشُرْ عِلْمَ أَهْلِ بَيْتِكَ وَصَدِّقْ آبَاءَكَ الصَّالِحِينَ وَلَا تَخَافَنَّ إِلَّا اللهَ (عزوجل) وَأَنْتَ فِي حِرْزٍ وَأَمَانٍ، فَفَعَلْتُ، ثُمَّ أَدْفَعُهُ إِلَىٰ

ص: 468

مُوسَىٰ بْنِ جَعْفَرٍ، وَكَذَلِكَ يَدْفَعُهُ مُوسَىٰ إِلَىٰ [الَّذِي] مِنْ بَعْدِهِ، ثُمَّ كَذَلِكَ أَبَداً إِلَىٰ يَوْمِ [قِيَامِ]المَهْدِيِّ (علیه السلام)»(1).

[16/556] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ السَّعْدَآبَادِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبَرْقِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام) فِي قَوْلِ اللهِ (عزوجل): «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَىٰ الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ 33» [التوبة: 33]، فَقَالَ: «وَاللهِ مَا نَزَلَ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ، وَلَا يَنْزِلُ تَأْوِيلُهَا حَتَّىٰ يَخْرُجَ الْقَائِمُ (علیه السلام)، فَإِذَا خَرَجَ الْقَائِمُ (علیه السلام) لَمْ يَبْقَ كَافِرٌ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَلَا مُشْرِكٌ بِالْإِمَامِ إِلَّا كَرِهَ خُرُوجَهُ حَتَّىٰ أَنْ لَوْ كَانَ كَافِراً أَوْ مُشْرِكاً فِي بَطْنِ صَخْرَةٍ لَقَالَتْ: يَا مُؤْمِنُ، فِي بَطْنِي كَافِرٌ فَاكْسِرْنِي وَاقْتُلْهُ»(2).

[17/557] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ الْعَطَّارُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ وَأَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَىٰ جَمِيعاً، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي الْجَارُودِ زِيَادِ بْنِ المُنْذِرِ(3)، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (علیه السلام):

ص: 469


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 486/ ح 660/2)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 280 و281/ باب أنَّ الأئمَّة (علیهم السلام) لم يفعلوا شيئاً ولا يفعلون إلَّا بعهد من الله (عزوجل).../ ح 2)، والطوسي (رحمة الله) في أماليه (ص 441 و442/ ح 990/47).
2- رواه فرات الكوفي (رحمة الله) في تفسيره (ص 481 و482/ ح 627/3) بتفاوت يسير.
3- قال العلَّامة في خلاصته في عنوانه في قسم الضعفاء (ص 348/ الرقم 1): (زياد بن المنذر أبو الجارود الهمداني - بالدال المهملة - الخارقي - بالخاء المعجمة بعدها ألف وراء مهملة وقاف - ...، الكوفي الأعمىٰ التابعي، زيدي المذهب، وإليه تُنسَب الجاروديَّة من الزيديَّة، كان من أصحاب أبي جعفر (علیه السلام)، وروىٰ عن الصادق (علیه السلام)، وتغيَّر لمَّا خرج زيد رضی الله عنه، وروىٰ عن زيد. وقال ابن الغضائري: حديثه في أصحابنا أكثر منه في الزيديَّة، وأصحابنا يكرهون ما رواه محمّد بن سنان عنه، ويعتمدون ما رواه محمّد بن بكر الأرجني. وقال الكشِّي: زياد بن المنذر أبو الجارود الأعمىٰ السرحوب - بالسين المهملة المضمومة والراء والحاء المهملة والباء المنقَّطة تحتها نقطة واحدة بعد الواو - مذموم، ولا شبهة في ذمِّه، وسُمِّي سرحوباً باسم شيطان أعمىٰ يسكن البحر)، وكان أبو الجارود مكفوفاً أعمىٰ أعمىٰ القلب. ثمّ روىٰ الكشِّي في ذمِّه رويات تضمَّن بعضها كونها كذَّاباً كافراً. (راجع: اختيار معرفة الرجال: ج 2/ ص 495 - 498).

«إِذَا خَرَجَ الْقَائِمُ (علیهالسلام) مِنْ مَكَّةَ يُنَادِي مُنَادِيهِ: أَلَا لَا يَحْمِلَنَّ أَحَدُ[كُمْ] طَعَاماً وَلَا شَرَاباً، وَحَمَلَ مَعَهُ حَجَرَ مُوسَىٰ بْنِ عِمْرَانَ (علیه السلام)، وَهُوَ وِقْرُ بَعِيرٍ، فَلَا يَنْزِلُ مَنْزِلاً إِلَّا انْفَجَرَتْ مِنْهُ عُيُونٌ، فَمَنْ كَانَ جَائِعاً شَبِعَ، وَمَنْ كَانَ ظَمْآنَ رَوِيَ، وَرَوِيَتْ دَوَابُّهُمْ، حَتَّىٰ يَنْزِلُوا النَّجَفَ مِنْ ظَهْرِ الْكُوفَةِ»(1).

[18/558] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «أَوَّلُ مَنْ يُبَايِعُ الْقَائِمَ (علیه السلام) جَبْرَئِيلُ يَنْزِلُ فِي صُورَةِ طَيْرٍ أَبْيَضَ فَيُبَايِعُهُ، ثُمَّ يَضَعُ رِجْلاً عَلَىٰ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ وَرِجْلاً عَلَىٰ بَيْتِ المَقْدِسِ، ثُمَّ يُنَادِي بِصَوْتٍ طَلِقٍ تَسْمَعُهُ الْخَلَائِقُ: «أَتَىٰ أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ» [النحل: 1]»(2).

[19/559] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ(علیه السلام): «سَيَأْتِي فِي مَسْجِدِكُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً - يَعْنِي مَسْجِدَ مَكَّةَ -، يَعْلَمُ أَهْلُ مَكَّةَ أَنَّهُ لَمْ يَلِدْهُمْ آبَاؤُهُمْ وَلَا أَجْدَادُهُمْ، عَلَيْهِمُ السُّيُوفُ مَكْتُوبٌ عَلَىٰ كُلِّ سَيْفٍ(3) كَلِمَةٌ تَفْتَحُ أَلْفَ كَلِمَةٍ، فَيَبْعَثُ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰرِيحاً فَتُنَادِي بِكُلِّ وَادٍ: هَذَا المَهْدِيُّ، يَقْضِي بِقَضَاءِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ (علیهما السلام)، [وَ]لَا يُرِيدُ عَلَيْهِ بَيِّنَةً»(4)(5).

ص: 470


1- رواه النعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 244/ باب 13/ ح 29) بسند آخر.
2- رواه العيَّاشي (رحمة الله) في تفسيره (ج 2/ ص 254/ ح 3).
3- في بعض النُّسَخ: (مكتوب عليها).
4- رواه المصنِّف (رحمة الله) في الخصال (ص 649/ ح 43)، والصفَّار (رحمة الله) في بصائر الدرجات (ص 331/ ج 6/ باب 18/ ح 11)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 327 و328/ باب 20/ ح 5).
5- قال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 52/ ص 369): (بيان: قوله (علیه السلام): «يعلم أهل مكَّة» لعلَّه كناية عن أنَّهم لا يعرفونهم بوجه).

[20/560] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ(علیه السلام): «إِذَا قَامَ الْقَائِمُ (علیه السلام) لَمْ يَقُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ الرَّحْمَنِ إِلَّا عَرَفَهُ صَالِحٌ هُوَ أَمْ طَالِحٌ، لِأَنَّ فِيهِ آيَةً لِلْمُتَوَسِّمِينَ، وَهِيَ بِسَبِيلٍ مُقِيمٍ».

[21/561] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «دَمَانِ فِي الْإِسْلَامِ حَلَالٌ مِنَ اللهِ (عزوجل) لَا يَقْضِي فِيهِمَا أَحَدٌ بِحُكْمِ اللهِ حَتَّىٰ يَبْعَثَ اللهُ (عزوجل) الْقَائِمَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ (علیهم السلام)، فَيَحْكُمُ فِيهِمَا بِحُكْمِ اللهِ (عزوجل) لَا يُرِيدُ عَلَىٰ ذَلِكَ بَيِّنَةً: الزَّانِي المُحْصَنُ يَرْجُمُهُ، وَمَانِعُ الزَّكَاةِ يَضْرِبُ رَقَبَتَهُ»(1).

[22/562] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ(علیه السلام): «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَىٰ الْقَائِمِ (علیه السلام) عَلَىٰ ظَهْرِ النَّجَفِ، فَإِذَا اسْتَوَىٰ عَلَىٰ ظَهْرِ النَّجَفِ رَكِبَ فَرَساً أَدْهَمَ أَبْلَقَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ شِمْرَاخٌ(2)،ثُمَّ يَنْتَفِضُ بِهِ فَرَسُهُ، فَلَا يَبْقَىٰ أَهْلُ بَلْدَةٍ إِلَّا وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ مَعَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ، فَإِذَا نَشَرَ رَايَةَ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) انْحَطَّ إِلَيْهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفَ مَلَكٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ مَلَكاً كُلُّهُمْ يَنْتَظِرُ الْقَائِمَ (علیه السلام)، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ نُوحٍ (علیه السلام) فِي السَّفِينَةِ، وَالَّذِينَ كَانُوا مَعَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ (علیه السلام) حَيْثُ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَكَانُوا مَعَ عِيسَىٰ (علیه السلام) حَيْثُ رُفِعَ، وَأَرْبَعَةُ آلَافٍ مُسَوِّمِينَ وَمُرْدِفِينَ، وَثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ مَلَكاً(3) يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَرْبَعَةُ آلَافِ مَلَكٍ الَّذِينَ هَبَطُوا يُرِيدُونَ الْقِتَالَ مَعَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (علیهما السلام) فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ، فَصَعِدُوا فِي الْاِسْتِئْذَانِ، وَهَبَطُوا وَقَدْ قُتِلَ

ص: 471


1- رواه المصنِّف (رحمة الله) في ثواب الأعمال (ص 235 و236)، وفي من لا يحضره الفقيه (ج 2/ ص 11/ ح 1589)، والبرقي (رحمة الله) في المحاسن (ج 1/ ص 87/ ح 28)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 3/ ص 503/ باب مانع الزكاة/ ح 5).
2- الشمراخ: غرَّة الفرس.
3- كذا.

الْحُسَيْنُ (علیه السلام)، فَهُمْ شُعْثٌ غُبْرٌ يَبْكُونَ عِنْدَ قَبْرِ الْحُسَيْنِ (علیه السلام) إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَا بَيْنَ قَبْرِ الْحُسَيْنِ (علیه السلام) إِلَىٰ السَّمَاءِ مُخْتَلَفُ المَلَائِكَةِ»(1).

[23/563] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (علیه السلام): «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَىٰ الْقَائِمِ (علیه السلام) قَدْ ظَهَرَ عَلَىٰ نَجَفِ الْكُوفَةِ، فَإِذَا ظَهَرَ عَلَىٰ النَّجَفِ نَشَرَ رَايَةَ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، [وَ]عَمُودُهَا مِنْ عُمُدِ عَرْشِ اللهِ تَعَالَىٰ، وَسَائِرُهَا مِنْ نَصْرِ اللهِ (عزوجل)، وَلَا تُهْوَىٰ بِهَا إِلَىٰ أَحَدٍ إِلَّا أَهْلَكَهُ اللهُ تَعَالَىٰ»، قَالَ: قُلْتُ: أَوَتَكُونُ مَعَهُ أَوْ يُؤْتَىٰ بِهَا؟ قَالَ: «بَلَىٰ يُؤْتَىٰ بِهَا، يَأْتِيهِ بِهَا جَبْرَئِيلُ (علیه السلام)»(2).

[24/564] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي مُحَمَّدُ ابْنُ أَبِي الْقَاسِمِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْكُوفِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «لَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي المُفْتَقِدِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْقَائِمِ (علیه السلام)، قَوْلُهُ (عزوجل): «أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً» [البقرة: 148]، إِنَّهُمْ لَيَفْتَقِدُونَ عَنْ فُرُشِهِمْ لَيْلاً فَيُصْبِحُونَ بِمَكَّةَ، وَبَعْضُهُمْ يَسِيرُ فِي السَّحَابِ يُعْرَفُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَحِلْيَتِهِ وَنَسَبِهِ»، قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَيُّهُمْ أَعْظَمُ إِيمَاناً؟ قَالَ: «الَّذِي يَسِيرُ فِي السَّحَابِ نَهَاراً»(3).

[25/565] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَىٰ الْقَائِمِ (علیه السلام) عَلَىٰ مِنْبَرِ الْكُوفَةِ وَحَوْلَهُ أَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً عِدَّةُ أَهْلِ بَدْرٍ، وَهُمْ أَصْحَابُ الْأَلْوِيَةِ، وَهُمْ حُكَّامُ اللهِ فِي أَرْضِهِ

ص: 472


1- راجع ما رواه ابن قولويه (رحمة الله) في كامل الزيارات (ص 233 - 235/ ح 348/5)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 321 - 323/ باب 20/ ح 4 و5)، والطبري (رحمة الله) في دلائل الإمامة (ص 457 و458/ ح 437/41).
2- المصدر السابق.
3- روىٰ قريباً منه العيَّاشي (رحمة الله) في تفسيره (ج 1/ ص 67/ ح 118)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 326 و327/ باب 20/ ح 3).

عَلَىٰ خَلْقِهِ، حَتَّىٰ يَسْتَخْرِجَ مِنْ قَبَائِهِ كِتَاباً مَخْتُوماً بِخَاتَمٍ مِنْ ذَهَبٍ عَهْدٌ مَعْهُودٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)، فَيُجْفِلُونَ عَنْهُ إِجْفَالَ الْغَنَمِ الْبُكْمِ، فَلَا يَبْقَىٰ مِنْهُمْ إِلَّا الْوَزِيرُ وَأَحَدَ عَشَرَ نَقِيباً كَمَا بَقَوْا مَعَ مُوسَىٰ بْنِ عِمْرَانَ (علیه السلام)، فَيَجُولُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهُ مَذْهَباً فَيَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، وَاللهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ الْكَلَامَ الَّذِي يَقُولُهُ لَهُمْ فَيَكْفُرُونَ بِهِ»(1)(2).

[26/566] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُمْهُورٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي هَرَاسَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَمَّادٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ شِمْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام)، قَالَ: «كَأَنِّي بِأَصْحَابِ الْقَائِمِ (علیه السلام) وَقَدْ أَحَاطُوا بِمَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ، فَلَيْسَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ مُطِيعٌ لَهُمْ حَتَّىٰ سِبَاعُ الْأَرْضِ وَسِبَاعُ الطَّيْرِ، يَطْلُبُ رِضَاهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّىٰ تَفْخَرُ الْأَرْضُ عَلَىٰ الْأَرْضِ وَتَقُولُ: مَرَّ بِيَ الْيَوْمَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ الْقَائِمِ (علیه السلام)»(3).

ص: 473


1- روىٰ قريباً منه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 8/ ص 167/ ح 185).
2- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي (ج 12/ ص 196): (الكاف في «كأنِّي»: للتشبيه، وخبر (أنْ) محذوف، و(الباء) بمعنى (مع)، أي كأنِّي كائن مع القائم (علیه السلام) وناظر إليه، فقد شبَّه حالته العلميَّة بحالته البصريَّة في تحقُّق وقوعها وتيقُّنه. ويحتمل إرادة المماثلة بين الحالتين من غير تشبيه إحداهما بالأُخرىٰ...، «فيجفلون عنه إجفال الغنم»: جفل الناس وأجفلوا وانجفلوا: أي ذهبوا مسرعين، وفي (المصباح): جفل الشيء جفلاً من بابي ضرب وقعد، ندَّ وشرد، فهو جافل، وجفَّال مبالغة، وجفَّلت الطائر أيضاً: نفَّرته، وفي طاوعه فأجفل هو بالألف جاء الثلاثي متعدّياً والرباعي لازماً عكس المشهور، يقال: أجفل القوم وانجفلوا وتجفَّلوا أسرعوا الهرب). وقال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول (ج 26/ ص 36): (قوله (علیه السلام): «فيجفلون»: قال الجوهري: أجفل القوم أي هربوا مسرعين، ولعلَّ الكتاب يشتمل علىٰ لعن أئمَّة المخالفين أو علىٰ الأحكام التي يخالف ما عليه عامَّة الناس). وقال (رحمة الله) في بحار الأنوار (ج 52/ ص 326): (توضيح: أجفل القوم: أي هربوا مسرعين).
3- رواه ابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 131/ ح 138).

[27/567] حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُورٍ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «مَا كَانَ قَوْلُ لُوطٍ (علیه السلام) لِقَوْمِهِ: «لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ 80» [هود: 80]، إِلَّا تَمَنِّياً لِقُوَّةِ الْقَائِمِ (علیه السلام)،وَلَا ذَكَرَ إِلَّا شِدَّةَ أَصْحَابِهِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ لَيُعْطَىٰ قُوَّةَ أَرْبَعِينَ رَجُلاً، وَإِنَّ قَلْبَهُ لَأَشَدُّ مِنْ زُبَرِ الْحَدِيدِ، وَلَوْ مَرُّوا بِجِبَالِ الْحَدِيدِ لَقَلَعُوهَا، وَلَا يَكُفُّونَ سُيُوفَهُمْ حَتَّىٰ يَرْضَىٰ اللهُ (عزوجل)».

[28/568] حَدَّثَنَا أَبِي (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مَنِيعِ بْنِ الْحَجَّاجِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ مُجَاشِعٍ، عَنْ مُعَلًّىٰ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَيْضٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: «كَانَتْ عَصَا مُوسَىٰ لِآدَمَ (علیهما السلام)، فَصَارَتْ إِلَىٰ شُعَيْبٍ، ثُمَّ صَارَتْ إِلَىٰ مُوسَىٰ بْنِ عِمْرَانَ، وَإِنَّهَا لَعِنْدَنَا، وَإِنَّ عَهْدِي بِهَا آنِفاً وَهِيَ خَضْرَاءُ كَهَيْأَتِهَا حِينَ انْتُزِعَتْ مِنْ شَجَرَتِهَا، وَإِنَّهَا لَتَنْطِقُ إِذَا اسْتُنْطِقَتْ، أُعِدَّتْ لِقَائِمِنَا (علیه السلام) يَصْنَعُ بِهَا مَا كَانَ يَصْنَعُ بِهَا مُوسَىٰ [بْنُ عِمْرَانَ (علیه السلام]، وَإِنَّهَا تَصْنَعُ مَا تُؤْمَرُ، وَإِنَّهَا حَيْثُ أُلْقِيَتْ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ بِلِسَانِهَا»(1)(2).

[29/569] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَىٰ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْمَاعِيلَ السَّرَّاجِ، عَنْ

ص: 474


1- رواه الصفَّار (رحمة الله) في بصائر الدرجات (ص 203 و204/ ج 4/ باب 4/ ح 36)، وابن بابويه (رحمة الله) في الإمامة والتبصرة (ص 116/ ح 108)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 232/ باب ما عند الأئمَّة من آيات الأنبياء (علیهم السلام)/ ح 1)، والمفيد (رحمة الله) في الاختصاص (ص 269 و270).
2- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي (ج 5/ ص 230): (قوله: «وإنَّ عهدي بها آنفاً»: يقال: عهدته إذا لقيته وأدركته، وآنفاً كصاحب وكنف، وقُرِئَ بها أي مذ ساعة، أي في أوَّل وقت يقرب منَّا. قوله: «وهي خضراء»: إمَّا لبقاء الرُّطوبة التي كانت لها عند الانتزاع، أو لتجدُّد الرُّطوبة آناً فآناً بأمر الله تعالىٰ. قوله: «من شجرتها»: قيل: هي شجرة الجنَّة).

بِشْرِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، عَنْأَبِي عَبْدِ اللهِ (علیه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «أَتَدْرِي مَا كَانَ قَمِيصُ يُوسُفَ (علیه السلام)؟»، قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ (علیه السلام) لَمَّا أُوقِدَتْ لَهُ النَّارُ أَتَاهُ جَبْرَئِيلُ (علیه السلام) بِثَوْبٍ مِنْ ثِيَابِ الْجَنَّةِ فَأَلْبَسَهُ إِيَّاهُ، فَلَمْ يَضُرَّهُ مَعَهَا حَرٌّ وَلَا بَرْدٌ، فَلَمَّا حَضَرَ إِبْرَاهِيمَ المَوْتُ جَعَلَهُ فِي تَمِيمَةٍ(1) وَعَلَّقَهُ عَلَىٰ إِسْحَاقَ، وَعَلَّقَهُ إِسْحَاقُ عَلَىٰ يَعْقُوبَ، فَلَمَّا وُلِدَ يُوسُفُ عَلَّقَهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ فِي عَضُدِهِ حَتَّىٰ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ، فَلَمَّا أَخْرَجَهُ يُوسُفُ بِمِصْرَ مِنَ التَّمِيمَةِ وَجَدَ يَعْقُوبُ (علیه السلام) رِيحَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَىٰ حِكَايَةً عَنْهُ: «إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لَا أَنْ تُفَنِّدُونِ 94» [يوسف: 94]، فَهُوَ ذَلِكَ الْقَمِيصُ الَّذِي أُنْزِلَ مِنَ الْجَنَّةِ»، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَإِلَىٰ مَنْ صَارَ هَذَا الْقَمِيصُ؟ قَالَ: «إِلَىٰ أَهْلِهِ، وَهُوَ مَعَ قَائِمِنَا إِذَا خَرَجَ»، ثُمَّ قَالَ: «كُلُّ نَبِيٍّ وَرِثَ عِلْماً أَوْ غَيْرَهُ فَقَدِ انْتَهَىٰ إِلَىٰ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله)»(2).

[30/570] وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (علیه السلام): «إِنَّهُ إِذَا تَنَاهَتِ الْأُمُورُ إِلَىٰ صَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ رَفَعَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ كُلَّ مُنْخَفِضٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَخَفَّضَ لَهُ كُلَّ مُرْتَفِعٍ مِنْهَا، حَتَّىٰ تَكُونَ الدُّنْيَا عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ رَاحَتِهِ، فَأَيُّكُمْ لَوْ كَانَتْ فِي رَاحَتِهِ شَعْرَةٌ لَمْ يُبْصِرْهَا؟».

[31/571] حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ المُعَلَّىٰ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَصْرِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ، عَنْ مُثَنَّىٰ الْحَنَّاطِ، عَنْ قُتَيْبَةَ الْأَعْشَىٰ، عَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ، عَنْ مَوْلًى لِبَنِيشَيْبَانَ(3)، عَنْ أَبِي

ص: 475


1- التميمة: عوذة تُعلَّق علىٰ الإنسان. (الصحاح).
2- قد مرَّ ذكر مصادره في (ج 1/ ص 201)، فراجع.
3- قال المازندراني (رحمة الله) في شرح أُصول الكافي (ج 1/ ص 301 - 303): («إذا قام»: أي خرج بعد الغيبة المقدَّرة وظهر لإظهار دين الحقِّ وإعلاء كلمته. «قائمنا»: المهديُّ المنتظر الموعود بالنصر والظفر. وهذا القيام كائن قطعاً لروايات متواترة من طريق العامَّة والخاصَّة إلَّا أنَّ العامَّة يقولون: إنَّه يُولَد في آخر الزَّمان من نسل عليٍّ وفاطمة وجدُّه الحسين (علیه السلام) كما صرَّح به الآبي في كتاب (إكمال الكمال)، ونحن نقول: هو حيٌّ موجودٌ قامت السماوات بوجوده ولولا وجوده لساخت الأرض بأهلها طرفة عين. «وضع الله يده»: أي قدرته أو شفقته أو نعمته أو إحسانه أو ولايته أو حفظه، والضمير عائد إلىٰ الله أو إلىٰ القائم (علیه السلام). «علىٰ رؤوس العباد فجمع بها عقولهم»: ضمير التأنيث إمَّا عائد إلىٰ اليد والباء للسببيَّة أو إلىٰ الرؤوس والباء بمعنىٰ (في)، وهذا الأخير يناسبه ما قيل من أنَّ العقل جوهر مضىء خلقه الله تعالىٰ في الدِّماغ وجعل نوره في القلب يُدرك الغائبات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة. «وكملت به أحلامهم»: أي عقولهم، جمع حِلم بالكسر، وهو الأناة والتثبُّت في الأُمور، وذلك من شعار العقلاء، والمراد بجمع عقولهم رفع الانتشار والاختلاف بينهم وجمعهم علىٰ دين الحقِّ، وبكمال أحلامهم كمال عقل كلِّ واحد واحد بحيث ينقاد له القوَّة الشهويَّة والغضبيَّة ويحصل فضيلة العدل في جوهر البدن، والأمران يتحقَّقان في عهد صاحبنا (علیه السلام)، لأنَّه إذ خرج ينفخ الرُّوح في الإسلام ويدعو إلىٰ الله بالسيف، فمن أبىٰ قلته ومن نازع قهره حتَّىٰ رفع المذاهب من الأرض فلا يبقىٰ في وجهها إلَّا دين الحقِّ، فيملأها عدلاً وأمناً وإيماناً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً وطغياناً، فشهداؤه خير الشهداء، وأُمناؤه خير الأُمناء، وأصحابه العارفون بالله والقائمون بأمره والمشفقون علىٰ عباده والحافظون لبلاده والعاقلون العاملون الكاملون العابدون الناصحون له، فيعود الخلائق بعد التفرقة إلىٰ الجمعيَّة وبعد التشتُّت إلىٰ المعيَّة وبعد الكثرة إلىٰ الوحدة وبعد التفارق إلى التوافق وبعد الجهل إلىٰ العلم، وينظرون إلى الحقِّ بأعين سالمة من الرَّماد، ويسلكون إليه بأقدام ثابتة في سبيل الرَّشاد، وهذا معنىٰ جمع عقولهم وكمال أحلامهم، لأنَّ كمالها بحسب ميلها ورجوعها إلىٰ الحقِّ، فإذا تحقَّق الرُّجوع ثبت الكمال قطعاً. هذا، وقيل: المراد باليد هنا المَلَك الموكَّل بالقلب الذي يتوسَّطه يردُّ الجود الإلهي والفيض الرَّبَّاني عليه كما في قوله (صلی الله علیه و آله): «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرَّحمن يُقلِّبه كيف شاء». والمراد برؤوس العباد نفوسهم الناطقة وعقولهم الهيولانيَّة، والمراد بجمع الله عقولهم جمع الله بواسطة ذلك المَلَك القدسي والجوهر العقلي عقولهم من جهة التعليم والإلهام، فإنَّ العقول الإنسانيَّة في أوَّل نشأتها منغمرة في طبائع الأبدان، متفرِّقة في الحواسِّ، متشوِّقة إلىٰ الأغراض والشهوات، محبوسة في سجون الأماني وشُعَب الرِّغبات، ثمّ إذا ساعده التوفيق وتنبَّه بأنَّ وراء هذه النشأة نشأة أُخرىٰ علم ذاته وعرف نفسه واستكمل بالعلم والحال، وارتقىٰ إلىٰ معدنه الأصلي، وعاد من مقام التفرقة والكثرة إلىٰ مقام الجمعيَّة والوحدة، ولمَّا ثبت وتقرَّر أنَّ النفوس الإنسانيَّة من زمن آدم (علیه السلام) إلىٰ الخاتم (صلی الله علیه و آله) كانت متدرِّجة في التلطُّف ومترقِّبة في الاستعداد، وكذلك كلَّما جاء رسول كانت معجزة المتأخِّر أقرب إلىٰ المعقول من المحسوس من معجزة المتقدِّم، ولأجل ذلك كانت معجزة نبيِّنا (صلی الله علیه و آله) القرآن وهو أمر عقلي إنَّما يعرف كونه إعجازاً أصحاب العقول الذكيَّة، ولو كان منزلاً علىٰ الأُمَم السابقة لم يكن حجَّة عليهم، لعدم استعدادهم لدركه. ثمّ من بعثته (صلی الله علیه و آله) آخر الزمان كانت الاستعدادات في الترقِّى والنفوس في التلطُّف والتذكِّي، ولهذا لا يحتاجون إلىٰ رسول آخر يكون حجَّة الله عليهم، لأنَّ الحجَّة عليهم هي العقل الذي هو الرسول الداخلي، ففي آخر الزمان يترقَّىٰ الاستعدادات من النفوس إلىٰ حدٍّ لا يحتاجون إلىٰ معلِّم من خارج علىٰ الرسم المعهود بين الناس، لأنَّهم مكتفون بالإلهام النفسي عن التأدُّب الوضعي وبالمدد الداخلي عن المؤدِّب الخارجي، وبالمكمِّل العقلي عن المعلِّم الحسِّي كما لسائر الأولياء. فيد الله وهو مَلَك روحاني يجمع عقولهم ويكمل أحلامهم. هذا كلامه، وفيه نظر، أمَّا أوَّلاً فلأنَّ ترقِّي العقول علىٰ الوجه المذكور غير مسلَّم، ولو كان كذلك لكان الاختلاف بعد نبيِّنا (صلی الله علیه و آله) أقلّ من الاختلاف في الأُمَم السالفة، وقد دلَّت الأخبار المتكاثرة علىٰ عكس ذلك. وأمَّا ثانياً فلأنَّ المقصود من هذا الحديث أنَّ تكميل العقول في آخر الزمان بواسطة معلِّم حسِّي وهو الصاحب (علیه السلام)، وما ذكره يدلُّ علىٰ أنَّهم لا يحتاجون إلىٰ معلِّم حسِّي أصلاً. وأمَّا ثالثاً فلأنَّه وإنْ أمكن حمل اليد هنا علىٰ المَلَك لكن لا حاجة لنا تدعو إليه، لأنَّ إعانة أيِّ مَلَك وتسديده أقوىٰ وأحسن من إعانة الصاحب وتسديده (علیه السلام)). وقال العلَّامة المجلسي (رحمة الله) في مرآة العقول (ج 1/ ص 80): (قوله (علیه السلام): «وضع الله يده»: الضمير في قوله: «يده»، إمَّا راجع إلىٰ الله أو إلىٰ القائم (علیه السلام)، وعلىٰ التقديرين كناية عن الرحمة والشفقة أو القدرة والاستيلاء، وعلىٰ الأخير يحتمل الحقيقة. قوله (علیه السلام): «فجمع بها عقولهم»، يحتمل وجهين: أحدهما: أنَّه يجعل عقولهم مجتمعة علىٰ الإقرار بالحقِّ فلا يقع بينهم اختلاف، ويتَّفقون علىٰ التصديق، وثانيهما: أنَّه يجتمع عقل كلِّ واحد منهم ويكون جمعه باعتبار مطاوعة القوىٰ النفسانية للعقل، فلا يتفرَّق لتفرُّقها. كذا قيل، والأوَّل أظهر. والضمير في (بها) راجع إلىٰ اليد، وفي (به) إلىٰ الموضع، أو إلىٰ القائم (علیه السلام). والأحلام جمع الحِلم - بالكسر -، وهو العقل).

ص: 476

جَعْفَرٍ [الْبَاقِرِ] (علیه السلام)، قَالَ: «إِذَا قَامَقَائِمُنَا (علیه السلام) وَضَعَ يَدَهُ عَلَىٰ رُؤُوسِ الْعِبَادِ، فَجَمَعَ بِهَا عُقُولَهُمْ، وَكَمَلَتْ بِهَا أَحْلَامُهُمْ»(1).

ص: 477


1- أي زاد الله في دماغهم، فأكمل شعورهم وفكرهم بقدرته الكاملة. والخبر رواه الكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 25/ كتاب العقل والجهل/ ح 21)، والراوندي في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 840/ ح 57).

[32/572] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَىٰ بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُسْلِمٍ.

وَحَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِيُّ (رضی الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ المَرْوَزِيُّ(1)، قَالَ:حَدَّثَنَا أَبُو حَامِدٍ(2) عِمْرَانُ ابْنُ مُوسَىٰ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْقَاسِمِ الرَّقَّامِ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُسْلِمٍ(3)، قَالَ: كُنَّا فِي أَيَّامِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَىٰ الرِّضَا (علیه السلام)(4) بِمَرْوَ، فَاجْتَمَعْنَا فِي الْجَامِعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ بَدْءِ مَقْدَمِنَا، فَأَدَارُوا أَمْرَ الْإِمَامَةِ وَذَكَرُوا كَثْرَةَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهَا، فَدَخَلْتُ عَلَىٰ سَيِّدِي (علیه السلام) فَأَعْلَمْتُهُ خَوَضَانَ النَّاسِ، فَتَبَسَّمَ (علیه السلام)، ثُمَّ قَالَ: «يَا عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ مُسْلِمٍ، جَهِلَ الْقَوْمُ وَخُدِعُوا عَنْ أَدْيَانِهِمْ، إِنَّ اللهَ (عزوجل) لَمْ يَقْبِضْ نَبِيَّهُ (صلی الله علیه و آله) حَتَّىٰ أَكْمَلَ لَهُ الدِّينَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فِيهِ تَفْصِيلُ كُلِّ شَيْءٍ، بَيَّنَ فِيهِ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَالْحُدُودَ وَالْأَحْكَامَ، وجَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ كَمَلاً، فَقَالَ (عزوجل): «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ» [الأنعام: 38]، وَأَنْزَلَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ وَهِيَ آخِرُ عُمُرِهِ (صلی الله علیه و آله): «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً» [المائدة: 3]، فَأَمْرُ الْإِمَامَةِ مِنْ تَمَامِ الدِّينِ، وَلَمْ يَمْضِ (علیه السلام) حَتَّىٰ بَيَّنَ لِأُمَّتِهِ مَعَالِمَ

ص: 478


1- في العيون: (أبو أحمد القاسم بن محمّد بن عليٍّ الهروي).
2- في بعض النُّسَخ: (أبو ماجد).
3- هو وأخوه مجهولان لا يُعرَفان ولا يُذكران إلَّا في طريق هذه الرواية. ويُعرَف منها مرتبتهما في التشيُّع سيّما عبد العزيز.
4- في بعض النُّسَخ: (كنَّا مع الرضا (علیه السلام)).

دِينِهِمْ وَأَوْضَحَ لَهُمْ سَبِيلَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ عَلَىٰ قَصْدِ الْحَقِّ، وَأَقَامَ لَهُمْ عَلِيًّا (علیه السلام) عَلَماً وَإِمَاماً، وَمَا تَرَكَ شَيْئاً تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأُمَّةُ إِلَّا بَيَّنَهُ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللهَ (عزوجل) لَمْ يُكْمِلْ دِينَهُ فَقَدْ رَدَّ كِتَابَ اللهِ الْعَزِيزِ، وَمَنْ رَدَّ كِتَابَ اللهِ [عزوجل] فَهُوَ كَافِرٌ، هَلْ تَعْرِفُونَ قَدْرَ الْإِمَامَةِ وَمَحَلَّهَا مِنَ الْأُمَّةِ فَيَجُوزُ فِيهَا اخْتِيَارُهُمْ؟إِنَّ الْإِمَامَةَ أَجَلُّ قَدْراً، وَأَعْظَمُ شَأْناً، وَأَعْلَىٰ مَكَاناً، وَأَمْنَعُ جَانِباً، وَأَبْعَدُ غَوْراً مِنْ أَنْ يَبْلُغَهَا النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ، أَوْ يَنَالُوهَا بِآرَائِهِمْ، أَوْ يُقِيمُوا إِمَاماً بِاخْتِيَارِهِمْ، إِنَّ الْإِمَامَةَ خَصَّ اللهُ (عزوجل) بِهَا إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ (علیه السلام) بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَالْخُلَّةِ مَرْتَبَةً ثَالِثَةً، وَفَضِيلَةً شَرَّفَهُ بِهَا وَأَشَادَ بِهَا ذِكْرَهُ(1)، فَقَالَ (عزوجل): «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً»، فَقَالَ الْخَلِيلُ (علیه السلام) سُرُوراً بِهَا: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِي»، قالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ: «لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ 124» [البقرة: 124]، فَأَبْطَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِمَامَةَ كُلِّ ظَالِمٍ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَصَارَتْ فِي الصَّفْوَةِ، ثُمَّ أَكْرَمَهَا اللهُ (عزوجل) بِأَنْ جَعَلَهَا فِي ذُرِّيَّتِهِ أَهْلِ الصَّفْوَةِ وَالطَّهَارَةِ، فَقَالَ (عزوجل): «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ 72 وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ 73» [الأنبياء: 72 و73]، فَلَمْ يَزَلْ فِي ذُرِّيَّتِهِ يَرِثُهَا بَعْضٌ عَنْ بَعْضٍ قَرْناً فَقَرْناً حَتَّىٰ وَرِثَهَا النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله)، فَقَالَ اللهُ (عزوجل): «إِنَّ أَوْلَىٰ النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ 68» [آل عمران: 68]، فَكَانَتْ لَهُ خَاصَّةً، فَقَلَّدَهَا (صلی الله علیه و آله) عَلِيًّا (علیه السلام) بِأَمْرِ اللهِ (عزوجل) عَلَىٰ رَسْمِ مَا فَرَضَهَا اللهُ (عزوجل)، فَصَارَتْ فِي ذُرِّيَّتِهِ الْأَصْفِيَاءُ الَّذِينَ آتَاهُمُ اللهُ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ، لِقَوْلِهِ (عزوجل): «وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ [وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ 56]» [الروم: 56]، فَهِيَ فِي وُلْدِ عَلِيٍّ (علیه السلام) خَاصَّةً إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، إِذْ لَا نَبِيَّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله)، فَمِنْ أَيْنَ يَخْتَارُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ؟

ص: 479


1- الإشادة: رفع الصوت بالشيء.

إِنَّ الْإِمَامَةَ هِيَ مَنْزِلَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِرْثُ الْأَوْصِيَاءِ، إِنَّ الْإِمَامَةَ خِلَافَةُ اللهِتَعَالَىٰ وَخِلَافَةُ الرَّسُولِ (صلی الله علیه و آله)، وَمَقَامُ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ، وَمِيرَاثُ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ (علیهم السلام).

إِنَّ الْإِمَامَةَ زِمَامُ الدِّينِ، وَنِظَامُ المُسْلِمِينَ، وَصَلَاحُ الدُّنْيَا وَعِزُّ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ الْإِمَامَةَ أُسُّ الْإِسْلَامِ النَّامِي وَفَرْعُهُ السَّامِي، بِالْإِمَامِ تَمَامُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَتَوْفِيرُ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ وَإِمْضَاءُ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ وَمَنْعُ الثُّغُورِ وَالْأَطْرَافِ.

الْإِمَامُ يُحِلُّ حَلَالَ اللهِ، وَيُحَرِّمُ حَرَامَ اللهِ، وَيُقِيمُ حُدُودَ اللهِ، وَيَذُبُّ عَنْ دِينِ اللهِ، وَيَدْعُو إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّهِ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَالْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ.

الْإِمَامُ كَالشَّمْسِ الطَّالِعَةِ لِلْعَالَمِ وَهِيَ فِي الْأُفُقِ بِحَيْثُ لَا تَنَالُهَا الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارُ.

الْإِمَامُ الْبَدْرُ المُنِيرُ، وَالسِّرَاجُ الزَّاهِرُ، وَالنُّورُ السَّاطِعُ، وَالنَّجْمُ الْهَادِي فِي غَيَاهِبِ الدُّجَىٰ(1)، وَالْبَلَدِ الْقِفَارِ(2)، وَلُجَجِ الْبِحَارِ.

الْإِمَامُ المَاءُ الْعَذْبُ عَلَىٰ الظَّمَاءِ، وَالدَّالُّ عَلَىٰ الْهُدَىٰ، وَالمُنْجِي مِنَ الرَّدَىٰ.

الْإِمَامُ النَّارُ عَلَىٰ الْيَفَاعِ، الْحَارُّ لِمَنِ اصْطَلَىٰ بِهِ(3)، وَالدَّلِيلُ فِي المَهَالِكِ(4)، مَنْ فَارَقَهُ فَهَالِكٌ.

الْإِمَامُ السَّحَابُ المَاطِرُ، وَالْغَيْثُ الْهَاطِلُ(5)، وَالشَّمْسُ المُضِيئَةُ،وَالسَّمَاءُ الظَّلِيلَةُ، وَالْأَرْضُ الْبَسِيطَةُ، وَالْعَيْنُ الْغَزِيرَةُ، وَالْغَدِيرُ وَالرَّوْضَةُ.

ص: 480


1- الغيهب: الظلمة وشدَّة السواد. والدجىٰ: الظلام.
2- القفر من الأرض: المفازة التي لا ماء فيها ولا نبات. وفي الكافي: (أجواز البلدان والقفار). وفي العيون: (البيد القفار). والبيداء: الفلاة.
3- اليفاع: ما ارتفع من الأرض.
4- في العيون: (المسالك).
5- الهاطل: المطر المتتابع المتفرِّق العظيم القطر.

الْإِمَامُ الْأَمِينُ الرَّفِيقُ، وَالْوَالِدُ الشَّفِيقُ(1)، وَالْأَخُ الشَّقِيقُ، وَمَفْزَعُ الْعِبَادِ فِي الدَّاهِيَةِ(2).

الْإِمَامُ أَمِينُ اللهِ (عزوجل) فِي خَلْقِهِ، وَحُجَّتُهُ عَلَىٰ عِبَادِهِ، وَخَلِيفَتُهُ فِي بِلَادِهِ، وَالدَّاعِي إِلَىٰ اللهِ (عزوجل)، وَالذَّابُّ عَنْ حُرَمِ اللهِ (عزوجل).

الْإِمَامُ هُوَ المُطَهَّرُ مِنَ الذُّنُوبِ، المُبَرَّأُ مِنَ الْعُيُوبِ، مَخْصُوصٌ بِالْعِلْمِ، مَوْسُومٌ بِالْحِلْمِ، نِظَامُ الدِّينِ، وَعِزُّ المُسْلِمِينَ، وَغَيْظُ المُنَافِقِينَ، وَبَوَارُ الْكَافِرِينَ.

الْإِمَامُ وَاحِدُ دَهْرِهِ، لَا يُدَانِيهِ أَحَدٌ، وَلَا يُعَادِلُهُ عَالِمٌ، وَلَا يُوجَدُ مِنْهُ بَدَلٌ، وَلَا لَهُ مِثْلٌ وَلَا نَظِيرٌ، مَخْصُوصٌ بِالْفَضْلِ كُلِّهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْهُ لَهُ وَلَا اكْتِسَابٍ، بَلِ اخْتِصَاصٌ مِنَ المُفْضِلِ الْوَهَّابِ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَبْلُغُ مَعْرِفَةَ الْإِمَامِ أَوْ يُمْكِنُهُ اخْتِيَارُهُ؟ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، ضَلَّتِ الْعُقُولُ، وَتَاهَتِ الْحُلُومُ، وَحَارَتِ الْأَلْبَابُ(3)، وَحَسَرَتِ الْعُيُونُ، وَتَصَاغَرَتِ الْعُظَمَاءُ، وَتَحَيَّرَتِ الْحُكَمَاءُ، وَحَصِرَتِ الْخُطَبَاءُ، وَتَقَاصَرَتِ الْحُلَمَاءُ، وَجَهِلَتِ الْأَلِبَّاءُ، وَكَلَّتِ الشُّعَرَاءُ، وَعَجَزَتِ الْأُدَبَاءُ، وَعَيِيَتِ الْبُلَغَاءُ، عَنْ وَصْفِ شَأْنٍ مِنْ شَأْنِهِ أَوْ فَضِيلَةٍ مِنْ فَضَائِلِهِ، فَأَقَرَّتْ بِالْعَجْزِ [وَالتَّقْصِيرِ]، وَكَيْفَ يُوصَفُ أَوْ يُنْعَتُ بِكُنْهِهِ أَوْ يُفْهَمُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ أَوْ يَقُومُ أَحَدٌ مَقَامَهُ أَوْ يُغْنِي غِنَاهُ؟ لَا وَكَيْفَ وَأَنَّىٰ وَهُوَ بِحَيْثُ النَّجْمُ مِنْ أَيْدِي المُتَنَاوِلِينَ، وَوَصْفِ الْوَاصِفِينَ.فَأَيْنَ الْاِخْتِيَارُ مِنْ هَذَا؟ وَأَيْنَ الْعُقُولُ عَنْ هَذَا؟ وَأَيْنَ يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا؟ ظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يُوجَدُ فِي غَيْرِ آلِ الرَّسُولِ (صلی الله علیه و آله)، كَذَبَتْهُمْ وَاللهِ أَنْفُسُهُمْ، وَمَنَّتْهُمُ الْبَاطِلَ، فَارْتَقَوْا مُرْتَقاً صَعْباً دَحْضاً تَذُلُّ عَنْهُ إِلَىٰ الْحَضِيضِ أَقْدَامُهُمْ، وَرَامُوا إِقَامَةَ الْإِمَامِ

ص: 481


1- في العيون: (والوالد الرقيق).
2- الداهية: الأمر العظيم.
3- الحلوم كالألباب: العقول. وضلَّت وحارت متقاربة المعنىٰ.

بِعُقُولٍ حَائِرَةٍ نَاقِصَةٍ وَآرَاءٍ مُضِلَّةٍ، فَلَمْ يَزْدَادُوا مِنْهُ إِلَّا بُعْداً، قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ.

لَقَدْ رَامُوا صَعْباً، وَقَالُوا إِفْكاً، وَضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً، وَوَقَعُوا فِي الْحَيْرَةِ إِذْ تَرَكُوا الْإِمَامَ عَنْ بَصِيرَةٍ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ، رَغِبُوا عَنِ اخْتِيَارِ اللهِ وَاخْتِيَارِ رَسُولِهِ إِلَىٰ اخْتِيَارِهِمْ، وَالْقُرْآنُ يُنَادِيهِمْ: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ 68» [القَصص: 68]، وَقَالَ (عزوجل): «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَىٰ اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» [الأحزاب: 36]، وَقَالَ (عزوجل): «مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ 36 أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ 37 إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ 38 أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ 39 سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ 40 أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ 41» [القلم: 36 - 41]، وَقَالَ (عزوجل): «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا 24» [محمّد: 24]، أَمْ طَبَعَ اللهُ «عَلىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ 87» [التوبة: 87]، أَمْ «قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ 21 إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ 22 وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ 23» [الأنفال: 21 - 23]، أَمْ «قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا» [البقرة: 93]، بَلْ هُوَ بِفَضْلِ اللهِ «يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ 21» [الحديد: 21].فَكَيْفَ لَهُمْ بِاخْتِيَارِ الْإِمَامِ، وَالْإِمَامُ عَالِمٌ لَا يَجْهَلُ، وَرَاعٍ لَا يَنْكُلُ(1)، مَعْدِنُ الْقُدْسِ وَالطَّهَارَةِ، وَالنُّسُكِ(2) وَالزَّهَادَةِ، وَالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ، مَخْصُوصٌ بِدَعْوَةِ

ص: 482


1- وراعٍ لا ينكل: أي حافظ للأُمَّة. وفي بعض النُّسَخ: (وداعٍ) بالدال. ولا ينكل: أي لا يضعف ولا يجبن.
2- في بعض النُّسَخ: (والسناء)، والصواب ما في المتن كما في الكافي والعيون.

الرَّسُولِ، وَهُوَ نَسْلُ المُطَهَّرَةِ الْبَتُولِ، لَا مَغْمَزَ فِيهِ فِي نَسَبٍ، وَلَا يُدَانِيهِ [دَنَسٌ، لَهُ المَنْزِلَةُ الْأَعْلَىٰ لَا يَبْلُغُهَا] ذُو حَسَبٍ فِي الْبَيْتِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَالذِّرْوَةُ مِنْ هَاشِمٍ، وَالْعِتْرَةُ مِنْ آلِ الرَّسُولِ، وَالرِّضَا مِنَ اللهِ (عزوجل)، شَرَفُ الْأَشْرَافِ، وَالْفَرْعُ مِنْ آلِ عَبْدِ مَنَافٍ، نَامِي الْعِلْمِ(1)، كَامِلُ الْحِلْمِ، مُضْطَلِعٌ بِالْإِمَامَةِ، عَالِمٌ بِالسِّيَاسَةِ، مَفْرُوضُ الطَّاعَةِ، قَائِمٌ بِأَمْرِ اللهِ، نَاصِحٌ لِعِبَادِ اللهِ، حَافِظٌ لِدِينِ اللهِ (عزوجل).

إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَئِمَّةَ (علیهم السلام) يُوَفِّقُهُمُ اللهُ وَيُؤْتِيهِمْ مِنْ مَخْزُونِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ مَا لَا يُؤْتِيهِ غَيْرَهُمْ، فَيَكُونُ عِلْمُهُمْ فَوْقَ عِلْمِ أَهْلِ زَمَانِهِمْ فِي قَوْلِهِ (عزوجل): «أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَىٰ الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ 35» [يونس: 35]، وَقَوْلُهُ (عزوجل): «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَابِ 269» [البقرة: 269]، وَقَوْلُهُ (عزوجل) فِي طَالُوتَ: «إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ 247» [البقرة: 247]، وَقَالَ لِنَبِيِّهِ (صلی الله علیه و آله): «وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً 113» [النساء: 113].

وَقَالَ (عزوجل) فِي الْأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَعِتْرَتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ(2) (صَلَوَاتُاللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ): «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً 54 فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً 55» [النساء: 54 و55].

إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اخْتَارَهُ اللهُ تَعَالَىٰ لِأُمُورِ عِبَادِهِ يَشْرَحُ لِذَلِكَ صَدْرَهُ، وَأَوْدَعَ قَلْبَهُ يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ، وَأَلْهَمَهُ الْعِلْمَ إِلْهَاماً، فَلَمْ يَعْيَ بَعْدَهُ بِجَوَابٍ، وَلَا يُحِيرُ(3) فِيهِ عَنِ الصَّوَابِ، فَهُوَ مَعْصُومٌ مُؤَيَّدٌ، مُوَفَّقٌ، مُسَدَّدٌ، قَدْ أَمِنَ الْخَطَأَ وَالزَّلَلَ وَالْعِثَارَ، يَخُصُّهُ

ص: 483


1- في بعض النُّسَخ: (باقر العلم).
2- في بعض النُّسَخ: (وورَّاثه).
3- من أحار الجواب: أي لا يردُّه. وفي العيون: (ولا يحيد)، أي لا يميل.

اللهُ تَعَالَىٰ بِذَلِكَ لِتَكُونَ حُجَّتَهُ الْبَالِغَةَ عَلَىٰ عِبَادِهِ، وَشَاهِدَهُ عَلَىٰ خَلْقِهِ، وَ«ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ 21» [الحديد: 21].

فَهَلْ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ مِثْلِ هَذَا فَيَخْتَارُوهُ، أَوْ يَكُونُ خِيَارُهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَيُقَدِّمُوهُ؟ تَعَدَّوْا - وَبَيْتِ اللهِ - الْحَقَّ، وَنَبَذُوا كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَفِي كِتَابِ اللهِ الْهُدَىٰ وَالشِّفَاءُ، فَنَبَذُوهُ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ، فَذَمَّهُمُ اللهُ وَمَقَّتَهُمْ وَأَتْعَسَهُمْ.

فَقَالَ (عزوجل): «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ 50» [القَصص: 50]، وَقَالَ (عزوجل): «فَتَعْساً(1) لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ 8» [محمّد: 8]، وقَالَ: «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ 35» [غافر: 35]»(2).

* * *

هذا آخر الجزء الثاني من كتاب (كمال الدِّين وتمام النعمة في إثبات الغيبة وكشف الحيرة)، تصنيف الشيخ السعيد أبي جعفر محمّد بن عليِّ بن الحسين بن موسىٰ بن بابويه القمِّي (قدَّس الله روحه ونوَّر ضريحه)، وبه كمل الكتاب وتمَّ.

والحمد لله ربِّ العالمين

وصلَّىٰ الله علىٰ محمّد وآله الطيِّبين الطاهرين المعصومين

وسلَّم تسليماً كثيراً

* * *

ص: 484


1- التَّعس - بالفتح -: الهلاك.
2- رواه المصنِّف (رحمة الله) في أماليه (ص 773 - 779/ ح 1049/1)، ومعاني الأخبار (ص 96 -101/ ح 2)، وعيون أخبار الرضا (علیه السلام) (ج 1/ ص 195 - 200/ باب 20/ ح 1)، والكليني (رحمة الله) في الكافي (ج 1/ ص 198 - 203/ باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته/ ح 1)، والنعماني (رحمة الله) في الغيبة (ص 225 - 231/ باب 13/ ح 6)، وابن شعبة (رحمة الله) في تُحَف العقول (ص 436 - 442)، والطبرسي (رحمة الله) في الاحتجاج (ج 2/ ص 226 - 230).

المصادر والمراجع

1 - القرآن الكريم.

2 - إثبات الوصيَّة للإمام عليِّ بن أبي طالب: عليُّ بن الحسين بن عليٍّ الهذلي المسعودي/ ط 3/ 1426ه/ أنصاريان/ قم.

3 - الاحتجاج: أحمد بن عليٍّ الطبرسي/ تعليق وملاحظات: السيِّد محمّد باقر الخرسان/ 1386ه/ دار النعمان/ النجف الأشرف.

4 - أخبار مكَّة وما جاء فيها من الآثار: محمّد بن عبد الله الأزرقي/ تحقيق: رشدي الصالح ملحس/ ط 1/ 1411ه/ انتشارات الشريف الرضي.

5 - الاختصاص: الشيخ المفيد/ تحقيق: عليّ أكبر الغفاري والسيِّد محمود الزرندي/ ط 2/ 1414ه/ دار المفيد للطباعة والنشر/ بيروت.

6 - اختيار معرفة الرجال (رجال الكشّي): الشيخ الطوسي/ تحقيق: السيِّد مهدي الرجائي/ 1404ه/ مؤسَّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث.

7 - إرشاد القلوب: الحسن بن محمّد الديلمي/ ط 2/ 1415ه/ انتشارات الشريف الرضي.

8 - الإرشاد: الشيخ المفيد/ ط 2/ 1414ه/ دار المفيد/ بيروت.

9 - الاستبصار: الشيخ الطوسي/ تحقيق: حسن الخرسان/ ط 4/ 1363ش/ مطبعة خورشيد/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.

10 - الاستنصار في النصِّ علىٰ الأئمَّة الأطهار: أبو الفتح محمّد بنعليِّبن عثمان الكراجكي/ ط 2/ 1405ه/ دار الأضواء/ بيروت.

ص: 485

11 - الاستيعاب: ابن عبد البرِّ/ تحقيق: عليّ محمّد البجاوي/ ط 1/ 1412ه/ دار الجيل/ بيروت.

12 - أُسد الغابة: عزُّ الدِّين ابن الأثير/ دار الكتاب العربي/ بيروت.

13 - الاعتقادات في دين الإماميَّة: الشيخ الصدوق/ تحقيق: عصام عبد السيِّد/ ط 2/ 1414ه/ دار المفيد/ بيروت.

14 - أعلام النبوَّة: أبو حاتم الرازي/ ط 2/ 1381ش/ مؤسَّسة حكمت و فلسفة/ طهران.

15 - أعلام النبوَّة: عليُّ بن محمّد البغدادي الماوردي/ ط 1/ 1409ه/ مكتبة الهلال/ بيروت.

16 - إعلام الورىٰ بأعلام الهدىٰ: الفضل بن الحسن الطبرسي/ ط 1/ 1417ه/ مؤسَّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث/ قم.

17 - الأغاني: أبو الفرج الأصفهاني/ دار إحياء التراث العربي.

18 - الأمالي: الشريف المرتضى/ ط 1/ 1325ه/ تصحيح وتعليق: السيِّد محمّد بدر الدِّين النعساني الحلبي/ منشورات مكتبة آية الله المرعشي النجفي.

19 - الأمالي: الشيخ الصدوق/ ط 1/ 1417ه/ مركز الطباعة والنشر في مؤسَّسة البعثة/ قم.

20 - الأمالي: الشيخ الطوسي/ ط 1/ 1414ه/ دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع/ قم.

21 - الأمالي: الشيخ المفيد/ تحقيق: حسين الأُستادولي وعليّ أكبر الغفاري/ ط 2/ 1414ه/ دار المفيد/ بيروت.

22 - الإمامة والتبصرة: ابن بابويه/ ط 1/ 1404ه/ مدرسة الإمام الهادي (علیه السلام)/ قم.

ص: 486

23 - إمتاع الأسماع بما للنبيِّ (صلی الله علیه و آله) من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع: تقيُّ الدِّين أحمد بن عليّ بن عبد القادر بن محمّد المقريزي/ تحقيق وتعليق: محمّد عبد الحميد النميسي/ ط 1/ 1420ه/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.

24 - الأمثال: أبو عبيد القاسم بن سلَّام/ حقَّقه وعلَّق عليه وقدَّم له: عبد المجيد قطامش/ ط 1/ 1400ه/ دار المأمون للتراث.

25 - أنساب الأشراف: البلاذري/ تحقيق: محمّد باقر المحمودي/ ط 1/ 1394ه/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.

26 - الأوائل: أبو هلال العسكري/ تحقيق وتصحيح: محمّد السيِّد الوكيل/ ط 1/ 1408ه/ دار البشير/ طنطا.

27 - إيضاح الاشتباه: العلَّامة الحلِّي/ تحقيق: الشيخ محمّد الحسُّون/ ط 1/ 1411ه/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.

28 - بحار الأنوار الجامعة لدُرَر أخبار الأئمَّة الأطهار: العلَّامة المجلسي/ تحقيق: يحيىٰ العابدي الزنجاني وعبد الرحيم الربَّاني الشيرازي/ ط 2/ 1403ه/ مؤسَّسة الوفاء/ بيروت.

29 - بحر الجواهر (معجم الطبّ الطبيعي): محمّد بن يوسف الهروي/ ط 1/ 1387ه/ الناشر: جلال الدِّين/ قم.

30 - البداية والنهاية: ابن كثير/ تحقيق وتدقيق وتعليق: عليّ شيري/ ط 1/ 1408ه/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.31 - بشارة المصطفىٰ (صلی الله علیه و آله) لشيعة المرتضىٰ (علیه السلام): محمّد بن أبي القاسم الطبري/ تحقيق: جواد القيُّومي الأصفهاني/ ط 1/ 1420ه/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.

32 - بصائر الدرجات الكبرىٰ في فضائل آل محمّد (علیهم السلام): محمّد بن الحسن

ص: 487

ابن فرُّوخ (الصفَّار)/ تصحيح وتعليق وتقديم: الحاج ميرزا حسن كوجه باغي/ 1404ه/ منشورات الأعلمي/ طهران.

33 - تاج العروس: مرتضىٰ الزبيدي/ تحقيق: عليّ شيري/ 1414ه/ دار الفكر/ بيروت.

34 - تاريخ آل زرارة: أبو غالب الزراري/ إعداد: السيِّد محمّد عليّ الموحِّد الأبطحي/ ط ربَّاني.

35 - تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس: الشيخ حسين بن الحسن الرياربكري/ دار الصادر/ بيروت.

36 - تاريخ الطبري (تاريخ الأُمَم والملوك): محمّد بن جرير الطبري/ ط 4/ 1403ه/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.

37 - تاريخ اليعقوبي: أحمد بن أبي يعقوب الكاتب العبَّاسي المعروف باليعقوبي/ دار صادر/ بيروت.

38 - تاريخ بغداد أو مدينة السلام: الخطيب البغدادي/ دراسة وتحقيق: مصطفىٰ عبد القادر عطا/ ط 1/ 1417ه/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.

39 - تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر/ تحقيق: عليّ شيري/ 1415ه/ دار الفكر/ بيروت.40 - تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة: السيِّد شرف الدِّين عليّ الحسيني الأسترآبادي/ ط 1/ 1407ه/ مدرسة الإمام المهدي ¨/ قم.

41 - تُحَف العقول عن آل الرسول: ابن شعبة الحرَّاني/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ ط 2/ 1404ه/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.

42 - التدوين في أخبار قزوين: عبد الكريم الرافعي/ تحقيق: عزيز الله عطاردي قوچاني/ ط 1/ 1408ه/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.

ص: 488

43 - تذكرة الخواصِّ: سبط ابن الجوزي/ ط 1/ 1418ه/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

44 - تصحيح اعتقادات الإماميَّة: الشيخ المفيد/ تحقيق: حسين دركاهي/ ط 2/ 1414ه/ دار المفيد/ بيروت.

45 - تفسير الثعلبي (الكشف والبيان عن تفسير القرآن): الثعلبي/ تحقيق: أبو محمّد بن عاشور/ مراجعة وتدقيق: نظير الساعدي/ ط 1/ 1422ه/ دار إحياء التراث العربي.

46 - تفسير الطبراني: الطبراني/ ط 1/ 2008م/ دار الكتاب الثقافي/ الأُردن.

47 - تفسير العيَّاشي: محمّد بن مسعود العيَّاشي/ تحقيق: السيِّد هاشم الرسولي المحلَّاتي/ المكتبة العلميَّة الإسلاميَّة/ طهران.

48 - تفسير القمِّي: عليُّ بن إبراهيم القمِّي/ تصحيح وتعليق وتقديم: السيِّد طيِّب الموسوي الجزائري/ ط 3/ 1404ه/ مؤسَّسة دار الكتاب/ قم.

49 - تفسير فرات الكوفي: فرات بن إبراهيم الكوفي/ تحقيق: محمّدكاظم/ ط 1/ 1410ه/ مؤسَّسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي/ طهران.

50 - تقريب التهذيب: ابن حجر العسقلاني/ دراسة وتحقيق: مصطفىٰ عبد القادر عطا/ ط 2/ 1415ه/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.

51 - تقريب المعارف: أبو الصلاح الحلبي/ تحقيق: فارس الحسُّون/ ط 1417ه.

52 - تلبيس إبليس: ابن الجوزي/ دراسة وتحقيق: أحمد بن عثمان المزيد/ ط 1/ 1423ه/ دار الوطن/ الرياض.

ص: 489

53 - تنبيه الخواطر (مجموعة ورَّام): ورَّام بن أبي فراس المالكي الأشتري/ ط 2/ 1368ش/ دار الكُتُب الإسلاميَّة.

54 - تنقيح المقال في علم الرجال: عبد الله المامقاني/ تحقيق: الشيخ محمّد رضا المامقاني/ ط 1/ 1431ه/ مؤسَّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث/ قم.

55 - تهذيب الأحكام: الشيخ الطوسي/ تحقيق وتعليق: السيِّد حسن الموسوي الخرسان/ ط 3/ 1364ه/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.

56 - تهذيب التهذيب: ابن حجر العسقلاني/ ط 1/ 1404ه/ دار الفكر/ بيروت.

57 - تهذيب اللغة: أبو منصور محمّد بن أحمد الأزهري/ ط 1/ 1421ه/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

58 - التوحيد: الشيخ الصدوق/ تحقيق وتصحيح: هاشم حسيني طهراني/ ط 1/ جماعة المدرِّسين في الحوزة العلميَّة/ قم.

59 - الثاقب في المناقب: ابن حمزة الطوسي/ تحقيق: نبيل رضاعلوان/ ط 2/ 1412ه/ مؤسَّسة أنصاريان/ قم.

60 - الثقات: محمّد بن حبَّان بن أحمد أبي حاتم التميمي البستي/ ط 1/ 1393ه/ مؤسَّسة الكُتُب الثقافيَّة.

61 - ثواب الأعمال: الشيخ الصدوق/ تحقيق: محمّد مهدي الخرسان/ ط 2/ 1368ش/ مطبعة أمير/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

62 - جامع الرواة وإزاحة الشُّبُهات عن الطُّرُق والإسناد: محمّد بن عليٍّ الأردبيلي الغروي الحائري/ مكتبة المحمّدي.

63 - الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير: جلال الدِّين السيوطي/ ط 1/ 1401ه/ دار الفكر/ بيروت.

ص: 490

64 - جمهرة الأمثال: أبو هلال العسكري/ تحقيق وتصحيح: محمّد أبو الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش/ 1420ه/ دار الفكر ودار الجيل/ بيروت.

65 - الحكمة الخالدة (جاويدان خرد): أحمد بن محمّد مسكويه الرازي/ ط 1/ 1358ه/ طهران.

66 - الخرائج والجرائح: قطب الدِّين الراوندي/ بإشراف: السيِّد محمّد باقر الموحِّد الأبطحي/ ط 1/ 1409ه/ مؤسَّسة الإمام المهدي ¨/ قم.

67 - الخصال: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ 1362ش/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.

68 - خصائص الأئمَّة (علیهم السلام): الشريف الرضي/ تحقيق: محمّد هادي الأميني/ 1406ه/ مجمع البحوث الإسلاميَّة/ الآستانة الرضويَّة المقدَّسة/ مشهد.

69 - خلاصة الأقوال: العلاَّمة الحلِّي/ ط 1/ 1417ه/ مؤسَّسة نشرالفقاهة.

70 - خلاصة تهذيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال: صفي الدِّين أحمد ابن عبد الله الخزرجي الأنصاري اليمني/ قدَّم له واعتنىٰ بنشره: عبد الفتَّاح أبو غدَّة/ ط 4/ 1411ه/ مكتب المطبوعات الإسلاميَّة بحلب/ دار البشائر الإسلاميَّة.

71 - الدُّرُّ المنثور في التفسير بالمأثور: جلال الدِّين السيوطي/ دار المعرفة/ بيروت.

72 - الدُّرُّ النظيم: يوسف بن حاتم الشامي المشغري العاملي/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.

ص: 491

73 - دلائل الإمامة: محمّد بن جرير الطبري الشيعي/ ط 1/ 1413ه/ مؤسَّسة البعثة/ قم.

74 - دلائل النبوَّة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة: أحمد بن الحسين البيهقي/ وثَّق أُصوله وخرَّج حديثه وعلَّق عليه: عبد المعطي قلعجي/ ط 1/ 1405ه/ دار الكتب العلميَّة/ بيروت.

75 - ديوان السيِّد الحميري: السيِّد الحميري/ تحقيق وتصحيح: ضياء حسين الأعلمي/ ط 1/ 1420ه/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.

76 - الذريعة إلىٰ تصانيف الشيعة: آغا بزرك الطهراني/ ط 3/ 1403ه/ دار الأضواء/ بيروت.

77 - رجال ابن داود: ابن داود الحلِّي/ تحقيق: محمّد صادق بحر العلوم/ 1392ه/ منشورات المطبعة الحيدريَّة/ النجف الأشرف.

78 - رجال الطوسي: الشيخ الطوسي/ ط 1/ 1415ه/ مؤسَّسة النشر الإسلامي.

79 - رجال النجاشي (فهرست أسماء مصنِّفي الشيعة): أبو العبَّاس أحمد ابن عليّ بن أحمد بن العبَّاس النجاشي الأسدي الكوفي/ ط 5/ 1416ه/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.

80 - الرجال: ابن الغضائري/ تحقيق: السيِّد محمّد رضا الجلالي/ ط 1/ 1422ه/ دار الحديث.

81 - الرسالة العلويَّة في فضل أمير المؤمنين (علیه السلام) علىٰ سائر البريَّة: أبو الفتح الكراجكي/ تحقيق: السيِّد عبد العزيز الحكيمي/ ط 1/ 1427ه/ دليل ما/ قم.

82 - روضة المتَّقين في شرح من لا يحضره الفقيه: محمّد تقي المجلسي

ص: 492

(الأوَّل)/ نمَّقه وعلَّق عليه وأشرف علىٰ طبعه: السيِّد حسين الموسوي الكرماني والشيخ عليّ پناه الاشتهاردي/ بنياد فرهنگ إسلامي حاجّ محمّد حسين كوشانپور.

83 - روضة الواعظين: محمّد بن الفتَّال النيسابوري/ تقديم: السيِّد محمّد مهدي السيِّد حسن الخرسان/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

84 - السلطان المفرِّج عن أهل الإيمان: السيِّد بهاء الدِّين عليّ بن عبد الكريم بن عبد الحميد الحسيني النيلي النجفي/ تحقيق: قيس العطَّار/ ط 1/ 1426ه/ دليل ما/ قم.

85 - سُنَن ابن ماجة: أبو عبد الله محمّد بن يزيد القزويني (ابن ماجة)/ تحقيق وترقيم وتعليق: محمّد فؤاد عبد الباقي/ دار الفكر.

86 - سُنَن البيهقي: البيهقي/ دار الفكر/ بيروت.

87 - سُنَن الترمذي: أبو عيسىٰ محمّد بن عيسىٰ بن سورة الترمذي/ تحقيق وتصحيح: عبد الوَّهاب عبد اللطيف/ ط 2/ 1403ه/ دار الفكر/بيروت.

88 - سُنَن الدارقطني: عليُّ بن عمر الدارقطني/ تعليق وتخريج: مجدي بن منصور سيِّد الشوري/ ط 1/ 1417ه/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.

89 - سُنَن النسائي: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن عليّ بن بحر النسائي/ ط 1/ 1348ه/ دار الفكر/ بيروت.

90 - سيرة ابن إسحاق (السِّيَر والمغازي): محمّد بن إسحاق المطلبي (ابن إسحاق)/ تحقيق: محمّد حميد الله/ معهد الدراسات والأبحاث للتعريف.

91 - السيرة النبويَّة: ابن هشام الحميري/ تحقيق وضبط وتعليق: محمّد محيي الدِّين عبد الحميد/ 1383ه/ مكتبة محمّد عليّ صبيح وأولاده/ مصر.

92 - السيرة النبويَّة: أبو الفداء إسماعيل بن كثير/ تحقيق: مصطفىٰ عبد

ص: 493

الواحد/ 1396ه/ دار المعرفة/ بيروت.

93 - شرح أُصول الكافي: مولىٰ محمّد صالح المازندراني/ تعليق: الميرزا أبو الحسن الشعراني/ ضبط وتصحيح: السيِّد عليّ عاشور/ ط 1/ 1421ه/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

94 - شرح الأخبار في فضائل الأئمَّة الأطهار: القاضي النعمان المغربي/ تحقيق: السيِّد محمّد الحسيني الجلالي/ ط 2/ 1414ه/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.

95 - شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد المعتزلي/ تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم/ ط 1/ 1378ه/ دار إحياء الكُتُب العربيَّة.96 - شواهد التنزيل لقواعد التفضيل: عبيد الله بن أحمد المعروف بالحاكم الحسكاني/ تحقيق: الشيخ محمّد باقر المحمودي/ ط 1/ 1411ه/ مؤسَّسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي.

97 - الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربيَّة): إسماعيل بن حمَّاد الجوهري/ تحقيق: أحمد عبد الغفور العطَّار/ ط 4/ 1407ه/ دار العلم للملايين/ بيروت.

98 - صحيح البخاري: محمّد بن إسماعيل البخاري الجعفي/ 1401ه/ دار الفكر/ بيروت.

99 - صحيح مسلم: مسلم بن الحجَّاج بن مسلم القشيري النيسابوري/ دار الفكر/ بيروت.

100 - العدد القويَّة لدفع المخاوف اليوميَّة: عليُّ بن يوسف المطهَّر الحلِّي/ تحقيق: السيِّد مهدي الرجائي/ إشراف: السيِّد محمود المرعشي/ ط 1/ 1408ه/ مكتبة آية الله المرعشي/ قم.

101 - العسل المصفَّىٰ من تهذيب زين الفتىٰ: أحمد بن محمّد بن عليٍّ

ص: 494

العاصمي/ هذَّبه وعلَّق عليه: الشيخ محمّد باقر المحمودي/ ط 1/ 1418ه/ مجمع إحياء الثقافة الإسلاميَّة/ قم.

102 - عقد الدُّرَر: يوسف بن يحيىٰ المقدسي/ انتشارات نصائح.

103 - العقد الفريد: أحمد بن محمّد بن عبد ربِّه الأندلسي/ تحقيق وتصحيح: مفيد محمّد قميحة/ ط 1/ 1404ه/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.

104 - علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ تقديم: السيِّد محمّد صادق بحر العلوم/ 1385ه/ منشورات المكتبة الحيدريَّة ومطبعتها/ النجف الأشرف.

105 - عمدة الطالب في أنساب أبي طالب: أحمد بن عليٍّ الحسيني(ابن عنبة)/ تصحيح: محمّد حسن آل الطالقاني/ ط 2/ 1380ه/ منشورات المطبعة الحيدريَّة/ النجف الأشرف.

106 - عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب الإمام الأبرار: يحيىٰ بن الحسن الأسدي الحلِّي المعروف بابن البطريق/ 1407ه/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.

107 - العين: الخليل الفراهيدي/ ط 2/ 1409ه/ مؤسَّسة دار الهجرة.

108 - عيون أخبار الرضا (علیه السلام): الشيخ الصدوق/ تحقيق: حسين الأعلمي/ 1404ه/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.

109 - غريب الحديث: أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي/ تحقيق: محمّد عبد المعيد خان/ ط 1/ 1384ه/ دار الكتاب العربي/ بيروت.

110 - غريب الحديث: أبو محمّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري/ ط 1/ 1408ه/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.

111 - الغيبة: ابن أبي زينب النعماني/ تحقيق: فارس حسُّون كريم/ ط 1/ 1422ه/ أنوار الهدىٰ.

ص: 495

112 - الغيبة: الشيخ الطوسي/ تحقيق: عبد الله الطهراني وعليّ أحمد ناصح/ ط 1/ 1411ه/ مطبعة بهمن/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.

113 - الفتن: أبو عبد الله نعيم بن حمَّاد المروزي/ تحقيق وتقديم: سهيل زكار/ 1414ه/ دار الفكر/ بيروت.

114 - فرائد السمطين في فضائل المرتضىٰ والبتول والسبطين: إبراهيم بن محمّد الجويني الخراساني/ ط 1/ 1400ه/ مؤسَّسة المحمودي/ بيروت.115 - فِرَق الشيعة: الحسن بن موسىٰ النوبختي/ 1404ه/ دار الأضواء/ بيروت.

116 - الفَرْق بين الفِرَق وبيان الفرقة الناجية: عبد القاهر بن طاهر البغدادي الأسفراييني/ ط 2/ 1977م/ دار الآفاق الجديدة/ بيروت.

117 - الفصول المختارة: الشيخ المفيد/ ط2/ 1414ه/ دار المفيد/ بيروت.

118 - فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام): ابن عقدة الكوفي/ تحقيق وتصحيح: عبد الرزَّاق محمّد حسين حرز الدِّين/ ط 1/ 1424ه/ دليل ما/ قم.

119 - فقه الرضا: عليُّ بن بابويه/ ط 1/ 1406ه/ المؤتمر العالمي للإمام الرضا (علیه السلام)/ مشهد.

120 - الفهرست: الشيخ الطوسي/ تحقيق: جواد القيُّومي/ ط 1/ 1417ه/ مؤسَّسة النشر الإسلامي.

121 - الفهرست: منتجب الدِّين عليُّ بن بابويه الرازي/ تحقيق وتقديم: جلال الدِّين محدِّث أرموي/ ط 1366ش/ مطبعة مهر/ قم.

122 - القاموس المحيط: مجد الدِّين محمّد بن يعقوب الفيروزآبادي.

123 - قرب الإسناد: أبو العبَّاس عبد الله بن جعفر الحميري القمّي/

ص: 496

ط 1/ 1413ه/ مؤسَّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث/ قم.

124 - قَصص الأنبياء: قطب الدِّين الراوندي/ تحقيق: الميرزا غلام رضا عرفانيان اليزدي الخراساني/ ط 1/ 1418ه/ انتشارات الهادي.

125 - الكافي: الشيخ الكليني/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ ط 5/ 1363ه/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.126 - كامل الزيارات: جعفر بن محمّد بن قولويه/ تحقيق: الشيخ جواد القيُّومي/ ط 1/ 1417ه/ مؤسَّسة نشر الفقاهة.

127 - الكامل في ضعفاء الرجال: عبد الله بن عدي/ تحقيق: يحيىٰ مختار غزاوي/ ط 3/ 1409ه/ دار الفكر/ بيروت.

128 - كتاب المؤمن: حسين بن سعيد الكوفي الأهوازي/ مدرسة الإمام المهدي ¨/ قم.

129 - كتاب سُلَيم: سُلَيم بن قيس الهلالي الكوفي/ تحقيق: محمّد باقر الأنصاري الزنجاني/ ط 1/ 1422ه/ دليل ما.

130 - كشف الغمَّة في معرفة الأئمَّة: عليُّ بن أبي الفتح الإربلي/ ط 2/ 1405ه/ دار الأضواء/ بيروت.

131 - كفاية الأثر في النصِّ علىٰ الأئمَّة الاثني عشر: أبو القاسم عليُّ بن محمّد الخزَّاز القمّي الرازي/ تحقيق: السيِّد عبد اللطيف الحسيني الكوهكمري الخوئي/ 1401ه/ انتشارات بيدار.

132 - كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبيب (الخصائص الكبرىٰ): جلال الدِّين السيوطي/ 1320ه/ دار الكتاب العربي.

133 - كنز العُمَّال في سُنَن الأقوال والأفعال: علاء الدِّين عليّ المتَّقي بن حسام الدِّين الهندي البرهان فوري (المتَّقي الهندي)/ ضبط وتفسير: الشيخ بكري

ص: 497

حيَّاني/ تصحيح وفهرسة: الشيخ صفوة السقَّا/ 1409ه/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.

134 - كنز الفوائد: أبو الفتح محمّد بن عليٍّ الكراجكي/ ط 2/ 1369ش/ مكتبة المصطفوي/ قم.

135 - الكنىٰ والألقاب: الشيخ عبَّاس القمِّي/ تقديم: محمّد هاديالأميني/ مكتبة الصدر/ طهران.

136 - اللباب في علوم الكتاب: أبو حفص عمر بن عليِّ بن عادل الدمشقي الحنبلي/ تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وعليّ محمّد معوض/ ط 1/ 1419ه/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.

137 - لسان العرب: أبو الفضل جمال الدِّين محمّد بن مكرم الإفريقي المصري (ابن منظور)/ 1405ه/ نشر أدب الحوزة/ قم.

138 - مائة منقبة من مناقب أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب والأئمَّة من ولده (علیهم السلام): محمّد بن أحمد القمّي (ابن شاذان)/ إشراف: السيِّد محمّد باقر بن المرتضىٰ الموحِّد الأبطحي/ ط 1/ 1407ه/ مدرسة الإمام المهدي ¨/ قم.

139 - مجمع الأمثال: أحمد بن محمّد النيسابوري المعروف بالميداني/ 1366ش/ مؤسَّسة الطبع والنشر التابعة للآستانة الرضويَّة المقدَّسة.

140 - مجمع البحرين: الشيخ فخر الدِّين الطريحي/ ط 2/ 1362ش/ مرتضوي.

141 - مجمع البيان في تفسير القرآن: أمين الإسلام أبو عليٍّ الفضل بن الحسن الطبرسي/ قدَّم له: السيِّد محسن الأمين العاملي/ ط 1/ 1415ه/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.

142 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: عليُّ بن أبي بكر الهيثمي/ 1408ه/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.

ص: 498

143 - المحاسن: أحمد بن محمّد بن خالد البرقي/ تصحيح وتعليق: السيِّد جلال الدِّين الحسيني المحدِّث/ 1370ه/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.144 - مرآة العقول: العلَّامة المجلسي/ ط 2/ 1404ه/ دار الكُتُب الإسلاميَّة.

145 - مراصد الاطِّلاع علىٰ أسماء الأمكنة والبقاع: صفي الدِّين عبد المؤمن بن عبد الحقِّ البغدادي/ تحقيق وتعليق: عليّ محمّد البجاوي/ ط 1/ 1412ه/ دار الجيل/ بيروت.

146 - مروج الذهب ومعادن الجوهر: عليُّ بن الحسين بن عليٍّ المسعودي/ ط 2/ 1404ه/ منشورات دار الهجرة/ قم.

147 - المسائل العكبريَّة: الشيخ المفيد/ تحقيق: عليّ أكبر الإلهي الخراساني/ ط 2/ 1414ه/ دار المفيد/ بيروت.

148 - المستدرك علىٰ الصحيحين: أبو عبد الله الحاكم النيسابوري/ إشراف: يوسف عبد الرحمن المرعشلي.

149 - المسترشد في إمامة أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب (علیه السلام): محمّد بن جرير الطبري الشيعي/ تحقيق: الشيخ أحمد المحمودي/ ط 1/ 1415ه/ مؤسَّسة الثقافة الإسلاميَّة لكوشانبور.

150 - مسند أبو داود الطيالسي: سليمان بن داود بن الجارود الفارسي البصري الشهير بأبي داود الطيالسي/ دار المعرفة/ بيروت.

151 - مسند أبي يعلىٰ: إسماعيل بن محمّد بن الفضل التميمي (أبو يعلىٰ الموصلي)/ تحقيق: حسين سليم أسد/ دار المأمون للتراث.

152 - مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ دار الصادر/ بيروت، وط مؤسَّسة الرسالة/ ط 1/ 1416ه.

ص: 499

153 - المصابيح: أبو العبَّاس الحسني/ تحقيق: عبد الله بن عبد الله بن أحمد الحوثي/ ط 2/ 1423ه/ مؤسَّسة الإمام زيد بن عليٍّ الثقافيَّة.154 - مصادقة الإخوان: الشيخ الصدوق/ إشراف: السيِّد عليّ الخراساني الكاظمي/ مكتبة الإمام صاحب الزمان العامَّة.

155 - مصباح المتهجِّد: الشيخ الطوسي/ ط 1/ 1411ه/ مؤسَّسة فقه الشيعة/ بيروت.

156 - المصنَّف: ابن أبي شيبة/ تحقيق وتعليق: سعيد اللحَّام/ ط 1/ 1409ه/ دار الفكر/ بيروت.

157 - المصون في الأدب: أبو أحمد الحسن بن عبد الله العسكري/ تحقيق: عبد السلام محمّد هارون/ 1960م/ دائرة المطبوعات والنشر في الكويت.

158 - المعارف: أبو محمّد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة الدينوري/ تحقيق: ثروت عكاشة/ ط 2/ 1969م/ دار المعارف/ مصر.

159 - معالم العلماء: ابن شهرآشوب/ قم.

160 - معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ 1379ه/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.

161 - المعجم الصغير: الطبراني/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.

162 - المعجم الكبير: الطبراني/ تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي/ ط 2 مزيَّدة ومنقَّحة/ دار إحياء التراث العربي.

163 - معرفة الثقات: أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي الكوفي/ ط 1/ 1405ه/ مكتبة الدار/ المدينة المنوَّرة.

164 - المعمَّرون من العرب: أبو حاتم سهل بن محمّد بن عثمان السجستاني البصري/ ط 1/ 1323ه/ مطبعة السعادة/ مصر.

ص: 500

165 - مقتضب الأثر: ابن عيَّاش الجوهري/ المطبعة العلميَّة/ مكتبة الطباطبائي/ قم.

166 - مقتل الحسين (علیه السلام): الموفَّق بن أحمد الخوارزمي/ تحقيق: الشيخ محمّد السماوي/ ط 2/ 1423ه/ أنوار الهدىٰ/ قم.

167 - المقنع: الشيخ الصدوق/ ت لجنة التحقيق التابعة لمؤسّسة الإمام الهادي (علیه السلام)/ 1415ه/ مط اعتماد.

168 - مكارم أخلاق النبيِّ والأئمَّة (علیهم السلام): قطب الدِّين الراوندي/ تحقيق: حسين الموسوي/ ط 1/ 1430ه/ العتبة العبَّاسيَّة المقدَّسة/ كربلاء.

169 - الملل والنحل: الشهرستاني/ دار المعرفة/ بيروت.

170 - من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ ط 2/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.

171 - مناحل الشفا ومناهل الصفا بتحقيق كتاب شرف المصطفىٰ (صلی الله علیه و آله): أبو سعيد عبد المَلِك بن أبي عثمان محمّد بن إبراهيم الخركوشي النيسابوري/ ط 1/ 1424ه/ دار البشائر الإسلاميَّة/ مكَّة المكرَّمة.

172 - مناقب آل أبي طالب: ابن شهرآشوب/ 1376ه/ المكتبة الحيدريَّة/ النجف الأشرف.

173 - مناقب الإمام أميرالمؤمنين عليِّ بن أبي طالب (علیه السلام): محمّد بن سليمان الكوفي/ تحقيق: الشيخ محمّد باقر المحمودي/ ط 1/ 1412ه/ مجمع إحياء الثقافة الإسلاميَّة/ قم.

174 - مناقب عليِّ بن أبي طالب (علیه السلام) وما نزل من القرآن في عليٍّ (علیه السلام): أحمد بن موسىٰ بن مردويه الأصفهاني/ جمعه ورتَّبه وقدَّم له: عبد الرزَّاق محمّد حسين حرز الدِّين/ ط 2/ 1424ه/ دار الحديث/ قم.

ص: 501

175 - مناقب عليِّ بن أبي طالب (علیه السلام): عليُّ بن محمّد بن محمّد الواسطي الجُلَّابي الشافعي الشهير بابن المغازلي/ ط 1/ 1426ه/ انتشارات سبط النبيِّ (صلی الله علیه و آله).

176 - المناقب: الموفَّق بن أحمد بن محمّد المكّي الخوارزمي/ تحقيق: الشيخ مالك المحمودي/ ط 2/ 1414ه/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.

177 - منع تدوين الحديث: السيِّد عليٍّ الشهرستاني/ ط 1/ 1420ه/ مركز الأبحاث العقائديَّة/ قم.

178 - مهج الدعوات ومنهج العبادات: ابن طاوس/ كتابخانه سنائي.

179 - المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار: أحمد بن عليِّ بن عبد القادر العبيدي المقريزي/ ط 1/ 1418ه/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.

180 - المواهب اللدنّيَّة بالمنح المحمّديَّة: أحمد بن محمّد القسطلاني/ قدَّم له: منيع عبد الحليم محمود/ شرحه وعلَّق عليه: أبو عمرو عماد زكي البارودي/ المكتبة التوفيقيَّة/ القاهرة.

181 - نسب معد واليمن الكبير: أبو منذر هشام بن محمّد بن السائب الكلبي/ تحقيق: ناجي حسن/ ط 1/ 1425ه/ عالم الكُتُب/ بيروت.

182 - النهاية في غريب الحديث والأثر: مجد الدِّين ابن الأثير/ تحقيق: طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمّد الطناحي/ ط 4/ 1364ش/ مؤسَّسة إسماعيليان/ قم.183 - نهج البلاغة: خُطَب أمير المؤمنين (علیه السلام)/ ما اختاره وجمعه: الشريف الرضي/ تحقيق: الدكتور صبحي صالح/ ط 1/ 1387ه، وبشرح محمّد عبدة/ ط 1/ 1412ه/ دار الذخائر/ قم.

184 - نوادر المعجزات: الطبري (الشيعي)/ ط 1/ 1410ه/ مؤسَّسة الإمام المهدي (علیه السلام)/ قم.

ص: 502

185 - الهداية الكبرىٰ: الحسين بن حمدان الخصيبي/ ط 4/ 1411ه/ مؤسَّسة البلاغ/ بيروت.

186 - الوافي بالوفيات: الصفدي/ تحقيق: أحمد الأرنؤوط وتركي مصطفىٰ/ 1420ه/ دار إحياء التراث.

187 - وقعة صفِّين: نصر بن مزاحم المنقري/ تحقيق وشرح: عبد السلام محمّد هارون/ ط 2/ 1382ه/ المؤسَّسة العربيَّة الحديثة/ القاهرة.

* * *

ص: 503

ص: 504

الفهرس

الباب الثالث والثلاثون: ما روي عن الصادق جعفر بن محمّد (علیهما السلام) من النصِّ علىٰ القائم (علیه السلام) وذكر غيبته (وفيه 55 حديثاً) 3

الباب الرابع والثلاثون: ما روي عن أبي الحسن موسى ابن جعفر [علیهما السلام] في النصِّ علىٰ القائم (علیه السلام) وغيبته (وفيه 6 أحاديث) 43

ذكر كلام هشام بن الحَكَم (رضی الله عنه) في هذا المجلس وما آل إليه أمره 49

الباب الخامس والثلاثون: ما روي عن الرضا عليِّ بن موسى (علیهما السلام) في النصِّ على القائم (علیه السلام) وفي غيبته (وفيه 7 أحاديث) 59

الباب السادس والثلاثون: ما روي عن أبي جعفر الثاني محمّد بن عليٍّ [الجواد] (علیهما السلام) في [النصِّ علىٰ] القائم (علیه السلام) وغيبته (وفيه 3 أحاديث) 71

الباب السابع والثلاثون: ما روي عن أبي الحسن عليِّ بن محمّد الهادي [علیهما السلام] في النصِّ علىٰ القائم (علیه السلام) وغيبته (وفيه 10 أحاديث). 77

الباب الثامن والثلاثون: ما روي عن أبي محمّد الحسن ابن عليٍّ العسكري (علیهما السلام) من وقوع الغيبة بابنه القائم (علیه السلام) (وفيه 9 أحاديث) 87

ما روي من حديث الخضر (علیه السلام) 90

ما روي من حديث ذي القرنين. 97

الباب التاسع والثلاثون: في من أنكر القائم الثاني عشر من الأئمَّة (علیهم السلام) (وفيه 15 حديثاً) 115

ص: 505

الباب الأربعون: ما روي في أنَّ الإمامة لا تجتمع في أخوين بعد الحسن والحسين (علیهما السلام) (وفيه 10 أحاديث) 123

الباب الحادي والأربعون: ما روي في نرجس أُمِّ القائم (علیه السلام) واسمها مليكة بنت يشوعا بن قيصر المَلِك (وفيه حديث واحد) 129

الباب الثاني والأربعون: ما روي في ميلاد القائم صاحب الزمان حجَّة الله بن الحسن بن عليِّ بن محمّد بن عليِّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليِّ بن الحسين ابن عليِّ بن أبي طالب (صلوات الله عليهم) (وفيه 17 حديثاً) 139

ذكر من هنَّأ أبا محمّد الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام) بولادة ابنه القائم (علیه السلام) 153

الباب الثالث والأربعون: ذكر من شاهد القائم (علیه السلام) ورآه وكلَّمه (وفيه 25 حديثاً) 155

الباب الرابع والأربعون: علَّة الغيبة (وفيه 11 حديثاً) 207

الباب الخامس والأربعون: ذكر التوقيعات الواردة عن القائم (علیه السلام) (وفيه 52 حديثاً) 213

توقيع من صاحب الزمان (علیه السلام) 248

الدعاء في غيبة القائم (علیه السلام) 250

الباب السادس والأربعون: ما جاء في التعمير (وفيه 6 أحاديث) 265

الباب السابع والأربعون: حديث الدجَّال وما يتَّصل به من أمر القائم (علیه السلام) (وفيه حديثان) 271

الباب الثامن والأربعون: حديث الظباء بأرض نينوىٰ في سياق هذا الحديث علىٰ جهته ولفظه (وفيه حديث واحد) 283

الباب التاسع والأربعون:

في سياق حديث حبابة الوالبيَّة (وفيه حديثان) 289

الباب الخمسون: سياق حديث معمَّر المغربي أبي الدنيا عليُّ بن عثمان بن الخطَّاب ابن مرَّة بن مؤيَّد (وفيه 10 أحاديث) 295

ص: 506

الباب الحادي والخمسون: حديث عبيد بن شرية الجرهمي (وفيه حديث واحد). 309

الباب الثاني والخمسون: حديث الربيع بن الضبع الفزاري (وفيه حديث واحد). 313

الباب الثالث والخمسون: حديث شقِّ الكاهن (وفيه حديث واحد) 317

الباب الرابع والخمسون: حديث شدَّاد بن عاد بن إرم، وصفة ]إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ 7 الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ 8 [ [وقَصص وأحاديث أُخرىٰ كثيرة] 321

[ذكر المعمَّرين] 326

[قصَّة شرية بن عبد الله الجعفي] 333

[قصَّة الريَّان بن دومغ] 334

[قصَّة لبيد بن ربيعة الجعفري] 337

[عمر عوف بن كنانة الكلبي ووصيَّته] 340

[قصَّة أكثم بن صيفي] 343

وصيَّة أكثم بن صيفي عند موته. 347

[قصَّة مَلِك الهند] 351

[وجه إيراد القَصص في الكتاب] 423

[علَّة الأحرف المقطَّعة في القرآن] 424

الباب الخامس والخمسون:

ما روي في ثواب المنتظر للفرج (وفيه 8 أحاديث). 429

الباب السادس والخمسون:

النهي عن تسمية القائم (علیه السلام) (وفيه 4 أحاديث). 437

الباب السابع والخمسون: ما روي في علامات خروج القائم (علیه السلام) (وفيه 29 حديثاً) 441

الباب الثامن والخمسون: في نوادر الكتاب (وفيه 32 حديثاً) 453

المصادر والمراجع. 485

الفهرس.. 505

* * *

ص: 507

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.