المنطق

هوية الکتاب

سرشناسه : مظفر، محمدرضا، 1904 - 1964

Muzaffar, Muhammad Rida

عنوان و نام پديدآور : المنطق/ محمدرضا المظفر.

مشخصات نشر : قم: موسسه معارف اسلامی، 1420.

مشخصات ظاهری : 3 ج. در یک مجلد. (460 ص):نمودار.

شابک : 1100ریال

وضعیت فهرست نویسی : فهرستنویسی قبلی

يادداشت : چاپ دوم: 1385(فیپا)

يادداشت : عنوان عطف: المنطق المظفر.

مندرجات : ج. 1. التصورات .-- ج. 2. التصدیقات .-- ج. 3. الصناعات الخمس

عنوان عطف : المنطق المظفر.

موضوع : منطق.

رده بندی کنگره : BC50/م 6م 78 1369

رده بندی دیویی : 160

ص: 1

اشارة

هوية الكتاب

اسم الكتاب...المنطق

المؤلف...الشيخ محمد رضا المظفّر

الناشر...حبیب

الطبعة... الأولى

تاريخ الطبع ...1420ه- ق

العدد ...2000

المطبعة...پاسدار اسلام

شابك...964_6119__X

ISBN ...964 - 6119 - 00 - X

جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر

قم - ص - ب 37185/791

ص: 2

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ »

ص: 3

ص: 4

مقدمة

تلاحقت في الفترة الأخيرة علينا الطلبات من جهات مختلفة ومن بينها بعض دور النشر المعروفة في العراق وخارجه لاعادة طبع كتاب ((المنطق» للمرة الثالثة بعد أن نفدت وندرت نسخ الطبعتين السابقتين منه .

واستجابة لهذه الطلبات التي جاءت مبعثا لحاجة ماسة وملحة إلى الكتاب بعد أن أصبح محور الدراسة - لهذا العلم - في حلقات النجف الأشرف وغيرها من حلقات المراكز العلمية الدينية المعروفة في العراق ولبنان وإيران وبعد أن أصبح كذلك محور الدراسة المنهجية لهذا العلم في بعض الكليات والمعاهد العالية الدينية وخاصة كلية الفقه - مؤسسة المؤلّف طاب مثواه - وكلية أصول الدين ببغداد.

أقول استجابة لذلك ... فقد عهدنا إلى إحدى دور النشر المعروفة في النجف وهى «دار النعمان» لإعادة طبع هذا الكتاب ... آملين بتوفيقه تعالى - بعد هذه العجالة - أن تصدر طبعة الكتاب القادمة بدراسة ضافية عن حياة عمّنا المؤلّف طيب الله ثراه ... من حيث نشأته و مسلكه، ومن حيث جهوده المثمرة الرائدة في تطوير الدراسة الدينية في النجف وفي إرساء أوّل حركة منهجية علمية في هذا البلد المقدّس . هذه الحركة التي تمثلت بإنشاء كلية منتدى النشر سابقاً وبكلية الفقه لاحقاً وبوضع مخطط لبناء منهجية كبرى تضم مختلف صنوف المعرفة الإسلامية.

والله تعالى نسأل أن يكون في عوننا جميعاً للعمل على تحقيق رسالة المؤلّف ف--ي

دعم وتصعيد الحركة الفكرية الدينية وفى تطويرها والسير بها إلى الأفضل .

محمود المظفر

عضو جمعية منتدى النشر

ص: 5

ص: 6

الاهداء

إلى أعزائنا الذين وهبنا لهم زهرة حياتنا

ومن ينتظرهم الغد قدوة صالحة

إلى الشباب الديني المتحفز .

إلى طلابنا:

أهدي هذا السفر ، لأنه لكم وهو من وحي حاجتكم ... والأمل أن تحققوا حسن الظنّ بكم، على ما عاهدتم عليه مدرستكم من الجهاد لترفعوا راية العلم والدين بأقلامكم ومقاولكم ، في عصر انغمس بالمادة فنسي الروح وانجرف بالعاطفة فأضاع الأخلاق ....!

إليكم - يا أفلاذ القلوب - أهدي هذا المجهود المتواضع !

المظفر

ص: 7

ص: 8

الجزء الأوّل

اشارة

المشتمل على :

1 - المدخل

2 - الباب الأوّل : مباحث الألفاظ

3- الباب الثاني : مباحث الكلّي

4 - الباب الثالث : المعرّف وتلحق به القسمة

ص: 9

ص: 10

المَدْخَل

اشارة

ص: 11

ص: 12

الحاجة إلى المنطق

خلق الله الإنسان مفطوراً على النطق ، وجعل اللسان آلة ينطق بها ولكن - مع ذلك -

يحتاج إلى ما يقوم نطقه ويصلحه ليكون كلامه على طبق اللغة التي يتعلمها ، من ناحية هيئات الألفاظ وموادها ؛ فيحتاج - أولاً - إلى المدرب الذي يعوده على ممارستها ، - ثانياً - إلى قانون يرجع إليه يعصم لسانه عن الخطأ . وذلك هو النحو والصرف.

وكذلك خلق الله الإنسان مفطوراً على التفكير بما منحه من قوة عاقلة مفكرة ، لا كالعجماوات. ولكن - مع ذلك - نجده كثير الخطأ في أفكاره ؛ فيحسب ما ليس بعلّة علّة، وما ليس بنتيجة لأفكاره نتيجة، وما ليس ببرهان برهانا، وقد يعتقد بأمر فاسد أو صحيح من مقدّمات فاسدة ... وهكذا . فهو - إذن - بحاجة إلى ما يصحح أفكاره ويرشده إلى طريق الاستنتاج الصحيح، ويدربه على تنظيم أفكاره وتعديلها . وقد ذكروا أن علم المنطق هو الأداة التي يستعين بها الإنسان على العصمة من الخطأ، وترشده إلى تصحيح أفكاره ؛ فكما أن النحو والصرف لا يعلمان الإنسان النطق وانّما يعلمانه تصحيح النطق ، فكذلك علم المنطق لا يعلم الإنسان التفكير، بل يرشده إلى تصحيح التفكير .

إذن فحاجتنا إلى المنطق هي تصحيح أفكارنا . وما أعظمها من حاجة ! ولو قلتم : انّ

الناس يدرسون المنطق ويخطئون في تفكيرهم فلا نفع فيه ، قلنا لكم ان الناس يدرسون علمي النحو والصرف فيخطئون في نطقهم، وليس ذلك إلا لأن الدارس للعلم لا يحصل على ملكة العلم، أو لا يراعي قواعده عند الحاجة، أو يخطىء في تطبيقها، فيشذ عن الصواب.

ص: 13

تعريف علم المنطق

ولذلك عرفوا علم المنطق بأنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن مراعاتها الذهن عن الخطأ ف--ي الفكر. فانظر إلى كلمة مراعاتها ، واعرف السرّ فيها كما قدمناه ، فليس كل من تعلم المنطق عصم عن الخطأ في الفكر ، كما انه ليس كل من تعلّم النحو عصم عن الخطأ في اللسان، بل لابد من مراعاة القواعد وملاحظتها عند الحاجة ، ليعصم ذهنه أو لسانه .

المنطق آلة

وانظر إلى كلمة آلة في التعريف وتأمل معناها ، فتعرف ان المنطق انّما هو من قسم العلوم الآلية التي تستخدم لحصول غاية ، هي غير معرفة نفس مسائل العلم ، فهو يتكفل ببيان الطرق العامة الصحيحة التي يتوصل بها الفكر إلى الحقائق المجهولة ، كما يبحث علم الجبر عن طرق حل المعادلات التي بها يتوصل الرياضي إلى المجهولات الحسابية .

وببيان أوضح: علم المنطق يعلمك القواعد العامة للتفكير الصحيح حتى ينتقل ذهنك إلى الأفكار الصحيحة في جميع العلوم، فيعلمك على أية هيئة وترتيب فكري تنتقل من الصور الحاضرة في ذهنك إلى الأمور الغائبة عنك ولذا سموا هذا العلم الميزان والمعيار الوزن والعيار، وسموه بأنه خادم العلوم ؛ حتى علم الجبر الذي شبهنا هذا العلم به، يرتكز حل مسائله وقضاياه عليه .

فلابد لطالب هذا العلم من استعمال التمرينات لهذه الأداة واجراء عمليتها في أثناء

الدراسة، شأن العلوم الرياضية والطبيعية .

ص: 14

العلم

(1)

تمهيد

قلنا : ان الله تعالى خلق الإنسان مفطورا على التفكير مستعدا لتحصيل المعارف بما أعطى من قوّة عاقلة مفكرة يمتاز بها عن العجماوات . ولا بأس ببيان موطن هذا الامتياز من أقسام العلم الذي نبحث عنه ، مقدّمة لتعريف العلم ولبيان علاقة المنطق به، فنقول :

1 - إذا ولد الإنسان يولد وهو خالي النفس من كلّ فكرة وعلم فعلي سوى هذا الاستعداد الفطري . فإذا نشأ وأصبح ينظر ويسمع ويذوق ويشم ويلمس نراه يحس بما

ص: 15


1- (1) المبحوث عنه هنا هو العلم المعبر عنه في لسان الفلاسفة بالعلم «الحصولي». أما العلم «الحضوري» - كعلم النفس بذاتها وبصفاتها القائمة بذاتها وبأفعالها وأحكامها وأحاديثها النفسية، وكعلم الله تعالى بنفسه وبمخلوقاته فلا تدخل فيه الأبحاث الآتية فى الكتاب ، لأنه ليس حصوله للعالم بارتسام صورة المعلوم في نفسه ، بل بحضور نفس المعلوم بوجوده الخارجي العيني للعالم ، فان الواحد منا يجد من نفسه أنّه يعلم بنفسه وشؤونها ويدركها حق الإدراك ، ولكن لا بانتقاش صورها ، وأنّما الشيء الموجود هو حاضر لذاته دائماً بنفس وجوده ، وكذا المخلوقات حاضرة لخالقها بنفس وجودها. فيكون الفرق بين الحصولي والحضوري : 1 - انّ الحصولى هو حضور صورة المعلوم لدى العالم ؛ والحضوري هو حضور نفس المعلوم لدى العالم. 2 - انّ المعلوم بالعلم الحصولى وجوده العلمى غير وجوده العيني وانّ المعلوم الحضوري وجوده العلمي غير وجوده العيني. 3 - ان الحصولي هو الذي ينقسم إلى التصوّر والتصديق ؛ والحضوري لا ينقسم إلى التصوّر والتصديق .

حوله من الأشياء ويتأثر بها التأثر المناسب فتنفعل نفسه بها، فنعرف أن نفسه التي كانت خالية أصبحت مشغولة بحالة جديدة نسمّيها العلم ، وهى العلم الحسي الذي هو ليس إلا حسّ النفس بالأشياء التى تنالها الحواس الخمس : الباصرة السامعة، الشامة، الذائقة واللامسة وهذا أول درجات العلم ، وهو رأس المال لجميع العلوم التي يحصل عليها الإنسان ويشاركه فيه سائر الحيوانات التي لها جميع هذه الحواس أو بعضها.

2- ثم تترقى مدارك الطفل فيتصرف ذهنه في صور المحسوسات المحفوظة عنده، فينسب بعضها إلى بعض هذا أطول من ذاك، وهذا الضوء أنور من الآخر أو مثله ... ويؤلّف بعضها من بعض تأليفاً قد لا يكون له وجود في الخارج، كتأليفه لصور الأشياء التي يسمع بها ولا يراها ، فيتخيل البلدة التى لم يرها، مؤلّفة من الصور الذهنيةالمعروفة عنده من مشاهداته للبلدان. وهذا هو العلم الخيالي يحصل عليه الإنسان بقوة الخيال ، وقد يشاركه فيه بعض الحيوانات .

3 - ثم يتوسع في إدراكه إلى أكثر من المحسوسات، فيدرك المعاني الجزئية التي لا

مادة لها ولا مقدار؛ مثل حبّ أبويه له وعداوة مبغضيه وخوف الخائف، وحزن الثاكل

وفرح المستبشر ... وهذا هو العلم الوهمي يحصل عليه الإنسان كغيره من الحيوانات بقوّة الوهم. وهي - هذه القوة -- موضع افتراق الإنسان عن الحيوان فيترك الحيوان وحده يدبر إدراكاته بالوهم فقط ويصرفها بما يستطيعه من هذه القوة والحول المحدود.

4 - ثمّ يذهب - هو الإنسان - في طريقه وحده متميزاً عن الحيوان بقوة العقل والفكر التي لا حد لها ولا نهاية ، فيدبّر بها دقة مدركاته الحسيّة والخيالية والوهمية ، ويميز الصحيح منها عن الفاسد وينتزع المعاني الكلية من الجزئيات التي أدركها فيتعقلها، ويقيس بعضها على بعض، وينتقل من معلوم إلى آخر، ويستنتج ويحكم، ويتصرف ما شاءت له ق--درته العقلية والفكرية . وهذا العلم الذي يحصل للإنسان بهذه القوة هو العلم الأكمل الذي كان به الإنسان انساناً، ولأجل نموه وتكامله وضعت العلوم وألفت الفنون، وبه تفاوتت الطبقات و اختلفت الناس . وعلم المنطق وضع من بين العلوم لأجل تنظيم تصرفات هذه القوة خوفا من تأثير الوهم والخيال عليها ومن ذهابها فى غير الصراط المستقيم لها .

ص: 16

تعريف العلم

وقد تسأل على أي نحو تحصل للإنسان هذه الإدراكات ؟ ونحن قد قربنا لك فيما مضى نحو حصول هذه الإدراكات بعض الشيء، ولزيادة التوضيح نكلفك أن تنظر إلى شيء أمامك ثم تطبق عينيك موجها نفسك نحوه، فستجد في نفسك كأنك لا تزال مفتوح العينين تنظر إليه ، وكذلك إذا سمعت دقات الساعة - مثلاً - ثم سددت اذنيك موجها نفسك نحوها ، فستحس من نفك كأنك لا تزال تسمعها ... وهكذا في كل حواسك . إذا جربت مثل هذه الأمور ودققتها جيداً يسهل عليك أن تعرف أن الإدراك أو العلم انّما هو انطباع صور الأشياء في نفسك لا فرق بين مدركاتك في جميع مراتبها ، كما تنطبع صور الأشياء في المرآة. ولذلك عرفوا العلم بأنه :

«حضور صورة الشيء عند العقل».

أو فقل انطباعها في العقل لا فرق بين التعبيرين في المقصود.

ص: 17

التصوّر والتصديق

إذا رسمت مثلثا تحدث في ذهنك صورة له، هي علمك بهذا المثلث، ويسمّى هذا العلم بالتصور. وهو تصوّر مجرّد لا يستتبع جزما .واعتقادا. وإذا تنبهت إلى زوايا المثلث تحدث لها أيضاً صورة في ذهنك .وهى أيضاً من التصوّر المجرد . وإذا رسمت خطا أفقيا وفوقه خطا عموديا مقاطعاً له تحدث زاویتان ،قائمتان فتنتقش صورة الخطين والزاويتين في ذهنك . وهي من التصوّر المجرّد أيضاً.

وإذا أردت أن تقارن بين القائمتين ومجموع زوايا المثلث ، فتسأل في نفسك هل هما

متساويان ؟ وتشك في تساويهما، تحدث عندك صورة لنسبة التساوي بينهما وهي من التصوّر المجرّد أيضاً .

فإذا برهنت على تساويهما تحصل لك حالة جديدة مغايرة للحالات السابقة وهي إدراكك لمطابقة النسبة للواقع المستلزم لحكم النفس واذعانها وتصديقها بالمطابقة . وهذه الحالة «أي صورة المطابقة للواقع التي تعقلتها وأدركتها هي التي تسمى بالتصديق ، لأنّها إدراك يستلزم تصديق النفس واذعانها ، تسمية للشيء باسم لازمه الذي لا ينفك عنه.

إذن ، إدراك زوايا المثلث، وإدراك الزاويتين القائمتين ، وإدراك نسبة التساوي بينهما كلها تصوّرات مجردة لا يتبعها حكم وتصديق . أما إدراك ان هذا التساوي صحيح واقع مطابق للحقيقة في نفس الأمر فهو تصديق .

وكذلك إذا أدركت ان النسبة في الخبر غير مطابقة للواقع، فهذا الإدراك تصديق .

تنبيه إذا لاحظت ما مضى يظهر لك انّ التصوّر والإدراك والعلم كلها ألفاظ لمعنى

ص: 18

واحد ، وهو : حضور صور الأشياء عند العقل . فالتصديق أيضاً تصوّر ولكنّه تصوّر يستتبع

: الحكم وقناعة النفس وتصديقها . وانّما لأجل التمييز بين التصوّر المجرّد أي غير المستتبع للحكم، وبين التصوّر المستتبع له ، سمّي الأوّل تصوّراً لأنه تصوّر محض ساذج مجرد فيستحق اطلاق لفظ التصوّر عليه مجردا من كل قيد ، وسمّي الثاني تصديقاً لأنه يستتبع الحكم والتصديق ، كما قلنا تسمية للشيء باسم لازمه .

أما إذا قيل : التصوّر المطلق فانّما يراد به ما يساوق العلم والإدراك فيعم كلا التصوّرين : التصوّر المجرّد، والتصوّر المستتبع للحكم (التصديق)(1).

بماذا يتعلّق التصديق والتصوّر ؟

ليس للتصديق إلا مورد واحد يتعلّق به ، وهو النسبة في الجملة الخبرية عند الحكم

والاذعان بمطابقتها للواقع أو عدم مطابقتها . وأما التصوّر فيتعلّق بأحد أربعة أمور :

1 - المفرد من اسم وفعل (كلمة)، وحرف (أداة).

2 - النسبة في الخبر عند الشكّ فيها أو توهمها ، حيث لا تصديق ، كتصوّرنا لنسبة

السكنى إلى المريخ - مثلاً - عندما يقال : «المريخ مسكون».

3 - النسبة في الإنشاء من أمر ونهي وتمن واستفهام ... إلى آخر الأمور الانشائية

التي لا واقع لها وراء الكلام، فلا مطابقة فيها للواقع خارج الكلام، فلا تصديق ولا اذعان . 4 - المركب الناقص كالمضاف والمضاف إليه والشبيه بالمضاف والموصول وصلته، والصفة والموصوف ، وكلّ واحد من طرفي الجملة الشرطية ... إلى آخر المركبات الناقصة التي لا يستتبع تصوّرها تصديقاً واذعاناً : ففي قوله تعالى: «إن تعدوا نعمة الله لا

ص: 19


1- هذا البيان عن معنى التصديق هو خلاصة آراء المحققين من الفلاسفة واليه يرمي تعريف الشيخ الرئيس في الاشارات بأنّه تصوّر معه حكم، وقد وضع المولى صدر المتألهين رسالة اضافية في تحقيقه ، سماها رسالة التصوّر والتصديق فلتذهب خيالات المشككين وأوهام المغالطين أدراج الرياح ... وقد جعلوا هذا الأمر الواضح بسبب تشكيكاتهم من المسائل العويصة المستعصية على المبتدئين.

تحصوها»، الشرط تعدوا نعمة الله» معلوم تصوّري والجزاء «لا تحصوها» معلوم تصوّري أيضاً. وانما كانا معلومين تصوّريين لأنهما وقعا كذلك جزاءا وشرطاً في الجملة الشرطية وإلا ففى أنفسهما لولاها كلّ منهما معلوم تصديقى. وقوله : «نعمة الله معلوم تصوّري مضاف . ومجموع الجملة معلوم تصديقي.

أقسام التصديق

ينقسم التصديق إلى قسمين: «يقين» و «ظنّ»، لأنّ التصديق هو ترجيح أحد طرفي الخبر وهما الوقوع واللاوقوع سواء كان الطرف الآخر محتملا أو لا فان كان هذا الترجيح مع نفي احتمال الطرف الآخر بتاً فهو اليقين، وان كان مع وجود الاحتمال ضعيفا فهو الظنّ.

وتوضيح ذلك : أنّك إذا عرضت على نفسك خبراً من الأخبار فأنت لا تخلو عن إحدى حالات أربع : اما انك لا تجوز إلا طرفا واحدا منه أما وقوع الخبر أو عدم وقوعه واما ان تجوّز الطرفين وتحتملهما معا . والأوّل هو اليقين والثانى وهو تجويز الطرفين له ثلاث صور ، لأنه لا يخلو اما أن يتساوى الطرفان في الاحتمال أو يترجح أحدهم على الآخر : فإن تساوى الطرفان فهو المسمى ب«الشكّ وان ترجّح أحدهما فإن كان الراجح مضمون الخبر ووقوعه فهو «الظنّ» الذي هو من أقسام التصديق . وان كان الراجح الطرف الآخر فهو الوهم الذي هو من أقسام الجهل وهو عكس الظنّ . فتكون الحالات أربعا ، ولا خامسة لها : المدخل

1 - اليقين: وهو ان تصدّق بمضمون الخبر ولا تحتمل كذبه أو تصدّق بعدمه ولا

تحتمل صدقه ، أي انك تصدّق به على نحو الجزم وهو أعلى قسمى التصديق(1).

2 - الظنّ: وهو أن ترجّح مضمون الخبر أو عدمه مع تجويز الطرف الآخر، وهو أدنى

ص: 20


1- ولليقين معنى آخر في اصطلاحهم وهو خصوص التصديق الجازم المطابق للواقع لا عن تقليد وهو أخص من معناه المذكور في المتن لأن المقصود به التصديق الجازم المطابق للواقع سواء كان عن تقليد أو لا

اقسام التصديق

3 - الوهم: وهو أن تحتمل مضمون الخبر أو عدمه مع ترجيح الطرف الآخر.

4 - الشک: وهو أن يتساوى احتمال الوقوع واحتمال العدم.

تنبيه: يعرف مما تقدّم أمران :

الأوّل: انّ الوهم والشك ليسا من أقسام التصديق بل هما من أقسام الجهل .

والثاني: أن الظنّ والوهم دائما يتعاكسان : فإنّك إذا توهمت مضمون الخبر فانت تظنّ بعدمه، وإذا كنت تتوهم عدمه فانّك تظنّ بمضمونه ، فيكون الظنّ لأحد الطرفين توهّماً

للطرف الآخر.

الجهل وأقسامه

ليس الجهل إلّا عدم العلم ممّن له الاستعداد للعلم والتمكن منه، فالجمادات والعجماوات لا نسميها جاهلة ولا عالمة، مثل العمى، فإنّه عدم البصر فيمن شأنه أن يبصر،فلايسمّى الحجر أعمى . وسيأتي أن مثل هذا يسمّى عدم ملكة ومقابله وهو العلم أو البصر يسمّى ملكة ، فيقال ان العلم والجهل متقابلان تقابل الملكة وعدمها .

والجهل على قسمين كما ان العلم على قسمين لأنه يقابل العلم فيبادله في موارده

فتارة يبادل التصوّر أي يكون في مورده وأخرى يبادل التصديق أي يكون في مورده

فيصح بالمناسبة أن نسمّى الأوّل الجهل التصوّري « والثاني «الجهل التصديقي».

ثمّ أنّهم يقولون ان الجهل ينقسم إلى قسمين : «بسيط» و«مركب». وفي الحقيقة انّ الجهل التصديقي خاصة هو الذي ينقسم اليهما، ولهذا اقتضى أن نقسم الجهل إلى تصوّري وتصديقي ونسميهما بهذه التسمية . أما الجهل التصوّري فلا يكون إلا بسيطا كما سيتضح .

ولنبين القسمين فنقول :

1 - الجهل البسيط: أن يجهل الإنسان شيئاً وهو ملتفت إلى جهله فيعلم أنّه لا يعلم ، : كجهلنا بوجود السكان في المريخ، فأنا نجهل ذلك ونعلم بجهلنا فليس لنا إلا جهل واحد .

ص: 21

2 - الجهل المركب أن يجهل شيئاً وهو غير ملتفت إلى أنه جاهل به بل يعتقد انه من أهل العلم به ، فلا يعلم أنّه لا يعلم ، كأهل الاعتقادات الفاسدة الذين يحسبون أنهم عالمون بالحقائق ، وهم جاهلون بها في الواقع .

ويسمون هذا مركبا لأنه يتركب من جهلين : الجهل بالواقع والجهل بهذا الجهل . وهو أقبح وأهجن القسمين . ويختص هذا في مورد التصديق لأنه لا يكون إلا مع الاعتقاد .

ليس الجهل المركب من العلم

يزعم بعضهم دخول الجهل المركب في العلم فيجعله من أقسامه، نظراً إلى أنه يتضمّن الاعتقاد والجزم وان خالف الواقع . ولكنا إذا دققنا تعريف العلم نعرف ابتعاد هذا الزعم عن الصواب وأنّه أي هذا الزعم من الجهل المركب ، لأنّ معنى «حضور صورة الشيء عند العقل »أن تحضر صورة نفس ذلك الشيء أما إذا حضرت صورة غيره بزعم أنّها صورته فلم تحضر الشيء بل صورة شيء آخر زاعما أنها هي . وهذا هو حال الجهل المركب ، فلا يدخل تحت تعريف العلم. فمن يعتقد أن الأرض مسطّحة لم تحضر عنده صورة النسبة الواقعية وهى أن الأرض كروية ، وانّما حضرت صورة نسبة أخرى يتخيل أنّها الواقع .

وفي الحقيقة ان الجهل المركب يتخيل صاحبه أنّه من العلم، ولكنه ليس بعلم . وكيف يصح أن يكون الشيء من أقسام مقابله، والاعتقاد لا يغيّر الحقائق، فالشبح من بعيد الذي يعتقده الناظر انسانا وهو ليس بإنسان لا يصيره الاعتقاد انسانا على الحقيقة.

العلم ضرورى ونظري

ينقسم العلم بكلا قسميه التصوّر والتصديق إلى قسمين:

1 - الضروري: ويسمّى أيضاً «البديهي» وهو ما لا يحتاج في حصوله إلى كسب

ص: 22

ونظر وفكر، فيحصل بالاضطرار وبالبداهة التي هي المفاجأة والارتجال من دون توقف، كتصوّرنا لمفهوم الوجود والعدم ومفهوم الشيء وكتصديقنا بأن الكل أعظم من الجزء وبأن النقيضين لا يجتمعان وبأن الشمس طالعة وأن الواحد نصف الاثنين وهكذا ...

2 - والنظري: وهو ما يحتاج حصوله إلى كسب ونظر وفكر ، كتصوّرنا لحقيقة الروح والكهرباء، وكتصديقنا بأن الأرض ساكنة أو متحرّكة حول نفسها وحول الشمس ويسمّى

أيضا« الكسبي».

توضيح القسمين: ان بعض الأمور يحصل العلم بها من دون انعام نظر وفكر فيكفي في حصوله أن تتوجه النفس إلى الشيء بأحد أسباب التوجه الآتية من دون توسط عملية فكرية كما مثلنا، وهذا هو الذي يسمّى «بالضروري» أو «البديهي» سواء أكان تصوّراً أم تصديقاً. وبعضها لا يصل الإنسان إلى العلم بها بسهولة، بل لابد من انعام النظر واجراء عمليات عقلية ومعادلات فكرية كالمعادلات الجبرية، فيتوصل بالمعلومات عنده إلى العلم بهذه الأمور (المجهولات)، ولا يستطيع أن يتصل بالعلم بها رأسا من دون توسيط هذه المعلومات وتنظيمها على وجه صحيح ، لينتقل الذهن منها إلى ما كان مجهولاً عنده ، كما مثلنا . وهذا هو الذي يسمّى ب- «النظري» أو «الكسبي» سواء كان تصوّراً أو تصديقاً.

توضيح في الضروري

قلنا : انّ العلم الضروري هو الذي لا يحتاج إلى الفكر وانعام النظر . وأشرنا إلى أنّه لا

بد من توجّه النفس بأحد أسباب التوجّه وهذا ما يحتاج إلى بعض البيان :

فإنّ الشيء قد يكون بديهياً ولكن يجهله الإنسان لفقد سبب توجه النفس ، ف--لا يجب أن يكون الإنسان عالما بجميع البديهيات، ولا يضر ذلك ببداهة البديهي . ويمكن حصر أسباب التوجّه فى الأمور التالية :

1 - الانتباه: وهذا السبب مطرد في جميع البديهيات ، فالغافل قد يخفى عليه أوضح

الواضحات.

ص: 23

2 - سلامة الذهن: وهذا مطرد أيضاً ، فإن من كان سقيم الذهن قد يشك في أظهر الأمور أو لا يفهمه . وقد ينشأ هذا السقم من نقصان طبيعي أو مرض عارض أو تربية فاسدة .

3 - سلامة الحواس وهذا خاص بالبديهيّات المتوقفة على الحواس الخمس وهى المحسوسات. فإن الأعمى أو ضعيف البصر يفقد كثيراً من العلم بالمنظورات وكذا الأصم في المسموعات وفاقد الذائقة في المذوقات. وهكذا.

4 - فقدان الشبهة والشبهة : أن يؤلّف الذهن دليلا فاسداً يناقض بديهة م--ن البديهيّات ويغفل عمّا فيه من المغالطة ، فيشك بتلك البديهة أو يعتقد بعدمها . وهذا يحدث كثيرا العلوم الفلسفية والجدليّات . فإنّ من البديهيات عند العقل ان الوجود و العدم نقيضان وأن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان ، ولكن بعض المتكلمين دخلت عليه الشبهة في هذه البديهة، فحسب ان الوجود والعدم لهما واسطة وسماها الحال، فهما يرتفعان عندها . ولكن مستقيم التفكير إذا حدث له ذلك وعجز عن كشف المغالطة يردّها ويقول أنّها شبهة في مقابل البديهة.

5 - عملية غير عقلية لكثير من البديهيات كالاستماع إلى كثيرين يمتنع تواطؤهم على الكذب في المتواترات ، وكالتجربة في التجربيات ، وكسعي الإنسان لمشاهدة بلاد أو استماع صوت في المحسوساتت ... وما إلى ذلك. فإذا احتاج الإنسان للعلم بشيء إلى تجربة طويلة، مثلا، وعناء ،عملى، فلا يجعله ذلك علما نظريا ما دام لا يحتاج إلى الفكر والعملية العقلية .

تعريف النظر أو الفكر

نعرف ممّا سبق انّ النظر - أو الفكر - المقصود منه اجراء عملية عقلية في في المعلومات الحاضرة لأجل الوصول إلى المطلوب» والمطلوب هو العلم بالمجهول الغائب وبتعبير آخر أدق أن الفكر هو : حركة العقل بين المعلوم والمجهول».

وتحليل ذلك : أن الإنسان إذا واجه بعقله المشكل (المجهول) وعرف انّه من اي أنواع المجهولات هو فزع عقله إلى المعلومات الحاضرة عنده المناسبة لنوع المشكل.

ص: 24

وعندئذ يبحث فيها ويتردّد بينها بتوجيه النظر اليها ، ويسعى إلى تنظيمها في الذهن حتى يؤلّف المعلومات التى تصلح لحلّ المشكل ، فإذا استطاع ذلك ووجد ما يؤلّفه لتحصيل غرضه تحرك عقله حينئذٍ منها إلى المطلوب، أعنى معرفة المجهول وحل المشكل.

فتمرّ على العقل - إذن - بهذا التحليل خمسة أدوار :

1 - مواجهة المشكل (المجهول).

2 - معرفة نوع المشكل ، فقد يواجه المشكل ولا يعرف نوعه .

3 - حركة العقل من المشكل إلى المعلومات المخزونة عنده .

4 - حركة العقل - ثانياً - بين المعلومات للفحص عنها وتأليف ما يناسب المشكل

ويصلح لحله .

5 - حركة العقل - ثالثاً - من المعلوم الذي استطاع تأليفه مما عنده إلى المطلوب. وهذه الأدوار الثلاثة الأخيرة أو الحركات الثلاث هى الفكر أو النظر ، وهذا معنى حركة العقل بين المعلوم والمجهول. وهذه الأدوار الخمسة قد تمرّ على الإنسان في تفكيره وهو لا يشعر بها ، فإن الفكر يجتازها غالباً بأسرع من لمح البصر، على أنها لا يخلو منها إنسان في أكثر تفكيراته ، ولذا قلنا إن الإنسان مفطور على التفكير .

نعم من له قوة الحدس يستغني عن الحركتين الأوليين، وانما ينتقل رأساً بحركة واحدة من المعلومات إلى المجهول. وهذا معنى الحدس ، فلذلك يكون صاحب الحدس القوي أسرع تلقيا للمعارف والعلوم ، بل هو من نوع الالهام وأول درجاته ولذلك أيضاً جعلوا القضايا الحدسيات من أقسام البديهيات ، لأنّها تحصل بحركة واحدة مفاجئة من المعلوم إلى المجهول عند مواجهة المشكل ، من دون كسب وسعي فكري ، فلم يحتج إلى معرفة نوع المشكل ولا إلى الرجوع إلى المعلومات عنده وفحصها وتأليفها.

ولأجل هذا قالوا ان قضية واحدة قد تكون بديهيّة عند شخص نظرية عند شخص آخر . وليس ذلك إلا لأنّ الأوّل عنده من قوّة الحدس ما يستغنى به عن النظر والكسب، أي ما يستغني به عن الحركتين الأوليين، دون الشخص الثاني فإنّه يحتاج إلى هذه الحركات لتحصل المعلوم بعد معرفة نوع المشكل .

ص: 25

خلاصة تقسيم العلم :

الصورة

تمرينات

1 - لماذا لم يكن الوهم والشك من أقسام التصديق ؟

2 - أذكر خمس قضايا بديهية من عندك مع بيان ما تحتاج اليه كلّ منها من أسباب

توجه النفس الخمسة .

3- إذا علمت بأن في الغرفة شيئاً ما ، وبعد الفحص عنه كثيراً وجدته فعلمت أنه فارة

مختفية ، فهذا العلم الحاصل بعد البحث ضروري أم نظري ؟

4 - هل اتفق ان حصلت لك شبهة في مقابل بديهة ؟ أذكرها .

5 - ما الفرق بين الفكر والحدس ؟

ص: 26

أبحاث المنطق

علم المنطق انّما يحتاج إليه لتحصيل العلوم النظرية ، لأنه هو مجموعة قوانين الفكر والبحث. أما الضروريات فهي حاصلة بنفسها ، بل هي رأس المال الأصلي لكاسب العلوم يكتسب به ليربح المعلومات النظرية المفقودة عنده . فإذا اكتسب مقدارا من النظريات زاد رأس ماله بزيادة معلوماته، فيستطيع أن يكتسب معلومات أكثر ، لأن ربح التاجر عادة يزيد كلّما زادت ثروته المالية . وهكذا طالب العلم كلّما اكتسب تزيد ثروته العلمية وتتسع تجارته ، فيتضاعف ربحه . بل تاجر العلم مضمون الربح بالاكتساب لا كتاجر المال.

وعلم المنطق يبحث عن كيفية تأليف المعلومات المخزونة عنده، ليتوصل بها إلى الربح بتحصيل المجهولات واضافتها إلى ما عنده من معلومات فيبحث تارة عن المعلوم التصوّري ويسمّى المعرِّف، للتوصل به إلى العلم بالمجهول التصوّري، ويبحث أخرى عن المعلوم التصديقي ويسمّى الحجّة لتوصل به إلى العلم بالمجهول التصديقي.

والبحث عن الحجّة بنحوين : تارة من ناحية هيئة تأليفها، وأخرى من ناحية مادة قضاياها ، وهو بحث الصناعات الخمس . ولكلّ من البحث عن المعرف والحجةمقدمات.

فأبحاث المنطق نضعها في ستة أبواب :

الصورة

ص: 27

ص: 28

الباب الأوّل : مباحث الألفاظ

اشارة

ص: 29

ص: 30

الحاجة إلى مباحث الألفاظ

لا شك ان المنطقي لا يتعلق غرضه الأصلي إلا بنفس المعاني، ولكنّه لا يستغني عن البحث عن أحوال الألفاظ توصلاً إلى المعاني، لأنه من الواضح أن التفاهم مع الناس ونقل الأفكار بينهم لا يكون غالباً إلا بتوسط لغة من اللغات والألفاظ قد يقع فيها التغيير والخلط فلا يتم التفاهم بها فاحتاج المنطقي إلى أن يبحث عن أحوال اللفظ من جهة عامة ، ومن غير اختصاص بلغة من اللغات، اتماماً للتفاهم، ليزن كلامه وكلام غيره بمقياس صحيح .

وقلنا : من جهة عامة ، لأن المنطق علم لا يختص بأهل لغة خاصة وان كان قد يحتاج إلى البحث عمّا يختص باللغة التي يستعملها المنطقى فيما قل كالبحث عن دلالة لام التعريف - في لغة العرب - على الاستغراق، وعن كان وأخواتها في انها من الأدوات والحروف، وعن أدوات العموم والسلب ... وما إلى ذلك . ولكنّه قد يستغني عن ادخالها في المنطق اعتمادا على علوم اللغة.

هذه حاجته من أجل التفاهم مع غيره. وللمنطقى حاجة أخرى(1) إلى مباحث الألفاظ من أجل نفسه، هي أعظم وأشدّ من حاجته الأولى، بل لعلها هي السبب الحقيقي لإدخال هذه الأبحاث في المنطق .

ونستعين على توضيح مقصودنا بذكر تمهيد نافع ، ثم نذكر وجه حاجة الإنسان في

نفسه إلى معرفة مباحث الألفاظ نتيجة للتمهيد، فنقول:

ص: 31


1- هذا البحث إلى آخره ليس من منهاج دراستنا . ولكنّا وضعناه للطلاب الذين يرغبون في التوسع ، حرصاً على فائدتهم هو بحث له قيمته العلمية ، لا سيما في مباحث أصول الفقه

التمهيد: ان للأشياء أربعة وجودات : وجودان حقيقيان ووجودان اعتباریان جعلیان :

الأول : الوجود الخارجي، كوجودك ووجود الأشياء التي حولك ونحوها، من أفراد الإنسان والحيوان والشجر والحجر والشمس والنجوم، إلى غير ذلك من الوجودات الخارجية التي لا حصر لها .

الثاني : الوجود الذهني، وهو علمنا بالأشياء الخارجية وغيرها من المفاهيم، وقد قلنا سابقاً : ان للإنسان قوّة تنطبع فيها صور الأشياء. وهذه القوّة تسمّى الذهن والانطباع فيها يسمّى الوجود الذهني الذي هو العلم .

وهذان الوجودان هما الوجودان الحقيقيان لأنهما ليسا بوضع واضع ولا باعتبار معتبر.

الثالث : الوجود اللفظي، بيانه : أن الإنسان لما كان اجتماعياً بالطبع ومضطراً للتعامل والتفاهم مع باقي أفراد نوعه، فانّه محتاج إلى نقل أفكاره إلى الغير وفهم أفكارالغير . والطريقة الأولية للتفهيم هى أن يحضر الأشياء الخارجية بنفسها، ليحس بها الغير باحدى الحواسّ فيدركها . ولكن هذه الطريقة من التفهيم تكلّفه كثيراً من العناء، على انها لا تفي بتفهيم أكثر الأشياء والمعاني، إما لأنها ليست من الموجودات الخارجية أو لأنها لا يمكن احضارها .

فألهم الله تعالى الإنسان طريقة سهلة سريعة في التفهيم، بأن منحه قوّة على الكلام والنطق بتقاطيع الحروف ليؤلف منها الألفاظ. وبمرور الزمن دعت الإنسان الحاجة - وهي أم الاختراع - إلى أن يضع لكلّ معنى يعرفه ويحتاج إلى التفاهم عنه لفظاً خاصاً، ليحضر المعانى بالألفاظ بدلاً من احضارها بنفسها.

ولأجل أن تثبت في ذهنك ايها الطالب هذه العبارة أكررها لك : ليحضر المعاني بالألفاظ بدلاً من احضارها بنفسها. فتأملها جيداً، واعرف ان هذا الاحضار أنّما يتمكن الإنسان منه بسبب قوة ارتباط اللفظ بالمعنى وعلاقته به فى الذهن. وهذا ارتباط القوي

ص: 32

ينشأ من العلم بالوضع وكثرة الاستعمال. فاذا حصل هذا الارتباط القوي لدى الذهن يصبح اللفظ عنده كأنه المعنى والمعنى كأنه اللفظ أي يصبحان عنده كشيء واحد، فإذا أحضر المتكلّم اللفظ فكأنما أحضر المعنى بنفسه للسامع ، فلا يكون فرق لديه بين أن يحضر خارجاً نفس المعنى وبين أن يحضر لفظه الموضوع له، فإنّ السامع في كلا الحالين ينتقل ذهنه إلى المعنى . ولذا قد ينتقل السامع إلى المعنى ويغفل عن اللفظ وخواصه كأنه لم يسمعه مع انه لم ينتقل اليه إلا بتوسط سماع اللفظ.

وزبدة المخض ان هذا الارتباط يجعل اللفظ والمعنى كشيء واحد ، فإذا وجد اللفظ فكأنّما وجد المعنى . فلذا نقول : «وجود اللفظ وجود المعنى . ولكنّه وجود لفظي للمعنى . أي انّ الموجود حقيقة هو اللفظ لا غير ، وينسب وجوده إلى المعنى مجازاً، بسبب هذا الارتباط الناشيء من الوضع والشاهد على هذا الارتباط والاتحاد انتقال القبح والحسن من المعنى إلى اللفظ وبالعكس؛ فان اسم المحجوب من أعذب الألفاظ عند المحب، وان كان في نفسه لفظاً وحشياً ينفر منه السمع واللسان . واسم العدو من اسمج الألفاظ وان كان نفسه لفظاً مستملحاً. وكلّما زاد هذا الارتباط زاد الانتقال ، ولذا نرى اختلاف القبح في الالفاظ المعبر بها عن المعاني القبيحة، نحو التعابير عن عورة الإنسان، فكثير الاستعمال أقبح من قليله . والكناية أقل قبحاً . بل قد لا يكون فيها قبح كما كني القرآن الكريم بالفروج. وكذا رصانة التعبير وعذوبته يعطي جمالاً في المعنى لا نجده في التعبير الركيك الجافي، فيضفي جمال اللفظ على المعنى جمالاً وعذوبة.

الرابع : الوجود الكتبي، شرحه : ان الألفاظ وحدها لا تكفي للقيام بحاجات الإنسان كلها ، لأنها تختص بالمشافهين. أما الغائبون والذين سيوجدون، فلا بد لهم من وسيلة أخرى لتفهيمهم، فالتجأ الإنسان أن يصنع النقوش الخطية لاحضار ألفاظه الدالةع--لى المعانى، بدلاً من النطق بها ، فكان الخط وجوداً للفظ . وقد سبق أن قلنا أن اللفظ وجود للفظ والمعنى ، أي ان الموجود حقيقة هو الكتابة لا غير ، وينسب الوجود إلى اللفظ والمعنى مجازاً بسبب الوضع ، كما ينسب وجود اللفظ إلى المعنى مجازاً بسبب الوضع .

ص: 33

إذن الكتابة تحضر الألفاظ والألفاظ تحضر المعاني في الذهن، والمعاني الذهنية تدل على الموجودات الخارجية.

فاتضح ان الوجود اللفظي والكتبي وجودان مجازيان اعتباريان للمعنى بسبب الوضع والاستعمال.

النتيجة

لقد سمعت هذا البيان المطول وغرضنا ان نفهم منه الوجود اللفظي، وقد فهمنا انّ اللفظ والمعنى لأجل قوة الارتباط بينهما كالشيء الواحد، فإذا أحضرت اللفظ بالنطق فكأنما أحضرت المعنى بنفسه.

ومن هنا نفهم كيف يؤثر هذا الارتباط على تفكير الإنسان بينه وبين نفسه، ألا ترى نفسك عندما تحضر أي معنى كان في ذهنك لا بد أن تحضر معه لفظه أيضاً، بل أكثر من ذلك تكون انتقالاتك الذهنية من معنى إلى معنى بتوسط احضارك لألفاظها في الذهن ؛ فانّا نجد أنه لا ينفك غالباً تفكيرنا في أي أمر كان عن تخيل الألفاظ وتصوّرها كأنما نتحدث إلى نفوسنا ونناجيها بالألفاظ التي نتخيلها ، فنرتب الألفاظ في أذهاننا، وعلى طبقها نرتب المعاني وتفصيلاتها ، كما لو كنا نتكلم مع غيرنا .

قال الحكيم العظيم الشيخ نصير الدين الطوسي في شرح الاشارات: «الانتقالات الذهنية قد تكون بألفاظ ذهنية، وذلك لرسوخ العلاقة المذكورة - يشير إلى علاقة اللفظ بالمعنى - في الأذهان» .

فإذا أخطأ المفكّر فى الألفاظ الذهنية أو تغيّرت عليه أحوالها يؤثر ذلك على أفكاره وانتقالاته الذهنية للسبب المتقدّم.

فمن الضروري لترتيب الأفكار الصحيحة لطالب العلوم أن يحسن معرفة أحوال الألفاظ

من وجهة عامة ، وكان لزاماً على المنطقى أن يبحث عنها مقدمة لعلم المنطق واستعانة بها على تنظيم أفكاره الصحيحة .

ص: 34

الدلالة

تعريف الدلالة

إذا سمعت طرقة بابك ينتقل ذهنك - لا شكّ - إلى أن شخصاً على الباب يدعوك . وليس ذلك إلا لأن هذه الطرقة كشفت عن وجود شخص يدعوك . وان شئت قلت : انها دلّت على وجوده.

إذن ، طرقة الباب دالّ ، ووجود الشخص الداعي مدلول وهذه الصفة التي حصلت للطرقة دلالة .

وهكذا، كل شيء إذا علمت بوجوده فينتقل ذهنك منه إلى وجود شيء آخر ، نسمّيه

دالاً، والشيء الآخر مدلولاً ، وهذه الصفة التي حصلت له دلالة.

فيتضح من ذلك انّ الدلالة هي : كون الشيء بحالة إذا علمت بوجوده انتقل ذهنك

إلى وجود شيء آخر».

أقسام الدلالة

لا شك ان انتقال الذهن من شيء إلى شيء لا يكون بلا سبب . وليس السبب إلا رسوخ العلاقة بين الشيئين في الذهن. وهذه العلاقة الذهنية أيضاً لها سبب . وسببها العلم بالملازمة بين الشيئين خارج الذهن ، ولاختلاف هذه الملازمة من كونها ذاتية أو طبعية أو بوضع واضع وجعل جاعل قسموا الدلالة إلى أقسام ثلاثة عقلية وطبعية ووضعية .

ص: 35

1 - الدلالة العقلية وهي فيما إذا كان بين الدال والمدلول ملازمة ذاتية في وجودهما

الخارجى ، كالأثر والمؤثر . فإذا علم الإنسان - مثلاً - ان ضوء الصباح أثر لطلوع قرص الشمس، ورأى الضوء على الجدار ينتقل ذهنه إلى طلوع الشمس قطعاً، فيكون ضوء الصبح دالاً على الشمس دلالة عقلية . ومثله إذا سمعنا صوت متكلّم من وراء جدار فعلمنا بوجود متكلّم ما .

2 - الدلالة الطبعية: وهي فيما إذا كانت الملازمة بين الشيئين ملازمة طبعية ، أعني التي يقتضيها طبع الإنسان، وقد يتخلف ويختلف باختلاف طباع الناس لا كالأثر بالنسبة إلى المؤثر الذي لا يتخلّف ولا يختلف.

وأمثلة ذلك كثيرة ، فمنها اقتضاء طبع بعض الناس أن يقول : آخ عند الحسّ بالألم، وآه عند التوجع ، واف عند التأسف والضجر. ومنها اقتضاء طبع البعض أن يفرقع أصابعه أو يتمطى عند الضجر والسأم، أو يعبث بما يحمل من أشياء أو بلحيته أو بأنفه أو يضع اصبعه بين أعلى اذنه وحاجبه عند التفكير ، أو يتثأب عند النعاس ..

فإذا علم الإنسان بهذه الملازمات فإنّه ينتقل ذهنه من أحد المتلازمين إلى الآخر ،فعندما يسمع بكلمة آخ ينتقل ذهنه إلى أن متكلّمها يحس بالألم . وإذا رأى شخصاً يعبث

بمسبحته يعلم بانه في حالة تفكير .... وهكذا .

3 - الدلالة الوضعية: وهي فيما إذا كانت الملازمة بين الشيئين تنشأ من التواضع والاصطلاح على أن وجود أحدهما يكون دليلاً على وجود الثاني ، كالخطوط التي اصطلح على أن تكون دليلاً على الألفاظ، وكاشارات الأخرس واشارات البرق واللاسلكي والرموز الحسابية والهندسية ورموز سائر العلوم الأخرى ، والألفاظ التي جعلت دليلاً على

مقاصد النفس.

فاذا علم الإنسان بهذه الملازمة وعلم بوجود الدال ينتقل ذهنه إلى الشيء المدلول.

ص: 36

الدلالة الوضعية :

وهذه الدلالة الوضعية تنقسم إلى قسمين (1)

الف - الدلالة اللفظية: إذا كان الدالّ الموضوع لفظاً .

ب - الدلالة غير اللفظية إذا كان الدال الموضوع غير لفظ كالإشارات والخطوط والنقوش وما يتصل بها من رموز العلوم واللوحات المنصوبة في الطرق لتقدير المسافات

أو لتعيين اتجاه الطريق إلى محل أو بلدة ... ونحو ذلك .

ص: 37


1- انّما قسمنا الوضعية فقط إلى هذين القسمين ، لأن العقلية والطبعية - وان كان الدالّ فيهما قد يكون لا ثمرة في تقسيمهما إلى القسمين لعدم اختصاص كلّ قسم بشيء دون الآخر . وليس كذلك الوضعية لانقسام اللفظية منها إلى أقسامها الثلاثة الآتية دون غير اللفظية. بل كلّ هذا التقسيم للدلالة انّما هو مقدمة لفهم الدلالة الوضعية اللفظيةوأقسامها

ص: 38

الدلالة اللفظية

تعريفها

من البيان السابق نعرف أن السبب في دلالة اللفظ على المعنى هو العلقة الراسخة في الذهن بين اللفظ والمعنى . وتنشأ هذه العلقة كما عرفت - من الملازمة الوضعية بينهما عند من يعلم بالملازمة. وعليه يمكننا تعريف الدلالة اللفظية بأنها :

«هي كون اللفظ بحالة ينشأ من العلم بصدوره من المتكلّم العلم بالمعنى المقصود به» .

أقسامها : المطابقية ، التضمنية ، الإلتزامية

يدل اللفظ على المعنى من ثلاثة أوجه متباينة :

الوجه الأوّل: المطابقة : بأن يدلّ اللفظ على تمام معناه الموضوع له ويطابقه ، كدلالة لفظ الكتاب على تمام معناه ، فيدخل فيه جميع أوراقه وما فيه من نقوش وغلاف، وكدلالة لفظ الإنسان على تمام معناه ، وهو الحيوان الناطق. وتسمّى الدلالة حينئذٍ المطابقية أو التطابقية، لتطابق اللفظ والمعنى .

وهي الدلالة الأصلية في الألفاظ التي لأجلها مباشرة وضعت لمعانيها.

الوجه الثاني: التضمّن : بأن يدلّ اللفظ على جزء معناه الموضوع له الداخل ذلك الجزء في ضمنه ، كدلالة لفظ الكتاب على الورق وحده أو الغلاف. وكدلالة لفظ الإنسان

ص: 39

على الحيوان وحده أو الناطق وحده ... فلو بعت الكتاب يفهم المشترى دخول الغلاف فيه، ولو أردت بعد ذلك أن تستثني الغلاف لاحتج عليك بدلالة الكتاب على دخول الغلاف وتسمى هذه الدلالة التضمنية. وهي فرع عن الدلالة المطابقية، لأن الدلالة على الجزء بعد الدلالة على الكلّ .

الوجه الثالث: الإلتزام بأن يدل اللفظ على معنى خارج عن معناه الموضوع له لازم له يستتبعه استتباع الرفيق اللازم الخارج عن ذاته ، كدلالة لفظ الدواة على القلم . فلو طلب منك أحد أن تأتيه بدواة لم ينص على القلم فجئته بالدواة وحدها لعاتبك على ذلك محتجاً بأنطلب الدواة كاف في الدلالة على طلب القلم . وتسمى هذه الدلالة الالتزامية. وهي فرع أيضاً عن الدلالة المطابقية لان الدلالة على ما هو خارج المعنى بعد الدلالة على نفس المعنى.

شرط الدلالة الالتزامية

يشترط في هذه الدلالة أن يكون التلازم بين معنى اللفظ والمعنى الخارج اللازم تلازماً ذهنياً ، فلا يكفي التلازم في الخارج فقط من دون رسوخه في الذهن وإلا لما حصل

انتقال الذهن .

ويشترط - أيضاً - أن يكون التلازم واضحاً بيناً، بمعنى ان الذهن إذا تصوّر معنى اللفظ ينتقل إلى لازمه بدون حاجة إلى توسط شيء آخر (1).

ص: 40


1- سيأتي في مباحث الكلي انّ اللازم ينقسم إلى إلى البين وغير البين والبين إلى بيّن بالمعنى الأخص وبيّن بالمعنى الأعم. والشرط في الدلالة الالتزامية فى الحقيقة هو أن يكون اللازم بيّناً بالمعنى الأخص . ومعناه ما ذكرناه في المتن

الخلاصة :

الصورة

تمرينات

1 - بيّن أنواع الدلالة فيما يأتي:

ألف - دلالة عقرب الساعة على الوق- ب - دلالة صوت السعال على ألم الصدر.

ج - دلالة قيام الجالسين على احترام القادم

د - دلالة حمرة الوجه على الخجل وصفرته على الوجل .

ه- - دلالة حركة رأس المسؤول إلى الأسفل على الرضا وإلى الأعلى على عدم الرضا.

2 -- اصنع جدولاً للدلالات الثلاث العقلية واختيها وضع في كل قسم ما يدخل فيه م--ن الأمثلة الآتية :

الف - دلالة الصعود على السطح على وجود السلم.

ب - دلالة فقدان حاجتك على أخذ سارق لها .

ج - دلالة الأنين على الشعور بالألم.

ص: 41

د - دلالة كثرة الكلام على الطيش وقلته على الرزانة .

ه دلالة الخط على وجود الكاتب.

و - دلالة سرعة النبض على الحمى.

ز - دلالة صوت المؤذن على دخول وقت الصلاة.

ح - دلالة التبختر في المشي أو تصعير الخدّ على الكبرياء.

ط - دلالة صفير القطار على قرب حركته أو قرب وصوله .

ي - دلالة غليان الماء على بلوغ الحرارة فيه درجة المائة .

3- عيّن أقسام الدلالة اللفظية من أمثلة الآتية :

الف - دلالة لفظ الكلمة على القول المفرد.

ب - دلالة لفظ الكلمة على القول وحده أو المفرد وحده .

ج- دلالة لفظ السقف على الجدار.

د - دلالة لفظ الشجرة على ثمرتها .

ه - دلالة لفظ السيّارة على محرّكها .

و - دلالة لفظ الدار على غرفها .

ز - دلالة لفظ النخلة على الطريق إليها عند بيعها .

4 - إذا اشترى شخص من آخر داراً ونازعا في الطريق إليها فقال المشتري الطريق داخل فی البيع بدلالة لفظ الدار ، فهذه الدلالة المدعاة من أي أقسام الدلالة اللفظية تكون ؟

5 - استأجر رجل عاملاً ليعمل الليل كله ولكن العامل ترك العمل عند الفجر فخاصمه المستأجر مدعياً دلالة لفظ الليل على الوقت من الفجر إلى طلوع الشمس، فمن أي أقسام الدلالة اللفظية ينبغى أن تكون هذه الدلالة المدعاة ؟

6 - لماذا يقولون لا يدلّ لفظ الأسد على بخر الفم دلالة التزامية، كما يدلّ على

الشجاعة ، مع أن البخر لازم للأسد كالشجاعة ؟

ص: 42

تقسيمات الألفاظ

للفظ المستعمل بما له من المعنى عدة تقسيمات عامة لا تختص بلغة دون أخرى، وهي أهم مباحث الألفاظ بعد بحث الدلالة . ونحن ذاكرون هنا أهم تلك التقسيمات ، وهي ثلاثة ، لأن اللفظ المنسوب إلى معناه تارة ينظر اليه فى التقسيم بما هو لفظ واحد ، وأخرى بما هو متعدّد ، وثالثة بما هو لفظ مطلقاً سواء كان واحداً أو متعدّداً.

1-المختص ، المشترك ، المنقول ، المرتجل ، الحقيقة والمجاز

انّ اللفظ الواحد الدالّ على معناه باحدى الدلالات الثلاث المتقدّمة إذا نسب إلى معناه ، فهو على أقسام خمسة ، لأن معناه أما أن يكون واحداً أيضاً ويسمّى «المختص»، وأمّا أن يكون متعدّداً. وما له معنى متعدد أربعة أنواع : مشترك ، ومنقول ، ومرتجل ، وحقيقة ومجاز ، فهذه خمسة أقسام :

1 - المختص وهو اللفظ الذي ليس له إلّا معنى واحد فاختص به مثل حديد وحيوان.

2 - المشترك وهو اللفظ الذي تعدّد معناه وقد وضع للجميع كلّاً على حدة ، ولكن

ص: 43

من دون أن يسبق وضعه لبعضها على وضعه للآخر مثل عين الموضوع لحاسّة النظر وينبوع الماء والذهب وغيرها ومثل الجون الموضوع للأسود والأبيض. والمشترك كثير في اللغة العربية.

3 - المنقول: وهو اللفظ الذي تعدّد معناه وقد وضع للجميع كالمشترك ولكن يفترق عنه بأنّ الوضع لأحدها مسبوق بالوضع للآخر مع ملاحظة المناسبة بين المعنيين فى الوضع اللاحق مثل لفظ الصلاة الموضوع أولاً للدعاء ثم نقل في الشرع الاسلامي لهذه الأفعال المخصوصة من قيام وركوع وسجود ونحوها لمناسبتها للمعنى الأول . ومثل لفظ الحج الموضوع أولاً للقصد مطلقاً ، ثم نقل لقصد مكة المكرمة بالأفعال المخصوصة والوقت المعين ... وهكذا أكثر المنقولات في عرف الشرع وأرباب العلوم والفنون . ومنها لفظ السيارة والطائرة والهاتف والمذياع ونحوها من مصطلحات هذا العصر.

والمنقول ينسب إلى ناقله ؛ فان كان العرف العام قيل له : منقول عرفي كلفظ السيارة

والطائرة . وان كان العرف الخاص كعرف أهل الشرع والمناطقة والنحاة والفلاسفة ونحوهم قيل له : منقول شرعي أو منطقي أو نحوي أو فلسفي ... وهكذا.

4 - المرتجل: وهو كالمنقول بلا فرق إلّا أنّه لم تلحظ فيه المناسبة بين المعنيين، ومنه

أكثر الاعلام الشخصية .

5 - الحقيقة والمجاز: وهو اللفظ الذي تعدّد معناه ، ولكنّه موضوع لأحد المعاني فقط ، واستعمل في غيره لعلاقة ومناسبة بينه وبين المعنى الأوّل الموضوع له من دون أن يبلغ حد الوضع في المعنى الثاني فيسمى حقيقة في المعنى الأول، ومجازاً في الثاني ويقال للمعنى الأوّل معنى حقيقي، وللثاني مجازي.

والمجاز دائماً يحتاج إلى قرينة تصرف اللفظ عن المعنى الحقيقي وتعين المعنى المجازي من بين المعانى المجازية.

ص: 44

تنبيهان

1 - انّ المشترك اللفظي والمجاز لا يصح استعمالهما في الحدود والبراهين إلا مع

نصب القرينة على إرادة المعنى المقصود ومثلهما المنقول والمرتجل ما لم يهجر المعنى الأول ، فإذا هجر كان ذلك وحده قرينة على إرادة الثاني.

على أنه يحسن اجتناب المجاز في الأساليب العلمية حتى مع القرينة.

2 - المنقول ينقسم إلى تعييني ،وتعيّني، لأن النقل تارة يك--ون م--ن ناقل معين باختياره وقصده، كأكثر المنقولات في العلوم والفنون وهو المنقول التعييني أي ان الوضع فيه بتعيين معين . وأخرى لا يكون بنقل ناقل معين باختياره، وأنّما يستعمل جماعة من الناس اللفظ في في غير معناه الحقيقي لا بقصد الوضع له ، ثم يكثر استعمالهم له ويشتهر بينهم حتّى يتغلب المعنى المجازي على اللفظ في أذهانهم فيكون كالمعنى الحقيقي يفهمه السامع منهم بدون القرينة . فيحصل الارتباط الذهني بين نفس اللفظ والمعنى ، فينقلب اللفظ حقيقة في هذا المعنى ؛ وهو المنقول التعيني.

ص: 45

الصورة

تمرينات

1 - هذه الألفاظ المستعملة في هذا الباب وهي لفظ مختص، مشترك ، منقول، إلى

آخره من أي أقسام اللفظ الواحد ؟ أي أنّها مختصة أو مشتركة أو غير ذلك .

2 - اذكر ثلاثة أمثلة لكلّ من أقسام اللفظ الواحد الخمسة.

3 - كيف تميّز بين المشترك والمنقول ؟

4 - هل تعرف لماذا يحتاج المشترك إلى قرينة ؛ وهل يحتاج المنقول إلى القرينة ؟

ص: 46

2-الترادف والتباين

إذا قسنا لفظاً إلى لفظ أو إلى الفاظ، فلا تخرج تلك الألفاظ المتعدّدة عن أحد قسمين:

1 - أما أن تكون موضوعة لمعنى واحد فهى المترادفة ، إذا كان أحد الألفاظ (1). رديفاً للآخر على معنى واحد . مثل : أسد وسبع وليث . هرة وقطة. إنسان وبشر .

فالترادف : «اشتراك الألفاظ المتعدّدة في معنى واحد».

2 - وأمّا أن يكون كلّ واحد منها موضوعاً لمعنى مختص به ، فهي المتباينة، مثل:

کتاب . قلم . سماء . أرض . حيوان . جماد . سيف . صارم ....

فالتباين: «أن تكون معاني الألفاظ متكثّرة بتكثر الألفاظ». والمراد من التباين هنا غير التباين الذي سيأتي في النسب، فان التباين هنا بين الألفاظ باعتبار تعدّد معناها ، وان كانت المعاني تلتقي في بعض افرادها أو جميعها ، فان السيف يباين الصارم، لأن المراد من الصارم خصوص القاطع من السيوف. فهما متباينان معنى وان كانا يلتقيان في [بعض ] الأفراد، إذ أن الصارم سيف. وكذا الإنسان والناطق متباينان معنى ، لأن المفهوم من أحدهما غير المفهوم من الآخر وإن كانا يلتقيان في جميع افرادهما لأن كل ناطق إنسان وكلّ إنسان ناطق.

ص: 47


1- هذا الجمع يشمل اللفظين فصاعداً على نحو الجمع المنطقي. والجمع باصطلاح علماءالمنطق معناه أكثر من واحد . وفي اللغة العربية - كما هو معلوم - معناه أكثر من اثنين . فتنبه إلى هذا الاستعمال

قسمة الألفاظ المتباينة :

المثلان . المتخالفان . المتقابلان

تقدم ان الألفاظ المتباينة هي ما تكثرت معانيها بتكرها ، أى أن معانيها متغايرة.

ولمّا كان التغاير بين المعانى يقع على أقسام ، فان الألفاظ بحسب معانيها أيضاً تنسب لها تلك الأقسام والتغاير على ثلاثة أنواع : التماثل، والتخالف، والتقابل .

لأن المتغايرين أما أن يراعى فيهما اشتراكهما في حقيقة واحدة فهما المثلان واما ألا يراعى ذلك سواء كانا مشتركين بالفعل في حقيقة واحدة أو لم يكونا . وعلى هذا التقدير

الثاني أي تقدير عدم المراعاة ، فإن كانا من المعاني التي لا يمكن اجتماعهما في محل واحد من جهة واحدة في زمان واحد، بأن كان بينهما تنافر وتعاند فهما المتقابلان، والا فهما المتخالفان.

وهذا يحتاج إلى شيء من التوضيح، فنقول :

1 - المثلان هما المشتركان في حقيقة واحدة بما هما مشتركان، أي لوحظ واعتبر

اشتراكهما فيها ، كمحمد وجعفر اسمين لشخصين مشتركين فى الانسانية بما هما مشتركان فيها ، وكالإنسان والفرس باعتبار اشتراكهما في الحيوانية. والا فمحمد وجعفر من حيث خصوصية ذاتيهما مع قطع النظر عما اشتركا فيه هما متخالفان كما سيأتي . وكذا الإنسان والفرس هما متخالفان بما هما إنسان وفرس.

والاشتراك والتماثل ان كان في حقيقة نوعية بأن يكونا فردين من نوع واحد كمحمد وجعفر يخص باسم المثلين أو المتماثلين ولا اسم آخر لهما . وان كان في الجنس كالإنسان والفرس سمّيا أيضاً متجانسين وان كان في الكم أي في المقدار سمّيا أيضاً متساويين، وان كان في الكيف أي في كيفيتهما وهيئتهما سمّيا أيضاً متشابهين. والاسم العام للجميع هو التماثل.

والمثلان أبداً لا يجتمعان ببديهة العقل .

2 - المتخالفان وهما المتغايران من حيث هما متغايران، ولا مانع من اجتماعهما في محل واحد إذا كانا من الصفات مثل الإنسان والفرس بما هما إنسان وفرس لا بما هما

ص: 48

مشتركان فى الحيوانية كما تقدم . كذلك : الماء والهواء النار والتراب، الشمس والقمر ، السماء والأرض.

ومثل السواد والحلاوة الطول والرقة الشجاعة والكرم، البياض والحرارة.

التخالف قد يكون في الشخص مثل محمد وجعفر وان كانا مشتركين نوعاً في الانسانية،

ولكن لم يلحظ هذا الاشتراك . وقد يكون في النوع مثل الإنسان والفرس وان كانا مشتركين في الجنس وهو الحيوان ولكن لم يلحظ الاشتراك . وقد يكون في الجنس، وإن كانا مشتركين في وصفهما العارض عليهما، مثل القطن والثلج المشتركين في وصف الأبيض إلا انه لم يلحظ ذلك .

ومنه يظهر ان مثل محمد وجعفر يصدق عليهما أنّهما متخالفان بالنظر إلى اختلافهما في شخصيهما ويصدق عليهما مثلان بالنظر إلى اشتراكهما وتماثلهما في النوع وهو

الإنسان. وكذا يقال عن الإنسان والفرس هما متخالفان من جهة تغايرهما جهة تغايرهما في الانسانية والفرسية ومثلان باعتبار اشتراكهما في الحيوانية. وهكذا في مثل القطن والثلج، الحيوان والنبات الشجر والحجر .

ويظهر أيضاً انّ التخالف لا يختص بالشيئين اللذين يمكن أن يجتمعا ، فان الأمثلة المذكورة قريباً لا يمكن فيها الاجتماع مع أنّها ليست من المتقابلات - كما سيأتي - ولا من المتماثلات حسب الاصطلاح.

ثم ان التخالف قد يطلق على ما يقابل التماثل فيشمل التقابل أيضاً فيقال للمتقابلين

على هذا الاصطلاح أنّهما متخالفان.

3 - المتقابلان هما المعنيان المتنافران اللذان لا يجتمعان في محل واحد من جهة واحدة في زمان واحد كالإنسان واللاإنسان، والأعمى والبصير ، والابوة والبنوّة، والسواد

والبياض.

فبقيد وحدة المحل دخل مثل التقابل بين السواد والبياض مما يمكن اجتماعهما في

الوجود كبياض القرطاس وسواد الحبر . وبقيد وحدة الجهة دخل مثل التقابل بين الابوة

ص: 49

والبنوّة مما يمكن اجتماعهما في محل واحد من جهتين إذ قد يكون شخص أباً لشخص وابناً لشخص آخر. وبقيد وحدة الزمن دخل مثل التقابل بين الحرارة والبرودة مما يمكن اجتماعهما في محل في زمانين، إذ قد يكون جسم بارداً في زمان ونفسه حاراً في زمان

آخر .

ص: 50

أقسام التقابل

للتقابل أربعة أقسام :

1 - تقابل النقيضين أو السلب والإيجاب ، مثل : إنسان ولا إنسان سواد ولا سواد منير وغير منير .

والنقيضان أمران وجودي وعدمي ، أي عدم لذلك الوجودي، وهما لا يجتمعان ولا يرتفعان ببديهة العقل، ولا واسطة بينهما .

2 - تقابل الملكة وعدمها كالبصر والعمى الزواج والعزوبة. فالبصر ملكة والعمى عدمها . والزواج ملكة والعزوبة عدمها .

ولا يصح أن يحل العمى إلا في موضع يصح فيه البصر، لأن العمى ليس ه--و عدم البصر مطلقاً ، بل عدم البصر الخاص ، وهو عدمه فيمن شأنه أن يكون بصيراً. وكذا العزوبة لا تقال إلا في موضع يصح فيه الزواج ، لا عدم الزواج مطلقاً ، فهما ليسا كالنقيضين لا يرتفعان ولا يجتمعان بل هما يرتفعان، وان كان يمتنع اجتماعهما. فالحجر لا يقال فيه أعمى ولا بصير ، ولا أعزب ولا متزوج، لأن الحجر ليس من شأنه أن يكون بصيراً، ولا من شأنه أن يكون متزوجاً.

اذن الملكة وعدمها : أمران وجودي وعدمي لا يجتمعان ويجوز أن يرتفعا في موضع لا تصح فيه الملكة».

3 - تقابل الضدّين كالحرارة والبرودة، والسواد والبياض، والفضيلة والرذيلة والتهور والجبن والخفة والثقل .

ص: 51

والضدّان: «هما الوجوديان المتعاقبان على موضوع واحد، ولا يتصوّر اجتماعهما

فيه ، ولا يتوقف تعقل احدهما على تعقل الآخر .

ومن كلمة المتعاقبان على موضوع واحد يفهم أنّ الضدّين لابد أن يكونا صفتين

فالذاتان مثل إنسان وفرس لا يسميان بالضدين. وكذا الحيوان والحجر ونحوهما . بل مثل هذه تدخل في المعاني المتخالفة، كما تقدّم.

وبكلمة «لا يتوقف تعقل احدهما على تعقل الآخر يخرج المتضايفان، لأنهما أمران وجوديان أيضاً ولا يتصور اجتماعهما فيه من جهة واحدة، ولكن تعقل احدهما يتوقف على تعقل الآخر. وسيأتي .

4 - تقابل المتضايفين مثل : الأب والابن الفوق والتحت، المتقدم والمتأخر، العلة

والمعلول ، الخالق والمخلوق. وأنت إذا لاحظت هذه الأمثلة تجد :

أولاً: انّك إذا تعقلت أحد المتقابلين منها لابد أن تتعقل معه مقابله الآخر : فاذا تعقلت

ان هذا أب أو علة لابد أن تتعقل معه ان له ابناً أو معلولاً.

ثانياً: أن شيئاً واحداً لا يصح أن يكون موضوعاً للمتضايفين من جهة واحدة، فلا يصح أن يكون شخص أباً وابناً لشخص واحد نعم يكون أباً لشخص وابناً لشخص آخر . وكذا لا يصح أن يكون الشيء فوقاً وتحتاً لنفس ذلك الشيء في وقت واحد . وانما يك--ون فوقاً لشيء هو تحت له ، وتحتاً لشيء آخر هو فوقه ... وهكذا .

ثالثاً: ان المتقابلين في بعض هذه الأمثلة المذكورة أولاً، يجوز أن يرتفعا ، ف--ان واجب الوجود لا فوق ولا تحت ، والحجر لا أب ولا ابن . وإذا اتفق في بعض الأمثلة انّ المتضايفين لا يرتفعان كالعلّة والمعلول، فليس ذلك لأنهما متضايفان، بل لأمر يخصهما. لأن كل شيء موجود لا يخلو اما أن يكون علة أو يكون معلولاً.

وعلى هذا البيان يصح تعريف المتضايفين بأنّهما : «الوجوديان اللذان يتعقلان معاً ولا يجتمعان في موضوع واحد من جهة واحدة ويجوز أن يرتفعا».

ص: 52

الصورة

تمرينات

1 - بين المترادفة والمتباينة من هذه الأمثلة بعد التدقيق في كتب اللغة :

كتاب وسفر مقول ولسان خطيب ومصقع

فرس وصاهل ليل ومساء عين وناظر

شاعر وناظم مصقع وسامع جلوس وقعود

متكلّم ولسن كف ويد قد وقطع

2 - أذكر ثلاثة أمثلة لكلّ من المتخالفة والمتماثلة.

3 - بين أنواع التقابل في الأمثلة الآتية :

الخير والشر، النور والظلمة الحركة والسكون الظلم والعدل الملتحى والأمرد

المنتعل والحافي الصباح والمساء، الدال والمدلول التصوّر والتصديق، العلم والجهل ،

القيام والقعود العالم والمعلوم.

ص: 53

ص: 54

المفرد والمركّب

ينقسم اللفظ مطلقا (غير معتبر فيه أن يكون واحدا أو متعددا إلى قسمين :

ألف - المفرد ويقصد المنطقيون به :

أولاً: اللفظ الذي لا جزء له ، مثل الباء من قولك : كتبت بالقلم و«ق» فعل أمر م--ن :

وقى يقي.

ثانياً: اللفظ الذي له جزء إلا أن جزء اللفظ لا يدلّ على جزء المعنى حين هو جزء له ، مثل : محمد على . قرأ . عبد الله . عبد الحسين . وهذان الأخيران إذا كانا اسمين لشخصين فأنت لا تقصد بجزء اللفظ (عبد) و (الله) و (الحسين) معنى أصلاً ، حينما تجعل مجموع الجزأين دالا على ذات الشخص. وما مثل هذا الجزء إلا كحرف م من محمد و حرف ق من قرأ.

نعم في موضع آخر قد تقول عبد الله وتعنى بعبد معناه المضاف إلى الله تعالى كما

تقول : محمد عبد الله ورسوله. وحينئذ يكون نعتاً لا اسماً ومركباً لا مفرداً. أما لو قلت مع بن عبدالله فعبد الله مفرد هو اسم أب محمد.

أما النحويون فعندهم مثل عبد الله إذا كان اسماً لشخص مركب لا مفرد، لأن الجهة المعتبرة لهم فى هذه التسمية تختلف عن الجهة المعتبرة عند المناطقة . إذ النحوي ينظر إلى الأعراب والبناء، فما كان له اعراب أو بناء واحد فهو مفرد والا فمركب كعبدالله علماً فان عبد له اعراب والله له اعراب . أما المنطقي فانّما ينظر المعنى فقط .

اذن المفرد عند المنطقي هو :

ص: 55

«اللفظ الذي ليس له جزء يدل(1) على جزء معناه حين هو جزء».

ب - المركب ويسمّى القول . وهو اللفظ الذي له جزء يدلّ على جزء معناه حين هو جزء ؛ مثل : الخمر ،مضر، فالجزأن : الخمر، ومضر يدلّ كلّ منهما على جزء معنى المركب ومنه : الغيبة جهد العاجز؛ فالمجموع مركب وجهد العاجز مركّب أيضاً ، ومنه : شرالاخوان من تكلف له؛ فالمجموع مركب ، وشر الاخوان مركب أيضاً، ومن تكالف له مركّب أيضاً...

أقسام المركب

المركب : تام وناقص .

التام : خبر وانشاء .

الف التام والناقص

1 - بعض المركبات للمتكلّم أن يكتفى به في افادة السامع، والسامع لا ينتظر منه اضافة لفظ آخر لاتمام فائدته . مثل : الصبر شجاعة . قيمة كل امرىء ما يحسنه . إذا علمت

فاعمل . فهذا هو المركب التام. ويعرف بأنه : «ما يصح للمتكلم السكوت عليه» .

2 - أمّا إذا قال : قيمة كل امرىء... وسكت ، أو قال : إذا علمت... بغير جواب للشرط ، فان السامع يبقى منتظراً ويجده ناقصاً ، حتى يتم كلامه . فمثل هذا يسمّى المركب الناقص. ويعرف بأنه : ما لا يصح السكوت عليه.

ب - الخبر والانشاء

كل مركب تام له نسبة قائمة بین أجزائه تسمّى النسبة التامة أيضاً ، وهذه النسبة :

1 - قد تكون لها حقيقة ثابتة في ذاتها مع غَضّ النظر عن اللفظ وانّما يكون لفظ

ص: 56


1- ليتنبه الأساتذة انا لم نأخذ في الدلالة قيد القصد كما صنع بعضهم ، لانا نعتقد أن الدلالة لا تحصل بغير القصد . وتعريفنا للدلالة فيما مضى كفيل بالبرهان على ذلك . فمثل : الحيوان الناطق لو جعل علماً لأحد افراد الإنسان لا يدلّ جزؤه على جزء معناه . وهو فمثل : عبد الله لا فرق بينهما

مباحث الألفاظ

المركب حاكياً وكاشفاً عنها . مثلما إذا وقع حادث أو يقع فيما يأتي، فاخبرت عنه ، كمطر السماء، فقلت: مطرت السماء، أو تمطر غداً. فهذا يسمّى الخبر ويسمّى أيضاً القضية والقول. ولا يجب في الخبر أن يكون مطابقاً للنسبة الواقعة : فقد يطابقها فيكون صادقاً، وقد لا يطابقها فيكون كاذبا.

اذن الخبر هو : «المركب التام الذي يصح أن نصفه بالصدق أو الكذب»(1). والخبر هو الذي يهمّ المنطقى أن يبحث عنه ، وهو متعلق التصديق .

1-وقد لا تكون للنسبة التامة حقيقة ثابتة بغض النظر عن اللفظ ، وانّما اللفظ هو الذي يحقق النسبة ويوجدها بقصد المتكلّم، وبعبارة أصرح أن المتكلّم يوجد المعنى بلفظ المركب، فليس وراء الكلام نسبة لها حقيقة ثابتة يطابقها الكلام تارة ولا يطابقها أخرى.

ويسمّى هذا المركب الانشاء، ومن أمثلته :

1 - الأمر نحو احفظ الدرس.

2 - النهى نحو : لا تجالس دعاة السوء.

3 - الاستفهام نحو : هل المريخ مسكون ؟

4 - النداء نحو : يا محمد !

5 - التمنّي نحو : لو ان لناكرّة فنكون من المؤمنين !

6 - التعجب نحو : ما أعظم خطر الإنسان !

7 - - العقد: كانشاء عقد البيع والاجارة والنكاح ونحوها نحو : بعت وآج--رت

وأنكحت و ...

8 - الايقاع : كصيغة الطلاق والعتق والوقف ونحوها نحو : فلانة طالق . وعبدي حر ... وهذه المركبات كلّها ليس لمعانيها حقائق ثابتة في أنفسها - بغض النظر عن اللفظ - تحكى عنها فتطابقها أو لا تطابقها ، وانّما معانيها تنشأ وتوجد باللفظ ، فلا يصح وصفها بالصدق والكذب .

فالانشاء هو : «المركب التام الذي لا يصح أن نصفه بصدق وكذب».

ص: 57


1- ستأتي اضافة كلمة لذاته في تعريف الخبر والإنشاء في بحث القضايا، فراجع

أقسام المفرد

المفرد : كلمة . اسم . أداة .

1 - الكلمة : وهي الفعل باصطلاح النحاة مثل : كتب . يكتب . اكتب . فاذا لاحظنا

هذه الأفعال أو الكلمات الثلاث نجدها :

أولاً: تشترك في مادة لفظية واحدة محفوظة في الجميع هي الكاف فالتاء فالباء

وتشترك أيضاً في معنى واحد هو معنى الكتابة، وهو معنى مستقل في نفسه.

وثانياً: تفترق في هيئاتها اللفظية ، فان لكل منها هيئة تخصها . وتفترق أيضاً في دلالتها على نسبة تامة زمانية تختلف باختلافها ، وهي نسبة ذلك المعنى المستقل المشترك فيها إلى فاعل ما غير معين في زمان معين من الأزمنة فكتب تدل على نسبة الحدث (وهو المعنى المشترك) إلى فاعل ما ، واقعة في زمان مضى. ويكتب على نسبة تجدد الوقوع في الحال أو في الاستقبال إلى فاعلها . واكتب على نسبة طلب الكتابة في الحال من فاعل ما .

ومن هذا البيان نستطيع ان نستنتج ان المادة التى تشترك فيها الكلمات الثلاث تدلّ على المعنى الذي تشترك فيه ، وانّ الهيئة التي تفترق فيها وتختلف تدلّ على المعنى الذي تفترق فيه ويختلف فيها .

وعليه يصح تعريف الكلمة بأنها : «اللفظ المفرد الدال بمادته على معنى مستقل في

نفسه وبهيئته على نسبة ذلك المعنى إلى فاعل لا بعينه نسبة تامة زمانية».

وبقولنا : نسبة تامة تخرج الأسماء المشتقة كإسم الفاعل والمفعول والزمان والمكان ، فإنّها تدل بمادتها على المعنى المستقل وبهيئاتها على نسبة إلى شيء لا بعينه في زمان ما، ولكن النسبة فيها نسبة ناقصة لا تامة .

2 - الاسم : وهو اللفظ المفرد الدال على معنى مستقل في نفسه غير مشتمل على هيئة تدلّ على نسبة تامة زمانية . مثل : محمد إنسان . كاتب . سؤال . نعم قد يشتمل على هيئة تدلّ على نسبة ناقصة كأسماء الفاعل والمفعول والزمان ونحوها كما تقدّم ، لأنها تدلّ على ذات لها هذه المادة .

ص: 58

مباحث الألفاظ

- الاداة : وهي الحرف باصطلاح النحاة . وهو يدل على نسبة بين طرفين . مثل : في الدالة على النسبة الظرفية . وعلى الدالة على النسبة الاستعلائية . وهل الدالة على النسبة

الاستفهامية. والنسبة دائماً غير مستقلة فى نفسها ، لأنّها لا تتحقق إلا بطرفيها.

فالاداة تعرف بأنها: «اللفظ المفرد الدالّ على معنى غير مستقل في نفسه». ملاحظة : الأفعال الناقصة مثل كان وأخواتها في عرف المنطقيين - على التحقيق - تدخل في الأدوات، لأنّها لا تدلّ على معنى مستقل في نفسها لتجرّدها عن الدلالة على الحدث، بل انّما تدلّ على النسبة الزمانية فقط . فلذلك تحتاج إلى جزء يدل على الحدث، نحو : كان محمد قائماً فكلمة قائم هي التي تدلّ عليه . وفي عرف النحاة معدودة من الأفعال وبعض المناطقة يسميها الكلمات الوجودية.

ص: 59

الصورة

تمرينات

1 - ميّز الألفاظ المفردة والمركبة مما يأتي:

مكة المكرّمة تأبط شرّاً صر در

جعفر الصادق امرؤ القيس منتدى النشر

ملك العراق أبو طالب نجف الأشرف

هنيئاً ديك الجن صبراً

2 - ميز المركبات التامة والناقصة والخبر والانشاء ممّا يأتي:

الله أكبر نجمة القطب يا الله

صباح الخير السلام علیکم ماء الفرات

غير المغضوب عليهم لا إله إلا الله زر غبا تزدد حباً

سبحان ربي العظيم وبحمده شاعر وناظم

3 - أذكركم هي الانشاءات والأخبار في سورة القدر.

4 - انّ اللفظ المحذوف دائماً يعتبر كالموجود، فقولنا في العنوان : تمرينات أتعده مفرداً أم مركباً. ولو كان مركباً فماذا تظن: أهو ناقص أم تام ؟

5 - تأمل هل يمكن أن يقع تقابل التضاد بين الأدوات ولماذا ؟

ص: 60

الباب الثاني : مباحث الكلّى

اشارة

ص: 61

ص: 62

الكلّي والجزئي

يدرك الإنسان مفهوم الموجودات التي يحس بها ، مثل : محمد هذا الكتاب هذا

القلم ، هذه الوردة، بغداد ، النجف ... وإذا تأملها يجد كلّ واحد منها لا ينطبق على فرد آخر ولا يصدق إلا على ذلك الموجود وحده. وهذا هو المفهوم الجزئي. ويصح تعريفه بأن--ه : «المفهوم الذي يمتنع صدقه على أكثر من واحد».

ثم ان الإنسان إذا رأى جزئيات متعددة، وقاس بعضها إلى بعض، فوجدها تشترك في صفة واحدة انتزع منها صورة مفهوم شامل ينطبق على كلّ واحد منها . وهذا المفهوم الشامل أو الصورة المنتزعة هو المهفوم الكلي. ويصح تعريفه بأنه: «المفهوم الذي لا

يمتنع صدقه على أكثر من واحد».

مثل مفهوم : إنسان، حيوان، معدن، أبيض ، تفاحة ، حجر، عالم، جاهل جالس في الدار . معترف بذنبه .

تكملة تعريف الجزئي والكلي

لا يجب أن تكون أفراد الكلّي موجودة فعلاً : فقد يتصور العقل مفهوماً كلّياً صالحاً للانطباق على أكثر من واحد من دون أن ينتزعه من جزئيات موجودة بالفعل ، وأنّما يفرض له جزئيات يصح صدقه عليها ، بل قد يمتنع وجود حتى فرد واحد له مثل مفهوم شريك الباري، ومفهوم اجتماع النقيضين. ولا يضر ذلك في كلّيته .

وقد لا يوجد له إلا فرد واحد ويمتنع وجود غيره مثل مفهوم «واجب الوجود»،

ص: 63

لقيام البرهان على ذلك ، ولكن العقل لا يمنع من فرض أفراد لو وجدت لصدق عليها هذا المفهوم . ولو كان مفهوم واجب الوجود جزئياً، لما كانت حاجة إلى البرهان على التوحيد، وكفى نفس تصوّر مفهومه لنفي وقوع الشركة فيه . وعليه فهذا الانحصار في فرد واحد انما جاء من قبل أمر خارج عن نفس المفهوم، لا أن نفس المفهوم يمتنع صدقه على أفراد كثيرة .

إذن ، بمقتضى هذا البيان لابد من اضافة قيد ولو «بالفرض» في تعريفي الجزئي والكلي ، فالجزئي: «مفهوم يمتنع صدقه على كثير ولو بالفرض ، والكلي: «لا يمتنع ... ولو

بالفرض» .

تنبيه : مداليل الأدوات كلّها مفاهيم جزئية، والكلمات أي الأفعال بهيئاتها تدلّ على مفاهيم جزئية، وبموادها على مفاهيم كلّيّة . أما الأسماء فمداليلها تختلف، فقد تكون كلّية كأسماء الأجناس ، وقد تكون جزئية كأسماء الاعلام واسماء الاشارة والضمائر

ونحوها.

الجزئي الاضافي

الجزئي الذي تقدم البحث عنه يسمّى الجزئي الحقيقي. وهنا اصطلاح آخر للجزئي يقال له الجزئي الاضافي، لاضافته إلى ما فوقه، ومع ذلك قد يكون كلياً إذا كان أضيق دائرة من كلّى آخر أوسع منه.

توضيحه : انك تجد ان الخط المستقيم مفهوم كلّي منتزع من عدة أفراد كثيرة ، وتجد أن الخط المنحني أيضاً مفهوم كلي منتزع من مجموعة افراد أخرى ؛ فاذا ضممنا إحدى المجموعتين إلى الأخرى وألغينا ما بينهما من الفروق ، ننتزع مفهوماً كلياً أكثر سعة من المفهومين الأولين يصدق على جميع أفرادهما، وهو مفهوم الخط. فهذا المفهوم الثالث الكبير نسبته إلى المفهومين الصغيرين كنسبة كلّ منهما إلى أفراد نفسه، فكما كان الفرد من الصغير بالاضافة إلى الصغير نفسه جزئياً ، فالكلي الصغير أيضاً بالاضافة إلى الكلي الكبير كالجزئي من جهة النسبة ، فيسمى جزئياً إضافياً لا بالحقيقة لأنّه في نفسه كلّى حقيقة .

ص: 64

وكذا الجزئي الحقيقي من جهة اضافته إلى الكلي الذي فوقه يسمّى جزئياً إضافياً.. وهكذا كلّ مفهوم بالاضافة إلى مفهوم أوسع منه دائرة يسمّى جزئياً إضافياً، فزيد مثلاً جزئي حقيقي في نفسه وجزئي اضافي بالقياس إلى الحيوان، وكذا الحيوان بالقياس إلى الجسم النامي ، والجسم النامي بالقياس إلى مطلق الجسم .

إذن يمكن تعريف الجزئي الاضافي بأنّه الأخص من شيء أو «المفهوم المضاف إلى ما هو أوسع منه دائرة».

المتواطىء والمشكك

ينقسم الكلي إلى المتواطىء والمشكك ، لأنه :

:أولاً: إذا لاحظت كلّياً مثل الإنسان والحيوان والذهب والفضة، وطبقته على أفراده فانّك لا تجد تفاوتاً بين الأفراد في نفس صدق المفهوم عليه : فزيد وعمرو وخالد إلى آخر أفراد الإنسان من ناحية الانسانية سواء، من دون أن تكون انسانية أحدهم أولى من انسانية الآخر ولا اشد ولا أكثر ولا أي تفاوت آخر في هذه الناحية . وإذا كانوا متفاوتين ففي نواحٍ أخرى غير الانسانية ، كالتفاوت بالطول واللون والقوة والصحة والاخلاص وحسنالتفكير... وما إلى ذلك .

وكذا أفراد الحيوان والذهب، ونحوهما ، ومثل هذا الكلي المتوافقة أفراده في مفهومه يسمّى الكلي المتواطىء أي المتوافقة افراده فيه ، والتواطؤ : هو التوافق والتساوي .

ثانياً: إذا لاحظت كلّياً مثل مفهوم البياض والعدد والوجود، وطبقته على أفراده، تجد على العكس من النوع السابق، تفاوتاً بين الافراد في صدق المفهوم عليها بالاشتداد أو الكثرة أو الاولوية أو التقدّم . فترى بياض الثلج أشد بياضاً من بياض القرطاس، وكلّ منهما بياض . وعدد الألف أكثر من عدد المائة، وكلّ منهما عدد . ووجود الخالق أولى من وجود المخلوق، ووجود العلة متقدم على وجود المعلول بنفس وجوده لا بشيء آخر ، وكلّ منهما وجود . وهكذا الكلي المتفاوتة افراده في صدق مفهومه عليها يسمّى الكلي المشكك والتفاوت يسمّى تشكيكاً.

ص: 65

تمرينات

1 - عين الجزئي والكلي من مفاهيم الأسماء الموجودة في الأبيات التالية :

الف - ماكل ما يتمنى المرء يدركه* تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

ب - هذا الذى تعرف البطحاء وطأته *والبيت يعرفه والحل والحرم

ج - نحن بما عندنا وأنت بما* عندك راض والرأى مختلف

2 - بين ما إذا كانت الشمس والقمر والعنقاء والغول والثريا والجدي والأرض من

الجزئيات الحقيقية أو من الكليات، واذكر السبب .

3 - إذا قلت لصديقك : ناولني الكتاب، وكان في يده كتاب ،ما ، فما المفهوم من الكتاب هنا جزئي أم كلّى ؟

4 - إذا قلت لكتبي : بعني كتاب القاموس، فما مدلول كلمة القاموس جزئي أم كلّي :

5- إذا قال البائع : بعتك حقة من هذه الصبرة من الطعام، فما المبيع، جزئي أم كلّى ؟

6 - عيّن المتواطىء والمشكك من الكليات التالية :

العلم ، الكاتب ، القلم ، العدل، السواد ، النبات ، الماء ، النور ، الحياة ، القدرة ، الجمال ، المعدن .

7 - أذكر خمسة أمثلة للجزئي الاضافي، واختر ثلاثة منها من التمرين السابق.

ص: 66

المفهوم والمصداق

المفهوم نفس المعنى بما هو أي نفس الصورة الذهنية المنتزعة من حقائق الأشياء .

والمصداق: ما ينطبق عليه المفهوم، أو حقيقة الشيء الذي تنتزع منه الصورة الذهنية

(المفهوم).

فالصورة الذهنية لمسمى محمد مفهوم جزئي، والشخص الخارجي الحقيقي مصداقه . والصورة الذهنية لمعنى الحيوان مفهوم كلّي، وافراده الموجودة وما يدخل تحته من الكليات كالإنسان والفرس والطير مصاديقه . والصورة الذهنية لمعنى العدم مفهوم كلّي ، وما ينطبق عليه وهو العدم الحقيقي مصداقه ... وهكذا .

لفت نظر: يعرف من المثال الأول انّ المفهوم قد يكون جزئياً كما يكون كلّياً ؛ ويعرف من المثال الثاني أن المصداق يكون جزئياً حقيقياً واضافياً. ويعرف من الثالث أن المصداق لا يجب أن يكون الأمور الموجودة والحقائق العينية ، بل المصداق هو كلّ ما ينطبق عليه المفهوم وان كان أمراً عدميا لا تحقق له في الأعيان .

العنوان والمعنون أو دلالة المفهوم على مصداقه

إذا حكمت على شيء بحكم قد يكون نظرك في الحكم مقصوراً على المفهوم وحده ، بأن يكون هو المقصود في الحكم ، كما تقول : الإنسان حيوان ناطق . فيقال للإنسان حينئذٍ الإنسان بالحمل الأولى.

وقد يتعدى نظرك في الحكم إلى أبعد من ذلك، فتنظر إلى ما وراء المفهوم، بأن

ص: 67

تلاحظ المفهوم لتجعله حاكياً عن مصداقه ودليلاً عليه، كما تقول : الإنسان ضاحك أو الإنسان في خسر، فتشير بمفهوم الإنسان إلى أشخاص أفراده وهي المقصودة في الحكم. وليس ملاحظة المفهوم في الحكم وجعله موضوعاً الا للتوصل إلى الحكم على الأفراد . فيسمى المفهوم حينئذ عنواناً والمصداق معنوناً. ويقال لهذا الإنسان: الإنسان بالحمل الشايع .

ولأجل التفرقة بين النظرين نلاحظ الأمثلة الآتية :

1 - إذا قال النحاة : «الفعل لا يخبر عنه». فقد يعترض عليهم في بادي الرأي، فيقال

لهم : هذا القول منكم اخبار عن الفعل، فكيف تقولون لا يخبر عنه ؟

والجواب : ان الذي وقع في القضية مخبراً عنه، وموضوعاً في القضية هو مفهوم الفعل، ولكن ليس الحكم له بما هو مفهوم، بل جعل عنواناً وحاكياً عن مصاديقه وآلة الملاحظتها، والحكم في الحقيقة راجع للمصاديق نحو : ضرب ويضرب . فالفعل الذي له هذا الحكم حقيقة هو الفعل بالحمل الشايع .

2 - وإذا قال المنطقي : الجزئي يمتنع صدقه على كثيرين»، فقد يعترض فيقال له : الجزئي يصدق على كثيرين ، لأن هذا الكتاب جزئي، ومحمد جزئي وعلي جزئي، ومكة جزئي ، فكيف قلتم يمتنع صدقه على كثيرين ؟

والجواب : مفهوم الجزئي أي الجزئي بالحمل الاولي : كلّي لا جزئي فيصدق على

كثيرين ، ولكن مصداقه أي حقيقة الجزئي يمتنع صدقه على الكثير ، فهذا الحكم بالامتناع للجزئي بالحمل الشائع لا للجزئي بالحمل الأولي الذي هو كلّي .

3- وإذا قال الاصولي : اللفظ المجمل ما كان غير ظاهر المعنى، فقد يعترض فی بادي الرأي فيقال له : إذا كان المجمل غير ظاهر المعنى فكيف جاز تعريفه، والتعريف لا

يكون إلا لما كان ظاهراً معناه ؟

والجواب : مفهوم المجمل أي المجمل بالحمل الاولي مبين ظاهر المعنى لكن

مصداقه أي المجمل بالحمل الشايع كاللفظ المشترك المجرد عن القرينة غير ظاهر المعنى . وهذا التعريف للمجمل بالحمل الشايع .

ص: 68

تمرينات

1 - لو قال القائل : «الحرف لا يخبر عنه فاعترض عليه انه كيف أخبرت عنه ؟

فبماذا تجيب ؟

2 - لو اعترض على قول القائل : العدم لا يخبر عنه أنّه قد اخبرت عنه الآن، فما :

الجواب ؟

3 - لو اعترض على المنطقي بأنه كيف تقول : «انّ الخبر كلام تام يحتمل الصدق والكذب وقولك الخبر جعلته موضوعاً لهذا الخبر ، فهو مفرد لا يحتمل الصدق والكذب.

4 - لو قال لك صاحب علم التفسير : المتشابه محكم وقال الاصولي : «المجمل مبين وقال المنطقي : «الجزئي كلّي» و «الكلي غير موجود بالخارج»، فبماذا تفسر كلامهم ليرتفع هذا التهافت الظاهر .

5 - لو قال القائل: «العلّة والمعلول متضائفان. وكلّ متضائفين يوجدان معاً». وهذا ينتج انّ العلّة والمعلول يوجدان معاً. وهذه النتيجة غلط ،باطل ، لأنّ العلة بالضرورة متقدّمة

على المعلول، فبأي بيان تكشف هذه المغالطة .

ومثله لو قال : الأب والابن متضائفان أو المتقدم والمتأخر متضائفان وكلّ متضائفين

يوجدان معاً.

ص: 69

النسب الأربع

تقدّم في الباب الأوّل انقسام الألفاظ إلى مترادفة ومتباينة . والمقصود بالتباين هناك التباين بحسب المفهوم أي ان معانيها متغايرة . وهنا سنذكر أن من جملة النسب التباين

والمقصود به التباين بحسب المصداق.

فما كنا نصطلح عليه هناك بالمتباينة، هنا نقسم النسبة بينها إلى أربعة أقسام ، وقسم

منها المتباينة لاختلاف الجهة المقصودة في البحثين، فإنّا كنا نتكلم هناك عن تقسيم الألفاظ بالقياس إلى تعدّد المعنى واتحاده.

امّا هنا فالكلام عن النسبة بين المعانى باعتبار اجتماعها في المصداق وعدمه. ولايتصور هذا البحث إلا بين المعاني المتغايرة أي المعاني المتباينة بحسب المفهوم، إذ لا

يتصور فرض النسبة بين المفهوم ونفسه ، فنقول :

كلّ معنى إذا نسب إلى معنى آخر يغايره ويباينه مفهوماً فاما أن يشارك كلّ منهما الآخر في تمام افرادهما، وهما المتساويان. واما أن يشارك كلّ منهما الآخ--ر في بعض أفراده وهما اللذان بينهما نسبة العموم والخصوص من وجه ، واما أن يشارك أحدهما الآخر في جميع افراده دون العكس، وهما اللذان بينهما نسبة العموم والخصوص مطلقاً واما أن لا يشارك احدهما الآخر أبداً، وهما المتباينان فالنسب بين المفاهيم أربع : التساوي، والعموم والخصوص مطلقاً، والعموم والخصوص من وجه والتباين.

1 - نسبة التساوي: وتكون بين المفهومين اللذين يشتركان في تمام أفرادهما ، كالإنسان والضاحك، فان كلّ إنسان ضاحك وكلّ ضاحك إنسان . ونقربهما إلى الفهم

ص: 70

بتشبيههما بالخطين المتساويين اللذين ينطبق احدهما على الآخر تمام الانطباق.ويمكن

وضع نسبة التساوي على هذه الصورة :

ب=ح

باعتبار أن هذه العلامة : « =» علامة على التساوي، كما هي في العلوم الرياضية،

وتقرأ يساوي . وطرفاها «ب ، ح- » حرفان يرمز بهما إلى المفهومين المتساويين.

2 - نسبة العموم والخصوص مطلقاً وتكون بين المفهومين اللذين يصدق - أحدهما على جميع ما يصدق عليه الآخر وعلى غيره، ويقال للأوّل : الأعم مطلقاً، وللثاني الأخص مطلقاً، كالحيوان والإنسان والمعدن والفضة، فكلّ ما صدق عليه الإنسان يصدق

عليه الحيوان، ولا عكس فانّه يصدق الحيوان بدون الإنسان. وكذا الفضة والمعدن .

ونقرّ بهما إلى الفهم بتشبيههما بالخطين غير المتساويين. وانطبق الأكبر منهما على

تمام الأصغر وزاد عليه . ويمكن وضع هذه النسبة على الصورة الآتية :

ب>ح

باعتبار ان هذه العلامة (>) تدل على أن ما قبلها أعم مطلقاً ممّا بعدها وتقرأ أعم مطلقاً من ، كما تقرأ في العلوم الرياضية أكبر من. ويصح أن نقلبها ونضعها على هذه الصورة : ح ب

و تقرأ: أخص مطلقاً من كما تقرأ في العلوم الرياضية : أصغر من، فتدل على أن ما قبلها أخص مطلقاً مما بعدها .

3 - نسبة العموم والخصوص من وجه وتكون بين المفهومين اللذين يجتمعان في بعض مصاديقهما ، ويفترق كلّ منهما عن الآخر في مصاديق تخصّه كالطير والأسود، فانّهما يجتمعان في الغراب لأنه طير واسود، ويفترق الطير عن الأسود في الحمام مثلاً والأسود

عن الطير في الصوف الأسود مثلاً. ويقال لكلّ منهما أعم من وجه وأخص من وجه.

ونقربهما إلى الفهم بتشبيههما بالخطين المتقاطعين هكذا : × يلتقيان في نقطة

ص: 71

مشتركة ويفترق كلّ منهما عن الآخر في نقاط تخصه . ويمكن وضع النسبة على الصورة الآتية :

ب × ح-

أي بين «ب، ح»عموم وخصوص من وجه،

4 - نسبة التبادين: وتكون بين المفهومين اللذين لا يجتمع أحدهما مع الآخر في فرد من الأفراد أبداً. وأمثلته جميع المعاني المتقابلة التي تقدمت في بحث التقابل وكذا بعض المعانى المتخالفة مثل الحجر والحيوان. ونشبههما بالخطين المتوازيين اللذين لا يلتقيان أبداً مهما امتدا . ويمكن وضع التباين على الصورة الآتية :

ب // ح

أي ان ب يابين ح

النسب بين نقيضي الكليين

كلّ كلّيين بينهما إحدى النسب الأربع لابد أن يكون بين نقيضيهما أيضاً نسبة من النسب كما سيأتي . ولتعيين النسبة نحتاج إلى اقامة البرهان. وطريقة البرهان التي نتبعها هنا تعرف بطريقة الاستقصاء أو طريقة الدوران والترديد، وسيأتي ذكرها في مبحث القياس الاستثنائي . وهي أن تفرض جميع الحالات المتصورة للمسألة، ومتى ثبت فسادها جميعا عدا واحدة منها ، فان هذه الواحدة هي التي تنحصر المسألة بها، وتثبت

صحتها.

فلنذكر النسبة بين نقيضي كلّ كلّيين مع البرهان فنقول :

1 - نقيضا المتساويين متساويان أيضاً : أي أنه إذا كان الإنسان يساوي الناطق فان لا إنسان يساوي لا ناطق . وللبرهان على ذلك نقول :

المفروض ان ب = ح

والمدعى أن لاب = لاح

البرهان : لو لم يكن لا ب = لا ح،

ص: 72

73

لكان بينهما إحدى النسب الباقية . وعلى جميع التقادير لابد أن يصدق احدهما بدون الآخر في الجملة .

فلو صدق لاب بدون لاح،

لصدق لاب مع حلأن النقيضين لا يرتفعان

ولازمه إلا يصدق ب مع حلأن النقيضين لا يجتمعان

وهذا خلاف المفروض وهو ب = ح

وعليه فلا يمكن أن يكون بين لاب، ولا حمن النسب الأربع غير التساوي فيجب أن

يكون : لا ب = لاح وهو المطلوب

2 - نقيضا الاعم والأخص مطلقاً بينهما عموم وخصوص مطلقا ولكن على العكس، أي ان نقيض الأعم أخص ونقيض الأخص أعمّ.

فاذا كان ب > ح

كان لاب دلاح

كالإنسان والحيوان ، فان لا إنسان أعم مطلقاً من لا حيوان، لأن لا إنسان يصدق

على كلّ لا حيوان ولا عكس فان الفرس والقرد والطير إلى آخره يصدق عليها لا إنسان

وهي من الحيوانات . وللبرهنة على ذلك نقول :

المفروض ان ب > ح

والمدعى ان لاب د لاح

(البرهان) لو لم يكن لاب دلاح

لكان بينهما إحدى النسب الباقية أو العموم والخصوص مطلقاً بأن يكون نقيض الأعم مطلقاً لا أخص.

فلوكان لاب = لاح

لكان ب = حلان نقيضى المتساويين متساويان وهو خلاف الفرض .

ص: 73

ولو كان بينهما نسبة التباين أو العموم والخصوص من وجه أو أن لاب» أعم مطلقاً،

للزم على جميع الحالات الثلاث أن يصدق :

لاب بدون لاح

ويلزم حينئذ ان يصدق* لاب مع حلأن النقيضين لا يرتفعان

ومعناه ان يصدق ح بدون ب

أي يصدق الأخص بدون الأعم وهو خلاف الفرض

وإذا بطلت الاحتمالات الأربعة تعين أن يكون :

لاب دلاح (وهو المطلوب)

3 - نقيضا الأعم والأخص من وجه متباينان تباينا جزئيا ومعنى «التباين الجزئي»: عدم الاجتماع في بعض الموارد ، مع غض النظر عن الموارد الأخرى سواء كانا يجتمعان فيها أو لا ، فيعم التباين الكلي والعموم والخصوص من وجه . لأن الأعم والأخص من وجه لا يجتمعان في بعض الموارد قطعا . وكذا يصح في المتباينين تبايناً كليا أن يقال انهما لا يجتمعان في بعض الموارد.

فاذا قلنا : ان بين نقيضي الأعم والأخص من وجه تبايناً جزئياً، فالمقصود به انهما في بعض الأمثلة قد يكونان متباينين تباينا كليا ، وفي البعض الآخر قد يكون بينهما عموم وخصوص من وجه . والأول مثل الحيوان واللاإنسان، فان بينهما عموما وخصوصا من

وجه لانهما يجتمعان في الفرس ويفترق الحيوان عن اللاإنسان في الإنسان ويفترق

، اللاإنسان عن الحيوان في الحجر ، ولكن بين نقيضيهما تباينا كليا فان اللاحيوان يباين الإنسان كليا . والثاني مثل الطير والأسود فان نقيضيهما لا طير ولا أسود بينهما عموم وخصوص من وجه أيضاً ، لأنهما يجتمعان في القرطاس ويفترق لا طير في الثوب الأسود ويفترق لا اسود في الحمام الأبيض.

والجامع بين العموم والخصوص من وجه وبين التباين الكلي هو التباين الجزئي.

ص: 74

وللبرهنة على ذلك نقول :

المفروض أن ب ا ×ح

والمدعى أن لاب يباين لاح تبايناً جزئياً

البرهان : لولم يكن لاب يباين لاح تبايناً جزئياً، لكان بينهما إحدى النسب الأربع بالخصوص.

1 - فلو كان لا ب =لا ب

للزم ان يكون لاب لا ب = لاح لأن نقيضى المتساويين متساويان وهذا خلاف

الفرض .

2 - ولو كان لاب دلاح

لكان ب> ح لأن نقيض الأعم اخص وهذا أيضاً خلاف الفرض.

3- ولو كان لاب X لا ح فقط

لكان ذلك دائماً مع انه قد يكون بينهما تباين كلّي كما تقدم في مثال لا حيوان وإنسان.

4 - ولو كان لاب // لا ح فقط

لكان ذلك دائماً أيضاً مع أنه قد يكون بينهما عموم وخصوص من وجه كما تقدم في

مثال لا طير ولا أسود.

وعلى هذا تعين أن يكون لاب» يباين (لاح تباينا جزئيا وهو المطلوب.

4 - نقيضا المتباينين متباينان تباينا جزئياً أيضاً. والبرهان عليه كالبرهان السابق بلا تغيير إلا في المثال لأنا نرى أن بينهما في بعض الأمثلة تباينا كلياً، كالموجود والمعدوم، ونقيضاهما اللاموجود واللامعدوم، وفي البعض الآخر عموما وخصوصاً من وجه كالإنسان والحجر ، ونقيضاهما لا إنسان ولا حجر ، وبينهما عموم وخصوص من وجه ، لأنهما يجتمعان في الفرس مثلا ويفترق كلّ منهما عن الآخر في عين الآخر،

فاللا إنسان يفترق عن اللاحجر في الحجر واللاحجر عن اللاإنسان في الإنسان .

ص: 75

خلاصة :

النسبة بين المفهومين : النسبة بين نقيضيهما :

1 - التساوى التساوي

2 - العموم والخصوص من وجه التباين الجزئي

3 - التباين الكلى التباين الجزئي

4 - العموم والخصوص مطلقا العموم والخصوص مطلقا بالعك

ص: 76

تمرينات

الف - بيّن ماذا بين الأمثلة الآتية من النسب الأربع وماذا بين نقيضيهما :

1 - الكاتب والقارىء

2 - الشاعر والكاتب

3 - الشجاع والكريم

4 - السيف والصارم

5 - المايع والماء

6 - المشترك والمترادف

7 - السواد والحلاوة

8- الأسود والحلو

9 - النائم والجالس

10 - اللفظ والكلام

ب - اشرح البراهين على كلّ واحدة من النسب بين نقيضي الكليين بعبارة واضحة

مع عدم استعمال الرموز والاشارات.

ج - أذكر مثالين من غير ما مر عليك لكل من النسب الأربع.

ص: 77

الكليات الخمسة

الكلي: ذاتي وعرضي

الذاتي :نوع وجنس وفصل .

العرضى : خاصة وعرض عام.

• قد يسأل سائل عن شخص إنسان من هو ؟

• وقد يسأل عنه ... ما هو ؟

فهل تجد فرقا بين السؤالين ؟ لا شك ان الاول سؤال عن مميزاته الشخصية والجواب عنه : ابن فلان، أو مؤلف كتاب كذا، أو صاحب العمل الكذائي، أو ذو الصفة الكذائية ... وأمثال ذلك من الأجوبة المقصود بها تعيين المسؤول عنه من بين الأشخاص أمثاله . ويغلط المجيب لو قال : إنسان لأنه لا يميزه عن أمثاله من أفراد الإنسان. ويصطلح في هذا العصر على الجواب عن هذا السؤال ب- « الهوية الشخصية» مأخوذة من كلمة هو،

كالمعلومات التي تسجل عن الشخص في دفتر النفوس . .

أما السؤال الثاني، فانّما يسأل به عن حقيقة الشخص التي يتفق بها مع الأشخاص الآخرين امثاله ، والمقصود بالسؤال تعيين تمام حقيقته بين الحقائق لا شخصه بين الأشخاص. ولا يصلح للجواب الاكمال حقيقته فتقول : إنسان دون ابن فلان ونحوه .

ويسمّى الجواب عن هذا السؤال :

ص: 78

النوع

وهو أول الكليات الخمسة وسيأتي قريبا تعريفه .

وقد يسأل السائل عن زيد وعمرو وخالد وهذا الفرس وهذا الأسد ماهي . فهل تجد فرقا بين السؤالين ؟ - تأمل فيهما ، فستجد ان الأول سؤال عن حقيقة جزئيات متفقة بالحقيقة مختلفة بالعدد والثاني سؤال عن حقيقة جزئيات مختلفة بالحقيقة والعدد.

والجواب عن الأول بكمال الحقيقة المشتركة بينها فتقول : إنسان . وهو النوع المتقدم ذكره .

وعن الثاني أيضاً بكمال الحقيقة المشتركة بينها، فتقول : حيوان ويسمّى :

الجنس

وهو ثاني الكليات الخمسة. وعليه يمكن تعريفهما بما يأتي:

1 - النوع هو تمام الحقيقة المشتركة بين الجزئيات المتكثرة بالعدد فقط فى جواب ما هو؟

2 - الجنس هو تمام الحقيقة المشتركة بين الجزئيات المتكثرة بالحقيقة في جواب ما هو؟

وإذا تكثرت الجزئيات بالحقيقة فلابد أن تتكثر بالعدد قطعاً.

وقد يسأل السائل عن الإنسان والفرس ... والقرد ما هي؟

وقد يسأل السائل عن الإنسان فقط ... ما هو ؟

لاحظ ان الكليات هى المسؤول عنها هذه المرّة ! فماذا ترى ينبغي ان يكون الجواب عن كلّ من السؤالين ؟ - نقول : اما الاول فهو سؤال عن كلّيات مختلفة الحقائق، فيجاب عنه

ص: 79

بتمام الحقيقة المشتركة بينها ، وهو الجنس فتقول في المثال : حيوان . ومنه يعرف أنّ الجنس يقع أيضاً جواباً عن السؤال بما هو عن الكليات المختلفة بالحقائق التي تكون أنواعا له ، كما يقع جوابا عن السؤال بما هو عن الجزئيات المختلفة بالحقائق .

وأمّا الثاني فهو سؤال بما هو عن كلّي واحد . وحق الجواب الصحيح الكامل أن نقول فی

المثال : حيوان ناطق، فيتكفل الجواب بتفصيل ماهية الكلى المسؤول عنه وتحليلها

إلى تمام الحقيقة التي يشاركه فيها غيره وإلى الخصوصية التي بها يمتاز عن مشاركاته في تلك الحقيقة . ويسمّى مجموع الجواب الحد التام كما سيأتي في محله . وتمام الحقيقة المشتركة التى هى الجزء الأوّل من الجواب هي الجنس وقد تقدم. والخصوصية المميزة التي هي الجزء الثاني من الجواب هي :

الفصل

وهو ثالث الكليات ومن هذا يتضح ان الفصل جزء من مفهوم الماهية ، ولكنّه الجزء المختص بها الذي يميزها عن جميع ما عداها ، كما ان الجنس جزؤها المشترك الذي أيضاً يكون جزءاً للماهيات الأخرى.

ويبقى شيء ينبغي ذكره، وهو أنا كيف نسأل ليقع الفصل وحده جواباً ؟ وبعبارة أوضح ان الفصل وحده يقع في الجواب عن أي سؤال ؟ نقول : يقع الفصل جواباً عما إذا سألنا عن خصوصية الماهية التي بها تمتاز ع--ن اغيارها ، بعد أن نعرف تمام الحقيقة المشتركة بينها وبين اغيارها . فاذا رأينا شبحا من بعيد وعرفنا انه حيوان وجهلنا خصوصيته فبطبيعتنا نسأل فنقول: «أي حيوان هو في ذاته». ولو عرفنا انه جسم فقط لقلنا : «أي جسم هو في ذاته» . وان شئت قلت بدل في ذاته : في جوهره أو حقيقته ، فان المعنى واحد . والجواب عن الأول ناطق فقط وهو فصل الإنسان أو صاهل وهو فصل الفرس. وعن الثاني حساس مثلاً وهو فصل الحيوان .

إذن يصح أن نقول ان الفصل يقع في جواب أي شيء . وشيء كناية عن الجنس الذي

ص: 80

81 ..

عرف قبل السؤال عن الفصل . وعليه يصح تعريف الفصل بما يأتي :

« هو جزء الماهية المختص بها الواقع في جواب أي شيء هو في ذاته».

تقسيمات

1 - النوع : حقيقي واضافي

2 - الجنس : قريب وبعيد ومتوسط .

3- النوع الإضافي : عال وسافل ومتوسط .

4 - الفصل : قريب وبعيد . مقوّم ومقسّم .

1 - لفظ النوع مشترك بين معنيين احدهما الحقيقي، ، وهو أحد الكليات الخمسة ، وهو وقد تقدم . وثانيهما الاضافي، والمقصود به الكلّي الذي فوقه جنس . فهو نوع بالاضافة إلى الجنس الذي فوقه سواء كان نوعاً حقيقياً أو لم يكن ، كالإنسان بالاضافة إلى جنسه وه--و الحيوان ، وكالحيوان بالاضافة إلى جنسه وهو الجسم النامي ، وكالجسم النامي بالاضافة إلى الجسم المطلق ، وكالجسم المطلق بالاضافة إلى الجوهر .

2 - قد تتألف سلسلة من الكليات يندرج بعضها تحت بعض كالسلسلة المتقدمة التي تبتدىء بالإنسان وتنتهي بالجوهر . فاذا ذهبت بها متصاعداً من الإنسان، فمبدؤها النوع و وهو الإنسان في المثال ، وبعده الجنس الأدنى الذي هو مبدأ سلسلة الأجناس. ويسمّى : الجنس القريب، لأنه أقربها إلى النوع ويسمّى أيضاً الجنس السافل. وهو الحيوان في المثال .

ثم هذا الجنس فوقه جنس، فوقه جنس أعلى ... حتى تنتهي إلى الجنس الذي ليس فوقه جنس . ويسمّى الجنس البعيد والجنس العالي وجنس الأجناس وهو الجوهر في المثال . أما ما بين السافل والعالى فيسمى : الجنس المتوسط. ويسمّى بعيداً أيضاً كالجسم المطلق والجسم النامي . فالجنس - على هذا - قريب وبعيد ومتوسط أو سافل وعال ومتوسط.

ص: 81

3 - وإذا ذهبت في السلسلة متنازلاً مبتدئاً من جنس الأجناس إلى ما دونه، حتى تنتهي إلى النوع الذي ليس تحته نوع فما كان بعد جنس الأجناس يسمّى النوع العالي، وهو مبدأ سلسلة الأنواع الاضافية، وهو الجسم المطلق في المثال . وأخيرها أي منتهى السلسلة يسمّى نوع الأنواع أو النوع السافل وهو الإنسان في المثال . اما ما يقع بين العالي والسافل فهو المتوسط ، كالحيوان والجسم النامي . فالجسم النامي جنس متوسط ونوع متوسط.

إذن النوع الاضافي عال ومتوسط وسافل.

تنبيه: يتضح مما سبق أن كلا من المتوسطات لابد أن يكون نوعاً لما فوقه وجنساً لما تحته . والمتوسط النوع والجنس قد يكون واحدا إذا تألفت سلسلة الكليات من أربعة ، وقد يكون أكثر إذا كانت السلسلة أكثر من أربعة .

فمثال الأول : الماء المندرج تحت السائل المندرج تحت الجسم المندرج تحت الجوهر. أو البياض المندرج تحت اللون المندرج تحت الكيف المحسوس المندرج تحت الكيف.

ومثال الثانى : : سلسلة الإنسان إلى الجوهر المؤلفة من خمسة كليات كما تقدم. أو

متساوي الساقين المندرج تحت المثلث المندرج تحت الشكل المستقيم الاضلاع المندرج تحت الشكل المستوي المندرج تحت الشكل المندرج تحت الكم. وهذه السلسلة مؤلفة من ستة كليات، والأنواع المتوسطة ثلاثة : المثلث، والشكل المستقيم الاضلاع والشكل المستوي والأجناس المتوسطة ثلاثة أيضاً : الشكل المستقيم الاضلاع والشكل المستوي، والشكل.

4 - وكلّ نوع اضافي لابد له من فصل يكون جزءاً من ماهيته يقومها ويميزها عن الأنواع الأخر التي في عرضه المشتركة معه في الجنس الذي فوقه، كما يقسم الجنس إلى قسمين أحدهما نوع ذلك الفصل وثانيهما ماعداه ، كالحساس المقوم للحيوان والمقسم للجسم النامي إلى حيوان وغير حيوان فيقال : الجسم النامي حساس وغير حساس.

ص: 82

ولكن الفصل الذي يقوم نوعه المساوي له لابد أن يقوم أيضاً ما تحته من الأنواع. فالحساس المقوم للحيوان يقوم الإنسان وغيره من أنواع الحيوان أيضاً لأنّ الفصل للعالي لابد أن يكون جزءا من العالي والعالي جزء من السافل ، وجزء الجزء جزء. فيكون الفصل المقوم للعالي جزءا من السافل ، فيقومه.

والقاعدة العامّة أن نقول : «مقوّم العالى مقوّم السافل ، ولا عكس.

والفصل أيضاً إذا لوحظ بالقياس إلى نوعه المساوي له قيل له الفصل القريب كالحسّاس بالقياس إلى الحيوان والناطق بالقياس إلى الإنسان. وإذا لوحظ بالقياس إلى النوع الذي تحت نوعه قيل له الفصل ،البعيد، كالحساس بالقياس إلى الإنسان.

والخلاصة: انّ الفصل الواحد يسمّى قريباً وبعيداً باعتبارين . ويسمّى مقوّماً ومقسماً

باعتبارين.

الذاتي والعرضي

للذاتي والعرضي اصطلاحات في المنطق تختلف معانيها. ولا يهمنا الان التعرض إلا لاصطلاحهم في هذا الباب، وهو الذي يسمونه بكتاب ايساغوجي أي كتاب الكليات الخمسة، حسب وضع مؤسس المنطق الحكيم ارسطو. وكان علينا أن نتعرض لهذا الاصطلاح في أول بحث الكليات الخمسة ، لولا انا اردنا ايضاح المعنى المقصود منه بتقديم شرح الكليات الثلاثة المتقدمة، فنقول :

1 - الذاتي هو المحمول الذي تتقوم ذات الموضوع به غير خارج عنها . ونعني بما تتقوم ذات الموضوع به ان ماهية الموضوع لا تتحقق إلا به فهو قوامها، سواء كان هو نفس الماهية كالإنسان " حمول على زيد وعمرو، أو كان جزءاً منها كالحيوان المحمول على الإنسان أو الناطق المحمول عليه ، فان نفس الماهية أو جزأها يسمّى ذاتياً.

وعليه فالذاتي يعم النوع والجنس والفصل، لأنّ النوع نفس الماهية الداخلة في ذات الافراد والجنس والفصل جز آن داخلان في ذاتها .

ص: 83

2 - العرضي: هو المحمول الخارج عن ذات الموضوع لاحقا له بعد تقومه بجميع ذاتياته ، كالضاحك اللاحق للإنسان، والماشى اللاحق للحيوان، والمتحيز اللاحق للجسم . وعندما يتضح هذا الاصطلاح ندخل الآن في بحث باقي الكليات الخمسة ، وقد بقي

منها أقسام العرضي ، فان العرضي ينقسم إلى :

الخاصة والعرض العام

لأن العرضي اما ان يختص بموضوعه الذي حمل عليه أي لا يعرض لغيره ، فهو الخاصة سواء كانت مساوية لموضوعها كالضاحك بالنسبة إلى الإنسان، أو كانت مختصة ببعض افراده كالشاعر والخطيب والمجتهد العارضة على بعض أفراد الإنسان، وسواء كانت خاصة للنوع الحقيقي كالأمثلة السابقة، أو للجنس المتوسط كالمتحيز خاصة الجسم، والماشي خاصة الحيوان، أو لجنس الأجناس، كالموجود لا في موضوع خاصة الجوهر . وإما أن يعرض لغير موضوعه أيضاً أي لا يختص به فهو العرض الع--ام كالماشي بالقياس إلى الإنسان، والطائر بالقياس إلى الغراب والمتحيز بالقياس إلى الحيوان، أو بالقياس إلى الجسم النامي .

وعليه، يمكن تعريف الخاصة والعرض العام بما يأتي :

الخاصة الكلي الخارج المحمول الخاص بموضوعه.

العرض العام : الكلي الخارج المحمول على موضوعه وغيره .

تنبيهات وتوضيحات

1 - قد يكون الشيء الواحد خاصة بالقياس إلى موضوع وعرضا عاما بالقياس إلى آخر ، كالماشي ، فانه خاصة للحيوان وعرض عام للإنسان. ومثله ، الموجود لا في ،موضوع، والمتحيّز ، ونحوها، مما يعرض الأجناس.

2 - وقد يكون الشيء الواحد عرضيا بالقياس إلى موضوع، وذاتيا بالقياس إلى

ص: 84

آخر ، كالملون، فانه خاصة الجسم مع انه جنس للأبيض والأسود ونحوهما. ومثله مفرق البصر. فانه عرضي بالقیاس إلى الجسم مع أنّه فصل للأبيض، لأن الأبيض ملون مفرق البصر.

3 - كلّ من الخاصة والفصل قد يكون مفردا وقد يكون مركبا. مثال المفرد منهما

الضاحك والناطق . ومثال المركب من الخاصة قولنا للإنسان : منتصب القامة باديء

البشرة». ومثال المركب من الفصل قولنا للحيوان: «حساس متحرك بالارادة».

الصنف

4 - تقدم انّ الفصل يقوم النوع ويميزه عن أنواع جنسه أي يقسم ذلك الجنس، أو فقل ينوع الجنس . أما الخاصة فانها لا تقوم الكلي الذي تختص به قطعا، إلّا أنّها تميزه عن غيره، أي انها تقسم ما فوق ذلك الكلي. فهي كالفصل من هذه الناحية في كونها تقسم الجنس، وتزيد عليه بأنها تقسم العرض العام أيضاً كالموجود لا في موضوع الذي يقسم الموجود إلى جوهر وغير جوهر .

وتزيد عليه أيضاً بأنها تقسم كذلك النوع ، وذلك عندما تختص ببعض أفراد النوع

كما تقدم، كالشاعر المقسم للإنسان . وهذا التقسيم للنوع يسمّى في اصطلاح المنطقيين تصنيفا، وكلّ قسم من النوع يسمّى صنفاً.

فالصنف : كلّ كلّي اخص من النوع ويشترك مع باقي اصناف النوع في تمام حقيقتها ،

ويمتاز عنها بأمر عارض خارج عن الحقيقة.

والتصنيف كالتنويع ، إلا انّ التنويع للجنس باعتبار الفصول الداخلة في حقيقة الأقسام. والتصنيف للنوع باعتبار الخواص الخارجة عن حقيقة الأقسام كتصنيف الإنسان إلى شرقي وغربي ، وإلى عالم وجاهل، وإلى ذكر وانثى ... وكتصنيف الفرس إلى اصيل وهجين وتصنيف النخل إلى زهدي وبربن وعمراني ... إلى ما شاء الله من التقسيمات للأنواع باعتبار أمور عارضة خارجة عن حقيقتها.

ص: 85

الحمل وأنواعه

اشارة

5 - وصفنا كلا من الكليات الخمسة بالمحمول وأشرنا إلى ان الكلي المحمول ينقسم إلى الذاتي والعرضي. وهذا أمر يحتاج إلى التوضيح والبيان.

لأن سائلا قد يسأل فيقول : انّ النوع قد يحمل على الجنس ، كما يقال مثلاً : الحيوان إنسان وفرس وجمل ... إلى آخره، مع ان الإنسان بالقياس إلى الحيوان ليس ذاتياً له، لأنه ليس تمام الحقيقة ولا جزأها ، ولا عرضيا خارجا عنه . افهناك واسطة بين الذاتي والعرضي أم ماذا ؟

وقد يسأل - ثانياً - فيقول : انّ الحدّ التامّ يحمل على النوع والجنس، كما يقال : الإنسان حيوان ناطق والحيوان، جسم نام حساس متحرك بالارادة. وعليه فالحدّ التام كلّي محمول ، وهو تمام حقيقة موضوعه، مع انه ليس نوعاً له ولا جنسا ولا فصلا، فينبغي أن يجعل للذاتي قسما رابعا . بل لا ينبغي تسميته بالذاتي لأنه هو نفس الذات والشيء لا ينسب إلى نفسه، ولا بالعرضي لأنه ليس بخارج عن موضوعه، فيجب أن يكون واسطة بين الذاتي والعرضي.

وقد يسأل - ثالثاً - فيقول : ان المنطقيين يقولون ان الضحك خاصة الإنسان والمشي عرض عام له مثلاً، مع انّ الضحك والمشي لا يحملان على الإنسان، فلا يقال الإنسان ضحك ، وقد ذكر تم ان الكليات كلّها محمولات على موضوعاتها، فما السر في ذلك . ولكن هذا السائل إذا اتضح له المقصود من الحمل ينقطع لديه الكلام فان الحمل له

ثلاثة تقسيمات. والمراد منه هنا بعض أقسامه في كلّ من التقسيمات فنقول :

1 - الحمل طبعي ووضعي

اعلم ان كلّ محمول فهو كلّي حقيقي، لأن الجزئي الحقيقي بما هو جزئي لا يحمل على غيره . وكلّ كلّي أعم بحسب المفهوم فهو محمول بالطبع على ما هو أخص منه مفهوما ، كحمل الحيوان على الإنسان والإنسان على محمد بل وحمل الناطق على الإنسان.

ص: 86

ويسمّى مثل هذا حملاً طبعياً أي اقتضاه الطبع ولا يأباه .

وأمّا العكس، وهو حمل الأخص مفهوماً على الأعم، فليس هو حملاً طبعياً، ب--ل بالوضع ،والجعل لأنّه يأباه الطبع ولا يقبله فلذلك يسمّى حملاً وضعياً أو جعلياً.

ومرادهم بالأعم بحسب المفهوم غير الأعم بحسب المصداق الذي تقدم الكلام عليه في النسب : فان الأعم قد يراد منه الأعم باعتبار وجوده في أفراد الأخ--ص وغير اف--راده كالحيوان بالقياس إلى الإنسان وهو المعدود في النسب . وقد يراد منه الأعم باعتبار المفهوم فقط وان كان مساويا بحسب الوجود، كالناطق بالقياس إلى الإنسان، فان مفهومه أنّه شيء ما له النطق من غير التفات إلى كون ذلك الشيء انساناً أو لم يكن ، وانما يستفاد كون الناطق انسانا دائماً من خارج المفهوم.

فالناطق بحسب المفهوم أعم من الإنسان وكذلك الضاحك ، وان كانا بحسب الوجود مساويين له ... وهكذا جميع المشتقات لا تدلّ على خصوصية ما تقال عليه كالصاهل

بالقياس إلى الفرس الباغم للغزال والصادح للبلبل والماشي للحيوان .

وإذا اتضح ذلك يظهر الجواب عن السؤال الأول، لأن المقصود من المحمول في الكليات الخمسة المحمول بالطبع لا مطلقا .

2 - الحمل ذاتي أولي ، وشائع صناعي

واعلم ان معنى الحمل هو الاتحاد بين شيئين، لأن معناه ان هذا ذاك . وهذا المعنى

كما يتطلب الاتحاد بين الشيئين يستدعي الشيئين يستدعى المغايرة بينهما ، ليكونا حسب الغرض شيئين .ولولاها لم يكن إلا شيء واحد لا شيئان .

وعليه ، لابدّ في الحمل من الاتحاد من جهة والتغاير من جهة أخرى، كيما يصح

الحمل . ولذا لا يصح الحمل بين المتباينين إذ لا اتحاد بينهما . ولا يصح حمل الشيء على نفسه ، إذا الشيء لا يغاير نفسه .

ثم انّ هذا الاتحاد امّا أن يكون فى المفهوم ، فالمغايرة لابد أن تكون اعتبارية .

ص: 87

ويقصد بالحمل حينئذ ان مفهوم الموضوع هو بعينه نفس مفهوم المحمول وماهيته، بعد ان يلحظا متغايرين بجهة من الجهات . مثل قولنا : الإنسان حيوان ناطق، فان مفهوم الإنسان ومفهوم حيوان ناطق واحد إلا ان التغاير بينهما بالاجمال والتفصيل، وهذا النوع من الحمل يستى حملا ذاتياً أولياً.

واما ان يكون الاتحاد في الوجود والمصداق ، والمغايرة بحسب المفهوم . ويرجع الحمل حينئذٍ إلى كون الموضوع من افراد مفهوم المحمول ومصاديقه . مثل قولنا : الإنسان حيوان، فان مفهوم إنسان غير مفهوم حيوان ، ولكن كلّ ما صدق عليه الإنسان صدق عليه الحيوان . وهذا النوع من الحمل يسمّى الحمل الشائع الصناعي أو الحمل المتعارف، لأنه هو الشائع في الاستعمال المتعارف في صناعة العلوم.

وإذا اتضح هذا البيان يظهر الجواب عن السؤال الثاني أيضاً، لأن المقصود من المحمول في باب الكليات هو المحمول بالحمل الشائع الصناعي . وحمل الحد التام من الحمل الذاتي الاولى.

3 - الحمل مواطاة واشتقاق

إذا قلنا : الإنسان ضاحك ، فمثل هذا الحمل يسمّى حمل مواطاة أو حمل هوهو ومعناه ان ذات الموضوع نفس المحمول. وإذا شئت فقل معناه : هذا ذاك . والمواطاة معناها

. وجميع الكليات الخمسة يحمل بعضها على بعض وعلى أفرادها بهذا الحمل.

الاتفاق . وجميع وعندهم نوع آخر من الحمل يسمّى حمل اشتقاق أو حمل ذو هو ، كحمل الضحك على الإنسان، فانّه لا يصح أن تقول الإنسان ضحك ، بل ضاحك أو ذو ضحك . وسمّي حمل اشتقاق وذو هو ، لأن هذا المحمول بدون أن يشتق منه اسم كالضاحك أو يضاف إليه ذو لايصح حمله على موضوعه، فيقال للمشتق كالضاحك محمولا بالمواطاة، وللمشتق منه كالضحك محمولا بالاشتقاق .

والمقصود بيانه ان المحمول بالاشتقاق كالضحك والمشي والحس لا يدخل في

ص: 88

أقسام الكليات الخمسة فلا يصح أن يقال : الضحك خاصة للإنسان ، ولا اللون خاصة للجسم ، ولا الحس فصل للحيوان بل الضاحك والملون هو الخاصة، والحساس هو الفصل ... وهكذا . وإذا وقع في كلمات القوم شيء من هذا القبيل فمن التساهل في التعبير الذي قد يشوش افكار المبتدئين ، إذ ترى بعضهم يعبر بالضحك ويريد منه الضاحك . وبهذا يظهر الجواب عن السؤال الثالث .

نعم اللون بالقياس إلى البياض كلّى وهو جنس له، لأنّك تحمله عليه حمل مواطاة ، فتقول : البياض لون . أما اللون والبياض بالقياس إلى الجسم فليسا من الكليات المحمولة عليه.

العروض معناه الحمل

6 - ثم لا يشتبه عليك الأمر، فتقول : انّكم قلتم : الكلى الخارج أن عرض على موضوعه فقط فهو الخاصة وإلا فالعرض العام. والضحك لا شك يعرض على الإنسان و مختص به فاذن يجب أن يكون خاصة .

فانا نرفع هذا الاشتباه ببيان العروض المقصود به في الباب، فان المراد منه هو الحمل حملاً عرضياً لا ذاتياً . وعليه فالضحك لا يعرض على الإنسان بهذا المعنى . وإذا قيل يعرض على الإنسان فبمعنى آخر للعروض وهو الوجود فيه .

عندهم تعبير آخر يسبب الاشتباه، وهو قولهم الكلي الخارج عرض خاص وعرض عام ، فيطلقون العرض على الكلى الخارج، ثم يقولون لمثل الضحك أنّه عرض . والمقصود بالعرض في التعبير الأوّل هو العرضي مقابل الذاتي ، والمقصود بالعرض في الثاني هو الموجود في الموضوع مقابل الجوهر الموجود لا في موضوع.

ومثل اللون يسمّى عرضا بالمعنى الثاني لأنّه موجود في موضوع، ولكن لا يصح أن يسمّى عرضا بالمعنى الأوّل أبداً، لأنه بالقياس إلى الجسم لا يحمل عليه حمل مواطاة وبالقياس إلى ما تحته من الأنواع كالسواد والبياض هو جنس لها كما تقدم، فهو حينئذ ذاتي لا عرضي.

ص: 89

تقسيمات العرضي

العرضي : لازم ومفارق فاتك

1 - اللازم ما يمتنع انفكاكه عقلا عن موضوعه ، كوصف الفرد للثلاثة والزوج

للأربعة، والحارة للنار ...

2 - المفارق ما لا يمتنع انفكاكه عقلا عن موضوعه ، كأوصاف الإنسان المشتقة من افعاله ،وأحواله، مثل قائم وقاعد ونائم وصحيح وسقيم وما إلى ذلك، وان كان لا ينفك أبداً ؛ ترى ان وصف العين بالزرقاء لا ينفك عن وجود العين، ولكنّه مع ذلك يعد عرضيا مفارقا ، لأنّه لو أمكنت حيلة لازالة الزرقة لما امتنع ذلك وتبقى العين عينا. وهذا لا يشبه اللازم ، فلو قدرت حيلة لسلخ وصف الفرد عن الثلاثة لما أمكن ان تبقى الثلاثة ثلاثة ، ولو قدر سلخ وصف الحرارة عن النار لبطل وجود النار. وهذا معنى امتناع الانفكاك عقلا.

اللازم : بين وغير بين .

البيّن : بيّن بالمعنى الأخص ، وبيّن بالمعنى الأعم.

1 - البين بالمعنى الأخص ما يلزم من تصوّر ملزومه تصوّره ، بلا حاجة إلى توسط

شيء آخر.

2 - البيّن بالمعنى الأعم ما يلزم من تصوّره وتصوّر الملزوم وتصوّر النسبة بينهما الجزم بالملازمة مثل : الاثنان نصف الأربعة أو ربع الثمانية ؛ فانّك إذا تصوّرت الاثنين قد تغفل عن أنّها نصف الأربعة أو ربع الثمانية، ولكن إذا تصوّرت أيضاً الثمانية مثلا، وتصوّرت النسبة بينهما تجزم أنّها ربعها. وكذا إذا تصوّرت الأربعة والنسبة بينهما تجزم أنها نصفها ... وهكذا في نسبة الأعداد بعضها إلى بعض . ومن هذا الباب لزوم وجوب المقدمة لوجوب ذي المقدّمة ؛ فانّك إذا تصوّرت وجوب الصلاة، وتصوّرت الوضوء ، وتصوّرت النسبة بينه وبين الصلاة وهى توقف الصلاة الواجبة عليه ، حكمت بالملازمة بين وجوب الصلاة ووجوبه .

وانما كان هذا القسم من البيّن أعم ، لأنه لا يفرق فيه بين أن يكون تصوّر الملزوم كافيا في تصوّر اللازم وانتقال الذهن اليه وبين ألا يكون كافيا، بل لابد من تصوّر اللازم

ص: 90

وتصوّر النسبة للحكم بالملازمة. وأنما يكون تصوّر الملزوم كافيا في تصوّر اللازم عندما يألف الذهن الملازمة بين الشيئين على وجه يتداعى عنده المتلازمان ؛ فاذا وجد أحدهما في الذهن وجد الآخر تبعا له ، فتكون الملازمة حينئذ ذهنية.

3 - غير البيّن وهو ما يقابل البين مطلقا، بأن يكون التصديق والجزم بالملازمة لا يكفي فيه تصوّر الطرفين والنسبة بينهما . بل تحتاج اثبات الملازمة إلى اقامة الدليل عليه . مثل الحكم بان المثلث زواياه تساوي قائمتين ؛ فان الجزم بهذه الملازمة يتوقف على البرهان الهندسي ، ولا يكفي تصوّر زوايا المثلث وتصوّر القائمتين وتصوّر النسبة للحكم

بالتساوي .

والخلاصة : معنى البين مطلقا ما كان لزومه بديهيا ، وغير البيّن ما كان لزومه نظريا

المفارق : دائم وسريع الزوال وبطيئه .

الدائم كوصف الشمس بالمتحركة، ووصف العين بالزرقاء . سريع الزوال كحمرة الخجل وصفرة الخوف . بطيء الزوال : كالشباب للإنسان .

الكلى المنطقى والطبيعى والعقلى

إذا قيل : الإنسان كلّي مثلاً ، فهنا ثلاثة أشياء : ذات الإنسان بما هو إنسان، ومفهوم الكلّي بما هو كلّي مع عدم الالتفات إلى كونه انساناً أو غير إنسان، والإنسان بوصف كونه كليا أو فقل الأشياء الثلاثة هي : ذات الموصوف مجردا ، ومفهوم الوصف مجردا والمجموع من الموصوف والوصف.

1 - فان لاحظ العقل والعقل قادر على هذه التصرفات نفس ذات الموصوف بالكلّي مع قطع النظر عن الوصف بأن يعتبر الإنسان، مثلا ، بما هو إنسان من غير التفات إلى انه كلّي أو غير كلّي ، وذلك عندما يحكم عليه بأنه حيوان ناطق فانّه أي ذات الموصوف بما هو عند هذه الملاحظة يسمّى الكلّي الطبيعي ويقصد طبيعة الشيء بما هي .

والكلّي الطبيعي موجود في الخارج بوجود أفراده .

ص: 91

2 - وان لاحظ العقل مفهوم الوصف بالكلّي وحده ، وهو أن يلاحظ مفهوم ما لا يمتنع فرض صدقه على كثيرين مجردا عن كلّ مادة مثل إنسان وحيوان وحجر وغيرها ؛

فانّه أي مفهوم الكلّي بما هو عند هذه الملاحظة، يسمّى الكلّي المنطقي.

والكلّي المنطقي لا وجود له إلا في العقل ، لأنه مما ينتزعه ويفرضه العقل، فهو من

المعاني الذهنية الخالصة التي لا موطن لها خارج الذهن .

3 - وان لاحظ العقل المجموع من الوصف والموصوف، بأن لا يلاحظ ذات الموصوف وحده مجردا ، بل بما هو موصوف بوصف الكلية ، كما يلاحظ الإنسان بما هو كلّي لا يمتنع صدقه على الكثير ؛ فانّه أي الموصوف بما هو موصوف بالكلّي يسمّى الكلي العقلي لأنه لا وجود له إلا في العقل، لاتصافه بوصف عقلي، فإنّ كلّ موجود في الخارج لا بد أن يكون جزئياً حقيقياً.

ونشبه هذه الاعتبارات الثلاث لأجل توضيحها بما إذا قيل : السطح فوق، فاذا لاحظت ذات السطح بما يشتمل عليه من آجر وخشب ونحوهما وقصرت النظر على ذلك غير ملتفت إلى انه فوق أو تحت، فهو شبيه بالكلّي الطبيعي . وإذا لاحظت مفهوم الفوق وحده مجرداً عن شيء هو فوق ، فهو شبيه بالكلّي المنطقي . وإذا لاحظت ذات السطح بوصف أنه فوق، فهو شبيه بالكلّي العقلي.

واعلم ان جميع الكليات الخمسة وأقسامها ، بل الجزئي أيضاً، تصح فيها هذه الاعتبارات الثلاثة، فيقال على قياس ما تقدّم : نوع طبيعي ومنطقي وعقلي ، وجنس طبيعي ومنطقي وعقلي ... إلى آخرها.

فالنوع الطبيعي مثل إنسان بما هو إنسان والنوع المنطقي هو مفهوم «تمام الحقيقة

المشتركة بين الجزئيات المتكثرة بالعدد في جواب ما هو »، والنوع العقلي هو مفهوم الإنسان بما هو تمام الحقيقة المشتركة بين الجزئيات المتكثرة بالعدد ... وهكذا يقال في باقي الكليات وفي الجزئي أيضاً.

ص: 92

تمرينات

1 - إذا قيل : التمر لذيذ الطعم مغذ من السكريات ومن أقسام مأكول الإنسان ب--ل مطلق المأكول ، وهو جسم جامد فيدخل في مطلق الجسم، بل الجواهر ؛ فالمطلوب ان ترتب سلسلة الأجناس في هذه الكليات متصاعداً وسلسلة الأنواع متنازلا . بعد التمييز بين الذاتي والعرضي. واذكر بعد ذلك أقسام الأنواع الاضافية من هذه الكليات وأقسام

العرضيات منها .

2 - وإذا قيل : الخمر جسم مايع مسكر محرم شرعا سالب للعقل مضر بالصحة مهدم للقوى؛ فالمطلوب أن تميز الذاتي من العرضي في هذه الكليات واستخراج سلسلة

الكليات متصاعدة أو متنازلة .

3 - وإذا قيل : الحديد جسم صلب من المعادن التي تتمدّد بالطرق والتي تصنع منها

الآلات وتصدأ بالماء؛ فالمطلوب تأليف سلسلة الكليات متصاعدة أو متنازلة مع حذف ما

ليس من السلسلة .

4 - إذا قسمنا الاسم إلى مرفوع ومنصوب ومجرور فهذا من باب تقسيم الجنس إلى

أنواعه أو تقسم النوع إلى أصنافه ؟ اذكر ذلك مع بيان السبب .

ص: 93

ص: 94

الباب الثالث : المعرّف وتلحق به القسمة

اشارة

ص: 95

ص: 96

المقدمة : في مطلب ما وأي وهل ولِمَ

إذا اعترضتك لفظة من أية لغة كانت فهنا خمس مراحل متوالية ، لا بد لك من اجتيازها لتحصيل المعرفة في بعضها يطلب العلم التصوّري، وفى بعضها الآخر العلم التصديقي .

المرحلة الأولى: تطلب فيها تصوّر معنى اللفظ تصوّراً اجمالياً، فتسأل عنه سؤالاً لغويا صرفا ، إذا لم تكن تدري لأي معنى من المعاني قد وضع . والجواب يقع بلفظ آخر يدل على ذلك المعنى ، كما إذا سألت عن معنى لفظ غضنفر، فيجاب: أسد . وعن معنى سميدع فيجاب : سيد ... وهكذا . ويسمّى مثل هذا الجواب التعريف اللفظى وقواميس اللغات هى المتعهدة بالتعاريف اللفظية .

وإذا تصوّرت معنى اللفظ اجمالا، فزعت نفسك إلى :

المرحلة الثانية: إذ تطلب تصوّر ماهية المعنى ، أي تطلب تفصيل ما دلّ عليه الاسم اجمالاً. لتمييزه عن غيره في الذهن تمييزاً تاماً، فتسأل عنه بكلمة ما فتقول ...... ما هو؟ وهذه ما تسمّى الشارحة، لأنها يسأل بها عن شرح معنى اللفظ. والجواب عنه يسمى شرح الاسم وبتعبير آخر التعريف الاسمي، والأصل في الجواب أن يقع بجنس المعنى وفصله القريبين معا، ويسمّى الحدّ التام الاسمي. ويصح أن يجاب بالفصل وحده أو بالخاصة وحدها ، أو بأحدهما منضما إلى الجنس البعيد، أو بالخاصة منضمة إلى الجنس القريب . وتسمّى هذه الأجوبة تارة بالحدّ الناقص وأخرى بالرسم الناقص أو التام ، ولكنّها

ص: 97

توصف جميعا بالاسمى . وسيأتيك تفصيل هذه الاصطلاحات .

ولو فرض أنّ المسؤول اجاب خطأ بالجنس القريب وحده، كما لو قال شجرة في جواب ما النخلة ؟ فان السائل لا يقنع بهذا الجواب، وتتوجه نفسه إلى السؤال عن مميزاتها عن غيرها، فيقول : أية شجرة هي في ذاتها أو أيّة شجرة هي في خاصتها، فيقع الجواب عن الأول بالفصل وحده فيقول : مثمرة التمر، وعن الثاني بالخاصة فيقول : ذات السعف مثلاً.

وهذا هو موقع السؤال بكلمة أي وجوابها الفصل أو الخاصة.

وإذا حصل لك العلم بشرح المعنى تفزع نفسك إلى :

المرحلة الثالثة وهى طلب التصديق بوجود الشيء، فتسأل عنه ب«هل» وتسمّى هل البسيطة، فتقول : هل وجد كذا ، أو هل هو موجود.

«ما» الحقيقة :

تنبيه : ان هاتين المرحلتين الثانية والثالثة يتعاقبان في التقدم والتأخر ؛ فقد تتقدم الثانية ، على حسب ما رتبناهما وهو الترتيب الذي يقتضيه الطبع، وقد تتقدّم الثالثة ، وذلك عندما يكون السائل من أول الأمر عالما بوجود الشيء المسؤول عنه، أو أنه على خلاف الطبع قدم السؤال عن وجوده فأجيب.

وحينئذٍ إذا كان عالما بوجود الشيء قبل العلم بتفصيل ما أجمله اللفظ الدال عليه ، ثم سأل عنه ب- «ما» ، فان ما هذه تسمّى الحقيقية والجواب عنها نفس الجواب عن ما الشارحة» ، بلا فرق بينهما إلا من جهة تقدّم الشارحة على العلم بوجوده وتأخر الحقيقية

عنه .

وانّما سميت حقيقية ، لأنّ السؤال بها عن الحقيقة الثابتة - والحقيقة باصطلاح المناطقة هي الماهية الموجودة - والجواب عنها يسمّى تعريفا حقيقياً وهو نفسه الذي كان

يسمّى تعريفا اسميا قبل العلم بالوجود ولذا قالوا :

«الحدود قبل الهليات البسيطة حدود اسمية وهى بأعيانها بعد الهليات تنقلب

ص: 98

حدودا حقيقية».

- وإذا حصلت لك هذه المراحل انتقلت بالطبع إلى :

المرحلة الرابعة وهي طلب التصديق بثبوت صفة أو حال للشيء، ويسأل عنه ب«هل» أيضاً، ولكن تسمّى هذه هل المركبة لأنه يسأل بها عن ثبوت شيء لشيء بعد فرض وجوده ، والبسيطة يسأل بها عن ثبوت الشيء فقط ، فيقال للسؤال بالبسيطة مثلا : هل الله موجود . وللسؤال بالمركبة بعد ذلك : هل الله الموجود مريد.

فاذا أجابك المسؤول عن هل البسيطة أو المركبة تنزع نفسك إلى :

المرحلة الخامسة: وهي طلب العلة ؛ امّا علّة الحكم فقط أي البرهان على ما حكم به المسؤول في الجواب عن هل أو علة الحكم وعلّة الوجود معاً، لتعرف السبب في حصول ذلك الشيء واقعاً. ويسأل لأجل كلّ من الغرضين بكلمة لم الاستفهامية، فتقول لطلب علة الحكم مثلا : لِمَ كان الله مريدا. وتقول مثلاً لطلب علّة الحكم وعلّة الوجود معا: لِمَ كان المغناطيس جاذباً للحديد؟ كما لو كنت قد سألت : هل المغناطيس جاذب للحديد ؟ فأجاب المسؤول بنعم ، فان حقك ان تسال ثانياً عن العلة فتقول : لِمَ.

تلخيص وتعقيب

ظهر مما تقدّم أن :

«ما» لطلب تصوّر ماهية الشيء . وتنقسم إلى الشارحة والحقيقية . ويشتق منها

مصدر صناعي ، فيقال : مائية. ومعناه الجواب عن ما . كما ان ماهية مصدر صناعي

هو.

و«أي» لطلب تمييز الشيء عمّا يشاركه في الجنس تمييزا ذاتياً أو عرضياً، بعد العلم بجنسه.

و «هل» تنقسم إلى بسيطة ويطلب بها التصديق بوجود الشيء أو عدمه، ومركبة

وبطلب بها التصديق بثبوت شيء لشيء أو عدمه، ويشتق منها مصدر صناعي ، فيقال :

ص: 99

الهلية البسيطة أو المركبة .

و «لِمَ» يطلب بها تارة علّة التصديق فقط ، وأخرى علّة التصديق والوجود معا.

ويشتق منها مصدر صناعى، فيقال لِمّيَّة بتشديد الميم والياء . مثل كمية من كم

الاستفهامية فمعنى لمية الشيء : عليته .

فروع المطالب

ما تقدّم هي أصول التي يسأل عنها بتلك الأدوات، وهي المطالب الكلية التي يبحث عنها في جميع العلوم. وهناك مطالب أخرى يسأل عنها بكيف واي--ن ومتى وك--م وم--ن وهي مطالب جزئية أي أنّها ليست من أمهات المسائل بالقياس إلى المطالب الاولى لع--دم عموم فائدتها ؛ فان ما لا كيفية له مثلا لا يسأل عنه بكيف ، وما لا مكان له أو زمان لا يسأل عنه بأين ومتى . على أنّه يجوز ان يستغنى عنها غالبا بمطلب هل المركبة ؛ فبدلا عن أن تقول مثلاً: «كيف لون ورق الكتاب؟ واين هو ؟ ومتى طبع ؟...» تقول : «هل ورق الكتاب أبيض؟ وهل هو في المكتبة ؟ وهل طبع هذا العام ..... وهكذا . ولذا وصفوا هذه المطالب بالفروع وتلك بالأصول.

ص: 100

التعريف

تمهيد

كثيراً ما تقع المنازعات في المسائل العلمية وغيرها حتى السياسية لأجل الاجمال في مفاهيم الألفاظ التي يستعملونها، فيضطرب حيل التفاهم، لعدم اتفاق المتنازعين على حدود معنی اللفظ ، فيذهب كلّ فرد منهم إلى ما يختلج في خاطره من المعنى . وقد لا تكون لأحدهم صورة واضحة للمعنى مرسومة بالضبط في لوحة ذهنه ، فيقنع - لتساهله أو لقصور مداركه - بالصورة المطموسة المضطربة ، ويبنى عليها منطقه المزيف .

وقد يتبع الجدليون والساسة - عن عمد وحيلة - الفاظاً خلابة غير محدودة المعنى بحدود واضحة يستغلون جمالها وابهامها للتاثير على الجمهور، وليتركوا كلّ واحد يفكّر فيها بما شاءت له خواطره الخاطئة أو الصحيحة، فيبقى معنى الكلمة بين أفكار الناس كالبحر المضطرب . ولهذا تأثير سحرى عجيب في الأفكار .

ومن هذه الألفاظ كلمة الحرية التي أخذت مفعولها من الثورة الفرنسية، واحداث الانقلابات الجبارة في الدولة العثمانية والفارسية والتاثير كله لاجمالها وجمالها السطحي الفاتن ، وإلا فلا يستطيع العلم أن يحدها بحد معقول يتفق عليه .

ومثلها كلمة الوطن الخلّابة التي استغلها ساسة الغرب لتمزيق بعض الدول الكبرى كالدولة العثمانية. وربما يتعذر على الباحث أن يعرف اثنين كانا يتفقان على معنى واح---د واضح كلّ الاتفاق يوم ظهور هذه الكلمة في قاموس النهضة الحديثة ؛ فما هي مميزات الوطن ؟ أهي اللغة أم لهجتها أم اللباس أم مساحة الأرض أم اسم القطر والبلد ؟ بل كلّ هذا

ص: 101

غير مفهوم حتى الآن على وجه تتفق عليه جميع الناس والامم . ومع ذلك نجد كل واحد منا في البلاد العربية يدافع عن وطنه، فلماذا لا تكون البلاد العربية أو البلاد الاسلامية كلّها وطناً واحداً؟

فمن الواجب على من أراد الاشتغال بالحقائق - لئلا يرتطم هو والمشتغل معه في المشاكل - أن يفرغ مفردات مقاصده في قالب سهل من التحديد والشرح، فيحفظ ما يدور في خلده من المعنى فى آنية من الألفاظ وافية به لا تفيض عليها جوانبها ، لينقله إلى ذهن السامع أو القارىء كما كان مخزوناً في ذهنه بالضبط . وعلى هذا الأساس المتين يبنى التفكير السليم.

ولأجل أن يتغلب الإنسان على قلمه ولسانه وتفكيره لابد له من معرفة أقسام التعريف وشروطه وأصوله وقواعده ليستطيع أن يحتفظ في ذهنه بالصور الواضحة للأشياء أولاً ، وان ينقلها إلى أفكاره غير صحيحة ثانياً ... فهذه حاجتنا لمباحث التعريف.

أقسام التعريف

اشارة

التعريف : حدّ ورسم.

الحدّ والرسم : تام وناقص.

سبق أن ذكرنا التعريف اللفظي، ولا يهمنا البحث عنه في هذا العلم، لأنه لا ينفع إلا لمعرفة وضع اللفظ لمعناه، فلا يستحق اسم التعريف إلا من باب المجاز والتوسع . وانّما غرض المنطقي من التعريف هو المعلوم التصوّري الموصل إلى مجهول تصوّري الواقع جواباً عن «ما» الشارحة أو الحقيقية . ويقسم إلى حدّ ورسم، وكلّ منهما إلى تام وناقص.

1 - الحدّ التام

وهو التعريف بجميع ذاتيات المعرَّف (بالفتح) ، ويقع بالجنس والفصل القريبين لاشتمالهما على جميع ذاتيات المعرف. فاذا قيل : ما الإنسان ؟

ص: 102

فيجوز أن تجيب - أولاً - بأنه : حيوان ناطق. وهذا حدّ تام فيه تفصيل ما أجمله اسم الإنسان، ويشتمل على جميع ذاتياته، لأن مفهوم الحيوان ينطوي فيه الجوهر والجسم النامي والحسّاس المتحرّك بالارادة . وكلّ هذه اجزاء وذاتيات للإنسان.

ويجوز أن تجيب - ثانياً - بأنه : جسم نام حساس متحرك بالارادة ناطق. وهذا حدّ تام أيضاً للإنسان عين الأوّل في المفهوم إلّا أنّه أكثر تفصيلاً، لأنك وضعت مك--ان كلمة حيوان حده التام. وهذا تطويل وفضول لا حاجة اليه ، إلّا إذا كانت ماهية الحيوان مجهولة

للسائل ، فيجب.

ويجوز أن تجيب - ثالثاً - بأنه : جوهر قابل للأبعاد الثلاثة نام حساس متحرك ،بالارادة، ناطق، فتضع مكان كلمة جسم حدّه التام، فيكون المجموع تفصيلاً من الجواب الثاني وأكثر فضولاً، إلا إذا كانت ماهية الجسم مجهولة أيضاً للسائل، فيجب.

وهكذا إذا كان الجوهر مجهولاً تضع مكانه حده التام - أن وجد - حتى ينتهي الأمر

إلى المفاهيم البديهية الغنية عن التعريف كمفهوم الموجود والشيء... وقد ظهر من هذا

البيان :

أولاً: انّ الجنس والفصل القريبين تنطوي فيهما جميع ذاتيات المعرّف لا يشذ منها جزء أبداً، ولذا سمى الحدّ بهما تاماً.

وثانياً: ان لا فرق في المفهوم بين الحدود التامة المطوّلة والمختصرة إلا ان المطوّلة

أكثر تفصيلاً. فيكون التعريف بها واجباً تارة وفضولاً أخرى.

وثالثاً: انّ الحدّ التام يساوي المحدود في المفهوم كالمترادفين، فيقوم مقام الاسم بأن يفيد فائدته ، ويدلّ على ما يدلّ عليه الاسم اجمالاً .

ورابعاً: انّ الحدّ التام يدل على المحدود بالمطابقة .

2 - الحد الناقص

وهو التعريف ببعض ذاتيات المعرَّف (بالفتح) ، ولابد أن يشتمل على الفصل القريب

ص: 103

على الأقل. ولذا سمّي ناقصاً. وهو يقع تارة بالجنس البعيد والفصل القريب، وأخ--رى

بالفصل وحده .

مثال الأوّل: تقول لتحديد الإنسان : جسم نام ... ناطق، فقد نقصت من الحد التام المذكور في الجواب الثاني المتقدّم صفة حساس متحرّك بالارادة وهي فصل الحيوان ، وقد وقع النقص مكان النقط بين جسم ،نام وبين ناطق، فلم يكمل فيه مفهوم الإنسان . ومثال الثاني: تقول لتحديد الإنسان أيضاً : ... ناطق فقد نقصت من الحد التام الجنس

القريب كله . فهو أكثر نقصاناً من الأوّل كما ترى ... وقد ظهر من هذا البيان:

أولاً: ان الحد الناقص لا يساوي المحدود في المفهوم، لأنه يشتمل على بعض أجزاء

مفهومه . ولكنه يساويه في المصداق .

وثانياً: انّ الحدّ الناقص لا يعطى للنفس صورة ذهنية كاملة للمحدود مطابقة له ، كما كان الحد التام، فلا يكون تصوّره تصوّراً للمحدود بحقيقته، بل أكثر ما يفيد تمييزه عن جميع ما عداه تمييزا ذاتيا فحسب .

وثالثاً: أنّه لا يدلّ على المحدود بالمطابقة ، بل بالالتزام، لأنه من باب دلالة الجزء

المختص على الكل .

3 - الرسم التام

وهو التعريف بالجنس والخاصة ، كتعريف الإنسان بأنّه حيوان ضاحك فاشتمل على

الذاتي والعرضي. ولذا سمّى تاماً.

4 - الرسم الناقص

وهو التعريف بالخاصة وحدها كتعريف الإنسان بأنه ضاحك فاشتمل على العرضي

فقط، فكان ناقصاً.

وقيل : ان التعريف بالجنس البعيد والخاصة معدود من الرسم الناقص فيختص التام

ص: 104

بالمؤلّف من الجنس القريب والخاصة فقط.

ولا يخفى ان الرسم مطلقاً كالحدّ الناقص لا يفيد إلّا تمييز المعرَّف (بالفتح) ع--ن جميع ما عداه فحسب، إلا أنه يميزه تمييزاً عرضيّاً. ولا يساويه إلا في المصداق لا ف--ي المهفوم . ولا يدل عليه إلا بالالتزام . كلّ هذا ظاهر مما قدمناه .

انارة

ان الأصل في التعريف هو الحد التام، لأن المقصود الأصلي من التعريف أمران:

الأول: تصوّر المعرَّف (بالفتح) بحقيقته لتتكون له في النفس صورة تفصيلية واضحة .

والثاني: تمييزه في الذهن عن غيره تمييزاً تاماً. ولا يؤدي هذان الأمران إلا بالحدّ التام. وإذ يتعذّر الأمر الأوّل يكتفي بالثاني ويتكفل به الحد الناقص والرسم بقسميه . وإلا قدم تمييزه تمييزاً ويؤدّي ذلك بالحدّ الناقص فهو أولى من الرسم والرسم التام أولى من

الناقص .

إلا ان المعروف عند العلماء ان الاطلاع على حقائق الأشياء وفصولها من الأمور المستحيلة أو المتعذّرة وكلّ ما يذكر من الفصول فانّما هي خواص لازمة تكشف عن

الفصول الحقيقية. فالتعاريف الموجودة بين أيدينا أكثرها أوكلّها رسوم تشبه الحدود.

فعلى من أراد التعريف أن يختار الخاصة اللازمة البينة بالمعنى الأخص ، لأنها أدلّ على حقيقة المعرّف وأشبه بالفصل. وهذا أنفع الرسوم في تعريف الأشياء. وبعده في المنزلة التعريف بالخاصة اللازمة البينة بالمعنى الأعم. أما التعريف بالخاصة الخفية غير البيّنة فانّها لا تفيد تعريف الشيء لكلّ أحد ؛ فإذا عرفنا المثلث بأنّه شكل زواياه تساوي قائمتين فانك لم تعرفه إلا للهندسى المتسغني عنه.

ص: 105

التعريف بالمثال و الطريقة الاستقرائية

كثيراً ما نجد العلماء - لا سيّما علماء الأدب - يستعينون على تعريف الشيء بذكر أحد أفراده ومصاديقه مثالاً له. وهذا ما نسميه التعريف بالمثال وهو أقرب إلى عقول المبتدئين في فهم الأشياء وتمييزها .

و من نوع التعريف بالمثال الطريقة الاستقرائية المعروفة في هذا العصر التي يدعو لها

علماء التربية ، لتفهيم الناشئة وترسيخ القواعد والمعاني الكلّيّة في أفكارهم.

وهي أن يكثر المؤلّف أو المدرّس - قبل بيان التعريف أو القاعدة - من ذكر الأمثلة والتمرينات، ليستنبط الطالب بنفسه المفهوم الكلّى أو القاعدة. وبعدئذ تعطى له النتيجة

بعبارة واضحة ليطابق بين ما يستنبط هو ، وبين ما يعطى له بالأخير من نتيجة . والتعريف بالمثال ليس قسماً خامساً للتعريف، بل هو من التعريف بالخاصة، لأن المثال مما يختص بذلك المفهوم، فيرجع إلى الرسم الناقص. وعليه يجوز أن يكتفى به في التعريف من دون ذكر التعريف المستنبط ، إذا كان المثال وافياً بخصوصيات الممثل له .

التعريف بالتشبيه

ممّا يلحق بالتعريف بالمثال ويدخل في الرسم الناقص أيضاً التعريف بالتشبيه . وهو يشبه الشيء المقصود تعريفه بشيء آخر لجهة شبه بينهما على شرط أن يكون المشبه به

ص: 106

معلوماً عند المخاطب بأن له جهة الشبه هذه .

ومثاله تشبيه الوجود بالنور وجهة الشبه بينهما ان كلاً منهما ظاهر بنفسه مظهر لغيره.

وهذا النوع من التعريف ينفع كثيراً في المعقولات الصرفة، عندما يراد تقريبها إلى الطالب بتشبيهها بالمحسوسات، لأن المحسوسات إلى الأذهان أقرب ولتصورها آلف . وقد سبق منا تشبيه كلّ من النسب الأربع بأمر محسوس تقريباً لها، فمن ذلك تشبيه المتباينين بالخطين المتوازيين لأنّهما لا يلتقيان ابداً. ومن هذا الباب المثال المتقدم وهو تشبيه الوجود بالنور، ومنه تشبيه التصوّر الآلي (كتصوّر اللفظ آلة لتصوّر (المعنى بالنظر إلى المرآة بقصد النظر إلى الصورة المنطبعة فيها .

شروط التعريف

الغرض من التعريف - على ما قدمنا - تفهيم مفهوم المعرَّف (بالفتح) وتمييزه عمّا

عداه . ولا يحصل هذا الغرض إلا بشروط خمسة :

الأوّل: أن يكون المعرّف (بالكسر) مساوياً للمعرّف (بالكسر) مساوياً للمعرف (بالفتح) في الصدق ، أي يجب أن يكون المعرّف (بالكسر) مانعاً جامعاً. وان شئت قلت مطرداًمنعكساً.

ومعنى مانع أو مطرد انّه لا يشمل إلا أفراد المعرَّف (بالفتح)، فيمنع من دخول أفراد غيره فيه . ومعنى جامع أو منعكس انه يشمل جميع أفراد المعرف (بالفتح) لا يشذ منها فرد واحد.

فعلى هذا لا يجوز التعريف بالأمور الآتية :

1 - بالأعم: لأنّ الأعم لا يكون مانعاً ، كتعريف الإنسان بأنه حيوان يمشي على

رجلين، فانّ جملة من الحيوانات تمشي على رجلين.

2 - بالأخص لأنّ الأخص لا يكون جامعاً، كتعريف الإنسان بأنه يحوان متعلّم ، فانّه

ص: 107

ليس كلّما صدق عليه إنسان هو متعلّم.

3 - بالمباين لأن المتباينين لا يصح حمل احدهما على الآخر ، ولا يتصادقان أبداً. الثاني: أن يكون المعرّف (بالكسر ) أجلى مفهوماً واعرف عند المخاطب من المعرَّف

(بالفتح) وإلا فلا يتمّ الغرض من شرح مفهومه فلا يجوز - على هذا - التعريف بالأمرين الآتيين :

1 - بالمساوي في الظهور والخفاء ، كتعريف الفرد بأنه عدد ينقص عن الزوج بواحد، فانّ الزوج ليس أوضح من الفرد ولا أخفى، بل هما متساويان في المعرفة وكتعريف أحد المتضايفين بالآخر ، وأنت أنّما تتعقلهما معاً، كتعريف الأب بأنه والد الابن . وكتعريف الفوق بأنّه ليس بتحت .....

2 - بالأخفى معرفة ، كتعريف النور بأنه قوة تشبه الوجود.

الثالث: إلّا يكون المعرّف (بالكسر ) عين المعرَّف (بالفتح) في المفهوم ، كتعريف الحركة بالانتقال والإنسان بالبشر تعريفاً حقيقياً غير لفظي، بل يجب تغايرهما أما بالاجمال والتفصيل كما في الحد التام أو بالمفهوم كما في التعريف بغيره.

ولو صح التعريف بعين المعرَّف لوجب أن يكون ملعوماً قبل أن يكون معلوماً ، وللزم أن يتوقف الشيء على نفسه ؛ وهذا محال . ويسمون مثل هذا نتيجة الدور الذي سيأتي بیانه.

الرابع: أن يكون خالياً من الدور. وصورة الدور في التعريف : أن يكون المعرّف (بالكسر) مجهولاً في نفسه ، ولا يعرف إلا بالمعرَّف (بالفتح)، فبينما ان المقصود من التعريف هو تفهيم المعرَّف (بالفتح) بواسطة المعرّف (بالكسر) ، وإذا بالمعرّف (بالكسر ) فى الوقت نفسه أنّما يفهم بواسطة المعرَّف (بالفتح)، فينقلب المعرَّف (بالفتح) معرَّفاً (بالكسر).

وهذا محال، لأنه يؤول إلى أن يكون الشىء معلوماً قبل أن يكون معلوماً، أو إلى أن

يتوقف الشيء على نفسه.

والدور يقع تارة بمرتبة واحدة ويستى دوراً مصرحاً، ويقع أخرى بمرتبتين أو أكثر

ويستى دوراً مضمراً :

ص: 108

1 - الدور المصرّح مثل : تعريف الشمس بأنها كوكب يطلع في النهار.

والنهار لا يعرف إلّا بالشمس إذ يقال في تعريفه : النهار، زمان تطلع فيه الشمس.

فتوقفت معرفة الشمس على معرفة النهار ، ومعرفة النهار حسب الفرض متوقفة على معرفة الشمس . والمتوقف على المتوقف على شيء متوقف على ذك الشيء، فينتهي الأمر بالأخير إلى أن تكون معرفة الشمس متوقفة على معرفة الشمس .

2 - الدور المضمر مثل : تعريف الاثنين بأنّهما زوج أول . والزوج يعرف بأنّه منقسم بمتساويين والمتساويان يعرفان بأنّهما شيئان أحدهما يطابق الآخر. والشيئان يعرفان

بأنّهما اثنان فرجع الأمر بالأخير إلى تعريف الاثنين بالاثنين .

وهذا دور مضمر في ثلاث مراتب، لأنّ تعدّد المراتب باعتبار تعدد الوسائط حتى تنتهي الدورة إلى نفس المعرَّف (بالفتح) الأوّل . والوسائط في هذا المثال ثلاث،الزوج،المتساويان، الشيئان .

ويمكن وضع الدور في المثال على صورة الدائرة المرسومة في هذا الشكل :

والسهام فيها تتجه دائما إلى المعرّفات (بالكسر ) :

الصورة

الخامس أن تكون الألفاظ المستعملة في التعريف ناصعة واضحة لا ابهام فيها ، فلا يصح استعمال الألفاظ الوحشية والغريبة ولا الغامضة ولا المشتركة والمجازات بدون القرينة ، أما مع القرينة فلا بأس كما قدمنا ذلك في بحث المشترك والمجاز . وإن كان يحسن

على كل حال - اجتناب المجاز في التعاريف والأساليب العلمية.

ص: 109

القسمة

(1).

تعريفها

قسمة الشيء : تجزئته وتفريقه إلى أمور متباينة وهي من المعاني البديهية الغنية عن التعريف، وما ذكرناه فانّما هو تعريف لفظي ليس إلا . ويسمّى الشيء (مقسماً)، وكل واحد من الأمور التي انقسم اليها قسماً تارة بالقياس إلى نفس المقسم، وقسيماً أخرى بالقياس إلى غيره من الأقسام . فإذا قسمنا العلم إلى تصوّر وتصديق مثلاً، فالعلم مقسم والتصوّر قسم من العلم وقسيم للتصديق . وهكذا التصديق قسم وقسيم.

فائدتها

تأسست حياة الإنسان كلّها على القسمة وهي من الأمور الفطرية التي نشأت معه على الأرض ؛ فان أوّل شيء يصنعه تقسيم الأشياء إلى سماوية وأرضية، والموجودات الأرضية إلى حيوانات وأشجار وأنهار وأحجار وجبال ورمال وغيرها. وهكذا يقسم ويقسّم ويميز معنى عن معنى ونوعاً عن نوع حتى تحصل له مجموعة من المعاني والمفاهيم ... وما زال البشر على ذلك حتى استطاع أن يضع لكلّ واحد من المعاني التي توصل اليها في التقسيم لفظاً من الألفاظ ولولا القسمة لما تكثرت عنده المعاني ولا الألفاظ.

ص: 110


1- القسمة من المباحث التي عني بها المناطقة في العصر الحديث ، وظنّ أنّها من المباحث التي تفتق عنها الفكر الغربي. غير أن فلاسفة الاسلام سبقوا إلى التنبيه عليها ، وقد ذكرها الشيخ العظيم نصير الدين الطوسي في منطق التجريد لتحصيل الحدود واكتسابها ، وأوضحها العلامة الحلي في شرحه : الجوهرالنضيد

ثم استعان بالعلوم والفنون على تدقيق تلك الأنواع، وتمييزها تمييزاً ذاتياً. ولا يزال العلم عند الإنسان يكشف له كثيراً من الخطأ فى تقسيماته وتنويعاته فيعد لها . ويكشف له أنواعاً لم يكن قد عرفها في الموجودات الطبيعية ، أو الأمور التي يخترعها منها ويؤلّفها، أو مسائل العلوم والفنون .

وسيأتي كيف نستعين بالقسمة على تحصيل الحدود والرسوم وكسبها، بل كلّ حدّ انّما هو مؤسس من أوّل الأمر على القسمة . وهذا أهم فوائد القسمة .

وتنفع القسمة في تدوين العلوم والفنون، لتجعلها أبواباً وفصولاً ومسائل متميزة، ليستطيع الباحث أن يلحق ما يعرض عليه من القضايا في بابها ، بل العلم لا يكون علماً ذا أبواب ومسائل وأحكام إلا بالقسمة : فمدوّن علم النحو - مثلاً - لابد أن يقسم الكلمة أوّلاً ، ثم يقسم الاسم مثلاً إلى نكرة ومعرفة والمعرفة إلى أقسامها ويقسم الفعل إلى ماض ومضارع وأمر ، وكذلك الحرف وأقسام كلّ واحد منها ، ويذكر لكلّ قسم حكمه المختص به ...وهكذا في جميع العلوم.

والتاجر - أيضاً - يلتجىء إلى القسمة في تسجيل دفتره وتصنيف أمواله ، ليسهل علیه استخراج حساباته ومعرفة ربحه وخسارته وكذلك باني البيت، ومركب الأدوات الدقيقة يستعين على اتقان عمله بالقسمة . والناس من القديم قسّموا الزمن إلى قرون وسنين واشهر وأيام وساعات ودقائق لينفعوا بأوقاتهم ويعرفوا أعمارهم وتاريخهم .

وصاحب المكتبة تنفعه قسمتها حسب العلوم أو المؤلفين، ليدخل أي كتاب جديد يأتيه في بابه ، وليستخرج بسهولة أي كتاب يشاء. وبواسطة القسمة استعان علماء التربية على توجيه طلاب العلوم ، فقسموا المدارس إلى ابتدائية وثانوية وعالية ، ثم كل مدرسة إلى صفوف، ليضعوا لكلّ صف ومدرسة منهاجاً يناسبه من التعليم.

وهكذا تدخل القسمة في كلّ شأن من شؤون حياتنا العلمية والاعتيادية، ولا يستغنى عنها إنسان. ومهمتنا منها هنا أن نعرف كيف نستعين بها على تحصيل الحدود والرسوم.

ص: 111

اصول القسمة

1 - لابد من ثمرة

لا تحسن القسمة إلا إذا كان للتقسيم ثمرة نافعة فى غرض المقسّم، بأن تختلف الأقسام في المميزات والأحكام المقصودة في موضع القسمة ؛ فإذا قسم النحوي الفعل إلى أقسامه الثلاثة فلان لكلّ قسم حكماً يختص به. أما إذا أراد أن يقسم الفعل الماضي إلى مضموم العين ومفتوحها ومكسورها ، فلا يحسن منه ذلك ، لأن الأقسام كلّها لها حكم واحد في علم النحو هو البناء، فيكون التقسيم عبثاً ولغواً، بخلاف مدون علم الصرف فانه يصح له مثل هذا التقسيم لانتفاعه به فى غرضه من تصريف الكلمة .

ولذا لم نقسم نحن الدلالتين العقلية والطبعية في الباب الأوّل إلى لفظية وغير لفظية ، لأنه لا ثمرة ترجى من هذا التقسيم في غرض المنطقي ، كما أشرنا إلى ذلك هناك فی التعليقة .

2 - لابد من تباين الأقسام ولا تصح القسمة إلا إذا كانت الأقسام متباينة غير متداخلة ، لا يصدّق احدهما على ما صدق عليه الآخر . ويشير إلى هذا الأصل تعريف القسمة نفسه. فإذا قسمت المنصوب من الأسماء إلى : مفعول ، وحال ، وتمييز ، وظرف ، فهذا التقسيم ،باطل ، لأن الظرف من أقسام المفعول فلا يكون قسيما له ومثل هذا ما يقولون عنه : يلزم منه أن يكون قسم الشيء قسيما له». وبطلانه من البديهيات.

ومثل هذا لو قسمنا سكان العراق إلى علماء وجهلاء وأغنياء وفقراء ومرضى وأصحاء. ويقع مثل هذا التقسيم كثيراً لغير المنطقيين الغافلين ممن يرسل الكلام على عواهنه ولكنّه لا ينطبق على هذا الأصل الذي قرّرناه ؛ لأن الأغنياء والفقراء لابد أن يكونوا علماء أو جهلاء، مرضى أو أصحاء فلا يصح ادخالهم مرّة ثانية في قسم آخر . وفي المثال

ثلاث قسمات جمعت في قسمة واحدة. والأصل في مثل هذا أن تقسم السكان أولاً إلى

ص: 112

علماء وجهلاء ، ثمّ كلّ منهما إلى أغنياء وفقراء ، فتحدث أربعة أقسام، ثم كلّ من الأربعة إلى مرضى وأصحاء ، فتكون الأقسام ثمانية : علماء أغنياء ،مرضي، علماء أغنياء أصحاء ... إلى آخره . فتفطّن لما يرد عليك من القسمة، لئلا تقع في مثل هذه الغلطات.

ويتفرع على هذا الأصل أمور :

1 - انّه لا يجوز أن تجعل قسم الشيء قسيما له - كما تقدم - مثل أن تجعل الظرف قسيماً للمفعول.

2 - ولا يجوز أن تجعل قسيم الشيء قسماً منه، مثل أن تجعل الحال قسماً من المعفول.

3 - ولا يجوز أن تقسم الشيء إلى نفسه وغيره.

وقد زعم بعضهم أن تقسيم العلم إلى التصوّر والتصديق من هذا الباب، لما راى انهم يفسرون العلم بالتصوّر المطلق، ولم يتفطن إلى معنى التصديق مع أنّه تصوّر أيضاً ولكنّه تصوّر مقيد بالحكم كما ان قسيمه خصوص التصوّر الساذج المقيد بعدم الحكم ، كما شرحناه سابقاً. أما المقسم لهما فهو التصوّر المطلق الذي هو نفس العلم.

3 - أساس القسمة

ويجب أن تؤسس القسمة على أساس واحد، أي يجب أن يلاحظ في المقسم جهة واحدة، وباعتبارها يكون التقسيم، فإذا قسمنا كتب المكتبة فلا بد أن نؤسس تقسيمها اما على أساس العلوم والفنون أو على أسماء المؤلفين أو على اسماء الكتب .

أمّا إذا خلطنا بينها فالأقسام تتداخل ويختل نظام الكتب ، مثل ما إذا خلطنا بین أسماء الكتب والمؤلّفين، فنلاحظ في حرف الألف مثلاً تارة اسم الكتاب وأخرى اسم المؤلّف ، بينما ان كتابه قد يدخل في حرف آخر .

والشيء الواحد قد يكون مقسماً لعدة تقسيمات باعتبار اختلاف الجهة المعتبرة أي أساس القسمة ، كما قسمنا اللفظ مرّة إلى مختص وغيره وأخرى إلى مترادف ومتباين وثالثة إلى مفرد ومركب ، وكما قسمنها الفصل إلى قريب وبعيد مرّة وإلى مقوم ومقسم أخ--رى ...

ص: 113

ومثله كثير فى العلوم وغيرها .

4- جامعة مانعة

ويجب في القسمة أن يكون مجموع الأقسام مساوياً للمقسم فتكون جامعة مانعة ؛ جامعة لجميع ما يمكن أن يدخل فيه من الأقسام أي حاصرة لها لا يشدّ منها شیء مانعة عن دخول غير أقسامه فيه .

أنواع القسمة

للقسمة نوعان أساسيان:

1 - قسمة الكلّ إلى أجزائه . أو القسمة الطبيعية

كقسمة الإنسان إلى جزئيه : الحيوان والناطق بحسب التحليل العقلي ؛ إذ يحلل العقل مفهوم الإنسان إلى مفهومين : مفهوم الجنس الذي يشترك معه به غيره، ومفهوم الفصل الذي يختص به ويكون به الإنسان انساناً. وسيأتى معنى التحليل العقلى مفصلاً. وتسمّى الأجزاء حينئذ أجزاء عقلية .

وكقسمة الماء إلى عنصرين : الاوكسجين والهيدروجين بحسب التحليل الطبيعي. ومن هذا الباب قسمة كلّ موجود إلى عناصره الأوّلية البسيطة، وتسمّى الأجزاء طبيعية أو عنصرية.

وكقسمة الحبر إلى ماء ومادة ملوّنة مثلاً، والورق إلى قطن ونورة، والزجاج إلى رمل وثاني اكسيد السلكون. وذلك بحسب التحليل الصناعي في مقابل التركيب الصناعي. والأجزاء تسمّى أجزاء صناعية.

وكقسمة المتر إلى أجزائه بحسب التحليل الخارجي إلى الأجزاء المتشابهة أو كقسمة السرير إلى الخشب والمسامير به حسب التحليل الخارجي إلى الأجزاء غير المتشابهة . ومثله قسمة البيت إلى الآجر والجص والخشب والحديد، أو إلى الغرفة والسرداب والسطح والساحة، وقسمة السيارة إلى آلاتها المركبة منها والإنسان إلى لحم ودم وعظم وجلد وأعصاب ...

ص: 114

2 - قسمة الكلّي إلى جزئياته أو القسمة المنطقية

كقسمة الموجود إلى مادة ومجرد عن المادة، والمادة إلى جماد ونبات وحيوان، وكقسمة المفرد إلى اسم وفعل وحرف ... وهكذا . وتمتاز القسمة المنطقية عن الطبيعية ان الأقسام في المنطقية يجوز حملها على المقسم وحمل المقسم عليها فنقول : الاسم مفرد وهذا المفرد اسم . ولا يجوز الحمل في الطبيعية عدا ما كانت بحسب التحليل العقلي ، فلا يجوز أن تقول : البيت سقف أو جدار ولا الجدار بيت .

ولابد في القسمة المنطقية من فرض جهة وحدة جامعة في المقسم تشرك فيها الأقسام وبسببها يصح الحمل بين المقسم والأقسام ، كما لابد من فرض جهة افتراق في الأقسام على وجه يكون لكلّ قسم جهة تباين جهة القسم الآخر ، وإلا لما صحت القسمة وفرض الأقسام. وتلك الجهة الجامعة أما أن تكون مقومة للأقسام أي داخلة في حقيقتها بأن كانت جنساً أو نوعاً وأمّا أن تكون خارجة عنها.

1 - إذا كانت الجهة الجامعة مقوّمة للأقسام، فلها ثلاث صور :

ألف - أن تكون جنساً ، وجهات الافتراق الفصول المقوّمة للأقسام ، كقسمة المفرد إلى الاسم والفعل والحرف ... فيسمى التقسيم تنويعاً والأقسام أنواعاً.

ب - أن تكون جنساً أو نوعاً ، وجهات الافتراق العوارض العامة اللاحقة للمقسم، كقسمة الاسم إلى مرفوع ومنصوب ومجرور، فيسمى التقسيم تصنيفاً والأقسام أصنافاً.

ج - أن تكون جنساً أو نوعاً أو صنفاً ، وجهات الافتراق العوارض الشخصية اللاحقة المصاديق المقسم، فيسمى التقسيم تفريداً والأقسام أفراداً ، كقسمة الإنسان إلى زيد وعمر و ومحمد وحسن ... إلى آخرهم باعتبار المشخصات لكل جزئي جزئي منه .

2 - إذا كانت الجهة الجامعة خارجه عن الأقسام، فهي كقسمة الأبيض إلى الثلج والقطن وغيرهما ، وكقسمة الكائن الفاسد إلى معدن ونبات وحيوان وكقسمة العالم إلى غني وفقير أو إلى شرقي وغربي ... وهكذا.

ص: 115

أساليب القسمة

لأجل أن نقسم الشيء قسمة صحيحة لابد من استيفاء جميع ما له من الأقسام، كما تقدم في الأصل الرابع بمعنى أن تكون القسمة حاصرة لجميع جزئياته أو أجزائه . ولذلك أسلوبان:

1 - طريقة القسمة الثنائية

وهي طريقة الترديد بين النفي والاثبات ؛ والنفي والاثبات وهما (النقيضان لا تفعان أي لا يكون لهما قسم ثالث ولا يجتمعان أى لا يكونان قسما واحداً، فلا محالة تكون هذه القسمة ثنائية أي ليس لها أكثر من قسمين، وتكون حاصرة جامعة مانعة ، كتقسيمنا للحيوان إلى ناطق وغير ناطق. وغير الناطق يدخل فيه كلّ ما يفرض من ب--اقي أنواع الحيوان غير الإنسان لا يشذ عنه نوع ؛ وكتقسيمنا للطيور إلى جارحة وغير جارحة، والإنسان إلى عربي وغير عربي والعالم إلى فقيه وغير فقيه ... وهكذا .

ثم يمكن أن نستمر في القسمة فنقسم طرف النفي أو طرف الاثبات أو كليهما إلى طرفين اثبات ونفي، ثم هذه الأطراف الأخيرة يجوز أن تجعلها أيضاً مقسما فتقسمها أيضاً بين الاثبات والنفي ... وهكذا تذهب إلى ما شئت أن تقسم إذا كانت هناك ثمرة من التقسيم .

مثلاً إذا أردت تقسيم الكلمة ، فتقول :

1 - الكلمة تنقسم إلى : ما دل على الذات وغيره

2 - طرف النفى (الغير ) إلى : ما دل على الزمان وغيره

فتحصل لنا ثلاثة أقسام ما دلّ على الذات وهو الاسم، وما دل على الزمان وهو الفعل ، وما لم يدل على الذات والزمان وهو الحرف والتعبير المألوف عند المؤلفين أن يقال : «الكلمة أمّا أن تدلّ على الذات أولاً، والأوّل الاسم، والثاني أما أن تدلّ على الزمان أو لا، والأوّل الفعل، والثاني الحرف ويمكن وضع هذه القسمة على هذا النحو :

ص: 116

الصورة

مثال ثان إذا أردنا تقسيم الجوهر إلى أنواعه فيمكن تقسيمه على هذا النحو:

ينقسم

1 - الجوهر إلى : ما يكون قابلاً للابعاد وغيره

2 - ثم طرف الاثبات (القابل) إلى : نام وغيره

3 - ثم طرف النفي (غير النامي) إلى جامد وغيره

4 - ثم طرف الاثبات في التقسيم (2) إلى: حساس وغيره

وهكذا يمكن أن تستمر بالقسمة حتى تستوفي أقسام الحساس إلى جميع أنواع الحيوان . ولك أيضاً أن تقسم الجامد وغير الحسّاس. وقد رايت انا قسمنا تاره طرف الاثبات وأخرى طرف النفي ويمكن وضع هذه القسمة على هذا النحو :

ص: 117

الصورة

وهذه القسمة الثنائية تنفع على الأكثر في الشيء الذي لا تنحصر أقسامه، وإن كان مطولة ؛ لأنّك تستطيع بها أن تحصر كلّ ما يمكن أن يفرض من الأنواع أو الأصناف بكلمة غيره . ففي المثال الأخير ترى غير الناهق يدخل فيه جميع ما للحيوان من الأنواع غير الناطقة والصاهلة والناهقة، فاستطعت أن تحصر كلّ ما للحيوان من أنواع .

وتنفع هذه القسمة أيضاً فيما إذا اريد حصر الأقسام حصراً عقلياً كما يأتي، وتنفع أيضاً في تحصيل الحد والرسم . وسيأتي بيان ذلك .

ص: 118

2 - طريقة القسمة التفصيلية

وذلك بأن تقسم الشيء ابتداء إلى جميع أقسامه المحصورة كما لو اردت أن تقسم الكلمة - بدلاً من تقسيم الثنائي المتقدّم - إلى : اسم وفعل وحرف، أو تقسيم الكلّي إلى نوع وجنس وفصل وخاصة وعرض عام.

والقسمة التفصيلية على نوعين عقلية واستقرائية :

1 - العقلية: وهي التي يمنع العقل أن يكون لها قسم آخر ، كقسمة الكلمة المتقدّمة ولا تكون القسمة عقلية الا إذا بنيتها على أساس النفي والاثبات (القسمة الثنائية). فلأجل اثبات أن القسمة التفصيلية عقلية ، يرجعونها إلى القسمة الثنائية الدائرة بين النفي والاثبات . ثم إذا كانت الأقسام اكثر من اثنين يقسمون طرف النفى أو الاثبات إلى النفي والاثبات ... وهكذا كلّما كثرت الأقسام ؛ على ما تقدّم في الثنائية .

2 - الاستقرائية: وهي التي لا يمنع العقل من فرض قسم آخر لها ، وانما تذكر الأقسام الواقعة علمت بالاستقراء والتتبع كتقسيم الأديان السماوية إلى : اليهودية والنصرانية والاسلامية وكتقسيم مدرسة معينة إلى : صف أول وثان وثالث، عندما لا يكون غير هذه الصفوف فيها ، مع امكان حدوث غيرها .

التعريف بالقسمة

أن القسمة بجميع أنواعها هي عارضة للمقسم في نفسها، خاصة ب--ه غالباً. ولما اعتبرنا في القسمة أن تكون جامعة مانعة فالأقسام بمجموعها مساوية للمقسم ، كما انها غالباً تكون أعرف منه وعليه يجوز تعريف المقسم بقسمته إلى أنواعه أو اصنافه، ويكون من باب تعريف الشيء بخاصته . وهو التعريف بالرسم الناقص ، كما كان التعريف بالمثال من هذا الباب .

ولنضرب لك مثلاً لذلك : أنا إذا قسمنا الماء بالتحليل الطبيعي إلى أوكسجين وهيدروجين وعرفنا أن غيره من الأجسام لا ينحل إلى هذين الجزئين، فقد حصل تمييز

ص: 119

الماء تمييزاً عرضيّاً عن غيره بهذه الخاصة، فيكون ذلك نوعاً من المعرفة للماء نطمئن اليها .

وكذا لو عرفنا ان الورق ينحل إلى القطن والنورة مثلاً نكون قد عرفناه معرفة نطمئن اليها تميزه عن غيره ... وهكذا في جميع أنواع القسمة .

كسب التعريف بالقسمة أو كيف نفكر لتحصيل المجهول التصوّري

أنت تعرف ان المعلوم التصوّري منه ما هو بديهي لا يحتاج إلى كسب كمفهوم الوجود والشيء، ومنه ما هو نظري تحتاج معرفته إلى كسب و نظر.

و معنى حاجتك فيه إلى الكسب ان معناه غير واضح في ذهنك وغير محدد ومتميز أو فقل غير مفهوم لديك ولا معروف ؛ فيحتاج إلى التعريف، والذي يعرفه للذهن هو الحدّ والرسم . وليس الحدّ أو الرسم للنظري موضوعاً فى الطريق فى متناول اليد، وإلا فما فرضته نظرياً مجهولاً لم يكن كذلك بل كان بديهياً معروفاً. فالنظري عندك في الحقيقة ليس هو إلا الذي تجهل حده أو رسمه .

إذن ، المهم في الأمر ان نعرف الطريقة التي نحصل بها الحدّ والرسم . وكلّ ما تقدّم من الأبحاث في التعريف هي في الحقيقة أبحاث عن معنى الحد والرسم وشروطهما أو أجزائهما. وهذا وحده غير كاف ما لم نعرف طريقة كسبهما وتحصيلهما ؛ فانّه ليس الغني هو الذي يعرف معنى النقود وأجزاءها وكيف تتألف، بل الغنى من يعرف طريقة كسبها فيكسبها. وليس المريض يشفى إذا عرف فقط معنى الدواء وأجزاءه بل لا بد أن يعرف كيف يحصله ليتناوله .

وقد أغفل كثير من المنطقيين هذه الناحية ، وهي أهم شيء في الباب . بل هي الأساس، وهى معنى التفكير الذي به نتوصل إلى المجهولات. ومهمتنا في المنطق أن نعرف كيف نفكر لنكسب العلوم التصورية والتصديقية.

وسيأتي ان طريقة التفكير لتحصيل العلم التصديقي هو الاستدلال والبرهان؛ أما تحصيل العلم التصوّري فقد اشتهر عند المناطقة ان الحدّ لا يكتسب بالبرهان، وكذا الرسم.

ص: 120

والحق معهم لأن البرهان مخصوص لاكتساب التصديق ، ولم يحن الوقت بعد لابيّن للطالب سرّ ذلك . وإذا لم يكن البرهان هي الطريقة هنا فما هي طريقة تفكيرنا لتحصيل الحدود والرسوم؟ وطبعاً لابد أن تكون هذه الطريقة طريقة فطرية يصنعها كلّ إنسان في دخيلة نفسه يخطيء فيها أو يصيب. ولكن نحتاج إلى الدلالة عليها لنكون على بصيرة في صناعتها. وهذا هو هدف علم المنطق. وهذا ما نريد بيانه فنقول :

الطريق منحصر بنوعين من القسمة : القسمة الطبيعية بالتحليل العقلي وتسمّى طريقة التحليل العقلى والقسمة المنطقية الثنائية . ونحن أشرنا في غضون كلامنا في التعريف والقسمة إلى ذلك . وقد جاء وقت بيانه فنقول :

طريقة التحليل العقلي

إذا توجهت نفسك نحو المجهول التصوّري (المشكل) ولنفرضه الماء مثلاً عندما يكون مجهولاً لديك (وهذا هو الدور الأول (1) فأول ما يجب، أن تعرف نوعه . أي تعرف انه داخل في أي جنس من الأجناس العالية أو ما دونها ، كأن تعرف أن الماء - مثلاً - من السوائل وهذا هو الدور الثاني). وكلّما كان الجنس الذي عرفت دخول المجهول تحته قريباً كان الطريق اقصر لمعرفة الحدّ أو الرسم . وسيتضح.

وإذا اجتزت الدور الثاني الذي لابد منه لكلّ من أراد التفكير بأية طريقة كانت ، انتقلت إلى الطريقة التي تختارها للتفكير ولابد أن تتمثل فيها الأدوار الثلاثة الأخيرة أو

الحركات الثلاث التي ذكرناها للفكر الذاهبة والدائرية والراجعة.

وإذ نحن اخترنا الآن طريقة التحليل العقلي أولاً ، فلنذكرها متمثلة في الحركات الثلاث:

ص: 121


1- تقدم في مبحث تعريف الفكر ص 24 ، ان الأدوار التي تمر على العقل لتحصيل المجهول خمسة : اثنان منها مقدمة للفكر وثلاثة هي الفكر التي سميناها بالحركات . وهذا البحث هنا موقع تطبيق هذه الأدوار على تحصيل المجهول التصوّري. وسيأتي في موضعه موقع تطبيقها على تحصيل المجهول التصديقي وهذا البحث بمجموعه وبيان الأدوار قد امتاز بشرحه كتابنا على جميع كتب المنطق القديمة والحديثة

122

فانّك عندما تجتاز الدور الثاني تنتقل إلى الثالث وهو الحركة الذاهبة : حركة العقل من المجهول إلى المعلومات. ومعنى هذه الحركة بطريقة التحليل المقصود بيانها هو أن تنظر في ذهنك إلى جميع الأفراد الداخلة تحت ذلك الجنس الذي فرضت المشكل داخلاً تحته . وفي المثال تنظر إلى أفراد السوائل سواء كانت ماء أو غير ماء باعتبار ان كلها سوائل.

وهنا ننتقل إلى الرابع ( وهو الحركة الدائرية) أي حركة العقل بين المعلومات. وهو اشق الأدوار وأهمها دائماً في كلّ تفكير . فان نجح المفكر فيه ، انتقل إلى الدور الأخير الذي به حصول العلم، وإلّا بقى في مكانه يدور على نفسه بين المعلومات من غير جدوى . وهذه الحركة الدائرية بين المعلومات في هذه الطريقة، هي أن يلاحظ الفكر مجاميع أفراد الجنس الذي دخل تحته المشكل، فيفرزها مجموعة مجموعة ، فلأفراد المجهول مجموعة ، ولغيره من أنواع الجنس الأخرى كلّ واحد مجموعة من الأفراد. وفي المثال يلاحظ مجاميع السوائل الماء والزئبق، واللبن، والدهن إلى آخرها . وعند ذلك يبدأ في ملاحظتها ملاحظة دقيقة ، ليعرف ما تمتاز به مجموعة أفراد المشكل بحسب ذاتها وحقيقتها عن المجاميع الأخرى، أو بحسب عوارضها الخاصة بها . ولا بد هنا من الفحص الدقيق والتجربة ليعرف في المثال الخصوصية الذاتية أو العرضية التي يمتاز بها الماء عن غيره من السوائل، في لونه وطعمه، أو في وزنه وثقله، أو في أجزائه الطبيعية . ولا يستغني الباحث ع--ن الاستعانة بتجارب الناس والعلماء وعلومهم. والبشر من القديم - كما قلنا في أول مبحث القسمة - اهتموا بفطرتهم في تقسيم الأشياء وتمييز الأنواع بعضها عن بعض، فحصلت لهم بمرور الزمن الطويل معلومات قيمة هي ثروتنا العلمية التي ورثناها من أسلافنا وكلّ ما نستطيعه من البحث في هذا الشأن هو التعديل والتنقيح في هذه الثروة، واكتشاف بعض الكنوز من الأنواع التي لم يهتد اليها السابقون على مرور الزمن وتقدم المعارف .

فإن استطاع الفكر أن ينجح في هذا الدور الحركة الدائرية) بأن عرف ما يميز المجهول تمييزاً ذاتياً أي عرف فصله، أو عرف ما يميزه تمييزاً عرضياً أي عرف ،خاصته، فإن معنى ذلك أنه استطاع أن يحلّل معنى المجهول إلى جنس وفصل، أو جنس وخاصة ،

ص: 122

تحليلاً عقلياً، فيكمل عنده الحدّ التام أو الرسم التام بتأليفه مما انتهى إليه التحليل . كما لو عرف الماء في المثال بأنه سائل بطبعه لا لون له ولا طعم ولا رائحة أو أنّه له ثقل نوعى مخصوص أو أنّه قوام كلّ شيء حي .

ومعنى كمال الحدّ أو الرسم عنده ان عقله قد انتهى إلى الدور الأخير (وهو الحركة الراجعة) أي حركة العقل من المعلوم إلى المجهول . وعندها ينتهي التفكير بالوصول إلى

الغاية من تحصيل المجهول .

وبهذا اتضح معنى التحليل العقلى الذي وعدناك ببيانه سابقاً فى القسمة الطبيعية، وهو انّما يكون باعتبار المتشاركات والمتباينات ، أي أنّه بعد ملاحظة المتشاركات بالجنس يفرزها ويوزعها مجاميع أو فقل أنواعاً بحسب ما فيها من المميزات المتباينة فيستخرج من هذه العملية الجنس والفصل مفردات الحد ، أو الجنس والخاصة مفردات الرسم ، فكنت بذلك حللت المفهوم المراد تعريفه إلى مفرداته .

تنبيه: ان الكلام المتقدم في الدور الرابع فرضناه فيما إذا كنت من أول الأمر لما عرفت نوع المشكل عرفت جنسه القريب، فلم تكن بحاجة إلا للبحث عن مميزاته عن الأنواع المشتركة معه في ذلك الجنس.

اما لو كنت قد عرفت فقط جنسه العالى كأن عرفت ان الماء جوهر لا غير، فانك لأجل أن تكمل لك المعرفة ، لا بد أن تفحص أولاً لتعرف أن المشكل من أي الأجناس المتوسط ، بتمييز بعضها عن بعض بفصولها أو خواصها على نحو العملية التحليلية السابقة حتى تعرف ان الماء جوهر ذو ابعاد أي جسم.

ثم تفحص ثانياً بعملية تحليلية أخرى لتعرفه من أي الأجناس القريبة هو، فتعرف انه سائل ؛ ثم تفحص ثالثاً بتلك العملية التحليلية لتميزه عن السوائل الأخرى بثقله النوعي مثلاً أو بأنّه قوام كلّ شيء حي ، فيتألف عندك تعريف الماء على هذا النحو مثلاً: جوهر ذو أبعاد سائل قوام كلّ شيء حي . ويجوز أن تكتفي عن ذلك فتقول : سائل قوام كلّ شيء حي؛ مقتصرا على الجنس القريب.

ص: 123

وهذه الطريقة الطويلة من التحليل التي هي عبارة عن عدة تحليلات يلتجيء اليها الإنسان إذا كانت الأجناس متسلسلة ولم يكن يعرف الباحث دخول المجهول إلا في الجنس العالي. ولكن تحليلات البشر التي ورثناها تغنينا في أكثر المجهولات عن ارجاعها إلى الأجناس العالية ، فلا نحتاج على الأكثر إلا لتحليل واحد لنعرف به ما يمتاز به المجهول عن غيره .

على أنّه يجوز لك أن تستغنى بمعرفة الجنس العالى أو المتوسط، فلا تجري

عملية واحدة للتحليل لتميز المشكل عن جميع ما عداه ممّا يشترك معه في ذلك الجنس العالي أو المتوسط ، غير ان هذه العملية لا تعطينا الا حداً ناقصاً أو رسماً ناقصاً.

طريقة القسمة المنطقية الثنائية

انك بعد الانتهاء من الدورين الأولين أي دور مواجهة المشكل ودور معرفة نوعه ، لك أن تعمد إلى طريقة أخرى من التفكير تختلف عن السابقة .

فان السابقة كانت النظرة فيها إلى الأفراد المشتركة فى ذلك الجنس ثم تمييزها بعضها عن بعض لاستخراج ما يميز المجهول.

اما هذه فانّك تتحرك إلى الجنس الذي عرفته فتقسمه بالقسمة المنطقية الثنائية إلى اثبات ونفى : الاثبات بما يميّز المجهول تمييزاً ذاتياً أو عرضياً ؛ والنفى بما عداه . وذلك إذا كان المعروف الجنس القريب، فنقول في مثال الماء الذي عرف انه سائل: «السائل أما عدیم اللون وأمّا غيره فتستخرج بذلك الحدّ التام أو الرسم التام وتحصل لديك الحركات الثلاث كلّها .

أما لو كان الجنس الذي عرفته هو الجنس العالي أو المتوسط فانك تأخذ أولاً الجنس العالي مثلاً، فتقسمه بحسب المميزات الذاتية أو العرضية، ثم تقسم الجنس المتوسط الذي حصلته بالتقسيم الأوّل إلى أن يصل التقسيم إلى الأنواع السافلة - على النحو الذي مثلنا به في القسمة الثنائية للجوهر - وبهذا تصير الفصول كلها معلومة على الترتيب فتعرف بذلك جميع ذاتيات المجهول على التفصيل .

ص: 124

تمرينات

على التعريف والقسمة

1 - انقد التعريفات الآتية، وبين ما فيها من وجوه الخطأ ان كان :

أ - الطائر حيوان يبيض و - اللبن : مادة سائلة مغذية

ب - الإنسان حيوان بشري ز - العدد: كثرة مجتمعة من آحاد

ج - العلم نور يقذف في القلب ح - الماء: سائل مفيد

د- القدام: الذي خلفه شيء ط - الكوكب جرم سماوي منير

ه -- المربع شكل رباعي قائم الزوايا ي - الوجود الثابت العين

2 - من أي أنواع التعريف تعريف العلم بأنه : حصول صورة الشيء في العقل وتعريف المركب بأنه : ما دل جزء لفظه على جزء معناه حين هو جزء.

وبين ما إذا كان الجنس مذكوراً فيها أم لا.

3 - من أي أنواع التعريف تعريف الكلمة بأنها : قول مفرد وتعريف الخبر بأنه : قول

يحتمل الصدق والكذب.

4 - عرف النحويون الكلمة بعدة تعريفات :

أ - لفظ وضع لمعنى مفرد.

ب - لفظ موضوع مفرد .

ج - قول مفرد.

د - مفرد .

فقارن بينها ، واذكر أولاها وأحسنها، والخلل في احدها ان كان.

ص: 125

5 - لو عرفنا الأب بأنه : من له ولد، فهذا التعريف فاسد قطعاً، ولكن هل تعرف من

اية جهة فساده ؟ وهل ترى يلزم منه الدور ؟ وإذا كان يلزم منه الدور أو لا يلزم فهل تستطيع أن تعلّل ذلك .

6 - اعترض بعض الأصوليين على تعريف اللفظ المطلق المقابل للمقيد بأنه : ما دل على شايع في جنسه ، فقال انه تعريف غير مطرد ولا منعكس . فهل تعرف الطريق لرد هذا الاعتراض من أساسه على الاجمال وانت إذا حققت ان هذا التعريف ماذا يسمّى ، يسهل عليك الجواب . فتفطّن .

- جاء في كتاب حديث للمنطق تعريف الفصل بأنه : صفة أو مجموع صفات كلية بها تتميّز أفراد حقيقة واحدة من أفراد غيرها من الحقائق المشتركة معها في جنس واحد. انقده واذكر وجوه الخلل فيه على ضوء ما درسته في تعريف الفصل وشروط التعريف .

8 - ان التي نسميها بالكليات الخمسة كان ارسطو يسمّيها المحمولات، وعنده أن المحمول لابد أن يكون من أحد الخمسة ، فاعترضه بعض مؤلفى المنطق الحديث بأن هذه الخمسة لا تحتوي جميع أنواع المحمولات، لأنه يدخل فيه مثل : البشر هو الإنسان.

فالمطلوب أن تجيب عن هذا الاعتراض على ضوء ما درسته في بحث الحمل وأنواعه. وبيّن صواب ما ذهب إليه ارسطو .

9 - وعرف هذا البعض المتقدّم اللفظين المتقابلين بأنهما : اللفظان اللذان لا يصدقان على شيء واحد في آن واحد . انقده على ضوء ما درسته في بحث التقابل وشروط التعريف .

ص: 126

10 - كيف تفكر بطريقة التحليل العقلي لاستخراج تعريف الكلمة والمفرد والمثلث والمربع.

11 - استخرج بطريقة القسمة المنطقية الثنائية تعريف الفصل تارة والنوع أخرى.

12 - فرق بين القسمة العقلية القسمة العقلية وبين الاستقرائية في القسمات التفصيلية الآتية مع بيان الدليل على ذلك :

أ - قسمة فصول السنة إلى ربيع وصيف وخريف وشتاء.

ب - قسمة أوقات اليوم إلى فجر وصبح وضحى وظهر وعصر واصيل وعشاء وعتمة .

ج - قسمة الفعل إلى ماض ومضارع وأمر .

د - قسمة الاسم إلى نكرة ومعرفة .

ه - قسمة الاسم إلى مرفوع ومنصوب ومجرور .

و - قسمة الحكم إلى وجوب وحرمة واستحباب وكراهة واباحة .

ز - قسمة الصوم إلى واجب ومستحب ومكروه ومحرم.

ح - قسمة الصلاة إلى ثنائية وثلاثية ورباعية.

ط - قسمة الحج إلى تمتع وقران وأفراد .

ي - قسمة الخط إلى مستقيم ومنحن ومنكسر .

ثم اقلب ما يمكن من هذه القسمات إلى قسمة ثنائية، واستخرج منها بعض التعريفات لبعض الأقسام واختر خمسة على الأقل.

انتهى الجزء الأول

ص: 127

ص: 128

الجزء الثاني

اشارة

المشتمل على :

1 - الباب الرابع : القضايا وأحكامها

2 - الباب الخامس : مباحث الاستدلال

ص: 129

ص: 130

الباب الرابع : القضايا وأحكامها

اشارة

وفيه فصلان

ص: 131

ص: 132

الفصل الأول : في القضايا

القضية
اشارة

تقدّم في الباب الأوّل ان الخبر هو القضية ، وعرفنا الخبر - أو القضية - بأنه : المركب

التام الذي يصح أن نصفه بالصدق أو الكذب.

وقولنا : المركب التام، هو جنس قريب يشمل نوعي التام الخبر والإنشاء. وباقي التعريف خاصة يخرج بها الإنشاء، لأن الوصف بالصدق أو الكذب من عوارض الخبر المختصة به ، كما فصلناه هناك، فهذا التعريف تعريف بالرسم التام.

ولأجل أن يكون التعريف دقيقا نزيد عليه كلمة لذاته، فنقول : القضية هي المركب

التام الذي يصح أن نصفه بالصدق أو الكذب لذاته .

وكذا ينبغي زيادة كلمة لذاته في تعريف الإنشاء. ولهذا القيد فائدة ؛ فانّه قد يتوهم غافل فيظن أن التعريف الأول للخبر يشمل بعض الإنشاءات فلا يكون مانعاً، ويخرج هذا البعض من تعريف الإنشاء فلا يكون جامعاً.

وسبب هذا الظن ان بعض الإنشاءات قد توصف بالصدق والكذب، كما لو استفهم شخص عن شيء يعلمه، أو سال الغني سؤال الفقير، أو تمنى إنسان شيئاً هو واجد له ؛ فان هؤلاء نرميهم بالكذب، وفي عين الوقت نقول للمستفهم الجاهل والسائل الفقير والمتمني الفاقد اليائس انهم صادقون . ومن المعلوم أن الاستفهام والطلب بالسؤال والتمني من أقسام الانشاء.

ص: 133

ولكنا إذا دققنا هذه الأمثلة وأشباهها يرتفع هذا الظن ، لأنّنا نجد أن الاستفهام الحقيقي لا يكون إلا عن جهل والسؤال لا يكون إلا عن حاجة، والتمني لا يكون إلا عن فقدان ويأس ؛ فهذا الإنشاءات تدلّ بالدلالة الإلزامية على الأخبار عن الجهل أو الحاجة أو اليأس، فيكون الخبر المدلول عليه بالالتزام هو الموصوف بالصدق أو الكذب، لا ذات

الانشاء.

فالتعريف الأوّل للخبر في حد نفسه لا يشمل هذه الإنشاءات، ولكن لأجل التصريح بذلك دفعاً للالتباس ، نضيف كلمة لذاته؛ لأن هذه الإنشاءات المذكورة لئن اتصفت بالصدق أو الكذب ، فليس هذا الوصف لذاتها ، بل لأجل مداليلها الالتزامية .

ص: 134

أقسام القضية
القضية : حملية وشرطية :

1 - الحملية مثل : الحديد معدن الربا ،محرّم الصدق ممدوح ، الكاذب ليس بمؤتمن البخيل لا يسود.

وبتدقيق هذه الأمثلة نجد أن كلّ قضية منها لها طرفان ونسبة بينهما. ومعنى هذه النسبة اتحاد الطرفين وثبوت الثاني للأول، أو نفي الاتحاد والثبوت . وبالاختصار نقول : معناها ان هذا ذاك أو هذا ليس ذاك فيصح تعريف الحملية بأنها :

ما حكم فيها بثبوت شيء أو نفيه عنه.

2 - الشرطية مثل :

إذا أشرقت الشمس فالنهار موجود.

وليس إذا كان الإنسان نمّاما كان أمينا .

ومثل :

اللفظ إما أن يكون مفرداً أو مركباً.

وليس الإنسان اما أن يكون كاتباً أو شاعراً.

وعند ملاحظة هذه القضايا نجد : ان كلّ قضية منها لها طرفان، وهما قضيتان بالأصل . ففى المثال الأوّل لولا إذا وفاء الجزاء لكان قولنا :«أشرقت الشمس» خبراً بنفسه وكذا النهار موجود وهكذا باقي الأمثلة. ولكن لما جمع المتكلم بين الخبرين ونسب أحدهما إلى الآخر جعلهما قضية واحدة وأخرجهما عما كانا عليه من كون كلّ منهما خبراً يصح السكوت عليه ؛ فإنّه لو قال : «إذا أشرقت الشمس ...» وسكت فانه يعد مركبا ناقصاً .

ص: 135

كما تقدّم في بحث المركب .

وأما هذه النسبة بين الخبرين بالأصل، فليست هي نسبة الثبوت والاتحاد كالحملية، لأن لا اتحاد بين القضايا، بل هي اما نسبة الاتصال والتصاحب، والتعليق، أي تعليق الثاني على الأوّل أو نفي ذلك كالمثالين الأولين ؛ واما نسبة التعاند والانفصال والتباين أو نفي ذلك كالمثالين الأخيرين.

ومن جميع ما تقدّم نستطيع ان نستنتج عدة أمور :

الأوّل: تعريف القضية الشرطية بأنها : ما حكم فيها بوجود نسبة بين قضية وأخرى أو لا وجودها.

الشرطية : متصلة ومنفصلة

الثاني: ان الشرطية تنقسم إلى متصلة ومنفصلة ، لأن النسبة :

1 - ان كانت هي الاتصال بين القضيتين وتعليق احداهما على الأخرى أو نفي ذلك

كالمثالين الاوّلين ، فهي المسماة بالمتصلة.

2 - وان كانت هي الانفصال والعناد بينهما أو نفي ذلك ، كالمثالين الأخيرين فهي

المسماة بالمنفصلة.

الثالث: أن القضية بجميع أقسامها سواء كانت حملية أو متصلة أو منفصلة، تنقسم إلى : موجبة وسالبة، لأن الحكم فيها :

1 - ان كان بنسبة الحمل أو الإتصال أو الإنفصال فهي موجبة.

2 - وان كان بسلب الحمل او الإتصال أو الإنفصال فهي سالبة.

وعلى هذا فليس من حق السالبة أن تسمّى حملية أو متصلة أو منفصلة ، لأنها سلب

الحمل أو سلب الاتصال أو سلب الانفصال، ولكن تشبيها لها بالموجبة سمّيت باسمها . ويسمّى الايجاب والسلب كيف القضية، لأنه يسأل . كيف» الاستفهامية عن الثبوت وعدمه.

ص: 136

أجزاء القضية

قلنا : ان كلّ قضية لها طرفان ونسبة ؛ وعليه ففى كل قضية ثلاثة أجزاء؛ ففى الحملية :

الطرف الأوّل : المحكوم عليه، ويسمّى موضوعاً.

الطرف الثاني : المحكوم به ، ويسمّى محمولاً.

النسبة : والدال عليها يسمّى رابطة.

وفي الشرطية :

الطرف الأول : يسمّى مقدّماً.

والطرف الثاني : يسمّى تالياً.

والدال على النسبة : يسمّى رابطة.

وليس من حق اطراف المنفصلة أن تسمّى مقدما وتالياً ، لأنها غير متميزة بالطبع كالمتصلة ، فان لك أن تجعل أيا شئت منها مقدماً وتالياً، ولا يتفاوت المعنى فيها ،ولكن انما سمّيت بذلك فعلى نحو العطف على المتصلة تبعاً لها ، كما سمّيت السالبة باسم الموجبة الحملية أو المتصلة أو المنفصلة.

أقسام القضية باعتبار الموضوع

الحملية : شخصيّة ، وطبيعية ومهملة ومحصورة.

المحصورة : كليّة وجزئية .

نبتدىء بالتقسيم باعتبار الموضوع للحملية ، ثم نتبعه بتقسيم الشرطية ، فنقول :

تنقسم الحملية باعتبار الموضوع إلى الأقسام الاربعة المذكورة في العنوان لأن الموضوع اما أن يكون جزئياً حقيقياً أو كلياً.

أ - فإن كان جزئياً سمّيت القضية شخصيةومخصوصة مثل : محمد رسول الله ، الشيخ

ص: 137

المفيد مجدد القرن الرابع ، بغداد عاصمة العراق ، أنت عالم ، هو ليس بشاعر ، هذا العصر لا يبشر بخير .

ب - وان كان كليا ، ففية ثلاث حالات تسمى - في كل حالة - القضية المشتملة عليه

باسم مخصوص ، فانه :

1 - أمّا أن يكون الحكم في القضية على نفس الموضوع الكلي بما هو كلي مع غضّ النظر عن أفراده، على وجه لا يصح تقدير رجوع الحكم إلى الأفراد، فالقضية تسمّى طبيعية، لأن الحكم فيها على نفس الطبيعة من حيث هي كلية ، مثل : الإنسان نوع ؛ الناطق فصل ، الحيوان ، جنس ، الضاحك خاصة ... وهكذا . فانّك ترى ان الحكم في هذه الأمثلة لا يصح ارجاعه إلى أفراد الموضوع ، لأن الفرد ليس نوعاً ولا فصلاً ولا جنساً ولا خاصة.

2 - واما أن يكون الحكم فيها على الكلي بملاحة أفراده، بان يكون الحكم في الحقيقة راجعاً إلى الأفراد، والكلي جعل عنواناً ومرآة لها، إلا أنه لم يبين فيه كمية الأفراد، لا جميعها ولا بعضها ، فالقضية تسمّى مهملة لاهمال بيان كمية أفراد الموضوع ، مثل : الإنسان في خسر . رئيس القوم خادمهم ليس من العدل سرعة العذل المؤمن لا يكذب . فانه ليس في هذه الأمثلة دلالة على أن الحكم عام لجميع ما تحت الموضوع أو غير

عام.

تنبيه: قال الشيخ الرئيس في الاشارات بعد بيان المهملة : «فان كان ادخال الالف واللام يوجب تعميما وشركة وادخال التنوين يوجب تخصيصا ، فلا مهملة في لغة العرب وليطلب ذلك في لغة أخرى. وأمّا الحق في ذلك فلصناعة النحو ولا نخالطها بغيرها...». والحق وجود المهملة فى العرب إذا كانت اللام للحقيقة، فيشار بها إلى نفس الطبيعة من حيث وجودها في مصاديقها، من دون دلالة على أرادة الجميع أو البعض . نعم إذا كانت للجنس فإنّها تفيد العموم ويفهم ذلك من قرائن الأحوال. وهذا أمر يرجع فيه إلى كتب

النحو وعلوم البلاغة .

3 - واما أن يكون الحكم فيها على الكلي بملاحظة أفراده،كالسابقة، ولكن كمية

ص: 138

أفراده مبينة في القضية، أما جميعا أو بعضا، فالقضية تسمى محصورة وتسمّى مسؤرة أيضاً. وهى تنقسم بملاحظة كمّية الأفراد إلى :

أ - كليّة : إذا كان الحكم على جميع الأفراد مثل كلّ إمام ومعصوم كلّ ماء طاهر .

کل ربا محرّم لا شيء من الجهل بنافع ما في الدار ديار.

ب - وجزئية: إذا كان الحكم على بعض الأفراد مثل بعض الناس يكذبون . قليل من عبادي الشكور . وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين . ليس كلّ إنسان عالماً . رب أكلة منعت أكلات.

لا اعتبار إلا بالمحصورات

القضايا المعتبرة التي يبحث عنها المنطقي ويعتد بها ، هي المحصورات، دون غيرها

من باقي الأقسام. وهذا ما يحتاج إلى البيان :

أما الشخصية: فلان مسائل المنطق قوانين عامة ، فلا شأن لها فى القضايا الشخصية

التي لا عموم فيها .

وأما الطبيعية: فهي بحكم الشخصية ، لأن الحكم فيها ليس فيه تقنين قاعدة عامة. وانما الحكم - كما قلنا - على نفس المفهوم بما هو من غير أن يكون له مساس بأفراده .وهو بهذا الاعتبار كالمعنى الشخصي لا عموم فيه ، فان الإنسان في مثال الإنسان نوع لا عموم فيه . لان كلاً من أفراده ليس بنوع.

وأما المهملة فهي في قوّة الجزئية، وذلك لأن الحكم فيها يجوز أن يرجع إلى جميع

الأفراد ويجوز أن يرجع إلى بعضها دون البعض الآخر ، كما تقول : رئيس القوم خادمهم فانه إذا لم يبين في هذه القضية كمية الأفراد، فانّك تحتمل ان كلّ رئيس قوم يجب أن يكون ک خادم لقومة . وربما كان هذا الحكم من القائل غير عام لكلّ من يصدق عليه رئيس قوم؛ فقد يكون رئيس مستغنيا عن قومه إذ لا تكون قوته مستمدة منهم. وعلى كلا التقديرين يصدق بعض الرؤساء لقومهم كخدم لهم، لأن الحكم إذا كان في الواقع للكل، فان البعض

ص: 139

له هذا الحكم قطعاً أما البعض الآخر فهو مسكوت عنه . وإذا كان في الواقع للبعض، فقد

حكم على البعض .

إذن الجزئية صادقة على كلا التقديرين قطعا . ولا نعني بالجزئية إلا ما حكم فيها على بعض الأفراد من دون نظر إلى البعض الباقي بنفي ولا اثبات . فانك إذا قلت : «بعض الإنسان حيوان، فهي صادقة، لأنّها ساكتة عن البعض الآخر فلا تدلّ على أن الحكم لا يعمه . ولا شك ان بعض الإنسان حيوان وان كان البعض الباقي في الواقع أيضاً حيواناً ولكنه مسكوت عنه في القضية .

وإذا كانت القضايا المعتبرة هي المحصورات خاصة سواء كانت كلية أو جزئية فإذا روعي مع كمّ(1) القضيّة كيفها ، ارتقت القضايا المعتبرة إلى أربعة أنواع : الموجبة الكليّة،السالبة الكلّية ، الموجبة الجزئية والسالبةالجزئية.

السور وألفاظه

يسمّى اللفظ الدال على كمية أفراد الموضوع سور القضية تشبيها له بسور البلد الذي يحدها ويحصر ها. ولذا سمّيت هذه القضايا محصورة ومسورة.

ولكلّ من المحصورات الأربع سور خاص بها :

1 - سورة الموجبة الكلية : كلّ . جميع . عامة . كافة . لام الاستغراق ... إلى غيرها

من الألفاظ التي تدلّ على ثبوت المحمول لجميع أفراد الموضوع.

2 - سورة السالبة الكلية لا شيء . لا .واحد النكرة في سياق النفي ... إلى غيرها من الألفاظ الدالة على سلب المحمول عن جميع أفراد الموضوع.

3 - سور الموجبة الجزئية : بعض . واحد . كثير . قليل . ربما ، قلما ... إلى غيرها ممّا

ص: 140


1- كلية القضية وجزئيتها كم القضية بتشديد الميم مأخوذة من كم الاستفهامية التي يسأل بها عن المقدار والمصدر كمية بتشديد الميم

يدل على ثبوت المحمول لبعض افراد الموضوع.

4 - سور- السالبة الجزئية: ليس بعض . بعض ... ليس . ليس كلّ . ماكل ... أو غيرها

ممّا يدلّ على سلب المحمول عن بعض أفراد الموضوع.

وطلبا للاختصار نرمز لسور كلّ قضية برمز خاص كما يلي :

كل: للموجبة الكلية .

لا :للسالبة الكلية

ع: للموجبة الجزئية

س :السالبة الجزئية .

وإذا رمزنا دائماً للموضوع بحرف «ب» وللمحمول بحرف: «ح» فتكون رموزالمحصورات الأربع كما يلي :

کل ب ح... الموجبة الكلية

لا ب ح.... السالبة الكلية

ع ب ح.... الموجبة الجزئية

س ب ح.... السالبة الجزئية

تقسيم الشرطية

إلى شخصية ، ومهملة ، ومحصورة

لاحظنا أن الحملية تنقسم إلى الأقسام الأربعة السابقة باعتبار موضوعها.

وللشرطية تقسيم يشبه ذلك التقسيم ولكن لا باعتبار الموضوع، إذ لا موضوع لها، بل باعتبار الأحوال والأزمان التي يقع فيها التلازم أو العناد.

فتنقسم الشرطية بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام فقط : شخصية ، مهملة ، محصورة .

وليس من أقسامها الطبيعية التي لا تكون إلا باعتبار الموضوع بما هو مفهوم موجود في

الذهن.

ص: 141

1 - الشخصية: وهي ما حكم فيها بالاتصال، أو التنافي، أو نفيهما، في زمن معين

شخصي ، أو حال معين كذلك .

مثال المتصلة : ان جاء على غاضبا فلا اسلم عليه . إذا مطرت السماء اليوم فلا أخرج من الدار . ليس إذا كان المدرس حاضرا الآن فانّه مشغول بالدرس.

مثال المنفصلة: امّا أن تكون الساعة الآن الواحدة أو الثانية . وإما أن يكون زيد وهو فی

البيت نائما أو مستيقظاً. ليس امّا أن يكون الطالب وهو فى المدرسة واقفا أو في الدرس .

2 - المهملة: وهى ما حكم فيها بالاتصال أو التنافي أو رفعهما في حال أو زمان ما،

من دون نظر إلى عموم الأحوال والأزمان أو خصوصهما .

مثال المتصلة: إذا بلغ الماء كرا فلا ينفعل بملاقاة النجاسة ليس إذا كان الإنسان كاذبا كان محموداً.

مثال المنفصلة: القضيّة امّا أن تكون موجبة أو سالبة . ليس امّا أن يكون الشيء معدنا أو ذهبا .

3- المحصورة: وهي ما بين فيها كمية أحوال الحكم وأوقاته كلاً أو بعضاً وهي على

قسمين كالحملية :

أ - الكلية : وهي إذا كان اثبات الحكم أو رفعه فيها يشمل جميع الأحوال أو الأوقات. مثال المتصلة : كلّما كانت الأمّة حريصة على الفضيلة كانت سالكة سبيل السعادة ليس أبداً ، أو ليس البتة إذا كان الإنسان صبورا على الشدائد كان غير موفق في أعماله.

مثال :المنفصلة دائماً أما أن يكون العدد الصحيح زوجا أو فرداً. ليس أبداً، أو ليس البتة أمّا أن يكون العدد الصحيح زوجا أو قابلاً للقسمة على اثنين .

ب - الجزئية: إذا كان اثبات الحكم أو رفعه فيها يختص في بعض غير معين من الأحوال والأوقات.

مثال المتصلة: قد يكون إذا كان الإنسان عالما كان سعيداً. وليس كلّما كان الإنسان

حازماً كان ناجحاً في أعماله .

ص: 142

مثال المنفصلة : قد يكون امّا أن يكون الإنسان مستلقياً أو جالساً (وذلك عندما

يكون في السيارة مثلاً إذ لا يمكنه الوقوف). قد لا يكون امّا أن يكون الإنسان مستلقياً أو جالساً و(ذلك عندما يمكنه الوقوف منتصبا) .

السور في الشرطية

السور في الحملية يدلّ على كمية أفراد الموضوع . أما في الشرطية فدلالته على

سموم الأحوال والأزمان أو خصوصها. ولكلّ من المحصورات الأربع سور يختص بها

كالحملية :

1 - سور الموجبة الكلية كلّما . متى . ونحوها ، في المتصلة . ودائما ، في المنفصلة.

2 - سور السالبة الكلية ليس أبداً. ليس البتة، في المتصلة المتصلة والمنفصلة.

3 - سور الموجبة الجزئية: قد يكون ، فيهما .

سور السالبة الجزئية: قد لا يكون فيهما . وليس كلّما ، في المتصلة خاصة .

ص: 143

الخلاصة :

الصورة

ص: 144

تقسيمات الحملية
اشارة

تمهید

تقدّم ان الحملية تنقسم باعتبار الكيف إلى موجبة وسالبة، وباعتبار الموضوع إلى

شخصية وطبيعية ومهملة ومحصورة ، والمحصورة إلى كليّة وجزئيّة . وهذه تقسيمات

تشاركها الشرطيّة فيها في الجملة كما تقدم.

والآن نبحث في هذا الفصل عن التقسيمات الخاصة بالحملية، وهي تقسيمها أولاً باعتبار وجود موضوعها في الموجبة. وتقسيمها ثانياً باعتبار تحصيل الموضوع والمحمول وعدولهما . وتقسيمها ثالثا باعتبار جهة النسبة. فهذه تقسيمات ثلاثة :

1 - الذهنية ، الخارجية ، الحقيقية

ان الحملية الموجبة هي ما أفادت ثبوت شيء لشيء ولا شك أن ثبوت شيء لشيء فرع لثبوت المثبت له أي ان الموضوع في الحملية الموجبة يجب أن يفرض موجوداً قبل فرض ثبوت المحمول له ؛ إذ لولا أن يكون موجوداً لما أمكن أن يثبت له شيء كما يقولون في المثل : العرش ثم النقش . فلا يمكن أن يكون سعيد في مثل سعيد قائم غير موجود، ومع ذلك يثبت له القيام .

وعلى العكس من ذلك السالبة ؛ فإنّها لا تستدعي وجود موضوعها ، لأن المعدوم يقبل أن يسلب عنه كلّ شيء . ولذا قالوا :« تصدق السالبة بانتقاء الموضوع» فيصدق نحو

«أب عيسى بن مريم لم يأكل ولم يشرب ولم ينم ولم يتكلم ... وهكذا»، لأنه لم يوجد فلم

ص: 145

تثبت له كلّ هذه الأشياء قطعا ، فيقال لمثل هذه السالبة سالبة بانتفاء الموضوع. والمقصود من هذا البيان ان الموجبة لابد من فرض وجود موضوعها في صدقها وإلّا كانت كاذبة .

ولكن وجود موضوعها :

1 - تارة يكون في الذهن فقط فتسمى ذهنية مثل : كلّ اجتماع النقيضين مغاير لاجتماع المثلين. كلّ جبل ياقوت ممكن الوجود. فان مفهوم اجتماع النقيضين وجبل الياقوت غير موجودين في الخارج، ولكن الحكم ثابت لهما في الذهن .

2 - وأخرى يكون وجود موضوعها في الخارج على وجه يلاحظ في القضية خصوص الأفراد الموجودة المحققة منه في أحد الأزمنة الثلاثة نحو كل جندي المعسكر مدرب على حمل السلاح. بعض الدور المائلة للانهدام في البلد هدمت كلّ طالب فى المدرسة مجد. وتسمّى القضية هذه خارجية.

3 - وثالثة يكون وجوده في نفس الأمر والواقع، به معنى ان الحكم على الأف--راد المحققة الوجود والمقدرة الوجود معاً ، فكلّما يفرض وجوده وان لم يوجد أصلاً فهو داخل

في الموضوع ويشمله الحكم.

نحو :كلّ مثلث مجموع زواياه يساوي قائمتين . بعض المثلث قائم الزاوية . كلّ إنسان قابل للتعليم العالى . كلّ ماء طاهر .

فانّك ترى فى هذه الأمثلة ان كلّ ما يفرض للموضوع من أفراد (سواء كانت موجودة بالفعل أو معدومة ولكنها مقدرة الوجود) تدخل فيه ويكون لها حكمه عند وجودها.

وتسمّى القضية هذه حقيقية.

2 - المعدولة والمحصلة

موضوع القضية الحملية أو محمولها قد يكون شيئاً محصلا (بالفتح)، أي يدل على

شيء موجود ، مثل : إنسان . محمد. أسد أو صفة وجودية مثل : عالم عادل كريم يتعلم.

وقد يكون موضوعها أو محمولها شيئاً معدولاً أي داخلا عليه حرف السلب على

ص: 146

وجه يكون جزاً من الموضوع أو المحمول مثل : لا إنسان . لا عالم . لا كريم . غير بصير .

وعليه فالقضيّة باعتبار تحصيل الموضوع والمحمول وعدولهما ، تنقسم إلى قسمين : محلة ومعدولة .

1 - المحصلة : ما كان موضوعها ومحمولها محصلا سواء كانت موجبة أو سالبة مثل ؛

الهواء نقي الهواء ليس نقياً. وتسمّى أيضاً محصلة الطرفين.

2 - المعدولة ماكان موضوعها أو محمولها أو كلاهما معدولا ، سواء كانت موجبة أو سالبة . وتسمّى معدولة الموضوع أو معدولة المحمول أو معدولة الطرفين حسب دخ---ول العدول على أحد طرفيها أو كليهما . ويقال المعدولة أحد الطرفين : محصلة الطرف الآخر : الموضوع أو المحمول.

مثال معدولة الطرفين : كلّ لا عالم هو غير صائب الرأي . كلّ غير مجد ليس هو بغير

مخفق في الحياة .

مثال معدولة المحمول أو محصلة الموضوع : الهواء هو غير فاسد. الهواء ليس هو غیر فاسد.

مثال معدولة الموضوع أو محصلة المحصول : غير العالم مستهان . غير العالم ليس بسعيد.

تنبيه

تمتاز معدولة المحمول عن السالبة محصلة المحمول :

1 - في المعنى: فان المقصود بالسالبة سلب الحمل ، وبمعدولة المحمول حمل السلب ، أي يكون السلب في المعدولة جزءاً من المحمول فيحمل المسلوب بما هو مسلوب على الموضوع.

2 - في اللفظ: فان السالبة تجعل الرابطة فيها بعد حرف السلب لتدلّ على سلب : الحمل ، والمعدولة تجعل الرابطة فيها قبل السلب لتدلّ على حمل السلب.

وغالباً تستعمل «ليس» في السالبة و «لا» أو «غير» في المعدولة .

ص: 147

الخلاصة :

الصورة

3 - الموجهات
مادة القضية

كل محمول إذا نسب إلى موضوع فالنسبة فيه لا تخلو في الواقع ونفس الأمر من إحدى حالات ثلاث ( بالقسمة العقلية).

1 - الوجوب ومعناه : ضرورة ثبوت المحمول لذات الموضوع ولزومه له على وجه يمتنع سلبه عنه ، كالزوج بالنسبة إلى الأربعة ، فان الأربعة لذاتها يجب أن تتصف بانها زوج . وقولنا : لذات الموضوع يخرج به ما كان لزومه لأمر خارج عن ذات الموضوع، مثل ثبوت الحركة للقمر، فانّها لازمة له ولكن لزومها لا لذاته ، بل لسبب وضع الفلك وعلاقته بالأرض.

2 - الامتناع ومعناه : استحالة ثبوت المحمول لذات الموضوع فيجب سلبه عنه، كالاجتماع بالنسبة إلى النقيضين ، فان النقيضين لذاتهما لا يجوز أن يجتمعا .

ص: 148

وقولنا : «لذات الموضوع يخرج به ما كان امتناعه لأمر خارج عن ذات الموضوع، مثل سلب التفكير عن النائم ؛ فان التفكير يمتنع عن النائم ولكن لا لذاته، بل لأنّه فاقد للوعى.

تنبيه يفهم مما تقدم ان الوجوب والامتناع يشتركان في ضرورة الحكم، ويفترقان في أن الوجوب ضرورة الايجاب، والامتناع ضرورة السلب.

3 - الإمكان ومعناه : أنه لا يجب ثبوت المحمول لذات الموضوع، ولا يمتنع ، فيجوز

الايجاب والسلب معا ، أي ان الضرورتين ضرورة الايجاب وضرورة السلب مسلوبتان معا

فيكون الإمكان معنى عدميا يقابل الضرورتين تقابل العدم والملكة ، ولذا يعبر عنه بقولهم : «هو سلب الضرورة عن الطرفين معا، أي طرف الايجاب وطرف السلب للقضية. ويقال له : «الإمكان الخاص» أو «الإمكان الحقيقي» في مقابل «الإمكان العام» الذي هو أعم من الإمكان الخاص.

الإمكان العام

والمقصود منه : ما يقابل إحدى الضرورتين ضرورة الايجاب أو السلب فهو أيضاً معناه سلب الضرورة ، ولكن سلب ضرورة واحدة لا الضرورتين معا. فإذا كان سلب ضرورة الايجاب فمعناه ان طرف السلب ممكن ، وإذا كان سلب ضرورة السلب فمعناه ان

طرف الايجاب ممكن .

فلو قيل : هذا الشيء ممكن الوجود أي انه لا يمتنع أو فقل ان ضرورة السلب (وهي الامتناع مسلوبة . وإذا قيل : هذا الشيء ممكن العدم أي أنّه لا يجب، أو فقل ان ضرورة الايجاب (وهى الوجوب) مسلوبة.

ولذا عبّر عنه الفلاسفة بقولهم : «هو سلب الضرورة عن الطرف المقابل أي مع السكوت عن الطرف الموافق ؛ فقد يكون مسلوب الضرورة وقد لا يكون . وهذا الإمكان هو

ص: 149

الشايع استعماله عند عامة الناس والمتداول فى تعبيراتهم. وهو كما قلنا أعم من الإمكان الخاص، لأنّه إذا كان امكانا للايجاب فانه يشمل الوجوب والإمكان الخاص، وإذا كان امكاناً للسلب فانّه يشمل الامتناع والإمكان الخاص.

مثال امکان الایجاب، قولهم: «الله ممكن الوجود» و «الإنسان ممكن الوجود، فان معناه في المثالين ان الوجود لا يمتنع ، أي ان الطرف المقابل وهو عدمه ليس ضرورياً، ولوكان العدم ضرورياً لكان الوجود ممتنعا لا ممكناً . وأما الطرف الموافق وهو ثبوت الوجود فغير معلوم. فيحتمل أن يكون واجباً كما في المثال الأول ، ويحتمل ألا يكون واجباً كما في المثال الثاني، بأن يكون ممكن العدم أيضاً، أي انه ليس ضروري الوجود كما لم يكن ضروري ،العدم، فيكون ممكناً بالامكان الخاص فشمل هنا الإمكان العام الوج--وب والإمكان الخاص.

مثال امکان السلب ، قولهم : شريك الباري ممكن العدم» و «الإنسان ممكن العدم، فان معناه في المثالين ان الوجود لا يجب ، أي ان الطرف المقابل وهو وجوده ليس ضرورياً ولو كان الوجود ضرورياً لكان واجباً وكان عدمه ممتنعاً لا ممكنا. وأمّا الطرف الموافق وهو العدم فغير معلوم، فيحتمل أن يكون ضرورياً كما في المثال الأول وهو الممتنع . ويحتمل ألا يكون كذلك كما في الثاني، بأن يكون ممكن الوجود أيضاً، وهو الممكن بالامكان الخاص فشمل هنا الإمكان العام الامتناع والإمكان الخاص.

وعلى هذا فالامكان العام معنى يصلح للانطباق على كلّ من حالات النسبة الثلاث : الوجوب والامتناع والإمكان. فليس هو معنى يقابلها ، بل في الايجاب يصدق على الوجوب والإمكان الخاص وفي السلب على الامتناع والإمكان الخاص . وهذه الحالات الثلاث للنسبة التي لا يخلو من احداها واقع القضية تسمّى مواد القضايا وتسمّى عناصر العقود وأصول الكيفيات والإمكان العام خارج عنها وهو معدود من الجهات على ماسيأتي .

ص: 150

جهة القضية

تقدّم معنی مادة القضية التي لا تخرج عن إحدى تلك الحالات الثلاث ولهم اصطلاح آخر هنا وهو المقصود بالبحث، وهو قولهم : جهة القضية والجهة غير المادة ، فان المقصود بها ما يفهم ويتصور من كيفية النسبة بحسب ما تعطيه العبارة من القضية . والفرق بينهما مع ان كلا منهما كيفية في النسبة : ان المادة هي تلك النسبة الواقعية في نفس الأمر التي هي اما الوجوب او الامتناع أو الإمكان ولا يجب أن تفهم وتتصور في مقام توجه النظر إلى القضية، فقد تفهم وتبين في العبارة وقد لا تفهم ولا تبين . واما الجهة فهي خصوص ما يفهم ويتصور من كيفية نسبة القضية عند النظر فيها ؛ فإذا لم يفهم شيء من كيفية النسبة فالجهة ،مفقودة، أي ان القضية لا جهة لها حينئذٍ وهي أي الجهة لا يجب أن تكون مطابقة للمادة الواقعية ؛ فقد تطابقها وقد لا تطابقها .

فإذا قلت : الإنسان حيوان بالضرورة ، فان المادة الواقعية هي الضرورة، والجهة فيها أيضاً الضرورة. فقد طابقت في هذا المثال الجهة المادة. وبتعبير آخر إن المادة الواقعية قدفهمت وبينت بنفسها في هذه القضية .

واما إذا قلت في المثال : الإنسان يمكن أن يكون حيواناً»، فان الم--ادة في هذه القضية هي الضرورة لا تتبدل ؛ لأن الواقع لا يتبدل بتبدّل التعبير والادراك . ولكن الجهة هنا هي الإمكان العام، فانّه هو المفهوم والمتصور من القضية، وهو لا يطابق المادة، لأنه ف--ي طرف الايجاب يتناول الوجوب والإمكان الخاص كما تقدم ؛ فيجوز أن تكون المادة واقعاً هي الضرورة كما في المثال ، ويجوز أن تكون هي الإمكان الخاص، كما لو كانت القضية هكذا : الإنسان يمكن أن يكون كاتباً.

وهكذا لو قلت : «الإنسان حيوان دائماً» فان المادة هي الضرورة، والجهة هي الدوام

: الذي يصدق مع الوجوب والإمكان الخاص ؛ لأن الممكن بالامكان الخاص قد يكون دائم الثبوت كحركة القمر مثلاً، وكزرقة العين ، فلم تطابق الجهة المادة هنا.

ان القضية التي يبين فيها كيفية النسبة تسمّى موجّهة (بصيغة اسم المفعول) . وما

ص: 151

أهمل فيها بيان الكيفية تسمّى مطلقة أو غير موجهة.

ومما يجب أن يعلم انا إذ قلنا ان الجهة لا يجب أن تطابق المادة ، فلا نعني انه يجوز أن تناقضها، بل يجب الا تناقضها ، فلو كانت مناقضة لها على وجه لا تجتمع معها ،كما لو كانت المادة هى الامتناع مثلا وكانت الجهة دوام الثبوت أو امكانه ، فان القضيةتكون كاذبة . فيفهم من هذا ان من شروط صدق القضية الموجهة ألا تكون جهتها مناقضة لمادتها الواقعية .

أنواع الموجهات

تنقسم الموجهة إلى : بسيطة ومركبة

والمركبة: ما انحلت إلى قضيتين موجهتين بسيطتين احداهما موجبة والاخرى سالبة . ولذا سمّيت مركبة، وسيأتي بيانها . أما البسيطة فخلافها ، وهي لا تنحل إلى أكثر من

قضية واحدة.

أقسام البسيطة

وأهم البسائط ثمان وان كانت تبلغ أكثر من ذلك :

1 - الضرورية الذاتية: ويعنون بها ما دلّت على ضرورة ثبوت المحمول لذات الموضوع أو سلبه عنه ما دام ذات الموضوع موجودا من دون قيد ولا شرط ؛ فتكون مادتها وجهتها الوجوب في الموجبة والامتناع في السالبة نحو : الإنسان حيوان بالضرورة.

الشجر ليس متنفساً بالضرورة.

وعندهم ضرورية تسمّى الضرورية الأزلية وهي التي حكم فيها بالضرورة الصرفة بدون قيد فيها حتى قيد ما دام ذات الموضوع، وهي تنعقد في وجود الله تعالى وصفاته، مثل : الله موجود بالضرورة الأزلية، وكذا الله حي عالم قادر بالضرورة الأزلية.

ص: 152

2 - المشروطة العامة: وهى من قسم الضرورية، ولكن ضرورتها مشروطة ببقاء عنوان الموضوع ثابتاً لذاته نحو : الماشي متحرك بالضرورة ما دام على هذه الصفة . أما ذات الموضوع بدون قيد عنوان الماشي فلا يجب له التحرك.

الدائمة المطلقة: وهى ما دلّت على دوام ثبوت المحمول لذات الموضوع أو سلبه عنه ما دام الموضوع بذاته موجوداً ، سواء كان ضرورياً له أولاً نحو : كلّ فلك متحرك دائماً. لا زال الحبشي أسود فانّه لا يمتنع أن يزول سواد الحبشي وحركة الفلك، ولكنه لم يقع.

4 - العرفية العامة :وهى من قسم الدائمة، ولكن الدوام فيها مشروط ببقاء عنوان الموضوع ثابتاً لذاته، فهى تشبه المشروطة العامة من ناحية اشتراط جهتها ببقاء عنوان الموضوع، نحو : كلّ كاتب متحرك الاصابع دائماً ما دام كاتباً، فتحرك الأصابع ليس دائماً ما دام الذات، ولكنه دائم ما دام عنوان الكاتب ثابتاً لذات الكاتب.

5 - المطلقة العامة: وتسمّى الفعلية، وهي ما دلّت على ان النسبة واقعة فعلاً، وخرجت من القوّة إلى الفعل ووجدت بعد أن لم تكن سواء كانت ضرورية أو لا ؛ وسواء ا كانت دائمة أو لا ؛ وسواء كانت واقعة فى الزمان الحاضر أو فى غيره نحو : كلّ إنسان ماش بالفعل وكلّ فلك متحرّك بالفعل.

وعليه فالمطلقة العامة أعم من جميع القضايا السابقة

6 - الحينية المطلقة وهى من قسم المطلقة، فتدلّ على فعلية النسبة أيضاً، لكن فعليتها حين اتصاف ذات الموضوع بوصفه وعنوانه نحو كل طائر خافق الجناحين بالفعل حين هو طائر؛ فهى تشبه المشروطة والعرفية من ناحية اشتراط جهتها بوصف الموضوع وعنوانه .

7 - الممكنة العامة وهى ما دلّت على سلب ضرورة الطرف المقابل للنسبة المذكورة فى القضية، فان كانت القضية موجبة دلّت على سلب ضرورة السلب وان كانت سالبة دلّت على سلب ضرورة الايجاب.

ص: 153

ومعنى ذلك أنّها تدلّ على ان النسبة المذكورة في القضية غير ممتنعة سواء كانت ضرورية أو لا ؛ وسواء كانت واقعة أو لا ؛ وسواء كانت دائمة أو لا نحو : كلّ إنسان كاتب بالإمكان العام أي ان الكتابة لا يمتنع ثبوتها لكل إنسان ؛ فعدمها ليس ضروريا، وان اتفق انها لا تقع لبعض الاشخاص.

وعليه فالممكنة العامة أعم من جميع القضايا السابقة.

8 - الحينية الممكنة وهي من قسم الممكنة ولكن امكانها بلحاظ اتصاف ذات الموضوع بوصفه وعنوانه، نحو: كلّ ماش غير مضطرب اليدين بالامكان العام حين هو ماش.

والحينية الممكنة يؤتى بها عندما يتوهم المتوهم ان المحمول يمتنع ثبوته للموضوع

حين اتصافه بوصفه .

أقسام المركبة

قلنا فيما تقدّم : ان المركبة ما انحلت إلى قضيتين موجبة وسالبة ؛ ونزيدها هنا توضيحاً ، فنقول : ان المركبة تتألف من قضية مذكورة بعبارة صريحة هي الجزء الأول منها

(سواء كانت موجبة أو سالبة، وباعتبار هذا الجزء الصريح تسمّى المركبة موجبة أو سالبة) ومن قضية أخرى تخالف الجزء الأول بالكيف وتوافقه بالكم غير مذكورة بعبارة صريحة،

وانّما يشار اليها ، بنحو كلمة لا دائماً ولا بالضرورة.

وانّما يلتجأ إلى التركيب، عندما تستعمل قضية موجبة عامة تحتمل وجهين الضرورة واللاضرورة أو الدوام واللادوام، فيراد بيان أنها ليست بضرورية أو ليست بدائمة ؛ فيضاف إلى القضية مثل كلمة لا بالضرورة أو لا دائماً.

مثل ما إذا قال القائل : «كلّ مصلّ يتجنب الفحشاء بالفعل» فيحتمل أن يكون ذلك ضرورياً لا ينفك عنه ويحتمل ألا يكون ضرورياً ؛ فلأجل دفع الاحتمال ولأجل التنصيص على أنه ليس بضرورى تقيد القضيّة بقولنا : لا بالضرورة».

ص: 154

كما يحتمل أن يكون ذلك دائماً ويحتمل ألا يكون ، ولأجل دفع الاحتمال وبيان انه

ليس بدائم تقيد القضية بقولنا : لا دائماً.

فالجزء الأوّل وهو كلّ مصلِّ يتجنب الفحشاء بالفعل قضية موجبة كلية مطلقة عامة . والجزء الثاني وهو لا بالضرورة يشار به إلى قضية سالبة كلية ممكنة عامة ؛ لأن معنى لا بالضرورة أن تجنب الفحشاء ليس بضروري لكلّ مصلَّ، فيكون مؤداه أنّه يمكن سلب تجنب الفحشاء عن المصلى ؛ ويعبر عن هذه القضية بقولهم : لا شيء من المصلى

بمتجنب للفحشاء بالإمكان العام.

وكذا لو كان الجزء الثاني هو لا دائماً فانّه يشار به إلى قضية سالبة كلية ولكنها مطلقة عامة ، لأن معنى لا دائماً أن تجنب الفحشاء لا يثبت لكل مصلّ دائماً، فيكون المؤدى: «لا شيء من المصلّي بمتجنب للفحشاء بالفعل»

وأهم القضايا المركبة المتعارفة ستّ :

1 - المشروطة الخاصة: وهي المشروطة العامة المقيّدة باللادوام الذاتي. والمشروطة العامة هي الدالّة على ضرورة ثبوت المحمول للموضوع ما دام الوصف ثابتاً له، فيحتمل فيها أن يكون المحمول دائم الثبوت لذات الموضوع وأن تجرد عن الوصف ويحتمل ألا يكون . ولأجل دفع الاحتمال وبيان أنّه غير دائم الثبوت لذات الموضوع تقيد القضية باللادوام الذاتى ، فيشار به إلى قضية مطلقة عامة .

فتتركب المشروطة الخاصة - على هذا - من مشروطة عامة صريحة ومطلقة عامة مشار إليها بكلمة لا دائماً نحو : كلّ شجر نام بالضرورة ما دام شجراً لا دائماً أي لا شيء

من الشجر بنام بالفعل . وانّما سمّيت خاصة لأنها أخص من المشروطة العامة.

2 - العرفية الخاصة وهي العرفية العامة المقيد باللادوام الذاتي . ومعناه ان المحمول وإن كان دائماً ما دام الوصف هو غير دائم ما دام الذات، فيرفع به احتمال الدوام ما دام الذات. ويشار باللادوام إلى قضية مطلقة عامة كالسابق نحو : كل شجر نام دائماً ما دام شجراً لا دائماً أي لا شيء من الشجر بنام بالفعل .

ص: 155

فتتركب العرفية الخاصة من عرفية عامة صريحة ومطلقة عامة مشار إليه بكلمة لا دائماً، وأنّما سمّيت خاصة لأنها أخص من العرفية العامة . إذ العرفية العامة تحتمل الدوام مادام الذات وعدمه، والعرفية الخاصة مختصة بعدم الدوام مادام الذات.

3 - الوجودية اللاضرورية: وهى المطلقة العامة المقيّدة باللاضرورية الذاتية ، لأن المطلقة العامة يحتمل فيها أن يكون المحمول ضرورياً لذات الموضوع ويحتمل عدمه، ولأجل التصريح بعدم ضرورة ثبوته لذات الموضوع تقيد بكلمة لا بالضرورة وسلب الضرورة معناه الإمكان العام ، لأن الإمكان العام هو سلب الضرورة عن الطرف المقابل ؛ فإذا سلبت الضرورة عن الطرف المذكور صريحاً في القضية ولنفرضه حكماً ايجابياً فمعناه ان الطرف المقابل وهو السلب موجه بالامكان العام.

وعليه فيشار بكلمة لا بالضرورة إلى ممكنة عامة ، فإذا قلت : «كل إنسان متنفس بالفعل لا بالضرورة» فان لا بالضرورة اشارة إلى قولك : لا شيء من الإنسان بمتنفس

بالامكان العام.

فتتركب إذن الوجودية اللاضرورية من مطلقة عامة وممكنة عامة، وانما سمّيت وجودية لأن المطلقة العامة تدلّ على تحقق الحكم ووجوده خارجاً ، وسمّيت لا ضرورية لتقيدها باللاضرورة.

4 - الوجودية اللادائمة: وهى المطلقة العامة المقيّدة باللادوام الذاتي، لأن المطلقة العامة يحتمل فيها أن يكون المحمول دائم الثبوت لذات الموضوع ويحتمل عدمه، ولأجل التصريح بعدم الدوام تقيد القضية بكلمة لا دائماً ، فيشار بها إلى مطلقة عامة كما تقدم، فتتركب الوجودية اللادائمة من مطلقتين عامتين، وسمّيت وجودية للسبب المتقدم نحو : لا شيء من الإنسان بمتنفس بالفعل لا دائماً أي ان كلّ إنسان متنفس بالفعل.

5 - المحينية اللادائمة: وهي الحينية المطلقة المقيّدة باللادوام ،الذاتي، لأن الحينية المطلقة معناها ان المحمول فعلي الثبوت للموضوع حين اتصافه بوصفه، فيحتمل فيها الدوام ما دام الموضوع ،وعدمه، ولأجل التصريح بعدم الدوام تقيد باللادوام الذاتي الذي

ص: 156

يشار به إلى مطلقة عامة كما تقدم، فتتركب الحينية اللادائمة من حينية مطلقة، ومطلقة عامة . نحو : كلّ طائر خافق الجناحين بالفعل حين هو طائر لا دائماً، أى لا شيء من الطائر بخافق الجناحين بالفعل.

6 - الممكنة الخاصة وهى الممكنة العامة المقيّدة باللاضرورة الذاتية، ومعناها ان الطرف الموافق المذكور في القضية ليس ضرورياً كما كان الطرف المخالف حسب التصريح في القضية ليس ضروريا أيضا، فيرفع بقيد اللاضرورة احتمال الوجوب إذا كانت القضية موجبة واحتمال الامتناع إذا كانت سالبة . ومفاد مجموع القضية بعد التركيب هو الإمكان الخاص الذي هو عبارة عن سلب الضرورة عن الطرفين.

فتتركب الممكنة الخاصة من ممكنتين عامتين، وتكون فيها الجهة نفس المادة الواقعية إذا كانت صادقة .

ويكفى لافادة ذلك تقييد القضية بالامكان الخاص اختصاراً، فنقول: «كلّ حيوان متحرّك بالإمكان «الخاص» أي كلّ حيوان متحرك بالامكان العام، ولا شيء من الحيوان بمتحرك بالإمكان العام.

والتعبير بالإمكان الخاص بمنزلة ما لو قيدت الممكنة العامة باللاضرورة، كما لو قلت في المثال : كلّ حيوان متحرّك بالإمكان العام لا بالضرورة.

ص: 157

الخلاصة :

الصورة

ص: 158

تمرينات

1 - اذكر ماذا بين الضرورية الذاتية الضرورية الذاتية وبين الدائمة المطلقة من النسب الأربع وكذا ما بين الضرورية الذاتية وبين المشروطة العامة والعرفية العامة.

2 - اذكر النسبة بین الدائمة المطلقة وبين كلّ من المطلقة العامة والعرفية العامة.

3- ما النسبة بين المشروطة العامة والعرفية العامة ، وكذا بين الضرورية الذاتية والمشروطية الخاصة.

4 - لو انا قيدنا المشروطة العامة باللاضرورة الذاتية هل يصح التركيب ؟

5 - هل ترى يصح تقييد الحينية المطلقة باللاضرورة الذاتية ؟ وإذا صح ماذا ينبغي أن نسمّي هذه القضية المركبة ؟

6 - هل يصح تقييد الدائمة المطلقة باللاضرورة الذاتية ؟

7- اذكر مثالاً واحداً من نفسك لكلّ من الموجهات البسيطة ثم اجعلها مركبة بواحدة

من التركيبات الستة المذكورة الممكنة لها .

ص: 159

تقسیمات الشرطية الأخرى
اشارة

تقدّم انّ الشرطيّة باعتبار نسبتها إلى متصلة ومنفصلة ، وباعتبار الكيف إلى موجبة وسالبة ، وباعتبار الأحوال والأزمان إلى شخصية ومهملة ومحصورة، والمحصورة إلى كليّة وجزئية . وقد بقي تقسيم كلّ من المتصلة والمنفصلة إلى أقسامها .

اللزومية والاتفاقية

تنقسم المتصلة باعتبار طبيعة الاتصال بين المقدّم والتالي إلى لزومية واتفاقية :

1 - اللزومية: وهي التي بين طرفيها اتصال حقيقي لعلاقة توجب استلزام أحدهما للآخر ، بأن يكون احدهما علّة للآخر ، أو معلولين لعلّة واحدة.

نحو : إذا سخن الماء فانّه يتمدد والمقدّم علّة للتالي . ونحو : إذا تمدّد الماء فانه ساخن والتالي علّة للمقدم، بعكس الأوّل ونحو : إذا غلا الماء فانه يتمدد وفيه الطرفان معلولان لعلّة واحدة ، لأن الغليان والتمدّد معلولان للسخونة إلى درجة معينة .

2:الاتفاقية :وهي التي ليس بين طرفيها اتصال حقيقي لعدم العلقة التي توجب الملازمة، ولكنه يتفق حصول التالي عند حصول المقدم ، كما لو اتفق ان محمدا الطالب لا يحضر الدرس إلا بعد شروع المدرس ، فتؤلف هذه القضية الشرطية : كلّما جاء محمد فان المدرس قد سبق شروعه في الدرس. وليس هنا اية علاقة بين مجيء محمد وسبق شروع المدرس ، وانّما ذلك بمحض الصدفة المتكررة.

ومن لم يتنور بنور العلم والمعرفة كثيرا ما يقع في الغلط فيظن في كثر من الاتفاقيات

قضايا لزومية لمجرد تكرر المصادفة.

ص: 160

أقسام المنفصلة

للمنفصلة تقسيمان :

أ - العنادية والاتفاقية

وهذا التقسيم باعتبار طبيعة التنافي بين الطرفين، كالمتصلة فتنقسم إلى :

1 - العنادية : وهي التي بين طرفيها تناف وعناد حقيقي، بأن تكون ذات النسبة في

كل منهما تنافي وتعاند ذات النسبة في الآخر، نحو: العدد الصحيح أمّا أن يكون زوجاً أو

فرداً.

2 - الاتفاقية وهى التى لا يكون التنافى بين طرفيها حقيقياً ذاتياً ، وانما يتفق أن يتحقق أحدهما بدون الآخر لأمر خارج عن ذاتهما، نحو: أما أن يكون الجالس في الدار محمداً أو باقراً إذا اتفق ان علم أن غيرهما لم يكن . ونحو : هذا الكتاب أمّا أن يكون في علم المنطق وأما أن يكون مملوكاً لخالد إذا اتفق ان خالدا لا يملك كتاباً في علم المنطق واحتمل أن يكون هذا الكتاب المعين في هذا العلم.

ب - الحقيقية ومانعة الجمع ومانعة الخلو

وهذا التقسيم باعتبار امکان اجتماع الطرفين ورفعهما وعدم امكان ذلك، فتنقسم إلى :

1 - حقيقية: وهي ما حكم فيها بتنافي طرفيها صدقاً وكذباً في الايجاب وع--دم تنافيهما كذلك في السلب، بمعنى أنه لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما في الايجاب

ويجتمعان ويرتفعان في السلب.

مثال الايجاب : العدد الصحيح أما أن يكون زوجاً أو فرداً، فالزوج والفرد لا يجتمعان ولا يرتفعان .

مثال السلب : ليس الحيوان أما أن يكون ناطقاً وأما أن يكون قابلا للتعليم ؛ فالناطق

والقابل للتعليم يجتمعان في الإنسان ويرتفعان في غيره.

ص: 161

وتستعمل الحقيقة في القسمة الحاصرة : الثنائية وغيرها. واستعمالها أكثر من أني حصى.

2 - مانعة جمع وهي ما حكم فيها بتنافي طرفيها أو عدم تنافيها صدقا لا كذبا ، بمعنى أنه يمكن اجتماعهما ويجوز أن يرتفعا معا في الايجاب ويمكن اجتماعهما ولا يمكن ارتفاعهما في السلب.

مثال الايجاب : امّا أن يكون الجسم أبيض أو أسود ؛ فالأبيض والأسود لا يمكن

اجتماعهما في جسم واحد ولكنه يمكن ارتفاعهما في الجسم الأحمر.

مثال السلب : ليس امّا أن يكون الجسم غير أبيض أو غير اسود؛ فان غير الأبيض وغير الأسود يجتمعان في الأحمر ، ولا يرتفعان في الجسم الواحد بأن لا يكون غير أبيض ولا غير أسود بل يكون ابيض وأسود. وهذا محال .

وتستعمل مانعة الجمع في جواب من يتوهم امكان الاجتماع بين شيئين، كمن يتوهم ان الامام يجوز أن يكون عاصيا الله ، فيقال له : ان الشخص أما أن يكون اماماً أو عاصيا الله ومعناه أن الامامة والعصيان لا يجتمعان وان جاز أن يرتفعا بأن يكون شخص واحد ليس اماما وعاصياً.

هذا في الموجبة وأمّا في السالبة فتستعمل في جواب من يتوهم استحالة اجتماع شيئين ، كمن يتوهم امتناع اجتماع النبوة والامامة في بيت واحد ، فيقال له : «ليس امّا أن يكون البيت الواحد فيه نبوّة أو «امامة ومعناه أن النبوة والامامة لا مانع من اجتماعهما في

بيت واحد .

3 - مانعة خلو : هي ما حكم فيها بتنافي طرفيها او عدم تنافيها كذبا لا صدقا ، بمعنى أنه لا يمكن ارتفاعهما ويمكن اجتماعهما في الايجاب ويمكن ارتفاعهما ولا يمكن

اجتماعهما في السلب.

مثال الايجاب :الجسم أما أن يكون غير أبيض أو غير أسود، أي أنّه لا يخلو من أحدهما وان اجتمعا ونحو : أما أن يكون الجسم في الماء أو لا يغرق؛ فانّه يمكن

ص: 162

اجتماعهما بأن يكون في الماء ولا يغرق ولكن لا يخلو الواقع من احدهما لامتناع أن لا

يكون الجسم في الماء ويغرق .

مثال السلب ليس امّا أن يكون الجسم أبيض وأما أن يكون أسود ؛ ومعناه أن الواقع

قد يخلو من احدهما وان كانا لا يجتمعان .

وتستعمل مانعة الخلو الموجبة في جواب من يتوهم امكان أن يخلو الواق--ع م--ن

الطرفين ، كمن يتوهم أنّه يمكن أن يخلو الشيء من أن يكون علّة ،ومعلولا فيقال له : «كلّ شيء لا يخلو اما أن يكون علة أو معلولاً»، وان جاز أن يكون شيء واحد علة ومعلولا معاً : علّة لشيء ومعلولاً لشيء آخر .

وأمّا السالبة فتستعمل في جواب من يتوهم أن الواقع لا يخلو من الطرفين، كما يتوهم انحصار أقسام الناس في عاقل لا دين له، ودين لا عقل له فيقال له : «ليس الإنسان اما أن يكون عاقلاً لا دين له أو ديناً لا عقل له بل يجوز أن يكون شخص واحد عاقلاً وديناً معا.

تنبيه
اشارة

قد يغفل المبتدىء عن بعض القضايا، فلا يسهل عليه الحاقها بقسمها من أن--واع القضايا، لا سيما في التعبيرات الدارجة فى ألسنة المؤلفين التي لم توضع بصورة فنية مضبوطة كما تقتضيها قواعد المنطق . وهذه الغفلة قد توقعه فى الغلط عند الاستدلال أو لا يهتدي إلى وجه الاستدلال في كلام غيره . وتكثر هذه الغفلة فى الشرطيات . فلذلك وجب التنبيه على أمور تنفع فى هذا الباب نرجو أن يستعين بها المبتدىء:

1 - تأليف الشرطيات

قلنا : ان الشرطية تتألف من طرفين هما قضيتان بالأصل، والمنفصلة بالخصوص قد تتألف من ثلاثة أطراف فأكثر . فالطرفان أو الأطراف التي هي القضايا بالأصل قد تكون من

ص: 163

الحمليات أو من المتصلات أو من المنفصلات أو من المختلفات بأن تتألف المتصلة من حملية ومتصلة. وترتقى أقسام تاليف الشرطيات إلى وجوه كثيرة لا فائدة في احصائها . وعلى الطالب أن يلاحظ ذلك بنفسه، ولا يغفل عنه ، فقد ترد عليه شرطية مؤلفة من

متصلة ومنفصلة ، فيظن أنها أكثر من قضيّة. وللتوضيح نذكر بعض الوجوه و ، وأمثلتها : فمثلاً قد تتألف المتصلة من حملية ومتصلة نحو : ان كان العلم سبباً للعادة فان كان الإنسان عالماً كان سعيداً، فان المقدم في هذه القضية حملية والتالي متصلة وهو : ان كان الإنسان عالما كان سعيدا.

وقد تتألف المتصلة من حملية ومنفصلة نحو : إذا كان اللفظ مفردا فإما أن يكون اسما أو فعلاً او حرفاً فالمقدّم حملية والتالي منفصلة ذات ثلاثة اطراف .

وقد تتألف المنفصلة من حملية ومتصلة نحو : أما أن لا تكون حيلولة الأرض سبباً

لخسوف القمر او إذا حالت الأرض بين القمر والشمس كان القمر منخسفاً. وهكذا قد تتألف المتصلة أو المنفصلة من متصلتين أو منفصلتين أو متصلة ومنفصلة ويطول ذكر أمثلتها .

ان الشرطية التي تكون طرفاً في شرطية أيضاً تأليفها يكون من الحمليات أو الشرطيات أو المختلفات وهكذا فتنبه لذلك .

2 - المنحرفات

ومن الموهمات في القضايا انحراف القضية عن استعمالها الطبيعي ووضعها المنطقي . فيشتبه حالها بأنها من أي نوع ؛ ومثل هذه تسمّى منحرفة.

وهذا الانحراف قد يكون في الحملية، كما لو اقترن سورها بالمحمول، مع أن الاستعمال الطبيعي أن يقرن بالموضوع ، كقولهم : الإنسان بعض الحيوان، أو الإنسان ليس كل الحيوان وحق الاستعمال فيهما أن يقال : بعض الحيوان إنسان. وليس كل حيوان

إنساناً.

ص: 164

وقد يكون الانحراف في الشرطية ، كما لو خلت عن ادوات الاتصال والعناد فتكون بصورة حملية وهي في قوّة الشرطية، نحو : لا تكون الشمس طالعة أو يكون النهار موجودا، فهي امّا في قوّة المتصلة وهي قولنا : كلّما كانت الشمس طالعة كان النهار موجوداً . وأما في قوّة المنفصلة وهي قولنا : اما ان لا تكون الشمس طالعة واما أن يكون النهار موجوداً.

ونحو : ليس يكون النهار موجودا إلّا والشمس طالعة وهي أيضاً في قوّة المتصلة أو المنفصلة المتقدمتين . ونحو : لا يجتمع المال الا من شح أو حرام؛ فإنّها في قوة المنفصلة وهي قولنا : أما أن يجتمع المال من شح أو حرام أو في قوة المتصلة وهي قولنا : ان اجتمع المال فاجتماعه امّا من شح أو من حرام. وهذه متصلة مقدمها حملية وتاليها منفصلة بالأصل.

وعلى الطالب أن يلاحظ ويدقق القضايا المستعملة في العلوم، فإنّها كثيرا ما تكون

منحرفة عن أصلها فيغفل عنها ، وليستعمل فطنته فى ارجاعها إلى أصلها .

تطبيقات

1 - كيف ترد هذه القضية : ليس للإنسان الا ما سعى إلى أصلها ؟

الجواب : أن هذه قضية فيها حصر ؛ فهي تنحل إلى حمليتين موجبة وسالبة، فهي منحرفة والحمليتان هما : كلّ إنسان له نتيجة سعيه . وليس للإنسان ما لم يسع إليه .

2 - من أي القضايا قوله : «ازرى بنفسه من استشعر الطمع» ؟ .

الجواب : أنّها قضيّة منحرفة عن متصلة وهي في قوة قولنا : كلّما استشعر المرء الطمع

ارزی بنفسه.

3- كيف ترد هذه القضية : ما خاب من تمسك بك، إلى أصلها ؟

الجواب : انها منحرفة عن حملية موجبة كليّة وهي : كلّ من تمسك بك لا يخيب.

ص: 165

الخلاصة :

الصورة

تمرينات

1 - لو قال القائل: «كلّما كان الحيوان مجتراً كان مشقوق «الظلف» أو قال: «كلّما كان

الإنسان قصيراً كان ذكياً، فماذا نعد هاتين القضيتين من اللزوميات أو من الاتفاقيات ؟

2 - بين نوع هذه القضايا وارجع المنحرفة إلى أصلها :

أ - إذا ازدحم الجواب خفى الصواب.

ب- إذا كثرت المقدرة قلت الشهوة .

ج - من نال استطال .

د - رضي بالذل من كشف عن ضرّه .

ه - انما يخشى الله من عباده العلماء.

3- قولهم : «الدهر يومان يوم لك ويوم عليك من أي أنواع القضايا ؟ وإذا كانت

منحرفة فارجعها إلى أصلها وبين نوعها.

4 - من أي القضايا قول علي عليه السلام: «لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة أمّا

ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً». وإذا كانت منحرفة فأرجعها إلى أصلها وبين نوعها .

ص: 166

الفصل الثاني : فی أحكام القضايا أو النسب بينها

تمهيد

كثيراً ما يعانى الباحث مشقة في البرهان على مطلوبه مباشرة، بل قد يمتنع عليه ذلك أحياناً، فيلتجىء إلى البرهان على قضيّة أخرى لها نسبة مع القضية المطلوبة ليقارنها بها : فقد يحصل له من العلم بصدق القضيّة المبرهن عليها العلم بكذب القضية المطلوبة ، أو بالعكس. وذلك إذا كان هناك تلازم بين صدق احداهما وكذب الأخرى. وقد يحصل له من العلم بصدق القضية المبرهن عليها العلم بصدق القضيّة المطلوبة أو من العلم بكذب الاولى العلم بكذب الثانية . وذلك إذا كان صدق الاولى يستلزم صدق الثانية أو كان كذبها يستلزم كذبها .

فلا بد للمنطقي قبل الشروع في مباحث الاستدلال وبعد إلماله بجملة من القضايا أن يعرف النسب بينها ، حتى يستطيع أن يبرهن على مطلوبه أحياناً من طريق البرهنة على قضية أخرى لها نسبتها مع القضية المطلوبة، فينتقل ذهنه من القضية المبرهن على صدقها أو كذبها إلى صدق أو كذب القضية التي يحاول تحصيل العلم بها .

والمباحث التي تعرف بها النسب بين القضايا هي مباحث التناقض والعكس المستوي وعكس النقيض وملحقاتها . وتسمّى أحكام القضايا ونحو نشرع - ان شاء الله تعالى - في هذه المباحث على هذا الترتيب المتقدّم :

ص: 167

التناقض
اشارة

الحاجة إلى هذا البحث والتعريف به :

قلنا في التمهيد : ان كثيراً ما تمسّ الحاجة إلى الاستدلال على قضيّة ليست هي نفس القضية المطلوبة . ولكن العلم بكذبها يلزمه العلم بصدق القضية المطلوبة أو بالعكس، عندما يكون صدق احداهما يلزم كذب الأخرى.

والقضيتان اللتان لهما هذه الصفة هما القضيتان المتناقضتان، فإذا اردت مثلا أن تبرهن على صدق القضية : الروح موجودة، مع فرض أنك لا تتمكن على ذلك مباشرة فيكفي أن تبرهن على كذب نقيضها وهو الروح ليست موجودة؛ فإذا علمت كذب هذا النقيض لابد أن تعلم صدق الأولى، لأن النقيضين لا يكذبان معا. وإذا برهنت على صدق النقيض لابد أن تعلم كذب الاولى لأن النقيضين لا يصدقان معاً.

و ربما يظنّ أن معرفة نقيض القضية أمر ظاهر كمعرفة نقائض المفردات، كالإنسان

واللإنسان، التي يكفي فيها الاختلاف بالايجاب والسلب. ولكن الأمر ليس بهذه السهولة إذ يجوز أن تكون الموجبة والسالبة صادقتين معا ، مثل : بعض الحيوان إنسان ، وبعض الحيوان ليس بإنسان. ويجوز أن تكونا كاذبتين معاً ، مثل : كلّ حيوان إنسان، ولا شيء من الحيوان بإنسان.

وعليه، لا غنى للباحث عن الرجوع إلى قواعد التناقض المذكورة في علم المنطق

لتشخيص نقيض كلّ قضية.

تعريف التناقض

قد عرفت فيما سبق المقصود من التناقض الذي هو أحد أقسام التقابل ، ولنضعه هنا بعبارة جامعة فنيّة في خصوص القضايا، فنقول: «تناقض القضايا: اختلاف في القضيتين يقتضي لذاته أن تكون إحداهما صادقة والأخرى كاذبة».

ص: 168

ولابد من قيد لذاته في التعريف، لأنّه ربّما يقتضي اختلاف القضيتين تخالفهما في الصدق والكذب ، ولكن لا لذات الاختلاف، بل لأمر آخر ، مثل : كلّ إنسان حيوان ، ولا شيء من الإنسان بحيوان؛ فانّه لما كان الموضوع أخص من المحمول صدقت إحدى الكليتين وكذبت الأخرى . أما لو كان الموضوع أعم من المحمول لكذبا معا نحو : كلّ حيوان إنسان ولا شيء من الحيوان بإنسان، كما تقدّم .

ونعني بالاختلاف الذي يقتضي تخالفهما في الصدق هو الاختلاف الذي يقتضي ذلك في ايّة مادة كانت القضيتان، ومهما كانت النسبة بين الموضوع والمحمول ، كالاختلاف

بين الموجبة الكلية والسالبة الجزئية .

شروط التناقض

لابد لتحقق التناقض بين القضيتين من اتحادهما في أمور ثمانية ، واختلافهما فی امور ثلاثة:

الوحدات الثمان

تسمّى الأمور التى يجب اتحاد القضيتين فيها الوحدات الثمان وهى ما يأتی:

1 - الموضوع: ، فلو اختلفا فيه لم يتناقضا مثل : العلم نافع ، الجهل ليس بنافع.

2 - المحمول : فلو اختلفا فيه لم يتناقضا مثل : العلم نافع ، العلم ليس بضار .

3 - الزمان: فلا تناقض بين «الشمس مشرقة» أي فى النهار وبين «الشمس ليست

بمشرقة »أي في الليل .

4 - المكان: فلا تناقض بين الأرض مخصبة أي فى الريف وبين «الأرض ليست

بمخصبة» أي في البادية.

5 - القوة والفعل أي لابد من اتحاد القضيتين في القوة والفعل، فلا تناقض بين

ص: 169

«محمد ميت» أى بالقوة وبين محمد ليس بميت أى بالفعل.

6 - الكلّ والجزء : فلا تناقض بين العراق مخصب أي بعضه وبين «العراق ليس بمخصب» أي كله .

7 - الشرط: فلا تناقض بين الطالب ناجح آخر السنة» أي ان اجتهد وبين« الطالب غير ناجح» أي إذا لم يجتهد .

8- الاضافة فلا تناقض بين الأربعة (نصف أي بالاضافة إلى الثمانية، وبين « الأربعة ليست به نصف» أى بالاضافة إلى العشرة.

تنبيه

هذه الوحدات الثمان هي المشهورة بين المناطقة وبعضهم يضيف اليها وحدة الحمل من ناحية كونه حملاً أولياً أو حملاً شايعاً. وهذا الشرط لازم، فيجب لتناقض القضيتين أن يتحدا في الحمل ، فلو كان الحمل في إحداهما أولياً وفي الأخرى شايعاً، فانّه يجوز أن يصدقا معا ، مثل قولهم : الجزئي جزئي أي بالحمل الأولى والجزئي ليس بجزئي أي بالحمل الشايع ؛لأن مفهوم الجزئي من مصاديق مفهوم الكلي فانه يصدق على كثيرين .

الاختلاف

قلنا : لابد من اختلاف القضيتين المتناقضتين في أمور ثلاثة . وهى : الكم والكيف والجهة.

الاختلاف بالكم والكيف

أمّا الاختلاف بالكم والكيف، فمعناه أن احداهما إذا كانت موجبة كانت الأخرى سالبة ، وإذا كانت كليّة كانت الثانية جزئية . وعليه :

ص: 170

الموجبة الكليّة ... نقيض ... السالبة الجزئية .

الموجبة الجزئية ... نقيض ... السالبة الكلية .

لأنّهما لو كانتا موجبتين أو سالبتين لجاز أن يصدقا أو يكذبا معا . ولو كانتا كليتين الجاز أن يكذبا معا ، كما لو كان الموضوع أعم ، على ما مثلنا سابقاً. ولو كانتا جزئيتين لجاز أن يصدقا معا ، كما لو كان الموضوع أيضاً أعم . نحو : بعض المعدن حديد. وبعض المعدن ليس بحديد .

الاختلاف بالجهة

أما الاختلاف بالجهة، فأمر يقتضيه طبع التناقض كالاختلاف بالايجاب والسلب ،لأن نقيض كل شيء رفعه ، فكما يرفع الايجاب بالسلب والسلب بالايجاب، فلا بد من رفع الجهة بجهة تناقضها .

ولكن الجهة التي ترفع جهة أخرى قد تكون من إحدى الجهات المعروفة، فيكون لها نقیض صريح مثل رفع الممكنة العامة بالضرورية وبالعكس ، لأن الإمكان هو سلب الضرورة.

وقد لا تكون من الجهات المعروفة التي لها عندنا اسم معروف، فلابد أن نلتمس لها جهة من الجهات المعروفة تلازمها فنطلق عليها اسمها فلا يكون نقيضا صريحا ، بل لازم النقيض .

مثلاً الدائمة تناقضها المطلقة العامة ولكن لا بالتناقض الصريح، بل احداهما لازمة لنقيض الأخرى، فإذا قلت : «الأرض متحركة دائماً» فنقيضها الصريح سلب الدوام،

ولكن سلب الدوام ليس من الجهات المعروفة ، فنلتمس له جهة لازمة فنقول : لازم عدم الدوام أن سلب التحرك عن الأرض حاصل في زمن من الأزمنة أي «انّ الأرض ليست متحرّكة بالفعل» وهذه مطلقة عامة تكون لازمة لنقيض الدائمة .

وإذا قلت : «كل إنسان كاتب بالفعل، فنقيضها الصريح ان الإنسان لم تثبت له الكتابة

ص: 171

كذلك ، أي بالفعل . ولازم ذلك دوام السلب أي ان بعض الإنسان ليس بكاتب دائماً وهذه دائمة وهى لازمة لنقيض المطلقة العامة .

ولا حاجة إلى ذكر تفصيل نقائض الموجهات فلتطلب من المطولات ان أرادها الطالب، على أنه في غنى عنها وننصحه ألا يتعب نفسه بتحصيلها فإنّها قليلة الجدوى.

من ملحقات التناقض
التداخل والتضاد والدخول تحت التضاد

تقدم ان التناقض في المحصورات الأربع يقع بين الموجبه الكلية والسالبة الجزئية، وبين الموجبة الجزئية والسالبة الكلية، أي بين المختلفتين في الكم والكيف. ويبقى أن تلاحظ النسبة بين البواقى أي بين المختلفتين بالكم فقط أو بالكيف فقط. ومعرفة هذه النسب تنفع أيضاً في الاستدلال على قضية لمعرفة قضية أخرى لها نسبة معها كما سيأتى.

وعليه نقول : المحصورتان ان اختلفتا كما وكيفا فهما المتناقضتان وقدم تقدم التناقض . وان اختلفتا في احدهما فقط فعلى ثلاثة أقسام :

1 - المتداخلتان: وهما المختلفتان في الكم دون الكيف أعني الموجبتين أو السالبتين . وسميتا متداخلتين لدخول إحداهما في الأخرى لأن الجزئية داخلة في الكلية .

و معنى ذلك : ان الكلية إذا صدقت صدقت الجزئية المتحدة معها في الكيف، ولاعكس. ولازم ذلك ان الجزئية إذا كذبت كذبت الكلية المتحدة معها في الكيف، ولا عكس . مثل : كلّ ذهب معدن؛ فإنّها صادقة ولابد أن تصدق معها بعض الذهب معدن قطعاً . ومثل : بعض الذهب أسود؛ فإنّها كاذبة ولابد أن تكذب معها كل ذهب أسود.

2 - المتضادتان وهما المختلفتان في الكيف دون الكم، وكانتا كليتين .وسميتا متضادتين لأنهما كالضدين يمتنع صدقهما ويجوز أن يكذبا معا.

ومعنى ذلك أنه إذا صدقت احداهما لابد أن تكذب الأخرى، ولا عكس أي لو كذبت احداهما لا يجب أن تصدق الأخرى.

ص: 172

فمثلاً إذا صدق كل ذهب معدن يجب أن يكذب لا شيء من الذهب بمعدن.

ولكن إذا كذب كلّ معدن ذهب لا يجب أن يصدق لا شيء من المعدن بذهب، بل هذه

كاذبة في المثال .

3 - الداخلتان تحت التضاد: وهما المختلفتان في الكيف دون الكم ، وكانتا جزئيتين . وانّما سمّيتا داخلتين تحت التضاد ، لأنّهما داخلتان تحت الكليتين كلّ منهما تحت الكلية المتفقة معها في الكيف، من جهة، ولأنهما على عكس الضدين في الصدق والكذب ، أي أنّهما يمتنع اجتماعهما على الكذب، ويجوز أن يصدقا معا .

ومعنى ذلك : انه إذا كذبت احداهما لابد أن تصدق الأخرى، ولا عكس، أي انه لو

صدقت احداهما لا يجب أن تكذب الأخرى.

فمثلاً إذا كذب بعض الذهب أسود فأنّه يجب أن يصدق بعض الذهب ليس بأسود. ولكن إذا صدق بعض المعدن ذهب لا يجب أن يكذب بعض المعدن ليس بذهب، بل هذه صادقة في المثال .

وقد جرت عادة المنطقيين من القديم أن يضعوا لتناسب المحصورات جميعاً - لأجل

توضيحها - لوحا على النحو الآتي :

الصورة

ص: 173

العكوس
اشارة

سبق في أول هذا الفصل ان قلنا : ان الباحث قد يحتاج للاستدلال على مطلوبه إلى أن يبرهن على قضية أخرى لها علاقة مع مطلوبه يستنبط من صدقها صدق القضية المطلوبة للملازمة بينهما في الصدق . وهذه الملازمة واقعة بين كلّ قضيّة وعكسها المستوي وبينها وبين عكس نقضيها. فنحن الآن نبحث عن القسمين:

العكس المستوي

أمّا العكس المستوي فهو : تبديل طرفي القضية مع بقاء الكيف والصدق». أي ان القضية المحكوم بصدقها تحول إلى قضية تتبع الأولى في الصدق وفي الايجاب والسلب، بتبديل طرفي الاولى بأن يجعل موضوع الاولى محمولاً في الثانية والمحمول موضوعاً، أو المقدم تالياً والتالى مقدماً.

وتسمّى الاولى الأصل والثانية العكس المستوي فكلمة العكس هنا لهااصطلاحان اصطلاح في نفس التبديل، واصطلاح في القضية التي وقع فيها التبديل.

ومعنى ان العكس تابع للأصل في الصدق : أن الأصل إذا كان صادقا وجب صدق العكس . ولكن لا يجب أن يتبعه فى الكذب، فقد يكذب الأصل والعكس صادق . ولازم ذلك ان الأصل لا يتبع عكسه في الصدق، ولكن يتبعه في الكذب ؛ فإذا كذب العكس كذب الأصل ، لأنه لو صدق الأصل يلزم منه صدق العكس والمفروض كذبه .

فهنا قاعدتان تنفعان في الاستدلال :

ص: 174

1 - إذا صدق الأصل صدق عكسه.

2- إذا كذب العكس كذب أصله .

وهذه القاعدة الثانية متفرعة على الأولى . كما علمت .

شروط العكس

علمنا ان العكس انّما يحصل بشروط ثلاثة : تبديل الطرفين وبقاء الكيف وبقاء الصدق . أما الكم فلا يشترط بقاؤه ، وانما الواجب بقاء الصدق وهو قد يقتضي بقاء الكم في بعض القضايا وقد يقتضي عدمه في البعض الآخر .

والمهم فيما يأتي معرفة القضية التي يقتضي بقاء الصدق في عكسها بقاء الكم أو عدم بقائه .

ولو تبدل الطرفان وكان الكيف باقياً ، ولكن لم يبق الصدق، فلا يسمّى ذلك عكسا .

بل يسمّى انقلاباً .

الموجبتان تنعكسان موجبة جزئية :

أي ان الموجبة الكليّة تنعكس موجبة جزئية والموجبة الجزئية تنعكس كنفسها، فاذا

قلت :

كل ح ب فعکسها ع ب ح

وع ح ب فعکسها ع ب ح

ولا ينعكسان إلى كل ب ح-

البرهان :

1 - في الكلية : أن المحمول فيها أما أن يكون أعم من الموضوع أو مساويا له. وعلى

ص: 175

التقديرين تصدق الجزئية قطعا لأن الموضوع في التقديرين يصدق على بعض أفراد

المحمول ، فإذا قلت :

كل ماء سائل، يصدق بعض السائل ماء .

وكل إنسان ناطق يصدق بعض الناطق إنسان .

ولكن لا تصدق الكلية على كل تقدير، لأن الموضوع في التقدير الأول لا يصدق

على جميع أفراد المحمول ، لأنه اخص من المحمول ، فإذا قلت :

«كل سائل ماء» ، فالقضية كاذبة وهو المطلوب

2 - وفي الجزئية : أما أن يكون المحمول أعم مطلقاً من الموضوع أو أخص مطلقاً ، أو أعم من وجه، أو مساويا . وعلى بعض هذه التقادير وهو التقدير الأول والثالث لا يصدق العكس موجبة كلية ، لأنّه إذا كان المحمول أعم مطلقاً أو من وجه ، فان الموضوع لا يصدق على جميع أفراد المحمول ؛ انّما يصدق لو كان اخص او مساويا . أما عكسه إلى الموجبة الجزئية فانّه يصدق على كل تقدير، فإذا قلت :

بعض السائل ماء يصدق بعض الماء سائل .

وبعض الماء سائل يصدق بعض السائل ماء.

وبعض الطير أبيض، يصدق بعض الأبيض طير.

وبعض الإنسان ناطق يصدق بعض الناطق إنسان.

السالبة الكلية تنعكس سالبة كلية

فيبقى الكم والكيف معا ، فإذا صدق قولنا :

لا شيء من الحيوان بشجر ، صدق لا شيء من الشجر بحيوان.

والبرهان واضح : لأن السالبة الكلية لا تصدق إلا مع تباين الموضوع والمحمول تبايناً كليا . والمتباينان لا يجتمعان أبداً ، فيصح سلب كلّ منهما عن جميع أفراد الآخر، سواء جعلت هذا موضوعا أو ذاك موضوعاً.

ص: 176

وللتدريب على اقامة البراهين من طريق النقيض والعكس نقيم البرهان على هذا الأمر بالصورة الآتية :

المفروض لاب ح-- قضية صادقة

المدعى لا ح ب صادقة أيضاً

البرهان:

لولم تصدق لا ح ب

لصدق نقيضها ع ح- ب

ولصدق - ع ب ح- (العكس المستوي للنقيض)

وإذا لاحظنا هذا العكس المستوى (ع) ب ح) ونسبناه إلى الأصل (لاب ح)، وجدناه

نقيضا له ، فلو كان ع ب حصادقا وجب أن يكون لا ب ح كاذبا ، مع ان المفروض صدقه .

فوجب أن تكون لا ح ب صادقة وهو المطلوب.

تعقیب

بهذا البرهان تعرف الفائدة في النقيض والعكس المستوي عند الاستدلال . لأنا لابد أن ترجع في هذا البرهان إلى الوراء، فنقول :

المفروض ان لاب ح- صادقة

فتكذب ع ب ح نقيضها

وهذا النقيض عكس ع ح ب فيكذب أيضاً

لأنه إذا كذب العكس كذب الأصل (القاعدة الثانية)

وإذا كذب هذا الأصل أعني ع ح ب

صدق نقیضه لا ح ب وهو المطلوب.

فاستفدت تارة من صدق الأصل كذب نقيضه، وأخرى من كذب العكس كذب أصله ، وثالثة من كذب الأصل صدق نقيضه .

و سيمرّ عليك مثل هذا الاستدلال كثيرا ، فدقق فيه جيداً، وعليك باتقانه .

ص: 177

السالبة الجزئية لا عكس لها

أي لا تنعكس أبداً لا إلى كلية ولا إلى جزئية ، لأنه يجوز أن يكون موضوعها أعم من محمولها مثل بعض الحيوان ليس بإنسان، والأخص لا يجوز سلب الأعم عنه بحال من الأحوال لا كليّاً ولا جزئيّاً ، لأنه كلّما صدق الأخص صدق الأعم معه ، فكيف يصح سلب الأعم عنه ، فلا يصدق قولنا : لا شيء من الإنسان بحيوان ولا قولنا : بعض الإنسان ليس بحيوان.

المنفصلة لا عكس لها

أشرنا في صدر البحث إلى ان العكس المستوي يعم الحملية والشرطية ؛ ولكن عند التأمّل نجد أن المنفصلة لا ثمرة لعكسها لأنها أقصى ما تدلّ عليه تدلّ على التنافي بين المقدم والتالي، ولا ترتيب طبيعي بينهما ، فأنت بالخيار في جعل أيهما مقدما والثاني تالياً من دون أن يحصل فرق في البين ، فسواء ان قلت : العدد أما زوج أو فرد، أو قلت : العدد أمّا فرد أو زوج، فان مؤداهما واحد .

فلذا قالوا : المنفصلة لا عكس لها . أي لا ثمرة فيه

نعم لو حوّلتها إلى حملية فان أحكام الحملية تشملها ، كما لو قلت في المثال مثلاً :

العدد ينقسم إلى زوج وفرد فإنّها تنعكس إلى قولنا : ما ينقسم إلى زوج وفرد عدد.

ص: 178

عكس النقيض
اشارة

وهو العكس الثاني للقضيّة الذي يستدلّ بصدقها على صدقه . وله طريقتان .

1 - طريقة القدماء، ويسمّى عكس النقيض الموافق لتوافقه مع أصله في الكيف ،وهو «تحويل القضية إلى أخرى موضوعها نقيض محمول الأصل ومحمولها نقيض موضوع

الأصل، مع بقاء الصدق والكيف».

وبالاختصار هو : «تبديل نقيضي الطرفين مع بقاء الصدق والكيف»؛

فالقضيّة : كلّ كاتب إنسان، تحول بعكس النقيض الموافق إلى :

كل لا إنسان هو لا كاتب

2 - طريقة المتأخرين، ويسمّى عكس النقيض المخالف، لتخالفه مع أصله في الكيف، وهو« تحويل القضية إلى أخرى موضوعها نقيض محمول الأصل ومحمولها عين موضوع الأصل، مع بقاء الصدق دون الكيف »

فالقضية : كلّ كاتب إنسان ، تحول بعكس النقيض المخالف إلى :

لا شيء من اللاإنسان بكاتب

قاعدة عكس النقيض

من جهة الكم

حكم السوالب هنا حكم الموجبات في العكس المستوي، وحكم الموجبات حكم السوالب هناك ، أى ان :

ص: 179

1 - السالبة الكلية تنعكس جزئية : سالبة في الموافق وموجبة في المخالف .

2 - السالبة الجزئية تنعكس جزئية أيضا : سالبة في الموافق موجبة في المخالف .

3 - الموجبة الكلية تنعكس كلية : موجبة في الموافق سالبة في المخالف.

4 - الموجبة الجزئية لا تنعكس اصلا بعكس النقيض .

البرهان

ولا بد من اقامة البرهان على كلّ واحد من تلك الأحكام السابقة . وفي هذه البراهين تدريب للطالب على الاستفادة من النقيض والعكس في الاستدلال. وقد استعملنا الاسلوب المتبع في الهندسة النظرية لإقامة البرهان فمن ألف اسلوب الكتب الهندسية يسهل عليه ذلك . وقد تقدم مثال منه في البرهان على عكس السالبة الكلية بالعكس المستوي موضحاً (1).

ويجب أن يعلم إنا نرمز للنقيض بحرف عليه فتحة للاختصار وللتوضيح، في كلّ ما سيأتى على هذا النحو :

بَ: ... نقيض الموضوع

حَ ... نقيض المحمول

برهان عكس السالبة الكلية

فلأجل إثبات عكس السالبة الكلية بعكس النقيض نقيم برهانين : برهانا على عكسها بالموافق وبرهانا على عكسها بالمخالف، فنقول :

أولاً: المدعى انها تنعكس سالبة جزئية بعكس النقيض الموافق ولا تنعكس سالبة

كلية ؛ فهنا مطلوبان، أي أنّه إذا صدقت :

ص: 180


1- واتباع هذا الاسلوب من البرهان من مختصات هذا الكتاب

لا ب ح،.

صدقت س حَ بَ (المطلوب الأوّل)

ولا تصدق لا حَ بَ (المطلوب الثانى)

البرهان:

ان من المعلوم :

1 - ان السالبة الكلية لا تصدق الا إذا كان بين طرفيها تباين كلي . وهذا بديهي.

2 - ان النسبة بين نقيضي المتباينين هي التباين الجزئي ، وقد تقدم البرهان على ذلك

في بحث النسب في الجزء الأوّل .

3 - ان مرجع التباين الجزئي إلى سالبتين جزئيتين، كما ان مرجع التباين الكلي إلى

سالبتين كليتين . وهذا بديهي أيضاً.

وينتج من هذه المقدمات الثلاث أنه :

إذا صدق لا ب ح-- (أي يكون بين الطرفين تباين كلّي)،

صدقت س بَ حَ السالبة الجزئية بين النقيضين

وصدقت أيضاً س حَ بَ السالبة الجزئية بين النقيضين

(وهو المطلوب الأوّل).

ثم يفهم من المقدمة الثانية ان التباين الكلى لا يتحقق دائماً بين بين نقيضي المتباينين،

إذ ربما يكون بينهما العموم والخصوص من وجه .

أي ان السالبة الكلية بين نقيضي المتباينين لا تصدق دائما .

أو فقل لا تصدق دائماً لا حَبَ (المطلوب الثاني).

ثانياً: المدعى ان السالبة الكلية تنعكس موجبة جزئية بعكس النقيض المخالف ولا تنعكس موجبة كلية ، فهنا مطلوبان، أي انه إذا صدقت:

لاب ح

صدقت ع ح ب (المطلوب الأوّل)

ولا تصدق كل ح ب ( المطلوب الثاني)

ص: 181

البرهان :

لما كان بين ب ، ح تباين كلّي كما تقدّم فمعناه أن أحدهما يصدق مع نقيض الآخر .

أي أن ب يصدق مع ح-

وإذا تصادق ب و حَ

صدق على الأقل ع ح ب ( المطلوب الأوّل).

ثم أنه تقدم ان نقيضي المتباينين قد تكون بينهما نسبة العموم والخصوص من وجه

فيصدق على هذا التقدير :

ح مع بَ

ولا يصدق حينئذٍ ح مع ب وإلا لاجتمع النقيضان : ب ، بَ

فلا يصدق كل ح ب (المطلوب الثاني).

برهان عكس السالبة الجزئية :

ولأجل اثبات عكس السالبة الجزئية بعكس النقيض أيضاً نقيم برهانين للموافق والمخالف، فنقول :

:أولاً: المدعى ان السالبة الجزئية تنعكس سالبة جزئية بعكس النقيض الموافق ، ولا

تنعكس كلية ، فهنا مطلوبان، أي أنه إذا صدقت :

س ب ح

صدقت س حَ بَ (المطلوب الأول)

ولا تصدق لا حَ بَ ( المطلوب الثاني).

البرهان:

من المعلوم ان السالبة الجزئية تصدّق في ثلاثة فروض :

1 - أن تكون بين طرفيها عموم من وجه . وحينئذ يكون بين نقيضيهما تباين جزئي،

كما تقدّم في بحث النسب.

ص: 182

2 - أن يكون بينهما تباين كلّي، وبين نقيضيهما أيضاً تباين جزئي كما تقدّم.

3 - أن يكون الموضوع أعم مطلقاً من المحمول، فيكون نقيض المحمول أعم مطلقاً

من نقيض الموضوع.

وعلى جميع هذه التقادير الثلاثة تصدق السالبة الجزئية

س حَ- بَ (المطلوب الأوّل).

اما للتباين الجزئي بينهما أو لأن نقيض ح أعم مطلقاً من نقيض ب.

ثم على بعض التقادير يكون بين نقيضي الطرفين عموم وخصوص من وجه أو

مطلقاً ، فلا تصدّق السالبة الكلّية :

لا حَ- بَ (المطلوب الثاني).

ثانياً: المدعى ان السالبة الجزئية تنعكس موجبة جزئية بعكس النقيض المخالف، ولا تنعكس كلية ؛ فهنا مطلوبان ، أي إذا صدقت:

س ب ح-

صدقت ع حَ ب (المطلوب الأوّل)

ولا تصدق كل حَ ب (المطلوب الثاني).

البرهان :

تقدّم ان على جميع التقادير الممكنة للموضوع والمحمول في السالبة الجزئية اما أن يكون بين نقيضيهما تباين جزئي أو أن نقيض المحمول أعم مطلقاً، فيلزم على التقديرين أن يصدق :

بعض حَ بدون بَ

فيصدق بعض حَ مع ب

لأن النقيضين (وهما بَ ، ب) لا يرتفعان

اى يصدق ع حَ بَ (المطلوب الأوّل)

ثم ان نقيضي الموضوع والمحمول قد يكون بينهما عموم من وجه ،

ص: 183

وقد تصدق ع حَ- بَ

ويمكن تحويلها إلى س حَ ب صادقة

لأن الاولى موجبة معدولة المحمول فيمكن جعلها سالبة محصلة المحمول، إذ السالبة المحصلة المحمول أعم من الموجبة المعدولة المحمول إذا اتفقا في الكم ؛ وإذا صدق الأخص صدق الأعم قطعاً، فإذا كانت :

س حَ ب صادقة

كذب نقيضها كل حَ ب (المطلوب الثاني).

برهان عكس الموجبة الكلية

ولأجل اثبات عكس الموجبة الكلية بعكس النقيض، نقيم أيضاً برهانين للموافق

والمخالف فنقول :

أولاً: المدعى انها تنعكس موجبة كلّية بعكس النقيض الموافق ، أي انه إذا صدقت :

كل ب ح-- (المفروض)

صدقت كل حَ بَ (المطلوب).

البرهان :

لو لم تصدق كل حَ بَ

لصدقت س حَ ب َ نقیضها

فتصدق س ب ح- عكس نقيضها الموافق

فتكذب كل ب ح- نقيض العكس المذكور

وهذا خلف ، أى خلاف الفرض . لأن هذا نقيض العكس المذكور) هو نفس الأصل

المفروض صدقه .

فوجب أن تصدق كل حَ ب (وهو المطلوب).

ثانياً: المدعى ان الموجبة الكلية تنعكس سالبة كلية بعكس النقيض المخالف، أي

ص: 184

انه إذا صدقت : كل ب ح-- (المفروض)

صدقت لا حَ ب (المطلوب).

البرهان :

لو لم تصدق لا حَ ب

لصدقت ع حَ ب نقيضها

فتصدق ع ب حَ عكسها المستوى

وهذه موجبة جزئيّة معدولة المحمول، فتحول إلى سالبة جزئيّة محصلة المحمول،

وقد تقدّم، فيحدث أن :

س ب ح-

فتكذب كل ب ح- نقيضها

وهذا خلف ، لانه الأصل المفروض صدقه

فوجب أن تصدق لا حَ ب (وهو المطلوب).

الموجبة الجزئية لا تنعكس

يكفينا للبرهنة على عدم انعكاس الموجبة الجزئية بعكس النقيض الموافق والمخالف مطلقاً أن نبرهن على عدم انعكاسها إلى الجزئية . وبه طريق أولى يعلم عدم انعكاسها إلى الكلية ، لأنه تقدم ان الجزئية داخلة في الكلية ، فإذا كذبت الجزئية كذبت

الكلية . وعليه فنقول :

أولاً: المدعى ان الموجبة الجزئية لا تنعكس إلى موجبة جزئية بعكس النقيض الموافق.

فاذا صدقت ع ب ح-

لا يلزم أن تصدق ع حَ بَ

ص: 185

البرهان:

من موارد صدق الموجبة الجزئية أن يكون بين طرفيها عموم من وجه فيكون حينئذٍ بين نقيضيهما نسبة التباين الجزئي الذي هو أعم من التباين الكلي والعموم من وجه،

فيصدق على تقدير التباين الكلى:

لا حَ بَ

فيكذب نقيضها ع حَ ب (وهو المطلوب).

ثانياً: المدعى ان الموجبة الجزئية لا تنعكس إلى السالبة الجزئية بعكس النقيض المخالف .

فاذا صدقت ع ب ح-

لا يلزم أن تصدق س حَ ب

البرهان :

قد تقدّم على تقدير التباين الكلّي بين نقيضي الطرفين في الموجبة الجزئية والسالبة الكلية :

لا حَ بَ

فتصدق كل حَ ب لان سلب السلب ایجاب

فيكذب نقيضها س حَ ب (وهو المطلوب).

ولأجل أن يتضح لك عدم انعكاس الموجبة الجزئية بعكس النقيض، تدبر هذا المثال وهو بعض اللاإنسان حيوان فان هذه القضية لا تنعكس بعكس النقيض الموافق إلى بعض اللاحيوان إنسان ولا إلى كل لا حيوان إنسان لأنهما كاذبتان، لأنه لا شيء من اللاحيوان بإنسان .

ولا تنعكس بالمخالف إلى ليس كلّ لا حيوان لا إنسان ولا إلى لا شيء من اللاحيوان بلا إنسان لانهما كاذبتان أيضاً ، لأن كلّ لا حيوان هو لا إنسان .

ص: 186

تمرينات

1 - إذا كانت هذه القضية : كلّ عاقل لا تبطره النعمة صادقة ، فبين حكم القضايا

الآتية في صدقها أو كذبها ، مع بيان السبب :

أ - بعض العقلاء لا تبطره النعمة .

ب - ليس بعض العقلاء لا تبطره النعمة .

ج - جميع من لا تبطرهم النعمة عقلاء.

د - لا شخص من العقلاء لا تبطره النعمة .

ه- - كلّ من تبطره النعمة غير عاقل .

و - لا شخص ممن تبطره النعمة بعاقل .

ز - بعض من لا تبطره النعمة عاقل .

2 - إذا كانت هذه القضية : بعض المعادن ليس يذوب بالحرارة كاذبة، فاستخرج القضايا الصادقة والكاذبة التي تلزم من كذب هذه القضية .

3 - استدلّ (1) فخر المحققين في شرحه الايضاح على أن الماء يتنجس بالتغيير التقديري بالنجاسة فقال: «ان الماء مقهور بالنجاسة عند التغيير التقديري ، لانه كلّما لم يصيّر الماء مقهور مقهوراً لم يتغير بها على تقدير المخالفة. وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا : كلّما تغيّر الماء على تقدير المخالفة بالنجاسة كان مقهوراً».

فبين أي عكس نقيض هذا. وكيف استخراجه. ولاحظ ان القضية المستعملة هنا شرطية متصلة .

ص: 187


1- نقل هذا الاستدلال صاحب المدارك في مبحث الماء ، ثُمّ أورد عليه . فراجع إذا شئت
من ملحقات العكوس : النقض
اشارة

من المباحث التي لا تقل شأناً عن العكوس في استنباط صدق القضية من ص--دق

أصلها ، مباحث النقض، فلا بأس بالتعرّض لها الحاقاً لها بالعكوس ، فنقول :

النقض: هو تحويل القضية إلى أخرى لازمة لها في الصدق مع بقاء طرفي القضية على موضعهما . وهو على ثلاثة أنواع:

1 - أن يجعل نقيض موضوع الاولى موضوعاً للثانية ونفس محمولها محمولاً، ويسمّى هذا التحويل نقض الموضوع، والقضية المحوّلة منقوضة الموضوع.

2 - أن يجعل نفس موضوع الاولى موضوعاً للثانية ونقيض محمولها محمولاً، ويسمّى التحويل نقض المحمول والقضيّة المحولة منقوضة المحمول.

3- أن يجعل نقيض الموضوع موضوعاً ونقيض المحمول محمولاً . ويسمّى التحويل النقض التام. والقضيّة المحوّلة منقوضة الطرفين.

ولنبحث عن قاعدة كلّ واحد من هذه الأنواع. ولنبدأ بقاعدة نقض المحمول لأن--ه الباب للباقي كما ستعرف السرّ في ذلك :

قاعدة نقض المحمول

علينا لاستخراج منقوضة المحمول صادقة - على تقدير صدق أصلها - ان نغير كيف

القضية ونستبدل محمولها بنقيضه ؛ مع بقاء الموضوع على حاله وبقاء الكم. ولابد من اقامة

ص: 188

البرهان على منقوضة محمول كلّ واحد من المحصولات ؛ فنقول :

1 - الموجبة الكلية: منقوضة محمولها سالبة كلية ، نحو: كلّ إنسان حيوان ، فتتحوّل

بنقض محمولها إلى : لا شيء من الإنسان بلا حيوان».

وللبرهان على ذلك نقول:

اذا صدقت كل ب ح-- (المفروض)

صدقت لاب حَ (المطلوب)

البرهان :

اذا صدقت كل ب ح-

صدقت لا حَ ب (عکس نقيضها المخالف )

وينعكس بالعكس المستوى إلى لاب حَ (وهو المطلوب)

2 - الموجبة الجزئيّة: منقوضة محمولها سالبة جزئية ، نحو : بعض الحيوان إنسان

فتتحوّل بنقض محمولها إلى : «ليس كلّ حيوان لا إنسان».

أي أنه إذا صدقت :

ع ب ح- (المفروض)

صدقت س ب حَ (المطلوب)

البرهان :

لولم تصدق س ب حَ

لصدق نقيضها كل ب حَ

فتصدق لاب ح- نقض (المحمول)

فيكذب نقيضها ع ب ح-

ولكنه عين الأصل فهو خلاف الفرض .

فيجب أن يصدق س ب حَ ( وهو المطلوب)

ص: 189

3 - السالبة الكلّية منقوضة محمولها موجبة كلية ، نحو: لا شيء من الماء بجامد

فتتحول بنقض محمولها إلى : كل ماء غير جامد».

أي انه إذا صدقت: لاب ح-- (المفروض)

صدقت كل ب حَ- (المطلوب)

البرهان :

لولم تصدق كل ب حَ-

لصدق نقيضها س ب حَ

فتصدق ع ب ح لأن سلب السلب ايجاب

فيكذب نقيضها لاب ح-

ولكنه عين الأصل فهو خلاف الفرض .

فيجب أن يصدق كل ب حَ (وهو المطلوب)

4- السالبة الجزئية منقوضة محمولها موجبة جزئية ، نحو ليس كل معدن ذهبا، فتتحول بنقض محمولها إلى : بعض المعدن غير ذهب».

أى أنه إذا صدقت س ب ح- (المفروض)

صدقت ع ب حَ (المطلوب)

البرهان:

إذا صدقت س ب ح- (الأصل)

صدقت ع ب حَ (عکس النقيض المخالف )

وينعكس بالعكس المستوي إلى ع ب ح- وهو المطلوب

تنبيهان
أ - طريقة تحويل الأصل

التنبيه الأوّل: الطريق التي اتبعناها في البرهان على منقوضة محمول الموجبة

ص: 190

الكلية والسالبة الجزئية طريق جديدة في البرهان، ينبغي أن نسميها الآن طريقة تحويل الأصل قبل مجيء بحث القياس فتدخل في أحد أقسامه (1)كالطريق السابقة التي سميناها :

طريقة البرهان على كذب النقيض .

وقد رأيت أننا في هذه الطريقة (طريقة تحويل الأصل) أجرينا التحويلات التي سبقت معرفتنا لها على الأصل، ثم على المحول من الأصل تباعاً، حتى انتهينا إلى المطلوب ؛ فقد رأيت في الموجبة الكلية أنا حولنا الأصل إلى عكس النقيض المخالف، فيصدق على تقدير صدق أصله ؛ ثم حولنا هذا العكس إلى العكس المستوي، فخرج لن--ا نفس المطلوب أعنى منقوضة المحمول، فيصدق التحويل الثاني على تقدير صدق عكس الأصل التحويل (الأوّل الصادق على تقدير صدق الأصل فيصدق التحويل الثاني

على تقدير صدق الأصل، وهذا هو المقصود اثباته فتوصلنا إلى المطلوب بأقصر طريق . وسنتبع هذه الطريقة السهلة فيما يأتي لنقض الموضوع والنقض التام، ويمكن اجراؤها أيضاً في البرهان على عكوس النقيض باستخدام منقوضة المحمول. وع--لى الطالب أن يستعمل الحذق وينتبه إلى أنه أي التحويلات ينبغي استخدامه حتى يتوصل إلى مطلوبه.

ب - تحویل معدولة المحمول

التنبيه الثاني: وقد استعملنا في عكس النقيض ونقض المحمول طريقتين من التحويل الملازم للأصل في الصدق . وفي الحقيقة هما من باب نقض المحمول ، ولكن لبداهتهما استدللنا بهما قبل أن يأتي البرهان على منقوضة المحمول ولذا لم نسمها بنقض المحمول، وهما:

ص: 191


1- وهو قياس المساواة لأن منقوضة المحمول لازمة لعكس نقيض الأصل لأنها عكسه المستوي وعكس النقيض لازم للأصل ولازم اللازم لازم.

أ - تحويل الموجبة المعدولة إلى سالبة محصلة المحمول موافقة لها في الكم، لأن

مؤداهما ،واحد ، وانّما الفرق ان السلب محمول فى الموجبة والحمل مسلوب في السالبة.

ب - تحويل السالبة المعدولة المحمول إلى موجبة محصلة المحمول موافقة لها في الكم، لأن سلب السلب ايجاب. وهذا بديهي واضح.

ص: 192

تمرينات

1 - برهن على نقض محمول الموجبة الكلّية بطريق البرهان على كذب النقيض .

2 - برهن على نقض محمول السالبة الجزئية بطريق البرهان على كذب النقيض.

3- برهن على نقض محمول السالبة الجزئية بطريقة تحويل الأصل، بأخذ عكس النقيض الموافق أوّلاً ، ثم استمر إلى أن تستخرج منقوضة المحمول.

4 - جرب هل يمكن البرهان على نقض محمول الموجبة الجزئية به طريقة تحويل الأصل.

5- برهن على نقض محمول السالبة الكلّية بطريقة تحويل الأصل. وانظر ماذا ستكون النتيجة ، وبين ما تجده .

6 - برهن على عكس النقيض المخالف والموافق لكل من المحصورات، عدا الموجبة الجزئية ، بطريقة تحويل الأصل، واستخدام لهذا الغرض قاعدتي نقض المحمول والعكس المستوى فقط .

7 - جرب أن تبرهن على عكس النقيض المخالف والموافق للموجبة الجزئية بهذه

الطريقة ، وانظر انك ستقف فلا تستطيع الوصول إلى النتيجة ، فبين أسباب الوقوف .

ص: 193

قاعدة النقض التام ونقض الموضوع
اشارة

لاستخراج منقوضة الطرفين ،صادقة علينا أن نستبدل بموضوع القضية الأصلية نقيضه فنجعله موضوعاً وبمحمولها نقيضه فنجعله محمولاً، مع تغيير الكم دون الكيف . ولاستخراج منقوضة الموضوع صادقة، علينا أن نستبدل بموضوع القضية الأصلية نقيضه فنجعله موضوعاً ونبقي المحمول على حاله ، مع تغيير الكم والكيف معاً.

ولا ينقض بهذه النقضين إلا الكليتان. ولابد من البرهان لكل من المحصورات :

1 - الموجبة الكلية نقضها التام موجبة جزئية ، ونقض موضوعها سالبة جزئية، نحو كلّ فضة ،معدن فنقضها التام بعض اللافضة هو لا معدن ونقض موضوعها : بعض اللافضة ليس هو معدنا.

وللبرهان على ذلك نقول :

المفروض صدق كل ب ح--

والمدعى صدق ع ب ح (المطلوب الأوّل)

وصدق س بَ ح- (المطلوب الثاني)

البرهان:

إذا صدق كل ب ح--

صدق كل حَ بَ عكس النقيض الموافق

فيصدق عكسه المستوى ع بَ حَ (وهو المطلوب الأوّل)

ص: 194

و تنقض محمول هذا الأخير فيحدث س ب ح (وهو المطلوب الثاني)

2 - السالبة الكليّة نقضها التام سالبة جزئية، ونقض موضوعها موجبة جزئية نحو :

لا شيء من الحديد بذهب، فنقضها التام : بعض اللاحديد ليس بلا ذهب، ونقض موضوعها : بعض اللاحديد ذهب.

وللبرهان على ذلك نقول :

المفروض صدق لاب ح--

والمدعى صدق س بَ حَ- (المطلوب (الأول)

وصدق ع بَ حَ- (المطلوب الثاني)

البرهان:

إذا صدق لاب ح-

صدق لا ح- ب العكس المستوى

فيصدق عکس نقيضه الموافق س بَ حَ- (وهو المطلوب الأوّل)

وننقض محمول هذا الأخير فيحدث ع بَ ح (وهو المطلوب الثاني)

3 و 4 - الجزئيتان ليس لهما نقض تام ولا نقض موضوع . وللبرهنة على ذلك يكفي

البرهان على عدم نقضهما إلى الجزئية، فيعلم بطريق أولى عدم نقضهما إلى الكلية، كما

قدمنا في عدم انعكاس الموجبة الجزئية بعكس النقيض، فنقول :

في الموجبة الجزئية:

المفروض صدق ع ب ح-

المدعى لا تصدق دائماً ع بَ ح- َ (المطلوب الأوّل)

ولا تصدق دائماً س بَ حَ- (المطلوب الثاني)

البرهان :

تقدم في عكس النقيض في الموجبة الجزئية ان في بعض تقاديرها تكون النسبة بين

ص: 195

نقيضي طرفيها التباين الكلي، فتصدق حينئذ السالبة الكلية :

لابَ حَ

فيكذب نقيضها ع بَ حَ- (وهو المطلوب الأوّل)

وتصدق أيضاً منقوضة محمول هذه السالبة الكلية .

كل بَ ح-

فيكذب نقيضها س بَ حَ- (وهو المطلوب الثاني)

وفي السالبة الجزئية:

المفروض صدق س بَ ح

والمدعى لا تصدق دائماً س بَ حَ- (المطلوب (الأول)

ولا تصدق دائماً ع ب ح- ( المطلوب الثاني)

البرهان :

في السالبة الجزئية قد يكون الموضوع أعم من المحمول مطلقاً نحو : بعض الحيوان

ليس بإنسان، ولما كان :

أولاً: نقيض الأعم أخص من نقيض الأخص مطلقاً. فتصدق إذن الموجبة الكلية :

كل بَ حَ

فيكذب نقيضها س بَ حَ (وهو المطلوب الأوّل)

وثانياً: نقيض الأعم يباين عين الأخص تبايناً كلياً، فتصدق إذن السالبة الكلية :

لاب ح-

فيكذب نقيضها ع ب ح- (وهو المطلوب الثاني)

ص: 196

لوح نسب المحصورات:

الصورة

ص: 197

البديهة المنطقية أو الاستدلال المباشر البديهي

جميع ما تقدم من أحكام القضايا (النقيض والعكوس والنقض) هي من نوع الاستدلال المباشر بالنسبة إلى القضية المحولة عن الأصل، أي النقيض والعكس والنقض ؛ لأنه يستدل في النقض من صدق إحدى القضيتين على كذب الاخرى وبالعكس، ويستدل الباقي من صدق الأصل على صدق ما حول إليه عكسا أو نقضاً ، أو من كذب العكس و النقض على كذب الأصل.

وسميناه مباشراً لأن انتقال الذهن إلى المطلوب، أعني كذب القضية أو صدقها ، انّما

يحصل من قضية واحدة معلومة فقط ، بلا توسط قضية أخرى.

وقد تقدم البرهان على كل نوع من أنواع استدلال المباشر . وبقي نوع آخ--ر منه

بديهي لا يحتاج إلى أكثر من بيانه . وقد يسمّى البديهية المنطقية فنقول :

من البديهيات في العلوم الرياضية أنّه إذا أضفت شيئاً واحداً إلى كلّ من الشيئين

المتساويين فإن نسبة التساوي لا تغيير ، فلو كان :

ب=ح-

وأضفت إلى كلّ منهما عددا معيناً مثل عدد 4 لكان:

ب + 4 = ح+ 4

ص: 198

وكذلك إذا طرحت من كلّ منهما عدداً معيناً أو ضربتهما فيه أو قسمتهما عليه كعدد 4

فإنّ نسبة التساوي لا تتغير، فيكون :

ب - 4 = ح- - 4

وب X 4 = ح- 4X

وب : 4 = ح- : 4

وكذا لا تتغير النسبة لو كان ب أكبر من حأو أصغر منه فإنه يكون :

ب + 4 أكبر من ح- + 4 أو أصغر منه

و ب - 4 أكبر من ح- - 4 أو أصغر منه وهكذا.

ونظير ذلك نقول في القضية ؛ فانه لو صح أن تزيد كلمة على موضوع القضية ونفس

الكلمة على محمولها ، فان نسبة القضية لا تتغير، بمعنى بقاء الكم والكيف والصدق .

فإذا صدق : كلّ إنسان حيوان ، وأضفت كلمة رأس إلى طرفيها .

صدق : كلّ رأس إنسان رأس حيوان .

أو أضفت كلمة يحب مثلاً :

صدق : كلّ من يحب انساناً يحب حيواناً.

وإذا صدق : لا شيء من الحيوان بحجر ،

صدق : لا شيء من الحيوان مستلقياً بحجر مستلقياً.

وإذا صدق : بعض المعدن ليس بذهب.

صدق : بعض قطعة المعدن ليس بقطعة ذهب .

وهكذا يمكن لك أن تحوّل كلّ قضية صادقة إلى قضية أخرى صادقة، بزيادة كلمة

تصح زيادتها على الموضوع والمحمول معا ، بغير تغيير في كم القضية وكيفها، سواء كانت الكلمة مضافة أو حالاً أو وصفاً أو فعلاً أو أي شيء آخر من هذا القبيل.

ص: 199

ص: 200

الباب الخامس : مَبَاحِثُ الاستدلال

اشارة

ص: 201

ص: 202

تصدير

ان أسمى هدف للمنطقي وأقصى مقصد له مباحث الحجة، أي مباحث المعلوم التصديقي الذي يستخدم للتوصل إلى معرفة المجهول التصديقي، أما ما تقدّم من الأبواب فكلّها في الحقيقة مقدّمات لهذا المقصد حتى مباحث المعرف؛ لأن المعرف انّما يبحث عنه لیستعان به على فهم مفردات القضية من الموضوع والمحمول.

والحجّة عندهم عبارة عمّا يتألف من قضايا يتجه بها إلى مطلوب يستحصل بها ؛ وانّما سمّيت حجّة لأنّه يحتج بها على الخصم لاثبات المطلوب، وتسمّى دليلاً لأنها تدل على المطلوب، وتهيئتها وتأليفها لأجل الدلالة يسمّى استدلالاً.

وممّا يجب التنبيه عليه قبل كلّ شيء : ان القضايا ليست كلّها يجب أن تطلب بحجة ، والا لما انتهينا إلى العلم بقضية أبداً ، بل لا بدّ من الانتهاء إلى قضايا بديهية ليس من شأنها أن تكون مطلوبة، وأنّما هي المبادىء للمطالب ، وهي رأس المال للمتجر العلمي.

طرق الاستدلال ، أو أقسام الحجة

من منا لم يحصل له العلم بوجود النار عند رؤية الدخان ؟ ومن ذا الذي لا يتوقع صوت الرعد عند مشاهدة البرق في السحاب ؟ ومن ذا الذي لا يستنبط أن النوم يجم القوى، وأن الحجر يبتل بوضعه في الماء، وان السكينة تقطع الأجسام الطرية ؟ وقد نحكم على شخص بأنه كريم لأنه يشبه في بعض صفاته كريماً نعرفه، أو نحكم على قلم بأنه حسن لأنه يشبه قلما جربناه ... وهكذا إلى آلاف من أمثال هذه الاستنتاجات تمر علينا كل يوم.

وفي الحقيقة ان هذه الاستنتاجات الواضحة التي لا يخلو منها ذو شعور ، ترجع كلّها إلى أنواع الحجّة المعروفة التي نحن بصدد بيانها ، ولكن على الأكثر لا يشعر المستنبط انه

ص: 203

سالك أحد تلك الأنواع وان كان من علماء المنطق. وقد تعجّب لو قيل لك أن تسعة وتسعين في المائة من الناس هم منطقيون بالفطرة من حيث لا يعلمون .

ولمّا كان الإنسان - مع ذلك - يقع في كثير من الخطأ في أحكامه، أو يتعذر عليه تحصیل ،مطلوبه ، لم يستغن عن دراسة الطرق العلمية للتفكير الصحيح والاستدلال المنتج.

والطرق العلمية للاستدلال - عدا طريق الاستدلال المباشر الذي تقدّم البحث عنه -

هي ثلاثة أنواع رئيسة :

1 - القياس: وهو ان يستخدم الذهن القواعد العامة المسلم بصحتها في الانتقال إلى

مطلوبه . وهو العمدة في الطرق.

2 - التمثيل: وهو أن ينتقل الذهن من حكم أحد الشيئين إلى الحكم على الآخر لجهة

مشتركة بينهما .

- الاستقراء: وهو ان يدرس الذهن عدّة جزئيات، فيستنبط منها حكماً عاماً.

ص: 204

1 - القياس

تعريفه

عرفوا القياس بأنه : «قول مؤلف من قضايا متى سُلّمت لزم عنه لذاته قول آخر» .

الشرح

1 - القول: جنس . ومعناه المركب التام الخبري، فيعمّ القضية الواحدة والأكثر .

2 - مؤلف من قضايا... إلى آخره فصل . والقضايا جمع منطقي أي ما يشمل الاثنين، ويخرج بقيد القضايا الاستدلال المباشر لأنه كما سبق قضية واحدة على تقدير التسليم بها تستلزم قضيّة أخرى.

3 - متى سلّمت: من التسليم. وفيه اشارة إلى أن القياس لا يشترط فيه أن تكون قضاياه مسلمة فعلا، بل شرط كونه قياسا أن يلزم منه على تقدير التسليم بقضاياه قول آخر، كشأن الملازمة بين القضية وبين عكسها أو نقضها ، فإنّه على تقدير صدقها تصدق عكوسها نقوضها. واللازم يتبع الملزوم في الصدق فقط، دون الكذب، كما تقدم في العكس المستوي ؛ لجواز كونه لازماً أعم. ومنه يعرف أن كذب القضايا المؤلفة لا يلزم منه كذب القول اللازم لها : نعم كذبه يستلزم كذبها .

4 - لزم عنه: يخرج به الاستقراء والتمثيل لانهما وان تألفا من قضايا لا يتبعهما القول الآخر على نحو اللزوم ، لجواز تخلفه عنهما لانهما أكثر ما يفيدان الظن ، الا بعض

ص: 205

الاستقراء وسيأتي.

5- لذاته: يخرج به قياس المساواة، كما سيأتي في محله، فإن قياس المساواة انما يلزم منه القول الآخر لمقدمة خارجة عنه ، لا لذاته . مثل :

ب يساوى حوح يساوي د * .. ينتج ب يساوي د

ولكن لا لذاته ، بل لصدق المقدّمة الخارجية وهي مساوي المساوى مساو.

ولذا لا ينتج مثل قولنا بنصف جوج نصف ،د ، لان نصف النصف ليس نصفاً، بل ربعاً.

الاصطلاحات العامة في القياس

لابد - أولاً - من بيان المصطلحات العامة، عدا المصطلحات الخاصة بكل نوع التي

سيرد ذكرها في مناسباتها ، وهى :

1 - صورة القياس: ويقصد بها هيئة التأليف الواقع بين القضايا .

2 - المقدمة: وهى كلّ قضية تتألف منها صورة القياس والمقدمات تسمّى أيضاً القياس.

3 - المطلوب: وهو القول اللازم من القياس. ويسمّى مطلوباً عند أخذ الذهن في تأليف المقدمات .

4 - النتيجة: وهي المطلوب عينه ، ولكن يسمّى بها بعد تحصيله من القياس.

5 - الحدود: وهي الأجزاء الذاتية للمقدمة . ونعني بالأجزاء الذاتية الأجزاء التي تبقى بعد تحليل القضية؛ فإذا فككنا وحلّلنا الحملية - مثلاً - إلى أجزائها لا يبقى منها الا الموضوع والمحمول، دون النسبة ، لأن النسبة أنّما تقوم بالطرفين للربط بينهما ، فإذا أفرد كل منهما عن الآخر فمعناه ذهاب النسبة بينهما . وأما السور والجهة فهما من شؤون النسبة ، فلا بقاء لهما بعد ذهابها . وكذلك إذا حللنا الشرطية إلى أجزائها لا يبقى منها الا المقدم والتالي .

ص: 206

فالموضوع والمحمول أو المقدم والتالي هي الأجزاء الذاتية للمقدمات. وهي الحدود فيها .

ولنوضح هذه المصطلحات بالمثال ، فنقول :

1 - شارب الخمر، فاسق .

2 - وكل فاسق ، ترد شهادته .

شارب الخمر، ترد شهادته .

فبواسطة نسبة كلمة فاسق إلى شارب الخمر في القضية رقم 1 ونسبة ردّ الشهادة إلى

كلّ فاسق في القضية رقم 2 استنبطنا النسبة بين ردّ الشهادة والشارب في القضية رقم 3.

كل واحدة من القضيتين 1 و 2 :مقدمة

وشارب الخمر ، وفاسق، وترد شهادته :حدود

والقضية رقم 3 : مطلوب ونتيجة

والتأليف بين المقدمتين : صورة القياس

ولا يخفى انا استعملنا هذه العلامة : .:. النقط الثلاث، ووضعناها قبل النتيجة ؛

وهي علامة هندسية تستعمل للدلالة على الانتقال إلى المطلوب وتقرأ : إذن وسنستعملها عند استعمال الحروف فيما يأتي للاختصار وللتوضيح .

أقسام القياس بحسب مادته وهيئته

قلنا ان المقدمات تسمّى مواد القياس وهيئة التأليف بينها تسمّى صورة القياس، فالبحث عن القياس من نحوين:

1 - من جهة مادته بسبب اختلافها مع قطع النظر عن الصورة، بأن تكون المقدمات يقينية أو ظنيّة أو من المسلمات أو المشهورات أو الوهميات أو المخيلات أو غيرها مما

ص: 207

سيأتي في بابه. ويسمّى البحث فيها الصناعات الخمس الذي عقدنا لأجله الباب السادس

؛ فإنّه ينقسم القياس بالنظر إلى ذلك الى : البرهان والجدل والخطابة والشعر والمغالطة .

2 - من جهة صورته بسبب اختلافها مع قطع النظر عن شأن المادة. وهذا الباب معقود للبحث عنه من هذه الجهة . وهو ينقسم من هذه الجهة إلى قسمين : اقتراني واستثنائي ، باعتبار التصريح بالنتيجة أو بنقيضها في مقدّماته وعدمه.

فالأول: وهو المصرح في مقدماته بالنتيجة أو بنقيضها، يسمّى استثنائياً، لاشتماله

على كلمة الاستثناء، نحو:

1 - ان كان محمد عالماً ، فواجب احترامه .

2 - لكنه عالم .

3 - .. فمحمد واجب احترامه .

فالنتيجة رقم 3 مذكورة بعينها في المقدمة رقم 1.

ونحو :

1 - لو كان فلان عادلا ، فهو لا يعصي الله .

2 - ولكنه قد عصى الله .

3-.. ما كان فلان عادلاً .

فالنتيجة رقم 3 مصرح بنقيضها في المقدمة رقم 1.

والثاني: وهو غير المصرح في مقدماته بالنتيجة ولا بنقيضها يسمّى اقترانياً كالمثال المتقدم في أول البحث؛ فإن النتيجة وهي : شارب الخمر تردّ شهادته» غير مذكورة بهيئتها صريحا في المقدمتين ولا نقيضها مذكور، وانماهي مذكورة بالقوة باعتباروج---ود اجزائها الذاتية في المقدمتين، أعني الحدين وهما شارب الخمر، وتردّ شهادته، فإنّ كلّ واحد منهما مذكور في مقدمة مستقلة.

ص: 208

ثم الاقتراني قد يتألف من حمليات فقط، فيسمى حملياً. وقد يتألف من شرطيات

فقط ، أو شرطية ، وحملية ، فيسمى شرطياً . مثاله :

1 - كلّما كان الماء جارياً، كان معتصماً.

2 - وكلما كان معتصماً ، كان لا ينجس بملاقاة النجاسة .

- .:: كلّما كان الماء جارياً، كان ينجس بملاقاة النجاسة .

فمقدمتاه شرطيتان متصلتان .

مثال ثان :

1 - الاسم كلمة .

2 - والكلمة أما مبنية أو معرّبة .

3 - :: الاس- الاسم اما مبني أو معرّب .

فالمقدمة رقم 1 حملية، والمقدمة 2 شرطية منفصلة .

ونحن نبحث أولاً عن الاقترانيات الحملية ، ثم الشرطية ، ثم الاستثنائي .

خلاصة التقسيم

الصورة

ص: 209

الاقتراني الحملي

حدوده

يجب أن يشتمل القياس الاقتراني على مقدمتين لينتج المطلوب. ويجب أيضاً أن

تشتمل المقدّمات على حدود ثلاثة : حد متكرّر مشترك بينهما ، وحدّ يختص بالاولى وحد بالثانية. والحدّ المتكرّر المشترك هو الذي يربط بين الحدين الآخرين، ويحذف في النتيجة التي تتألف من هذين الحدّين، إذ يكون احدهما موضوعا لها والآخر محمولاً ، فهو كالشمعة تفنى نفسها لتضيء لغيرها.

ولنعد إلى المثال المتقدّم في المصطلحات العامة، لتطبيق الحدود عليه ، فنقول :

أ - فاسق هو المتكرر المشترك الذي أعطى الربط بين :

ب - شارب الخمر وهو الحدّ المختص بالمقدمة الاولى، وبين:

ج - تردّ شهادته وهو الحدّ المختص بالمقدّمة الثانية.

تنتج المقدمتان : شارب الخمر تردّ شهادته، بحذف الحدّ المشترك. وقد سموا كلّ

واحد من الحدود الثلاثة باسم خاص (1).

أ - الحد الأوسط أو الوسط: وهو الحد المشترك، لتوسطه بين رفيقيه في نسبة أحدهما إلى الآخر. ويسمّى أيضاً الحجّة لأنه يحتج به على النسبة بين الحدين. ويسمّى أيضاً الواسطة في الاثبات، لأن به يتوسط في اثبات الحكم بين الحدين .

مباحث الاستدلال

ص: 210


1- هذه المصطلحات الآتية تشمل الاقتراني بقسميه الحملي والشرطي وكذا القواعد العامة الآتية

ونرمز له بحرف «م».

ب - الحد الأصغر: وهو الحد الذي يكون موضوعا في النتيجة . وتسمى المقدمةالمشتملة عليه صغرى، سواء كان هو موضوعا فيها أم محمولاً. ونرمز له بحرف «ب» .

ج - الحد الأكبر وهو الذي يكون محمولاً في النتيجة. وتسمّى المقدّمة المشتملة عليه كبرى، سواء كان هو محمولاً فيها أو موضوعاً. ونرمز له بحرف «ح» . والحدّان معاً

يسميان طرفين.

فاذا قلنا : كل ب م

وهنا: كل م ح--

ينتج : .:: كلّ ب ح- بحذف المتكرر (م).

القواعد العامة للاقتراني

للقياس الاقتراني - سواء كان حملياً أو شرطياً - قواعد عامة اساسية يجب توفرها

فيه ، ليكون منتجا ، وهي :

1 - تكرّر الحد الأوسط

أي يجب أن يكون مذكوراً بنفسه في الصغرى والكبرى من غير اختلاف، والا لم--ا

كان حداً أوسط متكرراً، ولما وجد الارتباط بين الطرفين. وهذا بديهي.

مثلاً إذا قيل : «الحائط فيه فأرة ، وكل فارة لها أذنان»، فإنه لا ينتج : «الحائط له

أذنان».

لأن الحد الذي يتخيل انه حد أوسط هنا لم يتكرر ، فإن المحمول في الصغرى فيه فارة والموضوع في الكبرى فارة فقط . ولأجل أن يكون منتجا فإما أن نقول في الكبرى «وكل ما فيه فارة له أذنان» ولكنها كاذبة . وأما أن نعتبر المتكرر كلمة فارة فقط ،فتكون

النتيجة هكذا : الحائط فيه ما له أذنان، وهي صادقة .

ص: 211

مثال ثان : إذا قيل : «الذهب عين. وكل عين تدمع ، فإنّه لا ينتج : «الذهب يدمع».

لان لفظ عين مشترك لفظي، والمراد منه في الصغرى غير المراد منه في الكبرى ؛ فلم

يتكرر الحدّ الأوسط ، ولم يتكرّر الا اللفظ فقط.

2- ایجاب احدى المقدمتين

فلا انتاج من سالبتين ؛ لأن الوسط في السالبتين لا يساعدنا على إيجاد الصلة والربط بين الأصغر والأكبر ، نظرا إلى أن الشيء الواحد قد يكون مبايناً لأمرين وهما لا تباين بينهما ، كالفرس المباين للإنسان والناطق . وقد يكون مباينا لأمرين هما متباينان في أنفسهما كالفرس المباين للإنسان والطائر، والإنسان والطائر أيضاً متباينان.

وعليه، فلا نعرف حال الحدّين لمجرد مباينتهما للمتكرر، انهما متلاقيان خارج الوسط أم متباينان ؛ فلا ينتج الايجاب ولا السلب . فإذا قلنا :

لا شيء من الإنسان بفرس،* ولا شيء من الفرس بناطق،

فإنه لا ينتج السلب : لا شيء من الإنسان بناطق؛ لأن الطرفين متلاقيان.

ولو أبدلنا بالمقدمة الثانية قولنا : لا شيء من الفرس بطائر .

فإنه لا ينتج الايجاب : كلّ إنسان طائر؛ لأن الطرفين متباينان ويجري هذا الكلام في كلّ سالبتين.

3- كلية احدى المقدمتين

فلا انتاج من مقدمتين جزئيتين، لان الوسط فيهما لا يساعدنا أيضاً على إيجاد الصلة بين الأصغر والأكبر ، لأن الجزئية لا تدل على أكثر من تلاقي طرفيها في الجملة ، فلا يعلم في الجزئيتين ان البعض من الوسط الذي يتلاقى به مع الأصغر هو نفس البعض الذي يتلاقى به مع الأكبر ، أم غيره . وكلاهما جائز . ومعنى ذلك انا لا نعرف حال الطرفين الأصغر والأكبر أمتلاقيان أم متباينان، فلا ينتج الايجاب ولا السلب، كما نقول مثلاً :

ص: 212

أولاً : بعض الإنسان حيوان . وبعض الحيوان فرس.

فإنّه لا ينتج الإيجاب : بعض الإنسان فرس. وإذا أبدلنا بالمقدمة الثانية قولنا : بعض

الحيوان ناطق .

فإنّه لا ينتج السلب بعض الإنسان ليس بناطق.

ثانيا : بعض الإنسان حيوان وبعض الحيوان ليس بناطق .

فإنّه لا ينتج السلب : بعض الإنسان ليس بناطق. وإذا أبدلنا بالمقدمة الثانية قولنا :

بعض الحيوان ليس بفرس .

فإنّه لا ينتج الايجاب : بعض الإنسان فرس. وهكذا يجري هذا الكلام في كلّ جزئيتين مهما كان موضع الوسط في المقدمتين موضوعاً أو محمولاً أو مختلفاً.

4 - النتيجة تتبع أخس المقدمتين

يعني إذا كانت احدى المقدمتين سالبة كانت النتيجة سالبة لان السلب أخس من الايجاب. وإذا كانت جزئية كانت النتيجة جزئية لان الجزئية أخس من الكلية. وهذا الشرط واضح لأن النتيجة متفرعة عن المقدمتين معا فلا يمكن ان تزيد عليهما فتكون اقوى منهما.

5 - لا انتاج من سالبة صغرى وجزئية كبرى

ولابد أن تفرض الصغرى كلية والا لاختل الشرط الثالث . ولابد أن تفرض الكبرى

موجبة والا لاختل الشرط الثاني.

فإذا تألف القياس من سالبة كلية صغرى وجزئية موجبة كبرى، فإنّه لا يعلم ان الأصغر والأكبر متلاقيان أو متباينان خارج الوسط ، لأن السالبة الكلية تدل على تباين طرفيها أي الأصغر مع الأوسط هنا . والجزئية الموجبة تدل على تلاقي طرفيها في الجملة أي الأوسط والأكبر هنا، فيجوز أن يكون الأكبر خارج الأوسط مبايناً للاصغر كما كان

ص: 213

الأوسط مبايناً له ويجوز أن يكون ملاقياً له : فمثلاً إذا قلنا :

لا شيء من الغراب بإنسان، وبعض الإنسان أسود،

فإنّه لا ينتج السلب : بعض الغراب ليس بأسود. ولو أبدلنا بالمقدمة الثانية قولنا :

بعض الإنسان أبيض، فإنّه لا ينتج الإيجاب : بعض الغراب أبيض.

وأنت هنا في المثال بالخيار في وضع الأوسط موضوعاً في المقدمتين أو محمولاً أو

مختلفاً ؛ فإن الأمر لا يختلف والعقم تجده كما هو في الجميع.

ص: 214

الأشكال الأربعة

اشارة

قلنا : ان القياس الاقتراني لابد له من ثلاثة حدود أوسط وأصغر وأكبر . ونضيف عليه هنا فنقول :

ان وضع الأوسط مع طرفيه في المقدمتين يختلف ؛ ففي الحملي قد يكون موضوعا فيهما أو محمولاً فيهما، أو موضوعاً في الصغرى ومحمولاً في الكبرى، أو بالعكس. فهذه أربع صور وكل واحدة من هذه الصور تسمّى شكلاً. وكذا في الشرطي يكون تالياً ومقدماً. فالشكل في اصطلاحهم - على هذا - هو «القياس الاقتراني باعتبار كيفية وضع الأوسط من الطرفين». ولنتكلم عن كلّ واحد من الأشكال الأربعة في الحملي ثم نتبعه بالاقتراني الشرطي.

الشكل الأول

وهو ما كان الأوسط فيه محمولاً في الصغرى موضوعا في الكبرى. أي يكون وضع الحدين في المقدمتين مع الاوسط، بين وضع أحدها مع الآخر في النتيجة : فكما يكون الأصغر موضوعاً في النتيجة يكون موضوعاً في الصغرى، وكما يكون الأكبر محمولاً في النتيجة يكون محمولاً في الكبرى.

ولهذا التفسير فائدة نريد أن نتوصل اليها. فإنّه لأجل أن الأصغر وضعه في النتيجة عين وضعه في الصغرى، وان الأكبر وضعه في النتيجة عين وضعه في الكبرى ، كان هذا الشكل على مقتضى الطبع، وبيّن الانتاج بنفسه لا يحتاج إلى دليل وحجة ، بخلاف البواقي . ولذا جعلوه أول الأشكال . وبه يستدل على باقيها . .

ص: 215

شروطه

لهذا الشكل شرطان:

1 - ايجاب الصغرى: إذ لو كانت سالبة ، فلا يعلم ان الحكم الواقع على الأوسط في الكبرى أيلاقي الأصغر في خارج الأوسط أم لا ؛ فيحتمل الأمران، فلا ينتج الايجاب ولا السلب كما نقول مثلاً:

لا شيء من الحجر بنبات *وكل نبات نام .

فإنّه لا ينتج الإيجاب : كلّ حجر .نام . ولو أبدلنا بالصغرى قولنا : لا شيء من الإنسان بنبات، فإنّه لا ينتج السلب : لا شيء من الإنسان بنام . أما إذا كانت الصغرى موجبة فإن ما يقع على الأوسط في الكبرى لابد أن يقع على ما يقع عليه الأوسط في الصغرى. 2 - كلية الكبرى: لأنه لو كانت جزئية لجاز أن يكون البعض من الأوسط المحكوم عليه بالأكبر غير ما حكم به على الأصغر ، فلا يتعدى الحكم من الأكبر إلى الأصغر بتوسط الأوسط. وفي الحقيقة إن هذا الشرط راجع إلى القاعدة الاولى، لأن الأوسط في الواقع على هذا الفرض غير متكرر ؛ كما نقول مثلاً

كل ماء سائل *وبعض السائل يلتهب بالنار

فإنّه لا ينتج : بعض الماء يلتهب بالنار، لأن المقصود بالسائل الذي حكم به على الماء خصوص الحصة منه التي تلتقي مع الماء، وهي غير الحصة من السائل الذي يلتهب بالنار، وهو النفط مثلاً . فلم يتكرّر الأوسط في المعنى، وان تكرر لفظاً .

هذه شروطه من ناحية الكم والكيف ، أما من ناحية الجهة فقد قيل انه يشترط فعلية

الصغرى. ولكنا أخذنا على أنفسنا الا نبحث عن الموجهات، لأن ابحاثها المطولة تضيع علينا كثيراً مما يجب أن نعلمه . وليس فيها كبير فائدة لنا .

ضروبه

كل مقدمة من القياس في حد نفسها يجوز أن تكون واحدة من المحصورات الأربع ؛ فإذا اقترنت الصور الأربع في الصغرى مع الأربع في الكبری، خرجت عندنا ست عشرة

ص: 216

صورة للاقتران تحدث من ضرب أربعة في أربعة . وذلك في جميع الأشكال الأربعة.

والصورة من تأليف المقدمتين تسمّى بثلاثة أسماء : ضرب، اقتران وقرينة.

وهذه الاقترانات أو الضروب الستة عشر بعضها منتج، فيسمى قياساً وبعضها غير منتج فيسمى عقيماً. وبحسب الشرطين في الكم والكيف لهذا الشكل الأول تكون الضروب المنتجة أربعة فقط. أما البواقي فكلّها عقيمة، لأن الشرط الأول تسقط به ثمانية ضروب، وهي حاصل ضرب السالبتين من الصغرى في الأربع من الكبرى ؛ والشرط الثاني تسقط به أربعة حاصل ضرب الجزئيتين من الكبرى في الموجبتين من الصغرى ؛ فالباقي أربعة فقط.

وكل هذه الأربعة بيئة الانتاج، ينتج كلّ واحد منها واحدة من المحصورات الأربع، فالمحصورات كلّها تستخرج من أضرب هذا الشكل. ولذا سمي كاملاً وفاضلاً. وقد رتبوا ضروبه على حسب ترتب المحصورات في نتائجه : فالاول ما ينتج الموجبة الكلية، ثم ما ينتج السالبة الكلية، ثم ما ينتج الموجبة الجزئية ، ثم ما ينتج السالبة الجزئية .

الأوّل من موجبتين كليتين، ينتج موجبة كلية :

الصورة

ص: 217

الرابع من موجبة جزئية وسالبة كلية ، ينتج سالبة جزئية :

الصورة

الشكل الثاني

وهو ما كان الوسط فيه محمولا في المقدمتين معا، فيكون الأصغر فيه موضوعاً في الصغرى والنتيجة ، ولكن الأكبر يختلف وضعه فإنّه موضوع في الكبرى محمول في النتيجة . ومن هنا كان هذا الشكل بعيداً عن مقتضى الطبع، غير بين الانتاج يحتاج إلى الدليل على قياسيته . ولأجل أن الأصغر فيه متحد الوضع في النتيجة والصغرى موضوعاً فيهما كالشكل الأوّل ، كان أقرب إلى مقتضى الطبع من باقي الأشكال الاخرى، لأن

الموضوع أقرب إلى الذهن.

شروطه

للشكل الثاني شرطان أيضاً : اختلاف المقدمتين في الكيف وكلية الكبرى.

الاول: الاختلاف في الكيف ، فإذا كانت احداهما موجبة كانت الاخرى سالبة ، لأن هذا الشكل لا ينتج مع الاتفاق في الكيف، لأن الطرفين الأصغر والأكبر قد يكونان متباينين، ومع ذلك يشتركان في أن يحمل عليهما شيء واحد أو يشتركان في أن يسلب عنهما شيء آخر ، ثم قد يكونان متلاقيين ويشتركان أيضاً في أن يحمل عليهما أو يسلب عنهما شيء واحد فلا ينتج الايجاب ولا السلب .

مثال ذلك :

ص: 218

الإنسان والفرس متباينان ويشتركان في حمل الحيوان عليهما وسلب الحجر

عنهما ، فنقول :

أ - كلّ إنسان حيوان * وكل فرس حيوان

ب - لا شيء من الإنسان بحجر * ولا شيء من الفرس بحجر

والحق في النتيجة فيهما السلب. ثم الإنسان والناطق أيضاً يشتركان في حمل الحيوان عليهما وسلب الحجر عنهما ، فتبدل في المثالين بالفرس الناطق، فيكون الحق في النتيجة فيهما الايجاب.

أما إذا اختلف الحكمان في الصغرى والكبرى على وجه لا يصح جمعهما على شيء واحد ، وجب أن يكون المحكوم عليه في احداهما غير المحكوم عليه في الاخرى . فيتباين الطرفان الأصغر والأكبر، وتكون النسبة بينهما نسبة السلب ، فلذا تكون النتيجة في الشكل الثاني سالبة دائماً، تتبع أخس المقدمتين.

الشرط الثاني: كلية الكبرى، لأنه لو كانت جزئية مع الاختلاف في الكيف لم يعلم حال الأصغر والأكبر متلاقيان أم متنافيان ؛ لأن الكبرى الجزئية مع الصغرى الكلية إذا اختلفتا في الكيف لا تدلان إلا على المنافاة بين الأصغر وبعض الأكبر المذكور في الكبرى. ولا تدلان على المنافاة بين الأصغر والبعض الآخر من الأكبر الذي لم يذكر ، كما لا تدلان على الملاقاة، فيحصل الاختلاف.

مثال ذلك :

كل مجتر ذو ظلف وبعض الحيوان ليس بذي ظلف.

فإنّه لا ينتج السلب : بعض المجتر ليس بحيوان . ولو أبدلنا بالأكبر كلمة طائر،

فإنّه لا ينتج الايجاب : بعض المجتر طائر.

ضروبه

بحسب الشرطين المذكورين في هذا الشكل تكون الضروب المنتجة منه أربعة فقط ؛ لأن الشرط الأول تسقط به ثمانية ، حاصل ضرب السالبتين من الصغرى في السالبتين

ص: 219

من الكبرى فهذه أربعة، وحاصل ضرب الموجبتين في الموجبتين، فهذه أربعة اخرى . والشرط الثاني تسقط به ، أربعة، وهي السالبتان في الصغرى مع الموجبة الجزئية في الكبرى، والموجبتان في الصغرى مع السالبة الجزئية في الكبرى.

فالباقي أربعة ضروب منتجة ، كلّها يبرهن عليها بتوسط الشكل الأوّل كما سترى : الضرب الأوّل من موجبة كلية وسالبة كلية ، ينتج سالبة كلية . مثاله :

كل مجتر ذو ظلف

ولا شيء من الطائر بذي ظلف

. لا شيء من المجتر بطائر

ويبرهن عليه بعكس الكبرى بالعكس المستوي ، ثم ضع العكس إلى نفس الصغرى فيتألف من الضرب الثاني من الشكل الأوّل، وينتج نفس النتيجة المطلوبة؛ فيقال باستعمال الرموز:

المفروض : كل ب م ولا ح- م

المدعى انه ينتج : : لاب ح-

البرهان: نعكس الكبرى بالعكس المستوي إلى لام دونضمها إلى الصغرى فيحدث :

كل ب م . و لام ح- (الضرب الثاني من الشكل الأوّل)

ينتج .. لاب ح ( وهو المطلوب)

الثاني من سالبة كلية وموجبة كلية ينتج سالبة كلية . مثاله

لا شيء من الممكنات بدائم

وكل حق دائم

: لا شيء من الممكنات بحق

يبرهن عليه بعكس الصغرى، ثم يجعلها كبرى وكبرى الأصل صغرى لها ، ثم بعكس

ص: 220

النتيجة ؛ فيقال :

المفروض: لا ب م كل ح م

المدعى: لاب ح--

البرهان:

إذا صدقت لاب م

صدقت لام ب (العكس المستوى )

فنضم هذا العكس إلى كبرى الاصل بجعله كبرى لها فيكون :

كل ح م ولام ب (الضرب الثاني من الأوّل)

لا ح- ب

وتنعكس الى لاب ح-- (وهو المطلوب)

الثالث من موجبة جزئية وسالبة كلية ، ينتج سالبة جزئية . مثاله :

بعض المعدن ذهب

ولا شيء من الفضة بذهب

.. بعض المعدن ليس بفضة

ويبرهن عليه بما برهن به على الضرب الأوّل ؛ فيقال :

المفروض : ع ب م ولا ح- م

المدعى س ب ح-

البرهان : إذا صدقت لاح- م (الكبرى)

صدقت لام ح- (لعكس المستوى )

وبضمه إلى الصغرى يحدث :

ع ب م ولام ح (الضرب الرابع من الأول)

س ب- ح- (وهو المطلوب)

ص: 221

الرابع من سالبة جزئية وموجبة كلية ، ينتج سالبة جزئية . مثاله :

بعض الجسم ليس بمعدن

وكل ذهب معدن

بعض الجسم ليس بذهب

ولا يبرهن عليه بطريقة العكس (1) التي ذكرناها في الضروب الثلاثة ؛ لان الصغرى سالبة جزئية لا تنعكس، وعكس الكبرى جزئية ، لا يلتئم منها ومن الصغرى قياس ، لانه لا قياس من جزئيتين . فنفزع حينئذ للبرهان عليه إلى طريقة أخرى تسمّى طريقة الخلف؛

فيقال:

المفروض : س ب م . وكل ح- م

المدعى : .. س ب ح-

البرهان : لولم تصدق س ب ح- (النتيجة)

لصدق نقيضها : كل ب ح--

فنجعل هذا النقيض صغرى لكبرى الأصل، فيتألف قياس من الضرب الأوّل من

الشكل الأوّل: كل ب ح-- وكل ح- م

.. كل ب م

فيكذب نقيض هذه النتيجة : س ب م

وهو عين الصغرى المفروض صدقها

وهذا خلاف الفرض

فوجب صدق س ب- ح- (وهو المطلوب)

ص: 222


1- سيأتى فى تنبيهات الشكل الثالث ان هذه الطريقة تسمّى طريقة الردّ ، لانه بالعكس يرد القياس إلى الشكل الأوّل البديهي لينتج المطلوب
تمرین

برهن على كل واحد من الضروب الثلاثة الاولى بطريقة الخلف التي برهنا بها على

الضرب الرابع .

الشكل الثالث

وهو ما كان الأوسط فيه موضوعاً في المقدمتين معاً، فيكون الأكبر محمولاً ف--ي الكبرى والنتيجة معا، ولكن الأصغر يختلف وضعه ؛ فإنّه محمول في الصغرى موضوع في النتيجة. ومن هنا كان هذا الشكل بعيدا عن مقتضى الطبع، وأبعد من الشكل الثاني لأن الاختلاف كان في موضوع النتيجة، الذي هو أقرب إلى الذهن . وكان الاختلاف في الثاني في محمولها . ولأجل أن الأكبر فيه متحد الوضع في الكبرى والنتيجة كالشكل الأوّل كان أقرب من الرابع .

شروطه

لهذا الشكل شرطان أيضاً : ايجاب الصغرى، وكلية احدى المقدمتين .

أما الأوّل: فلانه لو كانت الصغرى سالبة ، فلا نعلم حال الأكبر المحمول على الاوسط

بالسلب أو الايجاب، ايلاقي الأصغر الخارج عن الأوسط أو يفارقه.

لأنه لو كانت الكبرى موجبة فإن الاوسط يباين الأصغر ويلاقي الأكبر . وشيء واحد قد يلاقي ويباين شيئين متلاقين أو شيئين متباينين، كالناطق يلاقي الحيوان ويباين الفرس وهما متلاقيان ويلاقي الحيوان ويباين الشجر وهما متباينان.

ولو كانت الكبرى سالبة أيضاً، فإن الاوسط يباين الأصغر والأكبر معاً. والشيء الواحد قد يباين شيئين متلاقيين وقد يباين شيئين متباينين كالذهب المباين للفرس والحيوان وهما متلاقيان ويباين الشجر والحيوان وهما متباينان . فإذا قيل :

ص: 223

أ - لا شيء من الناطق بفرس* وكل ناطق حيوان ،

فإنّه لا ينتج السلب . ولو وضعنا مكان فرس ،شجر، فإنّه لا ينتج الايجاب .

ب لا شيء من الذهب بفرس *لا شيء من الذهب بحيوان،

فإنّه لا ينتج السلب . ولو وضعنا مكان فرس شجر فإنّه لا ينتج الايجاب.

وأما الثاني وهو كلية احدى المقدمتين ، فلانه قد تقدم في القاعدة الثالثة من القواعد

العامة للقياس انه لا ينتج من جزئيتين. وليس هنا ما يقتضي اعتبار كلية خصوص احدى

المقدمتين .

ضروبه

بحسب الشرطين المذكورين تكون الضروب المنتجة من هذا الشكل ستة فقط ؛ لأن الشرط الأوّل تسقط به ثمانية ضروب كالشكل الأوّل . والشرط الثاني يسقط به ضربان :

الجزئيتان الموجبتان، والجزئية الموجبة مع الجزئية السالبة، فالباقي ستة يحتاج كل منها

إلى برهان . ونتائجها جميعاً جزئية.

الضرب الأوّل من موجبتين كليتين ، ينتج موجبة جزئية .

مثاله : كل ذهب معدن

وكل ذهب غالي الثمن

.. بعض المعدن غالي الثمن

ويبرهن عليه بعكس الصغرى، ثم ضمها إلى كبرى الأصل، فيكون من ثالث الشكل

الأوّل ، لينتج المطلوب.

المفروض : کل م ب كل م ح-

المدعى : ع ب ح-

ص: 224

البرهان :

إذا صدقت كل م ب

صدقت ع ب م العكس المستوي

فنضم العكس الى كبرى الأصل ليكون

ع ب م وكل م ح- (ثالث الأول)

. ع ب ح- (المطلوب)

ولا ينتج كلية لجواز أن يكون ب أعم من حولو من وجه ، كالمثال.

الثاني من كليتين والكبرى سالبة ، ينتج سالبة جزئية .

مثاله : كل ذهب معدن

ولا شيء من الذهب بفضة

... بعض المعدن ليس بفضة

ويبرهن عليه بعكس الصغرى كالاول ، فنقول :

المفروض كل م ب

المدعى : س ب ح-

البرهان : نعكس الصغرى فتكون ع ب م فنضمها إلى الكبرى فيحدث :

ع ب م ولام ح-- (رابع الأول)

س ب ح- (المطلوب)

الثالث من موجبتين والصغرى جزئية، ينتج موجبة جزئية.

مثاله : بعض الطائر أبيض

وكل طائر حيوان

.. بعض الأبيض حيوان

البرهان : بعكس الصغرى كالاول، فنقول :

المفروض: ع م ب وكل م ح-

المدعي : ع ب ح-

ص: 225

البرهان : نعكس الصغرى إلى ع ب م ، ونضمها إلى الكبرى فيحدث :

ع ب م وكل م ح- ( ثالث الأوّل)

ع ب ح- (المطلوب)

الرابع من موجبتين والكبرى جزئية ؛ ينتج موجبة جزئية .

مثاله : كل طائر حيوان

بعض الطائر أبيض

.. بعض الحيوان أبيض

ويبرهن عليه بعكس الكبرى ، ثم جعلها صغرى وصغرى الاصل كبرى لها، ثم بعكس النتيجة ، فنقول :

المفروض : كل م ب وع م ح-

المدعى: ع ب ح-

البرهان، نعكس الكبرى إلى ع حم ونجعلها صغرى لصغرى الاصل

فيحدث :

ع ح م كل م ب ( ثالث الأوّل)

ع ح ب

وينعكس بالعكس المستوي إلى ع ب ح- (المطلوب)

الخامس من موجبة كلية وسالبة جزئية ، ينتج سالبة جزئية .

مثاله كل حيوان حساس

وبعض الحيوان ليس بإنسان

.. بعض الحساس ليس بإنسان

ولا يبرهن عليه بطريق العكس ، لانه السالبة الجزئية لا تنعكس والموجبة الكلية تنعكس إلى جزئية ولا قياس بين جزئيتين . فلذلك يبرهن عليه بالخلف ؛

فنقول :

ص: 226

المفروض: كل م ب و س م ح--

المدعى : .. س ب ح-

البرهان : لو لم تصدق س ب ح-

لصدق نقيضها كل ب ح--

نجعله کبری لصغرى الاصل فيحدث :

كل م ب وكل ب ح- (الأول من الأول)

... كل م ح-

فيكذب نقيضها : س م ح وهو عين الكبرى الصادقة

هذا خلف فيجب أن يصدق س ب ح- (المطلوب)

السادس من موجبة جزئية وسالبة كلية ، ينتج سالبة جزئية .

مثاله : بعض الذهب معدن

ولا شيء من الذهب بحديد

.. بعض المعدن ليس بحديد

وبرهن عليه بعكس الصغرى، ثم ضمه إلى كبرى الاصل ليكون من رابع الشكل الأوّل، لينتج المطلوب.

المفروض : ع م ب ولام ح-

المدعى: .'. س ب ح-

البرهان : نعكس الصغرى إلى ع ب م فنضمه إلى الكبرى ليحدث :

ع ب م ولام ح-- (رابع الأول)

س ب ح- (المطلوب)

ص: 227

تنبيهات

طريقة الخلف

1 - ان كلا من ضروب الشكل الثالث يمكن اقامة البرهان عليه بطريقة الخلف ، كضروب الثاني .

والخلف : استدلال غير مباشر يبرهن به على كذب نقيض المطلوب ليستدل به على صدق المطلوب. وهو فى الأشكال خاصة يؤخذ نقيض النتيجة المطلوب اثباتها فيقال أو لم تصدق لصدق نقيضها . وإذ فرض صدق النقيض يضم إلى احدى المقدمتين المفروض صدقها، ليتألف من النقيض وهذه المقدمة ضرب من ضروب الشكل الأوّل ؛ فينتج ما يناقض المقدمة الأخرى الصادقة بالفرض. هذا خلف . فلا بد أن تكذب هذه النتيجة. وكذبها لا بد أن ينشأ من كذب نقيض المطلوب ؛ فيثبت صدق المطلوب. وقد تقدمت امثلته .

وعلى الطالب أن يجري استعماله استعماله في جميع الضروب شحذا لذهنه . وليلاحظ أي--ة مقدمة يجب أن يختارها من القياس المفروض ، ليلتئم من النقيض ومن المقدمة الضرب المنتج .

دليل الافتراض

2 - وقد يستدل بدليل الافتراض على انتاج بعض الضروب الذي تكون احدى مقدمتيه جزئية من هذا الشكل أو من الثاني ولا باس بشرحه تنويرا لافكار الطالب . وان

ص: 228

كانوا في غنى عنه بدليل العكس والخلف . وله مراحل ثلاث:

الاولى: الفرض، وهو أن نفرض اسما خاصا للبعض الذي هو مورد الحكم في القضية الجزئية، فنفرضه حرف (د) ؛ لأن في قولنا مثلاً : بعض الحيوان ليس بإنسان لابد أن يقصد في البعض شيء معين يصح سلب الإنسان عنه . مثل فرس وقرد وطائر ونحوها. فنصطلح على هذا الشيء المعين ونسميه (د) ، ففي مثل القضية : بعض م ب يكون «د» عبارة أخرى عن قولنا «بعض م» .

الثانية: استخراج قضيتين صادقتين بعد الفرض فإنّه بعد الفرض المذكور نستطيع أن نحصل على قضيتين صادقتين قطعا :

1 - قضية موجبة كلية ، موضوعها الاسم المفروض ((د) ومحمولها موضوع القضية «د»

الجزئية ؛ ففي المثال المتقدم تكون كل د م» صادقة ، لان «د» بعض «م» حسب الفرض، والأعم يحمل على جميع أفراد الأخص قطعاً.

2 - قضية كلّيّة : موجبة أو سالبة تبعا لكيف الجزئية ، موضوعها الاسم المفروض (د)، ومحمولها محمول الجزئية ؛ ففى المثال تكون كل دب» صادقة ، لأن «د» هو البعض الذي هو كله .«ب». وإذا كانت الجزئية سالبة مثل س م ب تكون «لا دب» صادقة ، لأن «د» هو البعض المسلوب عنه «ب».

الثالثة: الاقترانات المنتجة للمطلوب: لانا بعد استخراج تلك القضيتين تزيد ثروة معلوماتنا، فنستعملها في تأليف اقترانات نافعة منهما ومن المقدمتين للقياس المفروض صدقهما ، لإستخراج النتيجة المطلوب اثبات صدقها .

ولنجرب هذا الدليل بعد أن فهمنا مراحله في الاستدلال على الضرب الخامس من الشكل الثالث ، فنقول :

المفروض كل من ب وس م ح-- (الخامس من الثالث)

المدعى س ب ح

البرهان : بالافتراض

ص: 229

نفرض بعض م ( في السالبة الجزئية س م ح) الذي هو ليس ح، انه «د»، فنستخرج

القضيتين الصادقتين :

1 - كل د م

2 - لا دح-

ثم نأخذ القضية رقم (1) ونجعلها صغرى لصغرى الأصل، فيحدث:

کل دم وكل م ب (أول الشكل الأوّل)

.. كل دب

ثم هذه النتيجة نجعلها صغرى للقضية رقم «2»، فيحدث :

کل د ب ولادح- (ثاني الشكل الثالث)

س ب ح- (وهو المطلوب)

ولنجر به - ثانياً - في الاستدلال على الضرب الرابع من الشكل الثاني، فنقول :

المفروض : س ب م وكل ح م

المدعى : ..س ب ح-

البرهان : بالافتراض

نفرض بعض ب الذي هو ليس «م» انه «د» وذلك في السالبة الجزئية (س ب م )،

فنستخرج القضيتين الصادقين :

1 - كلّ د ب

2 - لا د م

ثم تأخذ القضية رقم «2» ونجعلها صغرى لكبرى الأصل، فيحدث :

لا د م وكل ح م ( ثاني الشكل الثاني)

. لادح

ثم نعكس القضية رقم «1» الى : ع ب د

ونضم هذا العكس إلى النتيجة الاخيرة ونجعله صغرى فيحدث :

ص: 230

ع ب د ولا د ح- (رابع الشكل الأوّل)

.. س ب ح (وهو المطلوب)

فرأيت إنّا استعملنا - في الأثناء - العكس المستوي للقضية رقم «1» ؛ لانه لولاه لما - استطعنا أن نؤلف قياساً إلّا من الشكل الثالث الذي هو متأخر عن الثاني. وكذلك نستعمل هذا العكس في دليل الافتراض على الضرب الثالث من الثاني.

وعلى الطالب أن يستعمل دليل الإفتراض في غير ما ذكرنا من الضروب التي تكون

إحدى مقدماتها جزئية، لزيادة التمرين .

الرد

3 - ومن البراهين على إنتاج الأشكال عدا الأوّل ، الرد، وهو تحويل الشكل إلى الشكل الأوّل، أما بتبديل المقدمتين في الشكل الرابع، وأمّا بتحويل احدى المقدمتين إلى عكسها المستوي ؛ ففي الشكل الثاني تعكس الكبرى في بعض ضروبه القابلة للعكس ، وفي الثالث تعكس الصغرى في بعض ضروبه القابلة للعكس ، كما سبق ... وفي بعض ضروبهما قد نحتاج إلى استعمال نقض المحمول أو عكس النقيض إذا لم نتمكن من العكس المستوي، حتى نتوصل إلى الشكل الأوّل المنتج نفس النتيجة المطلوبة.

وعلى الطالب أن يطبق ذلك بدقة على جميع ضروب الشكلين لغرض التمرين.

الشكل الرابع

وهو كان الأوسط فيه موضوعاً في الصغرى محمولاً في الكبرى عكس الأوّل ؛ فيكون وضع الأصغر والأكبر في النتيجة يخالف وضعهما في المقدمتين. ومن هنا كان هذا الشكل أبعد الجميع عن مقتضى الطبع غامض الانتاج عن الذهن . ولذا تركه جماعة من علماء المنطق في مؤلفاتهم واكتفوا بالثلاثة الاولى.

ص: 231

شروطه

يشترط في انتاج هذا الشكل الشروط الثلاثة العامة في كلّ شكل التي تقدم ذكرها

في القواعد العامة .

وهي : الا يتألف من سالبتين ، ولا من جزئيتين ، ولا من سالبة صغرى وجزئية كبرى .

ويشترط أيضاً فيه شرطان خاصان به :

1 - ألا تكون احدى مقدماته سالبة جزئية .

- كلية الصغرى إذا كانت المقدمتان موجبتين ؛ فلو أن الصغرى كان موجبة جزئية

لما جاز أن تكون الكبرى موجبة ، بل يجب أن تكون سالبة كلية .

ضروبه

بحسب الشروط الخمسة تكون الضروب المنتجة منه خمسة فقط لانه بالشرط الأوّل تسقط أربعة حاصل ضرب السالبتين في السالبتين. وبالثاني تسقط ثلاثة : الجزئيتان سواء كانتا موجبتين أو مختلفتين بالايجاب والسلب . وبالثالث يسقط واحد : السالبة الكلية مع الموجبة الجزئية وبالرابع ضربان: السالبة الجزئية صغرى أو كبرى مع الموجبة الكلية. وبالخامس ضرب واحد الموجبة الجزئية الصغرى مع الموجبة الكلية الكبرى.

فالباقي خمسة ضروب نقيم عليها البرهان :

الضرب الأوّل من موجبتين كليتين ، ينتج موجبة جزئية .

مثاله : كل إنسان حيوان

وكل ناطق إنسان

.. بعض الحيوان ناطق

ويبرهن عليه بالرد بتبديل المقدمتين احداهما في مكان الاخرى، فيرتد إلى الشكل الأول، ثم نعكس النتيجة ليحصل المطلوب، فيقال :

ص: 232

المفروض : كل م ب وكل ح- م

: ع ب ح-

:البرهان بالرد بتبديل المقدمتين فيحدث :

كل ح- م كل م ب (الأوّل من الأوّل)

ع ب ح

وينعكس الى ع ب ح- (وهو المطلوب)

وانما لا ينتج هذا الضرب كلية لجواز أن يكون الأصغر أعم من الأكبر ، كالمثال .

الثاني: من موجبة كلية وموجبة جزئية ، ينتج موجبة جزئية .

مثاله : كل إنسان حيوان

وبعض الولود إنسان

.. بعض الحيوان ولود

ويبرهن عليه بالرد بتبديل المقدمتين ثم بعكس النتيجة، ولا ينتج كليا لجواز عموم الأصغر.

الثالث: من سالبة كلية وموجبة كلية ، ينتج سالبة كلية .

مثاله لا شيء من الممكن بدائم

وكل محل للحوادث ممكن

... لا شيء من الدائم بمحل للحوادث

ويبرهن عليه أيضاً بالرد بتبديل المقدمتين، ثم بعكس النتيجة .

الرابع من موجبة كلية وسالبة كلية ، ينتج سالبة جزئية .

مثاله : كل سائل يتبخر

ولا شيء من الحديد بسائل

. بعض ما يتبخر ليس بحديد

ولا يمكن البرهان عليه بالرد بتبديل المقدمتين، لأن الشكل الأوّل لا ينتج من

ص: 233

صغرى سالبة . ولكن يبرهن بعكس المقدمتين، وتأليف قياس الشكل الأوّل من العكسين ،

لينتج المطلوب، فيقال :

المفروض : كل م ب ولا ح- م

المدعى س ب ح-

:البرهان: نعكس المقدمتين الى :

ع ب م ل ام ح- (رابع الأول)

.. س ب ح- (وهو المطلوب)

الخامس من موجبة جزئية وسالبة كلية ، ينتج سالبة جزئية .

مثاله : بعض السائل يتبخر

لا شيء من الحديد بسائل

.. بعض ما يتبخر ليس بحديد

وهذا أيضاً لا يبرهن عليه بتبديل المقدمتين لعين السبب ؛ ويمكن أن يبرهن عليه

بعكس المقدمتين كالسابق ، بلا فرق .

ص: 234

تمرينات

1 - برهن على الضرب الثاني ثم الخامس من الشكل الرابع بدليل الافتراض.

2 - برهن على الضرب الثالث ثم الرابع من الشكل الرابع به دليل الخلف .

3 - برهن على الضرب الرابع من الشكل الثاني بطريقة الرد ، ولكن بأخذ منقوضة محمول كلّ من المقدمتين ثم أخذ العكس المستوي لمنقوضة الكبرى، لينتج المطلوب.

4- برهن على الضرب الخامس من الشكل الثالث بطريقة الرد . ولكن بأخذ منقوضة محمول كلّ من المقدمتين ثم أخذ العكس المستوي لمنقوضة الكبرى لتأليف قياس من الشكل الأوّل ، ثم عكس نتيجة هذا القياس لعكس النقيض الموافق، ليحصل المطلوب.

5 - برهن على الضرب الأوّل ثم الثانى من الشكل الثاني بطريقة الرد ولكن بأخذ منقوضة محمول كلّ من المقدمتين ؛ وعليك الباقي من البرهان فانك ستحتاج إلى استخدام العكس المستوي في كلّ من الضربين لتصل إلى المطلوب، ويتبع ذلك حسن التفاتك ومهارتك في موقع استعماله .

6 - جرب أن تبرهن على الضرب الثالث من الشكل الثاني بطريقة الرد بأخذ منقوضة المحمول لكلّ من المقدمتين . وإذا لم تتمكن من الوصول إلى النتيجة فبين السر في

ذلك .

7 - برهن على ضربين من ضروب الثالث بطريقة الخلف واختر منها ما شئت

(يحسن بالطالب أن يضع بين يديه أمثلة واقعية للضروب التي يبرهن عليها في جميع

هذه التمرينات ، ليتضح له الأمر بالمثال أكثر).

ص: 235

الاقتراني الشرطي

تعريفه وحدوده

تقدم معنى القياس الاقتراني الحملي وحدوده ولا يختلف عنه الاقتراني الشرطي الا من جهة اشتماله على القضية الشرطية : أما بكلا مقدمتيه أو مقدمة واحدة ؛ فلذلك تكون حدوده نفس حدود الحملي من جهة اشتماله على الأوسط والأصغر والأكبر ؛ غاية الأمر ان الحدّ قد يكون المقدم أو التالي من الشرطية ، كما انه قد يكون الأوسط خاصة جزءاً من المقدم أو التالي وسيجيء.

فاذن يصح أن نعرفه بأنه : «الاقتراني الذي كان بعض مقدماته أو كلّها من القضايا الشرطية».

أقسامه

للاقترانی الشرطی تقسیمان:

1 - تقسيمه من جهة مقدماته: فقد يتألف من متصلتين، أو منفصلتين ، أو مختلفتين . بالاتصال والانفصال، أو من حملية ومتصلة ، أو من حملية ومنفصلة . فهذه أقسام خمسة . 2 - تقسيمه باعتبار الحدّ الأوسط جزءاً تاماً أو غير تام فانّه لما كانت الشرطية مؤلّفة تاليفاً ثانياً ، أى انها مؤلفة من قضيتين بالأصل، وكل منهما مؤلفة من طرفين، فالاشتراك بين قضيتين شرطيتين تارة في جزء تام أي في جميع المقدم أو التالي في كل

ص: 236

منهما، وأخرى في جزء غير تام أي في بعض المقدم أو التالي في كلّ منهما، وثالثة في جزء تام من مقدّمة وجزء غير تام من أخرى ؛ فهذه ثلاثة أقسام :

الأوّل ما اشتركت فيه المقدمتان في جزء تام منهما ، نحو:

كلما كان الإنسان عاقلاً قنع بما يكفيه .

وكلما قنع بما يكفيه استغني .

كلما كان الإنسان عاقلاً استغني .

الثاني: ما اشتركت فيه المقدمتان في جزء غير تام منهما ، نحو :

إذا كان القرآن معجزة، فالقرآن خالد.

وإذا كان الخلود معناه البقاء فالخالد لا يتبدل.

. إذا كان القرآن معجزة ، فإذا كان الخلود معناه البقاء، فالقرآن لا يتبدل .

فلاحظ بدقة ان التالي من الصغرى : فالقرآن خالد، والتالي من الكبرى : فالخالد لايتبدل، يتألف منهما قياس اقتراني حملي من الشكل الأوّل ، ينتج : القرآن لا يتبدل.

فنجعل هذه النتيجة تالياً لشرطية مقدمها مقدم الكبرى ؛ ثم نجعل هذه الشرطية تالياً

لشرطية مقدمها مقدم الصغرى. وتكون هذه الشرطية الأخيرة هي النتيجة المطلوبة. وهذه هي طريقة أخذ النتيجة من هذا القسم إذا تالف من متصلتين . ونحن نكتفي بهذا المقدار من بيان هذا القسم . ولا نذكر أقسامه ولا شروطه لطول الكلام عليها لمخالفته

للطبع الجاري.

الثالث ما اشتركت فيه المقدمتان فى جزء تام من احداهما غير تام من الاخرى وانما نتصور هذا القسم في المؤلف من الحملية والشرطية وسيأتي شرحه وشرح شروطه .

أما فى الشرطيات المحضة فلابد أن نفرض احدى الشرطيتين بسيطة والأخرى مركبة من حملية وشرطية بالاصل، ليكون الحد المشترك جزءاً تاماً من الاولى وغير تام من الثانية ،

نحو :

إذا كانت النبوة من الله فإذا كان محمد نبياً فلا يترك أمته سدى.

ص: 237

وإذا لم يترك امته سدى وجب أن ينصب هادياً.

... إذا كانت النبوة من الله فإذا كان محمد نبيا وجب أن ينصب هادياً.

فلاحظ ان تالي الصغرى مع الكبرى يتألف منهما قياس شرطي من القسم الأوّل، وهو ما اشتركت فيه المقدمتان بجزء تام ، فينتج على نحو الشكل الأول : إذا كان محمد مد نبياً وجب أن ينصب هادياً، ثم نجعل هذه النتيجة تالياً لشرطية مقدمها مقدم الصغرى، فتكون هذه الشرطية الجديدة هي النتيجة المطلوبة.

وهذه هي طريقة أخذ النتيجة من هذا القسم الثالث إذا تألف من متصلتين. ونكتفي بهذا البيان عن هذا القسم في الشرطيات المحضة للسبب المتقدم في القسم الثاني.

*

يبقى الكلام عن القسم الأوّل وهو ما اشتركت فيه المقدمتان بجزء تام منهما ؛ وعن القسم الثالث في المؤلف من حملية وشرطية . ولما كانت هذه الأقسام موافقة للطبع الجاري، فنحن نتوسع في البحث عنها إلى حد ما، فنقول : ينقسم كما تقدم - الاقتراني الشرطي إلى خمسة أقسام من جهة كون المقدمتين من المتصلات أو المنفصلات أو المختلفات، فنجعل البحث متسلسلاً حسب هذه الأقسام :

1 - المؤلف من المتصلات

هذا النوع - إذا اشتركت مقدمتاه بجزء تام منهما يلحق بالاقتراني الحملي حذو القذة بالقذة من جهة تأليفه للاشكال الأربعة ، ومن جهة شروطها في الكم والكيف، وم---ن جهة النتائج وبيانها بالعكس والخلف والاقتراض .

فلا حاجة إلى التفصيل والتكرار وأنّما على الطالب أن يغير الحملية بالشرطية المتصلة . نعم يشترط أن يتألف من لزوميتين . وهذا شرط عام لجميع أقسام الاقترانات الشرطية المتصلة ؛ لأن الاتفاقيات لا حكم لها في الانتاج، نظراً إلى أن العلاقة بين حدودها لیست ذاتية ، وانّما يتألف منها صورة قياس غير حقيقي.

ص: 238

2 - المؤلف من المنفصلات

تمهيد

المنفصلة انما تدل على العناد بين طرفيها في الصدق والكذب، فإذا اقترنت بمنفصلة أخرى تشترك معهما في جزء تام أو غير تام، فقد لا يظهر الارتباط بين الطرفين على وجه نستطيع أن نحصل على نتيجة ثابتة ، لان عناد شيء لأمرين لا يستلزم العناد

من بينهما أنفسهما ولا يستلزم عدمه. وهذا نظير ما قلناه في السالبتين في القاعدة الثانية مو القواعد العامة من أن مباينة شيء لأمرين لا يستلزم تباينهما ولا عدمه، فاذن لا انتاج بين منفصلتين، فلا قياس مؤلفة من المنفصلات .

وهذا صحيح إلى حد ما إذا أردنا أن نجمد على المنفصلتين على حالهما، ولك--ن المنفصلة تستلزم متصلة ، فيمكن تحويلها اليها ، فإذا حولنا المنفصلتين معاً تألف القياس من متصلتين ينتج متصلة . وإذا أردنا أن نصر على جعل النتيجة منفصلة، فإن المتصلة أيضاً يمكن تحويلها إلى منفصلة لازمة لها، فنحصل على نتيجة منفصلة كما نريد و وعليه لا بد لنا أوّلاً من معرفة تحويل المنفصلة إلى متصلة لازمة لها وبالعكس، قبل البحث عن هذا النوع من القياس ، فنقول :

تحويل المنفصلة الموجبة إلى متصلة

قد بينا في محله أن أقسام المنفصلة ثلاثة :

1 - الحقيقية: وهي تستلزم أربع متصلات موافقة لها في الكم والكيف فيجوز تحويلها إلى كلّ واحد منها ، فمنها متصلتان مقدم كلّ واحدة منهما عين أحد الطرفين والتالي نقيض الآخر . لأن الحقيقة لما دلت على استحالة الجمع بين طرفيها ، فإذا تحقق احدهما فإنّه يستلزم انتفاء الآخر . ومنها متصلتان مقدم كلّ واحدة منهما نقيض احد الطرفين والتالي عين الآخر ، لأن الحقيقية أيضاً تدل على استحالة الخلو من طرفيها ، فإذا ارتفع احدهما فهو يستلزم تحقق الآخر ، فإذا صدق قولنا :

ص: 239

العدد اما زوج أو فرد (قضية حقيقية)

صدقت المتصلات الأربع :

1 - إذا كان العدد زوجا فهو ليس بفرد.

2 - إذا كان العدد فردا فهو ليس بزوج .

3- إذا لم يكن العدد زوجا فهو فرد.

4 - إذا لم يكن العدد فردا فهو زوج .

2 - مانعة الجمع: وهى تستلزم المتصلتين الأوليتين اللتين مقدم كلّ واحدة منهما عين أحد الطرفين والتالي نقيض الآخر، لأنها كالحقيقية في دلالتها على استحالة الجمع

ولا تدل على استحالة الخلو ، فإذا صدق :

الشيء أما شجر أو حجر (مانع جمع)

صدقت المتصلتان :

1 - إذا كان الشيء شجراً فهو ليس بحجر.

2 - إذا كان الشيء حجراً فهو ليس بشجر .

ولا تصدق المتصلتان :

إذا لم يكن الشيء شجراً فهو حجر .

4 - إذا لم يكن الشيء حجرا فهو شجر.

3 - مانعة الخلو: وهي تستلزم المتصلتين الاخيرتين فقط اللتين مقدم كلّ واحدة منهما نقيض أحد الطرفين والتالي عين الآخر، كالحقيقية في دلالتها على استحالة الخلو،

ولا تدل على استحالة الجمع، فإذا صدق :

زيد اما في الماء أو لا يغرق (مانعة خلو)

صدقت المتصلتان :

ص: 240

3- إذا لم يكن زيد في الماء فهو لا يغرق

4 - إذا غرق زيد فهو في الماء.

ولا تصدق المتصلتان الأوليان :

1 - إذا كان زيد في الماء فهو يغرق .

2- إذا غرق زيد فهو ليس فى الماء.

تحويل المنفصلة السالبة إلى متصلة

أمّا المنفصلة السالبة كلية أو جزئية فانها تحول إلى متصلة سالبة جزئية : الحقيقية إلى أربع على نحو الموجبة، وكل من مانعتي الجمع والخلو إلى اثنتين على نحو الموجبة

أيضاً، فإذا قلنا على نحو الحقيقية :

ليس البتة اما أن يكون الاسم معربا أو مرفوعاً.

فإنّه تصدق المتصلات الأربع الآتية:

1 - قد لا يكون إذا كان الاسم معرباً فهو ليس بمرفوع.

2 - قد لا يكون إذا كان الاسم مرفوعاً فهو ليس بمعرب .

3- قد لا يكون إذا لم يكن الاسم معرباً فهو مرفوع.

4 - قد لا يكون إذا لم يكن الاسم مرفوعاً فهو معرب .

ولا تصدق بعض هذه المتصلات كلياً في هذا المثال؛ فلو جعلنا المتصلة رقم (1)

مثلاً كلية هكذا :

ليس البتة إذا كان الاسم معرباً فهو ليس بمرفوع.

فانها كاذبة، لصدق نقيضها وهو:

قد يكون إذا كان الاسم معرباً فهو ليس بمرفوع

وهكذا تحول مانعة الجمع والخلو السالبتان . وعلى الطالب أن يضع أمثلة لهما.

ص: 241

تحويل المتصلة إلى منفصلة

والمتصلة اللزومية الموجبة تستلزم مانعة الجمع ومانعة الخلو المتفقتين معها في

الكم والكيف ، فيجوز تحويلها اليهما .

الاولى : مانعة الجمع تتألف من عين المقدم ونقيض التالي لأن المقدم لما كان يستلزم التالي فهو لا يجتمع مع نقيضه قطعاً، والا لاجتمع النقيضان أي التالي ونقيضه ؛ فإذا

صدق:

كلما غرق زيد فهو في الماء.

صدقت :

دائماً اما زيد قد غرق أو ليس في الماء (مانعة (جمع)

الثانية : مانعة الخلو تتألف من نقيض المقدم وعين التالي، بعكس الاولى ، لأن المقدم لما كان لا يجتمع مع نقيض التالي فلا يخلو الامر من نقيض المقدم وعين التالي، والا لو خلا منهما بان يرتفعا معا وارتفاع نقيض المقدم بالمقدم وارتفاع التالي بنقيضه فمعناه أنّه جاز اجتماع المقدم ونقيض التالي وهذا خلف . ففي المثال المتقدم لا بد أن تصدق :

دائماً أما زيد لم يغرق أو في الماء (مانعة خلو )

والسالبة تحمل على الموجبة في تحويلها إلى مانعة الجمع ومانعة الخلو المتفقتين معها في الكم والكيف.

التأليف من المنفصلات وشروطه

بعد هذا التمهيد المتقدم نشرع في موضوع البحث، فنقول : لما كان المقدم والتالي فی المنفصلة لا امتياز بينهما، فكذلك لا يكون بين المنفصلتين المولفتين امتياز بالطبع،

فايهما جعلتها الصغرى صح لك ؛ فلا تتألف من هذا النوع الأشكال الأربعة .

ولكن لما كانت المنفصلتان يحولان إلى متصلتين، فنيبغي أن تراعى صورة التأليف

ص: 242

بين المتصلتين، وعلى أي شكل تكون الصورة؛ ولابد من مراعاة شروط ذلك الشكل الحادث ؛ ولذا قد يضطر إلى جعل احدى المقدمتين بالخصوص صغرى، ليأتلف شكل

متوفرة فيه الشروط .

أما شروط هذا النوع فللمنطقيين فيها كلام واختلاف كثير . والظاهر أن الاختلاف ناشيء من عدم مراعاة وجوب تحويل المنفصلة إلى متصلة، فيلاحظ أخذ النتيجة من المنفصلتين رأساً ؛ فذكر بعضهم أو أكثرهم أن من جملة الشروط ايجاب المقدمتين معاً وألا يكونا مانعتي جمع ولا حقيقيتين. ولكن لو حولنا المنفصلتين إلى متصلتين فإنّا نجدهما ينتجان ولو كانت احداهما سالبة أو كلاهما مانعتى جمع أو حقيقيتين . غير انه يجب أن تؤلف المتصلتان على صورة قياس من أحد الأشكال الأربعة حاويا على شروط ذلك القياس - كما قدمنا - فمثلاً لو كانت المقدمتان مانعتي جمع وجب تحويلهما إلى متصلتين يؤلفان قياسا من الشكل الثالث كما سيأتي مثاله . أما لو تالفا على غير هذا الشكل فانهما لا ينتجان ، لعدم توفر شروط ذلك الشكل .

وعليه فنستطيع أن نقول : لهذا النوع شرط واحد عام ، وهو أن يصح تحويل المنفصلتين إلى متصلتين يؤلفان قياسا من أحد الأشكال الأربعة حاويا على شروط ذلك الشكل . وعلى الطالب أن يبذل جهده لاستخراج جميع المتصلات اللازمة للمقدمتين ، ثم يقارن بعضها ببعض ليحصل على صورة القياس المنتج لمطلوبه .

طريقة أخذ النتيجة

مما تقدم كله نعرف الطريقة التى يلزم اتباعها لاستخراج النتيجة في هذا النوع. ونحن حسب الفرض انّما نبحث عن خصوص القسم الأوّل منه ، وهو ما اشتركت فيه المقدمتان بجزء تام منهما . فعلينا أن نتبع ما يأتي .

1 - نحول كلا من المنفصلتين إلى جميع المتصلات التي يمكن أن تحول اليها. وقد

تقدم أن الحقيقية تحول إلى أربع متصلات وكلا من مانعتي الجمع والخلو إلى اثنتين.

ص: 243

2 - نقارن بين المتصلات المحولة من احدى المقدمتين وبين المتصلات المحولة من الاخرى، فنختار الصورة التي يتكرر فيها حد أوسط وتكون على شكل تتوفر فيه شروطه وعلى الأكثر تكون الصورة المنتجة أكثر من واحدة ويكفينا أن نختار واحدة منها تنتج

المطلوب.

3- نأخذ النتيجة متصلة ونحولها - إذا شئناً - إلى منفصلة لازمة لها أما مانعة جمع أو مانعة خلو .

فمثلاً لو كان القياس مؤلفا من حقيقيتين، نحول الاولى إلى أربع متصلات والثانية إلى أربع أيضاً، فيحدث من مقارنة الأربع بالأربع ست عشرة صورة. وعند فحصها نجد ثماني منها لا يتكرر فيها حد أوسط فلا يتألف منها قياس، والثماني الباقية ينتج بعضها الملازمة بين عيني الطرفين في الحقيقيتين، وبعضها الآخر الملازمة بين نقيضيهما ، وذلك بمختلف الأشكال، وينبغي أن يختار الطالب منها ما هو أمس بمطلوبه.

ولأجل التمرين نختبر بعض الأمثلة :

لو أن حاكما جيء له بمتهم في قتل، وعلى ثوبه بقعة حمراء ، ادعى المتهم انها حبر ، فأول شيء يصنعه الحاكم لأجل التوصل إلى ابطال دعوى المتهم أو تأييده، أن يقول :

هذه البقعة أما دم أو حبر ( مانعة جمع)

وهي أمّا دم أو لا تزول بالغسل (مانعة خلو)

فتحول مانعة الجمع إلى المتصلتين :

1 - كلما كانت البقعة دماً فهي ليست بحبر .

2 - كلما كانت حبرا فهى ليست بدم .

وتحول مانعة الخلو إلى المتصلتين :

3- كلما لم تكن البقعة دماً فلا تزول بالغسل.

4- كلما زالت البقعة بالغسل فهي دم.

ص: 244

وبمقارنة المتصلتين رقم 1 و 2 بالمتصلتين رقم 3 و 4 تحدث أربع صور : اثنتان منها

لا يتكرر فيها حد أوسط ، وهما المولفتان من رقم 1، 3 ومن رقم 2، 4 .

أما المؤلفة من رقم 1، 4 فهى من الشكل الأوّل إذا جعلنا رقم 4 صغرى، فينتج ما

يأتي : كلّما كانت البقعة تزول بالغسل فليست بحبر . ويمكن تحويل هذه النتيجة المتصلة إلى المنفصلتين :

أما أن تزول البقعة بالغسل وأما أن تكون حبراً. (مانعة جمع)

وأما ألا تزول بالغسل أو ليست بحبر . ( مانعة خلو)

وأما المؤلّفة من رقم 2 ، 3 فهي من الشكل الأوّل أيضاً ينتج ما يلي:

كلما كانت البقعة حبراً فلا تزول بالغسل .

ويمكن تحويل هذه النتيجة إلى المنفصلتين :

أمّا أن تكون البقعة حبراً وأما أن تزول بالغسل. ( مانعة جمع)

واما ألا تكون حبراً أو لا تزول بالغسل ( مانعة خلو)

ولاحظ ان هاتين المنفصلتين عين المنفصلتين للنتيجة الاولى . وليس الفرق الا بتبديل الطرفين التالي والمقدم. وليس هذا ما يوجب الفرق في المنفصلة إذ لا تقدم طبعي بين جزايها كما تقدم مراراً.

3 - المؤلف من المتصلة والمنفصلة

اشارة

أصنافه

وهذا النوع أيضاً ينقسم إلى الأقسام الثلاثة ؛ ونحن حسب الفرض انما نبحث ع--ن

القسم الأوّل منه وهو المشترك في جزء تام من المقدمتين.

وأصناف هذا القسم أربعة ، لأن المتصلة أما صغرى أو كبرى، وعلى التقديرين أما أن يكون الحد المشترك مقدمها أو تاليها ؛ فهذه أربعة . أما المنفصلة فلا فرق فيها بين أن يكون الحدّ المشترك مقدمها أو تاليها ، إذ لا امتياز وبالطبع بين جزيها .

ص: 245

شروطه وطريقة أخذ النتيجة

لا يلتئم الإنتاج من المتصلة والمنفصلة الا برد المنفصلة إلى متصلة . فيتألف القياس حينئذٍ من متصلتين . فيرجع إلى النوع الأول وهو المؤلف من متصلتين في شروطه وانتاجه ؛ فإن أمكن بارجاع المنفصلة إلى المتصلة تأليف قياس منتج من أحد الأشكال الأربعة حاويا على الشروط ، فذاك ، والا كان عقيماً.

وبعضهم اشترط فيه ألا تكون المنفصلة سالبة ؛ وهذا الشرط صحيح إلى حد ما، لأن المنفصلة السالبة انّما تحول إلى متصلة سالبة جزئية والسالبة الجزئية ليس لها موقع في الانتاج في جميع الأشكال الا فى الضرب الخامس من الشكل الثالث المؤلف من موجبة كلية وسالبة جزئية والضرب الرابع من الشكل الثاني المؤلف من سالبة جزئية وموجبة

كلية . وهذان الضربان نادران.

وعليه فالمنفصلة السالبة إذا أمكن - بتحويلها إلى متصلة سالبة جزئية - أن تؤلف مع المتصلة المذكورة في الأصل أحد الضربين المذكورين، فإن القياس يكون منتجا، فليس هذا الشرط صحيحاً على اطلاقه . مثلاً إذا قلنا :

ليس البتة أما أن يكون هذا إنساناً أو فرساً (مانعة خلو)

وكلما كان هذا إنسانا كان حيوانا

فانّهما لا ينتجان، لانه إذا حولنا المنفصلة إلى متصلة، لا تؤلف مع المتصلة المفروضة شكلا منتجا ، إذ أن هذه المنفصلة مانعة الخلو تحول إلى المتصلتين :

1 - قد لا يكون إذا لم يكن هذا انسانا فهو فرس.

2 - قد لا يكون إذا لم يكن هذا فرسا فهو إنسان .

فلو قرنا المتصلة رقم «1» بالمتصلة الأصلية لا يتكرر فيهما حد أوسط ؛ ولو قرنا المتصلة رقم «2» بالأصلية كان من الشكل الأوّل أو الرابع ، ولا تنتج السالبة الجزئية فيهما .

ولو أردنا أن نبدل من المتصلة الاصلية قولنا :

كلما كان هذا ناطقاً كان انساناً.

ص: 246

أنّها تؤلف مع المتّصلة رقم «2» الضرب الرابع من الشكل الثاني ؛ فينتج : قد لا يكون إذا لم يكن هذا فرسا فهو ناطق .

4 - المؤلف من الحملية والمتصلة

اشارة

أصنافه

يجب في هذا النوع أن يكون الاشتراك في جزء تام من الحملية غير تام من المتصلة كما تقدمت الاشارة إليه ؛ فله قسم واحد، لأن جزء الحملية مفرد، وجزء الشرطية قضية بالاصل ؛ فلا يصح فرض أن يكون الجزء المشترك تاماً فيهما ولا غير تام فيهما . وهذا

واضح.

وهذا النوع أربعة أصناف، لأن المتصلة أمّا صغرى أو كبرى، وعلى التقديرين فالشركة أما في مقدم المتصلة أو في تاليها ، فهذه أربعة . والقريب منها إلى الطبع صنفان .

وهما ما كانت الشركة فيهما فى تالى المتصلة ، سواء كانت صغرى أو كبرى .

طريقة أخذ النتيجة

ولأخد النتيجة في جميع هذه الأصناف الأربعة تتبع ما يلي :

1 - أن نقارن الحملية مع طرف المتصلة التي وقعت فيه الشركة، فنؤلف منهما قياساً

حملياً من أحد الأشكال الأربعة حاوياً على شروط الشكل، لينتج قضية حملية.

2 - نأخذ نتيجة التأليف السابق وهى الحملية الناتجة ، فنجعلها مع طرف المتصلة الآخر الخالى من الاشتراك ، لنؤلف منهما النتيجة متصلة أحد طرفيها نفس طرف المتصلة الخالي من الاشتراك سواء كان مقدماً أو تالياً، فيجعل أيضاً مقدماً أو تالياً، والطرف الثاني

الحملية الناتجة من التأليف السابق .

مثاله :

كلما كان المعدن ذهباً ، كان نادراً.

ص: 247

كل نادر ثمین.

.. كلما كان المعدن ذهباً ، كان ثميناً.

فقد ألفنا قياساً حملياً من تالي المتصلة ونفس الحملية أنتج من الشكل الأوّل: كان

المعدن ثميناً. ثم جعلنا هذه النتيجة تالياً للنتيجة المتصلة مقدمها مقدم المتصلة الاولى وهو طرفها الذي لم تقع فيه الشركة.

مثال ثان :

لا أحد من الاحرار بذليل.

وكلّما كانت الحكومة ظالمة ، فكل موجود في البلد ذليل.

وكلما كانت الحكومة ظالمة ، فلا أحد من الأحرار بموجود في البلد.

فقد ألفنا قياساً حملياً من الحملية وتألى المتصلة أنتج من الشكل الثاني : لا أحد من

الأحرار بموجود في البلد. ثم جعلنا هذه النتيجة تالياً لمتصلة مقدمها مقدم المتصلة في الأصل، وهو طرفها الذي لم تقع فيه الشركة.

الشروط

أما شروط انتاج هذه الأصناف الأربعة ، فلا نذكر منها الا شروط القريب إلى الطبع منها ، وهما الصنفان اللذان تقع الشركة فيهما في تالي المتصلة ، سواء كانت صغرى أو كبرى، كما مثلنا لها . وشرطهما :

أولاً: أن يتألف من الحملية وتالى المتصلة شكل يشتمل على شروطه المذكورة في القياس الحملي .

ثانياً: أن تكون المتصلة موجبة ؛ فلو كانت سالبة ، فيجب أن تحول إلى موجبة لازمة لها بنقض محمولها ، أي تحول إلى منقوضة المحمول. وحينئذ يتألف القياس الحملي من الحملية في الأصل ونقيض تالي المتصلة ، مشتملاً على شروط الشكل الذي يكون منه

مثاله :

ص: 248

ليس البتة إذا كانت الدولة جائرة، فبعض الناس أحرار.

وكل سعيد حر

فإن المتصلة السالبة الكلية ، تحول إلى منقوضة محمولها موجبة كلية ، هكذا :

كلّما كانت الدولة جائرة فلا شيء من الناس بأحرار.

وبضمها إلى الحملية ينتج من الشكل الثاني، على نحو ما تقدم في أخذ النتيجة ، هكذا :

كلّما كانت الدولة جائرة ، فلا شيء من الناس بسعداء.

تنبيه: لهذا النوع - وهو المؤلف من الحملية والمتصلة - أهمية كبيرة في الاستدلال لا سيما أن قياس الخلف ينحل إلى أحد صنفيه المطبوعين. وليكن هذا على بالك ؛ فإنّه

سيأتي كيف ينحل قياس الخلف إليه.

5 - المؤلف من الحملية والمنفصلة

اشارة

وهذا النوع كسابقه يجب أن يكون الاشتراك فيه في جزء تام من الحملية غير تام من

المنفصلة . وقد تقدم وجهه.

غير أن الشركة فيه للحملية قد تكون مع جميع أجزاء المنفصلة وهو القريب إلى. الطبع وقد تكون مع بعضها . وعلى التقديرين تقع الحملية أما صغرى أو كبرى ؛ فهذه أربعة

أصناف .

مثاله :

1 - الثلاثة عدد.

2 - العدد اما زوج أو فرد .

الثلاثة أما زوج أو فرد.

وهذا المثال من الصنف الأوّل المؤلف من حملية صغرى مع كون الشركة مع جميع

أجزاء المنفصلة، لأن المنفصلة في المثال بتقدير : دائماً أمّا العدد زوج وأمّا العدد فرد.

ص: 249

فكلمة العدد المشتركة بين المقدمتين موجودة في جزئي المنفصلة معاً.

أما أخذ النتيجة في المثال فقد رأيت انا اسقطنا الحدّ المشترك ، وهو كلمة عدد،

وأخذنا جزء الحملية الباقي مكانه في النتيجة التي هي منفصلة أيضاً وهو على منهاج

الشكل الأوّل في الحملي .

وهكذا نصنع في أخذ نتائج هذا النوع ونكتفي بهذا المقدار من البيان عن هذا النوع.

خاتمة

قد أطلنا في بحث الاقترانات الشرطية على خلاف المعهود في كتب المنطق المعتاد تدريسها ، نظراً إلى كثرة فائدتها والحاجة اليها ؛ فإن أكثر البراهين العلمية تبتني على الاقترانات الشرطية؛ وان كنا تركنا كثيراً من الأبحاث التي لا يسعها هذا المختصر ، واقتصرنا على أهم الأقسام التي هي أشد علوقاً بالطبع.

ص: 250

القياس الاستثنائي

تعريفه وتأليفه

تقدم ذكر هذا القياس وتعريفه ؛ وهو من الأقيسة الكاملة ؛ أي التي لا يتوقف الانتاج

فيها على مقدمة أخرى ، كقياس المساواة ونحوه على ما سيأتي في التوابع .

ولما تقدم ان الاستثنائي يذكر فيه بالفعل أما عين النتيجة أو نقيضها، فهنا نقول : يستحيل أن تكون النتيجة مذكورة بعينها أو بنقيضها على أنها مقدمة مستقلة مسلم بصدقها ؛ لأنه حينئذ يكون الانتاج مصادرة على المطلوب. فمعنى أنها مذكورة بعينها أو بنقيضها انها مذكورة على أنها جزء من مقدمة .

ولما كانت هي بنفسها قضية ومع ذلك تكون جزء قضية ، فلا بد أن يفرض أن المقدمة

المذكورة فيها قضية شرطية لانها تتألف من قضيتين بالاصل . فيجب أن تكون- على هذااحدى مقدمتي هذا القياس شرطية . أما المقدمة الاخرى فهى الاستثنائية أي المشتملة على أداة الاستثناء التي من أجلها سمّي القياس استثنائياً.

والاستئثنائية يستثنى فيها أحد طرفي الشرطية أو نقيضه لينتج الطرف الآخر أو نقيضه على ما سيأتي تفصيله .

تقسیمه

وهذه الشرطية قد تكون متصلة وقد تكون منفصلة ، وبحسبها ينقسم هذا القياس إلى

الاتصالي والانفصالي.

ص: 251

شروطه

ويشترط في هذا القياس ثلاثة أمور :

1 - كلية احدى المقدمتين ، فلا ينتج من جزئيتين.

2 - ألا تكون الشرطية اتفاقية .

3 - ايجاب الشرطية . ومعنى هذا الشرط في المتصلة خاصة أن السالبة تحول إلى موجبة لازمة لها، فتوضع مكانها.

ولكل من القسمين المتقدمين حكم في الانتاج ، ونحن نذكرهما بالتفصيل :

حكم الاتصالي

لأخذ النتيجة من الاستثنائي الاتصالي طريقتان :

1 - استثناء عين المقدم لينتج عين التالي . لأنه إذا تحقق الملزوم تحقق اللازم قطعاً،

سواء أكان اللازم أعم أم مساوياً. ولكن لو استثنى عين التالي فإنّه لا يجب أن ينتج عين

المقدم ، لجواز أن يكون اللازم أعم. وثبوت الأعم لا يلزم منه ثبوت الأخص.

مثاله :

كلما كان الماء جارياً كان معتصماً . لكن هذا الماء جار .. فهو معتصم .

قلو قلنا : لكنه معتصم، فإنّه لا ينتج فهو جار، لجواز أن يكون معتصماً وهو راكد كثير.

2 - استثناء نقيض التالي لينتج نقيض المقدم لأنه إذا انتفى اللازم انتفى الملزوم قطعاً، حتى لو كان اللازم أعم، ولكن لو استثنى نقيض المقدم فإنه لا ينتج نقيض التالي لجواز أن يكون اللازم أعم وسلب الأخص لا يستلزم سلب الأعم ، لأن نقيض الأخص أعم

من نقيض الأعم.

مثاله :

ص: 252

كلما كان الماء جارياً كان معتصماً. لكن هذا الماء ليس بمعتصم .... فهو ليس بجار.

فلو قلنا : «لكنه ليس بجار» فإنّه لا ينتج ليس بمعتصم لجواز الا يكون جارياً، وهو معتصم لأنه كثير .

حكم الانفصالي

لأخذ النتيجة من الاستثنائي الانفصالي ثلاث طرق:

1 - إذا كانت الشرطية حقيقية، فإن استثناء عين أحد الطرفين ينتج نقيض الآخر، واستثناء نقيض أحدهما ينتج عين الآخر ؛ فإذا قلت :

العدد اما زوج أو فرد،

فإن الاستثناء يقع على أربع صور هكذا :

أ - لكن هذا العدد زوج ينتج فهو ليس بفرد

ب - لكن هذا العدد فرد ينتج فهو ليس بزوج

ج لكن هذا العدد ليس بزوج ينتج فهو فرد

د لكن هذا العدد ليس بفرد ينتج فهو زوج

وهو واضح لا عسر فيه . هذا إذا كانت المنفصلة ذات جزئين. وقد تكون ذات ثلاثةأجزاء فأكثر ، مثل : الكلمة اما اسم أو فعل أو حرف. فإذا استثنيت عين أحدها فقلت مثلاً: لكنها اسم فإنّه ينتج حمليات بعدد الأجزاء الباقية فتقول : «فهي ليست فعلاً، وليست

حرفا».

وإذا استثنيت نقيض أحدهما فقلت مثلاً: «لكنها ليست اسماً»، فإنّه ينتج منفصلة من أعيان الأجزاء الباقية، فتقول : (فهذه الكلمة أما فعل أو حرف» . وقد يجوز بعد هذا أن تعتبر هذه النتيجة مقدمة لقياس استثنائي آخر ، فتستثنى عين أحد اجزائها أو نقيضه، لينحصر في جزء معين .

وهكذا يمكن أن تستعمل هذه الطريقة لو كانت أجزاء المنفصلة أكثر من ثلاثة

ص: 253

فتستوفي الاستثناءات حتى يبقى قسم واحد ينحصر فيه الأمر. وقد تسمّى هذه الطريقة طريقة الدوران والترديد أو برهان السبر ،والتقسيم ، أو برهان الاستقصاء كما سبق أن برهنا به لبيان النسبة بين النقيضين في بحث النسب في الجزء الأوّل . وهذه الطريقة نافعة كثيراً فى المناظرة والجدل.

2 - إذا كانت الشرطية مانعة خلو ، فإن استثناء نقيض أحد الطرفين ينتج عين الآخر . ولا ينتج . ولا ينتج استثناء عين أحدهما نقيض الآخر ، لأن المفروض أنه لا مانع من الجمع بين العينين فلا يلزم من صدق أحدهما كذب الآخر .

3 - إذا كانت الشرطية مانعة جمع، فإن استثناء عين أحد الطرفين ينتج نقيض الآخر . ولا ينتج استثناء نقيض أحدهما عين الآخر، لأن المفروض أنه يجوز أن يخلو الواقع منهما ؛ فلا يلزم من كذب أحدهما صدق .الآخر . وهذا وما قبله واضح .

ص: 254

خاتمة في لواحق القياس

القياس المضمر أو الضمير

انا في أكثر كلامنا وكتاباتنا نستعمل الاقيسة وقد لا نشعر بها، ولكن على الغالب لا نلتزم بالصورة المنطقية للقياس . فقد نحذف احدى المقدمات أو النتيجة اعتماداً على وضوحها أو ذكاء المخاطب أو لغفلة ؛ كما انه قد نذكر النتيجة أولاً قبل المقدّمات أو نخالف الترتيب الطبيعي للمقدمات. ولذا يصعب علينا أحياناً أن نرد كلامنا إلى صورة قياس كاملة .

والقياس الذي تحذف منه النتيجة أو إحدى المقدّمات يسمّى القياس المضمر وما حذفت كبراه فقط يسمّى ضميراً كما إذا قلت : «هذا إنسان لانه ناطق». وأصله هذا :

هذا ناطق (صغری)

وكل ناطق إنسان (کبری)

.. فهذا إنسان (نتيجة)

فحذفت منه الكبرى وقدمت النتيجة .

وقد تقول : هذا إنسان لأن كل ناطق إنسان، فتحذف الصغرى مع تقديم النتيجة .

وقد تقول : هذا ناطق لان كل ناطق إنسان؛ فتكتفي بالمقدمتين عن ذكر النتيجة لأنها معلومة ، وقس على ذلك ما يمر عليك .

ص: 255

كسب المقدّمات بالتحليل

أظنّكم تتذكرون انا في أول الكتاب ذكرنا ان العقل تمر عليه خمسة أدوار لأجل أن يتوصل إلى المجهول. وقلنا ان الأدوار الثلاثة الأخيرة منها هي الفكر وقد طبقنا هذه الأدوار على كسب التعريف في آخر الجزء الأوّل . والآن حل الوقت الذي نطبق فيه هذه الأدوار على كسب المعلوم التصديقى بعدما تقدم من درس أنواع القياس.

فلنذكر تلك الأدوار الخمسة لنوضحها :

1 - مواجهة المشكل: ولا شك أن هذا الدور لازم لمن يفكر لكسب المقدمات لتحصيل أمر مجهول لأنه لو لم يكن عنده أمر مجهول مشكل قد التفت إليه وواجهه فوقع في حيرة من الجهل به لما فكر في الطريق إلى حله . ولذا يكون هذا الدور من مقدمات الفكر لا من الفكر نفسه .

2 - معرفة نوع المشكل والغرض من معرفة نوعه أن يعرف من جهة الهيئة أنه قضية حملية أو شرطية متصلة أو منفصلة موجبة أو سالبة معدولة أو محصلة موجهة أو غير موجهة ،وهكذا، ثم يعرفه من جهة المادة انه يناسب أي العلوم والمعارف أو أي القواعد والنظريات . ولا شك ان هذه المعرفة لازمة قبل الاشتغال بالتفكير وتحصيل المقدّمات والا لوقف في مكانه وارتطم بحر من المعلومات لا تزيده الا جهلاً فيتلبد ذهنه ولا يستطيع الانتقال إلى معلوماته فضلاً عن أن ينظمها ويحل بها المشكل . فلذا كان هذا الدور لابدّ منه للتفكير ؛ وهو من مقدماته لا منه نفسه .

3 - حركة العقل من المشكل إلى المعلومات وهذا أول أدوار الفكر وحركاته ، فإن الإنسان عندما يفرغ من مواجهة المشكل ومعرفة نوعه يفزع فكره إلى طريق حله فيرجع إلى المعلومات التى اختزنها عنده ليفتش عنها ليقتنص منها ما يساعده على الحل . فهذا الفزع والرجوع إلى المعلومات هو حركة للعقل وانتقال من المجهول إلى المعلوم ، وهو مبدأ التفكير ، فلذا كان أول أدوار الفكر .

- حركة العقل بين الملعومات وهذا هو الدور الثاني للفكر وهو أهم الأدوار

ص: 256

والحركات وأشقها ، وبه يمتاز المفكرون وعنده تزل الاقدام ويتورط المغرورون؛ فمن استطاع أن يحسن الفحص عن المعلومات ويرجع إلى البديهيات فيجد ضالته التي توصله حقاً إلى حل المشكل، فهذا الذي أوتى حظاً عظيماً من العلم. وليس هناك قواعد مضبوطة لفحص المعلومات وتحصيل المقدمات الموصلة إلى المطلوب من حل المشكل وكشف المجهول.

ولكن لنا طريقة عامة يمكن الركون اليها لكسب المقدمات نسميها التحليل ولأجلها

عقدنا هذا الفصل فنقول :

إذا واجنا المشكل فلا بد أنه قضية من القضايا ولتكن حملية، فإذا أردنا حله من طريق الاقتراني الحملي نتبع ما يلي:

أولاً : نحلل المطلوب وهو حملية بالفرض إلى موضوع ومحمول ولابد أن الموضوع يكون الحد الأصغر في القياس والمحمول الحد الأكبر فيه فنضع الأصغر والأكبر كلا منهما على حدة.

ثانياً :ثم نطلب كلّ ما يمكن حمله على الأصغر والأكبر وكل ما يمكن حمل الأصغر والأكبر عليه سواء كان جنساً أو نوعاً أو فصلاً أو خاصة أو عرضاً عاماً. ونطلب أيضاً كلّ ما يمكن سلبه عن كلّ واحد منهما وكل ما يمكن سلب كلّ واحد منهما عنه . فتحصل عندنا عدة قضايا حملية ايجابية وسلبية .

ثالثاً ثم ننظر فيما حصلنا عليه من المعلومات فنلائم بين القضايا التي فيها الحدّ الأصغر يكون موضوعاً أو محمولاً من جهة وبين القضايا التي فيها الحدّ الأكبر يكون موضوعاً أو محمولاً من جهة أخرى ؛ فإذا استطعنا أن نلائم بين قضيتين من الطرفين على وجه يتألف منهما شكل من الأشكال متوفرة فيه الشروط فقد نجحنا واستطعنا أن نتوصل إلى المطلوب ، وإلا فعلينا أن نلتمس طريقاً آخر.

وهذه الطريقة عينا تتبع إذا كان المطلوب قضية شرطية ؛ فنؤلف معلوماتنا من قضايا

شرطية إذا لم نختر ارجاع الشرطية إلى حملية لازمة لها .

ص: 257

وإذا أردنا حل المطلوب من طريق القياس الاستثنائي نتبع ما يلي :

أولاً: نفحص عن كلّ ملزومات المطلوب وعن كلّ لوازمه ثم عن كل ملزومات نقيضه

وعن كلّ لوازمه.

ثانياً: ثم نفحص عن كل ما يعاند نقيضه صدقاً وكذباً أو صدقاً فقط أو كذباً فقط.

ثالثاً ثم نؤلف من الفحص الأول قضايا متصلة إذا وجدنا ما يؤلفها ونستثني عين المقدم ونقيض التالي من كلّ من القضايا المؤلفة فأيهما يصح يتألف به قياس استثنائي اتصالى ننتقل منه إلى المطلوب.

أو نؤلف من الفحص الثاني قضايا منفصلة حقيقية أو من أختيها إذا وجدنا أيضاً ما يؤلّفها ونستثني عين الجزء الآخر المعاند للمطلوب أو نقيضه ونستثني نقيض الجزء الآخر في جميع القضايا المؤلفة فأيّها يصح، يتألف به قياس استثنائي انفصالي ننتقل منه إلى المطلوب .

5 - حركة العقل من المعلومات إلى المجهول: وهذه الحركة آخر مرحلة من الفكر عندما يتم له تأليف قياس منتج ؛ فإنّه لا بد أن ينتقل منه إلى النتيجة التي تكون هيالمطلوب

وهي حل المشكل.

ص: 258

القياسات المركّبة

تمهيد وتعريف

لابد للاستدلال على المطلوب من الانتهاء في التحليل إلى مقدمات بديهية لا يحتاج العلم بها إلى كسب ،ونظر ، وإلا لتسلسل التحليل إلى غير النهاية، فيستحيل تحصيل المطلوب. والانتهاء إلى البديهيات على نحوين: تارة ينتهى التحليل من أوّل الأمر إلى کسب مقدمتين بديهيتين فيقف ، ونحصل المطلوب منهما ، فيتألف منهما قياس يسمّى بالقياس البسيط؛ لأنّه قد حصل المطلوب به وحده. وهذا مفروض جميع الاقيسة التي تكلمنا عن أنواعها وأقسامها .

وأخرى ينتهي التحليل من أول الأمر إلى مقدمتين إحداهما كسبية أو كلاهما کسبیتان ؛ فلا يقف الكسب عندهما حينئذ ، بل تكون المقدمة الكسبية مطلوباً آخر لا بدّ لنا من كسب المقدمات ثانياً لتحصيله، فنلتجيء إلى تأليف قياس آخر تكون نتيجة نفس الكسبية ، أي أن نتيجة هذا القياس الثانى تكون مقدمة للقياس الأوّل . ولو كانت المقدّمتان معا كسبيتين فلا بد حينئذ من تأليف قياسين لتحصيل المقدمتين .

ثم ان هذه المقدّمات المؤلفة ثانياً لتحصيل مقدمة القياس الأوّل أو مقدمتيه ان كانت كلّها بديهية ، وقف عليها الكسب ؛ وان كانت بعضها أو كلّها كسبية احتاجت إلى تأليف أقيسة بعددها .... وهكذا حتى نقف في مطافنا على مقدّمات بديهية لا تحتاج إلى كسب و نظر . ومثل هذه التأليفات المترتبة التي تكون نتيجة احدها مقدمة في الآخر لينتهي بها إلى مطلوب واحد هو المطلوب الأصلى تسمّى القياس المركب، لأنه يتركب من قياسين أو أكثر.

ص: 259

فالقياس المركب إذن هو : «ما تألف من قياسين فأكثر لتحصيل مطلوب واحد . وفي كثير من الأحوال نستعمل القياسات المركبة ؛ فلذلك قد نجد في بعض البراهين مقدمات كثيرة فوق اثنتين مسوقة لمطلوب واحد ، فيظنها من لا خبرة له انها قياس واحد وهي في الحقيقة ترد إلى قياسات متعدّدة متناسقة على النحو الذي قدمناه ؛ وانما حذفت منه النتائج المتوسطة أو بعض المقدّمات على طريقة القياس المضمر الذي تقدم شرحه؛ وارجاعها إلى أصلها قد يحتاج إلى فطنة ودربة.

أقسام القياس المركب

وعلى ما تقدّم ينقسم القياس المركب إلى موصول ومفصول :

1 - الموصول: وهو الذي لا تطوى فيه النتائج ؛ بل تذكر مرة نتيجة لقياس ومرة مقدّمة لقياس آخر ، كقولك :

أ - كل شاعر حساس.

ب - وكل حسّاس يتألم.

:: كلّ شاعر قوي العاطفة .

2 - المفصول: وهو الذي فصلت عنه النتائج وطويت فلم تذكر ، كما تقول في المثال المتقدم :

الف -كلّ شاعر حسّاس .

ب - وكلّ حسّاس يتألّم .

ج - وكلّ من يتألم قوي العاطفة .

. كلّ شاعر قوى العاطفة .

وهذه عين النتيجة السابقة في الموصول والمفصول أكثر استعمالاً في العلوم اعتماداً

على وضوح النتائج المتوسطة، فيحذفونها.

والقياسات المركبة قد يسمّى بعضها بأسماء خاصة لخصوصية فيها ولا بأس بالبحث عن بعضها تنويراً للأذهان ، منها :

ص: 260

قياس الخلف

اشارة

قد سبق منا ذكر لقياس الخلف مرتين : مرّة في أول تنبيهات الشكل الثالث وسميناه طريقة الخلف وشرحناه هناك بعض الشرح ، وقد كنا استخدمناه للبرهان على بعض ضروب الشكلين الثاني والثالث، ومرّة أخرى نبهنا عليه في آخر القسم الرابع من الاقتراني الشرطي وهو المؤلّف من متصلة وحملية، إذ قلنا أن قياس الخلف ينحل إلى قياس شرطي من هذا القسم. ومن الخير للطالب الآن أن يرجع إلى هذين البحثين قبل الدخ---ول في التفصيلات الآتية.

والذي ينبغى أن يعلم أن الباحث قد يعجز عن الاستدلال على مطلوبه بطريقة مباشرة، فيحتال إلى اتخاذ طريقة غير مباشرة فيلتمس الدليل على بطلان نقيض مطلوبه ليثبت صدق مطلوبه لأن النقيضين لا يكذبان معاً. وابطال النقيض لاثبات المطلوب هو المسمى بقياس الخلف؛ ولذا أشرنا فيما سبق في تنبيهات الشكل الثالث إلى أن طريقة الخلف من نوع الاستدلال غير المباشر . ومن هنا يحصل لنا تعريف قياس الخلف بأنه :

«قياس مركّب يثبت المطلوب بابطلال نقيضه».

أمّا أنّه قياس مركب ، فلأنه يتألف من قياسين : اقتراني شرطي مؤلّف من متصلة وحملية، واستثنائي.

كيفيته

إذا أردنا اثبات المطلوب بابطال نقيضه، فعلينا أن نستعمل الطريقة التي سنشرحها ولنرجع قبل كلّ شيء إلى الموارد التي استعملنا لها قياس الخلف فيما سبق . ولنختر منها للمثال الضرب الرابع من الشكل الثاني، فنقول :

المفروض صدق 1 : س ب م و 2 : كل ح- م

المدعى صدق النتيجة : س ب ح-

ص: 261

وخلاصة البرهان بالخلف أن نقول : لو لم يصدق المطلوب لصدق نقيضه ولكن نقیضه ليس بصادق ؛ لأن صدقه يستلزم الخلف، فيجب أن يكون المطلوب صادقاً ، وهذا كما ترى قياس استثنائى يستدل على كبراه بلزوم الخلف ولبيان لزوم الخلف عند صدق النقيض يستدل بقياس اقتراني شرطي مؤلف من متصلة مقدمها المطلوب منفياً، وتاليها نقيض المطلوب ، ومن حملية مفروضة الصدق .

و لتفصيل البرهان بالخلف نتبع ما يأتي من المراحل مع التمثيل بالمثال الذي اخترناه :

1 - نأخذ نقيض المطلوب كل ب ح ونضمه إلى مقدمة مفروضة الصدق ولتكن الكبرى وهى كل حم فيتألف منهما قياس من الشكل الأوّل:

كل ب ح- كل ح- م

ينتج كل ب م

2 - ثم نقيس هذه النتيجة الحاصلة إلى المقدمة الأخرى المفروضة الصدق وهى س ب م فنجد انهما نقيضان ؛ فأما أن تكذب س ب م والمفروض صدقها ، هذا خلف أي خلاف ما فرض من صدقها ، وأما أن تكذب هذه النتيجة الحاصلة وهي كل ب م؛ وهذا هو المتعين.

3 - ثم نقول حينئذٍ : لا بد أن يكون كذب هذه النتيجة المتقدمة ناشئاً من كذب احدى المقدمتين ، لأن تأليف القياس لا خلل فيه حسب الفرض ، ولا يجوز كذب المقدّمة المفروضة الصدق، فلا بد أن يتعين كذب المقدّمة الثانية التي هي نقيض المطلوب كل ب ح فيثبت المطلوب : س ب ح-

4 - وبالأخير يوضع الاستدلال هكذا :

أ - من قياس إقتراني شرطي.

- الصغرى التي هي قولنا : «لولم يصدق س ب ح فكل ب ح- ».

2 - الكبرى المفروض صدقها هو قولنا : كل ح- م

فينتج حسبما ذكرناه فى أخذ نتيجة النوع الرابع من الشرطي.

(لو لم يصدق س ب حفكل ب م ) .

ص: 262

ب - من قياس استثنائي :

1 - الصغرى نتيجة الشرطي السابق وهي :

لو لم يصدق س ب حفكل ب م .

2 - الكبرى قولنا : و «لكن كل ب م كاذبة»

لأنّه نقيضها وهو س ب م صادق حسب الفرض.

فينتج : «يجب أن يكون س ب ح صادقاً» (وهو المطلوب).

قياس المساواة

اشارة

من القياسات المشكلة التي يمكن ارجاعها إلى القياس المركب قياس المساواة. وانما سمّى قياس المساواة لأن الأصل فيه المثال المعرف: «أ» مساو ل«ب» و«ب» مساو ل «ج» ينتج «أ» مساو !«ج»، وإلا فهو قد يشمل على المماثلة والمشابهة ونحوهماكقولهم : الانسان من نطفة والنطفة من العناصر فالإنسان من العناصر وكقولهم : الجسم جزء من الحيوان والحيوان جزء من الإنسان، فالجسم جزء من الإنسان.

وصدق قياس المساواة يتوقف على صدق مقدمة خارجية محذوفة وهي نحر مساوي المساوي مساو، وجزء الجزء جزء، والمماثل للماثل مماثل ... وهكذا.

ولذا لا ينتج لو كذبت المقدّمة الخارجية نحو : «الاثنان نصف الأربعة والأربعة نصف الثمانية»، فأنّه لا ينتج : الاثنان نصف الثمانية ، لأن نصف النصف ليس نصفاً .

تحليل هذا القياس

وهذا القياس كما ترى على هيئة مخالفة للقياس المألوف المنتج ؛ إذ لا شركة فيه في تمام الوسط، لأن موضوع المقدّمة الثانية وهو «ب» جزء من محمول الأولى وهو مساو ل«ب»، فلا بد من تحليله وارجاعه إلى قياس منتظم يضم تلك المقدمة الخارجية المحذوفة

ص: 263

إلى مقدمتيه ليصير على هيئة القياس . وفي بادىء النظر لا ينحل المشكل بمجرد ضم المقدمة الخارجية ، فلا يظهر كيف يتألف قياس تشترك فيه المقدمات في تمام الوسط ، وانّه من أي أنواع القياس؛ ولذا عد عسر الانحلال إلى الحدود المترتبة في القياس المنتج لهذه النتيجة وعدّه بعضهم من القياسات المفردة، وبعضهم عده من المركبة .

والأصح أن نعده من المركبات، فنقول انه مركب من قياسين .

القياس الأول: صغراه المقدمة الأولى : «أ مساو لب»،

وكبراه : كلّ مساو لب مساو المساوي ج».

«وهذه الكبرى صادقة مأخوذة من المقدمة الثانية من قياس المساواة أي : ب مساو

لج ؛ لأنه بحسبها يكون ما يساوي ج عبارة ثانية عن ب . فلو قلت : كلّ ما يساوي ب يساوى ب ، تكون قضية صادقة بديهية ويصح أن تبدل عبارة ما يساوي ج بحرف ب فنقول مكانها:

«مساو لب مساو لمساوي ج». وعليه يكون هذا القياس الأول من الشكل الأول الحملي

والأوسط فيه مساو لب .

فينتج : أ مساو لمساوي ج.

القياس الثاني: صغراه النتيجة السابقة من الأول : امساو لمساوي ج.

وكبراه المقدّمة الخارجية المذكورة وهي المساوي لمساوي ج مساو لج فينتظم قياساً من الشكل الأول الحملي أيضاً والأوسط فيه مساو لمساوي ج.

فينتج أمساولج (وهو المطلوب).

ص: 264

الاستقراء

تمهيد وتعريف

عرفنا الاستقراء فيما سبق بأنه هو أن يدرس الذهن عدة جزئيات فيستنبط منها حكما عاماً ؛ كما لو درسنا عدة أنواع من الحيوان فوجدنا كل نوع منها يحرك فكه الأسفل عند المضغ ، فنستنبط منها قاعدة عامة ، وهي ان كل حيوان يحرّك فكه الأسفل عند المضغ . والاستقراء هو الأساس لجميع أحكامنا الكلية وقواعدنا العامة، لأن تحصيل القاعدة العامة والحكم الكلّي لا يكون الا بعد فحص الجزئيات واستقرائها ؛ فإذا وجدناها متحدة في الحكم نلخص منها القاعدة أو الحكم الكلّي . فحقيقة الاستقراء هو الاستدلال بالخاص على العام، وعكسه القياس، وهو الاستدلال بالعام على الخاص ؛ لأن القياس لابدّ أن يشتمل على مقدمة كلية ، الغرض منها تطبيق حكمها العام على موضوع النتيجة .

أقسامه

والاستقراء على قسمين : تام وناقص ؛ لأنّه أما أن يتصفح فيها حال الجزئيات بأسرها أو بعضها :

والأوّل التام، وهو يفيد اليقين . وقيل بأنه يرجع إلى القياس المقسم (1) المستعمل في

ص: 265


1- القياس المقسم من نوع المؤلف من المنفصلة والحملية ولكن له حمليات بعدد أجزاء المنفصلة ، ولا تحول فيه المنفصلة الى متصلة بل تبقى على حالها ، ويشبه أن ينحل الى عدة قياسات حملية بعدد

البراهين ، كقولنا : كلّ شكل أما كروي وأمّا مضلع وكلّ كروي متناه وكل مضلع متناه، فينتج : كلّ شكل متناه .

والثاني الناقص، وهو الا يفحص المستقري الا بعض الجزئيات كمثال الحيوان من أنّه يحرّك فكه الأسفل عند المضغ ، بحكم الاستقراء لأكثر أنواعه ، وقالوا انه لا يفيد إلّا الظَّنّ لجواز أن يكون أحد جزئياته ليس له هذا الحكم، كما قيل ان التمساح يحرّك فكه الأسفل عند المضغ .

شبهة مستعصية

ان القياس الذي هو العمدة في الأدلة على المطالب الفلسفية وهو المفيد لليقين كان يعتمد على مقدمة كلية على كل حال، فانّ الأساس فيه لا محالة هو الاستقراء لما قدمنا أن كلّ قاعدة كلية لا تحصل لنا إلا بطريق فحص جزئياتها .

ولا شك أن أكثر القواعد العامة غير متناهية الأفراد، فلا يمكن تحصيل الاستقراء

التام فيها .

فيلزم على ذلك أن تكون أكثر قواعدنا التي نعتمد عليها لتحصيل الأقيسة ظنية، فيلزم أن تكون أكثر اقيستنا ظنية وأكثر أدلتنا غير برهانية في جميع العلوم والفنون، وهذا ما لا يتوهمه أحد .

فلا يمكن أن ندعي أن الاستقراء الناقص يفيد العلم اليقيني، فنخالف جميع المنطقيين الأقدمين . ربما تكون هذه الدعوى قريبة إلى القبول ، إذ تجد انا نتيقن بأمور عامة ولم يحصل لنا استقراء جميع أفرادها كحكمنا قطعاً بأن الكل أعظم من الجزء، مع استحالة استقراء جميع ما هو كلّ وما هو جزء ؛ وكحكمنا بأن الاثنين نصف الأربعة مع استحالة استقراء كل اثنين وكل أربعة ؛ وكحكمنا بأن كلّ نار محرقة وان كلّ إنسان يموت مع استحالة

ص: 266

استقراء جميع أفراد النار والإنسان .... وهكذا ما لا يحصى من القواعد البديهية، فضلاً عن النظرية .

حل الشبهة

فنقول في حل الشبهة ان الاستقراء على أنحاء :

1 - أن يبنى على صرف المشاهدة فقط ، فإذا شاهد بعض الجزئيات أو أكثرها أن لها وصفاً واحداً، استنبط أن هذا الوصف يثبت لجميع الجزئيات، كمثال استقراء بعض الحيوانات انها تحرّك فكها الأسفل عند المضغ، ولكن هذا الاستنباط قابل للنقض فلا يكون الحكم فيه قطعياً ؛ وعلى هذا النحو اقتصر نظر المنطقيين القدماء في بحثهم .

2 - أن يبنى مع ذلك على التعليل أيضاً؛ بأن يبحث المشاهد لبعض الجزئيات عن العلّة فى ثبوت الوصف فيعرف ان الوصف انّما ثبت لتلك الجزئيات المشاهدة لعلّة أو خاصية موجودة في نوعها ؛ ولا شبهة عند العقل ان العلة لا يتخلف عنها معلولها أبداً. فيجزم المشاهد المستقري حينئذٍ جزماً قاطعاً بثبوت الوصف لجميع جزئيات ذلك النوع وإن لم يشاهدها . كما إذا شاهد الباحث أن بعض العقاقير يؤثر الإسهال فبحث عن علّة هذا التأثير وحلل ذلك الشيء إلى عناصره ، فعرف تأثيرها في الجسم الاسهال في الأحوال الاعتيادية ؛ فانّه يحكم بالقطع أن هذا الشيء يحدث هذا الأثر دائماً.

وجميع الاكتشافات العلمية وكثير من أحكامنا على الأمور التي نشاهدها نشاهدها من هذا النوع ، وليست هذه الأحكام قابلة للنقض ؛ فلذلك تكون قطعية ، كحكمنا بأن الماء ينحدر من المكان العالي ؛ فانا لا نشك فيه مع أنا لم نشاهد من جزئياته الا أقل القليل وما ذلك ألا لأنا عرفنا السرّ في هذا الانحدار. نعم إذا انكشف للباحث خطأ ما حسبه أنّه علّة وإن للوصف علة أخرى فلا بد أن يتغير حكمه وعلمه .

3 - أن يبنى على بديهية العقل ؛ كحكمنا بأن الكلّ أعظم من الجزء فإن تصور الكل و تصور الجزء وتصور معنى أعظم هو كاف لهذا الحكم. وليس هذا فى الحقيقة استقراء لأنه

ص: 267

لا يتوقف على المشاهدة ، فإن تصور الموضوع والمحمول كاف للحكم وإن لم تشاهد جزئياً واحداً منها .

4 - أن يبنى على المماثلة الكاملة بين الجزئيات ؛ كما إذا اختبرنا بعض جزئيات نوع من الثمر فعلمنا بأنه لذيذ الطعم مثلاً فانا نحكم حكماً قطعياً بأن كل جزئيات هذا النوع لها هذا الوصف ؛ وكما إذا برهنا مثلاً على أن مثلثاً معيناً تساوي زواياه قائمتين فانّا نجزم قاطعاً بأن كلّ مثلث هكذا، فيكفي فيه فحص جزئي واحد، وما ذلك إلا لأن الجزئيات متماثلة متشابهة في التكوين، فوصف واحد منها يكون وصفاً للجميع بغير فرق.

وبعد هذا البيان لهذه الأقسام الأربعة يتضح ان ليس كلّ استقراء ناقص لا يفيد اليقين

الا إذا كان مبنيا على المشاهدة المجردة.

ويسمّى القسم الثاني وهو الاستقراء المبني على التعليل في المنطق الحديث بطريق

الاستنباط أو طريق البحث العلمي؛ وله أبحاث لا يسعها هذا الكتاب.

ص: 268

التمثيل

تعريفه

هذا ثالث أنواع الحجة وبه تنتهي مباحث الباب الخامس، والتمثيل على ما عرفناه سابقاً هو« أن ينتقل الذهن من حكم أحد الشيئين إلى الحكم على الآخر لجهة مشتركة بينهما» وبعبارة أخرى هو : «اثبات الحكم في جزئي لثبوته في جزئي آخر مشابه له». والتمثيل: هو المسمّى في عرف الفقهاء بالقياس الذي يجعله أهل السنّة من أدلّة الأحكام الشرعية، والإمامية ينفون حجيته ويعتبرون العمل به محقاً للدين وتضييعاً للشريعة .

مثاله : إذا ثبت عندنا أن النبيذ يشابه الخمر في تأثير السكر على شاربه، وقد ثبت عندنا أن حكم الخمر هو الحرمة ، فلنا أن نستنبط ان النبيذ أيضاً حرام أو على الأقل محتمل

الحرمة للاشتراك بينهما في جهة الاسكار.

أركانه

وللتمثيل أربعة أركان:

1 - الأصل: وهو الجزئي الأوّل المعلوم ثبوت الحكم له ، كالخمر في المثال .

2 - الفرع: وهو الجزئي الثاني المطلوب اثبات الحكم له ، كالنبيذ فى المثال.

3- الجامع: وهو جهة الشبه بين الأصل والفرع كالاسكار في المثال .

ص: 269

4 - الحكم المعلوم ثبوته في الأصل والمراد اثباته للفرع، كالحرمة في المثال .

فإذا توفرت هذه الأركان انعقد التمثيل. فلو كان الأصل غير معلوم الحكم أو فاقداً

للجامع المشترك ، لا يحصل التمثيل. وهذا واضح.

قيمته العلمية

ان التمثيل على بساطته من الأدلة التي لا تفيد الا الاحتمال . لأنه لا يلزم من تشابه شيئين في أمر بل في عدة أمور أن يتشابها من جميع الوجوه ؛ فإذا رأيت شخصاً مشابها لشخص آخر في طوله أو في ملامحه أو في بعض عاداته وكان أحدهما مجرماً قطعاً فإنّه ليس لك أن تحكم على الآخر بأنه مجرم أيضاً ، لمجرد المشابهة بينهما في بعض الصفات أو الأفعال.

نعم إذا قويت وجوه الشبه بين الأصل والفرع وكثرت ، يقوى عندك الاحتمال حتى يقرب من اليقين ويكون ظنّاً. والقيافة من هذا الباب، فانّا قد نحكم على شخص أنه صاحب أخلاق فاضلة أو شرير بمجرد أن نراه، لأنا كنا قد عرفنا شخصاً قبله يشبه كثيراً في ملامحه أو عاداته وكان ذا خلق فاضل أو شريراً ... ولكن كلّ ذلك لا يغني عن الحق شيئاً.

غير أنّه يمكن أن نعلم ان الجامع أي جهة المشابهة علة تامة لثبوت الحكم في الأصل، وحينئذٍ نستنبط على نحو اليقين ان الحكم ثابت في الفرع لوجود علته التامة فيه، لأنه يستحيل تخلف المعلول عن علّته التامة. ولكن الشأن كلّه انّما هو في اثبات ان الجامع علة تامة للحكم ، لأنّه يحتاج إلى بحث وفحص ليس من السهل الحصول عليه حتى في الأمور الطبيعية . والتمثيل من هذه الجهة يلحق بقسم الاستقراء المبني على التعليل الذي أشرنا إليه سابقاً، بل هو نفسه .

اما اثبات ان الجامع هو العلّة التامة لثبوت الحكم في المسائل الشرعية، فليس لنا طريق إليه إلا من ناحية الشارع نفسه ؛ ولذا لو كانت العلة منصوصاً عليها من الشارع فإنّه لا خلاف بين الفقهاء جميعاً في الاستدلال بذلك على ثبوت الحكم في الفرع؛ كقوله عليه

ص: 270

السلام : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء ... لأن له مادة». فانه يستنبط منه ان كلّ ماء له مادة كماء الحمام وماء حنفية الاسالة فهو واسع لا يفسده شيء . وفي الحقيقة ان التمثيل المعلوم فيه ان الجامع علة تامة يكون من باب القياس البرهاني المفيد لليقين، إذ يكون فيه الجامع حداً أوسط والفرع حداً أصغر والحكم حدا أكبر ، فنقول في مثال الماء.

1 - ماء الحمام له مادة .

2 - وكل ماء له مادة ، واسع له يفسده شيء بمقتضى التعليل في (الحديث).

ينتج : ماء الحمام واسع لا يفسده شيء.

وبهذا يخرج عن اسم التمثيل واسم القياس باصطلاح الفقهاء الذي كان محل

الخلاف عندهم.

ص: 271

272

تمرينات

على الاقيسة

1 - استدل بعضهم على نفي الوجود الذهني بأنه لو كانت الماهيات موجودة في الذهن لكان الذهن حاراً بارداً بتصوّر الحرارة والبرودة ومستقيماً ومستديراً وهكذا؛ واللازم

باطل فالملزوم مثله . والمطلوب أن تنظم هذا الكلام قياساً منطقياً مع بيان نوعه.

2 - استدل بعضهم على أن الله تعالى عالم بأن فاقد الشيء لا يعطيه، وهو سبحانه قد

خلق فينا العلم فهو عالم فبين نوع هذا الاستدلال ونظمه .

3 - المروي ان العلماء ورثة الأنبياء ولكنهم لما لم يرثوا منهم المال والعقار فقد

ورثوا العلم والأخلاق ، فهل هذا استدلال منطقي ؟ وبين نوعه .

4 - استدل بعضهم على ثبوت الوجود الذهني فقال: «لا شك في أنا نحكم حكماً ايجابياً على بعض الأشياء المستحيلة كحكمنا بأن اجتماع النقيضين يغاير اجتماع الضدين. والموجبة تستدعي وجود موضوعها ولما لم يكن هذا الوجود في الخارج فهو في الذهن» فكيف تنظم هذا الدليل على القواعد المنطقية مع بيان نوعه وانه بسيط أو مركب مع العلم ان قوله : «ولما لم يكن هذا الوجود ... الخ » عبارة عن قياس استثنائي.

5 - واستدلوا على لزوم وجود موضوع القضية الموجبة بأن ثبوت شيء لشيء يستدعي ثبوت المثبت له، فكيف تنظم هذا الكلام قياساً منطقياً.

6 - ضع القضايا الآتية في صورة قياس مع بيان نوعه وشكله : «صاحب الحجةالبرهانية لا يغلب» لأنه كان على حق» و «كل صاحب حق لا يغلب». وإذا كانت القضية

ص: 272

الاولى شرطية على هذه الصورة إذا كانت الحجة برهانية فصاحبها لا يغلب» فكيف تؤلف المقدّمات لتجعل هذه الشرطية نتيجة لها ومن أي نوع يكون القياس حينئذ .

7 - ضع القضايا الآتية في صورة قياس مع بيان نوعه : «انّما يخشى الله من عباده

العلماء ولكن لما لم يخش خالد الله سبحانه فهو ليس من العلماء».

8 - ما الشكل الذي ينتج جميع المحصورات الأربع .

9 - افحص عن السر في الشكل الثالث الذي يجعله لا ينتج إلا جزئية .

في أي شكل يجوز فيه أن تكون كبراه جزئية ويكون منتجاً.

11 - إذا كانت احدى المقدمتين في القياس جزئية فلماذا يجب أن تكون المقدّمة الأخرى كلية .

12 - إذا كانت الصغرى في القياس سالبه فهل يجوز أن تكون الكبرى جزئية ولماذا ؟

13 - كيف نحصل النتيجة من هذين المنفصلتين: «الإنسان اما عالم أو جاهل» حقيقية. و «الإنسان اما جاهل أو سعيد» مانعة خلو .

14 - هل يمكن أن نؤلف من المنفصلتين الآتيتين قياسا منتجاً: «أما أن يسعى الطالب أو لا ينجح في الامتحان» مانعة خلو . و الطالب أما أن يسعى أو يتهاون» مانعة

جمع.

ص: 273

15 - جاء سائل إلى شخص والح بالطلب كثيرا ؛ فاستنتج المسؤول من الحاله انه

ليس بمستحق وهذا الاستنتاج بطريق قياس الاستثناء فكيف تستخرجه ؟

16 - ارجع البراهين في قاعدة نقض المحمول (من صفحة 174 - 178) إلى قياسات منطقية طبقاً لما عرفته من القواعد في القياس البسيط والمركب.

17 - حاول أن تطبق أيضاً البراهين في عكس النقيض على قواعد القياس.

18 - البرهان على نقض محمول الموجبة الكلية (صفحة 174 يمكن ارجاعه إلى

قياس المساواة وإلى قياس شرطي من متصلتين ، فكيف ذلك ؟ وكذلك نظائره.

انتهى الجزء الثاني

ص: 274

الجزء الثالث

اشارة

المشتمل على :

الباب السادس : الصناعات الخمس

اشارة

وهي : البرهان والجدل والخطابة والشعر والمغالطة

ص: 275

تمهيد

ص: 276

تمهید

تقدم أن للقياس مادة وصورة، والبحث عنه يقع من كلتا الجهتين، وما تقدم في الباب الخامس كان بحثاً عنه من جهة صورته أي هيئة تأليفه، على وجه لو تألف القياس بحسب الشروط التي للهيئة وكانت مقدماته أي مواده مسلمة صادقة كان منتجاً لامحالة ، أي كانت نتيجته صادقة تبعاً لصدق مقدماتها . ومعنى ذلك أن القياس إذا احتفظ بشروط الهيئة فإن مقدماته لو فرض صدقها فإن صدقها يستلزم صدق النتيجة .

ولا يبحث هناك عما إذا كانت المقدّمات صادقة في أنفسها أم لا، بل انّما يبحث عن

الشروط التي بموجبها يستلزم صدق المقدّمات صدق النتيجة، على تقدير فرض صدق

المقدّمات.

وقد حل الآن الوفاء بما وعدناك به من البحث عن القياس من جهة مادته ، والمقصود

من المادة مقدماته في أنفسها مع قطع النظر عن صحة تأليفها بعضها مع بعض . وهي تختلف من جهة الاعتقاد بها والتقسيم بصدقها وعدمهما ، وإن كانت صورة القياس واحدة لا تختلف ؛ فقد تكون القضية التي تقع مقدمة مصدقاً بها وقد لا تكون .والمصدّق بها قد تكون يقينية وقد تكون غير يقينية، على التفصيل الذي سيأتي .

و بحسب اختلاف المقدمات ، وبحسب ما تؤدي إليه من نتائج ، وبحسب أغراض تأليفها، ينقسم القياس إلى البرهان والجدل والخطابة والشعر والمغالطة .

ص: 277

والبحث عن هذه الأقسام الخمسة أو استعمالها هي الصناعات الخمس، فيقال مثلاً:

صناعة البرهان : صناعة الجدل ... وهكذا.

وقبل الدخول في بحثها واحدة واحدة نذكر من باب المقدمة أنواع القضايا المستعملة في القياس وأقسامها. أو فقل حسب الاصطلاح العلمي مبادىء الاقيسة. ثم نذكر بعد ذلك الصناعات في خمسة فصول:

ص: 278

المقدمة

في مبادىء الأقيسة

سبق أن قلنا في تصدير الباب الخامس : أنه لا يجب في كلّ قضية أن تطلب بدليل

وحجّة ، بل لابد من الانتهاء في الطلب إلى قضايا مستغنية عن البيان واقامة الحجة. والسر في ذلك أن مواد الاقيسة سواء كانت يقينية أو غير يقينية إما أن تكون في حد نفسها مستغنية عن البيان واقامة الحجة ، بمعنى أنه ليس من شأنها أن تكون مطلوبة بحجة، وإما أن تكون محتاجة إلى البيان. ثم هذه الأخيرة المحتاجة لابد أن ينتهي طلبها إلى مقدمات مستغنية بنفسها عن البيان والا لزم التسلسل في الطلب إلى غير النهاية . أو نقول : انه يلزم من ذلك الا ينتهي الإنسان إلى علم أبداً، ويبقي في جهل إلى آخر الآباد والوجدان يشهد على فساد ذلك .

وهاتيك المقدمات المستغنية عن البيان تسمّى مبادىء المطالب أو مبادىء الاقيسة

وهي ثمانية أصناف : يقينات، ومظنونات، ومشهورات، ووهميات، ومسلمات ، ومقبولات، ومشبهات، ومخيلات . ونذكرها الآن بالتفصيل :

ص: 279

اليقينيات

تقدم في أول الجزء الأوّل ان لليقين معنيين : اليقين بالمعنى الأعم وهو مطلق الاعتقاد الجازم واليقين بالمعنى الأخص وهو الاعتقاد المطابق للواقع الذي لا يحتمل

النقيض لا عن تقليد، والمقصود باليقين هنا هو هذا المعنى الاخير، فلا يشمل الجهل

المركب ولا الظن ولا التقليد وإن كان معه جزم.

توضيح ذلك ان اليقين بالمعنى الأخص يتقوم من عنصرين : الأوّل أن ينضم إلى الاعتقاد بمضمون القضية اعتقاد ثان - أما بالفعل أو بالقوة القربية من الفعل أن ذلك المعتقد به لا يمكن نقضه . وهذا الاعتقاد الثاني هو المقوم لكون الاعتقاد جازماً أي اليقين بالمعنى الأعم. والثاني أن يكون هذا الاعتقاد الثاني لا يمكن زواله. وإنما يكون كذلك إذا كان مسبباً عن علّته الخاصة الموجبة له فلا يمكن انفكاكه عنها . وبهذا يفترق عن التقليد، لأنه ان كان معه اعتقاد ثان فإن هذا الاعتقاد يمكن زواله لأنه ليس عن علّة توجبه بنفسه ، بل انّما هو من جهة التبعية للغير ثقة به وإيمانا بقوله فيمكن فرض زواله، فلا تكون مقارنة الاعتقاد الثاني للأول واجبة في نفس الأمر .

ولأجل اختلاف سبب الاعتقاد من كونه حاضراً لدى العقل أو غائباً يحتاج إلى الكسب، تنقسم القضية اليقينية إلى بديهية، ونظرية كسبية تنتهى لا محالة إلى البديهيات ؛ فالبديهيات - إذن - هي أصول اليقينيات، وهي على ستة أنواع بحكم الاستقراء : أوليات، ومشاهدات و تجربيات ومتواترات، وحدسيات وفطريات .

ص: 280

1 - الأوليات

وهي قضايا يصدق بها العقل لذاتها، أي بدون سبب خارج عن ذاتها ، بأن يكون تصور الطرفين مع توجه النفس إلى النسبة بينهما (1) كافياً في الحكم والجزم بصدق القضية ؛ فكلما وقع للعقل أن يتصور حدود القضية - الطرفين - على حقيقتها وقع له التصديق بها فوراً عندما يكون متوجهاً لها. وهذا مثل قولنا : الكل أعظم من الجزء» و«النقيضان لا

يجتمعان».

وهذه الاوليات منها ما هو جلى عند الجميع إذ يكون تصور الحدود حاصلاً لهم جميعاً كالمثالين المتقدمين . ومنها ماهو خفي عند بعض لوقوع الالتباس في تصوّر الحدود، ومتى ما زال الالتباس بادر العقل إلى الاعتقاد الجازم.

ونحن ذاكرون هنا مثالاً دقيقاً على ذلك مستعينين بنباهة الطالب الذكي على

:

ايضاحه. وهو قولهم : «الوجود موجود» ؛ فإن بعض الباحثين اشتبه عليه معنى موجود، إذ يتصور أن معناه أنه شيء له الوجود، فقال : لا يصح الحكم على الوجود بأنه موجود، والا لكان للوجود وجود آخر ، وهذا الآخر أيضاً موجود فيلزم ان يكون له وجود ثالث ... وهكذا، فيتسلسل إلى غير النهاية . ولأجله أنكر هذا القائل اصالة الوجود وذهب إلى اصالة الماهية.

ولكن نقول : ان هذا الزعم ناشيء عن الغفلة عن معنى موجود ؛ فأنه قد يتضح للفظ موجود معنى آخر أوسع من الأول وهو المعنى المشترك الذي يشمله ويشمل معنى ثانياً، وهو ما لا يكون الوجود زائداً عليه بل كونه موجوداً هو بعينه كونه وجوداً، لا أن له وجود آخر ؛ وذلك بأن يكون معنى موجود منتزعاً من صميم ذات الوجود لا باضافة وجود آخر زائد عليه . فانّه يقال - مثلاً - الإنسان موجود، وهو صحيح، ولكن باضافة الوجود إلى

ص: 281


1- تقدم في الجزء الأول بيان معنى توجه النفس والحاجة إليه . وهذا البحث عن معنى التوجه وأسبابه وضرورته من مختصات هذا الكتاب التي لم يسبق اليها سابق فيما نعلم بهذا التفصيل

الإنسان، ويقال أيضاً: الوجود موجود، وهو صحيح أيضاً، ولكن بنفسه لا باضافة وج---ود ثان إليه ، وهو أحق بصدق الموجود عليه كما يقال : الجسم أبيض باضافة البياض إليه ويقال : البياض أبيض، ولكنه بنفسه لا ببياض آخر ، وصدق الأبيض عليه أولى من صدقه على الجسم الذي صار أبيض بتوسط اضافة البياض إليه .

وعلى هذا يكون المشتق منتزعاً من نفس الذات المتصفة بدلا من اضافة شيء خارج عنها اليها . فتكون كلمة أبيض ( وكذلك كلمة موجود ونحوها معناها أعم مما كان منتزعاً من اتصاف الذات بالمبدأ الخارج عنها ومما كان منتزعاً من نفس الذات التي هي

نفس المبدأ.

فإذا زال الالتباس واتضح للعقل معنى كلمة موجود لا يتردد في صحة حملهاعلى الوجود، بل يراه أولى في صدق الموجود عليه من غيره، كما لم يتردد في صحة حمل الأبيض على البياض . ولا تحتاج مثل هذه القضية وهي : الوجود موجود إلى البرهان، بل هی من الاوليات، وان بدت غير واضحة للعقل قبل تصور معنى موجود وصارت من أدق

المباحث الفلسفية ويبتني عليها كثير من مسائل علم الفلسفة الدقيقة

2 - المشاهدات

وتسمّى أيضاً المحسوسات، وهي القضايا التي يحكم بها العقل بواسطة الحسّ ، ولا

يكفي فيها تصوّر الطرفين مع النسبة ، ولذا قيل : من فقد حسّاً فقد فقد علماً .

والحسّ على قسمين : ظاهر وهو خمسة أنواع: البصر والسمع والذوق والشم واللمس والقضايا المتيقنة بواسطته تسمّى حسّيات كالحكم بأن الشمس مضيئة وهذه النار حارة وهذه الثمرة حلوة وهذه الوردة طيبة الرائحة ... وهكذا .

وحسّ باطن، والقضايا المتيقنة بواسطته تسمّى وجدانيات كالعلم بأن لنا فكرة وخوفاً وألماً ولذة وجوعاً وعطشاً ... ونحو ذلك .

ص: 282

3 - التجربيات

أو المجربات، وهي القضايا التي يحكم بها العقل بواسطة تكرر المشاهدة منا في احساسنا ؛ فيحصل بتكرر المشاهدة ما يوجب أن يرسخ في النفس حكم لا شك فيه ، كالحكم بأن كلّ نار حارة، وان الجسم يتمدّد بالحرارة، ففي المثال الأخير عندما تجرّب أنواع الجسم المختلفة من حديد ونحاس وحجر وغيرها مرّات متعددة ونجدها تتمدد بالحرارة فإنا نجزم جزماً باتاً بأن ارتفاع درجة حرارة الجسم من شأنها أن تؤثر التمدد في حجمه ، كما ان هبوطها يؤثر التقلص فيه . وأكثر مسائل العلوم الطبيعية والكيمياء والطب من

نوع المجربات .

وهذا الاستنتاج في التجربيات من نوع الاستقراء الناقص المبني على التعليل الذي قلنا عنه - في الجزء الثاني - انّه يفيد القطع بالحكم. وفي الحقيقة أن هذا الحكم القطعي يعتمد على قياسين خفيين : استثنائي واقتراني يستعملهما الإنسان في دخيلة نفسه وتفكيره من غير التفات غالباً .

والقياس الاستثنائى هكذا :

لو كان حصول هذا الأثر اتفاقياً لا لعلّة توجيه لما حصل دائماً.

ولكنه قد حصل دائماً (بالمشاهدة)

.:: حصول هذا الأثر ليس اتفاقياً بل لعلّة توجبه.

والقياس الإقترانى هكذا :

الصغرى (نفس نتيجة القياس السابق) : حصول هذا الأثر معلول لعلّة .

الكبرى (بديهية أولية):* كل معلول لعلّة يمتنع تخلفه عنها

ينتج من الشكل الأوّل: * هذا الأثر يمتنع تخلفه عن علته .

وهاتان المقدمتان للاستثنائي بديهيتان وكذا كبرى الاقتراني، فرجع الحكم في القضايا المجربات إلى القضايا الأولية والمشاهدات في النهاية .

ص: 283

ثم لا يخفى انا لا نعني من هذا الكلام ان كل تجربة تستلزم حكماً يقينياً مطابقاً للواقع ، فإن كثيراً من أحكام سواد الناس المبنية على تجاربهم ينكشف خطأهم فيها، إذ يحسبون ما ليس بعلة علة ، أو ما كان علة ناقصة علّة تامة، أو يأخذون ما بالعرض مكان ما بالذات.

وسر خطأهم ان ملاحظتهم للأشياء فى تجاربهم لا تكون دقيقة على وجه تكفي لصدق المقدمة الثانية للقياس الاستثنائي المتقدم ؛ لأنه قد يكون حصول الأثر في الواقع ليس دائمياً، فظن المجرب أنه دائمي اعتماداً على اتفاقات حسبها دائمية أما لجهل أو غفلة أو لقصور ادراك أو تسرع في الحكم، فأهمل جملة من الحوادث ولم يلاحظ فيها تخلف الأثر. وقد تكون ملاحظته للحوادث قاصرة بأن يلاحظ حوادث قليلة وجد حصول الأثر مع ما فرضه علّة، وفي الحقيقة ان العلة شيء آخر اتفق حصوله في تلك الحوادث، فلذا لم يختلف الأثر فيها . ولو استمر فى التجربة وغيّر فيما يجربه لوجد غير ما اعتقده أولاً . مثلاً قد يجرب الإنسان الخشب يطفو على الماء في عدة حوادث متكررة، فيعتقد أن ذلك خاصية في الخشب والماء، فيحكم خطأ ان كلّ خشب يطفو على الماء، ولكنه لو جرَّب بعض أنواع الخشب الثقيل الوزن لوجد انه لا يطفو في الماء العذب، بل قد يرسب إلى القعر أو إلى وسط الماء ، فانّه لا شك حينئذ يزول اعتقاده الأول. ولو غيّر التجربة في عدة أجسام غير الخشب، ودقق في ملاحظته ووزن الأجسام والوسائل بدقة وقاس وزن بعضها ببعض ، لحصل له حكم آخر بأن العلة فى طفو الخشب على الماء أن الخشب أخف وزناً من الماء. وتحصل له قاعدة عامة هى أن الجسم الجامد يطفو على السائل إذا كان أخف وزناً منه ، ويرسب إلى القعر إذا كان اثقل وزنا ، وإلى وسطه إذا ساواه في الوزن؛ فالحديد مثلاً يرسب في الماء، ويطفو فى الزئبق لأنّه أخف وزناً منه.

4 - المتواترات

وهي قضايا تسكن اليها النفس سكونا يزول معه الشك ويحصل الجزم القاطع ، وذلك

ص: 284

بواسطة اخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب ويمتنع اتفاق خطأهم في فهم الحادثة (1)كعلمنا بوجود البلدان النائية التي لم نشاهدها وبنزول القرآن الكريم على النبي محمد محمد صلّی الله عليه وآله وبوجود بعض الأمم السالفة أو الأشخاص.

وبعض حصر عدد المخبرين لحصول التواتر في عدد معين، وهو خطأ ، فإن المدار انّما هو حصول اليقين من الشهادات عندما يعلم امتناع التواطؤ على الكذب وامتناع خطأ الجميع . ولا يرتبط اليقين بعدد مخصوص من المخبرين تؤثر فيه الزيادة والنقصان .

5 - الحدسیات

وهي قضايا مبدأ الحكم بها حدس من النفس قوي جداً يزول معه الشك ويذعن الذهن بمضمونها ، مثل حكمنا بأن القمر وزهرة وعطارد وسائر الكواكب السيارة مستفادة نورها من نور الشمس، وإن انعكاس شعاع نورها إلى الأرض يضاهي انعكاس الأشعة من المرآة إلى الأجسام التي تقابلها. ومنشأ هذا الحكم أو الحدس اختلاف تشكلها عند اختلاف نسبتها من الشمس قرباً وبعداً. وكحكمنا بأن الأرض على هيئة الكرة، وذلك لمشاهدة السفن - مثلاً - في البحر أول ما يبدو منها أعاليها ثم تظهر بالتدريج كلّما قربت من

الشاطىء، وكحكم علماء الهيئة حديثا بدوران السيارات حول الشمس وجاذبية الشمس لها لمشاهدة اختلاف أوضاع هذه السيارات بالنسبة إلى الشمس والينا على وجه يثير

ص: 285


1- هذا القيد الأخير لم يذكره المؤلفون من المنطقيين والاصوليين وذكره - فيهما أرى - لازم ، نظراً إلى أن الناس المجتمعين كثيراً ما يخطئون في فهم الحادثة على وجهها ، حينما تقتضى الحادثة دقة الملاحظة . وقوانين علم الاجتماع تقضي بأن الجمهور لا تتأتى فيه الدقة في الملاحظة إذ سرعان ما تسري فيه العدوى والمحاكاة بعضهم لبعض، فإذا تأثر بعضهم بالحادث المشاهد قد يقلده غيره من الحاضرين بالتأثر من حيث لا يشعر فيسري إلى الآخرين. وعليه لا يحصل اليقين من إخبار جماعة يحتمل خطأهم في الملاحظة وإن حصل اليقين بعدم تعمدهم للكذب . لا ترى أن المشعوذين يأتون باعمال يبدو أنها خارقة للعادة فينخدع بها المتفرجون لأنهم لم يرزقوا ساعة الاجتماع دقة الملاحظة ولو انفرد الشخص وحده بمشاهدة المشعوذ لربما لا يشاهده يطحن الزجاج بأسنانه ويخرجه أبرا أو يطعن نفسه بمدية ولا يخرج الدم ، بل قد تنكشف له الحيلة بسهولة .

الحدس بذلك .

والحدسيات جارية مجرى المجربات في الأمرين المذكورين، أعني تكرر المشاهدة ومقارنة القياس الخفي، فانّه يقال في القياس مثلاً : هذا المشاهد من الاختلاف في نور القمر لو كان بالاتفاق أو بأمر خارج سوى الشمس لما استمر على نمط واحد على طول الزمن. ولما كان على هذه الصورة من الاختلاف فيحدس الذهن أن سببه انعكاس

اشعة الشمس عليه .

وهذا القياس المقارن للحدس يختلف باختلاف العلل في ماهياتها باختلاف الموارد ، وليس كذلك المجربات فإن لها قياساً واحداً لا يختلف ، لأن السبب فيها غير معلوم

الماهية الا من جهة كونه سببا فقط، وهذه الجهة لا تختلف باختلاف الموارد.

وذلك لأن الفرق بين المجربات والحدسيات أن المجربات انّما يحكم فيها بوجود سبب ما وأن هذا السبب موجود في الشيء الذي تتفق له هذه الظاهرة دائماً من غير تعيين لماهية السبب . أما في الحدسيات فانها بالاضافة إلى ذلك يحكم فيها بتعيين ماهية السبب انّه أي شيء هو ، وفي الحقيقة ان الحدسيات مجربات مع اضافة والاضافة هي الحدس بماهية السبب، ولذا ألحقوا الحدسيات بالمجربات. قال الشيخ العظيم الخواجهة نصير الدين الطوسي في شرح الاشارات: ان السبب في المجربات معلوم السببية غير معلوم الماهية وفي الحدسيات معلوم بالوجهين».

ومن مارس العلوم يحصل له من هذا الجنس على طريق الحدس قضايا كثيرة قد لا يمكنه إقامة البرهان عليها ولا يمكنه الشك فيها . كما لا يسعه أن يشرك غيره فيها بالتعليم والتلقين الا أن يرشد الطالب إلى الطريق التي سلكها . فإن استطاع الطالب بنفسه سلوك الطريق قد يفضيه إلى الاعتقاد إذا كان ذا قوّة ذهنية وصفاء نفس . فلذلك لو جحد مثل هذه القضايا جاحد، فإن الحادس يعجز عن اثباتها له على سبيل المذاكرة والتلقين ما لم يحصل للجاحد نفس الطريق إلى الحدس .

وكذلك المجربات والمتواترات لا يمكن اثباتها بالمذاكرة والتلقين ما لم يحصل

ص: 286

للطالب ما حصل للمجرب من التجربة وللمتقين بالخبر من التواتر . ولهذا يختلف الناس في الحدسيات والمجربات والمتواترات، وإن كانت كلّها من أقسام البديهيات. وليس كذلك الاوليات فإن الناس في اليقين بها شرع سواء ، وكذلك المحسوسات عند من كانوا صحيحي الحواس ومثلها الفطريات الآتى ذكرها .

6 - الفطريات

اشارة

وهي القضايا التي قياساتها معها ، أي ان الفعل لا يصدق بها بمجرد تصور طرفيها كالأوليات ، بل لا بد لها من وسط ، الا ان الوسط ليس مما يذهب عن الذهن حتى يحتاج إلى طلب وفكر ، فكلما أحضر المطلوب في الذهن حضر التصديق به لحضور الوسط معه .

مثل حكمنا بأن الاثنين خمس العشرة ، فإن هذا الحكم بديهي الا انه معلوم بوسط ، لأن الاثنين عدد قد انقسمت العشرة إليه وإلى أربعة أقسام أخرى كلّ منها يساويه ؛ وكل ما ينقسم عدد إليه وإلى أربعة أقسام أخرى كلّ منها يساويه فهو خمس ذلك العدد، فالاثنان خمس العشرة . ومثل هذا القياس حاضر في الذهن لا يحتاج إلى كسب و نظر . ومثل هذا القياس يجري في كلّ نسبة عدد إلى آخر ، غير ان هذه النسب يختلف بعضها عن بعض في سرعة مبادرة الذهن إلى المطلوب وعدمها بسبب قلّة الاعداد وزيادتها، أو بسبب عادة الإنسان على التفكر فيها وعدمه. فأنّك ترى الفرق واضحاً في سرعة انتقال بين نسبة 2 إلى 4 وبين نسبة 13 إلى 26 ، مع ان النسبة واحدة وهي النصف. أو بين نسبة 3 إلى 12 وبين نسبة 17 إلى 68 مع ان النسبة واحدة هي الربع ... وهكذا .

ص: 287

تمرينات

1 - بين أي قسم من البديهات الست يشترك في معرفتها جميع الناس، وأي قسم

منها يجوز ان يختلف في معرفتها الناس.

2 - هل يضر في بداهة الشيء أن يجهله بعض الناس ؟ ولماذا ؟ راجع بحث البديهي -

في الجزء الأوّل .

3- ارجع إلى ما ذكرناه في الجزء الأوّل من أسباب التوجه لمعرفة البديهي . وبين حاجة كلّ قسم من البديهيات الست إلى أي سبب منها . ضع ذلك في جدول .

4 - عين كل مثال من الأمثلة الآتية أنه من أي الأقسام السنة وهي:

أ - ان لكل معلول علّة .

ب - لا يتخلف المعلول عن العلة .

ج - يستحيل تقدم المعلول على العلّة .

د- يستحيل تقدم الشيء على نفسه .

ه- - الضدان لا يجتمعان .

و - الظرف أوسع من المظروف .

ز - الصلاة واجبة في الاسلام.

ح - السماء فوقنا والأرض تحتنا.

ط - إذا انتفى اللازم انتفى الملزوم

ي - الثلاثة لا تنقسم بمتساويين.

يا - انتفاء الملزوم لا يلزم منه انتفاء اللازم لجواز كونه أعم.

يب - نقيضا المتساويين متساويان.

ص: 288

5 - يقول المنطقيون ان انتاج الشكل الأول بديهي، فمن أي البديهات هو ؟

6 - بنى علماء الرياضيات جميع براهينهم على مبادىء بسيطة يدركها العقل لأول وهلة يسمونها البديهيات نذكر بعضها ، فبين انها من أي أقسام البديهيات الست وهي :

أ - إذا أضفنا أشياء متساوية إلى اخرى متساوية كانت النتائج متساوية.

ب - إذا طرحنا أشياء متساوية من أخرى متساوية كانت البواقي متساوية.

ج - المضاعفات الواحدة للأشياء المتساوية تكون متساوية، فإن كان شيئان متساويين كان ثلاثة أمثال أحدهما مساوياً لثلاثة أمثال الآخر.

د - إذا انقسم كلّ من الأشياء المتساوية إلى عدد واحد من أجزاء متساوية كانت هذه

الأجزاء في الجميع متساوية .

ه- الأشياء التي يمكن ان ينطبق كلّ منها على الآخر انطباقاً تاماً فهي متساويةكانت.

راجع بحث البديهية المنطقية آخر الباب الرابع (في الجزء2) تجد توضيح بعض هذه

البديهيات الرياضية .

ص: 289

2 - المظنونات

مأخوذة من الظن . والظن في اللغة أعم من اصطلاح المنطقيين هنا ، فإن المفهوم منه لغة حسب تتبع موارد استعماله هو الاعتقاد فى غائب بحدس أو تخمين من دون مشاهدة أو دليل أو برهان، سواء كان اعتقاداً جازماً مطابقاً للواقع ولكن غير مستند إلى علته كالاعتقاد تقليداً للغير، أو كان اعتقاداً جازماً غير مطابق للواقع وهو الجهل المركب، أو كان اعتقاداً غير جازم بمعنى ما يرجح فيه أحد طرفي القضية النفي أو الاثبات مع تجويز الطرف الآخر . وهو يساوق الظن بالمعنى الأخص باصطلاح المنطقيين المقابل لليقين بالمعنى الأعم.

والظن المقصود به باصطلاح المناطقة هو المعنى الأخير فقط، وهو ترجيح أحد طرفي القضية النفي أو الاثبات مع تجويز الطرف الآخر . وهو الظن بالمعنى الأخص. فالمظنونات - على هذا - هي قضايا يصدق بها اتباعاً لغالب الظن مع تجويز نقيضه ، كما يقال مثلاً : فلان يسار عدوِّي فهو يتكلم عليَّ ، أو فلان لا عمل له فهو سافل، أو فلان ناقص الخلقة فى أحد جوارحه ففيه مركب النقص.

ص: 290

3- المشهورات

اشارة

وتسمّى الذايعات أيضاً.

وهي قضايا اشتهرت بين الناس وذاع التصديق بها عند جميع العقلاء أو أكثرهم أو طائفة خاصة . وهي على معنيين :

1 - المشهورات بالمعنى الأعم، وهي التي تطابقت على الاعتقاد بها آراء العقلاء كافة ، وإن كان الذي يدعو إلى الاعتقاد بها كونها أولية ضرورية في حد نفسها ولها واقع وراء تطابق الآراء عليها . فتشمل المشهورات بالمعنى الأخص الآتية وتشمل مثل الأوليات والفطريات التي هي من قسم اليقينيات البديهية.

وعلى هذا فقد تدخل القضية الواحدة مثل قولهم: «الكل أعظم من الجزء» ف--ي اليقينيات من جهة، وفي المشهورات من جهة أخرى.

2 - المشهورات بالمعنى الأخص أو المشهورات الصرفة ، وهى أحق بصدق وصف الشهرة عليها لأنها القضايا التي لا عمدة لها في التصديق الا الشهرة وعموم الاعتراف بها، كحسن العدل وقبح الظلم ، وكوجوب الذب عن الحرم واستهجان ايذاء الحيوان لا لغرض.

فلا واقع لهذه القضايا وراء تطابق الآراء عليها ، بل واقعها ذلك ؛ فلو خلي الإنسان وعقله المجرد وحشه ووهمه ولم تحصل له أسباب الشهرة الآتية ، فانه لا يحصل له حكم بهذه القضايا ولا يقضي عقله أو حسّه أو وهمه فيها بشيء. ولا ينافي ذلك أنه بنفسه يمدح العادل ويذمّ الظالم ولكن هذا غير الحكم بتطابق الآراء عليها . وليس كذلك حال حكمه بأن الكلّ أعظم من الجزء كما تقدم ؛ فانّه لو خلي ونفسه كان له هذا الحكم. وعلى هذا فيكون

ص: 291

الفرق بين المشهورات واليقينيات - مع ان كلا منها تفيد تصديقاً جازماً - أن المعتبر في اليقينيات كونها مطابقة لما عليه الواقع ونفس الأمر المعبر عنه بالحق واليقين، والمعتبر في المشهورات مطابقتها لتوافق الآراء عليها ، إذ لا واقع لها غير ذلك. وسيأتي ما يزيد هذا المعنى توضيحاً.

ولذلك ليس المقابل للمشهور هو الكاذب ، بل الذي يقابله الشنيع ، وهو الذي ينكره

الكافة أو الأكثر . ومقابل الكاذب هو الصادق.

أقسام المشهورات

اعلم أن المشهورات قد تكون مطلقة وهي المشهورة عند الجميع ، وقد تكون محدودة وهي المشهورة عند قوم دون قوم كشهرة امتناع التسلسل عند المتكلمين(1)وتنقسم أيضاً إلى جملة أقسام بحسب اختلاف أسباب الشهرة وهي حسب الاستقراء يمكن عد أكثرها كما يلي :

1 - الواجبات القبول

وهي ما كان السبب في شهرتها كونها حقاً جلياً، فيتطابق من أجل ذلك على الاعتراف بها جميع العقلاء كالاوليات والفطريات ونحوهما. وهي التي تسمّى بالمشهورات بحسب المعنى الأعم كما تقدم، من جهة عموم الاعتراف بها .

2- التأديبات الصلاحية

وتسمّى المحمودات والآراء المحمودة وهي ما تطابق عليها الآراء من أجل قضاء

ص: 292


1- وتنقسم أيضاً إلى حقيقية وظاهرية وشبيهة بالمشهورات وسيأتي بيانها في صناعة الجدل (المبحث السابع من الباب الأول) كما سيأتي هنا زيادة توضيح عن المشهورات

المصلحة العامة للحكم بها باعتبار أن بها حفظ النظام وبقاء النوع، كقضية حسن العدل وقبح الظلم، ومعنى حسن العدل أن فاعله ممدوح لدى العقلاء ومعنى قبح الظلم أن فاعله مذموم لديهم. وهذا يحتاج إلى التوضيح والبيان، فنقول :

ان الإنسان إذا أحسن إليه أحد بفعل يلائم مصلحته الشخصية فانّه يثير في نفسه الرضا عنه، فيدعوه ذلك إلى جزائه ، واقل مرتبة المدح على فعله ، وإذا أساء إليه أحد بفعل لا يلائم مصلحته الشخصية فانّه يثير في نفسه السخط عليه، فيدعوه ذلك إلى التشفي منه والانتقام ، وأقل مراتبه ذمه على فعله .

وكذلك الإنسان يصنع إذا أحسن أحد بفعل يلائم المصلحة العامة من حفظ النظام الاجتماعي وبقاء النوع الانساني، فانّه يدعوه ذلك إلى جزائه وعلى الأقل يمدحه ويثني عليه ، وإن لم يكن ذلك الفعل يعود بالنفع لشخص المادح ، وانّما ذلك الجزاء لغاية حصول تلك المصلحة العامة التي تناله بوجه. وإذا اساء أحد بفعل لا يلائم المصلحة العامة ويخل بالنظام وبقاء النوع ، فإن ذلك يدعو إلى جزائه بذمه على الأقل ، وإن لم يكن يعود ذلك الفعل بالضرر على شخص ،الذام، وانّما ذلك لغرض دفع المفسدة العامة التي يناله ضررها بوجه.

وكل عاقل يحصل له هذا الداعي للمدح والذم لغرض تحصيل تلك الغاية العامة، وهذه القضايا التي تطابقت عليها آراء العقلاء من المدح والذم لأجل تحصيل المصلحة العامة تسمّى الآراء المحمودة والتاديبات الصلاحية وهي لا واقع لها وراء تطابق آراء العقلاء . وسبب تطابق آرائهم شعورهم جميعاً بما في ذلك من مصلحة عامة .

وهذا هو معنى التحسين والتقبيح العقليين اللذين وقع الخلاف في اثباتهما بين الاشاعرة والعدلية ، فنفتهما الفرقة الاولى واثبتتهما الثانية . فإذ يقول العدلية بالحسن والقبح العقليين يريدون أن الحسن والقبح من الآراء المحمودة والقضايا المشهورة التي تطابقت عليها الآراء لما فيها من التأديبات الصلاحية، وليس لها واقع وراء تطابق الآراء(1).

ص: 293


1- راجع عن توضيح هذا البحث كتاب اصول الفقه للمؤلف في مبحث الملازمات العقلية، ففيه غنى للطالب ان شاء الله تعالى

والمراد من العقل إذ يقولون أن العقل يحكم بحسن الشيء أو قبحه هو العقل العملي

ويقابله العقل النظري والتفاوت بينهما إنّما هو بتفاوت المدركات، فإن كان المدرك مما ينبغي ان يعلم مثل قولهم : الكلّ أعظم من الجزء الذي لا علاقة له بالعمل يسمّى ادراكه عقلاً نظرياً . وإن كان المدرك مما ينبغي أن يفعل ويؤتي به أو لا يفعل مثل حسن العدل وقبح الظلم ، يسمّى ادراكه عقلاً عملياً.

ومن هذا التقرير يظهر كيف اشتبه الأمر على من نفى الحسن والقبح في استدلالهم على ذلك، بأنه لو كان الحسن و القبح عقليين لما وقع التفاوت بين هذا الحكم وحكم العقل بأن الكل أعظم من الجزء ، لأن العلوم الضرورية لا تتفاوت.

ولكن لا شك بوقوع التفاوت بين الحكمين عند العقل .

وقد غفلوا في استدلالهم إذ قاسوا قضية الحسن و القبح على مثل قضية الكل أعظم من الجزء . وكأنّهم ظنوا أن كلّ ما حكم به العقل فهو من الضروريات، مع أن قضية الحسن والقبح من المشهورات بالمعنى الأخص ومن قسم المحمودات خاصة، والحاكم بها هو العقل العملي وقضية الكل أعظم من الجزء من الضروريات الاولية والحاكم بها هو العقل النظري وقد تقدم الفرق بين العقلين كما تقدم الفرق بين المشهورات والضروريات. فكان قياسهم قياساً مع الفارق العظيم، والتفاوت واقع بينهما لا محالة ، ولا يضر هذا في ك--ون الحسن و القبح عقليين، فأنّه اختلط عليهم معنى العقل الحاكم في مثل هذه القضايا، فظنوه شيئاً واحداً، كما لم يفرقوا بين المشهورات واليقينيات فحسبوهما شيئاً واحداً، مع انهما قسمان متقابلان.

3 - الخلقيات

وتسمّى الآراء المحمودة أيضاً وهي . دة أيضاً وهى - حسب تعريف المنطقيين - ماتطابق عليه آراء العقلاء من أجل قضاء الخلق الانساني بذلك ؛ كالحكم بوجوب محافظة الحرم أو الوطن ، وكالحكم بحسن الشجاعة والكرم وقبح الجبن والبخل .

ص: 294

والخلق ملكة في النفس تحصل من تكرر الأفعال الصادرة من المرء على وجه يبلغ درجة يحصل منه الفعل بسهولة، كالكرم فإنّه لا يكون خلقاً للإنسان الا بعد أن يتكرر منه فعل العطاء بغير بدل حتى يحصل منه الفعل بسهولة من غير تكلف .

أقول: هكذا عرفوا الخلقيات والخلق، فجعلوا السبب في حصول الشهرة فيها هو الخلق بهذا المعنى باعتباره داعياً للعقل العملي إلى ادراك أن هذا مما ينبغي فعله أو مما ينبغي تركه . ولكنا إذا دققنا - نجد أن الاخلاق الفاضلة غير عامة عند الجمهور ، بل القليل منهم من يتحلّى بها ، مع أنّه لا ينكر أن الخلقيات مشهورة يحكم بها حتى من لم يرزق الخلق الفاضل ؛ فإن الجبان يرى حسن الشجاعة ويمدح صاحبها ويتمناها لنفسه إذا رجع إلى نفسه وأصغى اليها ، ولكنه يجبن في موضع الحاجة إلى الشجاعة، وكذلك البخيل والمتكبر والكاذب . ولو كان الخلق بذلك المعنى هو السبب للحكم فيها لحكم الجبان بحسن الجبن وقبح الشجاعة والبخيل بقبح الكرم وحسن الامساك والكذاب بقبح الصدق وحسن الكذب ... وهكذا .

والصحيح في هذا الباب أن يقال : إن الله تعالى خلق في قلب الإنسان حسّاً وجعله حجة عليه يدرك به محاسن الأفعال ومقابحها، وذلك الحسُّ هو الضمير بمصطلح علم الأخلاق الحديث، وقد يسمّى بالقلب أو العقل العملي أو العقل المستقيم أو الحسّ السليم عند قدماء الأخلاق . وتشير إليه كتب الأخلاق عندهم.

فهذا الحسّ في القلب أو الضمير هو صوت الله المدويّ في دخيلة نفوسنا يخاطبها به ويحاسبها عليه، ونحن نجده كيف يؤنب مرتكب الرذيلة ويقرّ عين فاعل الفضيلة، وهو موجود في قلب كلّ إنسان، وجميع الضمائر تتحد في الجواب عند استجوابها عن الأفعال، تشترك جميعا فى التمييز بين الفضيلة والرذيلة، وإن اختلفت في قوة هذا التمييز

وضعفه ، كسائر قوى النفس إذ تتفاوت في الأفراد قوة وضعفاً.

ولأجل هذا كانت الخلقيات من المشهورات ، وإن كانت الأخلاق الفاضلة ليست عامة بين البشر ، بل هي من خاصة الخاصة .

ص: 295

نعم الاصغاء إلى صوت الضمير والخضوع له لا يسهل على كلّ إنسان الا بالانقطاع إلى دخيلة نفسه والتحول عن شهواته وأهوائه. كما أن الخلق عامة لا يحصل له وإن كان له ذلك الاصغاء الا بتكرر العمل واتخاذه عادة حتّى تتكوّن عنده ملكة الخلق التي يسهل معها الفعل . وبالأخص الخلق الفاضل، فإن افعاله التي تحققه تحتاج إلى مشقة وجهاد ورياضة، لأنه دائماً في حرب مع الشهوات والرغبات . وليس الظفر الا بعد الحرب.

4 - الانفعاليات

وهي التي يقبلها الجمهور بسبب إنفعال نفساني عام، كالرقة والرحمة والشفقة والحياء والانفة والحمية والغيرة، ونحو ذلك من الانفعالات التي لا يخلو منها انسان غالباً. فترى الجمهور يحكم - مثلاً - بقبح تعذيب الحيوان لا لفائدة، وذلك اتباعاً لما ف--ي الغريزة من الرقة والرحمة. بل الجمهور بغريزته يحكم بقبح تعذيب ذي الروح مطلقاً وإن كان لفائدة لولا أن تصرف عنه الشرايع والعادات.

والجمهور يمدح من يعين الضعفاء والمرضى ويعني برعاية الايتام والمجانين لانه مقتضى الرحمة والشفقة ، كما يحكم بقبح كشف العورة لأنه مقتضى الحياء ويمدح المدافع عن الأهل والعشيرة أو الوطن والأمة لأنه مقتضى الحمية والغيرة ... إلى غير ذلك من

الأحكام العامة عند الناس.

5- العاديات

وهي التي يقبلها الجمهور بسبب جريان العادة عندهم كاعتيادهم احترام القادم ، بالقيام والضعيف بالضيافة والرجل الدينى أو الملك بتقبيل يده فيحكمون لأجل ذلك بوجوب هذه الأشياء لمن يستحقها.

والعادات العامة كثيرة، وقد تكون عادة لأهل بلد فقط أو قطر أو أمة أو جميع الناس،

فتختلف لأجلها القضايا التي يحكم بها حسب سب ،العادة فتكون مشهورة عند أهل بلد أو قطر

ص: 296

أو أمّة غير مشهورة عند غيرهم، بل يكون المشهور ضدها .

والناس يمدحون المحافظ على العادات، ويذمون المخالف المستهين بها . سواء كانت العادات سيئة أو حسنة ، فنراهم يذمون من يرسل لحيته إذا كانوا اعتادوا حلقها ويذمون الحليق لأنّهم اعتادوا ارسالها. ونراهم يذمون من يلبس غير المألوف لمجرد أنهم لم يعتادوا لبسه .

ومن أجل ذلك نرى الشارع حرَّم لباس الشهرة، والظاهر أن سرّ التحريم ان لباس الشهرة يدعو إلى اشمئزاز الجمهور من اللابس وذمهم له . وأهم اغراض الشارع الإلفة بين الناس وتقاربهم واجتماع كلمتهم. وورد عنه : «رحم الله امرءاً جبّ الغيبة عن نفسه».

كما ورد في الشريعة الاسلامية المطهرة ان منافيات المروة مضرة في العدالة كالأكل حال المشي في الطريق العام أو السوق والجلوس في الأماكن العامة كالمقاهي لشخص ليس من عادة صنفه ذلك . وما منافيات المروّة الا منافيات العادة المألوفة .

6 - الاستقرائيات

وهي التي يقبلها الجمهور بسبب استقرائهم التام أو الناقص ، كحكمهم بأن تكرار الفعل الواحد ممل، وإن الملك الفقير لابد أن يكون ظالماً ، إلى كثير من أمثال ذلك من القضايا الاجتماعية والأخلاقية ونحوها .

وكثيراً ما يكتفى عوام الناس وجمهورهم بوجود مثال واحد أو أكثر للقضية، فتشتهر بينهم عندما لم يقفوا على نقض ظاهر لها ، كتشاؤم الأوربيين من رقم «13» لان واحداً منهم أو أكثر اتفق له أن نكب عندما كان له هذا الرقم، وكتشاؤم العرب من نعاب الغراب وصيحة البون ذلك، ومثل هذا كثير عند الناس.

ص: 297

4 - الوهميات

والمقصود بها القضايا الوهمية الصرفة. وهي قضايا كاذبة الا أن الوهم يقضي بها قضاء شديد القوّة ، فلا يقبل ضدها وما يقابلها حتى مع قيام البرهان على خلافها . فإن العقل يؤمن بنتيجة البرهان ولكن الوهم يعاند ولا يزال يتمثل ما قام البرهان على خلافه كما ألفه ، ممتنعا من قبول خلافه.

ولذا تعدّ الوهميات من المعتقدات :

الا ترى أن وهم الأكثر يستوحش من الظلام ويخاف منه ، مع ان العقل لا يجد فرقاً في المكان بين أن يكون مظلماً أو منيراً، فإن المكان هو المكان في الحالين، وليس للظلمة تأثير فيه يوجب الضرر أو الهلاك ، ويخاف أيضاً من الميت وهو جماد لا يتحرك ولا يضر ولا ينفع ، ولو عادت إليه الحياة - فرضاً فهو إنسان مثله كما كان حياً، وقد يكون من أحب الناس إليه .

ومع توجه إلى هذه البديهة العقلية ينكرها الوهم ويعاند ، فيستولي على النفس ؛ فقد تضطرب من الظلمة ومن الميت، لأن البديهة الوهمية اقوى تأثيراً على النفس من البرهان.

ولأجل أن يتضح لك هذا الأمر جرّب نفسك واسأل اصدقاءك : كيف يتمثل لاحدكم في وهمه دورة شهور السنة ؟ تأمل ما أريد أن أقول لك. فإن الإنسان - على الأكثر - لا بد أن يتوهم دورة شهور السنة أو ايامها بشكل محسوس من الأشكال الهندسية. تأمل في نفسك جيداً أنّه لا بدّ أنّه تتوهم هذه الدورة على شكل دائرة منتظمة ، أو غير منتظمة، أو مضرساً بعدد الشهور، أو شكلاً مضلعاً متساوي الاضلاع أو غير منتظم في أضلاع أربعة أو أكثر أو

ص: 298

أقل. مع ان السنة ودورة أيامها وشهورها من المعاني المجردة غير المحسوسة. وهذا واضح للعقل، غير ان الوهم إذا خطرت له السنة تمثلها في شكل هندسي وهمي يخترعه في أيّام طفولته من حيث لا يشعر ، ويبقى وهمه معانداً مصراً على هذا التمثيل الكاذب . ولعلم الإنسان بكذب هذا الوهم وسخافته قد يخجل من ذكره لغيره ولكنه لا ينفك عنه في سرّه . وانّما إذكر هذا المثال لأنه يسير لاخطر في ذكره وهو يؤدى الغرض من ذكره. والسرّ في ذلك أن الوهم تابع منقاد للحس ومكبل به، فما لا يقبله الحس لا يقبله الوهم الا لابساً ثوب المحسوس ، وان كانت له قابلية ادراك المجردات عن الحس كقابليته لادراك المحسوسات.

فإذا كانت أحكام الوهم جارية فى نفس المحسوسات فإن العقل يصدقه فيها فيتطابقان في الحكم ، كما في الأحكام الهندسية، ومثل ما إذا حكم الوهم بأن هذين الجسمين لا يحلان في مكان واحد بوقت واحد، فإن العقل أيضاً يساعده فيه لحكمه بأن كل جسمين مطلقاً كذلك، فيتطابقان .

وإذا كانت أحكامه في غير المحسوسات، وهي التي نسميها بالقضايا الوهمية الصرفة ، فلا بد أن تكون كاذبة لاصرار الوهم على تمثيلها على نهج المحسوسات وهي بحسب ضرورة العقل ليست منها، كما سبق في الأمثلة المتقدّمة ؛ فإن العقل هو الذي ينزع

عنها ثوب الحس الذي أضفاه عليها الوهم .

ومن أمثلة ذلك حكم الوهم بأن كل موجود لا بد أن يكون مشاراً إليه وله وضع وحيز . ولا يمكنه أن يتمثله الا كذلك ، حتى انه يتمثل الله تعالى في مكان مرتفع علينا، وربما كانت له هيئة إنسان مثلاً. ويعجز أيضاً عن تمثيل القبلية والبعدية غير الزمانية، ويعجز عن تمثيل اللانهائية، فلا يتمثل عنده كيف انه تعالى كان وليس معه شيء حتى الزمان ، وأنه سرمدي لا أول لوجوده ولا آخر . وان كان العقل - حسبما يسوق إليه البرهان - يستطيع أن يؤمن بذلك ويصدق به تصديقاً لا يتمثل فى النفس، لأن الوهم له السيطرة والاستيلاء عليها من هذه الجهة .

ص: 299

فإن كان الوهم مسيطراً على النفس على وجه لا يدع لها مجالاً للتصديق بوجود مجرد عن الزمان والمكان ، فإن العقل عندما يمنعها من تجسيمه وتمثيله كالمحسوس تهرب النفس من حكم العقل وتلتجىء إلى أن تنكر وجوده رأساً شأن الملحدين.

ومن أجل هذا كان الناس - لغلبة الوهم على نفوسهم - بين مجسم وملحد . وقلّ من يتنور بنور العقل ويجرد نفسه عن غلبة أوهامها ، فيسمو بها إلى ادراك ما لا يناله الوهم . ولذا قال تعالى في كتابه المجيد: «وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين» فنفى الايمان عن أكثر الناس. ثم هؤلاء المؤمنون القليلون قال عنهم : «وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون» يعني أنّهم في حين ايمانهم هم مشركون . وما ذلك إلا لأنهم لغلبة الوهم أنّما يعبدون الأصنام التي ينحتونها بأوهامهم، والأكيف يجتمع الايمان والشرك في آن واحد إذا اريد بالشرك من الآية معناه المعروف وهو العبادة للأصنام الظاهرية.

والخلاصة : ان القضايا الوهمية الصرفة التي نسميها الوهميات هي عبارة عن أحكام الوهم في المعاني المجردة عن الحسّ . وهي قضايا كاذبة لا ظل لها من الحقيقة، ولكن بديهة الوهم لا تقبل سواها. ولذلك يستخدمها المغالط في اقيسته، كما سيأتي في صناعة المغالطة الا ان العقل السليم من تأثير الوهم يتجرّد عنه ولا يخضع لحكمه ، فيكشف كذب أحكامه للنفس.

ص: 300

5 - المسلمات

وهي قضايا حصل التسالم بينك وبين غيرك على التسليم بأنها صادقة ، سواء كانت

صادقة في نفس الأمر ، أو كاذبة كذلك ، أو مشكوكة.

والطرف الآخر ان كان خصماً فإن استعمال المسلمات في القياس معه يراد به افحامه وان مستر شداً فانّه يراد به ارشاده واقناعه ليحصل له الاعتقاد بالحق بأقرب طريق عندما لا يكون مستعداً لتلقي البرهان وفهمه.

ثم ان المسلمات إما عامة سواء كان التسليم بها من الجمهور عندما تكون من المشهورات أو كان التسليم بها من طائفة خاصة كأهل دين أو ملة أوعلم خاص. وخصوص هذه المسلمات في علم خاص تسمّى الاصول الموضوعة لذلك العلم ، عندما يكون التسليم بها عن مسامحة على سبيل حسن الظن من المتعلم بالمعلم. وهذه الاصول الموضوعة هي مبادىء ذلك العلم التي تبتني عليها براهينه وان كان قد يبرهن عليها في علم آخر ، وأما إذا كان التسليم بها من المتعلم من باب المجاراة مع الاستنكار والتشكيك بها كما يقع ذلك في المجادلات فتسمى حينئذ المصادرات.

وإما خاصة إذاكان التسليم بها من شخص معين وهو طرفك الآخر في مقام الجدل والمخاصمة، كالقضية التي تؤخذ من اعترافات الخصم ليبتني عليها الاستدلال في ابطال

مذهبه أو دفعه .

ص: 301

6 - المقبولات

وهي قضايا مأخوذة ممن يوثق بصدقه تقليداً، أما لأمر سماوي كالشرايع والسنن المأخوذة عن النبي والامام المعصوم ، واما لمزيد عقله وخبرته كالمأخوذات من الحكماء وأفاضل السلف والعلماء الفنيين من آراء في الطب أو الاجتماع أو الأخلاق أو نحوها ، وكأبيات تورد شواهد لشاعر معروف، وكالأمثال السائرة التي تكون مقبولة عند الناس وإن لم تؤخذ من شخص معين وكالقضايا الفقهية المأخوذة تقليداً عن المجتهد .

ان هذه القضايا وأمثالها هى من أقسام المعتقدات ، والاعتقاد بها إما على سبيل القطع أو الظنّ الغالب، ولكن - على كل حال - منشأ الاعتقاد بها هو التقليد للغير الموثوق بقوله

كما قدمنا . وبهذا تفترق عن اليقينيات والمظنونات.

وقد تكون قضية واحدة يقينية عند شخص ومقبولة عند شخص آخر باعتبارين، كما قد تكون من المشبهات أو المسلمات باعتبار ثالث أو رابع... وهكذا.

ص: 302

7- المشبهات

وهي قضايا كاذبة يعتقد بها ، لأنها تشبه اليقينيات أو المشهورات في الظاهر ، فيغالط فيها المستدل غيره لقصور تمييز ذلك الغير بين ما هو هو وبين ما هو غيره، أو لقصور نفس المستدل ، أو لغير ذلك .

والمشابهة اما من ناحية لفظية مثل ما لو كان اللفظ مشتركا أو مجازاً فاشتبه الحال

فيه ، وأما من ناحية معنوية مثل ما لو وضع ما ليس بعلة علة ونحو ذلك . وتفصيل أسباب الاشتباه يأتي في صناعة المغالطة، لأن مادة المغالطة هي المشبهات والوهميات . وأهمها المشبهات .

ص: 303

8 - المخيلات

وهي قضايا ليس من شأنها أن توجب تصديقاً ، الا انها توقع في النفس تخييلات تؤدي إلى انفعالات نفسية ، من انبساط في النفس أو انقباض ، ومن استهانة بالأمر الخطير أو تهويل أو تعظيم للشيء اليسير ، ومن سرور وانشراح أو حزن وتألم، ومن شجاعة وإقدام أو جبن واحجام.

وتأثير هذه القضايا التى هى مواد صناعة الشعر كما سيأتي) في النفس ناشيء من تصویرالمعنى بالتعبير تصويراً خيالياً خلاباً وإن كان لا واقع له .

وكلّما استعملت المجازات والتشبيهات والاستعارات وأنواع البديع في مثل هذه القضايا كانت أكثر تأثيراً في النفس، لأن هذه المزايا تضفي على الألفاظ والمعاني جمالاًيستهوي المشاعر ويثير التخيلات. وإذا انضم اليها الوزن والقافية أو التسجيع والازدواج زاد تأثيرها. ثم يتضاعف الأثر إذا كان الصوت المودي لها رقيقاً ومشتملاً على نغمة موسيقية مناسبة للوزن ونوع التخييل .

كل ذلك يدل على أن المخيلات ليس تأثيرها في النفس لأجل كونها تتضمن حقيقة يصدق بها ، بل حتى لو علم كذبها فإن لها ذلك التأثير المنتظر منها . وما ذلك الا لأن التصوير فيها للمعنى مع ما ينضم إليه من مساعدات هو الذي يستهوي النفس ويؤثر فيها. وسيأتي تفصيل ذلك في صناعة الشعر .

وبهذا ينتهي ما اردناه من الكلام على مواد الاقيسة في هذه المقدمة . ولا بد قبل الدخول في الصناعات الخمس من بيان الحصر فيها وبيان فائدتها على الاجمال ؛فنقول:

ص: 304

أقسام الأقيسة بحسب المادة

اشارة

تقدم فى التمهيد لهذا الباب أن القياس بحسب اختلاف المقدمات من حيث المادة وبحسب ما تؤدي إليه من نتائج وبحسب أغراض تاليفها، ينقسم إلى البرهان والجدل

والخطابة والشعر والمغالطة .

بیان ذلك : إن القياس - بحسب اختلاف المقدّمات من جهة كونها يقينية أو غير يقينية

- أما ان يفيد تصديقاً وأمّا تأثيراً آخر غير التصديق من التخيل والتعجب ونحوهما.

ثم الأوّل إمّا أن يفيد تصديقاً جازماً لا يقبل احتمال الخلاف أو تصديقاً غير جازم يجوز فيه الخلاف أي ظنياً. ثم ما يفيد تصديقاً جازماً أما أن يعتبر فيه أن يكون تأليفه لغرض أن ينتج حقاً أم لا. ثم ما يعتبر فيه انتاج الحق إما أن تكون النتيجة حقاً واقعاً أم لا.

فهذه خمسة أنواع

1 - ما يفيد تصديقاً جازماً وكان المطلوب حقاً واقعاً، وهو البرهان والغرض منه معرفة الحق من جهة ماهو حق واقعاً .

2 - ما يفيد تصديقاً جازماً ، وقد اعتبر فيه ان يكون المطلوب حقاً ولكنه ليس بحق

واقعاً. وهو المغالطة.

3 - ما يفيد تصديقاً جازماً ولكن لم يعتبر فيه ان يكون المطلوب حقاً، بل المعتبر فيه

عموم الاعتراف أو التسليم، وهو الجدل. والغرض منه افحام الخصم والزامه .

4 - ما يفيد تصديقا غير جازم، وهو الخطابة والغرض منه اقناع الجمهور.

ص: 305

5 - ما يفيد غير التصديق من التخيل والتعجب ونحوهما ، وهو الشعر والغرض منه

حصول الانفعالات النفسية.

ثم ان البحث عن كلّ واحد من هذه الصناعات الخمس أو القدرة على استعمالها عند

الحاجة يسمّى صناعة، فيقال : صناعة البرهان وصناعة المغالطة ... الخ .

والصناعة اصطلاحاً ملكة نفسانية وقدرة مكتسبة يقتدر بها على استعمال أمور لغرض من الأغراض صادراً ذلك الاستعمال عن بصيرة بحسب الامكان ، كصناعة الطب والتجارة والحكاية مثلاً. ولذا من يغلط في اقيسته لا عن بصيرة ومعرفة بموقع الغلط لا يقال ان عنده صناعة المغالطة، بل من عنده الصناعة هو الذي يعرف أنواع المغالطات ويميز بين القياس الصحيح من غيره ويغالط في اقيسته عن عمد وبصيرة.

والصناعة على قسمين علمية وعملية ، وهذه الصناعات الخمس من الصناعات العلمية النافعة، وسيأتي في البحث الآتي بيان فائدتها .

ص: 306

الخلاصة :

الصورة

ص: 307

فائدة الصناعات الخمس على الاجمال

أمّا منافع هذه الصناعات الخمس والحاجة اليها ، فإن صناعتي البرهان والمغالطة تختص فائدتهما على الأكثر بمن يتعاطى العلوم النظرية ومعرفة الحقائق الكونية، ولكن منفعة صناعة البرهان له فبالذات كمعرفة الأغذية في نفعها لصحة الإنسان، ومنفعة صناعة المغالطة له فبالعرض كمعرفة السموم في نفعها للاحتراز عنها .

وأما الثلاث الباقية، فإن فائدتها عامة للبشر وتدخل فى أكثر المصالح المدنية والاجتماعية. وأكثر ما تظهر فائدة صناعة الجدل لأهل الأديان وعلماء الفقه وأهل

المذاهب السياسية لحاجتهم إلى المناظرة والنقاش .

وأكثر ما تظهر فائدة صناعتي الخطابة والشعر للسياسيين وقواد الحروب ودع--اةالاصلاح لحاجتهم إلى اقناع الجمهور ورضاهم وبعث الهمم فيهم وتحريض الجنود والاتباع على الاقدام والتضحية . بل كلّ رئيس وصاحب دعوة حقة أو باطلة لا يستغني عن استعمال هذه الصناعات الثلاث للتأثير على أتباعه ومريديه ولتكثير أنصاره.

ومن العجب اهمال أكثر المؤلفين في المنطق بحث هذه الصناعات، تفريطاً بغير وجه مقبول ، الا أولئك الذين ألفوا المنطق مقدمة للفلسفة ، فإن من حقهم أن يقتصروا على مباحث البرهان والمغالطة ، كما صنع صاحب الاشارات والحاج هادي السبزواري في منظومته، إذ لا حاجة لهم في باقي الصناعات.

وأهم ما يحتاج إليه منها ثلاث : البرهان والجدل والخطابة. وقد ورد في القرآن الكريم الترغيب في استعمال الاساليب الثلاثة في الدعوة الالهية وذلك قوله تعالى: «وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن»، فإن الحكمة هی البرهان، والموعظة الحسنة من صناعة الخطابة، ومن آداب الجدل أن يكون بالتي هي

أحسن.

هذا كلّ ما أردنا ذكره في المقدمة. وقد آن الشروع في بحث هذه الصناعات في

خمسة فصول. وعلى الله التكلان.

ص: 308

الفصل الاوّل : صناعة البرهان

اشارة

ص: 309

ص: 310

1-حقيقة البرهان

ان العلوم الحقيقية التى لا يراد بها الا الحق الصراح لا سبيل لها الاسبيل البرهان لأنه هو وحده - من بين أنواع القياس الخمسة - يصيب الحق ويستلزم اليقين بالواقع. والغرض منه معرفة الحق من جهة ما هو حق، سواء كان سعى الإنسان للحق لأجل نفسه ليناجيها به ولیعمر عقله بالمعرفة ، أو لغيره لتعليمه وارشاده إلى الحق.

ولذلك يجب على طالب الحقيقة الا يتبع الا البرهان ، وان استلزم قولا لم يقل به أحد

.قبله .

وقد عرفوه بأنه : «قياس مؤلف من يقينيات ينتج يقيناً بالذات اضطراراً» وهو نعم

التعريف سهل واضح مختصر .

ومن الواضح أن كلّ حجّة لابد أن تتألف من مقدمتين، والمقدمات قد تكونان من القضايا الواجبة القبول وهي اليقينيات التي مرَّ ذكرها ، وقد لا تكونان منها، بل تكون واحدة منهما أو كلتاهما من أنواع القضايا الأخرى السبع التي تقدم شرحها في مقدمة هذا

الباب .

ثم المقدمة اليقينية إمّا أن تكون فى نفسها بديهية من إحدى البديهيات الست المتقدمة، وإما أن تكون نظرية تنتهي إلى البديهيات.

فإذا تألفت الحجّة من مقدمتين يقينيتين سمّيت برهاناً. ولا بد أن ينتجا قضية يقينية لذات القياس المؤلف منهما اضطراراً، عندما يكون تأليف القياس في صورته يقينياً أيضاً. كما كان في مادته ، فيستحيل حينئذٍ تخلف النتيجة لاستحالة تخلف المعلول عن علته ،

ص: 311

فيعلم بها اضطراراً لذات المقدمتين، بما لهما من هيئة التأليف على صورة قياس صحيح. وهذا معنى أن نتيجة البرهان ضرورية . ويعنون بالضرورة هنا معنى آخر غير معنى

الضرورة في الموجبات ، على ما سيأتي .

والخلاصة ان البرهان يقينى واجب القبول مادة وصورة، وغايته أن ينتج اليقين الواجب القبول ، أي اليقين بالمعنى الأخص .

2-البرهان قياس

ذكرنا في تعريف البرهان بانه قياس، وعليه فلا يسمّى الاستقراء ولا التمثيل برهاناً وعلل بعضهم ذلك بأن الاستقراء والتمثيل لا يفيدان اليقين، ويجب في البرهان أن يفيد

اليقين.

والحق ان الاستقراء قد يفيد اليقين وكذلك التمثيل على ما تقدم في بابها في الجزء

الثاني، بل تقدم ان أساس أكثر كبريات الأقيسة هو الاستقراء المعلل، ومع ذلك لا يسمّى الاستقراء ولا التمثيل برهاناً . والسر فى ذلك ان الاستقراء المفيد لليقين وكذا التمثيل أنّما يفيد اليقين حيث يعتمد على القياس ،كما شرحناه في التجربيات. وأشرنا في الجزء الثاني إلى ان الاستقراء التام يرجع إلى القياس المقسم فراجع . أما الاستقراء الناقص المبني على المشاهدة فقط فانّه لا يفيد اليقين لأنه لا يرجع إلى القياس ولا يعتمد عليه . فاتضح بالأخير أن المفيد لليقين هو القياس فقط .

وليس معنى ذلك ان العلوم تستغني عن الاستقراء والتمثيل أو التقليل من شأنهما في العلوم، بل العلوم الطبيعية بأنواعها وعلم الطب ونحوه كلّها تبتني على المجربات التي لا تحصل للعقل بدون الاستقراء والتمثيل ، ولكن انّما تفيد اليقين حيث تعتمد على القياس. فرجع الأمر كلّه إلى القياس .

ص: 312

3-البرهان لمي وانتي

ان العمدة في كلّ قياس هو الحد الأوسط فيه ، لأنه هو الذي يؤلف العلاقة بين الأكبر

والأصغر ، فيوصلنا إلى النتيجة المطلوب. وفى البرهان خاصة لا بد أن يفرض الحدّ الأوسط علّة لليقين بالنتيجة، أي لليقين بنسبة الأكبر إلى الأصغر ، والا لما كان الاستدلال به أولى من غيره . ولذا يسمّى الحدّ الأوسط واسطة في الاثبات.

وعليه فالحدّ الأوسط أما أن يكون - مع كونه واسطة في الاثبات - واسطة في الثبوت أيضاً ، أي يكون علة لثبوت الأكبر للأصغر ، وأما أن لا يكون واسطة في الثبوت .

فإن كان الأوّل (أي أنّه واسطة في الاثبات والثبوت معاً) ، فإن البرهان حينئذٍ يسمّ برهان لِمَ أو البرهان اللمي ، لأنه يعطي اللمية(1)في الوجود والتصديق معاً، فهو معط للمية مطلقاً فسمي به ، كقولهم: «هذه الحديدة ارتفعت حرارتها وكل حديدة ارتفعت حرارتها فهي متمددة فينتج هذه الحديدة متمددة». فالاستدلال بارتفاع الحرارة على التمدد استدلال بالعلّة على المعلول. فكما أعطت الحرارة الحكم بوجود التمدد في الذهن للحديدة كذلك هي معطية في نفس الأمر والخارج وجود التمدد لها .

وإن كان الثاني (أي أنّه واسطة في الاثبات فقط ولم يكن واسطة في الثبوت) ، فيسمّى برهان إن أو البرهان الإنِّي ، لأنه يعطى الإنية (2). والانية مطلق الوجود.

ص: 313


1- اللمّية بتشديد الميم : هي العلية مصدر صناعي مأخوذ من كلمة «لم» . راجع الجزء الأول
2- الانية بتشديد النون : مصدر صناعي كاللمية مأخوذة من كلمة «إنّ» المشبهة بالفعل التي تدل على الثبوت والوجود.
4-أقسام البرهان الآني

والبرهان الإنى على قسمين :

1 - أن يكون الأوسط معلولاً للأكبر في وجوده في الأصغر ، لا علة، عكس برهان لم، كما لو قيل في المثال المتقدّم: «هذه الحديدة متمدّدة، وكل حديدة متمدّدة مرتفعة درجة حرارتها». فالاستدلال بالتمدّد على ارتفاع درجة الحرارة استدلال بالمعلول على العلّة . فيقال فيه : أنّه يستكشف بطريق الان من وجود المعلول على وجود العلة، فيكون العلم بوجود المعلول سبباً للعلم بوجود العلة . فلذلك يكون المعلول واسطة في الاثبات أي للعلم بالعلّة، وإن كان معلولاً لها في الخارج. ويسمّى هذا القسم من البرهان الإنّي الدليل. 2 - أن يكون الأوسط والأكبر معاً معلولين لعلّة واحدة، فيستكشف من وجود أحدهما وجود الآخر ، فكل منهما إذا سبق العلم به يكون العلم به علّة للعلم بالآخر ، ولكن لا لأجل ان أحدهما علّة للآخر، بل لكونهما متلازمين في الوجود لاشتراكهما في علّة واحدة إذا وجدت لابد أن يوجدا معاً ؛ فإذا علم بوجود احدهما يعلم منه وجود علّته لاستحالة وجود المعلول بلا علة ، وإذا علم بوجود العلّة علم منها وجود المعلول الآخر لاستحالة تخلف المعلول عن العلة . فيكون العلم - على هذا - بأحد المعلولين مستلزماً

للعلم بالآخر بواسطة.

وليس لهذا القسم الثاني اسم خاص. وبعضهم لا يسميه البرهان الإنّي، بل يجعل البرهان الإنّي مختصاً بالقسم الأوّل المسمى بالدليل يجعل هذا القسم واسطة بينه وبين اللمي. فتكون أقسام البرهان ثلاثة : لمّي وإنِّي وواسطة بينهما .

وفى الحقيقة ان هذا القسم فيه استكشافان و استدلالان : استدلال بالمعلول على العلّة المشتركة ، ثم استدلال بالعلّة المشتركة على المعلول الآخر ، كما تقدم ؛ ففيه خاصة البرهان الإنّي في استدلال الأوّل وخاصة البرهان اللّمي في الاستدلال الثاني. فلذا جعلوه واسطة بينهما لجمعه بين الطريقتين. والأحسن جعله قسماً ثانياً للإنّي كما صنع كثير من المنطقيين - رعاية للاستدلال الأول فيه . والأمر سهل.

ص: 314

5-الطريق الأساس الفكري لتحصيل البرهان

عند العقلاء قضيتان أوليتان لا يشك فيهما الا مكابر أو مريض العقل، لأنهما أساس

كل تفكير ، ولم يتم اختراع ولا استنباط ولا برهان ،بدونهما حتى الاعتقاد بوجود خالق الكائنات وصفاته مرتكز عليهما . وهما :

1 - ان كلّ ممكن لابد له من علة في وجوده. ويعبر عن هذه البديهة أيضاً بقولهم :

«استحالة وجود الممكن بلا علة ».

2- كلّ معلول يجب وجوده عند وجود علته ويعبّر عنها أيضاً بقوله : «استحالة تخلف المعلول عن العلة».

ولما كان اليقين بالقضية من الحوادث الممكنة فلا بد له من علة موجبة لوجوده، بناء

على البديهة الاولى. وهذه العلة قد تكون من الداخل وقد تكون من الخارج.

الأوّل: أن تكون من الداخل. ومعنى تلك ان نفس تصور اجزاء القضية طرفي النسبة علّة للحكم والعلم بالنسبة كقولنا : «الكلّ أعظم من الجزء» وقولنا : «النقيضان لا يجتمعان والبديهتان اللتان مرَّ ذكرهما في صدر البحث أيضا من هذا الباب، فإن نفس تصور الممكن والعلة والمعلول كاف للحكم باستحالة وجود الممكن بلا علة، ونفس تصور العلّة والمعلول كاف للحكم باستحالة تخلفه عن علّته . فلا يحتاج اليقين في مثل هذه القضايا إلى شيء آخر وراء نفس تصوّر طرفي القضية . ولذا تسمى هذه القضايا بالاولية كما تقدم في بابها ، لانها اسبق من كلّ قضية لدى العقل . ولأجل هذا قالوا ان القضايا الاوليات هي العمدة في مبادىء البرهان.

الثاني: أن تكون العلة من الخارج وهذه العلة الخارجة على نحوين :

1 - أن تكون إحدى الحواس الظاهرة أو الباطنة، وذلك في المشاهدات والمتواترات اللتين هما من البديهيات الست . وقضاياها من الجزئيات ؛ فإن العقل هو الذي يدرك أن هذه النار حارة أو مكة موجودة ، ولكن ادراكه لهذا الأشياء ليس ابتداء بمجرد تصوّر الطرفين ولا

ص: 315

بتوسط مقدمات عقلية . وانّما بتوسط احدى الحواس وهي جنوده التي يستعين بها في ادراك المشاهدات ونحوها ، فانّه يدرك الطعم بالذوق واللون بالبصر والصوت بالسمع ...

وهكذا ، ثم يدرك بقوّة أخرى بأن ماله هذا اللون الأصفر مثلاً له هذا الطعم الحامض . وقول الحكماء ان العقل لا يدرك الجزئيات ، فإن غرضهم أنّه لا يدرك الجزئيات بنفسه بدون استعمال آلة ادراكية، وإلا فليس المدرك للكليات والجزئيات الّا القوة العاقلة . ولا يمكن ان يكون للسمع والبصر ونحوهما وجود وادراك مع قطع النظر عنها ، غير ان ادراك القوة العاقلة للمحسوسات لا يحتاج إلى أكثر من استعمال آلة الادراك المختصة في ذلك المحسوس.

ويختص ادراك القوّة العاقلة بتوسط الآلة في خصوص الجزئيات، لأن الحس بانفراده لا يفيد رأياً كلياً ، لأن حكمه مخصوص بزمان الاحساس فقط ؛ وإذا أراد أن يتجاوزالادراك إلى الأمور الكلية فلا بد أن يستعين بمقدمات عقلية وقياسات منطقية ليستفيد منها

الرأي الكلّي . فالمشاهدات وكذلك المتواترات تصلح لأن تكون مبادىء يقتنص التصورات الكلية والتصديقات العامة؛ بل لولا تتبع المشاهدات لم نحصل على كثير من المفاهيم الكلية والآراء العلمية . ولذا قيل : «من فقد حساً فقد فَقَدَ علماً». وتفصيل هذه الأبحاث يحتاج إلى سعة من القول لا يساعد عليه هذا الكتاب.

2 - ان تكون العلة الخارجة هي القياس المنطقي. وهذا القياس على قسمين : القسم الأوّل: أن يكون حاضراً لدى العقل لا يحتاج إلى إعمال فكر ، فلا بد أن يكون معلوله وهو اليقين بالنتيجة حاضراً أيضاً ضروري الثبوت. وهذا شأن المجربات والحدسيات والفطريات التي هي من أقسام البديهيات، إذ قلنا سابقاً ان المجربات والحدسيات تعتمد على قياس خفی حاضر لدى الذهن، والفطريات قضايا قياساتها معها.

وأنّما سمّيت ضرورية لضرورة اليقين بها بسبب حضور علتها لدى العقل بلا كسب .

وإلى هنا انتهى بنا القول إلى استقصاء جميع البديهيات الست التي هي أساس البراهين وركيزة كلّ تفكير ورأس المال العلمي لتاجر العلوم)، وإلى استقصاء أسباب اليقين

ص: 316

بها . فالأوليات علة يقينها من الداخل والمشاهدات والمتواترات علّتها من الخارج وهي الآلة الحاسة ، والثلاث الباقية علّتها من الخارج أيضاً وليست هي الا القياس الحاضر . القسم الثاني: أن لا يكون القياس حاضراً لدى العقل، فلابد للحصول على اليقين من السعي لاستحضاره بالفكر والكسب العلمي، وذلك بالرجوع إلى البديهيات (وهذا هو موضع الحاجة إلى البرهان ، فإذا حضر هذا القياس انتظم البرهان إما على طريق اللم أو الإن. فاستضحار علّة اليقين غير الحاضرة هو الكسب وهو المحتاج إلى النظر والفكر والذي يدعو إلى هذا الاستحضار البديهة الاولى المذكورة في صدر البحث وهي استحالة وجود الممكن بلا علة ، وإذا حضرت العلة انتظم البرهان -كما قلنا - أي يحصل اليقين بالنتيجة، وذلك بناء على البديهة الثانية وهى استحالة تخلف المعلول عن العلة .

فاتضح من جميع ما ذكرنا كيف نحتاج إلى البرهان وسر الحاجة إليه ، وأنه يرتكز

أساسه على هاتين البديهتين اللتين هما الطريق الأساس الفكرى لتحصيل كلّ برهان.

6-البرهان اللمّي مطلق وغير مطلق

قد عرفت ان البرهان اللمي ما كان الا وسط فيه علّة لثبوت الأكبر. للأصغر ومعنى ذلك أنّه علّة للنتيجة . وهذا على نحوين :

1 - ان يكون علة لوجود الأكبر في نفسه على الاطلاق، ولأجل هذا يكون علة لثبوته للأصغر ، باعتبار أن المحمول الذي هو الأكبر هنا ليس وجوده الا وجوده لموضوعه وهو الأصغر ، وليس له وجود مستقل عن وجود موضوعه ، كالمثال المتقدم، وهو مثال علية

ارتفاع الحرارة لتمدّد الحديدة. ويسمّى هذا النحو البرهان اللمي المطلق.

2 - أن لا يكون علة لوجود الأكبر على الاطلاق، وأنّما يكون علة لوجوده في

ص: 317

الأصغر . ويسمى هذا النحو البرهان اللمي غير المطلق. وأنما صح أن يكون علة لوجود الأكبر في الأصغر وليس علة لنفس الأكبر فباعتبار أن وجود الأكبر في الأصغر شيء وذات الأكبر شيء آخر، فتكون علة وجود الأكبر في الأصغر غير علة نفس الأكبر. والمقتضي لكون البرهان لمياً ليس الا علية الأوسط لوجود الأكبر في الأصغر ، سواء كان علة أيضاً لوجود الأكبر في نفسه كما في النحو الأوّل أي البرهان اللمي المطلق، أو كان معلولاً في نفسه، أو كان معلولاً للأصغر ، أو ليس معلولاً لكل منهما.

مثال الأول - وهو ما كان معلولاً للأكبر - قولنا : «هذه الخشبة تتحرك اليها النار . وكل خشبة تتحرك اليها النار توجد فيها النار» ؛ فوجود النار أكبر ، وحركة النار أوسط ، والحركة علّة لوجود النار فى الخشبة . ولكنَّها ليست علّة لوجود النار مطلقاً، بل الأمر بالعكس فإن حركة النار معلولة لطبيعة النار .

ومثال الثاني - وهو ما كان معلولاً للأصغر - قولنا : «المثلث زواياه تساوي قائمتين . وكل ما يساوي قائمتين نصف زوايا المربع ؛ فالأوسط «مساواة القائمتين معلول للأصغر وهو زوايا المثلث؛ وهو في الوقت نفسه علّة لثبوت الأكبر : نصف زوايا المربع للأصغر

زوايا المثلث.

ومثال الثالث - وهو ما لم يكن معلولاً لكلّ من الأصغر والأكبر - نحو: «هذان

الحيوان غراب وكل غراب أسود» ؛ فالغراب وهو الأوسط ليس معلولاً للأصغر ولا للأكبر

مع أنّه علّة لثبوت وصف السواد لهذا الحيوان .

7-معنى العلة في البرهان اللمي

قلنا : ان البرهان اللمي ما كان فيه الأوسط علة لثبوت الأكبر للأصغر، وقد يسبق ذهن الطالب إلى أن المراد من العلة خصوص العلّة الفاعلية، ولكن فى الوقاع ان العلة تقال

ص: 318

على أربعة أنواع والبرهان اللمي يقع بجميعها، وهي :

1 - العلّة الفاعلية أو الفاعل أو السبب أو مبدأ الحركة. ما شئت فعبر . وقد يعبّر عنها

بقولهم : ما منه الوجود، ويقصدون المفيض والمفيد للوجود(1)أو المسبب للوجودكالباني للدار والنجار للسرير والأدب للولد ونحو ذلك .

ومثال أخذ الفاعل في البرهان: «لم صار الخشب يطفو على الماء ؟ فيقال : لأن الخشب ثقله النوعي أخف من ثقل الماء النوعي ومثاله أيضاً ما تقدم في مثال تمدّد الحديد بالحرارة.

2 - العلّة المادية أو المادة التي يحتاج اليها الشيء ليتكون ويتحقق بالفعل بسبب قبوله للصورة . وقد يعبّر عنها بقولهم : ما فيه الوجود كالخشب والمسمار للسرير ، والجص والآجر والخشب ونحوها للدار، والنطفة للمولود . ومثال أخذ المادة في البرهان قولهم : «لم يفسد الحيوان ؟ فيقال : لأنه مركب من الأضداد».

3 - العلّة الصورية أو الصورة ، وقد يعبّر عنها بقولهم : ما به الوجود، أي الذي يحصل به الشيء بالفعل، فانّه ما لم تقترن الصورة بالمادة لم يتكوّن الشيء ولم يتحقق ، كهيئة السرير والدار وصورة الجنين التي بها يكون انساناً. ومثال أخذ الصورة في البرهان

قو ولهم : «لم كانت هذه الزاوية قائمة ؟ فيجاب: لأن ضلعيها متعامدان».

4 - العلة الغائية أو الغاية ، وقد يعبّر عنها بقولهم : ما له الوجود أي التي لأجلها وجد الشيء وتكوّن ، كالجلوس للكرسي والسكنى للبيت . ومثال أخذ الغاية في البرهان قولهم: «لم أنشأت البيت ؟ فيجيب : لكي أسكنه» و «لم يرتاض فلان ؟ فيجاب: لكي

يصح». وهكذا.

ص: 319


1- قد يقصد بعضهم من تعبير ما منه الوجود خصوص المفيض للوجود أي الخالق المصور. والفاعل بهذا المعنى هو خصوص الباري تعالى وأما الفاعل المسبب للوجود الذي ليس منه فيض الوجود وخلقه وهو ما عد الله تعالى من الأسباب، فيعتبر عنه ما به الوجود.
8-تعقيب وتوضيح في أخذ العلل حدوداً وسطى

لا شك أنّما يحصل البرهان على وجه يجب أن يعلم الذهن بوجود المعلول عند العلم بوجود العلة، إذا كانت العلة على وجه إذا حصلت لابد أن يحصل المعلول عندها. ومعنى ذلك ان العلّة لابد أن تكون كاملة تامّة السببية ، والّا إذا فرض حصول العلة ولا يحصل

عندها المعلول لا يلزم من العلم بها العلم به.

وعليه يمكن للمتأمل أن يعقب على كلامنا السابق، فيقول : ان العلة التامة التي لا يختلف عنها المعلول هي الملتئمة من العلل الأربع في الكائنات المادية ؛ أماكلّ واحدة منها فليست بعلّة تامة ، فكيف صح أن تفرضوا وقوع البرهان اللمي في كل واحدة منها؟

وهذا كلام صحيح في نفسه، ولكن انما صح فرض وقوع البرهان اللمي في واحدة من الأربع، ففي موضع تكون العلل الباقية مفروضة الوقوع متحققة وإن لم يصرح بها ، فيلزم حينئذ من فرض وجود تلك العلة التي أخذت حداً أوسط وجود المعلول بالفعل لفرض حصول باقي العلل . لا لأنه يكتفي بإحدى العلل الأربع مجردة في التعليل ، ولا لأن الواحدة منها هي مجموع العلل، بل لأنها - حسب الفرض - لا ينفك وجودها عن وجود جميعها فتكون كلّ واحدة مشتملة على البواقى بالقوة وقائمة مقامها . ولنتكلم عن كل واحدة من العلل كيف يكون فرض وجودها فرضاً للبواقي فنقول :

أمّا العلّة الصورية فانّه إذا فرض وجود الصورة فقد فرض وجود المعلول بالفعل لأن فعلية الصورة فعلية لذيها ، فلابد - مع فرض وجود المعلول - أن تكون العلل كلّها حاصلة والا لما وجد وصار فعلياً.

وكذا العلة الغائية فانّما يفرض وجود الغاية بعد فرض وجود ذي الغاية وهو

المعلول، لأن الغاية في وجودها الخارجي متأخرة عن وجود المعلول بل هي معلولة له..

ص: 320

وانّما العلّة هى الغاية بوجودها الذهني العلمي .

وأمّا العلة المادية فأنّه في كثير من الامور الطبيعية يلزم عند حصول استعداد المادة لقبول الصورة حصول الصورة بالفعل، كما لو وضعت البذرة - مثلاً - في أرض طيبة ف--ي الوقت المناسب وقد سقيت الماء فلا بد أن يحصل النبات، باعتبار أن الفاعل قوة طبيعية في جوهر المادة فلا يمكن الا أن يصدر عنها فعلها عند حصول الاستعداد التام لأنه إذا طلبت المادة - عند استعدادها - بلسان حالها أن يفيض بارىء الكائنات عليها الوجود، فانه - تعالى - لا بخل في ساحته، فلا بد أن يفيض عليها وجودها اللائق بها . وإذا وجدت الصورة فهو فرض وجود المعلول، لأن معنى حصول الصورة - كما سبق - حصول المعلول بالفعل.

نعم بعض الامور الطبيعية لا يلزم من حصول استعداد المادة حصول الصورة بالفعل.

وذلك عندما يكون حدوث تلك الصورة متوقفة على حركة من علة محركة خارجة كاستعداد النخلة للثمر ، فانما تتم ثمرتها بالفعل بعد التلقيح، والتلقيح حركة من فاعل محرك خارج وهو الملقح . ومن هذا الباب الامور الصناعية فإن مجرد استعداد الخشب لأن يصير كرسياً لا يصيره كرسياً بالفعل ما لم يعمل الصانع في نشره وتركيبه على الوجه المناسب وعليه لا يقع البرهان اللمي في امثال هذه المواد فلا تقع كلّ مادة حداً أوسط فلذا لا يصح أن يعلل كون الشيء كرسياً بقولنا : لأنه خشب .

وأمّا العلة الفاعلية، فليس يجب من فرض الفاعل في كثير من الأشياء وجود المعلول، بل لا يؤخذ حداً أوسط الا إذا كان فاعلاً تاماً ، بمعنى انه مشتمل على تمام جهات تأثيره ، كما إذا دلّ على استعداد المادة ووجود جميع الشرائط، فيما إذا كان المعلول من الامور الطبيعية المادية . وذلك كفرض وجود الحرارة في الحديد الذي يلزم منه بالضرورة وجود التمدد، فالفاعل بدون الموضوع القابل لا يكون فاعلاً تاماً، كما لا يكون القابل بدون الفاعل قابلاً بالفعل.

ومن هذا الكلام يعلم ويتضح أنه ليس على المطلوب الواحد - في الحقيقة - الا برهان لمي واحد مشتمل على جميع العلل بالفعل أو القوة، وإن تعددت البراهين - بحسب

ص: 321

الظاهر - بتعدد العلل حسب اختلافها، فالسؤال بلم انّما يطلب به معرفة العلّة التامة ، فإذا أجيب بالعلّة الناقصة فانّه لا ينقطع السؤال بلم . وما دام هنا شرط أو جزء من العلة لم يذكر ، فالسؤال باق حتى يجاب بجميع العلل التي تتألف منها العلّة التامة . وحينئذ يسقط السؤال بلم وينقطع .

9-شروط مقدمات البرهان

ذكر وا المقدمات البرهان شروطاً ارتقت فى أكثر عباراتهم إلى سبعة ، وهي :

1 - أن تكون المقدّمات كلّها يقينية وقد سبق ان ذلك هو المقوم لكون القياس برهاناً وتقدم أيضاً معنى اليقين هنا . فلو كانت احدى مقدمتيه غير يقينية لم يكن برهاناً، وكان إما جدلياً أو خطابياً أو شعرياً أو مغالطباً على حسب تلك المقدمة ودائماً يتبع القياس في تسميته أخس مقدماته.

2 - أن تكون المقدمات أقدم وأسبق بالطبع من النتائج، لانها لابد أن تكون عللاً لها

بحسب الخارج. وهذا الشرط مختص ببرهان لم.

3 - أن تكون أقدم عند العقل بحسب الزمان من النتائج حتى يصح التوصل بها إلى النتائج . فإن الأقدم في نفس الأمر وهو الأقدم بالطبع شيء والأقدم بالنسبة إلينا وبحسب عقولنا شيء آخر ، فانّه قد يكون ما هو الأقدم بحسب الطبع كالعلّة ليس اقدم بالنسبة إلى عقولنا بأن يكون العلم بالمعلول اسبق وأقدم من العلم بها ؛ فانّه لا يجب في كلّ ما هو اقدم بحسب الطبع ان يكون أقدم عند العقل في المعرفة .

4 - أن تكون أعرف عند العقول من النتائج ليصح أن تعرفها ، لأن المعرف يجب أن يكون أعرف من المعرف. ومعنى أنها أعرف أن تكون أكثر وضوحاً ويقيناً لتكون سبباً لوضوح النتائج بداهة ان الوضوح واليقين يجب أن يكون أولاً وبالذات للمقدّمات، وثانياً

وبالعرض للنتائج .

ص: 322

5- أن تكون مناسبة للنتائج ، ومعنى مناسبتها أن تكون محمولاتها ذاتية أولية لموضوعاتها، على ما سيأتي من معنى الذاتي والاولي هنا، لأن الغريب لا يفيد اليقين

بما لا يناسبه لعدم العلّة الطبيعية بينهما . وبعبارة أخرى كما قال الشيخ الرئيس في كتاب البرهان من الشفا ص 72 - : فإن الغريبة لا تكون عللا ، ولو كانت المحمولات البرهانية يجوز أن تكون غريبة لم تكن مبادىء البرهان عللا ، فلا تكون مبادىء البرهان عللا للنتيجة».

6 - أن تكون ضرورية أما بحسب الضرورة الذاتية أو بحسب الوصف . وليس المراد من الضروري هنا المعنى المقصود منه في القياس، فانّه إذا قيل هناك : كل حب بالضرورة، يعنون به أن كلّ ما يوصف بأنه «ح» كيفما اتفق وصفه به فهو موصوف بانه «ب» بالضرورة وإن لم يكن موصوفاً بأنه «ح» بالضرورة. وأما هنا فيعنون به المشروطة العامة أي أن كل ما يوصف بأنه«ح» بالضرورة فانّه موصوف بانه «ب».

7 - أن تكون كلية . وهنا أيضاً ليس المراد من الكلية المعنى المراد في القياس؛ بل المراد أن يكون محمولها مقولاً على جميع أشخاص الموضوع في جميع الأزمنة قولاً أولياً وإن كان الموضوع جزئياً أو مهملاً ، فالكلية هنا يصح أن تقابلها الشخصية. والمقصود من معنى الكلية في القياس أن يكون المحمول مقولاً على كلّ واحد وإن لم يكن في كل زمان. ولم يكن الحمل أولياً فتقابل الكلية هناك القضية الجزئية والمهملة.

وهذان الشرطان الأخيران يختصان بالنتائج الضرورية الكلية، فلو جوزنا أن تكون نتيجة البرهان غير ضرورية وغير كلّيّة، فما كان بأس في أن تكون إحدى المقدمات ممكنة أو غير كلّيّة بذلك المعنى من الكلية ، لأنه ليس يجب في جميع مطالب العلوم أن تكون ضرورية أو كلّيّة ، الا أن يراد من الضرورية ضرورية الحكم وهو الاعتقاد الثاني وإن كانت جهة القضية هي الامكان ؛ فإن اليقين كما تقدم - يجب أن يكون الاعتقاد الثاني فيه لا يمكن زواله. ولكن هذا الشرط عين اشتراط يقينية المقدّمات وهو الشرط

الأوّل .

ص: 323

10-معنى الذاتي في كتاب البرهان

تقدم انه يشترط في مقدمات البرهان ان تكون المحمولات ذاتية للموضوعات . وللذاتي في عرف المنطقيين عدة معاني أحدهما الذاتي في كتاب البرهان . ولا بأس ببيانها جميعاً ليتضح المقصود هنا، فنقول :

1 - الذاتي في باب الكليات ويقابله العرضي . وقد تقدم في الجزء الأوّل .

2 - الذاتي في باب الحمل والعروض ، ويقابله الغريب، إذ يقولون :« ان موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية». وهو له درجات وفى الدرجة الأولى ما كان موضوعه مأخوذاً في حده ، كالأنف في حدّ الفطوسة حينما يقال الأنف أفطس، فهذا المحمول ذاتي لموضوعه، لأنه إذا أريد تعريف الأفطس أخذ الأنف في تعريفه . ثم قد يكون موضوع المعروض له مأخوذاً في حده ، كحمل المرفوع على الفاعل ؛ فإن الفاعل لا يؤخذ فی تعريف المرفوع ولكن الكلمة التي هي معروضة للفاعل تؤخذ في تعريفه كما تؤخذ في تعريف الفاعل . وقد يكون جنس المعروض له مؤخوذا في حدّه ، كحمل المبنى على الفعل الماضي مثلاً فإن الفعل لا يؤخذ في تعريف المبني ولكن جنسه وهو الكلمة هي التي تؤخذ في حده. وقد يكون معروض الجنس مأخوذاً في حده كحمل المنصوب على المفعول المطلق مثلاً ؛ فإن المفعول المطلق لا يؤخذ في حدّ المنصوب ، ولا جنسه وهو المفعول يؤخذ في حده بل معروض المفعولية وهو الكلمة تؤخذ في حده. ويمكن جمع هذه المحمولات الذاتية بعبارة واحدة فيقال: «المحمول الذاتي للموضوع ما كان موضوعه أو أحد مقوماته واقعاً في حدّه» لأن جنس الموضوع مقوم له وكذا معروضه لأنه يدخل في حده وكذا معروض جنسه كذلك .

3- الذاتي في باب الحمل أيضاً، وهو ما كان نفس الموضوع في حد ذاته كافياً لانتزاع المحمول بدون حاجة إلى ضم شيء إليه وهو الذي يقال له : المنتزع عن مقام الذات. ويقابله ما يسمّى المحمول بالضميمة، مثل حمل الموجود على الوجود وحمل

ص: 324

الأبيض على البياض ، لا مثل حمل الموجود على الماهية وحمل الأبيض على الجسم ؛ فإن هذا هو المحمول بالضميمة فإن الماهية موجودة ولكن لا بذاتها بل لعروض الوجود عليها، والجسم أبيض ولكن لا بذاته بل لضم البياض إليه وعروضه عليه بخلاف حمل الموجود على الوجود فإنّه ذاتي له بدون ضم وجود آخر له بل بنفسه موجود؛ وكذا حمل الأبيض على البياض فإنّه أبيض بذاته بدون ضم بياض آخر إليه فهو ذاتى له .

4 - الذاتي في باب الحمل أيضاً، ولكنه في هذا القسم وصف لنفس الحمل لا للمحمول كما في الاصطلاحين الأخيرين، فيقال الحمل الذاتي ويقال له الاوّلي أيضاً. ويقابله الحمل الشايع الصناعي وقد تقدم ذلك في الجزء الأوّل .

5 - الذاتي في باب العلل، ويقابله الاتفاقى مثل ان يقال اشتعلت النار فاحترق الحطب، وأبرقت السماء فقصف الرعد، فانّه لم يكن ذلك اتفاقياً بل اشتعال النار يتبعه احتراق الحطب إذا مسها ، والبرق يتبعه الرعد لذاته، لا مثل ما يقال : فتح الباب فابرقت السماء، أو نظر لي فلان فاحترق حطبي ، أو حسدني فلان فأصابني مرض ؛ فإن هذه أمثالها تسمّى أموراً اتفاقية .

إذا عرفت هذه المعاني فاعلم ان مقصودهم من الذاتي في الكتاب البرهان ما يعم المعنى الأول والثاني ويجمعهما في البيان ان يقال: «الذاتي هو المحمول الذي يؤخذ ف--ي

عد الموضوع، أو الموضوع أو أحد مقوماته يؤخذ في حده».

11-معنى الأولي

والمراد من الأوّلي هنا هو المحمول لا بتوسط غيره أي لا يحتاج إلى واسطة في العروض في حمله على موضوعه، كما نقول : جسم أبيض وسطح أبيض ؛ فإن حمل أبيض على السطح حمل أولى ، أما حمله على الجسم فبتوسط السطح فكان واسطة في العروض لأن حمل الأبيض على السطح أولاً وبالذات وعلى الجسم ثانياً وبالعرض.

ص: 325

والتدقيق في معنى الذاتي والاولي له موضع آخر لا يسعه هذا المختصر ؛ ولكن مما

يجب أن يعلم هنا أن بعض كتب اصول الفقه المتأخرة وقع فيها تفسير الذاتي الذي هو في باب موضوع العلم المقابل له الغريب، بمعنى الأوّلي المذكور هنا . فوقعت من أجل ذلك اشتباهات كثيرة نستطيع التخلص منها إذا فرقنا بين الذاتي والاولي ولا نخلط أحدهما بالآخر.

ص: 326

الفصل الثاني : صناعة الجدل أو آداب المناظرة

اشارة

ونضعها في ثلاثة مباحث :

1 - في القواعد والأصول ،

2 - في المواضع

3- في الوصايا

ص: 327

ص: 328

المبحث الأول : القواعد والأصول
1 - مصطلحات هذه الصناعة

لهذا الصناعة - ككلّ صناعة - مصطلحات خاصة بها والآن نذكر بعضها في المقدمة

للحاجة فعلا، ونرجيء الباقي إلى مواضعه.

1 - كلمة الجدل: إن الجدل لغة هو اللدد واللجاج في الخصومة بالكلام ، مقارنا غالباً لاستعمال الحيلة الخارجة أحياناً عن العدل والانصاف. ولذا نهت الشريعة الاسلامية عن المجادلة، لا سيما في الحج والاعتكاف.

وقد نقل مناطقة العرب هذه الكلمة واستعملوها في الصناعة التي نحن بصددها والتي تسمّى باليونانية طوبيقا.

وهذه لفظة الجدل أنسب الألفاظ العربية إلى معنى هذه الصناعة على ما سيأتي توضيح المقصود بها ، حتى من مثل لفظ المناظرة ، والمحاورة والمباحثة ، وان كانت كلّ واحدة منها تناسب هذه الصناعة في الجملة ، كما استعملت كلمة المناظرة في هذه الصناعة أيضاً، فقيل آداب المناظرة وألفت بعض المتون بهذا الاسم.

وقد يطلقون لفظ الجدل أيضاً على نفس استعمال الصناعة كما أطلقوه على ملكة استعمالها، فيريدون به حينئذٍ القول المؤلّف من المشهورات أو المسلّمات الملزم للغير والجاري على قواعد الصناعة. وقد يقال له أيضاً : القياس الجدلي أو الحجة الجدلية أو القول الجدلي. أما مستعمل الصناعة فيقال له : مجادل وجدلي.

ص: 329

2 - كلمة الوضع ويراد هنا الرأي المعتقد به أو الملتزم به كالمذاهب والملل والنحل والأديان والآراء السياسية والاجتماعية والعلمية، وما إلى ذلك . والإنسان كما يعتنق الرأي ويدافع عنه لأنه عقيدته ، قد يعتنقه لغرض آخر فيتعصب له ويلتزمه وان لم يكن عقيدة له ؛ فالرأي على قسمين: رأي معتقد به ورأي ملتزم به، وكل منهما يتعلق به غرض الجدلي لاثباته أو نقضه ، فأراد أهل هذه الصناعة أن يعبروا عن القسمين بكلمة واحدة جامعة، فاستعملوا كلمة الوضع اختصاراً، ويريدون به مطلق الرأي الملتزم سواء أكان معتقداً به أم لا.

كما قد يسمون أيضاً نتيجة القياس في الجدل وضعاً وهي التي تسمّى في البرهان مطلوباً. وعلى هذا يكون معنى الوضع قريباً من معنى الدعوى التي يراد اثباتها أو ابطالها.

2 - وجه الحاجة إلى الجدل

ان الإنسان لا ينفكّ عن خلاف ومنازعات بينه وبين غيره من أبناء جلدته، في عقائده وآرائه من دينية وسياسية واجتماعية ونحوها، فتتألف بالقياس إلى كل وضع طائفتان : طائفة تناصره وتحافظ عليه ، وأخرى تريد نقضه وهدمه، وينجرّ ذلك إلى المناظرة والجدال في الكلام ، فيلتمس كل فريق الدليل والحجة لتأييد وجهة نظره وافحام خصمه أمام الجمهور.

والبرهان سبيل قويم مضمون لتحصيل المطلوب، ولكن هناك من الأسباب ما يدعو إلى عدم الأخذ به في جملة من المواقع واللجوء إلى سبيل آخر، وهو سبيل الجدل الذي نحن بصدده. وهنا تنبثق الحاجة إلى الجدل، فانّه الطريقة المفيدة بعد البرهان أمّا الأسباب الداعية إلى عدم الأخذ بالبرهان فهي أمور :

1 - إن البرهان واحد في كلّ مسألة لا يمكن أن يستعمله ك--ل من الفريقين

المتنازعين ، لأن الحق واحد على كل حال فإذا كان الحق مع أحد الفريقين فإن الفريق الآخر يلتجىء إلى سبيل الجدل لتأييد مطلوبه .

ص: 330

2 - إن الجمهور أبعد ما يكون عن ادراك المقدّمات البرهانية إذا لم تكن من المشهورات الذايعات بينهم، وغرض المجادل على الأكثر إفحام خصمه أمام الجمهور فيلتجيء هنا إلى استعمال المقدّمات المشهورة بالطريقة الجدلية وان كان الحق في جانبه ويمكنه استعمال البرهان.

3 - إنّه ليس كل أحد يقوى على اقامة البرهان أو ادراكه فيلتجىء المنازع إلى الجدل لعجزه عن البرهان أو لعجز خصمه عن ادراكه .

4 - إن المبتدىء في العلوم قبل الوصول إلى الدرجة التي يتمكن فيها من اقامة البرهان على المطالب العلمية يحتاج إلى ما يمرّن ذهنه وقوته العقلية على الاستدلال على المطالب بطريقة غير البرهان ، كما قد يحتاج إلى تحصيل القناعة والاطمئنان إلى تلك المطالب قبل أن يتمكن من البرهان عليها . وليس له سبيل إلى ذلك الاسبيل الجدل.

وبمعرفة هذه الأسباب تظهر لنا قوة الحاجة إلى الجدل ونستطيع أن نحكم بأنّه يجب لكلّ من تهمه المعرفة وكل من يريد أن يحافظ على العقائد والآراء أيّة كانت أن يبحث عن صناعة الجدل وقوانينها وأصولها والمتكفّل بذلك هذا الفن الذي عني به متقدموا الفلاسفة من اليوانيين وأهمله المتأخرون في الدورة الاسلامية اهمالاً لا مبرّر له عدا فئة قليلة من أعاظم العلماء كالرئيس ابن سينا والخواجة نصير الدين الطوسي إمام المحققين.

3 - المقارنة بين الجدل والبرهان

قلنا ان الجدل أسلوب آخر من الاستدلال ، وهو يأتى بالمرتبة الثانية بعد البرهان

فلا بد من بحث المقارنة بينهما وبيان ما يفترقان فيه فنقول :

1 - إن البرهان لا يعتمد إلا على المقدّمات التي هي حق من جهة ما هو حق، لتنتج الحق ، أما الجدل فإنّما يعتمد على المقدمات المسلّمة من جهة ما هي مسلّمة ، ولا يشترط فيها أن تكون حقاً ، وان كانت حقاً واقعاً؛ إذ لا يطلب المجادل الحق بما هو حق - كما

ص: 331

قلنا - بل انّما يطلب افحام الخصم وإلزامه بالمقدّمات المسلّمة سواء أكانت مسلّمة عند الجمهور وهي المشهورات العامة والذائعات أم مسلّمة عند طائفة خاصة يعترف بها الخصم، أم مسلّمة عند شخص الخصم خاصة.

2 - إن الجدل لا يقوم إلا بشخصين متخاصمين ، اما البرهان فقد يقام لغرض تعليم

الغير وإيصاله إلى الحقائق بين شخصين كالجدل، وقد يقيمه الشخص ليناجي به نفسه ويعلّمها لتصل إلى الحق .

3 - إنه تقدم في البحث السابق ان البرهان واحد في كل مسألة لا يمكن أن يقيمه كل من الفريقين المتنازعين. اما الجدل فانّه يمكن أن يستعمله الفريقان معاً ما دام الغرض منه إلزام الخصم وافحامه لا الحق ممّا هو حق ، وما دام أنه يعتمد على المشهورات والمسلّمات التي قد يكون بعضها في جانب الاثبات وبعضها الآخر في عين الوقت في جانب النفي. بل يمكن لأحد الفريقين أن يقيم كثيراً من الأدلة الجدلية بلا موجب للحصر على رأي واحد بينما أن البرهان لا يكون الا واحداً لا يتعدّد في المسألة الواحدة ، وإن تعدّد ظاهرا بتعدد العلل الأربع على ما تقدّم في بحث البرهان.

4 - إن صورة البرهان لا تكون الا من القياس على ما تقدّم في بحث البرهان اما المجادل فيمكن أن يستعمل القياس وغيره من الحجج كالاستقراء والتمثيل فالجدل أعم من البرهان من جهة الصورة، غير ان أكثر ما يعتمد الجدل على القياس والاستقراء .

4 - تعريف الجدل

ويظهر بوضوح من جميع ما تقدّم صحة تعريف فن الجدل بما يلى : «انّه صناعة علمية يقتدر معها - حسب الإمكان - على اقامة الحجة من المقدّمات المسلّمة على أي

مطلوب يراد وعلى محافظة أي وضع يتفق على وجه لا تتوجه عليه مناقضة» .

وإنّما قيّد التعريف بعبارة حسب الامكان فلأجل التنبيه على أن عجز المجادل عن تحصيل بعض المطالب لا يقدح في كونه صاحب صناعة ، كعجز الطبيب مثلاً عن مداواة

ص: 332

بعض الأمراض فانّه لا ينفى كونه طبيباً.

ويمكن التعبير عن تعريف الجدل بعبارة أخرى كما يلي :

333

«الجدل صناعة تمكن الإنسان من إقامة الحجج المؤلفة من المسلّمات أو من ردها حسب الارادة ومن الاحتراز عن لزوم المناقصة في المحافظة على الوضع».

5 - فوائد الجدل

ممّا تقدّم تظهر لنا الفائدة الأصلية من صناعة الجدل ومنفعتها المقصودة بالذات وهي أن يتمكن المجادل من تقوية الآراء النافعة وتأييدها ومن إلزام المبطلين والغلبة على المشعوذين، وذوي الآراء الفاسدة على وجه يدرك الجمهور ذلك. ولهذا الصناعة فوائد أخر تقصد منها بالعرض ، نذكر بعضها :

1 - رياضة الأذهان وتقويتها في تحصيل المقدّمات واكتسابها ، إذ يتمكن ذو الصناعة من إيراد المقدّمات الكثيرة والمفيدة في كل باب ومن اقامة الحجة على المطالب

العلمية وغيرها .

2 - تحصيل الحق واليقين في المسألة التي تعرض على الإنسان، فانّه بالقوة الجدلية التي تحصل له بسبب هذه الصناعة يتمكن من تأليف المقدّمات لكلّ من طرفى الايجاب والسلب في المسألة. وحينئذٍ بعد الفحص عن حال كلّ منهما والتأمل فيهما قد يلوح الحق له ، فيميز أنه في أي طرف منهما، ويزيف الطرف الآخر الباطل .

3 - التسهيل على المتعلّم المبتدىء لمعرفة المصادرات في العلم الطالب له، بسبب المقدّمات الجدلية ، إذ أنّه بادىء بدء قد ينكرها ويستوحش منها ، لأنه لم يقو بعد على

الوصول إلى البرهان عليها . والمقدّمات الجدلية تفيده التصديق بها وتسهل عليه

والاعتقاد بها فيطمئن إليها قبل الدخول في العلم ومعرفة براهينها .

4- وتنفع هذه الصناعة أيضاً طالب الغلبة على خصومه، إذ يقوى على المحاورة والمخاصمة والمراوغة وإن كان الحق فى جانب خصمه، فيستظهر على خصمه الضعيف

ص: 333

عن مجادلته ومجاراته، لا سيّما في هذا العصر الذي كثرت فيه المنازعات في الآراء

السياسية والاجتماعي.

5 - وتنفع أيضاً الرئيس للمحافظة على عقائد اتباعه عن المبتدعات .

6 - وتنفع أيضاً الذين يسمونهم في هذا العصر المحامين الذين اتخذوا المحاماة والدفاع عن حقوق الناس مهنة لهم ، فانّهم أشدّ ما تكون حاجتهم إلى معرفة هذه الصناعة، بل أنّها جزء من مهنتهم في الحقيقة.

6 - السؤال والجواب

تقدّم إن الجدل لا يتم الا بين طرفين متنازعين ؛ فالجدلي شخصان : احدهما محافظ على وضع وملتزم له وغاية سعيه الا يلزمه الغير ولا يفحمه . وثانيهما ناقض له وغاية سعيه أن يلزم أن يلزم المحافظ ويفحمه .

والأوّل يسمّى المجيب . واعتماده على المشهورات في تقرير وضعه، أما المشهروات المطلقة أو المحدودة بحسب تسليم طائفة معينة .

والثاني يسمّى السائل واعتماده في نقض وضع المجيب على ما يسلمه المجيب من المقدّمات وإن لم تكن مشهورة.

ولتوضيح سرّ التسمية بالسائل والمجيب نقول : ان الجدل أنّما يتم بأمرين سؤال وجواب ، وذلك لأن المقصود الأصلي من صناعة الجدل عندهم أن تتم بهذه المراحل الأربع:

1 - أن يوجه من يريد نقض وضع ما اسئلة إلى خصمه المحافظ على ذلك الوضع

بطريق الاستفهام، بأن يقول: «هل هذا ذاك؟» أو «أليس إذا كان كذا فكذا؟» ويتدرج

بالأسئلة من البعيد عن المقصود إلى القريب منه حسبما يريد أن يتوصل به إلى مقصوده من تسليم الخصم من دون أن يشعره بأنه يريد مهاجمته ونقض وضعه ، أو يشعره بذلك ولكن لا يشعره من اية ناحية يريد مهاجمته منها ، حتى لا يراوغ ويحتال في الجواب.

ص: 334

2 - أن يستلَّ السائل من خصمه من حيث يدري ولا يدري الاعتراف والتسليم

بالمقدّمات التي تستلزم نقض وضعه المحافظ عليه .

3 - أن يؤلّف السائل قياساً جدليّاً ممّا اعترف وسلّم به خصمه المجيب بعد فرض

اعترافه وتسليمه، ليكون هذا القياس ناقضاً لوضع المجيب .

4 - أن يدافع المحافظ المجيب ويتخلّص عن المهاجمة - ان استطاع - بتاليف قياس من المشهورات التي لابد أن يخضع لها السائل والجمهور.

وهذه الطريقة من السؤال والجواب هي الطريقة الفنيّة المقصودة لهم في هذه الصناعة وهي وهي التي تظهر بها المهارة والحذق في توجيه الأسئلة والتخلّص من الاعتراف أو الالزام. ومن هذه الجهة كانت التسمية بالسائل والمجيب ، لا لمجرد وقوع سؤال وجواب بأي نحو اتفق. والمقصود من صناعة الجدل اتقان تأدية هذه الطريقة حسبما تقتضيه القوانين والأصول الموضوعة فيها.

ونحن يمكننا أن نتوسع في دائرة هذه الصناعة، فنتعدى هذه الطريقة المتقدمة إلى غيرها، بأن نكتفي بتأليف القياس من المشهورات أو المسلّمات لنقض وضع أو للمحافظة على وضع لغرض افحام الخصوم، على أي نحو يتفق هذا التأليف وإن لم يكن على نحو السؤال والجواب ولم يمرّ على تلك المراحل الأربع بترتيبها. ولعلّ تعريف الجدل المتقدّم لا يأبى هذه التوسعة .

بل يمكن أن نتعدّى إلى أبعد من ذلك حينئذ ، فلا نخص الصناعة بالمشافهة، بل نتعدى بها إلى التحرير والمكاتبة . وفي هذه العصور لا سيّما الأخيرة منها بعد انتشار الطباعة والصحف أكثر ما تجري المناقشات والمجادلات في الكتابة، وتبتني على المسلّمات والمشهورات على غير الطريقة البرهانية، من دون أن تتألف صورة سؤال وجواب. ومع ذلك نسميها قياسات جدلية، أو ينبغي أن نسميها كذلك، وتشملها كثير من اصول صناعة الجدل وقواعدها فلا ضير في هذه الصناعة وشمول بعض قواعدها وآدابها لها.

ص: 335

7- مبادىء الجدل

أشرنا فيما سبق إلى ان مبادىء الجدل الأولية التي تعتمد عليها هذه الصناعة هي المشهورات والمسلّمات، وان المشهورات مبادىء مشتركة بالنسبة إلى السائل والمجيب، والمسلّمات مختصة بالسائل .

كما أشرنا إلى ان المشهورات يجوز أن تكون حقاً واقعاً وللجدلى أن يستعملها في قياسه. أما استعمال الحق غير المشهور بما هو حق في هذه الصناعة فانه يعد مغالطة من الجدلي لأنه في استعمال أية قضية لا يدعي انها في نفس الأمر حق . وانّما يقول : ان هذا الحكم ظاهر واضح في هذه القضية ويعترف بذلك الجميع ويكون الحكم مقبولاً لدى كلّ أحد .

ثم أنا أشرنا في بحث المشهورات ان للشهرة أسباباً توجبها ، وذكرنا أقسام المشهورات حسسب اختلاف أسباب الشهرة فراجع والسر في كون الشهرة لا تستغني عن السبب أن شهرة المشهور ليست ذاتية ، بل هي أمر عارض، وكل عارض لا بد له من سبب وليست هي كحقيقة الحق التي هي أمر ذاتي للحق لا تعلّل بعلة.

وسبب الشهرة لابد أن يكون أمرا تألفه الأذهان وتدركه العقول بسهولة، ولولا ذلك لما كان الحكم مقبولاً عند الجمهور وشايعا بينهم.

وعلى هذه يتوجه علينا سؤال وهو : إذا كانت الشهرة لا تستغنى عن السبب ، فكيف جعلتم المشهورات من المبادىء الأوليّة أي ليست مكتسبة ؟

والجواب ان سبب حصول الشهرة لوضوحه لدى الجمهور تكون أذهان الجمهور غافلة عنه ولا تلتفت إلى سرّ انتقالها إلى الحكم المشهور فيبدو لها أن المشهورات غيرمكتسبة من سبب كأنها من تلقاء نفسها انتقلت إليها ، وأنّما يعتبر كون الحكم مكتسبا إذا صدر الانتقال إليه بملاحظة سببه . وهذا من قبيل القياس الخفى فى المجربات والفطريات التي قياساتها معها ، على ما أوضحناه في موضعه، فانّما مع كونها لها قياس وهو السبب الحقيقي لحصول العلم بها عدوّها من المبادىء غير المكتسبة، نظراً إلى أن حصول العلم

ص: 336

فيها عن سبب خفي غير ملحوظ للعالم ومغفول عنه لوضوحه لديه .

ثم لا يخفى أنه ليس كل ما يسمّى مشهوراً هو من مبادىء الجدل، فإن الشهرة تختلف بحسب اختلاف الأسباب في كيفية تأثيرها في الشهرة. وبهذا الاعتبار تنقسم المشهورات إلى ثلاثة أقسام:

1 - المشهورات الحقيقية، وهي التي لا تزول شهرتها بعد التعقيب والتأمل فيها .

2 - المشهورات الظاهرية، وهي المشهورات في بادىء الرأي التي تزول شهرتها بعد التعقيب والتأمل، مثل قولهم: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، فانّه يقابله المشهور الحقيقي وهو : «لا تنصر الظالم وإن كان أخاك».

3 - الشبيهة بالمشهورات، وهي التي تحصل شهرتها بسبب عارض غير لازم تزول الشهرة بزواله، فتكون شهرتها في وقت دون وقت و حال دون حال، مثل استحسان الناس في العصر المتقدّم لإطلاق الشوارب تقليداً لبعض الملوك والأمراء، فلما زال هذا السبب زالت هذه العادة وزال الاستحسان.

ولا يصلح للجدل الا القسم الأوّل دون الأخيرين ، أمّا الظاهرية فانّما تنفع فقط في صناعة الخطابة كما سيأتي ، وأما الشبيهة بالمشهورات فنفعها خاص بالمشاغبة كما

سيأتي في صناعة المغالطة .

8- مقدمات الجدل

كل ما هو مبدأ للقياس معناه أنه يصلح أن يقع مقدّمة له ولكن ليس يجب في كل ما

هو مقدّمة أن يكون من المبادىء ، بل المقدّمة أمّا أن تكون نفسها من المبادىء أو تنتهي إلى المبادىء. وعليه فمقدمات القياس الجدلي يجوز أن تكون في نفسها مشهورة، ويجوز أن تكون غير مشهورة ترجع إلى المشهورة كما قلنا في مقدّمات البرهان أنها

تكون بديهية وتكون نظرية تنتهى إلى البديهية .

والرجوع إلى المشهورة على نحوين :

ص: 337

أ - أن تكتسب شهرتها من المقارنة والمقايسة إلى المشهورة. وتسمّى المشهورة بالقرائن والمقارنة بين القضيتين اما لتشابهما في الحدود أو لتقابلهما فيها. وكل من التشابه

والتقابل يوجب انتقال الذهن من تصور شهرة احداهما إلى تصور شهرة الثانية، وان لم يكن هذا الانتقال في نفسه واجباً، وانما تكون شهرة احداهما مقرونة بشهرة الاخرى.

مثال التشابه ، قولهم : إذا كان اطعام الضعيف حسنا فقضاء حوائجه حسن أيضاً فإن حسن اطعام الضعيف مشهور وللتشابه بين الإطعام وقضاء الحوائج تستوجب المقارنة بينها انتقال الذهن إلى حسن قضاء حوائج الضيف ومثال التقابل ، قولهم : إذا كان الاحسان إلى الأصدقاء حسناً كانت الإساءة إلى الأعداء حسنة ؛ فإن التقابل بين الاحسان والاساءة وبين الأصدقاء والأعداء يستوجب انتقال الذهن من إحدى القضيتين إلى الاخرى بالمقارنة والمقايسة.

ب - أن تكون المقدّمة مكتسبة شهرتها من قياس مؤلف من المشهورات منتج لها بأن تكون هذه المقدّمة المفروضة مأخوذة من مقدمات مشهورة. نظير المقدّمة النظرية في

البرهان إذا كانت مكتسبة من مقدمات بديهية .

9 - مسائل الجدل

كل قضية كان السائل قد أورد عينها فى حال سؤاله أو أورد مقابلها فإنّها تسمّى مسألة الجدل وبعد أن يسلم بها المجيب ويجعلها السائل جزءاً من قياسه هي نفسها تسمّى مقدمة الجدل.

إذا عرفت ذلك فكل قضية لها ارتباط في نقض الوضع الذي يراد نقضه تصلح أن تقع مورداً لسؤال السائل، ولكن بعض القضايا يجدر به أن يتجنبها ؛ نذكر بعضها : منها: أنّه لا ينبغى للسائل أن يجعل المشهورات موردا لسؤاله، فإن السؤال عنها معناه جعلها في معرض الشك والترديد وهذا ما يشجع المجيب على انكارها ومخالفة

ص: 338

المشهور. فلو التجأ السائل لا يراد المشهورات فليذكرها على سبيل التمهيد للقواعد التي يريد أن يستفيد منها لنقض وضع المجيب باعتبار أن تلك المشهورات مفروغ عنها لا مفر من الاعتراف بها.

ومنها: أنّه لا ينبغي له أن يسأل عن ماهية الأشياء ولا عن لميتها (عليتها) لأن مثل هذا السؤال انّما يرتبط بالتعليم والاستفادة لا بالجدل والمغالبة ؛ بل السؤال عن الماهية لو احتاج إليه فينبغي أن يضعه على سبيل الاستفسار عن معنى اللفظ ، أو على سبيل السؤال عن رأيه وقوله في الماهية ، بأن يسأل هكذا: «هل تقول ان الإنسان هو الحيوان الناطق أو لا ؟ أو يسأل هكذا لو لم يكن حد الإنسان هو الحيوان الناطق فما حده إذن؟». وكذلك السؤال في اللمية لا بد أن يجعل السؤال عن قوله ورأيه فيها لا ع--ن أصل العلية .

10 - مطالب الجدل

ان الجدل ينفع في جميع المسائل الفلسفية والاجتماعية والدينية والعلمية والسياسية والأدبية وجميع الفنون والمعارف وكلّ قضية من ذلك تصلح أن تكون مطلوبة به . ويستثنى من ذلك قضايا لا تطلب بالجدل :

منها : المشهورات الحقيقية المطلقة، لأنها لما كانت بهذه الشهرة لا يسع لأح--د انکارها والتشكيك بها حتى يحتاج اثباتها إلى حجّة . وحكمها من هذه الجهة حكم البديهيات، فإنّها لا تطلب بالبرهان. ويجمعها انها غير مكتسبة فلا تكتسب بحجة .

ومن ينكر المشهورات لا تنفع معه حجّة جدلية لأن معنى اقامتها ارجاعه إلى القضايا المشهورة وقد ينكرها أيضاً. ومثل هذا المنكر للمشهورات لا ردّ له إلا العقاب أو السخرية والاستهزاء أو احساسه : فمن ينكر مثل حسن عبادة الخالق وقبح عقوق الوالدين، فحقه العقاب والتعذيب. ومنكر مثل ان القمر مستمد نوره من الشمس يسخر به ويضحك عليه . ومنكر مثل أن النار حارة يكوى بها ليحس بحرارتها .

ص: 339

نعم قد يطلب المشهور بالقياس المجدلي في مقابل المشاغب كما تطلب القضية الأولية بالبرهان في مقابل المغالط .

أمّا المشهورات المحدودة أو المختلف فيها فلا مانع من طلبها بالحجة الجدلية في مقابل من لا يراها مشهورة أو لا يعترف بشهرتها ، لينبهه على شهرتها بما هو أعرف وأشهر.

ومنها : القضايا الرياضية ونحوها لأنها مبتنية على الحس والتجربة ، فلا مدخل للجدل فيها ولا معنى لطلبها بالمشهورات ، كقضايا الهندسة والحساب والكيمياء والميكانيك ونحو ذلك .

11 - أدوات هذه الصناعة

عرفنا فيما سبق ان الجدل يعتمد على المسلمات والمشهورات غير أن تحصيل ملكة هذه الصناعة بأن يتمكن المجادل من الانتفاع بالمشهورات والمسلمات في وقت الحاجة عند الاحتجاج على خصمه أو عند الاحتراز من الانقطاع والمغلوبية ليس بالأمر الهين كما قد يبدو لأول وهلة. بل يحتاج إلى مران طويل حتى تحصل له الملكة شأن كل ملكة في كل صناعة . ولهذا المران موارد أربعة هي أدوات للملكة إذا استطاع الإنسان أن يحوز عليها فإن لها الأثر البالغ في حصول الملكة وتمكن الجدلي من بلوغ غرضه.

ونحن واصفون هنا هذه الأدوات. وليعلم الطالب انه ليس معنى معرفة وصف هذه الأدوات انه يكون حاصلاً عليها فعلاً، بل لابد من السعى لتحصيلها بنفسه عملاً واستحضارها عنده ، فإن من يعرف معنى المنشار لا يكون حاصلاً لديه ولا يكون ناشراً للخشب ، بل الذي ينشره من تمكن من تحصيل نفس الآلة وعمل بها في نشر الخشب . نعم معرفة أوصاف الآلة طريق لتحصيلها والانتفاع بها .

والأدوات الأربع المطلوبة هي كما يلي:

ص: 340

الأداة الاولى :أن يستحضر لديه أصناف المشهورات من كل باب ومن كل مادة على اختلافها، ويعدها في ذاكرته لوقت الحاجة، وأن يفصل بين المشهورات المطلقة وبين المحدودة عند أهل كل صناعة أو مذهب، وأن يميز بين المشهورات الحقيقية ،وغيرها، وأن يعرف كيف يستنبط المشهور ويحصل على المشهورات بالقرائن وينقل حكم الشهرة من قضية إلى أخرى.

فإذا كمل له كل ذلك وجمعه عنده فإن احتاج إلى استعمال مشهور كان حاضراً

لديه متمكنا به من الاحتجاج على خصمه .

وهذه الأداة لازمة للجدلي، لأنه لا ينبغي له أن ينقطع أمام الجمهور ولا يحسن منه

أن يتأنى ويطلب التذكر أو المراجعة فإنّه يفوت غرضه ويعد فاشلاً لأن غايته آنية. الغلبة على خصمه أمام الجمهور فيفوت غرضه بفوات الأوان، على العكس من طالب الحقيقة بالبرهان، فإن تأنيه وطلبه للتذكر والتأمل لا ينقصه ولا ينافي غرضه من تحصيل

الحقيقة ولو بعد حين .

ومما ينبغي أن يعلم أن هذه الملكة (ملكة استحضار المشهور عند الحاجة) يجوز أن تتبعض، بأن تكون مستحضرات المجادل خاصة بالموضوع المختص ب--ه ؛ فالمجادل في الأمور الدينية مثلا يكفي أن يستحضر المشهورات النافعة في موضوعه خاصة ، ومن يجادل في السياسة انّما يستحضر خصوص المشهورات المختصة بهذا الباب فيكون صاحب ملكة في جدل السياسة فقط ... وهكذا في سائر المذاهب والآراء. وعليه فلا يجب في الجدلي المختص بموضوع أن تكون ملكته عامة لجميع المشهورات في جميع العلوم والآراء.

الأداة الثانية: القدرة والقوة على التمييز بين معاني الألفاظ المشتركة والمنقولة والمشككة والمتواطئة والمتباينة والمترادفة وما إليها من أحوال الألفاظ والقدرة على تفصيلها على وجه يستطيع أن يرفع ما يطرأ من غموض واشتباه فيها، حتى لا يقتصر على الدعوى المجردة في ايرادها في حججه ، بل يتبين وجه الاشتراك أو التشكيك أو

ص: 341

غير ذلك من الأحوال.

وهناك أصول وقواعد قد يرجع إليها لمعرفة المشترك اللفظي وتمييزه عن المشترك المعنوي ولمعرفة باقي أحوال اللفظ ، لا يسعها هذا الكتاب المختصر . ولأجل أن يتنبه الطالب لهذه الأبحاث نذكر مثالاً لذلك، فنقول :

لو اشتبه لفظ في كونه مشتركا لفظياً أو معنوياً فإنّه قد يمكن رفع الاشتباه بالرجوع إلى اختلاف اللفظ بحسب اختلاف الاعتبارات، مثل كلمة قوّة فإنّها تستعمل بمعنى القدرة كقولنا قوّة المشيء والقيام مثلاً، وتستعمل بمعنى القابلية والتهيؤ للوجود مثل قولنا الاخرس ناطق بالقوة، والبذرة شجرة بالقوة. فلو شككنا في انها موضوعة لمعنى أعم أو لكل من المعنيين على حدة، فإنّه يمكن أن نقيس اللفظ إلى ما يقابله فنرى في المثال أن بحسب كل معنى يقابله لفظ آخر وليس له مقابل واحد ؛ فمقابل القوّة بالمعنى الأول الضعف ومقابلها بالمعنى الثاني الفعلية ولتعدّد التقابل نستظهر أن لها معنيين لا معنى واحدا وإلا لكان لها مقابل واحد . اللفظ

وكذلك يمكن أن تستظهر أن للفظة معنيين على نحو الاشتراك اللفظي ، إذا تعدّد

جمعها بتعدد معناها، مثل لفظة أمر فإنّها بمعنى شيء تجمع على أمور وبمعنى طلب الفعل تجمع على أوامر. فلو كان لها معنى واحد مشترك لكان لها جمع واحد .

ثم ان كثيراً ما تقع المنازعات بسبب عدم تحقيق معنى اللفظ ، فينحو كل فريق من المتنازعين منحى من معنى اللفظ غير ما ينحوه الفريق الآخر ويتخيل كل منها ان المقصود لهما معنى واحد هو موضع الخلاف بينهما . ومن له خبرة في أحوال اللفظ يستطيع أن يكشف مثل هذه المغالطات ويوقع التصالح بين الفريقين. ويمكن التمثيل لذلك بالنزاع في مسألة جواز رؤية الله ، فيمكن أن يريد من يجيز الرؤية هي الرؤية القلبية أي الادراك بالعقل بينما أن المقصود لمن يحيلها هي الرؤية بمعنى الادراك بالبصر فتفصيل معنى الرؤية وبيان أن لها معنيين قد يزيل الخلاف والمغالطة. وهكذا يمكن كشف النزاع في كثير من الأبحاث . وهذا من فوائد هذه الأداة .

ص: 342

الأداة الثالثة: القدرة والقوّة على التمييز بين المتشابهات سواء كان التمييز بالفصول أو بغيرها . وتحصيل هذه القوّة (الملكة) بالسعي في طلب الفروق بين الأشياء المتشابهة تشابها قريباً لا سيّما في تحصل وجوه اختلاف أحكام شيء واحد بل تحصل بطلب المباينة بين الأشياء المتشابهة بالجنس.

وتظهر فائدة هذه الأداة في تحصل الفصول والخواص للأشياء، فيستعين بذلك على الحدود والرسوم . وتظهر الفائدة للمجادل كما لو ادعى خصمه مثلاً أن شيئين لهما حكم واحد باعتبار تشابههما فيقيس أحدهما على الآخر ، أو أن الحكم ثابت للعام الشامل لهما، فإنّه أي المجادل إذا ميز بينهما وكشف ما بينهما من فروق تقتضي اختلاف أحكامهما ، ينكشف اشتباه الخصم ويقال له مثلاً : ان قياسك الذي ادعيته قياس مع

الفارق.

مثاله ما تقدم في بحث المشهورات في دعوى منكر الحسن والقبح العقليين ، إذ استدل على ذلك بأنه لو كان عقلياً لما كان فرق بينه وبين حكم العقل بأن الكلّ أعظم من الجزء مع ان الفرق بينهما ظاهر . فاعتقد المستدل أن حكمي العقل في المسألتين نوع واحد واستدلّ بوجود الفرق على انكار حكم العقل في مسألة الحسن و القبح.

وقد أوضحنا هناك الفرق بين العقلين وبين الحكمين بما أبطل قياسه فكان قياساً مع الفارق . وهذا المثال أحد موارد الانتفاع بهذه الأداة.

الأداة الرابعة: القدرة على بيان التشابه بين الأشياء المختلفة عكس الأداة الثالثة، سواء كان التشابه بالذاتيات أو بالعرضيات. وتحصل هذه القدرة (الملكة) بطلب وجوه التشابه بين الأمور المتباعدة جداً أو المتجانسة وبتحصيل ما به الاشتراك بين الأشياء وان كان أمراً عدمياً .

ويجوز أن يكون وجه التشابه نسبة عارضة . والحدود في النسبة أما أن تكون متصلة أو منفصلة : أمّا المتصلة فكما لو كان شيء واحد منسوباً أو منسوباً إليه ف--ي الطرفين، أو أنه في أحد الطرفين منسوباً وفي الثاني منسوباً إليه، فهذه ثلاثة أقسام:

ص: 343

مثال الأول: ما لو قيل : نسبة الامكان إلى الوجود كنسبته إلى العدم. ومثال الثاني

ما لو قيل : نسبة البصر إلى النفس كنسبة السمع إليها . ومثال الثالث ما لو قيل : نسبة النقطة إلى الخط كنسبة الخط إلى السطح.

أما المنفصلة ففيما إذا لم يشترك الطرفان في شيء واحد أصلاً كما لو قيل :نسبة الأربعة إلى الثمانية كنسبة الثلاثة الى الستة .

وفائدة هذه الأداة اقتناص الحدود والرسوم بالاشتراك مع الأداة السابقة . فإن هذه الأداة تنفع لتحصيل الجنس وشبه الجنس والأداة السابقة تنفع في تحصل الفصول والخواص كما تقدّم.

وتنفع هذه الأداة في إلحاق بعض القضايا ببعض آخر في الشهرة أو في حكم اخر ، ببيان ما به الاشتراك في موضوعيهما، بعد أن يعلّل الحكم بالأمر المشترك كما في التمثيل.

وتنفع هذه الأداة أيضاً الجدلي فيما لو ادعى خصمه الفرق في الحكم بين شيئين ، فيمكنه أن يطالب بايراد الفرق ، فإذا عجز عن بيانه لابد أن يسلم بالحكم العام ويذعن . وإن كان بحسب التحقيق العلمي لا يكون العجز عن ايراد الفرق بل حتى نفس عدم الفرق مقتضياً لإلحاق شيء بشبيهه في الحكم.

ص: 344

المبحث الثاني : المواضع
1 - معنى الموضع

للتعبير بالموضع أهمية خاصة في هذه الصناعة، فينبغي أن نتقن جيداً معنى هذه اللفظة قبل البحث عن أحكامه، فنقول :

الموضع - باصطلاح هذه الصناعة - هو الأصل أو القاعدة الكلية التي تتفرع منها قضايا مشهورة .

وبعبارة ثانية أكثر وضوحاً، الموضع كل حكم كلي تنشعب منه وتتفرع عليه أحكام كلية كثيرة كل واحد منها بمثابة الجزئي بالاضافة إلى ذلك الكلّي الأصل لها، وفي عين الوقت كل واحد من هذه الأحكام المتشعبة مشهور في نفسه يصح أن يقع مقدمة في

القياس الجدلي بسبب شهرته.

ولا يشترط في الأصل (الموضع) أن يكون في نفسه مشهوراً، فقد يكون وقد لا يكون . وحينما يكون في نفسه مشهوراً صح أن يقع - كالحكم المنشعب منه - مقدمة ف--ي القياس الجدلي، فيكون موضعاً باعتبار ومقدّمة باعتبار آخر .

مثال الموضع قولهم: «إذا كان أحد الضدين موجودا في موضوع كان ضده الآخ--ر موجوداً في ضدّ ذلك الموضوع». فهذه القاعدة تسمّى موضعاً، لأنه تنشعب منها عدة أحكام مشهورة تدخل تحتها مثل قولهم : إذا كان الاحسان للأصدقاء حسنا فالاساءة إلى الأعداء حسنة أيضاً ، وقولهم : «إذا كانت معاشرة الجهال مذمومة فمقاطعة العلماء

ص: 345

مذمومة»، وقولهم : «إذا جاء الحق زهق الباطل وقولهم : «إذا كثرت الأغنياء قلّت الفقراء»... وهكذا فهذه الأحكام وأمثالها أحكام جزئية بالقياس إلى الحكم الأول العام ، وفي نفسها أحكام كلية مشهورة.

مثال ثان للموضع قولهم : «إذا كان شيء موجوداً في وقت أو موضع أو حال أو موضوع فإنّه موجود مطلقاً وقولهم : وكل شيء بحسب عرض ممكن أو نافع أو جميل فهو مطلقاً ممكن أو نافع أو جميل». فهذه القاعدة تسمّى موضعاً، لأنه تنشعب منها ع--دة أحكام مشهورة، مثل أن يقال: «إذا كذب الرجل مرّة فهو كاذب مطلقاً» و «إذا كان السياسي يذيع السر في بيته فهو مذيع للسرّ مطلقا» و «إذا صبر الإنسان في حال الشدّة فهو صابر مطلقاً» و «إذا ملك الإنسان العقار فهو مالك مطلقاً ومثل أن يقال: «إذا أمكن الطالب أن يجتهد في مسألة فقهية فالإجتهاد ممكن له مطلقاً» و«إذا كان الصدق نافعاً ف--ي الح--ال الاعتيادية فهو نافع مطلقاً» و «إذا حسنت مجاملة العدو في حال اللقاء فهي حسنة مطلقاً» ... . وهكذا تتشعب من ذلك الموضع كثير من أمثال هذ الأحكام المشهورة التي هی من جزئياته .

وأكثر المواضع ليست مشهورة . وأنّما الشهرة لجزئياتها فقط . والسر في ذلك :

1 - أن تصور العام أبعد عن عقول العامة من تصور الخاص، فلا بد أن تكون شهرة كل عام أقل من شهرة ما هو أخص منه . لأن صعوبة التصوّر تستدعي صعوبة التصديق. وهذه الصعوبة تمنع الشهرة وان لم تمنعها فإنّها تقللها على الأقل.

2 - أن العام يكون في معرض النقض أكثر من الخاص، لأن نقض الخاص يستدعي

نقض العام ولا عكس. ولهذا يكون الاطلاع على كذب العام أسهل وأسرع .

ولأجل التوضيح نجرب ذلك في الموضع الأول المذكور آنفاً:

فإنا عند ملاحظة الأضداد نجد ان السواد والبياض مثلاً من الأضداد مع أنّهما معاً يعرضان على موضوع واحد وهو الجسم، لا أن البياض يعرف على نوع من الجسم مثلاً

والسواد يعرض على ضده كما يقتضيه هذا الموضع .

ص: 346

إذن هذا الموضع كاذب لا قاعدة كليّة فيه . فانظر كيف اطلعنا بسهولة على كذب هذا العام.

أمّا الأحكام المشهورة المنشعبة منه كمثال الاحسان إلى الأصدقاء والاساءة إلى الأعداء، فإن النقض المتقدم للموضع لا يستلزم نقضها ، لما قلناه أن نقض العام لا يستدعي

نقض الخاص . مثلاً نجد امتناع تعاقب الضدين مثل الزوجية والفردية على موضوع واحد بأن يكون عدد واحد مرّة زوجاً ومرّة فرداً ، فكون بعض أصناف الأضداد كالبياض والسواد يجوز تعاقبهما على موضوع واحد لا يستلزم أن يكون كل ضدين كذلك ، فجاز أن يكون الإحسان والإساءة من قبيل الزوجية والفردية لا من قبيل السواد والبياض.

وحينئذٍ يجب ملاحظة جزئيات هذا الحكم المنشعب من الموضع ، فإذا لاحظناها ولم نعثر فيما بينها على نقض له ولم نطلع على مشهور آخر يقابله، فلابد أن يك--ون ف--ي موضع التسليم ولا يلتفت إلى الأضداد الأخرى الخارجة عنه.

والخلاصة ان كذب الموضع لا يستكشف منه كذب الحكم المنشعب منه المشهور.

2 - فائدة الموضع وسر التسمية

وعلى ما تقدّم يتوجه السؤال عن الفائدة من المواضع في هذه الصناعة إذا كانت الشهرة ليست له ؟

والجواب : ان الفائدة منه هي أن صاحب هذه الصناعة يستطيع أن يعد المواضع ويحفظها عنده اصولاً وقواعد عامة ، ليستنبط منها المشهورات النافعة له في الجدل عند الحاجة للأبطال أو الاثبات واحصاء المواضع (القواعد العامة) أسهل وأجدى في التذكر

من احصاء جزئياتها (المشهورات المنشعبة منها ).

ولذا قالوا ينبغي للمجادل الا يصرّح بالموضع الذي استنبط منه المشهور ؛ بل

يحتفظ به بينه وبين نفسه، حتّى لا يجعله معرضا للنقض والردّ، لأن نقضه ورده كما تقدّم أسهل وأسرع.

ص: 347

ومن أجل هذا سمّي الموضع موضعاً لأنه موضع للحفظ والانتفاع والاعتبار. وقيل : انما سمي موضعاً لأنه يصلح أن يكون موضع بحث ونظر. وهو وجيه أيضاً وقيل غير ذلك ، ولا يهم التحقيق فيه.

3- أصناف المواضع

جميع المواضع في المطالب الجدلية انّما تتعلّق باثبات شيء لشيء أو نفيه عنه ، أي تتعلّق بالاثبات والإبطال.

وهذا على اطلاقه مما لا يسهل ضبطه واعداد المواضع بحسبه. فلذلك وجب على من يريد إعداد المواضع وضبطها ليسهل عليه ذلك أن يصنفها ليلاحظ في كل صنف ما یلیق به من المواضع ويناسبه .

والتصنيف في هذا الباب انّما يحسن بتقسيم المحمولات حسبما يليق بها في هذه الصناعة ؛ وقد بحث المنطقيون هنا عن أقسام المحمولات بالاسلوب المناسب لهذا الصناعة ، وان اختلف عن الاسلوب المعهود في بحث الكليات .

ونحن لأجل أن نضع خلاصة لابحاثهم وفهرسا لمباحثهم في هذا الباب نسلك طريقتهم في التقسيم، فنقول :

ان المحمول إما أن يكون مساوياً للموضوع في الانعكاس(1)وإما أن لا يكون :

والأوّل لا يخلو عن أحد أمرين :

أ - أن يكون دالاً على الماهية والدال على الماهية أحد شيئين : حدّ أو اسم .

والاسم ساقط عن الاعتبار هنا لأن حمله على الموضوع حمل لفظي لا حقيقي، فلا يتعلّق به غرض المجادل فينحصر الدال على الماهية في الحدّ فقط.

ص: 348


1- معنى مساواة المحمول للموضوع في الانعكاس أنّه يصدق المحمول كليا على جميع ما أمكن أن يصدق عليه الموضوع، ويصدق الموضوع كليا على جميع ما أمكن أن يصدق عليه المحمول.

ب - أن لا يكون دالاً على الماهية. ويسمّى هنا خاصة وقد يسمّى أيضاً رسماً

لأنه يكون موجباً لتعريف الماهية بتمييزها عما عداها .

والثاني لا يخلو أيضاً عن أحد أمرين :

أ - أن يكون واقعاً في طريق ما هو . ويستى هنا جنساً والجنس بهذا الاصطلاح يشمل الفصل باصطلاح باب الكليات، إذ لا فائدة تظهر فى هذا الفن بين الجنس والفصل. وانما كان الفصل من أقسام ما ليس بمساو للموضوع، فلأنه بحسب مفهومه وذاته بالقوة يمكن أن يقع على الأشياء المختلفة بالحقيقة، وإن كان فعلاً لا يقع الا على الأشياء المتفقة الحقيقة ، فإن الناطق مثلاً لا يقع فعلاً الا على أفراد الإنسان، ولكنه بالقوة وبحسب مفهومه يصلح للصدق على غير الإنسان لو كان له النطق، فلا يمتنع فرض صدقه على غير الإنسان؛ فلم يكن مفهوماً مساوياً للإنسان. وبهذا الاعتبار يسمّى هنا جنساً.

ب - أن لا يكون واقعاً في طريق ما هو، ويسمّى عرضا . والعرض شامل للعرض العام وللعرض الذي هو أخص من الموضوع ، إذ أن كلا منهما غير مساو للموضوع، كما أنه غير واقع في جواب ما هو .

وعلى هذا فالمحمولات أربعة حد، وخاصة ، وجنس، وعرض . أما النوع فلايقع محمولاً ، لأنّه أما أن يحمل على الشخص أو على الصنف ، ولا اعتبار بحمله على الشخص هنا، لأن موضوعات مباحث الجدل كليات. وأمّا الصنف فحمل الن--وع عليه بمثابة حمل اللوازم، لأن النوع ليس نوعاً للنصف، فيدخل النوع من هذه الجهة في ب--اب العرض.

وعليه فالنوع بما هو نوع لا يقع محمولاً في القضية . بل انّما يقع موضوعاً فقط .

إذا عرفت أقسام المحمولات على النحو المتقدّم الذي يهم الجدلي، فاعلم أنّه لا يتعلق غرض المجادل في مقام المخاصمة في أن محموله في مطلوبه أي قسم منها ، فإن كل غرضه أن يتوصل إلى اثبات حكم أو ابطاله، اما أنه جنس أو خاصة أو أي شيء آخر فليس ذلك يحتاج إليه .

ص: 349

وانّما الذي يحتاج إليه قبل المخاصمة والمجادلة أن يعد المواضع لاستنباط المشهورات التي تنفعه عند المخاصمة . واعداد هذه المواضع في هذه الصناعة يتوقف على تفصيل المحمولات حسب تلك الأقسام ليعرف لكلّ محمول ما يناسبه من المواضع.

وعليه فالمواضع منها ما يخص الحدّ - مثلاً - فينظر لأجل اثباته في أنّه يجب أن يكون موجوداً لموضوعه وانه مساو له وانه واقع في طريق ما هو وأنه قائم مقام الاسم في

الدلالة على الموضوع .

ومنها ما يخص الخاصة ، فينظر لأجل اثباتها في انها يجب أن تكون موجودة الموضوعها وأنّه مساوية له وانه غير واقعة في طريق ما هو ... وهكذا باقي أقسام

المحمولات.

فتكون المواضع على ما تقدّم - أربعة أصناف .

ثم ان هناك مواضع عامة للاثبات والابطال لا تخص أحد المحمولات الأربعة بالخصوص وتنفع في جميع المحمولات . وتسمّى مواضع الإثبات والإبطال. فيضاف هذا الصنف إلى الأصناف السابقة، فتكون خمسة .

ثم لاحظوا ان كثيراً ما يهم الجدلى اثبات ان هذا المحمول أشدّ من غيره أو أضعف أو أولى وغير أولى . وهذا انما يصح فرضه في الاعراض الخاصة لانها هي التي تقبل التفاوت فزادوا صنفاً سادساً وسموه مواضع الأولى والآثر؛ ثم لاحظوا أنّه قد يتوجه نظر الجدلي إلى بحث آخر ، وهو اثبات الاتحاد بين الشيئين أما بحسب الجنس أو النوع أو العارض أو الوجود، فسموا المواضع في ذلك مواضع هو هو.

وعلى هذا فتكون المواضع سبعة . وتفصيل هذه المواضع يحتاج إلى فن مستقل لا تسعه هذه الرسالة المختصرة. على ان كل مجادل مختص بفن كالفقيه والمتكلّم والمحامى والسياسي لابد أن يتقن فنه قبل أن يبرز إلى الجدال ؛ فيطلع على ما فيه من مشهورات و مسلمات وما يقتضيه من المشهورات. فلا تكون له كبير حاجة إلى معرفة

ص: 350

المواضع في علم المنطق وتحضيرها من طريقه .

ولأجل ألا نكون قد حرمنا الطالب من التنبه للمقصود من المواضع نذكر بعض

المواضع لبعض الأصناف السبعة المتقدمة، ونحيله على الكتب المطولة في هذا الفن إذا

أراد الاستزادة ، فنقول:

4- مواضع الإثبات والإبطال

مواضع الاثبات والأبطال نفعها عام في جميع المحمولات كما تقدّم ؛ واثبات وابطال الأعراض داخلة في هذا الباب أيضاً. واشهر المواضع في هذا الباب عدوها عشرين موضعا، وما ذكرناه من أمثلة المواضع فيما سبق هي من مواضع الاثبات والابطال . ونذكر الآن مثالاً واحداً غيرها ، وهو :

ان العارض على المحمول عارض على موضوعه، فيمكن أن تثبت عروض شيء للموضوع بعروضه لمحموله، وتبطل عروضه للموضوع بعدم عروضه لمحموله، فمثلاً يقال : الجمهور .عاطفي. فالجمهور موضوع و عاطفي محمول. وهذا المحمول وهو العاطفى يوصف بأنّه تقوى فيه طبيعة المحاكاة فيثبت من ذلك ان الجمهور يوصف بأنه

تقوى فيه طبيعة المحاكاة .

ويقال أيضاً: السياسي نفعي . ثم ان هذا المحمول، وهو النفعي، يوصف بأنه يقدم منفعته الخاصة على المصلحة العامة. فيثبت أن السياسي يقدم منفعته الخاصة على المصلحة العامة .

ويقال أيضاً الصادق عادل . ثم ان هذا المحمول ، وهو العادل ، لا يوصف بكونه ظالماً أي لا يعرض عليه الظلم فيبطل بذلك كون الصادق ظالماً .

ومعنى هذا الموضع إنك تستنبط من مشهورين مشهوراً ثالثاً. والمشهوران هما حمل المحمول على موضوعه واتصاف المحمول بصفة كالمثالين الأولين، فتستنبط المشهور الثالث وهو حمل صفة المحمول على الموضوع أو المشهوران هما حمل

ص: 351

المحمول على موضوعه وعدم اتصاف المحمول بصفة كالمثال الأخير، فتستنبط منهما المشهور الثالث وهو ابطال اتصاف الموضوع بتلك الصفة .

5 - مواضع الأولى والأثر

أصل هذا الباب ترجيح شيء واحد من شيئين بينهما مشاركة في بعض الوجوه . والألفاظ المستعملة المتداولة في التفضيل هي كلمة آثر واولى وأفضل وأكثر وأزيد وأشدّ وأشرف وأقدم وما يجري مجرى ذلك ؛ وما يقابل كل واحد منها، مثل الانقص والأخس والأقل والأضعف وهكذا. ولكل من كلمات التفضيل هذه خصوصية يطول الكلام في شرحها .

وانها يحتاج إلى المواضع في هذا الباب ففي الامور التي لا يظهر فيها التفاضل لأوّل وهلة والا فما هو ظاهر التفاضل فيه مثل : ان الشمس أكثر ضوءاً من القمر يكون ايراد المواضع لاثباته حشوا ولغوا.

وكثيراً ما يقع التنازع بين الناس في تفضيل شخص على شخص أو شيء على شيء من مأكولات وملبوسات ومسكونات ومراتب ووظائف واخلاق وعادات ... وهكذا.

والتنازع تارة يكون من هو الأفضل مع الاتفاق على وجه الفضيلة، كأن يتنازع شخصان في أن حاتم الطائي أكثر كرماً أم معن بن زائدة ؟ مع الاتفاق بينهما على أن الكرم فضيلة وأنه قد اتصفا بها معاً. ومثل هذا النزاع أنّما يتوقف على ثبوت حوادث تأريخية تكشف عن الأفضلية وليس على هذا الفن.

وأخرى يكون النزاع في وجه الأفضلية كأن يتنازعا في أنه أيهما أولى بأن يوصف الكرم، مع الاتفاق على أن معناً - مثلاً - يجود بفضل ماله وحاتماً يجود بكل ما يملك ؛ ومع الاتفاق أيضاً على أن ما جاد به معن أكثر بكثير في تقدير المال مما جاد به حاتم وحينئذٍ يكون النزاع في العبرة في الأفضلية بالكرم هل هو بمقدار العطاء فيكون معن

ص: 352

أفضل من حاتم أو بما يتحقق به معنى الايثار فيكون حاتم أفضل .

ويمكن أن يتمسك القائل الأول بموضع في هذا الباب ، وهو : أن ما يفيد خيراً أكثر فهو آثر وأولى بالفضل، فيكون معن أفضل. ويمكن أن يتمسك القائل الثاني بموضع آخر فيه ، وهو ان ما ينبعث من تضحية أكثر بالحاجة والنفس فهو آثر وأولى بالفضل فيكون حاتم أفضل.فهذان موضعان من هذا الباب يمكن أن يستدل بهما الخصمان المتجادلان.

هذا أقصى ما أمكن بيانه من المواضع . وعليك بالمطولات في استقصائها أن

أردت ، ومن الله تعالى التوفيق.

ص: 353

المبحث الثالث : الوصايا
1 - تعليمات للسائل

تقدّم في الباب الأول من هو السائل. وعليه - لتحصيل غرضه وهو الحصول على اعتراف المجيب - أن يتبع التعليمات الثلاثة الآتية :

1 - أن يحضر لديه - قبل توجيه السؤال - الموضع أو المواضع التي منها يستخرج

المقدمة المشهورة اللازمة له .

2 - أن يهيىء في نفسه - قبل السؤال أيضاً - الطريقة والحيلة التي يتوسل بها لتسليم المجيب بالمقدّمة والتشنيع على منكرها.

3 - لما كان من اللازم عليه أن يصرح بما يضمره في نفسه - من المطلوب الذي يستلزم نقض وضع الخصم - فليجعل هذا التصريح آخر مراحل أسئلته وكلامه، بعد أن

يأخذ من الخصم الاعتراف والتسليم بما يريد ويتوثق من عدم بقاء مجال عنده للإنكار.

هذه هي الخطوط الاولى الرئيسة التي يجب أن يتبعها السائل في مهمته . ثم لأخذ الاعتراف طرق كثيرة، ينبغي أن يتبع احدى الوصايا (1) الآتية لتحقيقها :

ص: 354


1- ان الناس ليختلفون كثيراً في أخلاقهم وأمزجتهم : فمنهم الخجول الحيي ، والوقح الصلف وبينهما درجات كثيرة ومنهم الصبور الجلد على الكلام والجدل والضعيف المستخذي و بينهما درجات كثيرة أيضاً. ومنهم اللبق اللسن، والعي المتلعثم وبينهما درجات. ومنهم المعتد برأيه المتصلب لعقيدته، والمقلد المطواع لغيره، وبينهما درجات. وكل واحد من هذهالأصناف له شأن يخصه في طريق المجادلة ينبغي على السائل أن يلاحظه، بعد أن يعرف منزلة خصمه بين هذه المنازل حتّى هذه المنازل، حتى يتبع أية طريقة من الطرق الآتية التي تناسبه . ومن هنا قيل فى المثل المشهور : لكل مقام مقال»

1 - ألا يطلب من أول الأمر التسليم من الخصم بالمقدمة اللازمة لنقض وضعه . وبعبارة ثانية : ينبغي الا يقتحم الميدان في الجدل في أول جولة بالسؤال عن نفس المقدمة المطلوبة له . والسر في ذلك ان المجيب حينئذٍ يكون في مبدأ قوته وانتباهه، فقد يتنبه إلى مطلوب السائل ، فيسرع في الانكار ويعاند .

2 - وإذا انتهى به السؤال عن المطلوب، فلا ينبغي أيضاً أن يوجه السؤال رأساً عن نفس المطلوب، خشية أن يشعر الخصم فيفر من الاعتراف، بل له مندوحة عن ذلك باتباع أحد الطرق أو الحيل (1) الآتية :

الأولى: أن يوجه السؤال عن أمر أعم من مطلوبه ، فإذا اعترف بالأعم ألزمه قهراً بالاعتراف بالأخص بطريقة القياس الاقتراني.

الثانية: أن يوجه السؤال عن أمر أخص، فإذا اعترف به ، فبطريقة الاستقراء يستطيع أن يلزم خصمه بمطلوبه .

الثالثة: أن يوجه يوجه السؤال عن أمر يساويه ، فإذا اعترف به، فبطريقة التمثيل يتمكن

من إلزامه إذا كان ممّن يرى التمثيل حجّة .

الرابعة: أن يعدل عن السؤال عن الشيء إلى السؤال عمّا يشتق منه، مثل ما إذا أراد يثبت ان الغضبان مشتاق للانتقام ، فقد ينكر الخصم ذلك لو سئل عنه فيدعى مثلاً أن الأب يغضب على ولده ولا يشتاق إلى الانتقام منه ؛ فيعدل إلى السؤال عن نفس الغضب، فيقال أليس الغضب هو شهوة الانتقام ؟ فإذا اعترف به، يقول له : إذن الغاضب مشته للانتقام.

الخامسة: أن يقلب السؤال بما يوهم الخصم أن يريد الاعتراف منه بنقيض ما

ص: 355


1- لا ضير في اتباع مثل هذه الحيل في مخاصمة ذوي العناد والاستكبار على الحق

يريد ، كما لو أراد - مثلاً - اثبات ان اللذة خير، فيقول : أليست اللذة ليست خيراً ؟ فهذا

السؤال قد يوهم المخاطب أنّه ي- المخاطب أنّه يريد الاعتراف بنقيض المطلوب، فيبادر عادة إلى الاعتراف بالمطلوب إذا كان من طبعه العناد لما يريده السائل .

ولكن من هذه الحيل الخمس مواضع قد تنفع فيها احداها ولا تنفع الأخرى. فعلى السائل الذكي أن يختار ما يناسب المقام.

3 - ألا يرتب المقدّمات في المخاطبة ترتيباً قياسياً على وجه يلوح للخصم انسباقها إلى المطلوب؛ بل ينبغي أن يشوش المقدّمات ويخل بترتيبها فيراوغ في الوصول إلى المطلوب على وجه لا يشعر الخصم.

4 - أن يتظاهر في سؤاله أنه كالمستفهم الطالب للحقيقة المقدم للانصاف على الغلبة ، بل ينبغي أن يلوح عليه الميل إلى مناقضة نفسه وموافقة خصمه، لينخدع به الخصم المعاند فيطمئن إليه . وحينئذٍ يسهل عليه استلال الاعتراف منه من حيث يدري ولا

يدرى .

5 - أن يأتي بالمقدّمات في كثير من الأحوال على سبيل مضرب المثل أو الخبر، ويدعي في قوله ظهور ذلك وشهرته وجري العادة عليه، ليجد الخصم أن جحدها أمام الجمهور ممّا يوجب الاستخفاف به والاستهانة له، فيجبن عن إنكارها .

6 - أن يخلط الكلام بما لا ينفع في مقصوده، ليضيع على الخصم ما يريده من المقدمة المطلوبة بالخصوص. والأفضل أن يجعل الحشو حقاً مشهوراً في نفسه، فانّه يضطر إلى التسليم به ، وإذا سلم به امام الجمهور قد يندفع مضطراً إلى التسليم بما هو مطلوب انسياقاً مع الجمهور الذي يفقد على الأكثر قوة التمييز .

7 - ان من الخصوم من هو مغرور بعلمه معتد بذكائه، فلا يبالي أن يسلم في مبدأ الأمر بما يلقى عليه من الأسئلة ، ظناً منه بأن السائل لا يتمكن من أن يظفر منه بتسليم ما يهدم وضعه وبأنه يتمكن حينئذ من اللجاج والعناد.

فمثل هذا الشخص ينبغي للسائل أن يمهد له بتكثير الأسئلة عمّا لا جدوى له في

ص: 356

مقصوده، حتى إذا استنفذ غاية جهده قد يتسرب إليه الملل والضجر فيضيع عليه وجه

القصد أو يخضع للتسليم.

8 - إذا انتهى إلى مطلوبه من الاستلزام لنقض وضع الخصم فعليه أن يعبر عنه باسلوب قوي الاداء لا يشعر بالشك والترديد ، ولا يلقيه على سبيل الاستفهام ؛ فإن الاستفهام هنا يضعف أسلوبه فيفتح به للخصم مجالاً لإنكار الملازمة أو إنكار المشهور فيرجع الكلام من جديد جذعاً. وقد يشق عليه أن يوجه هذه المرة أسئلة نافعة ف--ي المقصود ؛ فيغلب على أمره.

9 - أن يفهم نفسية الجماعات والجماهير من جهة انها تنساق إلى الاغراء وتتأثر ببهرجة الكلام حتى يستغل ذلك للتأثير فيها ؛ والمفروض ان الغرض الأصيل من الجدل التغلب على الخصم امام الجمهور. وينبغي له أن يلاحظ افكار الحاضرين ويجلب رضاهم باظهار أن هدفه نصرتهم وجلب المنفعة لهم ليسهل عليه أن يجرهم إلى جانبه فيسلموا بما يريد التسليم به منهم. وبهذا يستطيع أن يقهر خصمه على الموافقة للجمهور في تسليم ما سلموا به، لأن مخالفة الجمهور فيما اتفقوا عليه أمامهم يشعر الإنسان

بالخجل والخيبة .

10 - وهو آخر وصايا السائل - إذا ظهر على الخصم العجز عن جوابه وانقطع عن الكلام فلا يحسن منه أن يلح عليه أو يسخر منه أو يقدح فيه، بل لا يحسن أن يعقبه بكل كلام يظهر مغلوبيته وعجزه ؛ فإن ذلك قد يثير الجمهور نفسه ويسقط احترامه عندهم فيخسر تقديرهم من حيث يريد النجاح والغلبة .

2 - تعليمات للمجيب

إن المجيب - كما قدمنا - مدافع عن مهاجمة خصمه (السائل) . والمدافع - . والمدافع - غالباً. اضعف كفاحاً من المهاجم وأقرب إلى المغلوبية ، لأن المبادأة بيد المهاجم، فهو يستطيع أن ينظم هجومه بالأسئلة كيف يشاء، ويترك منها ما يشاء . والمجيب على الأكثر مقهور

ص: 357

على مماشاة السائل في المحاورة.

وعلى هذه فمهمة المجيب أشق وأدق ، واللازم له عدة طرق مترتبة يسلكها بالتدريج أولاً فأولاً ؛ فإن لم يسلك الاول أخذ بالثاني وهكذا. وهي حسب الترتيب :

أولاً: أن يحاول الالتفات على السائل، بأن يحور الكلام - ان استطاع - فيعكس عليه الدائرة بتوجيه الأسئلة مهاجماً ؛ ولا بد أن السائل له وضع يلتزم به يخالف وضع المجيب. فينقلب حينئذٍ المهاجم مدافعاً والمدافع مهاجماً. وبهذه الطريقة يصبح أكثر تمكنا من الأخذ بزمام المحاورة ، بل يصبح في الحقيقة هو السائل .

ثانياً: إذا عجز عن الطريقة الاولى، وهي الالتفات، يحاول ارباك السائل واشغاله بأمور تبعد عليه المسافة كسباً للوقت كيما يعد عدته للجواب الشافي، مثل أن يجد في أسئلته لفظاً مشتركاً فيستفسر عن معانيه ليتركه يفصلها ثم يناقشه فيها . أو هو يتولى تفصيلها ليذكر أي المعاني يصح السؤال عنه وايها لا يصح . وفي هذه قد تحصل فائدة أخرى فإنّه بتفصيل المعاني المشتركة قد تنبثق له طريقة للهرب عما يلزمه به السائل بأن يعترف - مثلاً - بأحد المعاني الذي لا يلزم منه نقض وضعه .

ثالثاً: إذا لم تنجح الطريقة الثانية وهي طريقة الأشغال والإرباك، يحاول أن استطاع - الامتناع من الاعتراف بما يستلزم نقض وضعه . وينبغي أن يعلم انه لا ضير عليه

بالاعتراف بالمشهورات إذا كان وضعه مشهوراً حقيقاً ، لأنه - غالباً - لا ينتج المشهور الامشهورا ، فلا يتوقع من المشهورات ان تنتج ما يناقض وضعه المشهور.

وليس معنى الهرب من الاعتراف أن يمتنع من الاعتراف بكل شيء يلقي عليه ، فإن هذه الحالة قد تظهره أمام الجمهور بمظهر المعاند المشاغب، فيصبح موضعاً للسخرية

والنقد، بل يحاول الهرب من الإعتراف بخصوص ما يوجب نقض وضعه .

رابعاً: إذا وجد أن الطريقة الثالثة لا تنفع وهي طريقة الهرب من الاعتراف (وذلك عندما يكون المسؤول عنه الذي يحذر من الإعتراف به مشهورا مطلقاً، لأن العناد في مثله أكثر قبحاً من الالتزام به) فعليه الا يعلن عن إنكاره له صراحة، لأنه لو فعل ذلك في مسئله

ص: 358

فهو يخسر أمام الحاضرين كرامة نفسه، وفي نفس الوقت يخسر وضعه الملتزم له. ف--لا مناص له حينئذ من اتباع أحد طريقين:

الأول: أن يعلن الاعتراف، ولا ضير عليه في ذلك، لأنه ان دل على شيء فانّما يدل

على ضعف وضعه الذي يلتزمه لا على قصور نفسه وعلمه . وهذا وإن كان من وجهة يكشف عن قصور نفسه إذ يلتزم بما لا ينبغي الالتزام به، ولكن ينبغي له لتلافي ذلك في هذا الموقف ( وهو أدق المواقف التى تمر على المجيب المنصف المحب للحق والفضيلة أن يعلن انه طالب للحق ومؤثر للانصاف والعدل له أو عليه . وهذا لعلّه يعوض عما يخسر من المحافظة على وضعه بالاحتفاظ على سمعته وكرامته.

الثاني: إذا وجد أنّه يعز عليه اعلان الاعتراف فإن آخر ما يمكنه أن يفعله أن يتلطف في اسلوب الامتناع من الاعتراف، وذلك بأن يوري في كلامه أو يقول مثلاً : ان أصحاب هذا المذهب الذي التزمه لا يعترفون بذلك، فيلقي تبعة الإنكار ع--لى غ--يره . أو يقول : كيف يطلب مني الاعتراف وانا بعد لم أوضح مقصودي ؛ فيؤجل ذلك إلى مراجعة أو مشاورة،أو نحو ذلك من أساليب الهرب من التصريح بالإنكار أو من التصريح بالاعتراف.

خامساً: بعد أن تعز عليه جميع السبل من الهرب من الاعتراف، ويعترف بالمشهور ، فإنّه يبقى له طريق واحد لا غير ؛ وهو مناقشة الملازمة بين المشهور المعترف به و بین نقض وضعه ، بأن يلحق المشهور - مثلاً - بقيود وشرائط تجعله لا ينطبق على مورد النزاع، أو نحو ذلك من الأساليب التي يتمكن بها من مناقشة الملازمة. وهذا مرحلة

دقيقة شاقة تحتاج إلى علم ومعرفة وفطنة .

3- تعليمات مشتركة للسائل والمجيب أو آداب المناظرة

ان من يتعاطى صناعة الجدل سواء كان سائلاً أو مجيباً ينبغي له عدة أمور :

أولاً: أن يكون ماهراً في عدة اشياء:

ص: 359

1 - في ايراد عكس القياس ، بأن يتمكن من جعل القياس الواحد أربعة أقيسة بحسب تقابل التناقض والتضاد.

2 - في ايراد العكس المستوي وعكس النقيض ونقض المحمول والموضوع ؛ فإن هذا يفيده في التوسع بايراد الحجج المتعدّدة على مطلوبه أو ابطال مطلوب غيره .

3 - في ايراد مقدمات كثيرة لاثبات كل مطلوب من مواضع مختلفة وكذلك إبطاله .

إلى غير ذلك من أشياء تزيد في قوة إيراد الحجج المتعدّدة.

ثانياً: أن يكون لسنا منطقياً يستطيع أن يجلب انتباه الحاضرين وانظارهم نحوه ،ويحسن أن يثير اعجابهم به وتقديرهم لبراعته الكلامية .

ثالثاً: أن يتخير الألفاظ الجزلة الفخمة، ويتجنب العبارات الركيكة العامية، ويتقي التمتمة والغلط فى الألفاظ والاسلوب للسبب المتقدّم.

رابعاً: الا يدع لخصمه مجال الاستقلال بالحديث فيستغل اسماع الحاضرين وانتباههم له، لأن استغلال الحديث في الاجتماع مما يعين على الظهور على الغير والغلبة عليه .

خامساً: أن يكون متمكناً من إيراد الأمثال والشواهد من الشعر والنصوص الدينية

والفلسفية والعلمية وكلمات العظماء والحوادث الصغيرة الملائمة ؛ وذلك عند الحاجة طبعاً. بل ينبغي أن يكثر من ذلك ما وجد إليه سبيلاً، فانه يعينه كثيراً على تحقيق

مقصوده، والغلبة على خصمه. والمثل الواحد قد يفعل في النفوس ما لا تفعله الحجج المنطقية من الانصياع إليه والتسليم به.

سادساً: أن يتجنب عبارة الشتم واللعن، والسخرية والاستهزاء ، ونحو ذلك مما يثير عواطف الغير ويوقظ الحقد والشحناء، فإن هذا يفسد الغرض من المجادلة التي يجب أن تكون بالتي هي أحسن .

سابعاً: الا يرفع صوته فوق المألوف المتعارف ؛ فإن هذا لا يكسبه الا ضعفاً، ولا يكون إلا دليلاً على الشعور بالمغلوبية ، بل الذي يجب عليه أن يلقي الكلام قوي الأداء لا

ص: 360

يشعر بالتردد والارتباك والضعف والانهيار ، وان أداه بصوت منخفض هادىء، فإن تأثير

هذا الاسلوب أعظم بكثير من تأثير أسلوب الصياح والصراخ.

ثامناً: أن يتواضع في خطاب خصمه، ويتجنب عبارات الكبرياء والتعاظم والكلمات النابية القبيحة .

تاسعاً: أن يتظاهر بالاصغاء الكامل لخصمه، ولا يبدأ بالكلام الا من حيث ينتهي من بيان مقصوده، فإن الاستباق إلى الكلام سؤالاً وجواباً قبل أن يتم خصمه كلاماً يربك على الطرفين سير المحادثة ويعقد البحث من جهة ويثير غضب الخصم من جهة أخرى. عاشراً: أن يتجنب (حد الامكان) مجادلة طالب الرياء والسمعة وموثر الغلبة والعنادومدعي القوة والعظمة ؛ فإن هذا - من جهة - يعديه بمرضه فينساق بالأخير مقهوراً إلى أن يكون شبيهاً به في هذا المرض. و من جهة أخرى - لا يستطيع مع مثل هذا الشخص أن يتوصل إلى نتيجة مرضية في المجادلة .

ولو اضطر إلى مجادلة مثل هذا الخصم فلا ضير عليه أن يستعمل الحيل في محاورته ويغالطه في حججه ، بل لا ضير عليه في استعمال حتى مثل الاستهزاء والسخرية واخجاله .

والوصية الأخيرة لكل مجادل - مهما كان - ألا يكون همه الا الوصول إلى الحق وايثار الانصاف وأن ينصف خصومه من نفسه ويتجنب العناد بالإصرار على الخطأ، فانّه خطأ ثان ، بل ينبغي أن يعلن ذلك ويطلبه من خصمه بالحاح حتى لا يشذ الطرفان ع---ن

طلب الحق والعدل والانصاف.

وهذا أصعب شيء يأخذ الإنسان به نفسه، فلذلك عليه أن يستعين على نفسه

بطلب المعونة من الله سبحانه فإنّه تعالى مع المتقين الصابرين

ص: 361

ص: 362

الفصل الثالث : صناعة الخطابة

اشارة

وهو يقع في ثلاثة مباحث:

1 - في الاصول والقواعد

2 - في الانواع

3 - في التوابع

ص: 363

ص: 364

المبحث الاول : الاصول والقواعد
1 - وجه الحاجة إلى الخطابة

كثيرا ما يحتاج المشرعون ودعاة المباديء والسياسيون ونحوهم إلى اقناع الجماهير فيما يريدون تحقيقه، إذا تحقق فكرتهم أو دعوتهم لا تتم إلا برضا الجمهور عنها وقناعتهم بها .

والجمهور لا يخضع للبرهان ولا يقنع به، كما لا يخضع للطرق الجدلية ؛ لأن الجمهور تتحكّم به العاطفة أكثر من التعقل والتبصر ، بل ليس له الصبر على التأمل والتفكير ومحاكمة الأدلة والبراهين، وانّما هو سطحي التفكير فاقد للتمييز الدقيق. تؤثر فيه المغريات وتبهره العبارات البراقة وتقنعه الظواهر الخلّابة. ولعدم صبره على التمييز الدقيق نجده إذا عرضت عليه فكرة لا يتمكن من التفكيك بين صحيحها وسقيمها فيقبلها كلّها أو يرفضها كلّها .

وعليه فيحتاج من يريد التأثير على الجماهير في اقناعهم أن يسلك مسلكاً آخ--ر غير مسلك البرهان والجدل المتقدمين ؛ فإن الذي يبدو أن الطرق العقلية عاجزة عن التأثير على عقائد الناس وتحويلها لعجزها عن التأثير على عواطفهم المتحكمة فيهم . بل لا يقتصر هذا الأمر على الجمهور بما هو جمهور؛ فإن كل فرد من أفراد العامة إذا كان قليل الثقافة والمعرفة هو أبعد ما يكون عن الاقتناع بالطرق البرهانية أو الجدلية،

ص: 365

بل أكثر الخاصة المثقفين - وان ظنوا في أنفسهم المعرفة وحرية الرأي - ينجذبون إلى

الطرق المقنعة المؤثرة على العواطف وينخدعون بها . بل لا يستغنون عنها في كثير من آرائهم واعتقاداتهم، بالرغم على قناعتهم بمعرفتهم وثقافتهم التي قد يتخيلون أنهم قد

بلغوا بها الغاية .

فيجب أن تكون المخاطبة التي يتلقاها الجمهور والعامي وشبهه من نوع لا تكون مرتفعة ارتفاعاً بعيداً عن درجة مثله . ولذا قيل : «كلّم الناس على قدر عقولهم ».

ولم تبق لنا صناعة تناسب هذا الغرض غير صناعة الخطابة، فإن الاسلوب الخطابي أحسن شيء للتأثير على الجمهور والعامي. وكل شخص استطاع أن يكون خطيباً بالمعنى المقصود من الخطابة في هذا الفن فإنّه هو الذي يستطيع أن يستغل الجمهور والعوام ويأخذ بأيديهم إلى الخير أو الشرّ.

فهذا وجه حاجتنا - معاشر الناس - إلى صناعة الخطابة ، ولزم على من يريد قيادة

الجمهور إلى الخير يتعلم هذه الصناعة، وهي عبارة عن معرفة طرق الاقناع.

فإن الخطابة أنجح من غيرها في الاقناع ، كما ان الجدل في الالزام أنفع .

2- وظائف الخطابة وفوائدها

مما تقدم نستطيع أن نعرف أن وظائف الخطابة هو الدفاع عن الرأي، وتنوير الرأي العام في أي أمر من الامور والحضّ على الاقتناع بمبدأ من المبادىء، والتحريض على اكتساب الفضائل والكمالات واجتناب الرذائل ،والسيئات وإثارة شعور العامة وايقاظ الوجدان والضمير فيهم . وبالاختصار وظيفتها إعداد النفوس لتقبل ما يريد الخطيب أن تقتنع به.

وبهذا تعرف أن فائدة الخطابة فائدة كبيرة ، بل هي ضرورة اجتماعية في حياة الناس العامة .

ص: 366

وهي - بعد - وظيفة شاقة، إذ أنها تعتمد - بالإضافة إلى معرفة هذه الصناعة - على مواهب الخطيب الشخصية التى تصقل بالتمرين والتجارب ولا تكتسب بهذه الصناعة ولا

بغيرها، وأنّما وظيفة هذه الصناعة توجيه تلك المواهب واعداد ما يلزم لمعرفة طرق اكتساب ملكة الخطابة، مع المران الطويل وكثرة التجارب. وسيأتي التنصيص على

حاجة الخطابة إلى المواهب الشخصية .

3 - تعريف هذه الصناعة وبيان معنى الخطابة

يمكن مما تقدم ان نتصيد تعريف صناعة الخطابة على النحو الآتي حسبما هو معروف عند المنطقيين : «أنّها صناعة علمية بسببها يمكن اقناع الجمهور في الأمر الذي يتوقع حصول التصديق به بقدر الامكان».

هذا هو تعريف أصل هذه الصناعة التي غايتها حصول ملكة الخطابة التي بها يتمكن الشخص الخطيب من اقناع الجمهور والمراد من القناعة هو التصديق بالشيء الاعتقاد بعدم امكان أن يكون له ما ينقض ذلك التصديق ، أو مع الاعتقاد بامكان ما ينقضه الا أن النفس تصير بسبب الطرق المقنعة أميل إلى التصديق من خلافه.وهذا الأخير هو المسمّى عندهم بالظنّ على نحو ما تقدم في هذا الجزء.

ثم أنّه ليس المراد من لفظ الخطابة التي وضعت لها هذه الصناعة مجرد معنى الخطابة المفهوم من لفظها في هذا العصر، وهو أن يقف الشخص ويتكلّم بما يسمع المجتمعين بأي اسلوب ،كان، بل أسلوب البيان وأداء المقاصد بما يتكفل اقناع الجمهور هو الذي يقوم معنى الخطابة وان كان بالكتابة أو المحارة كما يحصل في محاورة المرافعة عند القضاة والحكّام .

وهذه الصناعة تتكفل ببيان هذا الاسلوب، وكيف يتوصل إلى اقناع الناس بالكلام، وما لهذا الاسلوب من مساعدات وأعوان من صعود على مرتفع ورفع صوت ونبرات خاصة وما إلى ذلك مما سيأتى شرحه.

ص: 367

4 - أجزاء الخطابة

الخطابة تشتمل على جزءين : العمود والأعوان.

أ - العمود: ويقصدون بالعمود هنا مادة قضايا الخطابة التي تتألف منها الحجّة الاقناعية . وتسمّى الحجّة الاقناعية باصطلاح هذه الصناعة التثبيت على ما سيأتي بعبارة اخرى العمود هو كل قول منتج لذاته للمطلوب انتاجاً بحسب الاقناع وانّما سمّي عموم عموداً

فباعتبار انه قوام الخطابة وعليه الاعتماد في الاقناع.

ب - الأعوان ويقصدون بها الأقوال والأفعال والهيئات الخارجية عن العمود المعينة . وله على الإقناع المساعدة له على التاثير المهيئة للمستمعين على قبوله . وكل من الأمرين (العمود والأعوان) يعد في الحقيقة جزءاً مقوماً للخطابة، لأن العمود وحده قد لا يؤدي تمام الغرض من الاقناع، بل على الأكثر يفشل في تحقيقه . والمقصود الأصلي من الخطابة هو الإقناع كما تقدم، فكل ما هو مقتض له دخيل في تحققه لابد أن يكون في الخطابة دخيلاً ، وان كان من الأمور الخارجة عن مادة القضايا التي تتألف منه الحجّة (العمود).

وقولنا هنا : «مقتض للاقناع» نقصد به أعم مما يكون مقتضياً لنفس الاقناع أو مقتضياً للاستعداد له والمقتضى لنفس الاقناع ليس له العمود وحده - كما ربما يتخيل - بل شهادة الشاهد أيضاً تقتضيه مع انها من الأعوان .

وشهادة الشاهد على قسمين شهادة قول وشهادة حال. فهذه أربعة أقسام ينبغي البحث عنها : العمود والشهادة القولية وشهادة الحال والمقتضي للاستعداد للاقناع.

ويمكن فتح البحث فيها باسلوب آخر من التقسيم بأن نقول :

الخطابة تشتمل على عمود وأعوان . ثم الأعوان على قسمين أما بصناعة وحيلة وأمّا بغير صناعة وحيلة . والأول وهو ما كان بصناعة وحيلة ويسمى استدراجات فعلى ثلاثة أقسام : استدارجات بحسب القائل أو بحسب القول أو بحسب المستمع والثاني هو ما كان بغير صناعة وحيلة يسمّى نصرة وشهادة وهى - أي الشهادة - على قسمين : شهادة

ص: 368

قول وشهادة حال. فهذه ستة أقسام :

1 - العمود .

2 - استدراجات بحسب القائل .

3- استدارجات بحسب القول .

4 - استدراجات بحسب المستمع.

5 - شهادة القول .

6 - شهادة الحال .

فهذه الستة هي - بالأخير - تكون أجزاء الخطابة ، فينبغي البحث عنها واح---دة واحدة .

5 - العمود

العمود - وقد تقدم معناه - يتألف من المظنونات أو المقبولات أو المشهورات أو المختلفة بينها . وقد سبق شرح هذه المعاني تفصيلاً في مقدّمة الصناعات الخمس، فلا نعيد.

واستعمال المشهورات في الخطابة باعتبار مالها من التأثير على السامعين في الاقناع . ولذا لا يعتبر فيها إلا أن تكون مشهورات ظاهرية، وهي التي تحمد في بادىء الرأي وإن لم تكن مشهورات حقيقية . وبهذا تفترق الخطابة عن الجدل، إذ الجدل لا يستعمل فيه الا المشهورات الحقيقية . وقد سبق ذلك في الجدل.

وقلنا هناك : «ان الظاهرية تنفع فقط في صناعة الخطابة» وأنما قلنا ذلك فلأن الخطابة غايتها الاقتناع ويكتفي بما هو مشهور أو مقبول لدى المستمعين وإن كان مشهوراً في بادىء الرأي وتذهب شهرته بالتعقيب، إذ ليس فيها رد وبدل ومناقشة وتعقيب على العكس من الجدل المبني على المحاورة والمناقضة ، فلا ينبغي فيه استعمال المشهورات الظاهرية، إذ يعطى بذلك مجال للخصم لنقضها وتعقيبها بالرد.

أمّا المظنونات والمقبولات فواضح اعتبارها في عمود الخطابة.

ص: 369

6 - الاستدراجات بحسب القائل

وهي من أقسام ما يقتضي الاستعداد للاقناع وتكون بصناعة وحيلة. وذلك بأن يظهر

الخطيب قبل الشروع في الخطابة بمظهر مقبول القول عندهم . ويتحقق ذلك على نحوين :

1 - أن يثبت فضيلة نفسه - إذا لم يكن معروفا لدى المستمعين - أما بتعريفه هو لنفسه أو بتعريف غيره يقدمه لهم بالثناء بأن يعرف نسبه وعلمه ومنزلته الاجتماعية أو وظيفته إذا كان موظفاً أو نحو ذلك.

ولمعرفة شخصية الخطيب الأثر البالغ - إذا كانت له شخصية محترمة - في سهولة

انقياد المستمعين إليه والاصغاء له وقبول قوله ، فإن الناس تنظر إلى من قال لا إلى ما قيل، وذلك اتباعاً لطبيعة المحكاة التي هي من غريزة الإنسان، لا سيما في محاكاته لمن يستطيع أن يسيطر على مشاعره واعجابه، ولا سيما في المجتمعات العامة ؛ فإن غرائز الإنسان - وبالخصوص غريزة المحاكاة - تحيا في حال الاجتماع أو تقوى.

2 - أن يظهر بما يدعو إلى تقديره واحترامه وتصديقه والوثوق بقوله . وذلك يحصل بأمور منها : لباسه وهندامه ؛ فاللازم على الخطيب أن يقدر المجتمعين ونفسياتهم وما يقدر من مثله أن يظهر به، فقد يقتضي أن يظهر بأفخر اللباس وبأحسن بزة تليق بمثله وقد يقتضى أن يظهر بمظهر الزاهد الناسك . وهذا يختلف باختلاف الدعوة وباختلاف الحاضرين. وعلى كل حال ينبغي أن يكون الخطيب مقبول الهيئة عند الحاضرين حتى لا يثير تهكمهم أو اشمئزازهم أو تحقيرهم .له ومنها ملامح وجهه وتقاطيع جبينه ونظرات عينيه وحركات يديه وبدنه ، فإن هذه أمور معبرة ومؤثرة في السامعين إذا استطاع الخطيب أن يحسن التصرف بها حسبما يريده من البيان والاقناع. وبعبارة أصرح ينبغي أن يكون ممثلاً في مظهره، فيبدو حزينا في موضع الحزن وقد يلزم له أن يبكي أو يتباكى، ويبدو مسروراً مبتشاً في موضع السرور، ويبدو بمظهر الصالح الواثق من قوله المؤمن بدعوته في موضع ذلك ... وهكذا.

وكثير من الواعظين يتأثر الناس بهم بمجرد النظر اليهم قبل أن يتفوهوا، وكم من

ص: 370

خطيب في مجالس ذكرى مصرع سيد الشهداء عليه السلام يدفع الناس إلى البكاء والرقة بمجرد مشاهدة هيئته وسمته قبل أن يتكلّم.

7 - الاستدراجات بحسب القول

وهي أيضاً من أقسام ما يقتضي الاستعداد للاقناع وتكون بصناعة وحيلة. وذلك بأن تكون لهجة كلامه مؤثرة مناسبة للغرض الذي يقصده أما برفع صوته أو بخفضه أو ترجيعه أو الاسترسال فيه بسرعة أو التأني به أو تقطيعه . كل ذلك حسب ما تقتضيه الحال من التأثير على المستمعين .

وحسن الصوت وحسن الالقاء والتمكن من التصرف بنبرات الصوت وتغييره حسب الحاجة من أهم ما يتميز به الخطيب الناجح وذلك في أصله موهبة ربانية يختص بها بعض البشر من غير كسب غير أنها تقوى وتنمو بالتمرين والتعلم كجميع المواهب الشخصية . وليس هناك قواعد عامة مدونة يمكن بها ضبط تغييرات الصوت ونبراته

حسب الحاجة، وأنّما معرفة ذلك تتبع نباهة الخطيب في اختياره للتغيرات الصوتية المناسبة التي يجدها بالتجربة والتمرين مؤثرة في المستمعين .

ولأجل هذا يظهر لنا كيف يفشل بعض الخطباء، لانه يحاول المسكين تقليد خطيب ناجح في لهجته وإلقائه ، فيبدو نابياً سخيفاً ، إذ يظهر بمظهر المتصنّع الفاشل . والسر أن هذا أمر يدرك بالغريزة والتجربة قبل أن يدرك بالتقليد للغير.

8 - الاستدراجات بحسب المخاطب

وهي أيضاً من أقسام ما يقتضي الاستعداد للاقناع وتكون بصناعة من الخطيب . وذلك بأن يحاول استمالة المستمعين وجلب عواطفهم نحوه ليتمكن قوله فيهم ويتهيأ وا للاصغاء إليه ؛ مثل أن يحدث فيهم انفعالاً نفسياً مناسباً لغرضه كالرقة والرحمة ، أو القوّة والغضب، أو يضحكهم بنكتة عابرة لتنفتح نفوسهم للاقبال عليه . ومثل أن يشعرهم بأنهم

ص: 371

يتخلقون باخلاق فاضلة كالشجاعة والكرم أو الانصاف والعدل أو ايثار الحق، أو يتحلون بالوطنية الصادقة والتضحية في سبيل بلادهم، أو نحو ذلك مما يناسب غرضه . وهذا يكون بمدحهم والثناء عليهم أو بذكر سوابق محمودة لهم أو لآبائهم أو أسلافهم.

وإذا اضطر إلى التعريض بخصومه الحاضرين فيظهر بأنّهم الأقلية القليلة فيهم ، أو يتظاهر بأنه لا يعرف بأنهم موجودون في الاجتماع ، أو أنهم لا قيمة لهم ولا وزن عند

الناس.

وليس شيء أفسد للخطيب من التعريض بذم المستمعين أو تحقيرهم أو التهكم بهم أو إخجالهم، فإن خطابه سيكون قليل الأثر أو عديمه أصلا، وإن كان يأتى بذلك بقصد اثارة الحمية والغيرة فيهم ، لأن هذه الامور - بالعكس - تثير غضبهم عليه وكرهه والاشمئزاز من كلامه ولاثارة الحمية طرق أخرى غير هذه .

وبعبارة أشمل وأدق ان التجاوب النفسى بين الخطيب والمستمعين شرط اساسي في التاثر بكلامه ، فإذا ذمّهم أو تهكم بهم بعدهم عنه وخسر هذا التجاوب النفسي. وهكذا لو اضجر هم به طول الكلام أو التكرار الممل أو التعقيد في العبارة أو ذكر ما لا نفع فيه لهم و ما ألفوا استماعه.

والخطيب الحاذق الناجح من يستطيع أن يمتزج بالمستمعين ويهيمن عليهم بأن يجعلهم يشعرون بأنه واحد منهم وشريكهم في السراء والضراء وبأنه يعطف على منافعهم ويرعى مصالحهم، وبأنه يحبهم ويحترمهم، لا سيما الخطيب السياسي والقائد في الحرب.

9 - شهادة القول

وهي من أقسام النصرة التي ليست بصناعة وحيلة، ومن أقسام ما يقتضي نفس الاقناع. وهي تحصل أما بقول من يقتدى به مع العلم بصدقه كالنبي والإمام، أو مع الظن بصدقه كالحكيم والشاعر . وأما بقول الجماهير أو الحاكم أو النظارة، وذلك بتصديقهم

ص: 372

للخطيب أو تأييدهم له بهتاف أو تصفيق أو نحوها. وأمّا بوثائق ثابتة كالصكوك والسجلات والآثار التاريخية ونحوها .

وهذه الشهادة - على أنها من الأعوان - تفيد بنفسها الاقناع. وقد تكون بنفسها عموداً لوصح أخذها مقدمة في الحجة الخطابية، وتكون حينئذ من قسم المقبولات التي قلنا ان الحجّة الخطابية قد تتألف منها .

10 - شهادة الحال

وهي أيضاً من أقسام النصرة التي ليست بصناعة وحيلة، ومن أقسام ما يقتضي

نفس الاقناع. وهذه الشهادة تحصل اما بحسب نفس القائل أو بحسب القول :

1 - ما هي بحسب القائل : إمّا لكونه مشهوراً بالفضيلة من الصدق والأمانة والمعرفة والتمييز ، أو معروفاً بما يثير احترامه أو الاعجاب به أو التقدير لما يقوله ويحكم به ، كأن يكون معروفاً بالبراعة الخطابية أو الشجاعة النادرة أو بالثراء الكثير أو بالحنكة السياسية أو صاحب منصب رفيع أو نحو ذلك. وقد قلنا ان لمعرفة الخطيب الأثر البالغ في التأثير على المستمعين ، فكيف إذا كان محبوباً أو موضع الاعجاب أو الثقة . وكلما كبرت سمعة الخطيب وتمكن حبه واحترامه من القلوب كان قوله أكثر قبولاً وأبعد أثراً.

وإما لكونه تظهر عليه امارات الصدق - وإن لم يكن معروفاً بأنحاء المعرفة السابقة -مثل أن تطفح على وجهه أسارير السرور إذا بشر بخير، أو علامات الخوف والهلع إذا انذر بشر ، أو هيئة الحزن إذا حدث عما يحزن ... وهكذا .

ولتقاطيع وجه الخطيب وملامحه ونيرات صوته الأثر الفعال في شعور المستمعين بأن ما يقوله كان مؤمناً به أو غير مؤمن به والوجه الجامد القاحل من التعبير لا يستجيب له المستمع . ولذا اشتهر ان الكلمة إذا خرجت من القلب دخلت في القلب . وما هذا الا لأن إيمان الخطيب بما يقول يظهر على ملامح وجهه ونبرات صوته رضي أم أبى ؛ فيدرك

المستمع ذلك حينئذٍ بغريزته ، فيؤثر على شعوره بمقتضى طبيعة المحاكاة والتقليد .

ص: 373

2 - ما هي بحسب القول : مثل الحلف على صدق قول والعهد (1)أو التحدّي كما تحدى نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم قومه أن يأتوا بسورة أو آية من مثل القرآن المجيد وإذ عجزوا عن ذلك التجأوا إلى الاعتراف بصدقه . ومثل ما لو تحدى الصانع أو الطبيب أو نحوهما خصمه المشارك له في صناعته بأن يأتي ما يعمل، ويقول له : ان عجزت عن مثل عملي فاعترف بفضلي عليك واخضع لقولي.

11- الفرق بين الخطابة والجدل

لما كانت صناعة الخطابة وصناعة الجدل يشتركان في كثير من الأشياء استدعى ذلك التنبيه على جهات الإفتراق بينهما ، لئلا يقع الخلط بينهما :

أمّا اشتراكهما ففي الموضوع، فإن موضوع كل منهما عام غير محدود بعلم ومسألة، وكما قلنا في الجدل : أنّه ينفع في جميع المسائل الفلسفية والدينية والاجتماعية وجميع الفنون والمعارف والخطابة كذلك ، وما يستثنى هناك يستثني هنا . ويشتركان أيضاً في الغاية ، فإن غاية كل منهما الغلبة، ويشتركان في بعض مواد قضاياهما، إذ تدخل المشهورات فيهما كما تقدم.

أما افتراقهما ففي هذه الأمور الثلاثة نفسها :

1 - في الموضوع ؛ فإن الخطابة يستثنى من عموم موضوعها المطالب العلمية التي

يطلب فيها اليقين، فإن استعمال الاسلوب الخطابي معيب مستهجن إذا كان المخاطب بها الخاصة، وان جاز استعمال الاسلوب الجدلى لالزام الخصم وافحامه أو لتعليم المبتدئين .

كما انه - على العكس - لا يحسن من الخطيب أن يستعمل البراهين العلمية

والمسائل الدقيقة لغرض الاقناع.

2 - في الغاية ؛ فإن غاية الجدلي الغلبة بالزام الخصم وإن لم تحصل له حالة

ص: 374


1- العهد هو الشريعة الخاصة التي يصنعها شخصان أو أكثر لا يصح لكل واحد أن يعدل عنها أو يتجاوزها.

القناعة . وغاية الخطابة الغلبة بالإقناع.

3- في المواد ؛ فقد تقدم في الكلام عن العمود بيان الفرق فيها ، إذ قلنا : ان الخطابة

تستعمل فيها مطلق المشهورات الظاهرية، وفى الجدل لا تستعمل إلا الحقيقية.

وهناك فروق أخرى لا يهمنا التعرض لها. وسيأتي في باب اعداد المنافرات التشابه بين الجدل والمنافرة بالخصوص والفرق بينهما كذلك.

12 - أركان الخطابة

أركان الخطابة المقومة لها ثلاثة : القائل (وهو الخطيب) ، والقول وهو الخطاب والمستمع.

ثم المستمع ثلاثة أشخاص على الأكثر : مخاطب وحاكم ونظارة، وقد يكون مخاطباً فقط :

1 - المخاطب: وهو الموجه إليه الخطاب، وهو الجمهور أو من هو الخصم في المفاوضة والمحاورة.

2 - الحاكم: وهو الذي يحكم للخطيب أو عليه ، أمّا لسلطة عامة له في الحكم شرعية أو مدنية ، أو لسلطة خاصة برضا الطرفين إذ يحكمانه ويضعان ثقتهما به، وإن لم تكن له سلطة عامة .

3 - النظارة وهم المستمعون المتفرجون الذين ليس لهم شأن إلا تقوية الخطيب أو

توهينه، مثل أن يهتفوا له أو يصفقوا باستحسان ونحوه، حسبما هو عادة شعبهم في تأیید الخطباء، ومثل أن يسكتوا في موضع التأييد والاستحسان أو يظهروا توهينه بهتاف ونحوه وذلك إذا أرادوا توهينه والنظارة عادة مألوفة عند بعض الامم الغربية في المحاكمات ولهم تأثير في سير المحاكمة وربما يسمونهم العدول أو المعدلين.

وليس وجود الحاكم والنظارة يلازم في جميع أصناف الخطابة ، بل في خصوص

المشاجرات كما سيأتي .

ص: 375

13 - أصناف المخاطبات

ان الغرض الأصلى لصاحب الصناعة الخطابية - على الأغلب - اثبات فضيلة شيء ما أو رذيلته، أو اثبات نفعه أو ضرره. ولكن لا أي شيء كان، بل الشيء الذي له نفع أو ضرر للعموم بوجه من الوجوه على نحو له دخالة في المخاطبين وعلاقة بهم.

وهذا الشيء لا يخلو عن حالات ثلاث :

1 - أن يكون حاصلاً فعلاً، فالخطابة فيه تسمّى منافرة.

2 - أن يكون غير حاصل فعلاً ولكنه حاصل في الماضي فالخطابة فيه تسمّى مشاجرة.

3- أن يكون غير حاصل فعلاً أيضاً ولكنه يحصل في المستقبل، فالخطابة ف--يه تسمّى مشاورة. وهي أهم الأصناف.

فالمفاوضات الخطابية على ثلاثة أصناف :

1 - المنافرات المتعلقة بالحاصل فعلاً ؛ فإن قرّر الخطيب فضيلته أو نفعه سمّيت مدحاً، وإن قرّر ضد ذلك سمّيت ذمّاً.

2- المشاجرات وتسمّى الخصاميات أيضاً، وهي المتعلقة بالحاصل سابقاً. ولابد أن تكون الخطابة لأجل تقرير وصول فائدته ونفعه أو ما فيه من عدل وانصاف ان كان نافعاً، ولأجل تقرير وصول ضرره أو ما فيه من ظلم وعدوان . فمن الجهة الاولى تسمى الخطابة شكراً أمّا اصالة عن نفسه أو نيابة عن غيره. نفسه أو نيابة عن غيره. وإنما سميت كذلك لأن تقرير الخطيب يكون اعترافاً منه للمخاطبين بفضيلة ذلك الشيء فلا يقع فيه نزاع منهم. ومن الجهة الثانية تسمّى الخطابة شكاية أما عن نفسه أو عن غيره والمدافع يسمّى معتذراً والمعترف به نادماً .

3 - المشاورات المتعلقة بما يقع في المستقبل ولا محالة ان الخطابة حينئذ لا تكون من جهة وجوده ، أو عدمه ؛ فإن هذا ليس شأن هذه الصناعة. بل لابد أن تكون من جهة ما فيه من نفع وفائدة فينبغي أن يفعل، فتكون الخطابة فيه ترغيباً وتشويقاً وإذناً في فعله . أو

ص: 376

من جهة ما فيه من ضرر وخسارة فينبغى الا يفعل ، فتكون الخطابة فيه تحذيرا وتخويفا

ومنعا من فعله .

فهذه الأنواع الثلاثة هي الأغراض الأصلية التي تقع للخطيب، وقد يتوصل إلى غرضه ببيان أمور تقع في طريقه وتكون ممهدة للوصول إليه ومعينة للاقناع وتسمّي التصديرات، مثل أن يمدح شيئاً أو شخصاً ، فينقل منه إلى المشاورة للتنظير بما وقع أو

لغير ذلك .

والتشبيب الذي يستعمله الشعراء سابقاً في صدر مدائحهم من هذا القبيل، فإن الغرض الاصلي هو المدح والتشبيب تصدر به القصيدة للتوصل إليه . وكثيراً ما لا يكون ، الشاعر عاشقاً وأنّما يتشبه به اتباعاً لعادة الشعراء.

وفي هذا العصر يمهد خطباء المنبر الحسيني أمام مقصودهم من ذكر فاجعة الطف ببيان أمور تأريخية أو أخلاقية أو دينية من موعظة ونحوها. وما ذاك الا لجلب انتباه السامعين أو لإثارة شعورهم وانفعالاتهم مقدّمة للغرض الأصلي من ذكر الفاجعة .

14 - صور تأليف الخطابة ومصطلحاته قد قلنا في الجدل : ان المعول في تأليف صوره غالباً على القياس والاستقراء. وفي الخطابة أكثر ما يعول على القياس والتمثيل ، وان استعمل الاستقراء أحياناً.

ولا يجب في القياس وغيره عند استعماله هنا أن يكون يقينياً من ناحية تأليفه، أي لا يجب أن يكون حافظاً لجميع شرائط الانتاج، بل يكفي أن يكون تأليفه منتجاً بحسب الظنّ الغالب وإن لم يكن منتجاً دائماً، كما لو تألف القياس مثلاً على نحو الشكل الثاني من موجبتين كما يقال فلان يمشي متأنيا فهو مريض ، فحذفت كبراه الموجبة وهي: «كل مريض يمشي متأنياً»؛ مع أن الشكل الثاني من شروطه اختلاف المقدمتين بالكيف.

وكذلك قد يستعمل التمثيل في الخطابة خالياً من جامع حيث يفيد الظنّ بأن هناك

ص: 377

جامعاً، مثل أن يقال : مر بالأمس من هناك رجل مسرع وكان هارباً والي--وم ي--مر مسرع آخر من هنا ، فهو هارب.

وكذلك يستعمل الاستقراء فيها بدون استقصاء لجميع الجزئيات، مثل أن يقال :الظالمون قصيروا الأعمار ، لأن فلان الظالم وفلان وفلان قصيروا الاعمار، فيعد جزئيات كثيرة يظن معها الحاق القليل بالأعم الأغلب.

وبحسب تأليف صور الخطابة مصطلحات ينبغي بيانها، فنقول :

1 - التثبيت : والمقصود به كل قول يقع حجّة في الخطابة ويمكن فيه أن يوقع التصديق بنفس المطلوب بحسب الظنّ ، سواء كان قياساً أو تمثيلاً.

2 - الضمير: والمقصود به التثبيت إذا كان قياساً . والضمير باصطلاح المناطقة ف--ي باب القياس كل قياس حذفت منه كبراه. ولما كان اللائق في الخطابة أن تحذف من قياسها كبراه للاختصار من جهة ولا خفاء كذب الكبرى من جهة أخرى، سموا كل قياس هنا ضميراً، لأنه دائماً أو غالباً تحذف كبراه .

3- التفكير وهو الضمير نفسه، ويسمّى تفكيراً باعتبار اشتماله على الحد الأوسط الذي يقتضيه الفكر .

4 - الاعتبار: ويقصدون به التثبيت إذا كان تمثيلاً، فيقولون مثلاً : يساعد على هذا الأمر الاعتبار. وهذه الكلمة شائعة الاستعمال عند الفقهاء وما أحسب الا انهم يريدون هذا المعنى منها .

5 - البرهان وهو كل اعتبار يستتبع المقصود بسرعة، فهو غير البرهان المصطلح عليه في صناعة البرهان فلا تغرنك كلمة البرهان فى بعض الكتب الجدلية والخطابية .

6 - الموضع والمقصود به هنا كل مقدّمة من شأنها أن تكون جزءاً من التثبيت سواء كانت مقدّمة بالفعل أو صالحة للمقدمية . وهو غير الموضع المصطلح عليه في صناعة الجدل. ومعنى الموضع هناك يسمّى نوعاً هنا وسيأتي في الباب الثاني ولا بأس بالبحث عن الضمير والتمثيل اختصاراً هنا :

ص: 378

15 - الضمير

للضمير شأن خاص في هذه الصناعة ؛ فإن على الخطيب أن يكون متمكناً من اخفاء كبراه في اقيسته أو اهمالها . أن باقي الصناعات قد تحذف الكبرى في اقيستها ولكن لا لحاجة وغرض خاص، بل لمجرد الايجاز عند وضوح الكبرى، أما في الخطابة فإن اخفاءها غالباً ما يضطر إليه الخطيب بما هو خطيب لأحد أمور :

1 - اخفاء عدم الصدق الكلى فيها ، مثل أن يقول : فلان يكف غضبه عن الناس فهو تبوب»، فإنّه لو صرح بالكبرى وهي كل من كف غضبه عن الناس هو محبوب لهم ربما يجدها السامع صادقة صدقاً كلياً، وقد يتنبه بسرعة إلى كذبها ، إذ قد يعرف شخصاً معيناً متمكناً من كف غضبه ومع ذلك لا يحبه الناس.

2 - تجنب أن يكون بيانه منطقياً وعلمياً معقداً، فلا يميل إليه الجمهور الذي من طبعه الميل إلى الصور الكلامية الواضحة السريعة الخفيفة والسرّ ان ذكر الكبرى يصبغه بصبغة الكلام المنطقي العلمي الذي ينصرف عن الاصغاء إليه الجمهور. بل قد يثير شكوكهم وعدم حسن ظنّهم بالخطيب أو سخريتهم به .

3 - تجنب التطويل ، فإن ذكر الكبرى غالباً يبدو مستغنياً عنه، والجمهور إذا أحسّ أن الخطيب يذكر ما لا حاجة إلى ذكره أو يأتي بالمكررات يسرع إليه الملل والضجر والاستيحاش منه . وقد يؤثر فيه ذلك انفعالاً معكوساً فيثير في نفوسهم التهمة له في صدق قوله . فلذلك ينبغى للخطيب دائماً تجنب زيادة الشرح والتكرار الممل فإنّه يثير التهمة فی نفوس المستمعين وشكوكهم في قولهم وضجرهم منه .

وبعد هذا، فلو اضطر الخطيب إلى ذكر الكبرى - كما لو كان حذفها يوجب أن يكون خطابه غامضاً - فينبغي أن يوردها مهملة حتى لا يظهر كذبها لو كانت كاذبة، وألا

يوردها بعبارة منطقية جافة .

وصنعة الخطابة تعتمد كثيراً على المقدرة في إيراد الضمير أو إهمال الكبرى ؛ فمن

الجميل بالخطيب أن يراقب هذا في خطابه، وهذا ما يحتاج إلى مران وصنعة وحذق،

والله تعالى قبل ذلك هو المسدّد للصواب الملهم للمعرفة.

ص: 379

16 - التمثيل

سبق أن قلنا في الفصل 14 : ان الخطابة تعتمد على القياس والتمثيل. وفي الحقيقة تعتمد على التمثيل أكثر ، نظراً إلى أنه أقرب إلى أذهان العامة وأمكن في نفوسهم. وهو في الخطابة يقع على انحاء ثلاثة :

1 - أن يكون من أجل اشتراك الممثل به مع المطلوب في معنى عام يظنّ أنّه العلة للحكم في الممثل به . وهذا النحو هو التمثيل المنطقي الذي تقدم الكلام فيه آخر الجزء

الثاني.

2 - أن يكون من أجل التشابه في النسبة فيهما ، كما يقال مثلاً : كلّما زاد تواضع المتعلم زادت معارفه بسرعة كالأرض كلّما زاد انفخاضها انحدرت إليها المياه الكثيرة

بسرعة.

وكل من هذين القسمين قد يكون الإشتراك والتشابه في النسبة حقيقة وقد يكون بحسب الرأي الواقع ، كقوله تعالى: «مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل اسفاراً»، أو كقوله تعالى: «مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبّة .....»

وقد يكون بحسب رأي يظهر ويلوح سداده لأول وهلة، ويعلم عدم صحته بالتعقيب ، كقول عمر بن الخطاب يوم السقيفة : هيهات لا يجتمع اثنان في قرن». والقرن بالتحريك الحبل الذي يقرن به البعيران، قال ذلك ردّاً على قول بعض الأنصار: «منّا أمير ومنكم امير ، بينما أن هذا القائل غرضه ان الامارة مرّة لنا ومرّة لكم لا على أن يجتمع أميران في وقت واحد حتى يصح تشبيهه باجتماع اثنين في قرن على أنه أية استحالة في الممثل به ، وهو أن يجتمع بعيران في حبل واحد يقرنان به لو أراد هذا القائل اجتماع أميرين في آن واحد، فالاستحالة في الممثل نفسه لا في الممثل به.

3 - أن يكون التمثيل بحسب الاشتراك بالاسم فقط ، وقد ينطلي هذا أمره على غير المتنبه المثقف . وهو مغالطة ولكن لا بأس بها في الخطابة حيث تكون مقنعة وموجبة لظنّ

ص: 380

المستمعين بصدقها .

مثاله أن يحبب الخطيب شخصاً ويمدحه لأن شخصاً آخرحه لأن شخصاً آخر محبوب ممدوح له هذا الاسم أو يتشاءم من شخص ويذمه لأن آخر له اسمه معروف بالشر والمساوىء.

ويشبه أن يكون من هذا الباب قول الارجاني :

یزداد دمعي على مقدار بعدهم * تزايد الشهب أثر الشمس في الافق

فحكم بتزايد الدموع على مقدار بعد الأحبة قياساً على تزايد الشهب بمقدار تزايد بعد الشمس في الافق ، لاشتراك الدموع والشهب بالاسم إذ تسمّى الدموع بالشهب مجازاً ولاشتراك الحبيب والشمس بالاسم إذ يسمّى الحبيب شمساً مجازاً.

ص: 381

المبحث الثانى : الأنواع
1 - تمهيد

تقدم في الفصل 14 من الباب الاول : ان الموضع في اصطلاح هذه الصناعة كل

مقدّمة من شأنها أن تكون جزءاً من التثبيت. وهو غير الموضع باصطلاح صناعة الجدل. بل ان ما هو بمنزلة الموضع في صناعة الجدل يسمّى هنا نوعاً وهو أي النوع كل

قانون تستنبط منه المواضع أي المقدّمات الخطابية.

مثلاً يقال لنقل الحكم من الضد إلى ضدّه نوع، إذ منه تستخرج المواضع الموصلة إلى المطلوب الخطابي فيقال مثلاً : إذ كان خالد عدواً فهو يستحق الاساءة فأخوة لما كان صديقاً فهو يستحق الاحسان فهذه القضية موضع وهي من نوع نقل الحكم من الضد إلى ضده.

ثم انه لما كان المجادل مضطراً إلى احضار المواضع في ذهنه واعدادها لكي يستنبط منها ما يحتاجه من المقدمات المشهورة - فكذلك الخطيب - يلزمه أن يحضر لديه ويعد الأنواع لكي يستنبط منها ما يحتاجه من المواضع( المقدمات المقنعة).

وكل خطيب في أي صنف من أصناف المفاوضات الخطابية له أنواع خاصة وقواعد كلية تخصه يستفيد منها في خطابه ، فلذلك اقتضى ان ننبه على بعض هذه الأنواع أصناف الخطابة للاستيناس وللتنبيه على نظائرها كما صنعنا في مواضع الجدل.

فنقول :

ص: 382

2 - الأنواع المتعلقة بالمنافرات

تقدّم في البحث 13 معنى المنافرات انها التي تثبت مدحاً أو ذمّاً، أما للأشخاص أو للأشياء، باعتبار ما هو حاصل في الحال، فيقرر الخطيب فضيلته أو نفعه في المدح أو يقرّر ضدّهما في الدم. وانّما سمّيت منافرات فلان بها يتنافر الناس ويختلفون ، يروم

بعضهم قهر بعض بقوله وبيانه .

ومن هذه الناحية تشبه الخطابة الجدل، وانّما الفرق من وجهين :

1 - انّه في الخطابة ينفرد الخطيب في ميدانه ، وفي الجدل يكون الكلام للخصمين

سؤالاً وجواباً ورداً وبدلاً.

2 - أن غرض الخطيب أن يبعث المستمعين على عمل الأفعال الحسنة والتنفر من الأفعال السيّئة لا مجرّد المدح والذم والمجادل ليس غرضه الا التغلب على خصمه،وليس همّه أن يعمل به أحد أو لا يعمل، وبالاختصار غرض الخطيب اقناع الغير بفضل الفاضل ونقص المفضول ليعمل على مقتضى ذلك ، وغرض المجادل ارغام الغير على الاعتراف بذلك.

وبين الاسلوبين بون بعيد ؛ فإن الاول يتطلب الرفق واللين والاستحواذ على مشاعر المخاطب ورضاه، والثاني لا يتطلب ذلك فإن غرضه يتم حتى لو اعترف الخصم مرغماً مقهوراً.

إذا عرفت ذلك، فعلى الخطيب في المنافرات أن يكون مطلعاً على أنواع جمال الأشياء وقبحها لكلّ شيء جمال وقبح بحسبه : ففي الإنسان جماله بالفضائل وقبحه بالرذائل، وباقي الأشياء جمالها بكمال صفاتها اللائقة بها وقبحها بنقصها.

ثم الإنسان - مثلاً - فضيلته أن تكون له ملكة تقتضي فعل الخيرات بسهولة، كفضيلة الحكمة والعلم والعدالة والاحسان والشجاعة والعفّة والكرم والمروة والهمة والحلم واصالة الرأي. وهذه أصول الفضائل، ويتبعها مما يدخل تحتها كالايثار الذي يكون سبباً للعفّة ، أو مما يكون علامة عليها كصبر الأمين على تحمّل المكاره في سبيل

ص: 383

المحافظة على الأمانة ، فانّ هذا الصبر علامة على العدالة.

وأما باقي الأشياء غير الإنسان فكمالها بحصول الصفات المطلوبة لمثلها، وقد قلنا لكلّ شيء جمال وقبح بحسبه، فكمال الدار - مثلاً - وجمالها باشتمالها على المرافق المحتاج إليها وسعتها وجدة بنائها وملاءمة هندستها للذوق العام، وهكذا. وكمال المدينة - مثلاً - وجمالها بسعة شوارعها وتنسيقها ونظافتها وكثرة حدائقها وتهيئة وسائل الراحة فيها والأمن ، وحسن مائها وهوائها وجدة بناء دورها ... وهكذا.

وعلى الخطيب بالاضافة إلى ذلك أن يكون قادرا على مدح ما هو قبيح بمحاسن قد يظنّ الجمهور أنها ممّا يستحق عليها المدح والثناء، مثل أن يصور فسق الفاسق بأنّه من باب لطف المعاشرة وخفة الروح. ويصوّر بلاهة الأبله أنها بساطة نفس وصفاء سريرة وقلة مبالاة بأمور الدنيا واعتباراتها. ويصوّر متتبع عورات الناس الهماز الغمّاز بأنه محبّ للصراحة أو أنّه لا تأخذه في سبيل قول الحق لومة لائم . ويصوّر الحاكم المرتشي بأنه يسهل بالرشوة أمور الناس ويقتضى حوائجهم ...

وهكذا يمكن تحوير كثير من الرذائل والنقائص إلى ما يشبه أو يكون من الفضائل والكمالات في نظر الجمهور. وكذلك - على العكس - يمكن تحوير جملة من الفضائل إلى ما يشبه أن يكون من الرذائل والنقائص فى نظر الجمهور ، كوصف المحافظ على دينه بانه جاف متزمت أو رجعي خرافي أو وصف الشجاع بأنه مجنون متهور أو وصف الكريم بأنّه مسرف مبذر ... وهكذا . والكثير من هذا يحتاج إلى حذلقة وبعد نظر .

وإذ عرفت وجوه مقتضيات المدح يمكن أن تعرف بمناسبتها وجوه مقتضيات الذم لانها اضدادها.

3- الأنواع المتعلقة بالمشاجرات

تقدم معنى المشاجرات من أنّها تتعلق بالحاصل سابقاً. وذلك لبيان ما حدث كيف

حدث ؟ هل حدث على وجه جميل ممدوح أو على وجه مذموم ؟

ص: 384

فتكون المشاجرة شكراً أو شكاية أو اعتذاراً أو ندماً واستغفاراً.

والشكر أنّما يكون بذكر محاسن ما حدث وكمالاته إنساناً أو غير إنسان، على حسب ما تقدم من البيان الإجمالي عن محاسن الأشياء وكمالاتها في المنافرات ، ف--لا حاجة إلى اعادته .

وانّما الذي ينبغي بيانه ما يختص بالشكاية ثم الاعتذار والندم، فنقول :

لا تصح الشكاية الا من الظلم والجور ، وحقيقة الجور : «هو الاضرار بالغير على

سبيل المخالفة للشرع بقصد وإرادة» .

والمقصود من الشرع ما هو أعم من الشريعة المكتوبة وغير المكتبوة . والمكتوبة مثل الأحكام المنزلة الإلهية والقوانين المدنية والدولية ؛ وغير المكتوبة ما تطابق عليها آراء العقلاء ، أو آراء أمة بعينها وكان المعتدي منها ، أو آراء قطره أو عشيرته أو نحو ذلك .

فما تطابق عليها آراء الجميع هي المشهورات المطلقة، والباقي هي من المشهورات الخاصة ومثال الأخيرة النهوة باصطلاح عرب العراق في العصور الأخيرة. فإنّها عند غير المتحضرين منهم شريعة غير مكتوبة ، وهى ان للرجل الحق في منع تزوج ابنة عمه من اجنبي؛ فالأجنبي إذا تزوجها من دون رخصة ابن عمها وإذنه عدوه في عرفهم جائراً غاصباً وقد يهدر دمه . وإن كان هذا العرف يعد في الشريعة المكتوبة الإسلامية وغيرها ظلما وجوراً وان الناهي وهو الجائر الظالم.

ثم المخالفة للشرع أما أن تقع في المال أو العرض أو النفس ؛ ثم اما أن تكون على شخص أو أشخاص معينين ، أو تقع على جماعة اجتماعية كالدولة والوطن والأمة

والعشيرة.

وعلى هذا فينبغي للخطيب المشتكى أن يعرف معنى الجور وبواعثه وأسبابه، وما

هي الأسباب التي تقتضي سهولته أو صعوبته ، ومتى يكون عن إرادة وقصد، وكيف يكون كذلك . وكل هذه فيها أبحاث واسعة تطلب من المطولات.

وأما الاعتذار فحقيقته التنصل مما ذكر المتظلم المشتكي ودفع تظلمه . وهو يقع

ص: 385

بأحد أمرين :

1 - إنكار وقوع الظلم رأساً .

2 - إنكار وقوعه فعلى وجه يكون ظلما وجوراً؛ فإن كثيراً من الأفعال انّما تقع عدلاً حسنة وظلماً قبيحة بالوجوه، والإعتبار اما من جهة القصد وأما من جهة اختلاف

الشريعة المكتوبة مع الشريعة غير المكتوبة كما مثلناه بالنهوة.

وأما الندم فهو الاقرار والإعتراف بالظلم. وقد يسمّى استغفاراً. وذلك بأن يلتمس العفو عن العقوبة والتفضّل باسقاط ما يلزم من غرامة ونحوها . وللإستغفار والاعتذار أساليب يطول شرحها .

4 - الأنواع المتعلقة بالمشاورات

لما كانت غاية الخطيب في المشاورة إقناع الجمهور على فعل ما هو خير لهم وفيه مصلحتهم، والإقلاع عن المساوىء والشرور وما يضرهم، ناسب ألا يبحث عمّا يقع تحت اختيارهم من الخيرات والشرور ، أو ما له مساس باختيارهم وإن كان في نفسه خارجاً عن اختيارهم.

وهذا الثاني كالأرض السبخة - مثلاً - فإن سوءها وضررها ليس باختيار المزارعين ولا من أفعالهم، ولكن يمكن أن يكون لها مساس باختيارهم بأن يجتنبوا الزراعة فيها مثلاً، فيمكن أن يوصي الخطيب بذلك ويدخل في غرضه .

أما ما لا يقع تحت اختيارهم وما ليس له مساس به أصلاً فليس للمشاور أن يتعرض له.

والأنواع التي تتعلّق بالمشاورات على قسمين رئيسين :

القسم الاول ما يتعلّق بالامور العظام، وهي أربعة :

1 - الامور المالية العامة من نحو صادرات الدولة وواردتها، وما يتعلق في داخل الأمّة ومصروفاتها . فالخطيب فيها ينبغى أن يطلع على القوانين التي تخصها وعلى العلوم

ص: 386

التجارية والمالية وما له دخل في زيادة الثروة أو نقصها .

2 - الحرب والسلم فالخطيب فيه لا يستغني عن معرفة القوانين العسكرية والعلوم الحربية واصول تنظيم الجيوش وقيادتها ، مع الاطلاع على تاريخ الحروب والوقائع وسرّ نشوبها واخمادها ، والوسائل اللازمة للهجوم والدفاع، وما يتحقق به النصر وما يتمكن به من النجاة من الهزيمة . كما ينبغي أن يكون عارفاً بما يثير الغيرة والحمية ف--ي نفوس الجنود وما يشجعهم ويثبت عزائمهم ، ويشحذ هممهم، ويهون عليهم الموت ف--ي سبيل الغاية التي يحاربون لأجلها . وأن يكون عارفا بما يثير في نفوس الأعداء الخوف والرهبة وضعف الهمة والياس من النصر وتوقع الهزيمة، ونحن ذلك مما يسمى في الاصلاح الجديد بحرب الأعصاب.

3 - المحافظ على المدن والعلوم التي تخصها ولا يستغني الخطيب عن معرفتها هي علوم هندسة البناء والمسح وتنظيم الشوارع ، وما تحتاجه البلدة في مجاري مياهها وتنويرها وتعبيد طرقها ونظافتها ، ونحو ذلك :

4 - الاجتماعيات العامة كالشرايع والسنن من دينية أو مدنية أو سياسية. ففي المصلحة الدينية - مثلاً - ينبغى للخطيب أن يكون عارفاً بالشريعة السماوية، حافظاً لآثارها مطلعاً على تاريخها، ملماً بأصول العقائد وفروع تلك الشريعة .

أما لو كان خطيباً في غاية سياسية أو نحوها ، فينبغي أن يكون خبيراً بما يخصها من قوانين وعلوم وما يكتنفها من تاريخ وحوادث وتقلبات، فالسياسي يحتاج إلى العلوم السياسية والخبرة بأمورها ، والأخلاقي يحتاج إلى علم الأخلاق، والحاكم والمحامي إلى القوانين الشرعية والمدنية.

وعلى الاجمال أن الخطيب في الأمور الاجتماعية - لا سيما مريد المحافظة على سنة أو دولة - يلزم فيه أن يكون أعلم وأمهر الخطباء الآخرين، وأعرف بنفسيات الجمهور ومصالحهم، لأن موقفه مع الجمهور من أدق المواقف وأصعبها .

بل هذا الباب - باب المشاورة - على العموم من أخطر أبواب الخطابة وأشقها ؛ فقد

ص: 387

يسقط الرجل الديني والسياسي في نظر الجمهور لأتفه الأسباب. وكم شاهدنا وسمعنا رئيس دولة ، أو مرشد قطر ، أو مرجعاً دينياً لفرقة، بينما هو في القمة من عظمة إذا به يهوي بين عشية وضحاها من برجه الرفيع ،محطماً ، لخطأة صغيرة ارتكبها أولأمر فعله أو قاله معتقداً فيه الصلاح ، فاتهمه الجمهور بالخيانة أو الخطل، أو ظنّوا فيما عمله أو رآه الفساد والضرر.

والجمهور لا صبر له على كتمان رأيه أو تأجيل التعبير عنه إلى وقت آخر ، كما لا يعرف المجاملة والمداراة والمداهنة والمماشاة؛ ولا يفهم البرهان والدليل حينئذ إلا القوة تسكته أو السيف يفنيه.

هذا ، وإن حصر كل ما ينبغي للخطيب في باب الاجتماعيات من معرفة لا يسعه هذا المختصر، وكفى ما أشرنا إليه .

ونزيد هنا أنّه على العموم من أهم ما يلزم له - بعد معرفة كل ما يتعلّق بفرعه المختص به - أن يكون مطلعاً على علم الاجتماع وعلم النفس. وأهم من ذلك الخبرة في القادة

تطبيقهما ، وتشخيص نفسيات الجماهير المستمعين له، ومعرفة تاريخ من سبقه من والرؤساء والاستفادة من تجاربهم منضمة إلى تجاربه الشخصية، وأهم من ذلك كله المواهب الشخصية التي أشرنا إليها سابقاً ، فإنّه كم من خطيب موهوب يبز اعلم العلماء وهو لم يدرس علوم الاجتماع ، إذ يسوقه ذكاؤه وفطرته إلى معرفة ما يقتضيه ذلك الاجتماع وما يتطلبه، فيستطيع أن يهيمن عليه ويسخره ببيانه ويسحره بأسلوبه.

القسم الثاني الرئيسي ما يتعلّق بالأمور الجزئية :

وهي غير محدودة ولا معدودة ، فلذلك لا يمكن ضبطها ، وأنّما يتبع فيها نباهة الخطيب وفطنته . غير انها تشترك في شيء واحد عام هو طلب صلاح الحال، فذلك من جهة عامة ينبغي للخطيب أن يعرف :

أولاً : معنى صلاح الحال، مثل أن يقال انه في الإنسان استجماع الفضائل النفسية

ص: 388

والجسمية، أو الحصول على الخيرات والمنافع التي بها السعادة في الدنيا والآخرة، أو

الحصول على الملذات واشباع الشهوات مع محبة القلوب واحترام الناس في الحضور

والثناء عليه في الغيبة ... وهكذا، على حسب إختلاف الآراء والأنظار في معنى صلاح

حال الإنسان.

وثانياً الأمور ا مور التي بها يتحقق صلاح الحال، مثل فضيلة النفس بالحكمة والأخلاق ونحوها مما تقدم، ومثل فضيلة البدن بالصحة وقوة العضلات والجمال واعتدال البنية، ومثل طهارة الأصل ونباهة الذكر والكرامة والشرف والثروة وكثرة الأتباع والأنصاروحسن الحظ الحظ ونحو ذلك .

وثالثاً: طرق اكتساب هذه الأمور واحدة واحدة، وأحسن الوسائل وأسهلها في الحصول عليها ؛ مثل أن يعرف ان الحكمة والمعرفة تحصل بالجد والتحصيل والاخلاص لله والتجرّد عن مغريات الدنيا، وان الصحة تحصل بالرياضة وتنظيم المأكولات ، وإن الثروة تحصل بالزراعة أو التجارة أو الصناعة .. وهكذا .

ورابعاً الأمور النافعة في تحصيل تلك الخيرات والمعينة لوسائلها كالسعي وانتهاز الفرص والتضحية بكثير من الملذات ، والصدق والأمانة ؛ وبعكسها الأمور الضارّة كالركون إلى الراحة والكسل وايثار اللذة واللهو والبطالة ونحو ذلك .

وخامساً: ما هو الأفضل من الخيرات والأنفع وبأي شيء تتحقق الأفضلية ؛ مثل ان الأعم الشامل أفضل ممّا هو دونه في الشمول، والدائم خير من غير الدائم وما هو أكثر نفعاً أحسن مما هو أقل، وما يستتبع نفعاً آخر أنفع مما لايستتبع ... وهكذا.

هذه جملة الأنواع المتعلّقة بأصناف الخطابة الثلاثة، وهناك أنواع أخرى مشتركة يطول الكلام عليها كأنواع ما يعدّ للاستدراجات وما يتعلّق بامكان الأمور ، اضربنا عنها اختصاراً.

ص: 389

المبحث الثالث : التوابع
1 - تمهيد

تقدم معنى العمود والأعوان ، وذكرنا هناك أقسام الأعوان من الشهادة والاستدراجات التي هي خارجة عن نفس العمود . وكل ذلك كان من أجزاء الخطابة .

وهناك وراء أجزاء الخطابة أمور خارجة عنها مزينة لها وتابعة ومتممة لها، باعتبار مالها من التأثير فى تهيئة المستمعين لقبول قول الخطيب . وهى على الاجمال ترتبط كلّها بنفس القول والخطابة. فلذلك تسمّى بالتوابع وتسمّى أيضاً التحسينات والتزيينات.

وهي ثلاثة أنواع:

1 - ما يتعلّق بنفس الألفاظ.

2 - ما يتعلق بنظمها وترتيبها .

3 - ما يتعلّق بالأخذ بالوجوه . ونحن نشير إلى هذه الأقسام ونوضحها على هذا الترتيب، فنقول :

2 - حال الألفاظ

والمراد منها ما يتعلّق بهيئة اللفظ مفرداً كان أو مركباً، والتي ينبغي للخطيب أن يراعيها. وأهمها الأمور الآتية :

1 - أن تكون الألفاظ مطابقة للقواعد النحوية والصرفية في لغة الخطيب ؛ فإن

ص: 390

اللحن والغلط يشوه الخطاب ويسقط أثره في نفوس المستمعين .

2 - أن تكون الألفاظ من جهة معانيها صحيحة صادقة ، بأن لا تشتمل - مثلاً - على

المبالغات الظاهر عليها الكذب.

3 - ألا تكون ركيكة الاسلوب، ولا متكلفاً بها على وجه تخرج عن المحاورة التي تصلح لمخاطبة العامة والجمهور، بل ينبغي أن يكون أسلوبها معتدلاً على نحو ترتفع به عن ركاكة الاسلوب العامي ولا تبلغ درجة أسلوب محاورة الخاصة الذي لا ينتفع به الجمهور.

4 - أن تكون وافية في معناها بلا زيادة وفضول، ولا نقصان مخلّ.

5 - أن تكون خالية من الحشو الذي يفكك نظام الجمل وارتباطها ، أو يوجب اغلاق الكلام وصعوبة فهمه .

6 - أن يتجنب فيها الابهام والايهام واحتمال أكثر من معنى ، وإن كان ذلك مما قد

يحسن في الكلام الشعري ويحسن من الكهان الذين يريدون ألا يظهر كذبهم في تنبؤاتهم. ولكنّه لا يحسن ذلك من الخطيب إلا إذا كان سياسياً، حينما يقضى موقفه عليه الفرار من مسؤولية التصريح .

7 - أن تكون معتدلة في الإيجاز والأطناب ؛ لأن الإيجاز قد يخل بالمعنى والتطويل يورث الملل والحالات تختلف في ذلك، فقد يكون المستمعون كلّهم أو أكثرهم على حال من الذكاء والمعرفة يحسن في خطابهم الإيجاز، وقد يكون المطلوب يستدعى التأكيد والتكرار والتهويل ؛ فيحسن التطويل حتى مع المستمعين الأذكياء. و على كل حال، ينبغي بل يجب تجنب التكرار الذي لا فائدة فيه في جميع المواقع. وكذلك إيراد الألفاظ المترادفة لا يحسن الاكثار منه .

8 - أن تكون خالية من الألفاظ الغريبة والوحشية وغير المتداولة، ومن التعبيرات

التي يشمئز منها المستمعون كالألفاظ الفحشية ؛ فلو اضطر إلى التعبير ع--ن معانيها

فليستعمل بدلها الكنايات .

ص: 391

9 - أن تكون مشتملة على المحسنات البديعية والاستعارات والمجازات والتشبيهات ؛ فإن هذه كلها لها الأثر الكبير في طراوة الكلام وجاذبيته وحلاوته .

ولكن يجب أن يعلم أن الاستعارات والمحسنات ونحوها لا تخلو عن غرابة وبعد على فهم الناس، فلا ينبغي الخروج بها عن حد الاعتدال وينبغي أن يراعى فيها الأقرب إلى طبع العامة ويفضل منها ما هو مطبوع على المتصنع المتكلف به. ويحسن أن نشبهها بالغرباء في مجالس الأصدقاء ؛ فإن حضورهم لا يخلو من فائدة ولكنهم لا بد أن يؤثروا

ضيقاً وانقباضاً في نفوس الأصدقاء. لابد

10 - أن تكون الجمل مزدوجة موزونة المقاطيع . ومعنى الوزن هنا ليس الوزن المقصود به في الشعر ، بل معادلتها على الوجوه الآتية، وهي على انحاء متفاوتة متصاعدة :

أ - أن تكون مقاطيع الجمل متقاربة في الطول والقصر ، وإن كانت حروفها وكلماتها غير متساوية، مثل قوله : «بكثرة الصمت تكون الهيبة، وبالنصفة يكثر المواصلون».

ب - أن يكون عدد كلمات المقاطيع متساوية ، نحو: «العلم وراثة كريمة ، والآداب

حلل مجددة».

ج - أن تكون الكلمات بالاضافة إلى تساويها متشابهة وحروفها متعادلة، نحو: أقوى ما يكون التصنع في أوائله، وأقوى ما يكون الطبع في أواخره».

د - أن تكون المقاطيع مع ذلك في المد وعدمه متعادلة نحو : «طلب العادة أفضل

الأفكار وكسب الفضيلة أنفع الأعمال فالأفكار تعادل الأعمال في المد.

ه- - أن تكون الحروف الأخيرة من المقاطيع متشابهة كما لو كانت مسجعة ، نحو :

«الصبر على الفقر قناعة ، والصبر على الذلّ ضراعة».

وأحسن الأوزان فى الجمل أن تكون متعادلة مثنى أو ثلاث، أما ما زاد على ذلك فلا يحسن كثيراً، بل قد لا يستساغ ويكون من التكلف الممقوت .

ص: 392

3- نظم و ترتيب الأقوال الخطابية

كل كلام يشتمل على ايضاح مطلوب خطابياً أو غير خطابي لابد أن يتألف من جزئين أساسين، ، هما الدعوى والدليل عليها . والنظم الطبيعي يقتضي تقديم الدعوى على الدليل وقد تقتضي مصلحة الاقناع العكس؛ وهذا أمر يرجع تقديره إلى نفس المتكلم .

أما الأقوال الخطابية فالمناسب لها على الأغلب - بالاضافة إلى ذينك الجزئين الأسايين - أن تشتمل على ثلاثة أمور أخرى تصدير واقتصاص وخاتمة . ونحن نبينها بالاختصار.

الاول التصدير: وهو ما يوضع أمام كلام ومقدمة له ليكون بمنزلة الاشارة والايذان بالغرض المقصود للخطيب، والفائدة منه اعداد المستمعين وتهيئتهم إلى التوجه نحو الغرض. وهو يشبه تنحنح الموذن قبل الشروع ، وترنم المغني في ابتداء الغناء. وكذلك كل أمر ذى بال يراد منه لفت الأنظار إليه ينبغي تصديره بشيء مؤذن به .

والأحسن في الخطابة أن يكون التصدير مشعراً بالمقصود وملوحاً به، لأنّه أنّما يؤتى به لفائدة تهيئة المستمعين لتقبل الغرض المقصود . ولأجل هذا يفتتح خطباء المنبرالحسيني خطاباتهم بالصلاة على الحسين عليه السلام والتظلم له. ويفتتح الكتاب رسائلهم بالبسملة ونحوها وبالسلام والشوق إلى المرسل إليه ، وبما قد يشعر بالمراد، كما المألوف عند أصحاب الرسائل في العصور المتقدمة .

هو ولكن ينبغي للخطيب أو الكاتب - إذا رأى ان التصدير مما لا بد منه - أن يلاحظ

فيه أمرين :

1 - ألا يفتتح خطابه بما ينفر المخاطبين أو يثير سخطهم ، كأن يأتي - مثلاً - بما يشعر بالتشاؤم في موضع التهنئة والفرح والسرور أو ما يشعر بالسرور في موضع التعزية والحزن، أو يعبر بما يشعر بتعاظمه على المخاطبين، ونحو ذلك.

2 - أن يحاول الاختصار جهد الامكان بشرط أن يورده بعبارة مفهمة متينة ؛ فإن

ص: 393

الاطالة في التصدير يضجر المخاطبين فينتقض عليه الغرض قبل الوصول إلى مطلوبه ، الا إذا كان استدراجه لهم يتوقف على الاطالة، كما لو أراد يذم خصماً أو فعلاً، أو يثني على نفسه أو رأيه .

وعلى كل حال ان التصدير بالكلام المكرّر المألوف أو اطالته بالكلام الفارغ من أشنع ما يصنعه بعض الخطباء والكتاب ، وهو على العجز أكثر منه دليلاً على المقدرة ، كما ان الأفضل فى الاعتذار أن يترك التصدير أصلاً، لأنه قد يثير الظن بانه يريد التعلل والتهرّب من الجواب والدفاع.

الثاني الاقتصاص: وهو ما يذكر بياناً على التصديق بالمطلوب وشارحاً له بقصّة صغيرة تؤيده ؛ فإن القصة من أروع ما يعين على الاقناع ويقرب الغرض إلى الأذهان، كأنها من أقوى الأدلّة عليه لا سيّما عند العامة وأصبحت القصة في العصور الأخيرة أدباً وفنا قائماً برأسه يستعين بها دعاة الأفكار الحديثة لتلقين العامة واقناعهم، وإن كانت من صنع الخيال ؛ والسرّ أن في طبيعة الإنسان شهوة الاستماع إلى القصة فيلتذ بها .وذلك لاشباع غريزة حبّ الاطلاع أو لغير ذلك من غرائزه، وقد يعتبرها شاهداً ودليلاً باعتبارها تجربة ناجحة .

ثم الخطيب أو الكاتب بعد الاقتصاص ينبغي أن يشرع في بيان ما يريد اقناع الجمهور به

الثالث الخاتمة: وهي أن يأتي بملخص ما سبق الكلام فيه وبما يؤذن بوداع،المخاطبين، من دعاء وتحية ونحوهما حسبما هو مألوف.

ولا شك ان الخاتمة كالتصدير فيها تزيين للقول وتحسين له، لا سيما في الرسائل

والمكاتبات.

4 - الأخذ بالوجوه

المقصود بالأخذ بالوجوه تظاهر الخطيب بأمور معبرة عن حاله ومؤثرة في

ص: 394

المستمع على وجه تكون خارجة عن ذات الخطيب وأحواله وخارجة عن نفس الفاظه وأحوالها ، وتكون بصناعة وحيلة . ولذلك يسمّى هذا الأمر نفاقاً ورياء، وليس المقصود به

أنّه يجب ألا تكون له حقيقة كما قد تعطيه كلمة النفاق والرياء .

وهذا الأمر مع فرضه من الأمور الخارجة عن ذات الخطيب ولفظه ، فهو له تعلّق بأحدهما ، فهو لذلك على نوعين :

ا - ما يتعلّق بلفظه، والمقصود به ما يخص هيئة أداء اللفظ وكيفية النطق به، فإن الخطيب الناجح من يستطيع أن يؤدي ألفاظه بأصوات ونبرات مناسبة للانفعال النفسي عنده أو الذي يريده أن يتظاهر به، ومناسبة لما يريد أن يحدثه في نفوس المخاطبين م---ن انفعالات، وإن يلقيها بنغمات مناسبة لمقصوده والمعنى الذي يريد افهامه للمخاطبين ؛ فيرفع صوته عند موضع الشدّة والغضب مثلاً ويخفضه عند موضع اللين، ويسرع به مرة ويتأنى أخرى، وبنغمة محزنة مرّة ومفرحة أخرى ..... وهكذا حسب الانفعالات النفسية وحسب المقاصد.

وقد قلنا سابقاً في الاستدراجات ان هذه أمور ليس لها قواعد مضبوطة ثابتة، بل هي تنشأ من موهبة يمنحها الله تعالى من يشاء من عباده تصقل بالمران والتجربة. وعلى كل حال ينبغي أن يكون الإلقاء معبراً عما يجيش في نفس الخطيب من مشاعر وحالات نفسية أو يتكلفها ، ومعبراً عما يريد أن يحدثه في نفوس المخاطبين، كما ينبغي أن يكون معبراً أيضاً عن مقاصده وأغراضه الكلامية، فإن جملة واحدة قد تلقى بلهجة استفهام وقد تلقى نفسها بلهجة خبر من دون احداث أي تغيير في نفس الألفاظ ،والفرق يحصل بالنغمة واللهجة .

وهذه القدرة على تأدية الكلام المعبر بلهجاته ونغماته ونبراته شرط أساس لنجاح الخطيب ؛ إذ بذلك يستطيع أن يمتزج بأرواح المستمعين ويبادلهم العواطف ويجذبهم إليه . وإلقاء الكلام الجامد لا يثير انفعالاتهم ولا تتفتح له قلوبهم ولا عقولهم، بل يكون على العكس مملاً مزعجاً.

ص: 395

2 - ما يتعلق بالخطيب، وهو ما يخص معرفته عند المستمعين وهيئته ومنظره الخارجي ليكون قوله مقبولاً . وقد تقدم ذكر بعضه في الاستدراجات . وهو على وجهين قولي وفعلي :

أما القولي فمثل الثناء عليه أو على رأيه واظهار نقصان خصمه أو ما يذهب إليه و تقرير ما يقتضى اعتقاد الخير به والثقة بقوله .

وأما الفعلي فمثل الصعود على مرتفع كالمنبر ؛ فإن مشاهدة الخطيب لها أكبر الأثر في الاصغاء إليه وملاحقة تسلسل كلامه والانطباع بأفكاره وانفعالاته النفسية. ومثل الظهور بمنظر جذاب ولباس مقبول لمثله ؛ فإن لذلك أيضاً أثره البالغ في نفوس المخاطبين . ومثل الاشارات باليد والعين والرأس وحركات البدن وتقاطيع الوجه وملامحه ، فإن كل هذه تعبر عن الانفعالات والمقاصد إذا أحسن الخطيب أن يضعها في مواضعها . وهكذا كل فعل له تأثير على مشاعر السامعين على نحو ما أشرنا إليه في الاستدراجات.

والعوام أطوع إلى الاستدراجات من نفس الكلام المعقول المنطقي ؛ ولهذا السبب تجد أن المتزهد المتقشف يسيطر على نفوسهم وإن كان فاسد العقيدة أو غير مرضى القول

أو سيء التصرفات .

ثم أنه ينبغي أن يجعل من باب الأخذ بالوجوه الذي يستعين به الخطيب على التأثير هو الشعر ، فإنّه كما سيأتي - أكد في التأثير على العواطف وأمكن في القلوب . فلا

ينبغي أن تفوت الخطيب الاستعانة بالشعر ، فيمزج به كلامه ويلطف به خطابه، لا سيما

الامثال والحكم منه ، ولا سيما ما كان مشهورا لشعراء معروفين .

وسيأتي في البحث الآتي الكلام عن صناعة الشعر .

ص: 396

الفصل الرابع : صناعة الشعر

اشارة

ص: 397

ص: 398

1 - تمهيد

ان الشعر صناعة لفظية تستعملها جميع الأمم على اختلافها . والغرض الأصلي منه التاثير على النفوس لاثارة عواطفها من سرور وابتهاج ، أو حزن وتألم ، أو اقدام وشجاعة، أو غضب وحقد، أو خوف وجبن أو تهويل أمر وتعظيمه، أو تحقير شيء ، وتوهينه ، أو نحو ذلك من انفعالات النفس.

والركن المقوّم للكلام الشعري المؤثر فى انفعالات النفوس ومشاعرها أن يكون فيه تخييل وتصوير ، إذ للتخييل والتصوير الأثر الأوّل فى ذلك كما سيأتي بيانه فلذلك

قيل : أن قدماء المناطقة من اليونانيين جعلوا المادة المقوّمة للشعر القضايا